مالكوم إكس.. الرجل الذي مات واقفًا وهو يدعو إلى الإسلام (1925م – 1965م)

مالكوم إكس.. الشخصية الأبرز في تاريخ الأمريكيين السود، بل في تاريخ النشطاء الحقوقيين في الولايات المتحدة الأمريكية بأسرها، من هو ذلك الرجل الذي كان له بالغ الأثر في تحرير الأمريكيين الأفارقة من ذل واستعباد وهيمنة الرجل الأبيض؟ وكيف تحول من الزيغ إلى الهدى، ومن الضلالة إلى الاستقامة، ومن وحل الإسفاف واللهو والمجون إلى ساحات النضال والكفاح، والدعوة إلى الله، وتصحيح مسار الدعوة الإسلامية في أمريكا؟!

من هو ذلك الرجل المثير للدهشة، وما هي قصته؟ وما سر تسميته بهذا الاسم؟!

من هو مالكوم إكس؟

هو مالكوم ليتل أو مالكوم إكس كما اشتهر بين الناس، وأيضًا هو الحاج مالك الشبّاز كما اختار هذا الاسم لنفسه، وسوف نورد قصة كل اسم من تلك الأسماء لاحقًا.

مسلم أمريكي من أصول أفريقية عاش معاناة العنصرية الأمريكية ضد السود في أوجها، وتلقى العديد من النكبات والأزمات التي دفعته دفعًا نحو الهاوية والسقوط، ولكن لأنه كان يبحث عن الحقيقة بصدق؛ هداه الله إلى طريق الحق والصواب، بعد أن بذل الكثير في الوصول إلى ذلك، فقد مكث نحو ما يقارب عشرة أعوام يعبد إلهًا غير الله الواحد الأحد، ويتبع دينًا مزيفًا غير دين الإسلام!

ولكنّه وبعد اكتشاف الحقيقة لم يكابر أو يعاند، وإنّما كان شجاعًا، قام فاعتذر عن كل أخطائه وأعلن أمام الجموع إسلامه من جديد، ثم أخذ على عاتقه الدعوة إلى الله وتصحيح المسار، ودحض الضلالات التي عششت في نفوس أصحابها، وتقويم كل اعوجاج، ولم يزل على ذلك العهد حتى تمَّ اغتياله وهو لم يتجاوز العام الواحد فقط منذ عودته من الحج وإعلانه الدعوة الجديدة إلى الله الحق!

مولده ونشأته 1925

وُلد مالكوم إكس في 19 مايو 1925م بمدينة أوماها في ولاية نبراسكا الأمريكية، وهو الأخ الرابع بين ثمانية إخوة لأبٍ كان يُدعى (إيرل ليتل) الذي كان يعمل قسيسًا في إحدى الكنائس المعمدانية، وقد كان الرجل سياسيًا متقدمًا في أبرز المنظمات الحقوقية للسود آنذاك وهي “ الجمعية العالمية لتقدم الزنوج”.

أمّا أمه (لويز ليتل) فقد كانت من جزر الهند الغربية، امرأة بسيطة، داعمة لزوجها في نشاطه السياسي ضد البيض وعنصريتهم. كانت عائلة مالكوم هي الوحيدة من السود في المدينة، مما جعل أكيال العنصرية تنصب عليهم أضعافًا مضاعفة حتى أن والده شهد بعينه مقتل أربعة من إخوته الستة على يد العنصريين البيض!

وقد كان الأب حريصًا على اصطحاب مالكوم معه إلى الكنيسة والجمعية العالمية لتقدم الزنوج، وحضوره كافة الاجتماعات السياسية التي تعج بالتحريض على البيض وحق الحياة الطبيعية للسود.

وبالتأكيد كان الأب يرى ويعلم جيدًا ما قد يؤول إليه مصيره وهو يسير في هذا الطريق، لكنَّ ذلك كان ادعى لاستمراره فيه بالرّغم من كثرة التهديدات والإيذاءات التي تلقاها، وكان أبرزها حرق منزله بالكامل على يد منظمة “كوكلوكس كلان” العنصرية الإجرامية في محاولة لاغتياله والتخلص منه عام 1928م.

كانت هذه الواقعة على الرغم من نجاته وأسرته منها كفيلة بأن يتخذ قراره للرحيل إلى مدينة لانسينغ في ولاية ميشيغان، إلّا أن يد العنصرية الطاغية لم تتركه وشأنه إذ تم قتله في عام 1931م في حادثة بشعة، فلم يكتفوا بموته فحسب، بل ألقوا جثته تحت إحدى الحافلات الكهربائية لتدهسه، ثم أعلنت السلطات بعدها أنّه قد مات منتحرًا!

تشردت عائلة مالكوم إكس على إثر تلك الحادثة وهو لم يزل ابن ستة أعوام؛ ووجدت الأم نفسها تعول ثمانية من الأبناء دون وجود عائل، مما دفعها للعمل كخادمة في بيوت البيض الذين أذاقوها الويلات من الإهانات العنصرية، والإساءات اللفظية بسبب كونها زوجة هذا القِس الأسود، حتى وجدت نفسها أخيرًا بلا عمل ولا مصدر للعيش، وقد ضاقت بها الأعباء ذرعًا، ما جعلها تلجأ في عام 1934م إلى إحدى مراكز الرعاية الأمريكية للحصول على إعانة للعيش، ومع تفاقم الضغوطات عليها أصيبت بصدمة نفسية، نُقلت على إثرها إلى مصحة الأمراض العقلية عام 1939م والتي لبثت فيها بقية عمرها نحو ما يقارب 25 عامًا! أمّا الأبناء فقد تفرقوا بعضهم إلى مراكز الرعاية، والآخرين إلى بعض الأقارب.

ويمكنك من هذا العرض الموجز إدراك كيف تكونت شخصية مالكوم إكس ونشأت بين مثل هذا الكم الجارف من العنصرية والوحشية المدمرة من قِبل الأمريكيين البيض تجاه أولئك السود الذين كانوا ينعتونهم بـ (الزنوج)!

