ميزانُنَا

ميزانُنَا (*) – بقلم: العلامة الشيخ محمد محمود الصواف (*) – رحمه الله 

أخي في الله: يا من رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبسيدنا محمد نبيًّا ورسولاً.. اعلم أن دعوتنا كالغيث، لا يُدرى أوله خير أم آخره، ولكنها على كل حال خير كلها في الشدة والرخاء، والبأساء والضراء، ثم لا ندري فيمن يكون الخير؟ وأين هو؟ ومتى سيكون؟ ورب أخ صغير نعلمه اليوم، ونلقِّنه الدعوة – على ضعف منا وتقصير – سيكون رجلَها الأول، وبطلَها الأمثل، والقائمَ عليها قيام الصادقين المجاهدين.

من أجل هذا أوصيك أن لا تغترَّ بنفسك، ولا تزِن نفسك بالزمن الذي قضيته في دعوتك، فميزاننا دقيق، وكفَّتاه العمل المتواصل وخلوص النية لله رب العالمين ﴿وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105)﴾ (التوبة).. ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ (البينة: من الآية 5).

ورب عامل اليوم خامل في الغد، والجديد السديد خير من القديم العنيد، و«الْقُلُوبَ بَيْنَ أَصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ»، ورُبَّ مؤمن أمسى مؤمنًا ثم أصبح كافرًا، وربَّ كافر أضحى كافرًا ثم أمسى مؤمنًا صادقًا، والأعمال بخواتيمها.. «لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى». واسأل الله التثبيت على نهج الاستقامة، ولا تكن من الغافلين، واذكر الله قائمًا وقاعدًا وعلى جنبك.

وليكن ديدنك أن تفرغ جهدك لدعوتك، ولأن يهدي الله على يديك رجلاً واحدًا خير لك من الدنيا وما فيها، لذا فلتكن عنايتك بالفرد عظيمة، وجِهْهُ إلى الخير، ولقنه الإسلام تلقينًا، ثم رضه به، وعلمه أسلوب الدعوة إليه والصبر عليه، والإيمان التام بملكية كل واحد لهذه الدعوة، وأنها ليست مقصورة علينا معشر الإخوان، كالشمس المشرقة ترسل أشعتها على الأكواخ والقصور، والقيعان والدور، فمن استنار بها فقد هُدى، ومن عمي عنها فقد ضل ضلالاً بعيدًا، ومن أخذها حينًا ثم تولى عنها، جافته وتولت عنه إلى من هو خير منه وأنفع، وأثبت منه وأصلح: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ (محمد: من الآية 38).

ومَن استقام لها وصدق، ودعا إلى الله مخلصًا له الدين، وعمل صالحًا يرضاه الله، فقد استحق ثواب الأولى، وحسن ثواب الآخرة: ﴿فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)﴾ (آل عمران).. فادع واستقم أيها الأخ الأبرّ، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سواء السبيل.

واعلم بأن الدعوات الخالدة تصقلها المحن، وتثبتها الهزَّات والفتن، ففيها يميز الله الخبيث من الطيب، والمفسد من المصلح، وفيها يكشف الغطاء عن النفوس والقلوب، فتظهر كما هي سافرةً بيِّنةً، لا يجللها الرياء، ولا يخفيها الادِّعاء، وعند ذاك تختار الدعوة القلوب الزكية والنفوس الأبية، فتنظمها في عقدها، وتدخرها ليوم بؤسها وشدَّتها وكريهتها، وتنفي عنها النفوس الخائرة والقلوب البائرة، وتبعد عنها عبثها وخبثها، لتنظف باطنها، وتصلح داخلها، والدعوات إنما تُؤتَى من الداخل لا من الخارج، فإذا صحَّ باطن الإنسان، نضر وجهه، وصحَّ جسمه، والعكس بالعكس تمامًا.

والدعاة إلى الله لا يهمُّهم كيدُ أعدائهم، بقدر ما يهمُّهم كيد القلوب التي تدَّعي القربى منهم، وتشتُّت الأهواء بين الجماعة الواحدة منهم، وانشغالها بنفسها عن دعوتها، وبسفاسف الأمور عن جواهرها، فهنا الطامَّة الكبرى، والمحنة العظمى، والابتلاء الأعظم، فمن خرج سليمًا من مثل هذه المحنة، فقد نجا وأفلح، ولن يسلم من مثل هذه المحن إلا من تعلم الصبر، والحلم، وبُعد النظر، وراض قلبه على الحب الخالص، والعفو الصادق، والدفع بالتي هي أحسن، وخالط الناس، وصبر على أذاهم، فتوسع صدره واتسع أفقه، وكثرت تجاربه، وزاد صفحه، فاتقى الله حق تقاته، واقتدى بهذه الخصال، بسيد الخلق، وقائد الغر المحجلين سيدنا محمد ، فأحبه الله وأحبه الناس وكان من المقربين.. ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ (آل عمران: من الآية 31).

فسِرْ أيها الأخ على هذه الصفات إن أطقتها، وسوف تعان عليها من ربك الحبيب إلى قلبك، والذي وهبته نفسك ومالك، فهي سبيل الخير والنجاة، واصبر وصابر ورابط، واتقِ الله الذي جعلته غايتك من دعوتك، والله يثبتني وإياك بالقول الثابت في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، والله أكبر ولله الحمد.

————–

(*) المصدر: مقال منشور بمجلة (الأخوَّة الإسلامية)، وهي مجلة أسبوعية تصدر عن جمعية الأخوة الإسلامية، فى  بغداد – العراق، وكان الشيخ محمد محمود الصواف هو صاحب الإمتيار ورئيس التحرير.

(*) العلامة الشيخ محمد محمود الصواف: ولد الشيخ ـ رحمه الله ـ في مدينة الموصل شمال العراق في أوائل شوال عام 1333هـ (حوالي عام 1915م)، ومنذ نشأته أظهر الشيخ حرصا على طلب العلم وحبه.

تخرج في المدرسة الفيصلية عام (1355هـ/ 1936م) ثم عمل معلماً في بعض المدارس الابتدائية ثم الثانوية، إلا أنه كان لا يريد أن يبقى حبيس التدريس؛ ولذلك استقال من عمله، فذهب إلى مدينةالقاهرة، في مصر، والتحق بجامع الأزهر الشريف، في كلية الشريعة عام 1943م وهو في الثلاثين من عمره.

وكان سفره إلى الأزهر الشريف بالقاهرة في بعثة علمية لدراسة علوم الشريعة، وكان من الطلاب المتفوقين؛ لأنه اختصر دراسته في الأزهر، فحصل على العالمية (تعادل الليسانس أو البكالريوس) في سنتين بدل أربع، وعلى التخصص فى القضاء (تعادل الماجستير) في سنة بدل سنتين، وبذلك يكون إختصر مدة دراسة إلى 3 سنوات بدلأ من 6 سنواات، وكان ذلك عام 1946م. وقد تناقلت الصحافة هذا الأمر، وأحدث ضجة فى أوساط العلماء، وقال له شيخ الجامع الأزهر الشيخ مصطفى المراغي: (لقد فعلت يا بني ما يشبه المعجزة، وسننت سنة في الأزهر لم تكن).

استطاع اختصار سنوات الدارسة إلى النصف، وأن يحصل على شهادة الاجازة العالية وهي تعادل الليسانس أو البكالوريوس ثم درجة التخصص في القضاء وتعادل الماجستير جميعها في 3 سنوات بدلا من 6 سنوات في عام 1946. وتناقلت الصحافة تلك الأخبار في حينه، كما أثنى عليه الإمام مصطفى عبد الرازق شيخ الأزهر في حينه، وقال له: يا ولدي لقد فعلت ما يشبه المعجزة.

كانت القاهرة في تلك الفترة عاصمة حية تموج بالأفكار والتيارات السياسية المختلفة، وكان الوافد إليها يجد بغيته من المناهل الثقافية والفكرية المتعددة، وكان النبوغ جزءًا من سمات ذلك العصر، وكان اعتناق الأفكار والمبادئ بدرجة من المثالية والنقاء سمة غالبة في أبناء هذا الجيل. وكانت دعوة الإخوان المسلمين من أبرز الدعوات الرائجة في الساحة المصرية آنذاك، واستطاعت أن تجذب إليها مجاميع من شباب مصر والعالم الإسلامي، ومنهم الصواف الذي ساهم في تأسيس قسم الاتصال بالعالم الإسلامي في هذه الجماعة.

ثم عاد إلى بغداد عام 1946م بعد أن حصل على درجة الأزهر، وفي بغداد عمل الصوّاف مدرساً في كلية الشريعة في الأعظمية ببغداد مفضلا التعليم على القضاء الذي يحمل درجة التخصص فيهِ من الأزهر، ثم أُبعد عن التدريس بعد أن لاحظ حاسدوه تأثيره على الطلبة الذين التفوا حول أستاذهم الذي كان يحمل فكرا دعويا يتميز عن غيره من الأساتذة، ونقل للعمل مفتشاً في وزارة المعارف.

وفى بغداد أنشأ جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم أسس مع الشيخ أمجد الزهاوي جمعية الأخوة الإسلامية سنة 1948 والتي هي واجهة عمل الإخوان في العراق، وأصدر مجلة الأخوة الإسلامية التي استمرت بالصدور عامين حتى أغلقتها حكومة “نوري السعيد” في العهد الملكي، وألغت الجمعية.