ماذا يمكن لهذا الطفل أن يحمله بين صدره وقد شهد مقتل أبيه وهو ابن ستة أعوام، وأصبح يتيم الأب فاقد الأم وهو لم يتجاوز الرابعة عشر من عمره بعد؟!

تعليمه 1930

التحق مالكوم إكس بالمدرسة في الخامسة من عمره، ولأن عائلته كانت الوحيدة من السود في المدينة كما وضحنا آنفًا، فقد لازمته تلك العنصرية البغيضة منذ مراحله الأولى في التعليم كذلك، وصار معظمهم يلقبونه بالأسود أو الزنجي، حتى اعتقد أن هذا جزء من اسمه!

وقد كان الصبي ذكيًا نابهًا، ومتفوقًا على أقرانه في كل مراحله، مما شد انتباه مُعلّميه البيض إليه الذين لم يترك بعضهم مجالًا لإفراغ أمراضهم النفسية على الفتى إلَّا وفعلوا، ففي إحدى الحصص في مرحلة الثانوية صرح الطفل النجيب بكل عفوية عن حلمه عندما وجّهَ -أقرب الأساتذة إليه- لجميع الطلاب سؤالًا: ماذا تتمنوا أن تصبحوا في المستقبل؟ فأجاب مالكوم: (أريد أن أصبح محاميًا) ليرّد عليه المُعلّم ستراوسكي: “(كن واقعيًا ولا تحلم سوى بما يناسبك من أعمال الزنوج كأن تصبح نجارًا مثلًا.. لا يمكن لزنجي أن يكون محامي)!”.

كان لهذه الواقعة صدى كبير في نفس مالكوم دفعه إلى ترك المدرسة والبحث عن عملٍ مُهين يليق به كزنجي كما أخبره مُعلّمه الذي كان يثق به، ويبادله احترامًا على نحوٍ خاص!

أكمل مالكوم تعليمه الثانوي وهو في السجن كما سنورد لاحقًا، ونستطيع القول بأن تعليمه الحقيقي قد بدأ ذاتيًا في السجن ليحقق بعد خروجه الحلم المنشود برغبته في أن يقوم بالدفاع عن حقوق أولئك المضطهدين من بني جلدته ذوي البشرة السوداء ويناضل ويكافح بقية حياته لأجلهم، ولأجل إقامة العدل ورفع الظلم عن كل المظلومين.

مرحلة التيه والطيش والضياع 1940

مالكوم إكس

بعد تركه للمدرسة اتجه مالكوم للأعمال غير المشروعة والمشاغبات التي انتهت به إلى سجن الأحداث، وأكمل سنته الأخيرة من مرحلة الثانوية وهو في السجن، ثم خرج بعدها ورحل إلى مدينة بوسطن في ولاية ماساتشوستس عام 1941م، حيث تقيم أخته غير الشقيقة “إيلا ليتل”، واتجه للبحث عن عمل، فعمل ماسح أحذية وكانت هذه المهنة لا يصل إليها إلّا الناجحون في مجتمع السود، وعمل في غسل الصحون، وعامل في السكك الحديدية، وقد انخرط في الإجرام وبيع المخدرات وتعاطيها.

ثم انتقل إلى مدينة نيويورك عام 1943م وتحديدًا حي هارلم وعمل هناك كبائع ساندويتشات بالسكك الحديدية أيضًا إلى جانب تجارته للمخدرات التي فُصل أخيرًا من عمله بسبب تعاطيها إياها، وقد استهوته أجواء المدينة التي توافر فيها كل أشكال اللهو والترف والمجون، فعمل كنادل في إحدى الأندية الليلية، وتعلّم المقامرة والرقص، حيث أصبح القمار والرقصات التي يؤديها مع الفتيات هي مصدره الأساسي للحصول على الأموال، وبسبب إدمانه للكحول وتعاطي المخدرات وخسارته للكثير من الأموال اتجه مالكوم لعمليات السرقة والسطو المسلح لمنازل البيض، وتطور فيها ليكون عصابة تتألف من صديق أسود له وفتاتان بيضاوان، ثم عاد بعدها إلى بوسطن في عام 1945م، ثم لم يلبث بعدها بعام واحدٍ حتى اعتقلته السلطات هو وعصابته بتهمة السرقة وحمل السلاح.

خمس سنوات قضاها الفتى اليافع في كافة أنواع السرقة، والقوادة، والإجرام، عاشها في مستنقعٍ آثم يُحيط به الظلمات من كل جانب!

مرحلة السجن 1946

مالكوم إكس

تم القبض على الفتى اليافع، والحكم عليه هو وصديقه بعشر سنوات، والفتاتين اللتين كانتا معهما بخمس سنوات فقط لأنهما كانتا من البيض، بيد أنّه كان يواجه جريمة أخرى في حد ذاتها، وهو كيف له أن يصادق فتيات من البيض وهو الزنجي الأسود؟!

دخل مالكوم إكس سجن “تشارلز تاون” العتيق في عام 1946م، وكان وقوعه خلف تلك القضبان ذا ألم نفسي رهيب في أعماقه، فهو الشاب قوي البنيان الذي لم يخضع لسلطان أحد من قبل، إضافة إلى انقطاع جرعات المخدرات عنه التي كان يتناولها قبل دخوله السجن، مما جعله يسب الحرّاس، ويلعنهم حتى زجّوا به في سجن انفرادي، والذي لم يسمح له بأن يكسره أيضًا فقد عزم على أن يجعل إرادته قوية وأن يتخلى عن الكثير من عاداته، كما سمحت له تلك الفترة بتأمل الكثير من مواقف وفترات حياته.

في عام 1947م تأثر مالكوم إكس بسجينٍ أسود كان يُدعى (جون بيمبي) والذي كان كثيرًا ما يجمع السجناء ويحدثهم عن الدين والعدل، وبشكل أو بآخر فقد حرّك حديث هذا الرجل -الذي أصبح صديقًا مقرّبًا له فيما بعد- شيئًا في قلب مالكوم، وأخذ يراوده الشك، وثارت لديه رغبة جامحة في الوصول إلى حقيقة واضحة يلمسها قلبه بصدق ويقين.

في العام التالي 1948م تم نقل مالكوم إلى سجن “كونكورد” وهناك تلقى رسالة من أخيه (فيلبيرت) والذي أخبره فيها بأنّه قد اهتدى للدين الطبيعي للرجل الأسود، والذي قاده إليه منظمة أمة الإسلام التي تدعوا إلى هذا الدين، ودعاه أن يكّف عن التدخين وأكل لحم الخنزير حتى يتحرر مما هو فيه.

كان رد فعل مالكوم قاسيًا وعنيفًا على هذه الرسالة، فكتب إلى أخيه يسبه ويعنفه على اللحاق بهذا الدين، حتى أنَّه لُقب بالشيطان بين زملائه في السجن!

سمع بعدها أن إخوته جميعًا قد أسلموا على يد (إليجا محمد) قائد منظمة أم الإسلام بعد أن انضموا إليها، وتلقى رسائل عديدة منهم يدعونه هو الآخر للحاق بهم في هذا الدين الجديد، ويدعون له بالهداية.

فكر مالكوم كثيرًا بعد تأمله إحدى تلك الرسائل التي كان مكتوب بها “ليس للرجل الأبيض أن يستعبد الرجل الأسود، فالله قد خلقهم سواسية” ومن ثمَّ لان وخضع لدعوة إخوته وأعلن إسلامه في السجن وانضمامه لمنظمة أمة الإسلام، وقد فرح إخوته كثيرًا بذلك، ولم تنقطع رسائلهم إليه بعد، وبأخبار (إليجا محمد) الذي أسس لهذا الدين الإسلامي الجديد -المزيف- الذي اختاره ووظفه على مقاييس تخدم السود كما سنذكر ذلك تفصيلًا في موضعه.

وبالرّغم من عدم تثبت مالكوم إكس من أفكار الرجل، إلّا أنَّ ظاهر دعوته التي وصلته ويدعوا إليها السود تتوافق مع حلمه بتحرير الرجل الأسود من هيمنة الرجل الأبيض، بل وتدعوا إلى كراهيته التي نشأ عليها لسنوات عدة، مما دفعه لتصديق الرجل واعتناق فكره واتباع هذا الدين، والأخذ بتعاليمه بقوة، وقد ظهر ذلك جليًّا في سمو شخصيته وأخلاقه، وتصرفاته وسلوكه الذي تغير تمامًا إلى الأصلح والأنفع لنفسه وكل من حوله، حتى أنّه بدأ يشارك في النقاشات الجادة والمناظرات التي تعقد في السجن، وأصبح يدعوا السجناء لاعتناق هذا الدين الإسلامي الجديد ويقنعهم به، إلَّا أنه كان يشعر بأن لديه نقص في المعلومات والمعرفة، نظرًا لعدم استكمال تعليمه، فضلًا عن تلك السنوات التي قضاها في ظلمات الغيّ والجهل.

في عام 1949م انتقل مالكوم إلى سجن “ينورفولك” الذي عُرف بعقوباته المخففة، وكان يقع في الريف، ويُضم مكتبة ضخمة تحوي ما يقارب عشرة آلاف من المجلدات والكتب النادرة، كما كان يحاضر في السجن بعض أساتذة جامعتي هارفارد وبوسطن، هيأ ذلك المناخ نقطة التحول في حياة مالكوم إكس، وقد زاره في هذا السجن أخيه “ويجالند” الذي انضم لمنظمة أمة الإسلام هو الآخر.

نقطة التحول وسر التغيّر 1949

مالكوم إكس

تذكر مالكوم نصيحة صديقه (بيمبي) له بأن يتعلّم ويقرأ، وحديثه عن الدين، وهو لا يزال الشك يساوره تجاه أشياء عديدة، فوجد من تلك المكتبة الضخمة ملاذًا لشتات قلبه وحيرته، ومرتعًا للعلوم والفكر والثقافة ينهل منه ليل نهار ولا يشبع، فالتهم الآف الكتب التهامًا، في كافة المعارف والعلوم، فقرأ قصة الحضارة، وتاريخ العالم، وما كتبه عالم الأحياء مندل عن الجينات والوراثة، وتاريخ أمريكا واسترقاق العبيد والهنود الحمر، وقرأ في الفلسفة والسياسة، وعلم الأديان، وتعلم اللغة اللاتينية والمعجم اللغوي حتى أنه قام بنقل كلماته كلمة إثر كلمة فزادت حصيلته اللغوية بكثافة، وظل عاكفًا على تلك الكتب والمجلدات حتى أنّه كان يقرأ ما يقارب “15 ساعة” يوميًا فإذا ما أُطفأت أنوار زنزانته مكث يقرأ على الضوء المنبعث من طرقات السجن.

لا عجب أن ترى بعد ذلك شخصية جديدة للرجل، تختلف بالكلية عمّا قبلها، فالقراءة والعلم إحياء للنفوس والشعوب والأمم، ولذا كان أول ما نزل من الوحي (اقرأ) ورسالة الإسلام تحث في جوهرها على العلم والتعلم ما حيينا فهو طريق رفعة الأمة، وعلو مكانتها وشأنها بين الأمم، وريادتها للناس التي أرادها الله لها، وقد صرّح مالكوم إكس لاحقًا بشيءٍ من هذا فقال: (لقد غيرت القراءة مجرى حياتي تغييرًا جذريًا ولم أكن أهدف من ورائها إلى كسب أية شهادات لتحسين مركزي وإنما كنت أريد أن أحيا فكريًا) وأدرك حينها أن أزمة الرجل الأسود تكمن في أنّه أبكم وأعمى وأصم بسبب تعمّد تجهيله وعدم تعليمه أو تثقيفه.