وكانت قضية فلسطين قد بدأت تظهر كقضية عالمية ساخنة وقضية العرب الأولى، وعندما صدر قرار تقسيم فلسطين في عام 1947م أنشأ الأستاذ الصواف برعاية علامة العراق الشيخ أمجد الزهاوي ـ رحمه الله ـ (جمعية إنقاذ فلسطين) وصار يجوب مدن العراق الواحدة بعد الأخرى يعدّ كتائب المجاهدين لقتال عصابات اليهود، ويجمع الأموال للجهاد، وكان ـ رحمه الله ـ ذا صوت جهوري وخطيبا مفوَّها، فلم يكن أحد يستمع إليه إلا وشده إليه، وقاد الشيخ المظاهرات في بغداد مرفوعاً على أكتاف مؤيديه يهتف لنصرة أرض الإسراء والمعراج، ولم يكن أهل العراق وقتها معتادين على رؤية شيخ بالجبة والعمامة الأزهرية يقود المظاهرات ويخطب خطباً سياسية ويعمل لقضية فلسطين.

وعندما قام الشيوعيون والقوميون بثورتهم وأطاحوا بالنظام الملكي أصبح الإسلاميون وعلى رأسهم الشيخ الصواف هدف النظام، فقد اقتحم الشيوعيون جمعية إنقاذ فلسطين التي أسسها الصواف وسرقوا ونهبوا معظم محتوياتها قبل أن يشعلوا النار في المبنى، ولم تقف أحقادهم عند ذلك، بل اقتحموا مسجد أبي حنيفة في بغداد، حيث كان الشيخ الصواف يلقي درساً دينياً وأطلقوا النار داخله، ثم اعتقلوا الشيخ بتهمة إطلاق النار، وقد ذاق الصواف ـ رحمه الله ـ من ألوان العذاب على أيدي الشيوعيين ما لا يتحمله بشر فكان يؤخذ بعد المغرب ولا يعود إلا مع الفجر وهو متورم القدمين وآثار التعذيب على جسده، وكانوا يقولون له: (سنفعل بك كما فعل عبدالناصر بالإخوان) ويوهمونه بأن الحكومة قد أصدرت أمراً بقتله.

وحكمت عليه محكمة عسكرية بالسجن، وظل في سجن (بعقوبة) قرب بغداد إلى أن استدعاه عبدالكريم قاسم، وأطلق سراحه بعد أن اطمأن على حكمه من الشيوعيين.

أصبحت حياته في خطر بسبب تهديدات الشيوعيين لهُ فخرج من العراق في عام 1959م قاصدا سوريا فقضى بها بضعة أشهر، ثم انتقل إلى السعودية فأكرمه الملك فيصل بن عبد العزيز، وعرف لهُ قدره ومكانته؛ فاختارهُ مستشاراً ومبعوثاً خاصاً لهُ إلى الملوك والرؤساء، فطاف الصواف 35 دولة غالبيتها من الدول الأفريقية، وساهم بجهود كبيرة في إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي، وسجل رحلاته في كتاب (رحلاتي إلى الديار الإسلامية)، واختير عضواً بالمجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، وعضوا في المجلس الأعلى العالمي للمساجد، والمجمع الفقهي في رابطة العالم الإسلامي. وكان لهُ دور مشهود في خدمة ودعم الجهاد الأفغاني ورأب الصدوع بين قادته الذين كانوا يقتتلون بين الحين والآخر.

مؤلفاته: المسلمون وعلم الفلك، المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام والمسلمين، رحلاتي إلى الديار الإسلامية، القيامة رأي العين، تعليم الصلاة، الصيام، زوجات النبي الطاهرات، إضافة إلى بعض الكتب التي تناولت تفسير بعض سور القرآن الكريم.

وفاته: في يوم الجمعة 12 ربيع الآخر 1413هـ الموافق 9 أكتوبر 1992م كان الشيخ محمد محمود الصواف على موعد للقاء ربه في مطار اسطنبول وهو يستعد للعودة إلى جُدة .ونقل جثمانه إلى مكة المكرمة ، ودفن بمقبرة المعلاة بمكة المكرمة، بجوار قبر الصحابي عبد الله بن الزبير. 

About zadussaerin

صفحة تربوية: تمثل نافذة على فقه الدعوة والتربية، تسهم في إبراز معالم منهج الدعوة الوسطي، ونشر الفكر التربوي الشامل المنطلق من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، و إبراز جهود علماء الأمة ومفكريها في ميدان الدعوة والتربية الاسلامية.
هذا المنشور نشر في التربية الدعوية. حفظ الرابط الثابت.

أضف تعليق