أثقلت القراءة شخصية مالكوم ومنحته قدرة فريدة على مخاطبة الجماهير، وعقد المناظرات وتفنيد الحجج، وتقديم الأدلة والبراهين لما يطرحه، مما جعل الكثير من السجناء يتبعه في الدخول إلى الإسلام والانضمام لحركة أمة الإسلام.

نضاله وكفاحه 1952

نظرًا لبراعة مالكوم إكس في الخطابة والمناظرات التي عقدها داخل السجن، ونجاحه المبهر في اجتذاب معظم نزلاء السجن للدخول في الإسلام، تم العفو عنه قبل انقضاء مدته -ربما كان ذلك خوفًا من زيادة تأثيره على السجناء- ليكون إجمالي فترة السجن التي قضاها تقارب السبع سنوات فقط.

خرج من السجن في عام 1952م، واتجه إلى أخيه في ديترويت وهناك تعلّم سورة الفاتحة، وعمل مع أخيه في بيع الأثاث، ثم سرعان ما ألتقى (إليجاه محمد) في إحدى أنشطة منظمة أمة الإسلام، لينضم إليها رسميًا وتبدأ رحلته الدعوية، ورحلة نضاله وكفاحه السياسي لأجل السود، وقام بتغيير اسمه من مالكوم ليتل إلى مالكوم إكس، و(ليتل) يعني “الصغير” وهو اللقب الذي مُنح لعائلته عندما جلبوهم كعبيد إلى أمريكا، أما إكس فإنه يرمز إلى المجهول كما قال مالكوم: (إن إكس ترمز لما كنت عليه وما قد أصبحت، كما يعني في الرياضيات المجهول وغير معلوم الأصل) وذلك حتى لا ينسى أصله، ويستمر في رحلة البحث عن ذاته وقيمته.

في الحقيقة كانت حركة أمّة الإسلام ما هي إلّا تشويه لصورة الإسلام، وقد امتلأت بالانحرافات العقدية، حيث أدّعى فيها زعيمها الروحي (إليجا محمد) النبوة، التي تلقّاها من الإله (والاس فارد) وهو شخص أسود ظهر في بداية تأسيس هذه المنظمة في عام 1930م، ثم اختفى بعدها بشكل غامض، فكان الإسلام عندهم حسي لا غيبيات فيه، والإله لديهم هو إله للسود فقط دون البيض، والدين عندهم ما هو إلا طقوس روحية كانت تؤدى لأجل سمو الرجل الأسود الملاك، والقدرة على مجابهة الرجل الأبيض الشيطان!

انخرط مالكوم بكل طاقته في أنشطة المساجد، وأُعجب بأخلاق المسلمين، ولفت انتباهه العبارة التي تقول: (إسلام يساوي حرية، عدالة، مساواة) وأخرى كُتبت على العلم الأمريكي: (عبودية، ألم، موت).

في عام 1953م تم تعيين مالكوم إكس كمساعد لإمام مسجد رقم “1” في مدينة ديترويت، ثم إمامًا لمسجد رقم “88” في مدينة بوسطن، وكان يخرج لدعوة الناس إلى الإسلام والانضمام لحركة أمة الإسلام في الطرقات، والبارات، والأندية، والملاهي الليلية، وقد نجح في جذب الكثير لخطبه المفوهة، وكلماته البليغة، وحماسته المشتعلة، وإيمانه برسالته، فقد أصبح جل همّه الدعوة إلى الإسلام ونمو هذه المنظمة.

لمع نجمه سريعًا داخل المنظمة، وأصبح له دورًا رياديًا بارزًا، حتى أنه وصل إلى منصب المتحدث الرسمي للمنظمة، والرجل الثاني بعد إليجاه محمد، بل إن تأثيره في قلوب الآلاف طغى على تأثير مؤسسها، فقد نجح في زيادة عدد أعضاء المنظمة من 500 عضو فقط إلى ما يقارب نحو 30 ألف عضو في غضون عشرة أعوام، وكان من بينهم الملاكم الشهير (محمد علي كلاي) الذي أسلم بسببه وأصبح صديقًا مقرّبًا له فيما بعد، كما أطلق صحيفة للحركة وأسماها (إليجا محمد يتكلم) عام 1957م.

ووسط كل هذا الزخم والنشاط الحركي لم ينسى مالكوم تكوين أسرة، ففي عام 1958م تزوج من (بيتي شباز) أو (بيتي سانرس) سابقًا، وكانت إحدى عضوات منظمة أمة الإسلام، ورُزق منها بأربع فتيات.

في عام 1959م ازدادت حركة مالكوم إكس ونشاطه في الدعوة، حتى أنه لفت انتباه الإعلام الأمريكي بقوة، وأصبح ضيفًا دائمًا على البرامج التلفزيونية، والحوارات الإذاعية، وكان من أشهرها برنامج “الكراهية التي ولدّتها الكراهية”، وتلقى العديد من المكالمات الهاتفية، وكتب عنه الكثير من الصحفيين، وأجرى معه الكثير من اللقاءات الصحفية، كما شارك في مناظرات وندوات لأكبر وأعرق الجامعات الأمريكية، حتى أن صحيفة “نيويورك تايمز” صنفته كثاني أكثر خطيب يحظى بمتابعة الأمريكيين في الولايات المتحدة الأمريكية.

نتيجة لهذا الانتشار الكثيف تم مراقبته والتنصت على جميع مكالماته من قِبل (مكتب المباحث الفيدرالية)، وزرعوا له جواسيس في قلب منظمته، ولاسيما بعد عام 1961م عندما ظهرت موجة تعلّم اللغة العربية بين أعضاء المنظمة باعتبارها اللغة الأصلية للرجل الأسود، وأصبح مالكوم ينادي في كل لقاءاته ومؤتمراته بحقوق الرجل الأسود المدنية في المجتمع الأمريكي بصفته إنسان، وأن يعامل معاملة الآدميين، لا أن يعامل كالحيوانات، ويتم تحقيره وإخفاءه، وعزله عن سائر المجتمع.

في عام 1962م تم تعيينه إمامًا قوميًا لمنظمة أمة الإسلام، ثم بعدها بعام واحد حدثت واقعة اغتيال الرئيس الأمريكي “جون كينيدي”، فأصدر (إليجا محمد) أوامره إلى كافة أعضاء المنظمة بعدم إبداء أي تصريحات حول الواقعة، وذلك لأن جون كينيدي كان يتعاطف مع السود وقضيتهم، إلّا أن الثائر الحر مالكوم إكس الذي لا يعرف المداهانات أو لغة الخضوع والذل صرّح قائلًا: (بأن سلاح “كينيدي” قد ارتدّ إلى نحره وحصد ما زرعه وبأسرع مما توقع هو نفسه!) وهنا نشب الخلاف بينه وبين إليجا محمد الذي أصدر قرارًا بتجميد عضويته بالمنظمة لعدة أشهر، والتي كانت فرصة جيدة سنحت لمالكوم أن يُعيد تفكيره في الكثير من الأمور والتي على رأسها شخصية (إليجا محمد) وأفكاره.

لم تكن تلك هي المرّة الأولى التي تُثار فيها شكوك مالكوم نحو إخلاص الرجل لقضيته ودعوته إلى الإسلام بحق، فقد أشيع سابقًا أقوال بأن الرجل متورط أخلاقيًا مع بعض الفتيات اللاتي خدمن في مكتبه! فإن كان لم يصدق ذلك عليه، فكيف له أن يفسر ابتعاد المنظمة عن حركة الحقوق المدنية، أو عدم الدفاع عن السود المضطهدين في أمريكا الجنوبية والذين كانت تمارس عليهم كافة أساليب العنصرية والاستعباد آنذاك، ولم يحرك إليجا محمد ولا منظمته ساكنًا حول ما يحدث لهم!

كل هذا دفع مالكوم للتأمل والتفكر والمزيد من القراءة، والكثير من الحيرة والبحث إلى أن تأكد بنفسه من صحة هذه الأقاويل بأن الأب الروحي لمنظمة أمة الإسلام إليجا محمد قد ارتكب الفاحشة مع ستٍ من سكرتيرات القصر!

وهنا كانت النقطة الفاصلة والقرار الحاسم لمالكوم الذي قرّر أخيرًا انفصاله التام عن منظمة أمة الإسلام، وأعلن تأسيس منظمته الجديدة (المسجد الإسلامي) في فبراير 1964م، وقررّ بعدها الذهاب للحج في مكة.

وقد صرّح بذلك في مؤتمر صحفي عقب إعلان انفصاله عن المنظمة عندما وجه له سؤال: “لماذا يهددونك بالقتل؟” فأجاب: (لأنهم أساسًا يخشون أن أصّرح بالسبب الحقيقي وراء خروجي من المنظمة، السبب الذي لم أصرّح به أبدًا واحتفظت به لنفسي، والحقيقة التي أخفيها هي أن إليجا محمد رئيس المنظمة أبًا لثمانية أطفال من ستة مراهقات مختلفات!).

جديرٌ بالذكر أن مالكوم إكس كان ضد منهج (مارتن لوثر كينغ) الراهب المسيحي الأسود الذي كان يناضل لأجل حقوق السود أيضًا آنذاك، ولكنه كان ينتهج اللاعنف والتعايش مع البيض بسلام.

كان مالكوم يلقب أولئك الذين يدعون للسلام والحب مع الأعداء بـ (العم توم) الذي يُفسد على السود قضيتهم، ويُضيع حقوقهم أكثر من الأمريكيين البيض ذاتهم، وذلك بسبب لغتهم الضعيفة ومنطقهم الساذج الذي لا ينم إلا عن انكسار وذل واستسلام لقبضة الرجل الأبيض الذي أذاقهم وأذاق آباءهم وأجدادهم من قبل الويلات وجرّعهم كؤوس الموت دون أي شفقة أو رحمة أو إنسانية!

كان دائمًا ما يوجه حديثه لأولئك الذين يتوسلون الحرّية لدى أعدائهم فيقول: (لا أحد يمكن أن يعطيك الحرية ولا أحد يمكن أن يعطيك المساواة والعدل، إذا كنت رجلًا فقم بتحقيق ذلك لنفسك)!

وعن الخوف من الموت أو التنكيل بهم في هذا الطريق، فقد كان الرجل واضحًا وصريحًا عندما أخبرهم: (إن كنت غير مستعدًا للموت من أجل الحرية، فألغِ تلك الكلمة من قاموسك)!

اكتشاف الحقيقة وتصحيح المسار 1964

مالكوم إكس

كان انفصال مالكوم إكس عن منظمة أمة الإسلام بمثابة الصورة التي كشفت الغشاوة عن عينه، وجعلته يُبصر الكثير من الحقائق التي كان يجهلها، قرأ كتاب عن تعاليم الإسلام وأركانه، والتي من بينها الحج، فتاقت روحه أن ترفرف وتحلق إلى مكة، كما حلّقت من قبل تحت جناح الإسلام بالرّغم من معتقداته الخاطئة عنه.

في عام 1964م قرر الذهاب إلى رحلة طويلة إلى بلدان العالم الإسلامي والعربي، وعلى رأسها الذهاب إلى مكة لتأدية فريضة الحج، محطمًا بذلك فكرة وخرافة عدم قدرة ذهاب الرجل الأسود إلى مكة لأسباب مادية عنصرية وأخرى دينية، وهذا ما كان يعتقده ويؤمن به أغلب أتباع إليجا محمد كما صرح بذلك مالكوم إكس بعد عودته من رحلة الحج معقبًا: (لقد حطمت رحلتي إلى هناك هذا التصور والمفهوم الخاطئ)!

وهناك في مكة قد ذُهل لما رآه، فقد وجد المسلمين جميعًا من شتى بقاع الأرض بمختلف أعراقهم وألوانهم يطوفون حول الكعبة بزي واحد، وينادون نداءً واحد “لبيك اللهم لبيك”، ويصلون ويتضرعون لربهم ويؤدون مناسك الحج في وقارٍ وحبٍ وإخاء صادق، أصابه الذهول عندما رأى أن الأبيض والاشقر والأسود جميعهم يتحدثون معًا بكل حب وصدق، ويجلسون في مجلسٍ واحد، ويأكلون على مائدة واحدة، لا توجد أفضلية بينهم إلّا بالتقوى، لا يوجد بينهم أي نوعٍ من أنواع الكراهية أو العنصرية أو العداء!

كيف هذا وهو يعتقد في أن دينه هو دين السود فقط دون غيرهم من البشر؟!

لقد اكتشف أن ما كان عليه ما هو إلا محض بدع وخرافات بشرية لا أكثر، وتزييف وتضليل، بل وعنصرية مساوية تمامًا لعنصرية البيض، وقد صرّح بالفعل بذلك علنًا للجميع عندما عاد إلى أمريكا فقال: (إنَّ إدانة كل البيض تساوي إدانة كل السود)!

انخلع قلب الرجل لمنظر الكعبة المهيب وأصوات التلبية، وهرع يتعلّم الصلاة الصحيحة، والتي كان يجهلها تمامًا، حتى أنّه كان يقول لنفسه، كيف بي لم أصلى طوال هذه الفترة وأنا أدعو إلى الإسلام!

قضى الرجل في مكة اثني عشر يومًا غيرت مجرى حياته، وقولبت جميع الأفكار المغلوطة والفاسدة في عقله، حتى أنّه كتب رسالة مطولة إلى زوجته من هناك يُخبرها بهول ما رآه، وكان مما كتبه إليها: (لم أشهد في حياتي ضيافة كريمة وروحًا غامرة بالإخوة الحقة كاللتين شهدتهما من أناس من شتى الألوان والأعراق في هذه الأرض العريقة المقدسة، وطن إبراهيم ومحمد وكل أنبياء الكتب المقدسة الآخرين. فقد كنت خلال الأسبوع الماضي مفتونًا وعاجزًا عن التعبير عما رأيته من كرم يعرضه الناس من حولي على اختلاف ألوانهم)!

وقال:

لقد وسّع الحج نطاق تفكيري وفتح بصيرتي فرأيت في أسبوعين ما لم أره في تسعٍ وثلاثين سن!.

وكان قد التقى في هذه الرحلة بالملك فيصل في السعودية، والعديد من زعماء الدول الأخرى، مثل جمال عبدالناصر في مصر، وأحمد بن بلة في الجزائر، وبعض الرموز الدعوية والسياسية الهامة، مثل: شيخ الأزهر ومفتي مصر آنذاك حسنين مخلوف، كما زار عدد كبير من الدول الأفريقية والبلدان العربية مثل: مصر، والسودان، والحجاز، وتهامة، ونيجيريا، وغانا، ولبنان، والمغرب والجزائر.

كانت هذه الرّحلة بمثابة “حلم البراءة” لدى مالكوم إكس الذي قام بتغيير اسمه بعد انتهاء الحج إلى (الحاج مالك الشباز)، فبالرّغم من أن هذه الدول التي زارها لم تكن هي الصورة المثلى التي ينشدها للمسلمين كما قرأ وتمنى، لكن كان يشعر تجاههم بنوع من الألفة والحب والأخوة حيث كانت نظرته مبنية على تجربته القاسية التي عايشها من العنصرية في مجتمع لا يرحم ولا يعرف للإنسانية طريق!

عاد الحاج مالك شباز إلى موطنه أمريكا بعد أن أعلن إسلامه من جديد، بروح فتيّة، وعزمٍ أقوى، وإيمان بالله ويقينٍ أكبر، ليواجه العالم بالحقائق الجديدة التي توصل إليها.

الدعوة الجديدة 1964

مرحلة جديدة بدأها الحاج مالك الشباز فور عودته إلى أمريكا؛ حيث عقد مؤتمرًا صحفيًا كبيرًا خاطب فيه الجماهير والجموع والصحفيين الذين كانوا يتلهفون لتصريحاته، وما سيُعلن عنه، فخاطب الجميع بالحقائق التي توصل إليها بأن الإسلام الحقيقي هو إسلام السود والبيض، وأنه أبدًا لا يفرق بينهما، فالجميع تحت رايته متساوون ولهم جميع الحقوق المكفولة لهم، أعتذر أمام الجميع عن تلك السنوات التي أمضاها في صف تلك المنظمة ذات الأفكار العنصرية الخاطئة.

ودعا للانضمام لأهل السنة والجماعة، حيث لا فرق بين السود والبيض فيها، وأسس لذلك (جماعة أهل السنة)، كما أسس منظمة (الأفرو أمريكية) ليربط بين نضال السود في أمريكا ونضالهم في الأمم الأفريقية من أجل التحرر الوطني، وقد كان الرجل شجاعًا مع ذاته، قبل غيره، ومتسقًا مع نفسه أشد اتساق، ذكر في الخطاب الذي كتبه لزوجته وهو في الحج: (قد تُصعقين حين تسمعين كلامي هذا، ولكنني كنت على الدوام رجلًا يحاول مواجهة الحقائق، وتقبل واقع الحياة كما تكشف عنه المعارف والخبرات الجديدة. ولقد علمتني تجربة الحج هذه الشيء الكثير، وكل ساعة أقضيها في الأرض المقدسة تفتح عيني أكثر فأكثر).

ثم اتجه إلى إليجا محمد وأخبره الخبر، وحاول إقناعه بالإسلام الحق، ودعاه إلى الذهاب للكعبة ليرى بنفسه، ولكنّ دعوته قوبلت بالرفض الشديد والطرد من مكتبه.

كما أنّه دعا كل أفراد المنظمة، وكثير منهم تأثر بدعوته وآمن بأفكاره، وكان على رأسهم بن إليجا محمد ذاته، ثم استمر في الدعوة إلى الله الحق في شتى مدن وأحياء أمريكا، لم يدخر جهدًا أبدًا في بيان رسالة الإسلام السامية التي تدعو إلى الإخاء والحب والعدل والمساواة، ونبذ العنصرية البغيضة، وصرّح بذلك فقال: (إن الإسلام الحقيقي يزيل العنصرية لأن الناس من شتى الألوان والأعراق الذين قبلوا مبادئه الدينية ويعبدون إلهًا واحدًا هو الله عز وجل، يقبلون أيضًا وتلقائيًَا واحدهم الآخر بوصفهم إخوة وأخوات بغض النظر عن اختلافهم في المظهر).

وكان يرى أنّه لا يوجد حل للقضاء على هذه العنصرية سوى في اتباع الدين الإسلامي، فقال: (إن أميركا لفي حاجة إلى فهم الإسلام، لأن هذا هو الدين الوحيد الذي يمحو مشكلة العرق من مجتمعها)!

على الجانب الآخر لم تسكت عنه منظمة أمة الإسلام، بل شنت الحملات الإعلامية الضخمة ضده، وتعمدت تشويه صورته ورسالته في جميع الوسائل والقنوات، والعجيب أن تلك الصحف والإذاعات التي كانت ترحب به ليل نهار عندما كان يدعو للدين الإسلامي بصورته الزائفة المنحرفة، الآن هي ذاتها تغلق عنه أبوابها وتقف حائط سد أمامه بقوة، بل وتهاجمه بكل شراسة بعد أن أصبح يدعو إلى الدين الإسلامي الحق!

لذلك كان يقول:

إذا لم تأخذ حذرك‏ فإن الإعلام سيجعلك‏ تكره المظلومين وتحب من يمارسون الظلم!.

ولم يكتفي إليجا محمد بذلك فحسب، بل طلب منه ترك منزله الذي منحته له أمة الإسلام، وقامت بتهديده إن لم يتوقف عن مساره، وذلك لأن عرش أركانها اهتز بقوة إثر دعوة الحاج مالك الشباز الذي أخذ يصدع بالحق ليل نهار، وكان صوته اعلى، وحجته أقوى، مما أدى إلى التفاف الكثير من السود والبيض حوله، فتلقى تهديد آخر بقتله إن لم ينته عند هذا الحد.

وبالرّغم من كل تلك التهديدات إلّا أن الرجل لم يتوقف بل أصرّ على استكمال المسير، ولم يزده ذلك إلّا إصرارًا وعزمًا، وقوةً وبأسًا، فخرج ينادي في كل ميدان، وفي كل مجمع او محفل ما أستطاع إلى ذلك سبيلًا أن استجيبوا لربكم وما يحييكم، واجتمعوا على هذا الدين الذي فيه الأمن والحماية والإخاء لكم جميعًا، وهو مع ذلك لم يتراجع أبدًا عن فكرة رد الاعتداء والظلم بمثله على المعتدي إن لم ينصفه الحاكم أو القوانين، فالإسلام عزيز ولا يرضى لأتباعه الذلة والخنوع قط، كان يقول: (ديننا الإسلامي يعلمنا أن نكون أذكياء، أخبرنا أن العين بالعين، والسن بالسن، والرأس بالرأس، والحياة بالحياة، والذي يرفض تلك التعاليم هو في الحقيقة ذئب يحاول أن يخدعك لافتراسك)!

وكان يقول:

ليس في كتابنا القرآن الكريم شيئًا يعلمنا أن نعاني بسلام.

وإنما: (كن مسالمًا ومهذبًا وأطِع القانون واحترم الجميع، وإذا ما قام أحد بلمسك فأرسله إلى القبر)، أمّا عن فكرته إنشاء مجتمع منفصل للسود في أمريكا الشمالية فقد تخلى عنها، ودعا لإقامة مجتمع امريكي مختلط وشامل ومتكامل من البيض والسود يعيشون في إخاء ومساواة وعدل لا يظلم بعضهم بعضًا.

كل هذا المشهد لم يكن بعيدًا عن مسمع ومرأى وكالة المخابرات الأمريكية التي كانت تتابعه بحرصٍ ودقة عن كثب، ولمّا احتدم الصراع بين مالكوم إكس وجماعة أمة الإسلام قامت الأخيرة بإضرام النار في منزله في نيويورك في 14 فبراير 1965م في محاولة منهم لاغتياله، ولكنّه نجا منها هو وأسرته، ولقد وجّه حديثه إلى أولئك القتلة السفلة بقوة في مؤتمر صحفي له فقال: (إن هاجمتموني فهذا أمر، وأنا أعرف كيف أتعامل مع هجومكم.. لكن حين تهاجمون أطفالًا نيامًا فأنتم أقل من…..)!

وقد كان الرجل يرى جليًا أن نهايته في هذا الطريق قد اقتربت أيًا ما كانت صورتها، فذلك هو حال السائرين إلى الله، المصلحين في الأرض في كل زمانٍ ومكان، يتجاوزون محنة إلى أخرى حتى يختارهم الله إلى جواره، صرّح لأحد الصحفيين عقب هذه الواقعة: (أنا الآن أعيش زمن الاستشهاد فإذا حدث ومت فإنني سأموت شهيد الأخوة وهي الشيء الوحيد الذي يمكن أن ينقذ البلاد، لقد وصلت إلى هذه القناعة بعد تجربة شاقة ولكنني وصلت إليها)!

كانت حياته مهددة بالخطر بالفعل، وقد طلب من السلطات حمايته، ولكن لم ينتبهوا إليه أو يعيروه اهتمامًا، وما هي إلّا بضعة أيام وقد حدث ما تنبأ به!

استشهاده 1965

لم يمر سوى أسبوع واحد فقط حتى كان الحاج مالك الشباز يقف على إحدى منصات قاعة المؤتمرات بنيويورك، وتحديدًا في مساء يوم 21 فبراير 1965م يخاطب الناس ويدعوهم إلى الإسلام، فحدثت مشاجرة مفتعلة بين بعض الحاضرين في الصف التاسع، حدث صخب بسببه فتوّجه الحرّاس الشخصيين لفض النزاع والسيطرة على الموقف، وهنا صعد “توماس هاجان” من رجال الفرقة الخاصة لحركة أمة الإسلام إلى المنصة وتمكن من إشهار سلاحه في صدر مالكوم ليفرغ فيه ستة عشر من الرصاصات التي لم تخطئ واحدة منها هدفها، ثم يخرج اثنين آخرين ويمطروه بوابلٍ من الرصاص فأردوه قتيلًا، وقد نزف الكثير من الدماء، حتى أنّ التشريح الجنائي كشف بعدها عن وجود 21 جرحًا ناجمًا عن طلقات نارية في صدره!

ليستشهد بذلك الحاج مالك الشباز الذي مات واقفًا وهو يدعو إلى دين الله الحق، وإلى التمسك بتعاليم الإسلام، وتطبيق تشريعاته السامية، مخلدًا بذلك اسمه بين صفحات التاريخ التي حوت العديد من الزعماء والقادة والأبطال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه حتى قضوا نحبهم، بالإضافة إلى تركه إرث ثقافي ونضالي كبير، بل إنَّ استشهاده كان بمثابة تمهيد لعصر جديد من تحرير السود وإقرار حقوقهم، وتأسيس لفكر ثوري ونضالي عظيم استمر بعده لسنوات وأجيال متعاقبة.

كان من أبرز مكتسبات فترة نضال مالكوم إكس ورفاقه بعد استشهاده بشهر واحد فقط، أن أعترف رئيس أمريكا جونسون آنذاك بقانون يسمح للسود بالمشاركة في أي انتخابات أو تصويتات أمريكية دون أي قيود، كما تم رسميًا إلغاء استخدام كلمة (Nigro) والتي تعني (زنجي)، وقد كانت تستخدم كنوع من الإهانة للرجل الأسود في أمريكا، بالإضافة إلى ظهور العديد من الحركات السياسية التي أكملت مسيرة نضال السود لاحقًا، والتي بنت أساسها على معظم أفكار مالكوم إكس مثل: حزب (الفهود السود) وفكرة (قوة السود)، وجميعها ناضلت لأجل الحرية والعدل والمساواة.

كما كان له فضل كبير في تصحيح مسار حركة الدعوة الإسلامية في أمريكا التي انحرفت بقوة عن العقيدة الإسلامية الصحيحة.

أما عن حركة أمة الإسلام فقد غادرها أكثر أعضاءها بعد اغتيال مالكوم إكس وانضموا إلى جماعة أهل السنة، ووصلوا إلى الدين الحق، كأولئك الذين آمنوا برب الغلام بعد مقتله على يدِ الملك الظالم في قصة أصحاب الأخدود، ثم استمرت الحركة في نشاطها المنحرف لمدة عشر سنوات حتى مات إليجا محمد ليتولى قيادتها من بعده ابنه (وارث الدين محمد) الذي قام بتصحيح أفكار الحركة بالكلّية للمسار الصحيح، وقام بتغيير اسمها إلى (حركة البلالية) نسبة إلى سيدنا بلال بن رباح “رضي الله عنه”، متبعًا بذلك إسلامًا سنيًا صحيحًا حتى وفاته.

وقد تأثر العديد من المفكرين والكتاب، بل والصحفيين كذلك بشخصية هذا الرجل، كان من أبرزهم المفكر المصري عبدالوهاب المسيري الذي ذكر ذلك صراحةً في كتابه “رحلتي الفكرية” فقال: (بدأت أتعرف على التجربة الدينية الإسلامية لأفهم منطلقها الداخلي، وكانت مقابلتي مع مالكوم إكس الزعيم المسلم لها أعمق الأثر).

ولم تنصفه أمريكا قط لا في حياته ولا بعد مماته، بل تعمدت تهميشه وتشويه صورته على الدوام، فكتبت الصحف الأمريكية بعد استشهاده (موت المتطرف مالكوم إكس)! ولأنه كان يتوقع ذلك الأمر قام في آخر سنواته بالعمل على كتابة مذكرات حياته بالتعاون مع الكاتب (أليكس هيلي) الذي كتبها بدون تلميع أو تجميل، ثم جمعها في كتاب بعد وفاته أسماه (مالكوم إكس – سيرة ذاتية) وقد حقق الكتاب مبيعات ضخمة، حتى أن مجلة التايمز الأمريكية قد صنفته على أنه من أفضل 10 كتب عالميًا.

من أقواله الأخيرة التي أوجز فيها رؤيته ورسالته لأي جيل من الشباب الحر:

أيها الجيل الجديد من البيض والسود والسمر أيًا تكونوا، أنتم تعيشون الآن في زمن التطرف، وزمن الثورة، زمن يجب أن يحدث فيه التغيير، لقد أساء أصحاب السلطة استخدامها، وأنا مستعد للانضمام إلى أي منكم، لا يهمني لونك! ما دمت تريد أن تغير هذه الظروف البائسة على وجه الأرض!

لقد رحلت روحك عنا أيها الزعيم الثائر، لكنّ أفكارك أبدًا لم ترحل وستظل فتيلًا تشتعل به روح كل مسلم حر يسعى بهمة وقوة لتغيير هذه الظروف البائسة على وجه الأرض، ويناهض لأجل نصرة المظلومين ودحض الظالمين، فرحمة من الله عليك -حاج مالك شباز- ومغفرة منه ورضوان.

المصادر

معتصم علي

كاتب ومنشئ محتوى إبداعي، طالب علم مهتم بشأن الأمة، وقضايا المسلمين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى