Professional Documents
Culture Documents
1
بسم الـلــه الرحمن الرحيـــــم
الفصل األول
شتاء األسكندرية 2011
وظل الجو السيىء مقيما فى األسكندرية ال يبارحها وأيام الصحو تبدو ذكرى .
وعلى الرغم من ذلك تأتى أيام قليلة كان الريح يهدأ ،وكان الهواء يسكن شيئا بعد شيىء .الجميع
واثق من أن كل مايحدث فى هذا البلد ،عارض زائف .لكن ،هناك ،ومضات ضوء خافت ،تجتذب
أناسا آخرين ،معظمهم من الشباب .فى تلك األيام ..لم يتمالك المصريون الذين أتسع لهم الزمن مجاال
ليشاهدوا اللحظة التاريخية بأنفسهم ،وداسوا نظاما شاخ فى كراسيه .
ضرب زلزال التغيير مصر كلها ،وركب البلد عفريت المظاهـــرات تجتاح كل شبر فيها .وبعد كر وفر
وصد ورد جاء الختام مقتضبا وبمنطق " سلم وأستلم " تخلى الرئيس وتولى الجيش .
وحين أفاق الجميع أكتشف أبناء الوطن أن خيرات الوطن أبتلعها األب الحكيم وأسرته وحاشيته ،ولم
يبق سوى ذكريات عن ثروات وطن .
كانت ثورة أو ربما هوجة ..أشتعلت العقول والقلوب بالحماسة ..حماسة التغيير واالشتياق الثبات
الذات ..الكل تسابق السقاط قاعدة ان المصريين شعب ال يهش وال ينش ،فغاب العقل فى غفلة من
الزمن ..خرج المارد المصرى من قمقمه ..خرج وخرجت معه كل الشوائب والعيوب ..فى حالة من
الالوعى الجماعى تسرب من بين المصريين أشكال وسحنات تنازعت عقول المصريين وكسب وعيهم ..
خرجت مجموعات قناعها الدين تصول وتجول بلحية وجلبابا قصيرا يفتى ويكفرمهــلال بفتح أسالمى
جديـــد ..والثانى علمانى ليبرالى ديمقراطى يسارى أشتراكــى سميه ماشئت وهم كغثاء السيل ،الواحد
منهم له لسانين فوق لسانه ،فمنهم من يطلق ثالثين أو أربعين كلمة فى الدقيقة وبعضهم يقل أو يزيد ،
يعشقون النجومية ويحبون الكاميرا وهى تحبهم .
2
كشفت لنا ثورة يناير أن الشهوة لها وجوه كثيرة .الثورة فجرت شهوة الكالم ،وهرع محترفوه الى
الفضائيات ،يشبعون نهمهم .أنهم يتصارعون على أمتالك أذنك ،فان لم يستطيعوا فانهم يحتالون
ألستئجارها ،فى لحظة تكون فيها مسروقا أو مغيبا .
األسكندرية بعد ثورة يناير جرحت جرحا عميقا فى خصائصها وثوابتها ،ولم يخلو المشهد فيها من
تبعات الثورة .صالت وجالت الفوضى فى كل شبر فيها ،البلطجة هى القانون السائد ،فجأة ضاقت
الشوارع بالسيارات وعاش أهالى األسكندرية محبوسين فى المواصالت ،فوضى البناء بال ضابط
والرابط وأصبحت المدينة مهددة بأنهيار نصف عقاراتها ،ناهيك عن القمامة التى نستأنس بها
وتستأنس بنا خالف السرقات والسطو ،حتى أصبحت الحياة فى األسكندرية زوبعة تجرفنا وندور معها
فشاخت "عروس البحر" لتتحول لـ " عجوز البحر األبيض المتوسط ".
فقط وحصريا ..فلت هذا المبنى المهيب الكئيب بأسواره العالية الغاضبة من سيناريو الفوضى .هنا فقط
نقطة نظام أستثنائية .كلما أقتربت خطواتك بأتجاه موقعه تحيطك الكآبة وينتابك الحذر .أنه سجن
النساء .يبدو مشهده من األعلى معقدا ،قابع فى رقعته ساكنا كالصخرة تصعب على العين هضم
تفاصيله ،األسوار تتخلل كل فراغاته .أشباح كالظالل تتحرك مكفنة بالبياض ..حركة حائرة ..يحتويك
أحساس مفاجىء يخبط نقطة ما فى رأسك تنبىء عن حقيقة واضحة مفادها :مهما بلغت أالعيب الحياة
معك وسحبتك الى ما بين ساقيها وهضمتك بعصارتها وطحنتك ثم لفظتك فضالت تحمل رائحتها ،أهون
ألف مرة من ساعة تقضيها محصورا مكدسا فيما ال يتجاوز المترين .
عنبر "ج" ..عتيق باللون ..بهتت كل ألوانه ،جدران وأرضيات وأسرة ترجع إلى عصور الجريمــة
البدائية مرورا بكل مراحل التطور األجرامى نهاية بسرقة "التكاتك " .
الحياة كلها هنا مسجونة بين تلك الجدران .عند آخر ضوء للنهار كما أعلنت تلك النافذة العالية
الوحيدة والمحبوسة أيضا داخل أطارها التى تقاطعت داخله أسياخ حديدية طوال وعرضا ،يتخلل منها
الضوء األخير للنهار يفضح مقتنيات العنبر ..سراير حديدية عتيقة من طابقين تمأل نصفه ،كل زوج
منهما موصول بسلم معدنى صغير ،منضدة خشبية متوسطةمتأكلة تبعثرت فوقها زجاجات المياة ،
أطباق يستحيل التوصل الى لونها االصلى ،أكواب ،أعقاب سجائر ..فى الصدارة أنتصب دوالب حديدى
قديم مطعون فى كرامته الحديدية حيث أعتاله الصدأ حتى بلغ قامته ،يضم داخل جثته ألبسة وغيارات
داخلية دارت على معظم أجساد من فى العنبر ،تحته أحتجبت مجموعة شباشب متوارثة من السابقون
3
السابقون ،دائما ما يجمع كل ما على األرض ويرمى به فوقه أو يسحلوه تحته درءا ألحتجاجات الصول
" عفاف " مسئولة األمن والحراسة فى العنبر ،نفس النمط الحجرى التقليدى لمنصب السجانة ،
تبدومكونات شخصيتها كما جسدتها الدراما المصرية ،أضافت عينيها الضيقتان فى وجهها الخمرى
المسحوب المسنود على جسد خشبى خالى من المرونة رسالة تصيب ما تصيب قدرا من الرعب فى
القلوب ،الوعيد والتهديد هما لغتها المفضلة ،ثالثون عاما من الخدمة فى سجن النساء أنتجت أنطباعا
ثابتا اليتغير بأنها امرأة بال هوية .
لم ينس ضوء الزوال المتخلل من النافذة أن يودع وجه " هدى " التى تقوست فى مكانها مولية ظهرها
لباب العنبر تكافح فى سد ثقوب جوربها الصوفى الذى أعلن التمرد أكثر من مرة معترضا على فعل
الرطوبة .بالرغم من سنوات السجن واألكتئاب وتخطيها سن األربعين بعامين إال أن جسدها مازال
رشيقا كالرمح مشدودا ووجها له خصوصية ،فيه نعومة ورقة سوليفان ...توشك ان تبلغ أقصى
ما يمكن أن تبلغه النعومة والرقة فى وجه من الوجوه ،وجها له أستدارة خفيفة ،جبهة عالية بمقدار
يحرسها أنف بأرتفاع طفيف ،تسكنها عينان سوداوين ،تحملها ساقين مشدودتين ومسحوبه بأنسياب
يحاكى بقية أجزائها ذات التعاريج واألنحناءات واألستدارات ،فبدت مستديرة فى كل شيىء ،وجهها
وشعرها وعيناها و نهداها ..وحتى حوضها وهى تجلس .بينما فى تلك اللحظة قطعت " فايزة "
طريقها داخل العنبر باتجاه رفيقة األسر"هدى"بعد نهاية يوم عصيب فى غرفة الغسيل الملحقة بالعنبر ،
تقترب بخطى مختالة باليونيفورم التقليدى للسجن ،جلباب أبيض يكسوها من العنق إلى الذيل يرتج
داخله جسدها المدكوك ..تستأنف بخترتها بعد أن لطشت بيمناها مؤخرة " صباح " التى أنحنت مدلية
راسها تعاين ما بين فخذيها عن ما تبقى من النقاط األخيرة لدورة شهرية على وشك الرحيل قبل أن
تبدى فايزة مالحظة واجبة :كفاية أرف ياختى ده مكان بنتخمد فيه ..مصمصت شفتيها قبل ان ترفع
رأسها :أنا الحمد للـه لسه صغيرة ومواسيرى شغالة وسالكة و الدور والباقى على اللى مواسيره
مصدية ..ختمت جملتها بصهللة لها رنة كعادتها ،من الثابت هنا أن اللون األحمر هو اللون الرسمى
الذى يصبغ المالبس و الحمامات مع بدايات كل شهر حسب ما تجود به دورتهن الشهرية ،غير أن
هناك مالحظة رائعة دائماما تطلقها الصول "عفاف " :تالقيكم بتعوروا نفسكم يانسوان باألسم!!.
دارت " فايزة " بعينيها الواسعتين على السجينات فى محيط العنبر وهى تجر خلفها ردفاها السمينتين
قبل أن يسبقها كفها بلمسة خفيفة على ظهر هدى حين أقتحمت محيطها ..التفتت اليها بعد أن سحبت
4
نفسا عنيفا :بقالى ساعة بأرمم فى المنيل ده ..أنحنت إليها هامسة كأنما تفضى بسر قبل أن تخطف
من يدها الجورب المريض وأطاحت به بين السريرين :سيبك من المنيل ده وأسمعى حاقولك أيه ..ثم
خلعت شبشبها وأراحت مؤخرتها على حافة السرير .فأردفت هدى :خير يافايزة قولى عندك أيه ؟ ..
بلهجة بين المرح والجد بعد أن طافت بنظرتها بين وجوه زميالتها الالتى أنشغلن فى أحاديث مكررة
ومعادة :عندى لكى خبرين زى الناراألوالنى نص نص أما الثانى فبعد أذن المولى حيكسر الدنيا ..
أغمضت هدى عينيها نصف أغماضة وأهتزت كفقى فى مأتم :قولى ..دست يدها داخل طـوق الجلباب
الميرى ونبشت بأصابعها داخـــل حنايا الصدر الكبير الباهظ ،سحبت من بين الشوالين " صبع روج "
رمقته هدى بدهشة بعد أن زال ترقبها :أيه ده يافايزة ؟ ..أهتز رأسها الملفوف بالحجاب على أثر
ضحكة سأخرة :اللــه يخيبك يافايزة ..عاجلتها وحشرته بين يديها مصحوبا بضحكتها المجلجلة التى
تقاوم بها دائما أيام سجنها عكس هدى التى التستطيع أن تضحك مثلها وان أرادت ،تخرج ضحكتها
مبتورة ،مكتومة ،تسبقها يدها الى فمها ،تكاد تخفيه ،تحول دائما بينه وبين الضحك ،ليس هذا هو
الفارق الوحيد بينهما بل النشأة والتعليم والطباع ،فبالرغم من الحالة المزاجية العنيفة والمندفعة لفايزة
والعدوانية فى كثير من االحيان وحصولها بجدارة على لقب " فايزة عكننة " المتداول على ألسنة
ساكنى العنبر،إال أن هدى أحبتها فألتصقت بها بعد أن عرفتها وفهمت طبيعتها وأن طباعها ماهى إال
قشرة تغطى شخصيتها وأن داخلها ضعفا وانكسارا ،فأزدادت أقترابا منها حتى لقد أصبح عليها نوع
من التأثير يشبه السحر وغ يرت فيها شيئا متوحشا لم يروض ولم يستأنس من قبل ،فى حين أشتهرت
هدى داخل السجن بأنها مطفأة للحرائق التى تندلع كل ساعة داخل العنبر بسبب أو بدون بما تملكه من
هدوء وحكمة .
أخترقت نظرات " توحة مساج " المنبطحة على بطنها من مكمنها بالسرير العلوى فى الصف المواجه
بعد أن مطت رقبتها ورفعت رأسها وهى تداعب شعرها تسحبه بأصبعيها فى عصبية تغذيها بعض
السخ ونة بعد أن لمحت "صبع الروج" يتالعب أمام عينيها على هات وخد المتداولة بين هدى وفايزة
وما أدراك بما تمثله أدوات المكياج فى تكوين شخصية " توحة " فهى جزءا من حاضرها قبل أن يكون
ضروريا فى ماضيها خاصة بعدما ألتحقت بالعمل فى أحد مراكز ما يسمى بالعالج الطبيعى والمساج
بمدينة الغردقة وبعد أن أجتازت دورة تدريبية وتم صقلها تحت أشراف ورقابة المركز حسب المنهج
العلمى الحديث للمساج ،فكان لها بصمة وأضافات خرجت به من التقليدية إلى األبتكار ويحسب لها
تخصصها فــ ى فرع واحد ونوعية واحدة " رجالى فقط " برعت فى فنون التدليك وخاصة التصاعدى
5
منه " من تحت لفوق " متحاشية منطقة الظهر والبطن والفخذين بأستثناء ما بينهما فأتقنت التعامل مع
هذا الجزء مستفيدة من خبرتها الطويلة فى ذلك المجال منذ أن كان لها تواجد دائم ومكثف فى معظم
الشقق المفروشة بمنطقة المعمورة ،فقدمت خدماتها لكل فئات الوطن وتحمل جسدها كل المقاسات
واالوزان .غير أن عملها قد توقف فجأة منذ عام تقريبا حين تم ضبطها داخل المركز عارية تماما فى
واحدة من غارات مكتب األداب فى غفلة من مجموعة المراقبة والتأمين المنوط بها حماية المركز ،
فخرجت فى زفة ميرى كالمالئكة ملفوفة فى مالية سرير بيضاء يشاركها الغطاء أخ شقيق من
الخليج ! ..عاجلتها المحكمة بثالث سنوات مع الشغل والنفاذ لممارسة الدعارة .
أستشاطت " توحة " غضبا ،خرج صوتها عدائيا محتجا بأتجاه فايزة بعد أن سبقتها أقدامها نزوال على
السلم المعدنى صارخة :يعنى أنتى اللى سرقتى صبع الروج يافايزة ..أنتبهت األخيرة لكلماتها فرمتها
بنظرة نارية ممتدة تنذر بشر مستحكم ونبرة متوعدة :يعنى أنا حرامية يابت ..قبل أن تؤكد لها توحة
نفس الصفة وتلصقها بها ،بادرت هدى هامسة لها :كبرى دماغك يافايزة وبالش مشاكل .إال أن نداء
توحه لها كان كافيا ألستدعاء غضبها :أيوه أنتى اللى حرامية يافايزة .نهضت فى قوة من مكانها بعد
أن أطاحت بهدى على جنبها األيمن وركضت مندفعة بأتجاه توحة كالثور فى حلبة مصارعة وهى
خافضة الرأس ،تدوس األرض بقدميها حتى بلغتها فتحولت كل العيون نحوهما حين أمسكت بطرفى
جلباب توحة وهزتها هزأ عنيفا وأشهرت أصبعها وغرزته فى صدرها :فايزة مش حرامية ياتوحة
مساج ..بنبرة ضعفت حدتها :أل حرامية يافايزة ياعكننة .
ــ طب ورحمة أبويا ألعرفك مين هى فايزة عكننة ..أنقضت عليها فضربتها شلوتا على قفا ساقيها
فأنثئت ركبتها ونزلت توحة على األرض بتلقائية لتحمى رأسها ،لم يعد المشهد حركيا فقط بل كان
مصاحبا لصخب هادر من حناجر مختلفة النبرات والنغمات تهز أرجاء العنبر وإن أشتركن جميعا فى
مقاس اللسان الطويل ..اندلعت الصيحات والشتائم وأختلط الحابل بالنابل بينما الزالت توحه جاثمة على
ركبتيها وفايزة فوقها تدق رأسها وكتفيها وعمودها الفقرىوهى تصرخ بعد أن تشبثت أصابعها فى شعر
توحة التى ترنحت رأسها ذهابا وعودة :أنا فايزة عكننة يابت أنا الشرف والعفة مش زيك يامرى ياللى
موزعة جسمك صدقة جارية :أندفعت إليها هدى حين شعرت أن األمور تجرى على غير ما يرام وقبل
أن تتسع ساحة المعركة للجميع بعدما لمحت " حكمت وعواطف " ومن خلفهما " صباح " وقد شمرن
عن سيقاهن الالتى بدت مشعرة كسيقان الرجال ،صرخات متنوعة الرنات يتبعها لطم ونواح عندما
6
وطأت أقدام هدى جبهة القتال فى حين ظلت فتحية تطل برأسها من سريرها العلوى وقد فاجأتها الحالة
المرضية المعتادة التى تنتابها عند رؤية مشاهد الضرب والهياج فتصاب برعشة تطال جسدها كله
مصحوبة بصراخ ال يهدأ إال بعد أن تسلخ فروة شعرها هرشا فتبدو كالمصابة بالجرب ،تصدت لها هدى
بعــد أن أفلتت يدها من شعر توحة تحاول لجمها ،رفعت أصبعها على فمها وهى تتجول بعينيها فى
وجوههن :بس اتكتمو بقى اللــه يخربيتكم ..ثم واجهت فايزة بدفعة بكفها فى صدرها قبل أن ترميها
بنظرة أقنعتها بالكف والتراجع ،فخضعت وانزاحت تاركة توحة جاثمة على ركبتيها وقد أنتفض شعرها
من جذوره قبل أن تنهار أرضا ليتراكم حولها ساكنى العنبر حيث تم سحبها من أرض المعركة فى حين
بدا األمر مرهقا لهدى وهى تحاول جذب فايزة من كتفها وأن أحالت استدارته السمينة على أن تقبض
عليه بأصابعها ،فشبكت كفيها حوله وسحبتها كخروف العيد باتجاه السرير تصرخ فيها :أمشى معايا
ولمى نفسك ..أشاحت بنظرها ناحية توحة المهزومة قبل أن ترخى جفنيها متقبلة دفع هدى لها وقد
أتخذت طريقها راجعة لسريرها بعد أن أحكمت طرفى طرحتها حول رقبتها ،بينما أصبحت توحة كبقايا
أمرآة مفككة العظام فأستعانت بكتفى "عزيزة ونادية " كعكازين حين حاولت القيام من مكانها ..تحركتا
بها ببطء قبل أن تميل هامسة فى أذن عزيزة كأنها تتلو وصيتها األخيرة :طلعينى ياختى على السرير
وغطينى ..تقاسمتا فردتى مؤخرتها لتدفع كل منهن فردة فوق درجات السلم صعودا حنى بلغت حدوده
ثم زحفت عليه منبطحة وهى تتوجع :ربنا يشل أيدك يافايزة ويهد حيلك ياقادر ياكريم ..أنهت الدعاء
ثم طلبت سيجارة من نادية .
هدأت األمور دفعة واحدة وكأن شيىء لم يكن ،تابع الجميع سيرهن نحوأسرتهن بوجوه موصدة السبيل
إلى النفاذ اليها وكانهن يستنكرن فى قرارة نفوسهم هذا األضطراب كله .أنقضت دقائق خفتت فيها
األصوات قبل أن تمد فايزه يدها داخل حفرة فى المرتبة التى أصبح القطن فى أحشاءها ذكرى فى حين
تابعتها هدى بضيق وهى تسحب من الفتحة علبة سجاير كليوباترا بدت محنطة وكانها أخرجتها من
تابوت ..جلست أمامها صامتة حين رمقتها بنظرة تحمل آثار فعلة الترضى عنها صديقتها فخرج
صوتها مكتوما :واللـه ماكنش قصدى فى كل اللى حصل ده ..بأحباط نهضت هدى فواجهتها فايزة :
أقعدى بقى وأهدى وماتكبريش الحكاية ..تنفخ فى ملل :أنتى مافيش منك فايدة كل مره تعملى مصيبة
وتقولى ماكنش قصدى ..هكذا هى دائما فايزة تنقاد سريعا النفعالها ثم تتراجع نادمة ،فقد سجل لها
التاريخ موقفا عظيما داخل السجن فى أعقاب ثورة يناير حين تواترت األخبار محمومة عن أقتحام معظم
سجون الرجال وأطالق سراحهم على يد مجموعات مسلحة ومنظمة اليعرف حتى األن من أى جهة
7
قدموا ومن الذى دعم وخطط وال حتى من قام بتوجيه ضربة أستباقية لمعظم اقسام الشرطه واطاحت
بالجهاز األمنى كله خارج المشهد ،حينها أبت فايزة على نفسها أن تقف مكتوفة األيدى فقادت بنفسها
مظاهرة حاشدة تصدرتها معظم السجينات الالتى يمتلكن رصيدا البأس به من السوابق امثال
(ناديه الحربايه وصباح أحتقار وسلمى مافيش مانع) بينما فى الخلفية لفيف ال يستهان به ،وعند
اكتمال الحشد رددن الجميع خلف فايزة شعار الحرية "الشعب يريد فتح السجون" ،لم تهدأ حناجرهم
لساعة كاملة بال انقطاع حتى وافق مأمور السجن على مقابلة وفد منهن تزعمته فايزة وبعض من
السابق ذكرهن ،دام األجتماع ثالثة ساعات فى مكتب المأمور حضره مجموعة من السجينات
وضابطات السجن وبعض السجانات المكلفين بالحراسة وضبط األمن داخل العنابر ،انفض األجتماع ولم
يعد الوفد إلى الزنازين بل تم أستضافته بالكامل فى مستشفى السجن حيث كانت آثار األجتماع واضحة
وضوح الشمس فكانت فايزة تعانى كسورا مختلفة ومتنوعة وسحجات بالجبهة وتورم بالعينين
والصدغين وأصبح اللون األزرق هو صاحب المساحة األكبر فى جسمها خالف الدوائر الرمادية التى
طبعت على جلدها نتيجة شحنها هى ورفيقات الكفاح بجرعة مكثفة من الكهرباء تكفى كما اشيع يومها
ألضاءة شقة مكونة من غرفتين وصالة ..عشرة أيام بالتمام والكمال داخل المستشفى ثم خرجن بعدها
محملين بكمية وافرة من التهديدات والتحذيرات وبعض األصابات التى رافقت بعضهن حتى اليوم ،حيث
الزالت تعانى صباح بطنين مستمر باالذن اليسرى مع عرج خفيف أصاب الساق اليمنى لشاديه فى حين
خرست تماما "سعدية "وفاءالنصيحة من الصول " عفاف " عقب " العلقة " :أياك أسمع صوتك تانى
وبقك ماينفتحش غير لألكل و بس .
حالة من األنتباه المفاجىء سرت فى األجساد المنهكة والمسترخية فى العنبر حين أقتربت أقدام الصول
"عفاف" بأتجاه باب العنبر لتمد وجهها الشمعى المتصلب تتلصص بين قواطعه الحديدية ،تفتش
بنظراتها بين المنزوين داخله ،تتشمم بفتحتى أنفها عن أى رائحة غريبة حيث أن المخدرات داخل
السجن تتداول بوفرة تكفى وتفيض وأحيانا تصدر خارجه !! ..تململت فى وقفتها قبل أن تصفق بكفيها
كمسحراتى رمضان بعد أن زجرتهم بنظرة :أطفى النور يابت أنتى وهى وياله أتخمدوا ..قالتها
وأنصرفت ،أشارت هدى بيدها :أطفى النور ياحكمت ،التى قامت ببطء بعد أن أنهت أقتسام قطعة
حشيش مع عزيزة ،أنطفأت لمبات النيون األبيض لتحل محلها أضاءة صفراء بلون الكركم كان
مصدرها لمبتان " سهارى" بحجم البيضة البلدى احالت شكل العنبر إلى سجن من عصر المماليك وجعل
لون الوجوه وكأنها قد اصيبت بمرض الصفرا ..
8
بعد أن خطفت بعينيها خطفة من وجه هدى الواجم شدت فايزة جسمها واقفة وبنبرة تهديد :ورحمة
أبويا ياهدى لوما فردتيش وشك وتعدلتى حأروح أجيب البت توحة من شعرها حأكمل عليها وأخليها ليلة
سودة ..كان صوتها مجلجال ،فضحكت المنبطحات والجالسات والمثرثرات ،كانت ضحكتهن جميعا
ضحكة رضا وتواطؤ .أبتسمت هدى .خرج صوتها متعبا :طب تعالى أقعدى جنبى ..ألتصقت
بها مستسلمة :أنتى قلتى عندك خبرين ..خبر قلتيه وكان حيعمل لنا كارثة فى العنبر ياترى الخبر
التانى زيه ..سألت هدى ،أقتربت منها فى حماسة ماتنفك تزداد :حتة خبر لو طلع صح السجن كله
حيتقلب ..لم تتمالك مالمحها تصريحات فايزة ،فتناثرت الدهشة والترقب فيها :خبر أيه ده اللى حيقلب
السجن ..تمتمت بصوت خفيض :النهاردة قبل ما أدخل وردية الغسيل شميت ريحة قلق ولما نكشت
وسألت من تحت لتحت ..أردفت قبل أن تتوقف عينيها ناحية سرير " أم السيد" ورفيقتها " بحرية "
وهما سجينتان تخطاهن الزمن وأصبحتا نسيا منسيا فى السجن ،كل من فى العنبر بدأ محكوميته فى
ظل وجودهما ،ال تفترقان أبدا وبالكاد تتذكر " أم السيد" فعلتها التى جاءت بها إلى هنا فى حين نسيت
" بحرية " تماما مدة عقوبتها .صرخت فيهما فايزة :نامى يانانا أنتى وهيه بدل ما أنتو قاعدين
مبحلقين كده ..تابعت هدى ما ستفسر عنه كلمات فايزة القادمة التى واصلت همسها :عرفت أن مأمور
السجن بيجهز كشف بأسماء المساجين وحيبعتهم لمصلحة السجون .ضاقت عينيها :يعنى أيه مش
فاهمة ؟ .
ــ الكالم اللى وصلنى أن فى أوامر جت لمصلحة السجون من فوق أوى عن عفو كبير عن المساجين
وهمه دلوقتى بيحضروا أسامى اللى حيفرجوا عنهم ..تسمرت حدقتيها على وجه فايزة بنظرة ذاهلة
دون أن تهتدى لجملة معبرة من بين جمل كثيرة متضاربة ،حبست أنفاسها وسكنت كما اليسكن المرء
إال حين ينام ومرت بها لحظة رهيبة رثت فيها نفسها .أحست بالدموع تتجمع فى عينيها ،فأحكمت
حجابها حول رأسها وأنسحبت للوراء مستندة إلىظهر السرير .لم تنجح محاوالتها فى أغماض جفنيها
لحبس دموعها التى أنهمرت منها حين أشاحت بنظرها فى بطء ناحية نافذة العنبر بوابة العيون التى
تربطهم بالخارج ،وضعت كفيها على فخذيها بطريقة عابرة .لم تشأ أن تغرق فى تفسير أو تحليل
كلمات فايزة بل بدأ صوتها كأنه يشق األرض ويخرج من أعماق مجهولة :ياه ..ياه يافايزة بتقولى
عفو عن المساجين ..بأصرار :أيوه ياهدى البلد فيها ثورة دلوقتى وبينى وبينك المشرحة مش ناقصة
رمم ..تابعت فى ثقة :يعنى الزم حيخرجونا وأنا كلمتى ماتنزلش األرض أبدا ..واجهت كلمات زميلتها
وعيناها ال تزاالن مصوبتان ناحية النافذة ،من يراها فى تلك الحالة يحسبها تتأمل الجزء الضيق من
9
السماء بحجم النافذة ،بينما هى فى الحقيقة تتأمل جزءا مضيئا من أيام كاملة عاشتها فى فترة شبابها ،
بينما "توحة مساج" من سريرها العلوى تتابع همسهما وقد أختبأ نصفها داخله ،فى حين أنشغلت
فايزة بأخراج سيجارة من علبتها وراحت بعفوية تعد السجاير القليلة الباقية قبل أن تشعل واحدة منها ،
نظراتها النارية ظلت مصوبه نحو" توحة " كما ظل عود الثقاب مضغوطا بين أصبعيها ،ترقبها األخيرة
بقلق ألن ما تبقى لها من سجائر ،قد ال يكفى ألمتصاص كل غضبها ،تنفث دخانها ببطء وتلذذ قبل أن
تطرده من أمامها فى تبرم وألقت ببصرها ناحية هدى التى كانت تتنهد فى أسى ،تزفر جراحها
المكتومة فى األحشاء ،تمتمت :تسع سنين هنا يافايزة وكأنهم تسعين سنة ..تنصت لها بتأثر وقد
غضت عينيها وما بين حاجبيها .
تحاول هدى أن تستعيد األحداث بتراتبها ،كما تواردت إلى ذهنها وكما تتراءى لها عن بعد ممتد إلى
اللحظة الراهنة .عادت بها الذاكرة إلى تلك األعوام البعيدة ،يالذاكرتها ،فقد كادت تغيب عنها تلك
األيام ،لم تتذكرها أبدا إال فى هذه اللحظة ،تذكرت وقائع بأكملها من حياتها ،كانت صور الوقائع
تتالحق كالشرائح .آجل ،فى ذلك المساء البعيد حين أضطربت وتحرك شيىء ما بداخلها بعد أن
أبصرت وجه " نديم " ألول مرة ،كان ذلك فى مكتب " الحاج قبارى " لألستيراد والتصدير فى منطقة
المنشية والتى تعمل فيه منذ عام تقريبا بعد تخرجها مباشرة من المعهد الفنى التجارى وبعد وساطة
" عم مرتجى " الذى يعمل بالمكتب منذ سنوات طويلة وجارعمتها التى تقيم عندها بمنطقة محرم بك
بعد وفاة والدها حين كان عمرها ال يتجاوز الثامنة بينما والدتها فقد حجبها عنها جدار أعتلى وأتسع مع
مرور األيام بعد زواجها من آخر فى أقل من عام قبل أن تتعفن جثة المرحوم وترحل معه إلى طنطا حيث
موطن الزوج وعمله بمديرية الزراعة ،حينها فضلت هدى األقامة مع عمتها التى تعيش وحيدة بعد
وفاة الزوج وعدم االنجاب .فى فترة قصيرة أنصرفت هدى بكل كيانها إلى العمل الذى أتاحه لها
" الحاج قبارى " ،وجدت فيه أشباعا وأكتماال لم تعرفهما من قبل ،فتولت معظم أعمال المكتب بعد أن
آلت لها ملكية مراجعة دفاتر الحسابات والضرائب والتنسيق مع مستخلصى الجمارك بعد رحيل األستاذ
" عبد الفتاح " مسئول الحسابات إلى العراق التى فتحت أبوابها وشبابيكها لكافة المصريين فى تلك
الفترة حتى أكتظت بغداد وما حولها بماليين المصريين و كان يقال وقتها أذا غاب المصرى عن منزله
فى مصر ألكثر من ثمانية وأربعين ساعة تجده فى العراق .
10
ــ مساء الخير ..الحاج قبارى موجود ؟ كانت تلك أول جملة نطق بها " نديم " فى أول زيارة له
لمكتب الحاج قبارى ..رفعت عينيها اليه وهى تجلس خلف مكتبها ،لم تستطع الرد وال حتى أن ترخى
جفنيها أمام نظراته ،حيث أن له نظرة قوية نافذة يحدق إلى الناس وإلى األشياء بعينين صارمتان
بلونهما العسلى لتضفى عليه شيىء من المهابة ،فكانت لنظرته وقع السحر عليها كما كانت نظرة
" عمر الشريف " لـ " فاتن حمامة " فى فيلم " نهر الحب" ناهيك عن مالمحه الدقيقة وشعره الناعم
المسحوب إلى الوراء مضيفا له قدرا من الوسامة .لملمت شتات نظراتها وتماسكت فى ردها :الحاج
قبارى فى مشوار وأدامه ساعة ..أنحنى بجزعه ودنا بوجهه..ماقالش حيرجع أمتى ؟ أبدت أستغرابا
وهـى تسند ذقنها بكفها :قلت لحضرتك كمان ساعـة ..يبحث عن امتداد للحديث :متأكده ساعة
وال أكتر ! ..أبتلعت جملته بضحكة :بصراحة مش عارفة ..سكت ولم يعقب ،زالت عنه القدرة على
األقتحام كما كان يفعل كثيرا فى كل مغامراته النسائية .
" نديم " هو سلي ل عائلة " السبروتى " نجل خليل بك السبروتى واحد من أعيان مدينة دمنهور وكان
من القالئل من بنى جيله الذى تزوج بعد تخطيه سن األربعين وذلك ألنشغاله الشديد بتجارته وزيادة
مساحة أطيانه كما أنه كان " خلبوصا " كبيرا وهو ما توارثه عنه أبنه ،كان زواجه سريعا من أبنة
عمه " نادرة " التى سبق لها الزواج من " األستاذ فاضل " المحامى الذى أشتهر فى زمام البحيرة كلها
بمرافعاته القوية النارية داخل المحاكم بينما كان فاشال فى مرافعته أمام زوجته محاوال أقناعها دون
جدوى بأنه لم يطرق بابا إالوطرقه ،توجه إلى األطباء والعطارين والدجالين ،ألتهم أجولة من األدوية
واألعشاب بخالف الوصفات البلدى وركام من المراهم والدهانات لعلى وعسى يفيق الغافل ويطوله
شيىء من القوة والشدة ..لكن هيهات .طفح بها الكيل بعد أنتظار دام أحد عشر عاما أن يخرج الحاوى
شيئا من جرابه ،حينها قالت مقولتها الشهيرة فى حضورعمتها و"األستاذ أحسان "زوج خالتها :أنا
خالص تعبت ومش قادرة أصبر أكثر من كده ..أنا نفسى فى حتة عيل .تم طالقها فى هدوء ،رشحت
لها العائلة أبن عمها " خليل السبروتى " الذى تزوجها فى حفلة عائلية محدودة ،وحين أنطلق
" نديم " من رحم أمه كان يوما أستثنائيا فى حياة والده ،فاضت منه الفرحة وربطته بالدنيا بعد أنفصال
قصرى عنها على يد ثورة يوليو قبل أن تسبقه شقيقته أيات للحياة قبل مولده بخمس سنوات .
وحين تنامى إلى سمعه أن أسمه يتردد بقوة داخل لجان التأميم والحراسة المنوط بها حصر أسماء
األعيان واألقطاعيين والرأسماليين فى مدينة دمنهور وأنه أصبح تحت العين ،فأخذته الحماسة والعزة
11
فهتف :األرض زى العرض واللى حيقرب من أرضى حاقتله..قالها فى حضور بعض العمد واألعيان
بالبحيرة أعداء ثورة ناصر ،وكان عرضه فى ذلك الزمن ثالثمائة فدان بخالف قصر فخم عند مدخل
مدينة دمنهور أضافة لشقة فاخرة بالحى الراقى بمنطقة محطة الرمل باالسكندرية وقطعة أرض تتجاوز
الستمائة متر بوسط المدينة بمنطقة الشاطبى وعقار قديم فى حى سيدى جابر .بعد أستدعاء خاطف من
اللجنة المشكلة للحصر والتأميم بالبحيرة أدرك بعدها أن الحياة لها أولويات قبل األرض والعرض .
ضاق به الحال بعد أن قص رقيب الثورة معظم أطيانه ولم يتبق له سوى أربعون فدانا بعد أستيالء
اللجنة على كل ممتلكاته بدمنهور ،فنزح بأسرته إلى األسكندرية حيث باقى ممتلكاته التى لم تصلها
يد اللجنة ،ظل " عم متولى " ناظر زراعته هو همزة الوصل بينه وبين ما تبقى من أرضه ،يديرها
ويشرف عليها بأقتدار ،فكان خراب محصول الخضار هو حصاد كل عام .
حين أنتقل الجيش المصرى بمعداته الى دولة اليمن الشقيق فى أوائل الستينيات لدعم ثوارها ضد حكم
األمام ،فى نفس العام أنتقلت " نادرة " على يد عزرائيل إلى جوار ربها تاركة خلفها أيات ونديم وزوج
محطم بفعل ثورة أطاحت بأحالمه وممتلكاته وحشرته مستجديا األمل فى أبنه الوحيد بعد أن باع كل
أرضه على يد " عم متولى " ناظر الزراعة .
كبر " نديم " وتخرج من كلية التجارة جامعة األسكندرية بعد معاناة ،توفى بعدها والده بثالث سنوات ،
فألت المسئولية كاملة له ،فأصبح مسئوال عن نفسه وعن شقيقته أيات التى كان أحتكاكها محدودا
بالمجتمع السكندرى فكانت تراقب التطور السريع لما يحدث حولها بنظرية من يأكل طعامه بالشوكة
والسكين ،أدائها فى الحركة والكالم كان مختوما بختم التحفظ والحذر ،لم تكن أيات سوى مقطوعة
موسيقية حالمة ،حصرها الزمن بين مسيو " الجارد " مدرس البيانو الذى كان حضوره منتظما
لمنزلهم ثالث مرات أسبوعيا وبين معهد " الكونسرفتوار " التى أدمنت الذهاب اليه يوميا تحلق بين
أقسامه كالفراشة بين بيانو وآالت وترية والمستحدث منها كالجيتار ،فصنعت حولها جوا رومانسيا
داخل حدود جغرافية ضيقة .
غــادر " نديم " كرسيه المحاذى لمكتب هدى وغاص فى مقعد جلدى مقابل لها :أنا حاقعـد هنا أستنى
الحاج قبارى ..أسترخى فى جلسته يتأملها دون أن ترمش له عين ،كان لها حضور مختلف عن كل ما
عرف من نساء ..وبالرغم من أفتعالها األنشغال ببعض األوراق التى تفردها وتثنيها فى أرتباك إال أن
عيناه كانت مبهورتان مما يطل من حدقتيها .
12
ــ أنا شايفك مشغولة يا أنسة ..رمته بنظرة ثم أجابت بهزة من رأسها ..قال جملته وأخذ يتلصص
بنظراته فى ساقيها الرخاميتين من تجويف مكتبها ،لمحته ،فأضطربت وقامت من مكانها ..صاح
فيها :على فين يا أنسة ؟ ..فلتت منها تنهيدة بعد أن دارت وأستقرت واقفة أمام مكتبها وقد شبكت
يديها على خصرها :ما ينفعش أقعد على مكتبى وأنت قاعد أدامى كده ..حك جبهته بأصبعه مواربا
خجله ،ضرب كفيه على فخذيه أستعدادا للنهوض :مافيش مشكلة ..أنا حأمشى وحأبقى أعدى عليه
فى وقت تانى ..صوبت نظراتها فى أتجاهه وهو يخطو ببطء أمامها بينما هى فى مكانها تحاول أن
تفلته من ذهنها ،شردت بعدها لثالث دقائق ثم تحركت راجعة لمكتبها تسأل نفسها :الراجل ده حكايته
أيه بالظبط ؟ نزعت مالمحه ونبرة صوته من رأسها حين رن جرس التليفون اللحوح :أيوه يافندم هنا
مكتب الحاج قبارى ..فى تلك اللحظة قفزت أبتسامة على وجهها تقاسمتها عينيها وشفتيها :أنت مش
لسه نازل من عندى دلوقتى مابقالكش تالت دقايق ..أل لسه ماجاش ..أغلقت السماعة بعد أن أنقطع
صوته ،لكن الزالت نبراته الرتيبة تتسلل اليها يدفعها إلى شرود مفاجىء ،تعبث بأصابعها فى بطء
بمحتويات مكتبها وهى فى حالة هيام قبل أن تنفض رأسها من غيبوبة اللحظة الرومانسية فى شهقة
عارضة حين لمحت كارت وكالة األهرام لألعالن ممددا على سطح مكتبها مدون عند أعاله مالحظة
كانت قد كتبتها باألمس بضرورة األتصال بمكتب العالقات العامة للوكالة للتأكيد على نشر برقية التهنئة
المقدمة بأسم مكتب الحاج قبارى إلى صاحب الضربة الجوية األولى بمناسبة مرور عشر سنوات على
أنتصار حرب أكتوبر .
لم تدم تكهناتها طويال عن شخصية " نديم " ،تتسلل اليها معلومات عنه من بين شفتى الحاج قبارى
حين تفحص بنظارته وهو يجلس على مكتبه كشف طلبيات أعدته له هدى عن أحتياجات بعض التجار
من االجهزة الكهربائية التى أستقدمها من إيطاليا فى آخر سفرية .تنتزع من لسانه كلمات متناثرة عن
نديم وسط جمل طويلة عن الحاج يحيى والحاج سيد تاجرى النجف :واللـه لما شفته فى المينا كان
واقف مع األستاذ فتحى المستخلص وبعدين لقيته جاى نحيتى بيعرفنى بنفسه وفهمت منه أنه بقاله
سنتين شغال أستيراد على خط إيطاليا ولقيت األستاذ فتحى بيشكرلى فيه وبيقولى أنه راجل كويس
وعايز يخليه يدخل معايا فى الشغل الجديد اللى حنتفق عليه فى ميالنو ..رفع عينيه اليها بعد أن خلع
نظارته مكمال :قلت له مايضرش ..رمقته بنظرة تمألها الرضى :مايضرش ..قالتها ساهمة .
13
تقاطيع وجهها ما زالت منقوشة فى ذهن نديم ،أخذت تكبر تدريجيا فتالشى ما عداها وظلت وحدها
تملىء شاشة ذهنه ..تردد كثيرا على مكتبها وتقرب اليها ،كان يناور بالكلمات ويختار أحسنها ،لمح
صدرها يعلو ويهبط مع ضحكات طليقة تعقيبا على تشبيه أطلقه على " الست أحالم " صاحبة كشك
جرايد أسفل المكتب بأن " وشها شبه الشبشب البالستيك " ،كانت ضحكتها تنطلق من أعماق وردية
مرحة ،شيئا فشيئا أستحوذ على أهتمامها ،راح يقتفى خطاها من بعيد .
فى ذلك المساء الشاتى وقد غادرت مكتبها كان ينتظرها ،أقترب منها بجرأة شاركها مظلتها ،تسمرت
فى مكانها مثل تمثال قبل أن تتراجع للوراء :ماينفعش كده ياأستاذ نديم ..لم يعقب كانت عيناه تتولى
الرد ،كثيرا ماكانت تحدث نفسها وفى قليل من األحوال كانت تحدث عمتها التى تصل اليها الكلمات
بصعوبة حيث أن " الطرش " الزمها منذ خمس سنوات :ماأقدرش أغمض أو أرمش بعينيه أدام
نظراته يا عمتى ..تناول من يدها مظلتها وأختبأإلى جانبها من زخات المطر ،أطل من مخبئه باحثا عن
األمان .شيىء ما ال يعيه أرتفع من بقعة مظلمة خفية فى روحه أرتعشت لها موجات فى دمه كأنها
تشق طريقها وتتراقص فى شرايينه بقعا من الضوء ،شيىء ما دفعه دون أن يدرى الى أن يمد أصبعه
ويمر به بين أصابعها ..أرسلت نعومة األصابع وطراوتها فى بدنه رعشة لذة .رائحتها تسربت الى
شرايينه وهو فى قمة األنبهار بسواد عينيها وأكتناز شفتيها قبل أن ينزلق ببصره فى منحدر العنق
الناعم مطل على واد بين هرمين صغيرين ينتفضان فى قفصهما الشفاف .
كان الحب قد أخذ يدق أوتاد مظلتها ،كانت سعادتها قد فاضت دون أرادتها فما كانت تعلم أن الحب
سيثير كل تلك السعادة .تزحزح من جوارها فى خطوة مفاجئة ليطالعها بجسده ،أصبح مواجها لها
متتبعا عينيها يرشقها بنظراته القوية العميقة الطويلة بعد أن تراخت قبضته الممسكة على المظلة لترقد
مقلوبة بجوار قدمه ،عاد الى طريقته القديمة فى جرأة األقتحام ،حاولت أن تتحاشاه وكأنه سلك
كهربائى عارى .فباغتها بسؤال مباشر :تتجوزينى ياهدى ؟ ..مبدية أقصى درجات الدهشة فى أتساع
عينيها :أنا ! ..لم يتمهل طويال :أيوه أنتى يا هدى ..أنتابها شعور من ربح مليون جنيه ..أنتظر
لحظات وهو يحاصرها بنظراته قبل أن تجيب :أنت ما تعرفش أى حاجه عنى ؟ ..أنفرج وجهه عن
أبتسامة من حصل على نتيجته عن طريق الكنترول :أنا عارف عنك كل حاجة من يوم ما أتوفى األستاذ
عبد الفتاح والدك وجواز والدتك اللى عايشة دلوقتى فى طنطا ..لغاية عمتك اللى أنتى عايشه معاها فى
محرم بك ..أستقبلت تحرياته بفم مفتوح وعين ذاهلة ،داهمتها دهشة وأستغراب كان يقطعهما رذاذ
14
المطر المتساقط على رأسيهما الذى ألصق بخديها خصال من شعرها فبدا وجهها مثيرا .أقترب أكثر :
قلتى أيه ؟ ..نظر فى وجهها فطمأنته بهزة من رأسها قبل أن تنوه :أرفع بقى الشمسية غرقنا ..
حينها تفككت مالمحه الى ابتسامات متناثرة تقاوم رشح الماء من رأسه الى صدغيه بينما اصاب الخجل
هدى فسبقته بخطوة واحدة حين لمحته يفتش فى جسمها الذى ألتصق بمالبسها بفعل المطر ..أيقن أنه
أختار مقاييس منضبطة للجمال .
00000000000
رفعت " أيات " أصابعها ببطء عن أصابع البيانو األسود العتيق حين دخل " نديم " مبتسما واضعا يديه
فى جيب بنطلونه لتقف مقطوعة " عمر خيرت " التى تلعبها بأتقان عند منتصفها ،دارت بكرسيها لفة
كاملة مولية البيانو ظهرها ،تبادل معها النظرات ،كان جادا على غير العادة قبل أن ينفرج وجهها عن
أبتسامة مندهشة :مش عوايدك يعنى يبقى شكلك جد كده ! ..سار بخطوات متمهلة متحاشيا سريرها
الضخم الممدد فى منتصف غرفتها الواسعة والذى يعلوه كشواهد القبور تلك العيون التى ترصدها دائما
وهى نائمة من داخل إطارها المعلق حيث صورة ألمها بجوار والدها بطربوشه األحمر المائل مسنودا
على أذنه اليسرى بينما مالت أمها الراحلة برأسها على صدغ المرحوم الذى كان فى حالة تخشب وكأنها
صورة فى كتاب الموتى والتى تم ألتقاطها داخل أستديو " ريو" بشارع فؤاد وصورة أخرى أليات
مرفوعة الرأس نافرة الصدر تقف داخل فستان " كاروهات " موضة " راقية أبراهيم " والى جوارها
مسيو " الجارد " بوجهه النحيف تتلبسه بدلة ظهرت فيها رأسه طافية خارج الياقة ورقبته مربوطة
بـ " ببيون " كالشراع يضبط حركتها بينما باقى جسده غارقا فيها ،يظهر بيانو فى خلفيتها والى يساره
بعض الوجوه الصغيرة بالكاد تظهر مالمحها يظللها صورة للعلم الفرنسى حيث أن الحفل مقام فى
المركز الثقافى الفرنسى تخليدا لذكرى ثورتهم ،أجادت يومها أيات فى العزف تحت أشراف " الجارد" ،
فحازت أعجاب رئيس المعهد الذى أشاد :يامدموازيل عزفك كتير هايل ولو كان البيانو فى مصر منتشر
زى العود كنتى حتبقى بيانيست هايل .
قامت " أيات " تتحرك نحو" نديم " بعد أن أستشفت من نظراته أن هناك أمر يود البوح به :فى أيه
يا نديم ؟ ..سحب كرسى قرب النافذة وأتجهت هى الى كرسيها الهزاز ،كانت خطوتها تنم عن أنها
تسكن فى جسد متعادل مفصل ووجه مستدير يحيطه شعر قصير فى قوسين ،تكسو مالمحها لمعان
الغنى ومهابة الهوانم وكأنها أميرة من زمن األمراء ..لحظة أرتباك مرت بينهما فى صمت حتى قطعها
15
قائال :أنا قررت أتجوز يا أيات ..بعد أن أحتوت دهشتها .سألت :واحدة نعرفها ؟ ..سرد قصته مع
هدى مختصرا التفاصيل وأنتظر بدوره سماع تعليقا أو تعقيبا ،لم تملك القدرة على التعليق والمجادلة ،
لم تستطع أن تقدم مالحظة أو أن تبدى رأيا ،كانت كالموصوم بفعلة .
ــ لو أنت شايف يا نديم أنها تليق بيك يبقى خالص .قالتها من باب الحرص على المشاركة ودون
أن تنظر فى عينيه ،لم يفصح لها عن تفاصيل ماينوى فعله مكتفيا بنظرة حزينة شملت خريطة
وجهها قبل أن تسحب نظراتها فى هدوء بأتجاه نافذة الغرفة ،كان عليه أن يقدم بعض النصائح قبل
خروجه :أنسى بقى يا أيات وأرجعى زى زمان أنتى مش أول وال أخر واحدة تتطلق ..تهز رأسها فى
بطء دون رد ،لم يخرج من الغرفة حتى أنحسرت مالمحها عن أبتسامة واهنة مصحوبة بما ينتظره :
مبروك يا نديم .
بقيت فى مكانها شاردة كالذى أسلم الروح ،أنتزعت نفسها من كرسيها الهزاز التى ألتصقت به منذ
ثالث ساعات من لحظة خروج أخيها من غرفتها ،أجهزت فيها على فنجانين قهوة وقرص مهدىء
تحت رعاية " نجاة الصغيرة " وهى تشدو بصوتها أغنية " نسى " ثم أربع مقطوعات موسيقية
لـ " عمر خيرت " على شريط كاسيت مدته ساعة ،قامت الى النافذة المسدودة بستارة قطيفة رمادية
طالعت بعينيها حولت نهار الغرفة إلى ليل ،سحبت نفسا طويال بعد أن ازاحت جزءا منها ،
صورة البحر الذى بدا من بعيد وكأنه أعلى من البناية ،منظر البحر دائما يخفف عنها أنقاض الكآبة
المكدسة فوق رأسها ،تتبعت بنظراتها بقية اللوحة الربانية حيث السماء تمر أمام عينيها منقوش فيها
دوائر بيضاء متداخلة تبدو مجسمة منفوشة كالقطن تتخللها خطوط باهتة البياض تسقط عند تالقى
البحر بالسماء .
نشط هذا التابلوه ذاكرتها ،فأستعادت مامرعليها من تابلوهات قاتمة األلوان .تنقاد خلف سنين لم
تستطع حتى اللحظة ابتالع تفاصيلها ،تعبر فوق جلدها قشعريرة حين أستعادت مشهد دخولها فى ذلك
اليوم إلى معهد الموسيقى " الكونسرفتوار " بخطواتها المعتادةالواثقة فى الممر المؤدى إلى قسم
البيانوعشقها األول .أضطرت أيات فى تلك الفترة أن تحافظ على أفكارها المناوئة لألنقالب المجتمعى
الحاصل وأنهيارمكانة العائالت العريقة فى القطر المصرى ،إال أنه كان محافظا على تواجده داخل
المعهد حيث شكل أبناء وأحفاد تلك العائالت األغلبية الساحقة ،الزمها أنتماء شديد للطبقة االرستقراطية
المحافظة ،كانت لها نصيحة مكررة دائما ماتقولها بحماسة منقطعة النظير تلقيها فى األذان المنصتة
16
من أفراد طبقتها ،أن يحفظوا وحدتهم وتماسكهم مذكرة بأنهم األصل وأصحاب البالد ،غير أنها رفضت
األقتران من أبناء طبقتها رافضة التنازل عن رومانسيتها الحالمة .
فى لحظة مفاجئة ومذهلة فى تاريخ ايات أندلعت شرارة الثورة األولى فى قلبها وكيانها كله فى الثامن
من مايو لعام 1974فى تمام الرابعة عصرا وذلك فى داخل قاعة البيانو بالمعهد حين مالت على أذنى
صديقتها وزميلتها األنتيم " فوقية " نجلة سفير مصر السابق فى روما .مستفسرة :مين الشاب ده
يافوقية اللى بيلعب على البيانو ..دون أكتراث :ده األستاذ شاكر مدرس البيانو الجديد اللى أتعاقد معه
المعهد والنهاردة أول يوم له ..معزوفة " إال أنت " لـ " نجاة الصغيرة " هى أول ما وصل لمسامعها
من عزف األستاذ شاكر ،فكانت كافية للفت أنتباهها قبل أن يستحوذ على نظراتها .
األستاذ " شاكر " كان وسيم يدير الحديث بلباقة وأنسياب يعجز معه أى نوع من المقاومة ..كان بالغ
الرقة .وكعادة النازحين من الطبقات الفقيرة والتى ينتمى اليها بجدارة األستاذ شاكر ،حين تتيح لهم
الظروف التواجد بين طبقة األرستقراطية المصرية يكون الطموح هو جوهر العالقة يحرسه شعار
" من جاور السعيد يسعد " ،سأل وأستفسر وفهم الكثير عن شخصيتها القوية بدءا من أنحيازها التام
إلى طبقة باتت على شفا األنقراض نهاية برومانسية تفيض منها كمد البحر .تربص بها ،أقتحم حياتها
بال دعوة ،ال تفارق عينيه ..يتابع حركاتها داخل المعهد ..كان شيىء فى عينيه أضاف عليها أرتباك
لم تفهمه ،يقتنص جائزته حين يفوز بنظرة أو أبتسامة منها ،غير أنه يعرف جيدا ما يمتلكه هو نفسه
كرجل من أمكانيات يجذب بها النساء وقد أختبر هذا كثيرا ،هى أيضا أمتلكته بقوة األنثى وبجمالها..
بالرغم من كثرة التناقضات بينهما إال أنه ذاب وتالشى بعد أن أذهلها وشدها اليها .باتت قنبلة الحب
الموقوتة على وشك األنفجار داخلها تحت وطأة كلماته ونظراته التى أستهدفت كل جزء فيها ..ثالث
شهور كاملة كانت كافية كى يفك حصاره من حولها بعد أن أيقن بوادر األستسالم ..حين أعلن بيانه
األول ليعلنها بنبرة تطفح منها مذلة الفقر والمسكنة :ممكن أيات تتنازل وتقبل أنها تتجوز من واحد
فقير ماحلتهوش أى حاجة يملكها فى الدنيا غير قلب بيحبك ..قالها وتراجع خطوتين للخلف حين أدرك
سريعا أن هناك مسافة البد من حسابها ..سكتت تنصت لصوت أنفجار قوى يأتى من أعماقها ينسف كل
ماتجذر فى كيانها ،أحست بأن جلدها يسقط منها وعقلها يعاد تدويره من جديد وأن تاريخا خلفها ينخلع
من مكانه كضرس العقل .بيانه الموجز عاد بها إلى لحظة صراع داخلى شهدت معركة قاسية بين
الثابت والمتغير ،كان ذلك حين خاطبها الزعيم الراحل " جمال عبد الناصر " وخاطب معها المصريين
17
والعالم كله بعبارات التنحى بعد هزيمة ، 67فالرجل هو عدوها األول وعدو طبقتها ،هو سارق األطيان
واألمالك تحت مسمى " التأميم " ،هو المسئول األول فى نظرها عن تسليم أمها جثة محسورة
لعزرائيل وقبل أن يدفع بوالدها الى أحضان " قهوة التجاريين " بمنطقة المنشية قعيدا ذليال بين نخبة
من أصحاب المعاشات المرضى ومجموعة الموظفين من دفعة " نكمل عشانا نوم " كانت فرحتها
طاغية فى مواجهة حزن ودموع ماليين المصريين ،وقبل أن ينهى "جمال" خطابه كانت قد أنضمت
دون أن تدرى الى حشود المصريين تبكى وتهتف ببقاء الزعيم ؟ ! أنتهت اللحظة وكان السؤال :على
ماذا فرحت وعلى من بكت؟..انتهى صراعها الداخلى امام بيان "شاكر" بالضربة القاضية بعد أن سقط
عنها زمن األسماء واأللقاب ..انتظر اجابتها على عرضه ،فما كان منها إال أن غرزت نظرتها القوية
فى عينيه قبل أن يسترخى على حدقتيها ..نطقت فى تحد ضد كل مادافعت عنه :موافقة ياشاكر.قالتها
وهى تتلفت ،ثم مالت نحوه حين أنحنى يختطف يدها يغمرها بقبالت مبتلة محمومة ،فكان الحب هو
الناطق الرسمى عن كيانه كله .
صالت وجالت وطافت معه فى شــوارع األسكنــــدرية ،ذاقت معه طعم " الصعلكة " تاهت فى أفكـــاره
وأعجبها طموحه حين حدثها عن أفكار تراوده عن التوزيع الموسيقى كما أخبرها بانه فى أنتظار القدر
أن يتيح له الفرصة لتحقيق ذلك .أرادت يومها أن تتخذ خطوة مهمة .
دعكت أيات عينيها بتوتر وهى منزوية فى ركن الصالة فى انتظار عودة شقيقها من الخارج بعد أن
قررت مفاتحته فى حكايتها مع "شاكر" .تنازعتها التخمينات حول ردوده المتوقعة قبل ان تداهمها
حوارات سابقة دارت بينهما ،دائما ماكان يحاول استدراجها الى واقع الحياة ،لم تنس نبرته المستجدية
حين حدثها :يا أيات يا حبيبتى الزم تفهمى أن الدنيا دلوقتى أتغيرت وماعدش ينفع تقضى كل أيامك بين
البيانو والمعهد ..الدنيا فيها حاجات أهم ..إال أن ما يحصل عليه دائما كانت أجابات غير مقنعة :أنا
أختك الكبيرة يا نديم وعارفة مصلحتى كويس ..ياريت تفهم أن المشكلة فيك أنت وفى تصرفاتك اللى
خلتك تنسى أصلك وتنسى أنت مين وأبن مين وكفايه عليك سرمحتك ليل ونهار ..أرتفع صوتها قبل أن
تسحبه من معصمه باتجاه المرآة :قوم شوف شكلك بقى عامل أزاى شعرك مغطى ودانك وقميص
مشجر مفتوح منه زرارين وبنطلون شارلستون ..فى ملل سحب نفسا طويال ،بدا األمر مرهقا له بعد
أن مل نمطها :ياأيات أنا بحب حياتى كده وعايش جوه الزمن بأخد وأدى مع الدنيا ..قالها بعد أن أفلت
معصمه من يدها ثم أستدار ليواجهها :مش الزم أتجمد فى الماضى وأبقى عبد لذكرياته وأفضل عايش
18
فيها ليل ونهار واللى أصال مافيش حد فاكر منها حاجة ..عال صوتها صوته :ما فيش حاجة بتتنسى ده
ماضينا وتاريخنا هو ده أصلنا والناس كلها عارفة يعنى أيه عائالت كبيرة ومحترمة ..سبقته ضحكة
ساخرة كانت المرارة عنوانها :يا أيات مافيش حد فاكر حاجة من العائالت دى ويادوب اللى فاضل مننا
أسامى وشوية صور مركونة على الحيطان مالها التراب ..ياريت تفوقى وتشوفى أحنا عايشين فين ..
أحنا ياحبيبتى دلوقتى فى زمن تانى والناس بقت غير الناس والشعار اللى مرفوع اليومين دول فتح
عينك تأكل ملبن ..السادات عمل أنفتاح والمليونيرات اللى موجودين دلوقتى كانوا سباكين وحدادين
وسوابق همه دول اللى بقوا أسياد البلد ..مسح بيده كتفها ثم أردف :بابا اللــه يرحمه هو اللى علمنا
وفهمنا أزاى نحافظ على عاداتنا وعلى أسم عيلتنا و فى آخر سنتين قبل مايموت سلم أمره للزمن وغير
حياته عشان يقدر يعيش ..فيه حد يصدق أن بابا اللـه يرحمه " خليل بك السبروتى " يقعد فى قهوة
درجة تانية وكمان يبقى له فيها صحاب ..فتحت شفتيها عن تنهيدة أسى :عشان كده ما أتحملش
ومات من القهرة ..لوت رقبتها بأتجاه صورته وقد سقط على رأسها آخر مشهد له فى الحياة حين عاد
من سهرته المعتادة فى قهوة التجاريين بعد أن أرهقه حديث طويل جادل فيه بقوة األستاذ " فتحى"
واألسطى " عثمان " وعم " فرحات " عن فائدة شرب الينسون صباحا فى حين أعترض أصدقاءه
بقوة وأكدوا أن فائدته تكون مساءا ،جلس وحيدا فى غرفته بعد أن أستخرج ألبوم صوره العتيق من
مقبرته فى درج خزانته ،قلب فيه ببطء يقرأ وجوها أختفت عن الوجود وكانت طعاما لدود األرض ،
توالت منه ضحكات متدرجة حتى دمعت عيناه حين ثبت حدقتيه فى وجه " متولى " ناظر زراعته الذى
أنحنى على يده يقبلها وهو واقف كاألسد وسط أرضه الممتدة أمام عينيه يتابع حصاد محصول
" البسلة " داهمته كل الذكريات ،وفى لحظة مباغتة تالشت كل الصور تباعا لتحل مكانها صورة واحدة
كبيرة تجسدت فى فراغ الغرفة لم يستطع جمع تفاصيلها قبل أن يدوى فى أذنه ذلك النداء األخير ..
أستدعاء فورى على يد عزرائيل ،فأسلم الروح فى هدوء تاركا وجه " متولى " مكفيا على يده .بعد
وفاة األب سقطت المسئولية كاملة على رأس " نديم " ،وأصبح مسئوال عن نفسه وعن شقيقته ،
كانت مسئولية ثقيلة لم يعتادها بعد أن أنطوى لفترة على نفسه قبل أن يستمتع بغرائزه وفتوته وشبابه
مكتفيا بما يتحصل عليه من ايجار شهرى عن عمارة سيدى جابر قبل أن يتم بيعها لمواجهة النفقات .
تتداعى فى رأسه التصورات حول قطعة األرض الفضاء ،كان ألحاح " عم سيد" سمسار منطقة
الشاطبى مربكا حين قدم له عروضا مغرية من شركات مقاوالت وأفراد لشراء األرض أو حتى بالحد
األدنى فى شراكة لبناءها والتى تنبأ مساحتها عن أنها كافية النجاب برجين كاملين ،اال أنه كان دائم
19
التراجع ويعاود التفكير مرات ومرات خصوصا وأن أخته دائما ما تكون على الحياد ال تبدى رأيا وال
حكما إال ما تنطق به من عبارات تحذيرية :خلى بالك يا نديم وراجع نفسك قبل ما تأخد قرار فى أرض
الشاطبى عشان دى الحاجة الوحيدة اللى بقت فاضلة لينا ..قالتها وربتت على كتفه قبل أن تنثر عليه
بعض الكلمات المشجعة :وأنا متأكدة أنك حتفكر صح وحتأخذ القرار السليم ..كان يدرك مخاوفها من
المجهول أو من أى " لطشة " تؤدى الى اتخاذ قرار قد يهدر ما تبقى من ثروة فتهوى بهما الى هاوية
فقر سحيقة .
يتجه " نديم " الى بنايته عقب لقاء طويل جمعه بثالثة أداريين موفدين من أدارة السيرك القومى فى
القاهرة الستطالع رأيه حول موافقته على تأجير األرض لمدة ثالث سنوات القامة عروض صيفية
للسيرك ،كان البد له من قرار حاسم أما البيع أو المشاركة أو التأجير .تاه فى الوصول الى أختيار
محدد ،فما كان منه كالعادة إال أن يلجأ للمشورة ،فأنتفض يجهز ألجتماع طارىء ألهل مشورته الذى
يثق فى صحبتهم وهما " نوح" البواب والخواجة " كرم سباستيان " جاره الذى يسكن الطابق الرابع .
أخترق نديم شارعا صغيرا عند ناصية القنصلية االيطالية لتطالع عينيه ظل بنايته ذات الطراز األيطالى
القديم بنوافذها الطويلة وشرفاتها المستطيلة التى ترتكز أسوارها على أعمدة حجرية دائرية ،تسارعت
خطواته بأتجاه المدخل الذى يجمله بوابة على شكل قبة هائلة تنام على أعمدة تشبه أعمدة المعابد
يتوسطها باب حديدى ضخم مزخرفا عليه أشكال زهرة اللوتس وأرضية من رخام الكرارة األبيض عند
نهايتها ستة درجات رخامية المعة وقف عند أخرها عم " نوح " منتصبا بقامته الطويلة بالرغم من كبر
سنه اال أنه كان مستقيم الظهر من غير أنحناء بينما تداخل األلوان فى مالمحه يميزه ،بشرة سوداء
حيث أنه من أنتاج الجنوب وشعر أبيض كثيف يتوج رأسه وعينان ضيقتان يميل بياضهما إلى الحمرة
داخل خضم السواد وتحمل شفته الزرقاء شارب أبيض ،للوهلة األولى تدرك من هيئته وكأنه من
زعماء أفريقيا أبان فترة التحرر .
أصطحب " نديم " عم " نوح " فاردا ذراعه حول كتفه ناحية المصعد ،حاول نوح الشهير بحكيم
العمارة كما لقبه الخواجة كرم أستدراجه كى يفهم سببا لالجتماع الطارىء :وقعت نفسك فى مشكلة
وال حاجة .تساءل نوح ..أبتسامة خفيفة قبل أن تصعد عينيه إلى سقف المصعد :أبدا ياعم نوح ده
أجتماع للمشورة بس .
20
ــ اللــه المستعان يابنى ..كانا قد وصال الى الطابق الرابع واألخير ،أبطأ أمام شقة الخواجة قبل أن
يغرز نوح أصبعه فى جرس الباب ،ثم نظر فى ساعته أعقبها بألتفاتة إلى نديم :تالقى الخواجة دلوقتى
مشغل مزيكة وتايه فى ملكوته ..بينما كانت خطوته من الداخل تقترب من باب الشقة حتى بلغه ،
ليطالعهما الخواجة متصدرا الباب وقد أختلج وراء النظارة جفناه ووجهه المنتفخ وقد زينته لحية
كالقطن بياضا وقامة متوسطة تحمل جسد ممتلىء خاصة عند البطن ،الشقة سابحة فى نهار نفذ إليها
من كل ركن .تجاوز " نوح " الباب ومن خلفه نديم الذى لم يسلم من نظرات الخواجة فى محاولة
منه لقراءة سببا للزيارة المفاجئة :زيارتك فى الوقت ده بتقول أن فى حاجه مهمه ..لم يتلق ردا
وواصل نديم تقدمه منفردا إلى غرفة األستقبـــال بعد أن أنحرف نوح بأتجاه المطبخ بموجب أشارة من
الخواجة :أعملنا قهوة يانوح ..غرفة أستقبال هادئة شحيحة األثاث إال من صالون جلدى تناثر فى
أركانها وأن كانت الشقة فى معظمها على نفس الحال فهو عاشق للبراح ،تطل كل نوافذها على
كورنيش األسكندرية ،أنكمش نديم داخل الكرسى الجلدى فى مواجهة لوحة تتصدر الحائط رسمت
بألوان زاهية لساحة عتيقة فى أثبنا تشبه ساحات القصور الملكية المزروعة بالخضرة وبالتماثيل بينما
تدور فى أذنيه موسيقى يونانية ذات نمط واحد أولها كأخرها تخرج من كاسيت أعياه الزمن وبجواره
تكدست مجموعة من الكتب بعناوين أنجليزية وآخرى يونانية ينحشر بينهما ثالثية نجيب محفوظ .
الدكتور " كرم أندرياس سباستيان " هو نفسه الخواجة " كرم " مصرى بالفطرة حتى النخاع برغم
أنتمائه ألبوين من أصل يونانى ،تربى مع شقيقته " ألفى " التى تسبقه بعامين ،فهو من مواليد حقبة
األربعينيات بحى العطارين حين كان األجانب لهم بصمات محفورة فى كل مدن مصر وخاصة فى
االسكندرية ،كان من المستحيل هناأن تعبر طريقا أو ميدان دون أن تنظر فى مالمح أجنبى أو دون أن
تسمع لغة أجنبية .كانت األسكندرية تبدو وكأنها تنتمى الى ما وراء البحر أكثر مما تتنتمى الى ماوراء
النهر .قبل أن يترك والده " أندرياس " محل بقالته الصغير بحى العطاريين وينتقل الى منطقة المنشية
حيث أنشأ مصنعا للبسطرمة ذاع صيته فى غضون سنوات قليلة وتربع على عرش " البسطرمة "
منفردا ،كان ساعده األيمن فى كل نجاحاته من بداياته المتواضعة إلى أن أصبح رجل صناعة ملء
السمع والبصر وهو العامل السكندرى " كرم حجازى " كان يحترم فيه أمانته وأخالصه ،فكان الخواجة
جريئا ولم يتردد حين أطلق أسم " كرم " على مولوده الثانى مما سبب له حرج وأستهجان معظم
الجالية اليونانية باالسكندرية ،أنتقل الخواجة وأسرته إلى تلك البناية بمحطة الرمل فى أواخر
األربعينيات ..مع أنتهاء تلك الحقبه حتى شاعت سنوات الهياج واألنفعال مصاحبة لثورة يوليو 52التى
21
راحت تضرب بكل أدواتها ممتلكات األجانب ،فكان الخواجة " أندرياس " هدفا ثابتا ال ينقلب وال يتبدل
بعد أن فطنوا لمصنع البسطرمة والمخازن التابعة له فتم تأميمها ،حينها أدرك " كرم " أن للحياة
وجوها آخرى .لم يتساءل وقتها لكنه تساءل فيما بعد ،أدرك " أندرياس" بأن أى تردد فى العودة إلى
اليونان سيكونون عرضة لما هو أسوأ ..سافروا ،مضوا دون أمتعتهم فقط ما خف حمله مما تتسع له
حقيبة اليد .تركوا كل شيىء بأستثناء هذه الشقة فى تلك البناية .كان الرحيل القصرى يضفى على
" كرم " مرارة مشوبة بأفتقاد شيىء جميل عاشه والفه وشيىء غامض مرتقب يحاول عبثا أن يصنع
به رسما لما ستكون عليه حياته .غاب " كرم " سنوات أختفى فيها فى اليونان ،لكنه لم ينقطع عن
زيارة األسكندرية ،بعد وفاة والديه تخرج طبيبا فاشال من جامعة أثينا فعوض فشله فى مجال الطب
بفشل جديد فى مجال األدوية أخذت من عمره عدد من السنين بينما كان " نوح " فى فترة غيابه سفيرا
مفوضا لدى " كرم " على األرض السكندرية ،كان يباشر رعاية الشقة من تنظيف وتهوية وسداد
أيجار ،فكان بحق مخلصا وأمينا فأستحق عن جدارة لقب الصديق الحميم للخواجة وأصبح األنسجام
والتناغم هو شعار تلك الصداقة بالرغم من تلك األختالفات الجوهرية الصارخة ،لكن تميز شخصية
نوح وتفرده بخصوصية دون سواه من مجتمع البوابين السابقين والالحقين فيما يملكه من حكمة
وخبرة طويلة فى كافة األمور الحياتية بجانب تبحره فى األمور السياسية ،ودائما ما يذهب بتحليالت
موفقة فى أى دائرة حوار مهما كان شأن المتحاورين فيها فضال عن ذاكرة فوالذية ال تصدأ تسعفه فى
حاالت المقارنة بين حكام مصر وحتى اللحظة ،و كما ورث الخواجة عن أبوه الكثير من المالمح غير
أنه ورث أيضا "جين" خفى عن أبوه لم يتم تحديد مكان وجوده فى جسديهما ،فالخواجة الكبير أحترم
وأحب عامال فى حين وثق أبنه وصادق بوابا ! صيد السمك كانت والزالت هوايتهما المفضلة ،
يمارسانها أسبوعيا على شاطىء جليم .
بعد أن أتم مهمته فى أعداد ثالث فناجين قهوة خرج نوح من المطبخ بأتجاه غرفة األستقبال محتضنا
الصينية بعدما أزاح الستارة الفاصلة بين الممر والصالة برأسه قبل أن يتخلص منها على المنضدة ثم
أراح مؤخرته الى جوار الخواجة ثم أصدر تنبيها :المظبوطة دى بتاعة الخواجة والسكر زيادة بتاعة
نديم بيه ..سحب فنجانه معرفا بنفسه :ودى بتاعة الراجل األسود الغلبان ..أعاد نديم على أذان
الخواجة نفس السؤال الذى قطع اجابته دخول نوح :أنا دلوقتى حيبقى اختيارى أيه أبيع وال أجر
وال أشارك ؟ ! ..ربت على كرشه كعادته يستدعى حكمة وخبرة حان وقتها :طب أنت ميال أليه يانديم:
22
ــ هو أنا لو قادر أحدد كنت طلبت رأيكم ..رشفة طويلة من فنجاله وكعادته عندما يبدى رأيا يطرح
سلبياته وايجابياته فى بانوراما متكاملة أفضى بعدها نوح :أنا شايف أن األصلح واألضمن هو تأجير
األرض لبتوع السيرك وأنت بتقول أنهم حيدوك أيجار سنة مقدم ومتهيالى ده حيساعدك فى موضوع
تجارتك .رفع نديم حاجبيه متقبال رأى األخير متعجال فى سماع تعقيب الخواجة الذى رجع بظهره الى
الوراء تاركا " كرشه " يرتج أمامه :أنا متفق مع نوح عشان األستفادة حتكون من كل النواحى
حتضمن أيجار محترم لألرض وكمان سعر األرض حيزيد كل يوم ..تبخرت الحيرة عن رأس نديم
بعد ان كان لرأيهما صدى كبير داخله فى حين ضاقت عينى نوح فى أنتظار سماع قرار نديم الذى
خرجت نبرته كمن وجد الماء فى الصحراء :كالم معقول وتمام .قالها وقد أنفرجت شفتيه عن أبتسامة
عثر عليها أخيرا قابلها الخواجة بمالمح الرضا ،ثم نهض بعدها من مكانه حيث ألحت على رأسه
موسيقى المكان بأن يخطف األقتراح ويرحل تاركا الخواجة ونوح يحلالن خطاب السيد الرئيس المؤمن
محمد أنورالسادات فى أصراره على الذهاب ألى مكان فى العالم لتحقيق السالم حتى ولو جلس مع
الشيطان نفسه فى عقر داره .
أصبح " نديم " بارعا فى أستثمار قطعة األرض بعد نصيحة الحكيم " نوح " ورأى الخواجة ،أتم
التعاقد مع أدارة السيرك ولكنه فسخه بعد عام بعد أن دفع الشرط الجزائى فى سبيل أنجاز تعاقد جديد مع
مجموعة من الشركات الصناعية والزراعية والغذائية لعرض منتجاتها فى مساحة األرض كلها بعدما تم
تقسيمها لمربعات يتم تأجيرها حسب ما تطلبه كل شركة من مساحة ،جنى أرباحا كبيرة كما عزز
عالقاته بشخصيات مهمة سكندرية مما أغراه بالزحف مع الزاحفين بأتجاه األنفتاح األقتصادى ،بدأ
صغيرا وسافر كثيرا يستجلب بضائع من هنا وهناك .شهور قليلة كانت كافية ليزيد من حجم ونوعية
بضاعته المستوردة ،أزكاه أسم عائلته ووسامته ولباقته فكسب المزيد والمزيد .
على غير العادة جلست أيات ككومة داخل كرسيها جامدة فى مكانها اليتحرك منها إال رأسها كبندول
ساعة نافية كل أجتهاد خرج على لسان نديم الذى راح يتلوعليها أسماء من يعرفهم .أردف يخمن :
شوكت أبن األستاذ وهبى ..طب صبرى ابن جليله هانم ..يبقى األستاذ سيف اللى شغال فى الخارجية .
رمته بنظرة أقنعته بأن الزوج المنتظر ليس من بين تلك األسماء ،نطقت بكلمات مقتضبة توضيحية:
هو أنسان فقير مايملكش أى حاجة وال من عيله معروفة وال فى منصب مهم ..قالت ذلك دون أن ترفع
عينيها .ألتحقت به صدمة تمددت على أثرها كل مالمحه فى ذهول قبل أن يتماسك ويطرق أسماعها
23
بكلماته محاوال أسترجـاع ما تبقى لها من ذاكرة :أيه اللى بتقوليه ده يا أيات أنا مش مصدق نفسى ،
فين كالمك عن النسب والعائالت الكبيرة وأننا الزم نحافظ على أسم عيلتنا ..مش قادر أفهمك ..تحرك
يدور حولها وكأنه يكتشفها من جديد .بنبرة أزدادت حدتها :مش أنتى اللى قلتى أن الزم العائالت
الكبيرة تحط أيدها فى أيد بعض عشان يحافظوا على اللى باقى منهم ومش أنتى دايما اللى كنتى بتأنبينى
وتتريقى على لما كنت أصاحب وال أتعرف على حد مش من طبقتنا أو أقل مننا مش ده كالمك يا أيات ..
قالها كمن يتخلص من أرث غير محتمل .أردف :أنا عمرى ما حأغير رأى وال حأتراجع عـن أى مبدأ
أتربيت عليه ..مش ده كان كالمـك ياأيات .بحثت عن حبل من أحبالها الصوتيةيصلح للدفاع عن
موقفها :مين قالك أنى حأتنازل عن مبادئى ..الحكاية كلها أنى حأتنازل عن مسألة هو أبن مين وعنده
أيه قصاد أنه بيحبنى ورومنسى ده غير أنه كمان بيعشق البيانو والموسيقى أكتر منى ..يعنى حاجة
قصاد حاجة .قامت حين دبت فيها حماسة مفاجئة وتوارت داخلها حالة الضعف لتحل مكانها نظرية
جديدة الزالت فى بداية التكوين تعلن عنها :هو فعال شاكر من طبقة غير طبقتنا ومن بيئة مختلفة عننا
لكن تكوينه وتفكيره زينا بالظبط .شردت للحظات ثم عادت :هو جنتلمان جدا وفاهم كويس فى األصول
وراقى أوى فى تعامالته ..أستشعر " نديم " الهيام فى كالمها فسحب نفسا عميقا :ع العموم أنا مش
جاقولك رأيى دلوقتى الزم أسأل عليه األول ..أستدار خارجا من الغرفة بعد أن ربت على كتفها محذرا :
راجعى نفسك تانى يا أيات ..نكست رأسها ثم رفعتها فى قناعة :راجعت وفكرت ..حين بلغ باب
الغرفة ألتفت إليها بأبتسامة عارضة :أنا حطيت لك النهاردة ألفين جنيه فى حسابك نصيبك عن التالت
شهور اللى فاتوا .
أنطلقت " أيات " دون خبرة أو تجربة يجرفها شالل هادر من الحب يجمعها بـ "شاكر" وحدثته
بلهفة عن ترتيبات وخطوات مالية ستقدمها ألتمام الزواج فى فترة وجيزة .حاولت أن تقيم له معبرا
للمستقبل ،وكان لها ما أرادت ،تزوجت سريعا بالرغم من قلق نديم وأعتراضه ،أنفقت كل ماتملكه
مما تحصلت عليه من نصيبها فى تجارة أخيها ،وفرت سكن الئق فى منطقة " أستانلى " مع أثاث فاخر
يليق ..أرتاح فى حضنها وأستبدلت به كل شيىء كانت حورية غضة لها خبرة المتمرسات رغم أنه كان
أول من يطأها ،تركت كل شيىء خلفها حتى الخروج على هيبتها وطبقتها ،لم يعد يشغلها ذلك ،
ما يشغلها هو أن تحافظ على معشوقها .
24
" شاكر" لم يقنع بما آل إليه حاله من راحة فى العيش ،بل راح طموحه ينمو ويكبر فتفرغ لموسيقاه
وأجتهد وطور من أداءه فأنجز خطوات مهمة فى التأليف الموسيقى جعلته واحدا من أشهر
ملحنى األسكندرية غير أن أيات سبقته بخطوة متقدمة كعادتها معه حين فاتحت صديقتها الحميمة
" سناء الدمرانى " حفيدة الدمرانى باشا وزوجة الدبلوماسى " عبد الجليل نور الدين" والتى تعمل
حاليا بمبنى األذاعة والتليفزيون عندما ألحت عليها فى مساعدة زوجها بما تملكه من عالقات فى الوسط
الفنى بحكم الوظيفة لعلى الفرصة تساعده فى الخروج من المحلية السكندريـة إلى القاهــرية األوسع
واألرحب ،لم تبخل " سناء " فى دعم شاكر ودفعت به الى الوسط الغنائى يعرض ألحانه التى نالت
أعجاب شريحة كبيرة منهم ،لم تفارقه " أيات " فى رحلته القاهرية الصعبة كانت كظله تسنده وتدفعه
إلى األمام وراحت تحصى نجاحاته المتوالية السريعة قبل أن يطلب منها العودة إلى األسكندرية كى
يتمكن من تجهيز شقة مناسبة بالقاهرة بدال من المفروش المؤقت بمنطقة الدقى ،أخبرها بذلك فى أطار
كلمات مؤثرة :أنا مش عايز أتعبك أكتر من كده أرجعى لبيتنا فى أسكندرية لغاية ما ربنا يفرجها وأجهز
شقة تليق بينا .
مر صيف وخريف وشتاء ولم يأت الفرج مكتفيا بزيارات خاطفة متقطعة من باب الواجب يتخللها بعض
األتصاالت التليفونية كدواء مسكن .طال األنتظار وطالت األيام قبل أن يطالعها وجه كئيب المالمح برتبة
" صول " تابع لقسم شرطة سيدى جابر يسلمها ورقة طالق رسمية ثم أتبعها برسالة دامعة بعد يومين
تحمل كلمات شكر وتقدير عن المرحلة الماضية مع بعض الجمل " الفيشنك " من طراز الظروف
أتغيرت وفى أمور كتيرة أستجدت ،كان بالــغ الرقة واألنسانية كعشماوى حين يخاطب ضحيته بهدوء
قبل لحظة التنفيذ " نفسك فى حاجة قبل ما تموت " حين تمنى لها التوفيق وحياة أفضل وأوقات
سعيدة ..تركها وحدها تتجرع مرارة الفشل كما لم يتجرعه أحد من قبل ..شعرت بشيىء بـداخلها بدأ
يهوى إلى القاع .أيقنت بعد فترة من الذهول أن رحلة زواجها القصيرة كانت مرتجلة ال أفق لها ،
عادت كما كانت الى بيت محطة الرمل تحمل لقب مطلقة بعد أن باعت شقة الزوجية بما فيها األثاث
وكل كبيرة وصغيرة ،أرادت أن تقتل تلك المرحلة من دون ذكرى ،سكنت غرفتها بعد طالقها أختيارا
وكرها لعلها تصلح لتسوية العالقة النفسية داخلها بعد أن مألها خوف وظالمية مرعبة ،سترت عرى
جسدها فى غرفتها لم يعد لها أحد تستطيع أن تعرى أمامه فشلها أو حاجاتها وكأن الجنس فى حياتها
والرجال ذكرى قديمة ،أغلقت كل األبواب والنوافذ .عادت عذراء .
25
000000000000000
كانا نديم وهدى وسط دائرة من المحتفلين أمام مدخل كازينو " الشاطبى" يتلقيان التهانى والتبريكات
بزواج سعيد بعد أنتهاء مراسم ليلة العمر التى أحيتها بأقتدار مطربة أسكندرية األولى " بدرية السيد"
بصحبة الفنانة " سماح " ومطربها األول " عزت عوض اللـه " ،تحرك الموكب يغص باألهل
واألصدقاء بأتجاه سيارة "نديم" البيجو 504لتقلهما الى عش الزوجية ،بينما الحاج قبارى ولفيف
من تجاراألنفتاح فى وداع العروسين عند باب السيارة ..أرسلت هدى أبتسامة تشمل جميع المودعين
قبل أن تعانق أمها بفتور والتى جاءت خصيصا من طنطا لحضور المناسبة ،عند باب السيارة وقبل
دخولها أدلت بتوصية أخيرة همست بها لـ " عم مرتجى" :خد عمتى فى أيدك وما تسيبهاش اال وهيه
فى شقتها .
خطوة مرتبكة داست بها هدى مدخل البناية الضخم حين أجتازته بصحبة زوجها قبل أن تتماسك على
أثر زغرودة مجلجلة جرحت وقار البناية وهيبتها كان مصدرها حنجرة " أم نور" زوجة " نوح"
البواب ،أمراة قصيرة سمارها داكن خربة الفم إال من نابين فى الفك العلوى ظهرا حين أبتسمت وهى
تفتح لهما باب المصعد .حاولت " أيات" مع قدوم هدى أن تكون مجاملة ومرنة ورغم ودها الظاهر
إال أن شيئا مخيفا كان يتسرب منها إلى من تحادثه ،ربما تجربتها الفاشلة أوحت لها بذلك التوجس
وربما كلماتها الرتيبة وصوتها الحزين أخرجاها من دائرة األعتيادية إلى دائرة األرتياب ،حقيقتها
تبدو دائما لهدى غامضة ومستحيلة ورغم ادراكها بأنها فارغة ال رأى عندها وال حكمة وتعلم تماما
كم هى مسكينة وتشعر بها حاضرة غائبة مسجونة فى غرفتها التى أبتلعتها مكتفية بما حولها من
ممتلكاتها األنسانية ..بيانو وكتب وأسطوانات قديمة وشرائط كاسيت باألضافة إلى ظلها الذى يرافقها
فى كل مكان ..خادمتها نعمة التى ال تفارقها إال عند النوم .
مرت الحياة بهدى خفيفة طرية ،رقة نديم المفرطة كبلتها تماما وباتت تتمنى رضاه عنها ،كانت تعرف
كيف تتقدم وكيف تتأخر ،كيف تظهر فى يومه وكيف تختفى ،يحسدها على وجودها المكتمل الذى
رضى بها ورضيت به ،تعامل معها بحس الزوج الناضج وصاحب التجارب يحترم شطحاتها فى بعض
األحيان وال يكاد يعاندها إال على سبيل الممازحة والتغيير ،غير أن ألتصاقه الوطيد بالعائالت العريقة
حسب نشأته ومراعاته المجامالت العائلية جعاله يضعها فى قرارة نفسه فى رتبة ناقصة لم يكشف لها
عنها أبدا .تبلورت شخصية هدى القوية فى أمساكها بكل خيوط تجارته وأعماله ..وثق فى أفكارها
26
فخططت له سيناريو معظم صفقاته الناجحة مدعومة بخبرتها السابقة بمكتب " الحاج قبارى " ،كان
يحس فيها بالذكاء وحسن التوقع ،فأمن بها وأقتنع بأال يأخذ قرارا منفردا دون الرجوع إليها .
مرت الشهور فى سرعة فاذا معهما مخلوق ثالث صغير يحبو ويلهو ويضحك فتتسع دائرة السعادة ،ثم
ثان وثالث وجماعة أنسانية حقيقية فى المنزل ،أنها أسرة نديم وهدى وأبناءهما الثالث نورا ويوسف
وبسمة .
فى معظم أوقات النهار يتحول المنزل إلى فوضى وهياج بفعل يوسف وبسمة فى حين تحولت نورا إلى
مشاكسة أبيها بطريقتها المفضلة عندما تلف جسمها فى حركة دائرية سريعة قاصدة صفعه بضفيرتيها
الطويلتين التى أشرفت عليهما " نعمة " فما كان منه إال أن يضمها إلى صدره بقوة حتى تضحك وتبكى
بينما " يوسف " يسير متخبطا ومترنحا كسكير السيما فمازال يستكشف خطواته األولى يتلمس الجدران
حتى يصل بعد عناء إلى باب غرفة عمته التى تنهض من جمودها بعدما تستقبل أذنيها خربشة أصابعه ،
تفتح فرجة صغيرة ..تأملته بعد أن تفككت مالمحها لتسفر عن أبتسامة واهنة حين جثمت على ركبتيها
لتحازيه ،تتسع عينيها لتحتوى مالمحه :أنت شبه نديم الخالق الناطق بس الفرق الوحيد أنك من غير
شنب ..كان مزاجها يسمح بذلك التعليق ،جذبته وأحتوته فى حضنها فبدا له بطنها الساخن وصدرها
النافر كأنهما وسادة حشيت قطنا ،دائما ما يشعر بالراحة نحوها .كانت أيات بالنسبة ألبناء أخيها
صاحبة عينين يختلط فيهما الهدوء بالصرامة بخشونها وال يجرؤن على أساءة معاملتها بل يخفضون
أصواتهم إذا أقتربوا من غرفتها يتحفظون فى البكاء أو التعلق بها حين تستعد خارجة للقيام برحلتها
المعتادة والمحدد لها يوم الخميس من كل أسبوع حيث تنطلق من كورنيش محطة الرمل سيرا حتى
تستقر بوجهها الحزين أمام شاطىء سان أستفانو تنفث خاللها ما فى داخلها من دخان الذكريات تناجى
البحر وتشكو له ظلم البشر لعلها تجد بين أمواجه أجابة شافية تقطع بها األسئلة التى تنمو داخلها
كنبات اللبالب يرسم بأوراقه المتداخلة سؤاال كبيرا :هل تستحق من هذه الحياة تلك النهاية ؟ ..
شاركت " هدى " زوجها فى كل تفصيلة تخص حياتهما حتى أنها تدخلت فى أفكاره ..ناقشت وأقتنعت
وعارضت .إال إنها لم تأت مطلقا على ذكر قطعة األرض منتظرة حضورها على لسانه ،كانت
على يقين بأن هناك فكرة تشع فى ذهنه ال تفارق تفكيره مع كل كلمة يقولها عن المستقبل حين أردف
بنبرات متقطعة الهثة بعد انجازه بحرفية تمرين الضغط الليلى التى أستقبلت فيه زوجته كل ضغطة
بتأوه ولحمها األسفنجى تحته يمتص كل ثقله فى لياقة وليونة " :فللينى " صاحب مصنع النجف
27
واألستراس اللى فى نابولى عرض على أشترى كل أنتاجه لمدة تالت سنين وحيدينى خصم حوالى
عشرين فى الميه ..تباطأت أصابعها التى تعبث فى شعر صدره قبل أن تزحف بجسدها مستندة الى ظهر
السرير :هو عرض ممتاز والسوق محتاجه ومكسبه تقريبا مضمون وماحدش حيقدر ينافسك ..قالت
جملتها وأعتدلت جالسة بعد أن أرتدت الروب طوت فيه نهديها بينما حاجبيها على حالهما مرفوعين
تترقب الجملة المنتظرة منه التى باتت على حافة لسانه وستنزلق المحالة ليفرد لها حيزا فضفاضا من
الوقت والحديث ،فأحست فى داخلها بقوة وجرأة تدفعها لفك عقدة لسانه ،حثته على أستجالء فكرة
تجاهل الحديث عنها ،وبدون مقدمات وجدت نفسها تصارحه :الخطوة دى يا نديم حتحتاج لراس مال
كبير قوى وكل ما تكون السيولة تحت أيدك حتعرف تاخد اللى أنت عايزه ولوفتشت فى أيطاليا كويس
حتالقى عروض أحسن من عرض فللينى بس المهم أن فلوسك تكون حاضرة ..الفرصة لما بتيجى
ما بتستناش كتير ..أهتزت سيجارته المعلقة بين شفتيه قبل أن تشعلها له :والحل أيه ؟ بعد أن تحاشت
خيط الدخان المنبعث من فمه .أقتربت منه :نبيع حتة األرض وساعتها حيكون رأس مالك كبير
ومحترم ..تأمل وجهها كأنه يحاول قراءة ما يموج فى خاطرها وبينما الح فى وجهه تجهم جعلها على
وشك األقتناع بأنها فاهت بشيىء محرم .تنهد كثيرا ،طال صمته ممزوجا بحيرة حين جلس عند حافة
السرير منحنى الرأس مشتت الذهن ،حاول أن يوفر لنفسه فسحة من الوقت لترتيب أفكاره ،لكنه لم
يحظ بفرصة التفكير حين شدت هدى جسمها فى حماسة وبحركة أكروباتية كانت على األرض جاثمة
على ركبتيها بين ساقيه تتحدث بلهفة عن فكرتها التى أستفاضت فيها فى محاولة ألقناعه وهو منصت
كالمذهول يتابع تحليلها المنطقى عن جدوى بيع األرض والنقلة النوعية التى تنتظره ..رحل ببصره
نحو نافذة غرفة النوم شاردا يتخيل أنطالقته الكبرى وموقعه المتقدم وسط رجال األعمال باألسكندرية
وخيال يداعب رأسه فى أستحياء أن يعيد لعائلة " السبروتى " عزها ومجدها القديم ..لم ينطق بعدها
سوى بكلمة واحدة ممتدة تحمل شجن وتأثر :موافق .بعد موافقة " أيات " الشكلية وبموجب توكيل
رسمى عام منها باع األرض ،فأمتلك وفرة من المال ساعدته على أتساع تجارته ..زادت صفقاته التى
أدارها منفردا وفى بعض األحيان بمشاركة الحاج قبارى بتوصيه من هدى والذى أصبح مكتبه محطة
يومية لنديم ..وفى أحدى تلك الزيارات وحين دخوله حجرة المكتب كان " نسيم الشرقاوى " جالسا
يملء الكرسى الجلدى يتـداول ببطء حديثــا مريــرا عن الوضع األقتصــادى المتأزم :وده ياسيــدى
" نديم السبروتى " صاحبى وحبيبى وكمان مراته زى بنتى بالظبط ..قالها " قبارى " مقاطعا فور
دخول نديم من الباب الذى أسرع بأتجاه الضيف .صافحه :هو فى حد فى أسكندرية ما يعرفش نسيم
28
بيه الشرقاوى ملك العربيات .بعد عناء فى النهوض وأرتجاج فى األرداف لملم نسيم لحمه الذى تجاوز
حد السمنة بمراحل وأظهر أبتسامة سمجة فرد لها مساحة فى وجهه قبل أن يستقر فى وقفته مرحبا
بتواضع اليتناسب مع سحنته غير المريحة حيث الرأس مسطحة يعلوها فروة مصبوغة بالسواد أفرط
فى دكها فأضفت على مالمحه قدرا من البرود المستفز تزيد من فجاجته جبهته الضيقة التى تتكاثف
خطوطها كلما رفع حاجبيه بينما يختزن فى عقله دهاء ومكر كما يختزن سمنة مبالغا فيها تحيط
بكرشه وبمؤخرته التى دائما ما تمثل له عقبة حين يدخل أو يخرج من سيارته فيضطر أن يخرجها
أوال ثم يتبعها .
دقائق مرت لم يحاول فيها " نديم " أن يرمش بعينه منصتا فى أهتمام مستقبال تحليالت
" نسيم الشرقاوى " حول المتغيرات فى األقتصاد وبرنامج الحكومة الفاشل فبدى كمحاضر متمكن وهو
يبدى مالحظاته :شغل السبعينات والتمانينات خالص أنتهى ماعدش فيه تجار شنطة الزمن ده ولى
وكسب من كسب واللى خسر خسر واللى فاضل من التجار دلوقتى يا أما مسنود من فوق أو فاهم
المرحلة صح وبيلعب على أساسها ويادوب بيعرف يطلع مكسبه بالعافية بعد التضييق على المستوردين
بين ضرايب وجمارك دوبل ..كانت كلماته األخيرة كافية بأن تخرج أنفعالة عفوية تشكلت سريعا فى
نبرة الحاج قبارى :واللـه عندك حق يانسيم بيه الشغالنة دى بقت كلها وجع قلب تدخل المينا
عشان تسلك كونتينر واحد تالقى مية سكينة أترفعت فى وشك اللى يدبحك فى الرسوم واللى يدفعك
أرضية وفوقها غرامة ده غير الرش طول ماأنتى ماشى على المقاطيع .أغمض " نديم " عينيه قبل أن
يمربكفه ماسحا وجهه لعله يخفف من حدة المخاوف التى تجتاحه :والحل أيه يانسيم بيه فى الحال
المنيل ده ؟ ..أستند بظهره للوراء فاردا ذراعه على مسند كرسيه يطرح أحد حلوله المجربة :واللـه
ياجماعة التاجر الشاطر لما يالقى باب رزق أتسد يدق ببان تانيه ..
ــ في سوق جديد أتفتح مليان من خيرات ربنا من أكل وشرب وأجهزة وعربيات وأكسسوارات وكل اللى
يخطر على بالكم وكمان أرخص بكتير من أسواق أوروبا كلها .ترقب قبارى وضاقت عينى نديم .بينما
أستأنف بصوت مسرحى :الصين وتايوان همه المستقبل ..سوق كبير وجديد ورخيص ولسه
ماأنتشرش واللى يعرف سكته مش كتير واللى عايز يعمل شغل صح ويكسب صح هو اللى يلحق
29
أول قطفة ..ببالهة كرر نديم :الصين وتايوان !! بعد أن هرش جبهته قال قبارى :أنا سمعت أن
البلدين دول بالذات أتقدموا أوى وبقوا بيصنعوا كل حاجة .
مرت ساعة وبضع دقائق ظهرت خاللها نتائج مبشرة جاءت على رأسها تعلق نديم وأعجابه الشديد
بأفكار " نسيم الشرقاوى " وفى قدرته على أستيعاب مرحلة األزمات وهضمها ،فكانت سببا مباشرا فى
أنتاج صداقة أستفاد منها نديم كتيرا حين دعمه بعالقاته الواسعة فى حل مشكالته المعقدة مع الجمارك
والبنوك والضرائب ،كما أشار له فى أحيان أخرى إلى حلول مستقبلية تنفعه فى اللحظات الحرجة ..
تقارب أثمر فى نهاية المطاف عن شراكة قوية جمعتهما فى صفقات عديدة بعد أنسحاب نديم التدريجى
من معظم أعماله مع الحاج قبارى وتحوله إلى مكتب نسيم الذى شاركه فى كل غزواته إلى السوق
الصينى .
تراقب " هدى" بتململ هذا التقارب الشديد واألندماج غير المحسوب وتتعجب من القوة التى طرأت على
زوجها فى أتخاذ القرارات منفردا دون الرجوع إليها ،لم تملك سوى نصائح مكررة ومملة ،دائما
ما كان يواجهها فى أغلب األحيان بأستهتار :أنتى ليه واخدة فكرة وحشة عن الراجل ده ..حرام عليكى
الظلم ياهدى ..الراجل كويس ومحترم وأهو على يدك تالت سفريات طلعتها معاه شفتى كان مكسبنا
فيها كام ده غير األتنين كونتينر بتوع قطع الغيار اللى جبناهم من تايوان واللى بعناهم بأربع أضعاف
تمنهم .أبتلعت كلماته على مضض :أنت مش قادر تفهم أنا قصدى أيه يانديم ..قاطعها محاوال لجم
عصبيته :اللى أنا فاهمه حاجة واحدة أن مكسبى مضمون مع الراجل ده والزم تفهمى ياهانم أن البلد
دلوقتى مش زى زمان الدنيا بقت مقفولة ..أحمدى ربنا وبالش بطر .كتمت غيظها تلملم عراها
منسحبة من جواره على السرير قبل أن تنتصب واقفة أمامه وهو ممدد بعدما رمقته بنظرة مستنكرة
بينما هرب من عينيها يراقب دخان سيجارته :بصراحة أنا مش مرتاحة للراجل ده وال طيقاه وحاسه أن
الخراب المستعجل حيكون من تحت راسه .سرح الغضب فى مالمحها ومأل أنفعالها الغرفة :ومش ده
السبب الوحيد ..تقدر تقولى فى حد عاقل فى الدنيا يحط كل راس ماله فى مكان واحد ..طب أزاى..هو
نسيم ده أحسن منك فى أيه ..أشمعنى هو ياخد كل فلوسك ويشغلهالك هو أنت لسه جديد فى الشغالنه
دى وال صغير ماتقدرش تعتمد على نفسك ..مش ممكن اللى أنت بتعمله ده يانديم فلوسك كلها بقت فى
بطن الراجل ده ..أدينى عقلك بقى وفهمنى .بنفاذ صبر قبل أن يسحب النفس األخير من سيجارته :أنا
عارف بأعمل أيه كويس وزى ما أنتى قلتى ال أنا صغير وال جديد فى السوق وأنتى عارفة كده
30
كويس ،وكفايه رغى كتير وأهدى وتعالى نامى عشان بكرة نسيم عازمنا عنده فى البيت على العشا ..
رعشة غيظ أنتابتها لخصتها فى نظرة نارية قبل أن تستدير تدب األرض بقدميها خارجة من الغرفة تردد
بـ " نرفزة " :أنت أكيد عايز تجننى ..أنهت جملتها ثم سحبت الباب خلفها الذى أخذ نصيبه من
غضبها سمع أنينه كل من فى المنزل .
00000000000
كانت ردودها مبتورة وأبتسامتها مصنوعة وعينيها ثابتتان تتحاشيان النظر فى وجه " نسيم " وفى
مالمح زوجته المتراجعة الهزيلة صاحبة مرض " اللى مايتسماش " والتى فاضت أثاره على جسدها
النحيل ورعشة أصابعها التى أرهقت أبنها " شهاب " صاحب العشر سنوات وهى تحاول أن تجعل فمه
هدفا لقطعة لحم " نيفا " فى طرف شوكة مرتعشة يلهث وراءها بفمه لعله يقتنصها .هكذا كان حال
" هدى " فى عزومة العشاء ،بدت كالتمثال الخشبيى تراقب بحدقيتها ثالثتهم " نسيم" بسحنته العجيبة
والمريضة المرتعشة واألبن الالهث بفمه المفتوح .
أخيرا رفع " نسيم " رأسه ثم يديه فى أستراحة محارب قصيرة بعد معركة دامية مع سرفيس
" لحمة وكفتة " كان متصدرا المائدة قبل أن يجهز عليه وعلى طبق مكرونة بالبشاميل كان على
يمينه .أبتسم رافعا يده الممدودة بـ " صبع كفتة " متجاوزا وجه نديم الجالس إلى جواره ملوحا به
بأتجاه هدى :هى المدام مش عاجبها أكلنا وال أيه ..سارع نديم يتولى الرد :هى أكلتها خفيفة .قالها ثم
رماها بنظرة لعلها تكون كافية لفك طالسم وجهها بينما شاركت زوجة نسيم ببعض الكلمات التى تخرج
منها بصعوبة كالروح الخبيث من الجسد الخبيث ثم تعقبها بنظرة ميتة أوأبتسامة بائسة تاركة التعليق
والتعقيب لزوجها الذى سبقته ضحكة تمهد لجملة قادمة خرجت منه مع بقايا كفتة من بين زاويتى
شفتيه حرص نديم على تفاديها قبل أن تصدم وجهه :حكاية أكلتك الخفيفة دى يا مدام بتفكرنى بأول
سفرية أنا وجوزك كنا بنتغدى فى مطعم فى بكين والجرسونة جابت لنا طبقين خضار ما يشبعوش
شهاب ومعاهم عصايتين خشب رفيعين شبه السالية قعدنا أنا وجوزك ساعة نصطاد بيهم الخضار اللى
فى الطبق .قالها وأنتابته دفعة متواصلة من السعال يتخللها ضحكات متقطعة ..مالمحه كانت
تستفزحاسة بصرها ،كل ملمح فيه أحست به هدى أفعى تلسعها ،دبت فى بدنها رعشة مصحوبة
بخوف غريب ،كانت تخاف عينيه ال من أتساعهما وأنما من شكل النظرة وتكوينها وما تنطوى عليه
31
من قلق والتواء وحدة وضعف وخبث ومكر ،فاكتشفت فيه شيىء يمس كيانها ،أرتبك ذهنها ،كان
عليها أن تراجع وتراقب وتتخذ موقفا .
حاول " نديم " مرارا وتكرارا أن يهدأها ويقنعها باللين مرة وبالحزم مرة لعله يتمكن من وأد شكوكها
المتنامية ومن كبح جماح قلقها ،لكن دون جدوى فثار ثورته الكبرى معلنا غضبته فى بيانه األول
الذى أكد فيه بأنه لم يصل بعد إلى حد السفه حتى تنصب نفسها قيمة عليه تتصرف فى أموره وتحدد
عالقاته .هدأت مرغمة فى حين تمادى هو فى شراكته الصورية مع نسيم ،كان قانعا بكل ربح يأتيه من
وراء كل صفقة مكتفيا بالمتابعة وحصر عدد الصفقات والسفريات التى ينجزها شريكه .رجته وتوسلت
إليه وقلبت األمور على كل وجه ،فلم تجد لها صالحا إال بأبتعاد زوجها عن هذا الرجل ،وأمام أصرارها
يحتد نديم كالعادة ،صمدت فى وجهه كالصخرة ،حينها تراجع خطوة وأبدى موافقة مبدئية مع منحه
مهلة يتدبر فيها األمر من كافة الوجوه .
لم تكن " زيزيت " سوى جارة بالطابق األول فى بناية محطة الرمل ..عندما بدأت هدى رحلة زواجها
كانت زيزيت على أول طريق المجهول بعد أن هجرها زوجها بسبب تمسكها الشديد بالبقاء بجانب أمها
المريضة والتى تحمل الجنسية المجرية وزوجة البحار الراحل " عاصم الدرينى " والد زيزيت
والذى يقال أنه كان من ضمن طاقم " لنش المحروسة " الذى غادر به الملك " فاروق " األسكندرية
بال عودة ،لم ترضخ أبدا لضغوط زوجها لألقامة معه بجوارمطعمه الذى يمتلكه فى أحد ضواحى
باريس ،وبالرغم من عرضه األخير أن يسهل ألمها أقامة فى دور رعاية بفرنسا إال أنها رفضت عرضه
ووهبت نفسها خادمة وممرضة ألمها حتى لحظة وفاتها وقبل أن تستوعب حياة الوحدة بدون أمها كان
قد أنقضى على طالقها ساعات .أستغاثات مكتومة ووحدة قاتلة هو ما تبقى لها من حطام الدنيا بعد
فقدان األم والزوج كما تبقى لها تقاطيع متناسقة وجسد رشيق مفصل باحكام ،هى أمرأة جميلة مثيرة
لألنتباه بفضل عملية تهجين ناجحة بين أم أوربية وأب مصرى ..أيامها األولى كانت شديدة القسوة ..
تأملت وحدتها ووضعها الملتبس ،فأيقنت أنها فى مأزق والحياة أمامها أضيق من " خرم أبرة "
فركبها خوف وقلق شديدين ولم تجد أجابة شافية على سؤال كبير :كيف ستواجه الحياه بمفردها ؟! ..
أجتازت " هدى " المدخل بأتجاه المصعد بعد عودتها من زيارة سريعة لعمتها التى تحاول األفالت من
قبضة عزرائل ..تراوغه داخل غرفة األنعاش بمستشفى المواساة منذ ثالثة أيام ،قبل أن تبطء خطوتها
32
خلف زيزيت التى يأست من نزول المصعد المعلق بالطابق الرابع ،مشيا سويا حتى أول درجة للسلم
بعد أن تلقيا عبارة توضيحية من أم نور :األسانسير عطالن والمهندس جاى بكره يشوفه .
ــ على العموم طلوع السلم رياضة ..هذا ما أعلنته هدى قبل أن تنال زيزيت معلومتها األولى :أنتى
مرات نديم ؟ ..وبعد سين وجيم تم التعارف سريعا فى رحلة صعود قصيرة تعمدتا فيها البطء والتمهل
وعند حدود باب شقتها بالطابق األول لم تجد هدى صعوبة فى أن تميز النبرة الحزينة فى أجابة زيزيت
على سؤالها :أنا عايشة لوحدى بعد وفاة بابا وماما وأنفصالى عن جوزى .قالتها ومدت خطوتها
بأتجاه شقتها متجنبة لقاء األعين بعد أن أنفلتت منها دمعة لم تستطع مسكها ونظرة من عينيها كانت
كافية لتدرك هدى فداحة ما تعانيه جارتها من هم وحزن ،تعمدت مالحقة عينيها بعد أن تخطفتها
مالمح األسى :الزم تكونى جامدة يازيزت وعندك أرادة وإياك تستسلمى للوحدة أو تضعفى .
تلقت النصيحة دون تعليق وأن زادت كمية الدموع التى تحبسها فى عينيها فأضافت هدى ما يخفف
عنها ..عايزة أقولك انى أنا كمان ظروفى شبه ظروفك والدى مات وأنا صغيرة وماما أتجوزت بسرعة
وكملت حياتى مع عمتى العجوزة يعنى تقريبا كنت عايشة لوحدى ،لكن لما أشتغلت وأعتمدت على
نفسى الدنيا كلها أتغيرت من حواليه ..صوتها الهادىء وتعاطفها الشديد كان سببا قويا لتعلق زيزيت
بها ،حاولت بحماس أستضافتها ..أعتذرت هدى قبل أن تقطع لها وعدا بزيارتها فى الغد .
أعتادت " زيزيت " على حياة الوحدة اليزورها أحد ،تقوقعت داخل شقتها شاغلة نفسها بالتنظيف
والترتيب وفى بعض األحيان تمارس هوايتها المفضلة فى أقتباس موديل فستان أو جيب من مجلة
" بوردا " لألزياء تقوم بتفصيله بنفسها ليخرج من بين يديها مطابقا تماما لصورة " الكتالوج " .
أستمرت معها تلك الهواية من بين مجموعة هوايات أنقرضت كلها ..وحين فتحت فرجة صغيرة من
باب شقتها وطالعها وجه " هدى " المبتسم أضاعت حشرجة صوتها التى صدأت أحباله من قلة الكالم
فرحتها الطاغية ،فأختطفتها إلى الداخل بعد أن تلقت منها هدى قبلتين ودفعة مركزة من عبارات
الترحيب أعادت الحيوية الى بشرتها ..تنقلت هدى داخل الشقة بداية من الهول الكبير ومن غرفة إلى
غرفة بعد أن تخلت عن خجل أول زيارة تحت ضغط وألحاح من زيزيت التى تسبقها بخطوة وكأنها
مرشدة سياحية تستفيض فى التعريف بتاريخ كل قطعة أثاث ولوحة وتحفة مع توضيح ذكرى شراءها ..
تزداد حماستها وهى تقرأ فى عينى هدى نظرات األعجاب .إال أنها توقفت عن الشرح حين وقفت عند
مدخل غرفة نوم أمها بينما جذب الفضول ضيفتها فمطت رقبتها ومسحت المكان بنظرة سريعة تتفحص
33
محتويات غرفة الراحلة قبل أن تتعلق عينيها بتمثال صغير معلق على الحائط للسيدة العذراء "مريم "،
ضاق حاجبيها فى دهشة حينما لمحت برواز مستطيل بأطار مدهب وبطانة سوداء كتب عليها بحروف
نحاسية اللون " سورة الفلق " حركت رأسها ببطء فى اتجاه زيزيت التى قابلت أستغرابها بتوضيح :
ما تنسيش أن ماما اللـه يرحمها كانت كاثوليكية وبابا مسلم ..علقت بتنهيدة :سبحان اللـه ..أخيرا
سحبتها إلى غرفة نومها الغارقة فى هدوء قاتل وترتيب مبالغ فيه وكأنها غرفة محنطة ،عاينتها دون
تعليق كى ال تجرح السكون ،أرادت زيزيت أن تكون مالبسها هى آخر مشهد تراه هدى فى جولتها
داخل الغرفة حين فتحت دوالبها وزحزحت مجموعة الفساتين المعلقة فأشارت لها باألقتراب فمدت
نظرتها قبل أن تمد خطوتها رافعة شعار األعجاب واألنبهار وهى تتجول بعينيها تتفحص كل فستان على
حدا :ذوقك هايل يازيزيت أكيد فساتينك كلها مستوردة .سبقت ضحكتها أجابتها :أنا بقالى سنين
ما أشتريتش هدوم أصال كل اللى شايفاه ده تفصيلى أنا ..حركت عينيها يمينا ويسارا ثم كررت معاينتها
وهى تتلمس بأصابعها الفساتين والبلوزات تفركها وتفتش فيها عن الفتة أوشعار يشير إلى أسم مصنع
أو موطن أنتاجها ،إال أن الدهشة كانت حاضرة فى قسماتها تبحث عن كلمات جديدة فى قاموس األشادة
واألعجاب :أنت ماحصلتيش يازيزيت .
ـ ـ أنا أشتغلت ست سنين فى أتيليه مدام " مارى " اللى فى األبراهيمية قبل ما أتجوز .كان ذلك تنويها
الزما حين قادتها ناحية األنتريه القابع فى ركن الهول منهية أخر بند فى برنامج الزيارة بجلسة حزينة
مؤثرة عندما أصاب أعترافها عن الوحدة القاتلة وشح الفلوس على نفسية هدى التى تنصت لها بتأثر
لفداحة شكواها بعد أن تخلى عنها القريب قبل الغريب ..أجتاحها الهم والغم مما أستلزم األمر منها أن
تطلب كوب شاى كعادتها حين تواجه مشكلة وتبحث لها عن حل ..أعدت كوبين شاى ثم قدمت واحــدا
لهدى التى بــدت شاردة تتعقب فكرة دارت فى رأسها حتى أعتقلتها مع وصول أخر رشفة لجوفها :أنتى
لسه صغيرة وأدامك فرص كتيرة ليه ماتحاوليش تدورى على شغل وتبدأى من جديد لغاية ما تقفى
على رجليكى .
ــ هو ده اللى أنا بأعمله دلوقتى و الحمد للـه بأتكلم أنجليزى كويس وشكلى مقبول ورحت قدمت فى كام
شركة سياحة وأدينى قاعدة مستنية الرد ..لم تكن تسمع بقدر ماكانت تبحث عن شيىء ما يتحرك
فى مؤخرة رأسها حتى تكونت جملة مفيدة خرجت منها بعفوية :وتدورى على شغل ليه وأنتى عندك
صنعة تكسبك دهب ده أنتى خياطة ماحصلتيش ..ذوقك عالى وأفكارك حلوة ..ليه مافكرتيش فى
34
الموضوع ده ؟ ..ترددت فى األجابة :كالمك صح بس الموضوع مش بالبساطة دى ..محتاج راس
مال كبير .
ــ محتاجة مكان وماكينات وقرشين أصرف منهم لغاية ما الناس يعرفونى .أتجهت إليها بضحكة
ساخرة :كل اللى بتقوليه ده كالم فارغ المهم صنعتك .
ساعة من التداول وتبادل األفكار واألقتراحات قبل أن تنتفض هدى واقفة معلنة الرحيل بعد نظرة سريعة
فــى ساعتها قبل أن تترك فى حوزة زيزيت حلوال عملية تتضمن حال لمشكلة المكان بتخلى األخيرة عن
الريسبشن كنواة تؤسس عليه " األتيليه " بينما تتكفل هدى بالماديات الالزمة لشراء ماكينات الخياطة
ومايلزم من أدوات مع توفير دعاية مكثفة بين المعارف واألصدقاء .قابلت زيزيت عرضها بعناق حار
مصحوبا بنوبة بكاء ساخنة أنكمشت لها أبتسامة هدى لتبدو فرجة ضيقة حزينة :أنا طول عمرى
وحيدة ماليش أخوات وال عندى حد وربنا يعلم أنا أرتحتلك أد أيه ومن النهاردة حنكون أنا وأنتى أكتر
من األخوات وحأبقى جنبك لغاية ما تقفى على رجليكى وما تشغليش بالك بأى مصاريف ..قبل أن
توليها ظهرها منصرفة أردفت :وكله سلف ودين ..النهاردة أنتى محتاجانى ياعالم بكره ايه اللى
حيحصل ؟! .
000000000
كان قميص النوم األسود هو أختيار هدى المفضل ليكون شاهدا على ليلة ساخنة ،رجعت برأسها للخلف
متجاوزة ضلفة الدوالب المفتوح تتمايل بشعرها األسود تشد به نظرات نديم المتحفزة يقتنص منها
ما يظهر من خلف الضلفة قبل أن تعلن عن نفسها وتواجهه بصدرها بينما الفرحة تضيىء وجهها :
عشان خاطر الكالم الحلو اللى سمعته ده حأخليك النهاردة عريس ..قالتها بحيوية ردا على خبر سار
فاجأها به عقب عودته قبل ساعة من الخارج :بكرة نسيم الشرقاوى راجع من الصين وأنا قررت
أسحب نص فلوسى من عنده ..أنا ما قدرش على زعلك .سحبت العروس نفسها من بين الضلفتين
مستعرضه أمامه جسدها األبيض اللميع داخل القميص األسود الذى ال يزيد طوله عن" نص متر "
يتعارك فيه أعالها مع أسفلها عن جزء يستره قبل أن يحسم نديم الصراع بينهما بأشارة من أصبعه
35
وهو مسترخى على سريره وهى تعنى أن تستدير فهو يعشق معاينة مؤخرتها ،فكانت لها وقفة تتقن
فيها تكويرهما .
غير أن القدر المنحاز للنوائب كان يقف بالمرصاد فكان قاسيا حين قام نديم من فراشه ليشحن بطاريته
بلمسة من بين الكورتين ،وما ان لمسهما حتى ألتفتت فى فزع على صوت أرتطام جسده على أرضية
الغرفة ..أنفاسه كانت الهثة وقطرات عرق مفاجئة نبتت فوق جبهته وأصطبغت بشرته بالصفرة ،بعد
صدمة وذهول تاله صراخ أستفاق نديم من غيبوبته العارضة بينما لم تهدأ هدى أو تستكين إال بعد
أقراره بالموافقة واألستجابة على أن يكون الغد هو يوم الكشف والفحص فى عيادة الدكتور
" عبد العزيز التونى " بعد أن أخبرها نديم بأن حالة عدم األتزان تصاحبه منذ أسبوع .
لم تمهله "هدى " فرصة للتراجع أو العدول فكانت تدفعه لعيادة الدكتور الذى مشى بسماعته فوق صدر
نديم العارى حتى منتصف بطنه ثم ضغط بأصبعيه على الجانب األيسر مرة ثم األيمن متساءال :فى هنا
وجع يا أستاذ نديم ؟ ..بنبرة ألم :حاسس بشكة ..رفع عينيه متجاوزا نظارته المنفلتة حتى أرنبة أنفه
موجها كلماته الصارمة بأتجاه هدى المترقبة يطلب منها بعض التحاليل الضرورية وبأقصى سرعة ،
فكان له ما أراد وأنهت أجراءات التحاليل المطلوبة بحماسة وهى تجر زوجها جرا ينهى تحليل دم
فتقحمه فى تحليل بول وبراز ثم عمل مزرعة لعينة من الكبد حتى نجح الدكتور " عبد العزيز " من
االمساك بتالبيب المرض العربيد حين بدأ يسرد نتائج التحاليل التى أستقبلها نديم بمالمح ال تختلف كثيرا
عن مالمح زوجته ،فالخوف والذعر عدوى تنتشر بينهما :حالة الكبد عندك متأخرة أوى ..واضح أن
عندك التهاب كبدى حاد ..قالها بصيغة أتهام ،وكلما زاد سرده زاد فم هدى أنبعاجا ودهشة فخرج
صوتها قبل أن تصيبها الصدمة بالخرس :والعالج أيه يادكتور .رفع نظارته بسبابته فى تأفف لتستقر
أمام عينيه :األول فى شوية أحتياطات البد منها أهمها أن حاجته الشخصية ما حدش يستعملها ال فوط
وال غيارات وال ماكينات حالقة بخالف العالج اللى أنا حأكتبه دلوقتى وتكون المتابعة كل أسبوعين .
خرج من العيادة زائغ النظرات :يعنى أيه التهاب كبدى .سأل نديم ولم تجد هدى أجابة شافية غير
كلمات مهدئة حاولت أن تخفف بها عنه .
قلب المرض حياته ..كان ايذانا لألحداث أن تنشط فى سرعة محمومة أفقدت كل من فى البيت بما فيهم
شقيقته " أيات " وصغاره الثالث ومن قبلهم زوجته المصدومة والساخطة على مشاركة زوجها بكل
ثروته مع " نسيم الشرقاوى" بعد تراجعه عن سحب نصف ماله كما أخبرها سابقا ..رأى تأجيل
36
الخطوة لما بعد الشفاء ،فقد الجميع القدرة على التفكير والتدبر ،لتجد هدى نفسها أخر األمر صاغرة
فى طابور القدر .
0000000000
ربما يكون القدر الذى ال يفهم أحد بعد كل حكمته يدخر لزيزيت ما لم يخطر ببالها يوما ،فبعد دعم هدى
المادى والمعنوى لها ،أجتهدت وأجادت واذا بها يأتيها اليوم الذى تنسى فيه كل ايقاع ،و يصبح ايقاع
الحياة هو نفسه إيقاع ماكينات الخياطة التى ال تبارحها ليل نهار .أصبح " أتيليه زيزيت " بعد مرور
ستة أشهر يمتلك سمعة متميزة فى األسكندرية ويحظى بأهتمام سيدات الطبقة الراقية ،وبالرغم من
تكالب وتزاحم الزباين على األتيليه إال أنها كانت تختفى وتتركه فى ذمة " أنصاف " مساعدتها ،كانت
إ لى جوار هدى ونديم فى زياراتها المتكررة لمعظم عيادات أمراض الكبد ،كانت لها زيارة ثابتة فى
الصباح قبل بداية يومها ومثلها أخر الليل تطمأن على أحوال المريض وتدعم هدى المهزومة معنويا
وهى تراقب الزوج والحبيب وقد أحكم المرض قبضته على جسده فبدا هزيال نحيفا ،سكن فراشه
ال يبارحه ،أحس أن مرضه أسقطه فى قاع الكون وأن جسمه كله مهدد بالتفكك والتحلل ،فقد شهوة
المقاومة ولم تعد به رغبة أن يطفو على السطح من جديد بينما زيارات الخواجة كرم ونوح البواب لم
تنقطع ،الحوارات المطولة وسرد الحكايات كانت تسرى عنه وتخفف ثقل رقدته ،قفشات الخواجة
وتعمد نوح أستدعاء أغانى النوبة القديمة التى يؤديها بحركات راقصة برأسه وكتفيه كانت سببا فى
تهافت نورا ويوسف وبسمة والتفافهما حول الضيفين تسبقهم ضحكاتهم وخاصة نورا التى ترى فى
الخواجة قاموسا للمعرفة ،فى حين كانت تنسى أيات الحزن الكامن فيها وتتسرب من غرفتها .سجنها
األختيارى .فى محاولة يائسة ألستعادة دور الشقيقة الكبرى ،راحت تستحث فى أخيها ما تبقى له من
أرادة وتذكره قبل أن تذكر نفسها بأنه أخر األحياء فى قائمة أسرتها ،كانت تستجديه أن يفيق من غفوة
المرض ..أستدعت له أحداثا قديمة وتواريخ سابقة :فاكر يا نديم لما رجعت من رحلة رشيد وأنت فى
الثانوى وجالك تسمم وحالتك كانت بؤس خالص والدكتور يومها قال الزم تفضل فى السرير أسبوع
وبابا اللـه يرحمه قالك عيب مافيش راجل ينام فى السرير أسبوع هو أنت قايم من والدة وال أيه ..هز
رأسه وأشاح بعينيه هربا من نظراتها إال أنها توالت فى حثه :طول عمرك عندك أرادة وما بتحبش
الضعف ،أيه اللى جرى لكل ده .كان الطبع غالب ،فأسترجعت بعض العبارات من تراثها القديم التى
تخلت عنها بعد نكبتها ترددها يوميا على أسماعه فى نمطية مكررة :والد األصول يانديم الزم يبقوا زى
37
الفرسان لما يقعوا يقوموا بسرعة ويبقوا أقوى من األول .تعلقت عيناه بمالمحها خرجت منه نظرة ذات
مغزى فأستوقفتها دهشته ،أدلت رأسها إلى األرض .زفرت " أيات " :عارفة أيه اللى بيدور فى
رأسك ..عايز تقوللى من باب أولى أنصح نفسى ..مش كده .هزت رأسها قبل أن ينتشر الضعف يكسو
مالمحها .أردفت ..أنت عندك حق ..بس أنا مش مهمة ..أنا وال حاجة المهم عندى هو أنت ..أنت
أخويا وأبنى وكل اللى فاضلى فى الدنيا وعندك تالت والد زى القمر محتاجينلك وكمان وراك هدى ،لكن
أنا ماليش لزمة ال أدامى حد وال ورايا حد .ثم أنحنت عند مستوى رأسه تقبله فى جبينه فربت على
كتفها :ما تقلقيش ياأيات عمر الشقى بقى وكل حاجة حترجع زى زمان .
أستمر المشهد فى بيت " نديم " لفترة مكررا ومعادا بكل تفاصيله كمسلسل تركى ال يقطع روتينه سوى
زيارة " سميحة هانم الغريانى " التى تجاورهم فى نفس الطابق وهى من بقايا نفس الطبقة .زيارتها
كانت بمثابة أنتعاش لحظى بالنسبة أليات وهى تنقاد معها خلف تاريخ من األحداث والذكريات عن
طبقة ولت وأن أحتفظت فى قرارة نفسها بغيرةشخصية من تجربتها الناجحة فى زواج مشابه لزيجتها
الفاشلة ،فزوجها " خيرى علم الدين " صاحب نفس الخلفية والتفاصيل التى جاء منها طليقها
" شاكر " كان دائما بصحبة زوجته فى كل زيارة حريص على واجب الجيرة ،له نظرة حادة حاسمة
مالمحه تكتسى رجولة وخشونة ..فى منتصف الحلقة الثالثة من العمر بينما تكبره " سميحة هانم "
كما يطلق عليها ساكنى البناية بعشر سنوات ،وبالرغم من هيئته العاديةإال أنه يحدق إلى الناس وإلى
األشياء بنظرة شهباء صارمة يتمتع بقدر كبير من الوسامة لم تعد موجودة فى زوجته التى غزاها
مرض السكر والضغط فنحل جسمها وترك لها مالمح وقسمات مهدمة فقدت معها كل ماللصبا من
نضارة الصحة ،قبل ان يغلبها فمها ويلتوى رغما عنها وأصبح الكالم يأخذ حركة بطيئة على لسانها .
يعمل " خيرى " بهيئة األثار أطلق عليه زمالؤه الفرس الرهوان فهو يجتاز جميع السدود بتفوق
وأصرار أهلته ألن يتولى رئاسة لجنة حصر البنايات ذات الطابع األثرى والتاريخى بمدينة األسكندرية
وكان لها أثر مباشر فى زواجة من " سميحة هانم " حين كانت تلك البناية التى يسكنها حاليا فى مقدمة
عمل اللجنة وكأنما يدبر له القدر الفرصة ،ها هى الرياح تقذف فى طريقه بأمرأة جاهزة بطوق النجاة ،
كان ذلك حين أستأذنها لدخول شقتها لمعاينة شرخا على يسار سور شرفتها ليرفع به تقريرا الى
الهيئة ،الزمه " نوح البواب " حتى مكان المعاينة فال يصح دخول غريب منفردا عليها فهى أرملة منذ
عامين وحيدة بال أوالد ،كانت هى من ذلك النوع الرقيق الهادىء .أنبهرت به وأنبهر بها .كان حالما
38
رقيقا أكثر مما تتطلبه ظروف المعيشة ..هى احالمها لم تذهب بعيدا عن حدود هذا األنسان الذى أرهق
" نوح " وأجهده فى زيارات ملحة ومتكررة بسبب وبدون وبأى حجة ،لذلك عندما عرض نفسه وحبه
عليها ،لم ترفض ،وشرح لها فى أسهاب عيوب أن تتزوج ما هو أقل منها فى معظم األشياء .نسيت
أو تناست واقعا يحيط بها فطوقت عنقه بذراعيها حين أبلغته بموافقتها .لم يعترض أحدا من أسرتها بل
تركوا األمور تمضى لعل ذلك تسرية عنها وعونا فى وحدتها .أخيرا حققت له أيامه حلم يقظة على هذا
النحو الرائع العجيب ؟ كان حبه لـ " سميحة " له خصوصية متصلة بعشقه للتاريخ والتراث فهو غارق
ألذنيه لكل ما هو قديم ،أنجذابه الشديد لطراز البناية وهيئتها سهل له الطريق ألنجذابه لـ " سميحة "
إال أنه بعد زواجه وجدفيها لذة المرأة المكتملة جسديا وروحيا ،فأشبعته منهما ،ولم تكن شهوته
الصريحة التى عاش عليها بنهم قد أتت بعد على مالحة وجهه ومتانة بنيانه وفتنة شبابه ،لم تمهله
ألتقاط أنفاسه كانت تسابق الزمن قبل أن تجف دورتها الشهرية ويغادرها األمل ،فصادفها النجاح
مرتين فأنجبت له " نادر" تاله " شريف " بعامين " ..خيرى " ال يخفى تأثره الشديد وحزنه العميق
على جارته هدى فى مرض زوجها كان يحس بمأساتها فهى أبنة طبقته وخريجة نفس البيئة كما أنها
وافدة مثله على السكان األصليين للبناية .
زادت وتيرة زيارات " نسيم " لنديم فى بدايات مرضه قبل أن تقل جرعتها مع مرور األيام حتى تقلصت
إلى مكالمات تليفونية متقطعة ،إال أن ألحاح هدى الشديد كان ضاغطا على زوجها ألجباره على
أستدعاء شريكه لزيارة عاجلة كى يستجلى منه مصير أخر ثآلث عمليات أستيراد تمت خالل الشهرين
السابقين لعله يفهم ما له وما عليه .
ماطله " نسيم " كثيرا وعدل موعد الزيارة أكثر من مرة ..توجس نديم وزادت ريبته وحاول أسكات
جرس األنذار الذى يرن فى أصرار ومثابرة فى مؤخرة رأسه ،بعد حصار وألحاح أستسلم " نسيم "
لزيارة خاطفة سريعة ..حضر ليال مرتجا فى بدلة رمادية ،أستقبلته هدى ورافقته من باب الشقة حتى
غرفة زوجها سجين الفراش .أشاع متعمدا حالة أستعراضية بجسده المترهل يمأل المكان بجمل كثيرة
كضربة أستباقية لتحاشى أى لوم أو عتاب عن تهربه فى الفترة الماضية :بسم اللـه ماشاء اللـه ده أنت
بقيت زى الفل ياعم نديم ،ده أحنا اللى عيانين مش أنت .قالها وألتفت لهدى يرميها بضحكته السمجة
بينما لم يجد " نديم " سوى أبتسامة محتضرة قابل بها " همبكة " شريكه .فبادره بعتاب قبل أن يجلس
على الكرسى المقابل للسرير :شهر بحاله يا نسيم عشان تتعطف وتيجى تزورنى .تصنع الحماسة :
39
أوعى تقول الكالم ده عيب عليك ده أنت أخويا وحبيبى ويعلم ربنا أن اللى منعنى عنك الشديد القوى ،
من يوم ما رجعت من الصين أم شهاب حالتها ما تسرش حد حجزت لها فى المستشفى األلمانى وفضلت
جنبها يوماتى سايب الدنيا تضرب تقلب وبقيت أخطف نفسى أطل على الشغل اللى راقد فى المينا ..أنت
عارف يانديم أنا ماقدرش أتأخر عنك ..قالها بأداء تعلب وبحركات وأشارات غير مريحة كما لو كان
يقدم برنامجا أستعراضيا مزيفا .فأعتدل " نديم " بصعوبة تحضيرا لسؤاله القادم قبل أن تتراجع
" هدى " للوراء تاركة نظرتها تأخذ طريقها إلى عيبنى زوجها الذى فهم ما تقصده فأنهى فى عجالة
حديثه المفرط عن مرضه وتبعاته و مايعانيه من ضعف و أنتقل سريعا على رأس سؤال مباشر :أنا
بقالى دلوقتى شهرين يانسيم مش فاهم أى حاجة عن الشغل و العارف الدنيا رايحة فين ..ياريت
تفهمنى .أستند بظهره الى كرسيه قبل أن يرمقه بنظرة مبديا مالحظة خبيثة :مش ممكن نتعب المدام
شوية فى واحد قهوة مظبوط .أغلق جملته بلفتة تجاهها فهمت منها رغبته فى عدم وجودها ،حررت
يديها المشبوكتين قبل أن تتجه عابسة إلى خارج الغرفة :حاضر .
أنتشل " نسيم " جسمه من كرسيه فور خروجها وجرجره خلفه مقتربا من حافة السرير :أحنا مش
أتفقنا يانديم أن الكالم فى الشغل ما يتقالش أدام الحريم .سكت ولم يعلق و أستأنف بنبرة خافتة ضمانا
لحبس كلماته عند محيط رأسيهما :الشغل ماشى زى الفل و مافيش أى مشاكل المهم أنت ما تشغلش
بالك بأى حاجة غير صحتك .
ــ أنا عايز أعرف يانسيم أولى من أخرى .لم تفارق عيناه عينى نديم :حتعرف كل حاجة ياسيدى بس
المهم دلوقتى صحتك والزيارة الجاية إن شاء اللـه حأقولك رصيدك بقى كام بالمليم بس بعدما أراجع
الحسابات مع األستاذ " منصور" .لم يقتنع بردوده ولم تكن لديه القدرة على المجادلة والمحاورة
مكتفيا بنظرة غابت فيها القوة بينما حضرت النبرة المتشككة :ماشى يا نسيم ..
ــ دلوقتى حأسيبك ترتاح ولنا قعدة تانية إن شاء اللــه .قالها واقفا حين دخلت هدى مع نهاية جملته
تحتضن صينية بها فنجان قهوة :معقول يا نسيم بيه والقهوة .
ــ معلش سا محينى الزم أروح البيت أطمن على أم شهاب .لم ينتظر منها ردا وفر خارجا من الغرفة
ومن خلفه تتبعه وهى تشيعه إلى باب الشقة تتعقبه بعينيها مبدية أقصى درجات األرف وهى تعاين
مشيته التى أقتبسها عن الفنان الراحل " عبد الفتاح القصرى " أنفلت من باب الشقة دون أن يلتفت
إليها ،فودعته فى سرها :غور كتك داهية فيك وفى اليوم اللى شفنا فيه خلقتك .
40
" وكما جاء رحل " جملة تصلح عنوانا لزيارة نسيم ،لم تهدأ مخاوف نديم بل زادت حدة ..أنتهت
الزيارة ولم يحصل على أى معلومة ولم يصل إلى أى نتيجة ..توقف عن التفكير حين راى أنه سيدخل
فى سلسلة أحتماالت " لو " التى ستزيده أرتباكا .أيقن أنه تصرف بحمق من البداية فى لحظات تكون
فيها األمور أوضح ما تكون .
عادت " هدى " بطوفان من الغضب إلى زوجها المتجمد على سريره كانت حاضرة بكل ما تحمله من
شكوك بدت تتجلى الى حقائق غير أن مالمحه الباهتة وأحمرار عينيه كانتا كافيتين ألسكات كل أسئلتها
حول ما دار بينه وبين نسيم ،أدركت من نظرته أنه يحتاج لدعمها ،لم تتأخر عنه فأحتوته بين ذراعيها
حين نامت على صدره ..همست تردد حيثيات منطقها :ما تقلقش يا حبيبى كل حاجة حتتصلح ومش
حأتقل عليك وال حأسألك الراجل ده قالك أيه وخلى شكلك بالمنظر ده بس اللى أنا عارفاه و متأكدة منه
أن الغمة دى حتنزاح عن قريب وأيدى فى أيدك لغاية ما نخلص نفسنا من الراجل الزفت ده ونعرف أولنا
من أخرنا ونرجع فلوسنا تانى .رفعت رأسها وتداولت معه نظرات طويلة .ثم أردفت :المهم أنك تشد
حيلك وكل حاجة حتبقى تمام .هز رأسه متصنعا مالمح متفاءلة ،إال أن ذهنه ظل مشتتا وأنتابته
سوداوية زادت من أوجاع رأسه فطلب منها فنجان قهوة يطفىء به صداعه من عيار سكر قليل بن
زيادة ..بدا فى قمة انهياره العالى وهو يحاكم نفسه بقسوة .لحقها بصوت متحشرج قبل أن تخرج من
الغرفة :تعالى جنبى ياهدى ماتسيبنيش .تحركت إليه فى فزع ،تأملته ثم جثمت على ركبتيها ومالت
نحوه ،تسللت أصابعها إلى شعره ،تركها توغل فيه حتى غرقت أطرافها فى تموجاته ،حاول أن يرفع
يده إلى شفتيها لكن يده سقطت منه فجأة بجانبه .أفزعتها اليد التى هوت :حاسس بأيه يانديم ..أطلب
الدكتور .وبرغم أنه أشار لها برأسه عالمة النفى فقد مألت فمه جرعة من اللعاب المالح بدت له كأنها
جرعة من الدم بينما تراقبه فى ذهول وضعف وهى على حالها راقدة بجواره وكأنها تحرسه وتحرس
كيانها كله ،أستنفرت كل قوتها لتمنعه من األنهيار حين لمحت نظرته تدور فى الغرفة قبل أن تستقر فى
السقف وكأنه يتلقى أمرا من قوى عليا فصرخت فيه :قوم يا نديم أقعد ..قوم ياحبيبى أنا عارفة أنك
بطل ومافيش حاجة بتهزك .ضغطت بكفها على خده تحثه :مش أنت اللى فهمتنى كده .غلبتها
دموعها :مش أنت اللى قلتلى أنا بأكره األستسالم والضعف ،كلماتها المرتعشة لم تمنع عالمات الموت
التى تنمو داخله وتقبض أحشاءه وتخنق قلبه ،فقد القدرة على مقاومة النهاية ..أرتعش صوته بأمنية
أخيرة :بصى فى عينيه ياهدى .ألتقت أعينهما فى لحظة خاطفة قبل الموت ،تذكر فيها كالغرقى الذين
يهوون إلى األعماق ..كل بهجة حياته ،البهجة الوحيدة التى جاءت كلها من حبها ،من نظرتها
41
األولى ،ومن قبلتها األولى .ثم صدرت منه آهة تشبه آهات الوداع .مات نديم فى مفاجأة مذهلة .
فتحت عينيها عن آخرهما وأطلقت صرخة ذعر عالية كان لها صدى مرعبا فى أرجاء الشقة معلنة عن
بداية سباق محموم بأتجاه الغرفة تتصدره أيات بخطوات واسعة يزاحمها األطفال الثالثة وبخطوات أبطأ
تأتى نعمة فى المؤخرة ،أصابتهم المفاجأة بالشلل قبل أن يسود الصراخ بكل أنواعه المعروفة ..
الطويل والقصير والمتوسط ،شارك الجميع فى عزفه هدى وأيات ونعمة بينما تعلق األطفال بجثة
أبيهم يفعلون كما تفعل أمهم وعمتهم يهزون جسده ويشدونه لعله يصحو .أنتشر الصراخ والنحيب
كالعدوى ،النظرات الذاهلة وأثار الصدمة فى الوجوه كأنها وشم ..يلفون حول بعضهم وكأنهم فى
دوامة تدور فى الغرفة ..حدقت هدى فى وجه نديم الذى جف وعتم بياض عينيه فتأكد ت أنه رحل دون
أن يستأذنها فأجتاحتها رغبة فى شد شعرها من جذوره .
ركعت هدى عند قبره وتأملته فى أستيعاب وهم يحفرون فى األرض فجوة يضعون نديم داخلها ثم
يهيلون عليه التراب ببساطة مذهلة ..أشفقت عليه وكانت كعادتها على أستعداد ألنتشاله من شعوره
الكامن بالعجز .خيل إليها أن التراب يبكى واألرض تهتز من تحتها ..بينما أذان العصر يتردد صداه فى
سماء مقابر المنارة ( ..أى سر إلهى أو دنيوى ربط العصر بالموت ) كانت لحظة خواء رهيبة أمتزجت
فيها سمات العصر الجنائزية بسمات الموت المنبعثة من األرض والحيطان واألحجار فتبشر بقرب
النهاية وتوحى بتشابه المصير.
جلست "أيات" مطرقة فى ركن الصالة خدها على كفها وعينيها ساهمتان ..لم تعد تسمع بكاء من
حولها ،لم تعد ترى السواد الذى يمأل الصالة الواسعة ..بدت ساكنة فى مكانها متصلبة المالمح إال من
رمشات بطيئة تتحرك بأنتظام على أيقاع الشيخ "عبد الباسط " الذى يجلجل من خالل أذاعة القرأن
الكريم ،وكلما سكت تحولت بنظرها فيمن حولها ،تتأمل وجوه المعزيات ممن تبقى من أقارب وجيران
قبل أن تعود الى جمودها حين يعود الشيخ عبد الباسط زاعقا بأعلى صوته دون أن يسمعه أحد ،لغط
النسوان وهمسهن يعلو عليه ويطمسه ،وبقيت أيات مكلومة فى الصالة دون حراك بعد أن غيب وجه
أخيها التراب ،مضى على رحيله أسبوع .كانت "هدى" ال تملك إال عينان تبكيان ،وكل ما حولها
أصبح خواء كأنه خال حتى من الهواء و ما بين ضلوعها فراغ تصفر فيه ريح حزينة .وعندما
أستوحدت فى غرفتها بعد أن أنحسرت عنها موجات المعزين الثقيلة الوطأة على من ال يحسن الخوض
فى طقوسها ،أستولى عليها فى سكون الليل حالة من الرعب ال معنى لها ،اذ تصورت " نديم " وهو
42
يصحو فى قبره من غيبوبة طويلة خدعتهم بقناع الموت المهول ،فيجد نفسه فى ظلمة المحبس
العجيب ،تخيلت حالته وعاشت معه تسمع زئيره المسترحم وهو ينبش سر القبر المفزع الرهيب
بأظافره وينادى الناس " أنا حى طلعونى من هنا " .ينتفض كل ما فيها فزعا وترتجف شفتاها وهى
تقرأ قصار السور لتبعد بها وساوس الشيطان الرجيم ،لكنها دائما فى النهاية تجد نفسها داخل قبر
" نديم " تراقبه وهو ينبش سقفه .
آلت المسئولية إلى األرملة الشابة ،سقطت عليها جميع أنواع الشقاء ،تنظر ألبناءها المتحلقين حولها
يتشبثون بها كطوق نجاة أحاطتهم بين ذراعيها وهى تنهج حين رددت داخلها قسما أهتز له بدنها كله
عندما قطعت على نفسها عهدا أن تحقق لهم ما لم يحققه زوجها الراحل .
كانت قطرات المطر الثقيلة تدق نافذة العنبر .أدركت فايزة أن هدى منصرفة الى مطاردة ذكريات
" نديم " بين تالفيف الظالم المنتشر فى العنبر ،فلم تقطعها بالحركة أو الكالم ،وأنما قدرت حرمة
الكأبة التى شردت فيها رفيقتها فكتمت أنفاسها وتركتها تنعم بشجى األسترجاع ..إال أن حركة
"سامية " الكثيفة فى السرير المواجه تسرق نظرات فايزة التى تتابع ما أرتسم الى جانبى كتفيها فى
الضوء الخافت ظل وجهها الذى بدا كشبح يتحرك على الحائط ال يكاد يبدو من تفصيالته شيىء ،فأن
لوجهها سواد عينيها و مايبدو من تلك الكتلة الضخمة المظلمة سوى بعض الثنايا وبريق شعلة
السيجارة فى يدها .
يمر شريط الذكريات سريعا فى رأس هدى ،ليصل بها إلى المشهد األخير بعدما حشرها القدر بين
عوامل تتسابق كلها إلى شقائها وكان أشدها وطأة على نفسها ما تركه " نديم " من أمور لم تحسم ،
كل ما تدركه من حقائق أن ثروة زوجها كلها بين يدى "نسيم " والتى تقدر قيمتها بأكثر من ثالثة
ماليين جنيه حسب أخر أحصاء ورد على لسان " نسيم " للمرحوم نديم قبل أن يقعده المرض ..حكمها
المسبق على أخالقيات " نسيم الشرقاوى " وقلقها الشديد منه وأحساسها الكامن بأنه رجل تغلب
مساونه على حسناته سبب لها ضغطا عصبيا بالغ القسوة عليها .
لم يتصل بها سوى ثالث مرات متقطعة منذ وفاة زوجها وأن كان أتصاله األخير يحمل وعدا بتحديد
موعد للقاءها غايته يومين أو تالتة على األكثر ..مر شهر كامل ولم يأتيها صوته .أتصلت به عدة
مرات متتالية ،راوغها وتهرب منها وضاق بها ،كما حذر سكرتيرته الخاصة بعصبية :لما مرات نديم
تتصل أبقى وزعيها قولى لها أى حاجة ..سافر عيان مش موجود .
43
أصبحت فريسة لشك يتنامى كل ثانية وكل لحظة وهى تلعن الظروف وتعتب على حبيبها الراحل ،
أندفاعه بكل ما يملك لمشاركة رجل بمواصفات " نسيم " دون أن يحفظ حقوقه بعقد أو أثبات .تملكتها
حيرة وتوقعات متشائمة لمصير غامض يخبأه القدر ونسيم ؟! لكنها طردت هذه الخياالت المريضة فى
أصرار وصبرت أسبوعا بعد آخر وال نتيجة .وبعد تيقنها من أصراره على التهرب أمتأل قلبها حسره
وأثرت أن تجد سبيال أخر بعرض قضيتها على من بيده التأثير والحل كما تعتقد ،فطلبت وساطة
" الحاج قبارى" للتدخل ،إال أنه كان واضحا معها وهو يصارحها بأن عالقته سيئة للغاية فى الوقت
الحالى مع هذا الرجل وتكاد تكون مقطوعة .صرح لها بتلك المعلومة من خالل مكالمة تليفونية مبديا
أسفه الشديد عن عدم المساعدة محذرا فى نهايتها من أساليب نسيم وأالعيبه مع وعد منه بمتابعة
تحركاته وأمدادها بأى جديد حين يتمكن من ذلك .
يومان وتالت ساعات كانت هى المدة الفاصلة بين تلك المكالمة وقرار هدى الحاسم بمباغتة نسيم فى
عقرمكتبه بعد أخبارية سريعة جاءتها على لسان قبارى :ألحقى بسرعة نسيم وصل أمبارح من الغردقة
وهو دلوقتى موجود فى مكتبه .أستقبلت الخبر بحماسة و " لهوجة " فسبقت حركتها صوتها ،أغلقت
السماعة ثم شكرته !.
أندفعت متحفزة تتخطف مالبسها ترتديها وهى تدور حول نفسها فى غرفتها قبل أن تنطلق خارجة من
الشقة وكأنها فى مهمة لضبطه متلبسا .
نصف ساعة كانت كافية لتصل وتستقر قدميها عند أعتاب مكتبه لتواجهها سكرتيرته المحشورة داخل
بلوزة وبنطلون جينز تحبس فيهما شياطين دائما ما تكون على أهبة األستعداد للخروج بأشارة من
صاحب المكتب ،سارعتها بسؤال مباشر عن وجود نسيم ،لم تنتظر منها أجابة أو تتيح لها فرصة
ترتيب أى رد بعد أن ضرب األرتباك مالمحها اللعوب .حاصرتها :أنا أتأكدت قبل ما أجى أن نسيم بيه
موجود جوه فى مكتبه وياريت تبلغيه أنى عايزة أقابله .قالتها ثم تحسست بكفها كتف السكرتيرة
ثم أردفت :وال تحبى أدخله على طول .تحركت األخيرة فى بطء ورددت كالمغلوب على أمره :
أل أستريحى حضرتك وأنا حأدخل أبلغه .غابت لدقيقتين ثم خرجت بعدها رافعة حاجبيها متصدرة جزءا
من الباب واضعة يدها فى خصرها تهز ساقها على واحدة ونص :أتفضلى يامدام ..مرت أمامها تتأملها
دون رد .
44
دخلت مرهقة ..هب واقفا يرحب بها .تهالكت عند أول مقعد ،أشار لها بيده أن تجلس على مقعد مقابل
ليتدبر أمره معها ،أو لتتدبر أمرها معه ،تناول فنجان القهوة من على مكتبه ،رشف منه رشفة وهو
ما يزال واقفا ،ثم أستوى على كرسيه الجلدى خلف مكتبه وبدأ يداعب شاربه األشيب بينما بقيت
صامتة إلى أن بدأ هوالحديث وقد بدت على شفتيه أبتسامة القط يداعب فأرا :معلش يا مدام هدى
سامحينى أتأخرت عليكى شوية ..بس حنعمل أيه األيام بقت صعبة ومايعلم بيها إال ربنا .أبتلعت ريقها
بصعوبة تصحبها تنهيدة :كان اللــه فى العون يا نسيم بيه .رمش بعينيه فى مسكنة :نديم اللــه
يرحمه أرتاح من الدنيا وأرفها .رمقته بنظرة قلقة وقد توجست شرا من حديثه :أنا عايزة أعرف
حقوق نديم اللى عندك ألنى بصراحة مش فاهمة حاجة و ياريت تنورنى وتفهمنى عشان دى فلوس
يتامى .كان يمر على كلماتها يعى معناها على الفور ،فاألمور واضحة .هى تريد حق نديم كامال .فتح
ملفا كان بين يديه يحاور األوراق ويداورها ومرت فترة صمت ،تعمدت فيها هدى إال تعيد نفس السؤال
بالرغم من الحيرة والرغبة اللتين كانتا مطوقة بهما لتعرف رده ،و ما أن رفع عينيه إلى وجهها أرتد
للوراء متحاشيا نظراتها المتساءلة وقد أنفرجت شفتاه عن أسنان مضمومة فى عنف :الملف اللى فى
أيدى ده يا مدام فيه كل كبيرة وصغيرة تخص شغلى مع المرحوم والنهاردة حيبدأ األستاذ منصور
المحاسب مراجعة الملف كله وبكتيره يومين وحتعرفى كل حاجة بالمليم ..ما تقلقيش يا مدام .
كانت نظرتها الممتدة تتحدى حركة عينيه المرتبكة ثم تنهدت وهى تنهض فى بطء قبل أن تعثر على
نبرة لم تتداولها من قبل :ماشى يا نسيم بيه ماجتش من يومين .قالتها بلهجة تهديدية .
ــ ما يصحش تقومى من غير ما تشربى حاجة .لم تتبدل نبرتها :معلش نأجلها كمان يومين .
عقب عودتها من مكتب " نسيم الشرقاوى" تغيرت طبيعة األمور فوضحت بعض النقاط ،وعلى النقيض
أصبح بعضها مدعاة لبلبلة األفكار أكتر من ذى قبل .كان فكرها يتنقل على رؤوس األسئلة التى تدور
فى رأسها فى سرعة فائقة وال تقف على أى منها وقفة تمكنها من أستيعابها وتخزينها ،أنتابها ذلك
األنحراف المزاجى الذى يشعر به األنسان عندما تضطره الظروف إلى الغوص فى حالة الحزن واألسى .
دخلت غرفتها صامتة .ظل الصمت قائما ،فأكرهت نفسها على الجلوس على طرف السرير وأستمر
صوت طحن أضراسها غير المجدى ..وجدت نفسها مطوقة بشخوصها وأحداثها ،أمتأل خيالها
بالمشاهد والصور وأيام هاربة جمعتها ،وأخرى كانت غائبة أمسكت بها فى زحمة تلك الوقائع وكل
حدث زاحم فى ذهنها حدثا أخر فى نفس الدهشة حين سألت نفسها بقسوة :كيف تساهلت وسمحت
45
لزوجها فى بداية األمر أن يبتلعه نسيم بتلك السهولة ؟ خرجت من السؤال إلى همومها األنية .الضغوط
تتزايد حدتها كل يوم ،المراسالت تكاد تكون اسبوعيا من إدارة مدرسة نورا ويوسف تستنكر فيه
التأخير فى دفع األقساط بخالف طلبات يومية متجددة تزيد الوضع سوءا وتعقيدا تدفعها إلى الكأبه كلما
وجدت نفسها وحيدة بال سند .
تمددت فى تعب تشبك يديها خلف رأسها ،وعيناها تحدقان الى السقف ،ترمش فى بطء ،تحتمى من
ذكرياتها بأنتكاس الرأس ،قبل أن تديرها للحائط تحدق فيه بعينين محترقتين بعد أن لفت نفسها جيدا
بالبطانية وجمعت تحتها نهديها فى أصغر مساحة ممكنة .
ظلت أيات على حالها فى غرفتها أسيرة أوجاعها وأزماتها ،تتابع مايجرى فى حياد ،ليس فى حياد
فقط ،بل فى أهتمام قارىء يتابع حبكة رواية يريد أن يعرف إلى أين تنتهى ،لم تعد تحس بالمصيبة .
أغمضت عينيها فى قساوة تحاول فصل نفسها عن الخارج ،كى تستسلم لجوانية داخلية تعيشها بعد هذا
الوقت العصيب الذى أصطدمت فيه براءة قلبها بنذالة البشر وأحتك أرهاف حسها بسوقية العالم ،
فعرفت كيف تنكمش إلى نفسها وأصبحت ال ترجو من العالم شيئا بعد أن كونت لنفسها عالما من
صنعها ،فكانت نبرتها محايدة وباردة وال تعلن عن أى حس يقتضيه الموقف ،حتى أبدت هدى أستياءا
وتذمرا أنعكس فى لهجتها التى أنفجرت منها كاللغم :حرام عليكى ياآيات سيبانى أتلطم فى الدنيا لوحدى
عشان أجيب حق أخوكى اللى مات وأنتى مكبرة دماغك وكأن المال اللى عند نسيم مالكيش فيه نصيب ،
ساعدينى وأعملى أى حاجة ..كلمينى شورى على ما تسبينيش كده لوحدى غرقانة ..جاء ردها كمجرم
يقر بجريمته :أنا مافيش منى فايدة ياهدى أنا أنسانة ميتة منتهية ،ال بأيدى أساعدك وال حتى أساعد
نفسى ..أعذرينى وسامحينى .قالتها قبل أن تنسحب الى غرفتها ..المراقب يدرك أنها سلبية أكثر من
الالزم .غير أن داخلها حزنا عنيفا عندما تلوذ بغرفتها .كان هياجها على فراق شقيقها من الهوس .
حيث أن كلمات كثيرة كانت تمثل أحيانا على شفتيها فى نفس اللحظة التى تخلط فيها بين األلفاظ
كالمجذوبة وفى سكون الليل كان يحلولها أن تخرج الصور القديمة من مخبئها فتتفرس فى مالمح
أخوها وتقبلها ثم تتجه ناحية النافذة وترفع رأسها إلى السماء وتحدق فى عباءة الليل مطلقة العنان
لذكرياتها قبل أن تنهى جولتها إلى ظهر مقعدها أمام البيانو ،لتحتضن أصابعها أصابع البيانو الملتصق
ببرودة الحائط ،سرت النغمات المالئكية أشبه بالموسيقى الكنسية ،تنفض بها حزنها وتسرح معها .
46
رنين جرس الباب يشرخ جدار الصمت والحزن فى شقة هدى قبل أن ينفتح فى فرجة صغيرة كانت كافية
لتستطلع " نعمة " وجوه قافلة من الجيران تتقدمهم " زيزيت " وبجوارها " سميحه هانم " فى حيازة
زوجها "خيرى" وفى الخلفية منهم دكتور " كرم اسباستيان " ومن وراءه " نوح البواب " كأنه ظال
معتما .انزاحت نعمة للوراء ومعها باب الشقة فى أشارة منها ليتقدم الضيوف تزامنا مع خروج نورا من
غرفتها متزعمة أخوتها لتستكشف الداخلين بينما أنفجرت فرحة مبالغا فيها أصابت بسمة عند رؤيتها
للضيوف ،فهى نادرا ما ترى بشرا غير الساكنين معها ،أما يوسف فأنفرجت أساريره برؤية الخواجة
كرم فى حين أبتسمت نورا أبتسامة مبتورة منكمشة بعدما أنتهت من فحص الوجوه كعادتها ،فبالرغم
من كونها مازالت بالصف الثانى األعدادى بمدرسة " ماريا أوزيليا " إال أنها تملك حضورا قويا ولها
" كاريزما " من نوع غريب ،لها طريقة كالم مميزة سريعة ومنتظمة أضافت عليها حكمة ال تتناسب
مع سنها ،وكثيرا من األحيان أستسلمت أمها ألرائها التى تخص نظام البيت وشئونه .
قالت " نعمة " بعد أن أغلقت الباب وهى تقودهم إلى الصالة :أهـــال وسهال أتفضلوا فى الصالـــون ..
بادرها نوح :كتر خيرك يانعمة ..فى حين أنحرفت " زيزيت " بأتجاه نورا تضع قبلة على خدهــــــا :
ماعدتيش عليه ليه النهاردة فى األتيليه .نكست عينيها دون رأسها :عشان أنا زعالنة منك
ياطنط حضرتك وعدتينى أنك حتعلمينى أزاى أفصل شورت لأللعاب .أنحنت تستقبلها بين ذراعيها :
أوعى ياحبيبتى تزعلى منى أنا أتفقت مع ماما لما تخلصى األمتحانات حتبقى معايا فى
األتيليه ليل ونهار و حأعلمك تفصيل كل حاجة ،مش أحنا أتفقنا يانورا نبقى أصحاب .تهز رأسها مع
أبتسامة :صح يا طنط .
و ما أن أطمأن بهم المقام فى الصالون المطل على الصالة ببهائها وضوئها الصافى القليل يتدفق من
األركان .جلسوا ثالثتهم على كنبة الصالون الذهبية ،خيرى فى الوسط بجسده الفارع يحاصره من
الطرفين كرم ونوح بينما فى مواجهتهم سميحة هانم بجوار زيزيت فى حين ظل خيرى محبوسا فى
مقعده يتأمل شاردا كعادته كل ما هو عتيق ..مشى ببصره بأتجاه النافذة قوسية السقف المحفورة عميقا
فى الجدار ثم إلى الستائر البيض المطرزة حفرا التى تعود لزمن القصور ـ ورث متداول عن األجداد ـ
تعبره قشعريرة دائما ما تصيبه عند رؤيته لتلك النماذج القديمة ..أحتوته تلك العصور وصار شغوفا بها
وحلم كثيرا وتمنى لو عاش فى رحابها يوما .
47
دقائق وكانت "هدى " ماثلة أمام أعينهم بوجهها الرقيق وثيابها السوداء وشعرها الملموم والخصلة
المتمردة على جبينها تطل على عينان غائرتان تلمعان كبقية ماء فى قاع بئر ،بعد أن فرغت "سميحة"
من عناقها تسلمتها زيزيت ومن قبلهما كلمات مواساة وتشجيع تناثرت على ألسنة خيرى وكرم ونوح .
وما أن أنتهت المقدمة الواجبة حتى أحتلت حكاية " نسيم الشرقاوى" صدر الحديث وتمطت هدى فى
تفصيالتها وأحتماالتها .كانت عصبية وحركاتها مضطربة .شعر الموجودين بأن األحداث تفوقها وأنها
األن تتوقع المصائب كلها و التستشعر قوة للمقاومة وال حتى محاولة للفهم .
لم تكن هناك حاجة لتوجيه أسئلة كثيرة لها ،كان يكفى تأملها وهو ما طبقه خيرى الذى تفصله عنها
منضدة منخفضة ،كان شغوفا لردها وهو يراقب كلماتها المحملة بالمخاوف والشكوك وتجعل جسدها
يرتجف غير قادر أن يثبت فى مكانه ،حاول أن يستند بظهره للوراء كى يتمعن فى مالمحها ،إال أن
حصار كرم ونوح لم يمكنه ،فتابعها وهى تنتقل فى حديثها إلى ذكرى " نديم " و ماتركه لها من مصير
أصبح بين يدى اللـه ثم يدى " نسيم الشرقاوى " أحس بها تنأى بنفسها بعيدا عن عيونهم وقد سرحت
بذراعيها على فخذيها فى حين ألتزم الجميع الصمت أحتراما ألساها بينما توجه خيرى ـ بجوارحه كلها ـ
منصتا حتى شارفت على األنتهاء ،فأعتصرت كل حكايتها فى جلستها ،سمعت فيها قلوبهم تضج
بالحزن حتى كبر األسى فى وجوههم ..بدا واضحا أن هدى ال تحكى وانما تخاطب ذاتها أو تلقى من
فوق كتفيها أحماال .المفاجأة على وجوه الموجودين كانت أكبر من أستياءها ،مخاوفها من " نسيم "
أثارت ذعر كل من تطاول برأسه ليفهم .
أراد " الخواجة كرم " أن يكون أول المعقبين وكأنه يريد األفصاح عن شيىء مختلف :من رأيى يامدام
هدى أنك تاخدى معاكى محامى شاطر لما تقابليه فى الزيارة الجاية وما دام هو راجل ألعبان يبقى الزم
يالقى اللى يالعبه ! ..تطلعت اليه بنظرة تراوح ما بين الدهشة واألستنكار :محامى أيه يا دكتور كرم
ده ما فيش مستندات وال أوراق رسمية بين المرحوم وبينه.
بعد أن تمكن من لملمة تفاصيل لقاءها األخير مع نسيم ،عقب خيرى فى صيغة تساؤل :متهيألى الزم
يكون عندك حلول جاهزة ..الراجل ده ممكن يفاجئك بأى حاجة !! ..قالها وهو يقرب وجهه من وجهها
الذى تصرخ فيه تعاسات وعذابات ،عدلت من وضع جسمها قبل أضطرارها لألنحناء فبرزت مفاتن
وجهها رغم قنوطها وأفصاح عينيها الشاردتين عن حزن وقهر ال قرار لهما ،وبعد سكتة قصيرة :ما
ينفعش يا أستاذ خيرى أفكر فى حلول و ال أستنى مفاجأت الحل الوحيد أنى أجيب حق والدى بالكامل ما
48
ينقصش مليم واحد ونديم مش حيرتاح فى قبره إال لما أجيبله حقه من الراجل ده .كما شارك " نوح "
قبل أن ينحنى محتضنا قاع مقعده بنبرة قدرية :معلش ياست هدى دى أرادة ربنا وحكمته وده أختبار
وإن شاء اللـه كل حق الزم يرجع لصحابه .قالها بصيغة تسليم وأذعان بينما راحت هدى تتعقب أرائهم
وأقتراحاتهم فى صمت وبدا وجهها كما لو لم تعبره طوال عمرها أبتسامة واحدة ..بدا قاحال لدرجة
الفزع .أدركت زيزيت مدى العذاب الساكن فى كيان صديقتها برغم تظاهرها بالهدوء ..أثار المشهد فى
نفسها صورة قديمة عصرت قلبها ،لعلها تذكرت لحظة وفاة والدتها وربما معاناة الوحدة بعد طالقها ،
فبدت متوترة حتى أن عظام كتفيها لم تكن لتلمس مسند مقعدها وتأهبت ألنفعال داخلى وهى تسترق
النظر إلى عينى هدى ،تقرأ فيهما ذلك النداء األسترحامى الذى يأتى من بعيد ،قد تكون فى حاجة إلى
معونة أو لمعجزة و ربما ترجو أن تترك وشأنها فى خضم مشاكلها ،فعقبت بنبرة حزينة و تقطيبة
على وجهها تحسها وال تراها :ما تقلقيش يا هدى وال تخافى وخلى أرادتك قوية و أوعى تستسلمى ده
حقك وحق والدك وخليكى فاكرة أنك أنتى اللى علمتينى أزاى أبقى قوية وأتحمل و ماأتكسرش .تنهيدة
مرتعشة :ربنا يستر يا زيزيت ..أنا كل قلقى وخوفى أنه دايما بيتهرب منى ومش قادرة أفهم ليه ؟
قاطع نوح قبل أن يهرش فى ركن شاربه :ياست هدى ما دام بيتهرب منك تبقى نيته مش كويسة وأكيد
بيدبر لحاجة .كلماته أتاحت لخيرى أن يستخلص أستنتاجا :لو فرضنا أن نسيم بيتهرب منك فعال يبقى
أكيد وراه سبب و أحتمال يكون ماعندهوش سيولة وبيحاول يجمعلك المبلغ ..أو صمت ثم عاد :أو
بيخطط لملعوب .أومأت هدى أهدابها باأليجاب :هو فعال يا أستاذ خيرى الراجل ده مش سهل ومش
مريح وأكيد بيخطط لحاجة وبيدبر لشر .تنحنح كرم وكأنه يكرر سؤال يجول فى خاطرها :راجل زى
نسيم الشرقاوى ممكن تفكيره يوصله لحد فين ؟ .
ـ ده راجل زى التعبان وضميره ميت ويسمحله بأى حاجة .راقب خيرى حركات يديها الناطقة بأقصى
درجات األنفعال الذى أنتقل إليه كالعدوى :أنا مش قادر أصدق أزاى نديم اللـه يرحمه حط نفسه فى
مصيدة راجل بالطباع دى !! ..هزت " سميحة هانم " رأسها حاملة ما يشبه الخوف بالرغم من أنها
كانت أكثر منهم حيرة وأعتصاما بالصمت إال أنها تصنعت التفاؤل :إن شاء اللـه ربنا حيقف معاكى
والملعون ده حيرجعلك حقك وحق والدك ..قبل أن تنهى جملتها كانت بسمة قد أنفلتت من قبضة
" نعمة " فى لحظة مرورها من الصالة الى الصالون ناحية أمها ،تشبثت بها وحشرت رأسها فى
صدرها فمالت تطبع قبلة على خدها قبل ان تباغتها بمالحظة :أنا مبسوطة منك يا ماما عشان أنتى
مش بتعيطى زى كل يوم ! ..ربتت على ظهرها وهى تجاهد اال تستسلم لدموعها التى غصت بها .
49
أختنقت وأنتزعت نفسها لتنهض بينما لم تستطع " سميحة هانم " مقاومة البكاء ،فخرجت دمعتين
وحيدتين غلبتاها وأفلتتا ،فدفعت زوجها إلى تعليق أخير وهوينهض من مكانه يتبعه األخرون وقوفا :
ماتخافيش يا مدام هدى أحنا كلنا معاكى ولو الراجل ده مارجعلكيش حق والدك أنا حأقلب عليه الدنيا
مهما كانت قوته ونفوذه بس المهم أجمدى وأصبرى ولو فيه أى حاجة محتاجاها أحنا كلنا أخواتك .
كانت لحظتها بحاجة فقط الى شيىء من التعاطف واألحساس بمأزقها وقد فعلوا ذلك كله وفاض عنها
بأريحية .
لم تصب الصور بالوهن بل راحت تجرى ببطء فى ذهن هدى فى حلكة الليل وهى على حالها ممددة على
سريرها الحديدى فى العنبر .
مرت مهلة اليومين التى قطعها نسيم على نفسه لمراجعة األستاذ منصور المحاسب ،فأستطالت وتمددت
األيام أسابيع ومن ثم شهور ،لم تهدأ هدى خاللها ،لم تنتظر ردا أو تبريرا من سكرتيرته حين كانت
تداهم المكتب بزيارات مفاجئة ومتكررة وان كانت على يقين بأنه خارج البالد بصحبة زوجته فى رحلة
عالجها بسويسرا ،رغم ذلك أعتادت أقتحام حجرة مكتبه وتفتيشها ومسح المكان كله بحثا عنه ،حتى
بات األمر أعتياديا بالنسبة لـ" زيزى " السكرتيرة وعامل البوفيه .
أصبح األمساك بنسيم بالنسبة لها كالزئبق ،ما أن يأتيها خبر وصوله ليال حتى يتسرب فى بواكير
الصباح مرتحال إلى الغردقة يتابع مشاريعه الفندقية التى بدأها منذ شهور .
أمعن الزمن فى أهانتها ومحاصرتها ،مصاريف نورا ويوسف المتزايدة وما تتطلبه المرحلة األعدادية
من تكاليف تزاحمهما مرحلة األبتدائي وبطلتها "بسمة " التى ال تمل وال تكل عن طلبات الطفولة بخالف
بنود رئيسية للحياة اليومية وكثيرا من المستجدات التى تظهر فجأة دون مقدمات .
حين تلقفت آذانها خبروصوله من الغردقة فى أجازة خاطفة ،لم يستغرق األمر منها وقتا لتباغته فى
مكتبه قبل أن تقطع المسافة إليه رافعة شعار الفرصة األخيرة مصحوبا بجراح وديون وقنابل موقوتة
من الكبت والغضب ..تدق األرض بقدميها فى عنف يهتز لها شعرها الملموم خلف رأسها فى عصبية
ومالمح منقبضة ونظرات حادة تخرج من عينين أحاط بهما السواد ..تحتلها قوة خفية تستبد دوما
بتفكيرها المنظم وتخطيطها المتقن ،تنذرها فى تحد مستفز بأن هناك شيئا غامضا مجهوال لم تضعه فى
حسبانها سوف يقلب كل مخططاتها رأسا على عقب ليجعلها تعيش زمنا طويال كعشوائية .
50
أقتحمــت المكان كالعادة قبل أن تلحظ عدم وجود سكرتيرته على مكتبها ..فاجأته على
طريقة الكوماندوز ،كان نسيم مطروحا إلى الوراء فى وضع مبتذل ،يدخن " البيب" فى أنفاس قصيرة
شرهة .لحظة دخولها راح يفرغ بعض من غضبه فى الضغط على الزر الذى يستدعى به سكرتيرته
ببأس شديد .تماسك .ذاب غضبه ..تبعثر وتراجع حتى تبدد وتالشى حين أطل بعينيه على وجه هدى .
قبل أن يعاوده الغضب عندما دخلت سكرتيرته بأبتسامة أرتخى فيها كل غضبه قبل أن يطالها األرتباك
عند رؤية هدى .محاوال التخلص منها :تقدرى تمشى دلوقتى يازيزى .تتمايل كراقصة :مش حأستنى
حضرتك ؟ ..
ـ أل أنا لسة قدامى شوية .فى طاعة تهز رأسها وتنصرف ..يشير " نسيم " لهدى بالجلوس ،مال نحو
درج مكتبه وأخرج ذات الملف الخاص بأعماله مع " نديم " كما أدعى .قبض على الملف بكفيه كمن
يهم بأخذه لصدره .طرحه أمامه .بينما كان السكون يلف المكتب فى كفن من التلهف والترقب .يمر
بأصابعه على صفحات الملف ،ثم يرفع عينيه نحوها وقد خصها بأبتسامته كأنه سلطان أصابه السأم .
فى قرارة نفسه لم يكن يريد أن يعطيها ما ترجوه و لكنه كان يريد أن يزرع فيها ما أستقر فيه ،أراد أن
يجعلها تقبل ما سيمنحه لها فقط .يلعب معها لعبة يتقنها دائما .يدفعها الى األقتناع والقبول ،لتظل
تقبل جزءا من بعد جزء ،حتى يصبح قبولها تسليماطوعيا ،وال مفر منه .
قرأ الملف بسرعة تحت أنظارها المترقبة ،وكان كلما تقدم فى قراءتهه زادت دهشهتها .أسهتمعت بدقهة ،
كى تفهم ،أستنفرت كل حواسها كهى ال تقهع فهى فهخ أو مصهيدة .لهم يبهق األن فهى المكتهب سهوى مشههد
متوتر حقيقهى .كهان يهدرك مهن طري قهة ههدى فهى طهرح أسهئلتها أثنهاء تالوتهه لسهطور ههذا الملهف ،أنهها
ال تشههجعه أبههدا علههى األجابههة والجههدال معههها أو أقناعههها بمهها يريههد لههيس بههاألمر السهههل .أنههه وحههده يملههك
الجواب .جاءت نهاية قراءته للملف المشئوم مصحوبة بأداء حركى حين أنهتفض واقفها وقهد قهرر جهالء
هذا الغموض دفعهة واحهدة :يبقهى أنتهى لكهى فهى ذمتهى تلتمايهة وسهبعين ألهف جنيهه .قالهها بتعهالى وقهد
أكتفى بمظهر يليق بسيد كريم أعتاد السخاء و كأنه ينزه نفسهه عهن أى مسهاومة .مها أنتههى مهن جملتهه
حتى أهتز ما فى وجهها من لحهم وههى تطلهق ههذه العبهارة كأنهها صهرخة أحتجهاج يمازجهه فهزع عظهيم :
تلتماية وسبعين ألف جنيه ..حرام عليك أتقى اللـه ده أصل المبلغ لوحده تالتة مليون جنيه وأكتر .فى
جلسته وهو ينقل نظره بين أرجاء مكتبه متجهما :ياهانم أنها مهش حرامهى والمبلهغ ده ههو حقهك بالتمهام
والكمال .ثم أستند بكفيه على مكتبه .يكمل :عاجبك تأخديه أهال وسهال مش عاجبك اللى تقدرى عليهه
أعمليه ..لكن أنا ماعنديش كالم تهانى أقولهه وكلمتهى واحهدة ياههانم .شهعرت بنفسهها تتكسهر تحهت وقهع
51
كالمه المستفز ،يحاول تمرير كلماته إلى عقلها ،فيحدثها عهن أشهياء مكهررة كثيهرة ومختلطهة ،نظهرت
إليه بعينين مملؤتين دموعـا سخينة وبكلمات متقطعـة بههاجس األمنيهة المسهتحيلة :حهرام عليهك يانسهيم
بيه ،أنا عايزة فلوس جوزى كلها ..نديم اللـه يرحمهه مها كهانش بيخبهى عنهى حاجهة وكهان مفهمنهى كهل
سفرية بتكسب كام والكونتينر الواحد بعد مصاريفه بيكسهب قهد أيهه ،أعمهل معهروف دى فلهوس يتهامى .
كانت تتحدث بال توقف .الكلمات التى تنطق بها تبدو وكأنها أتية من مكان بعيد جهدا ،مهن زمهان أخهر ،
فما هى إ ال ذلك النوع على شاكلة :ربنا بيحرم أكل مال اليتامى وضميرك حيأنبك طول العمر وعمر ربنا
ماحيباركلههك فههى أبنههك وال فههى مراتههك ..الههخ الههخ .كلمههات يمكههن أن يحسههبها المههرء دعههاء يتلههى ،تجلههى
األنفعال فى نبرتها ،تحاصره بمجموعة مصطلحات تلسعه والتكف عن مالحقته وتعذيبه .تعب األنفعهال
فـــــــى حنجرتها ،هدأت و تريثت أمال بسماع تعليق يصدر عنه ،ظل مالزما أصغاءه بكياسهة مدروسهة
.تجلد وتجاهل ..فى حين خهيم صهمت مشهحون بهالتوتر ،وخهالل فتهرة الصهمت تعمهد أن يشهغل نفسهه ،
أزال ب ظفر أبهامه قشرة جلد فهى أحهد أصهابعه ،رسهالة منهه بالآلمبهاالة بينمها عهادت " ههدى" إلهى نفهس
كلماتها تستحثه فهى الحهاح .ضهاق بهها فغلهب عليهه الكهدر حتهى غهص بالغضهب ،فأختهار عبارتهه بعنايهة
شديدة ،كانت بلهجة تهديدية ومالمح صارمة :أنا مش عايز أسمع كالم تانى ومش عايز مسكنة هو ده
حقك وما فيش مليم واحد زيادة عن المبلغ اللى قلته .قابلت تهديده ببكاء أشبه بالنحيب ،حينما أيقن أن
رسالته قد وصلت وأن المتلقى فهم تماما وأستسلم ،أنتقل بعدها إلى لهجة أخرى تقضى على أخهر قهالع
األحتجاج أو حتى المجادلة :أنا قلت لك يامهدام أن كلمتهى واحهدة ودلهوقتى حأكتبلهك شهيك بهالمبلغ وأنتهى
حرةولههو لكههى جنيههه زيههادة عنههدى أبقههى روحههى أثبتيههه .فلمهها سههمعت جملتههه األخيههرة رجعههت إليههها قواههها
وتجلدت ،وكانت الزاوية القاسية من فكها المثنى على مرارة تضهفى علهى وجههها كلهه دربها مهن العنهف
والقسوة مهددة :أسمعنى كويس يا نسيم ياشرقاوى ..حقى كله حأخده منك على دايرمليم ولو فاكر أنى
لقمة طرية وممكن يضحك عليها ..أل ..أوعى عقلك يقولك دى ست وحدانيهة وضهعيفة تبقهى غلطهان يها
نسيم بيه واأليام بينا .كان يمكن لها أن تنتظر أو أن تتفهاوض لهو لهم يسهتدعها بكلماتهه الوقحهة وعينيهه
األشد وقاحة ذات النظرة العدائية التهى تسهوط كهل قطعهة تبهرز مهن ثنايها الثهوب ..حهين رفهع فهى وجههها
سبابته :أتفضلى أطلعى بره وماتجيش هنا تانى .وقفت فى جمود يمتلىء بكل مكونات األنفجار :يعنهى
أنت ح رامى وكمان بجح وبتطردنى ..أيه الجبروت ده .قالتها وأنهدفعت نحهوه بقهوة ،فلمها بلغهت مكتبهه
لم تسمح للعقل أن يبدأ سيطرة حازمة على النفس ،لم يكن فى وسعها إال أن تشبعه بسهيل مهن الشهتائم
واللعنهات ،تصههدى لههها بصههفعة قويهة علههى خههدها ذات صههدى أطاحههت برأسهها ونظراتههها بعيههدا عنههه حههين
52
أفترش وجهها سطح المنضدة الصغيرة المالصقة لمكتبه .كان قهرها هو الذى يحرك المشهد كى يوغل
فهى فجيعههة تجمعههت عناصهرها ،لتنسههج خيههوط مأسههاة قادمهة ال محالهة عنههدما رفعهت رأسههها التههى عانقههت
" فازة الورد الكريستال " الموضوعة على المنضدة ،قبضت عليها بأصابع متشنجة ،فاذا به فهى ههذه
اللحظة التاريخية يهتز أهتزازا عنيفا على أثر ضربة هائلة بالفازة هوت على رأسه ،تليها ضهربة ثانيهة
أنقطعت من هولها أنفاسه .فأنكسر طوله وسقط على األرض وتكوم أمامها فأنقضت عليه تشبعه صهفعا
بهيستيرية كهالغريق الهذى يجهدف بيديهه .بهرزت قطهرات ضهخمة مهن الهدم خرجهت بهبطء مهن رأسهه .لهم
يتحرك ،أصبح ال يحاول أن يتقى الضربات ،بات مقتنعا بأن كل أحتجاج ال يجدى وان كل حركهة يحهاول
أن يقوم بها دفاعا عن نفسه لن تنفعه .ثم نزلت النهاية نزول الصاعقة ،فأستسلم ميتا .
دوت أنتحابات هدى وتحولت إلى نداء حار تجاوزت حجرة المكتب وهى جاثمة على ركبتيها أمام كتلة
اللحم الممددة وقد غابت مالمحه تحت بركان الدم النافر من كل زوايا رأسه المهشمة .
ــ عايزة حق نديم ..عايزة حق والدى ..قوم رد علي ! ..صرخاتها المجنونة أنفجرت أقوى من الضجة
والجلبة التى جاء بهما رجال الشرطة ،قبل أن تمتأل حجرة المكتب بجيران " نسيم الشرقاوى " فـــى
نفس الطابق مـــن أصحاب المكاتب وموظفيها وعمالها الذين تزاحموا وتجمعوا فى دائرة مضطربة
مهتاجة عقب سماعهم تلك الصرخات التى أعقبت سقوط نسيم صريعا ..صدمة ..همهمات ..الجميع
يتكلم فى آن واحد .
بدت لينة تائهة مذهولة تتقاذفها أيدى رجال األمن الخشنة وهم يقتادونها فى موكب تخبطت داخله
قدميها وهى تجر من كتفيها ..كانت فى حالة بين اليقظة والحلم وخيل لها أنها أصبحت فى هوة عميقة
ولم يعد لها مناص من الفرار منها .
بدأت رحلتها السيئة الكئيبة وهى التزال تعيش مرحلة األفاقة من وضع لم تفهم بعد كيف دخلت إليه
ومتى ستخرج منه .كان أول بند فى برنامج رحلتها الكابوسية هى غرف الحجز ثم التحقيقات
المتواصلة ومنها إلى بدرومات األقسام المظلمة التى تفوح فيها رائحة البول الالذعة ورائحة العرق
العطن المنبعثة من أجساد نساء لم يعرفن األغتسال شهورا .عرفت أنماطا من البشر ال تخطر لها على
بال ،بل تشككت أصال من أن تلك الكائنات كانت تعيش بيننا ؟ .
53
أفاقت أيات على واقع لم تتخيل أن تعيشه يوما ،كان هو نفس األحساس الذى سيطر على عقل وقلب
أبناءها ،وأحتلهم اليأس وتحقق لديهم نفاذ الحيلة ،ولم تعد لديهم باب يتوقعون منه فرجا .وزادت
مصيبتهم كبرا أنهم لم يكونوا يستطيعون البكاء وال الندب ،من هول مصيبتهم !! .
جوالت تلتها جوالت فى المحاكم ،تأجيالت ثم أستئناف مع بعض الوعود والحركات والفزلكات التى
أداها " أحمد السباعى " محامى هدى الذى أشرف على أنتدابه وسداد أتعابه كامال " زيزيت " والذى
جاهد فى مرافعاته أن يأخذ القضية إلى سكة الدفاع عن النفس ،حيث برر مقتل " نسيم " بأنه محاولة
من المتهمة للدفاع عن نفسها من موت محقق على يد المجنى عليه ..شاركه فى أثبات تلك النظرية
شريكه فى الدفاع األستاذ " برهامى " محامى أسرة " سميحه هانم " والتى تحملت أيضا كل أتعابه .
جاء يوم النطق بالحكم ..كانت هدى تنظر إلى القاضى من خلف القضبان داخل قاعة محكمة جنايات
األسكندرية حيث أنتبهت إلى عينيه ،كان أضطرابها يشتتها ويسحبها إلى أستعطافه .جاءت كلماته حين
ذكر الواقعة وتاريخها وأسم المتهمة والمجنى عليه قبل أن يرتفع صوته فجأة كى تصل ألذانها أهم جملة
فى حياتها :حكمت المحكمة حضوريا على المتهمة " هدى عبد الفتاح أسماعيل " بالسجن خمسة عشر
عاما ..رفعت الجلسة .
كان المشهد بالنسبة لها ال يعنى شيئا إال أنفجار رئسها باألسئلة وأن تبتلع روحها كل بحار الدهشة قبل
أن ترسل نظراتها المفزوعة فى كل األتجاهات ودون تركيز ..أحست بالفجيعة ألن المصير قد تقرر
وما عاد هناك مجاال للشك .
حان وقت الرحيل ،أصطفت السجينات ومن حولهن ضباط وعساكر ،ظهرت سيارة " البوكس "
الزرقاء التى أستدارت ثم أعتدلت حتى أصبح بابها الخلفى أمام باب الحجز بينما وقف الحراس فى
صفين ليمر بينهما المطلوب ترحيلهم ،صعدن السجينات وصعدت هدى مع الصاعدين .كانت مقيدة
اليدين منحنية وملمومة على نفسها .ألتفتت برأسها تمسح المكان وعيناها تطرفان من نور الشمس
حين توقفت عند الدرجة األخيرة قبل أن تدلف إلى داخل البوكس تودع أوالدها وحريتها .
فى اللحظة األولى لدخولها السجن وحين مرت داخل أسواره ،راحت هدى تتحسس حجارة السجن
وكأنها تبحث بينها عن حجر يستجيب لدفعتها ،ويترك لها ثغرة تنفذ منها ،ولكن كان كل شيىء متينا
وصلبا ومغلقا ،وبدا الباب الكبير وباب العنبر والشبابيك ذات القضبان الحديدية وكأنها فتحات حصن
54
مسدود .باتت يومها األول مسكون بالهلوسات ورؤى قاتمة ،تنهض كلما أشتدت المحنة ،األحساس
بالغربة يزحف على جسدها كالهواء البارد .يمزقها الحنين إلى أوالدها ..إلى حياتها ..إلى غرفة
نومها .تطبق جدران العنبر الكالحة على روحها ..خارت قواها وألقت بنفسها على السرير وأستغرقت
فى البكاء ،والسرير الحديدى الصدأ يئن تحت جسدها ..أغمضت عينيها كأنما هى تريد أن تحذف العالم
من حولها ..ضغطت جفنيها تعتصر دموعها حتى جفت ثم طافت بعيناها تكنسان العنبر ،كانت تتفحص
الموجودين واحدة تلو األخرى وكأنها تبحث فيهم عن سر الحياة .هن يعشن داخل جدران :هل هم
أحياء أم أموات ؟! ..تساءلت ثم تنبهت ..فهذه اللحظات هى قول الفصل ،فأما تنهار وتستسلم أو
تتجاوز .ال حل وسط .فكانت البداية ،تصحو وتتذكر ،وأحيانا تغيب عن الواقع بدنيا األحالم بعد أن
تحققت من األحباط وأنقطاع األمل .
بعد فترة لم تطل حزمت أمرها وقررت إال تستسلم .وبدأت معركتها المريرة ضد طعام السجن والنظافة
ومقاومتها المستميتة فى الهروب من غيبوبة الروائح الكريهة التى تضرب مركز الوعى فى المخ والتى
تتسرب الى خياشيمها خالل زيارتها المنتظمة للحمامات ،وما أدراك ..رحلة تعذيب مؤكدة ،فأن دخلت
موت يكاد يتحقق ،وأن لم تدخل عذاب ومغص وتوتر .
تمر األيام بطيئة متشابهة .كل يوم يشبه الذى سبقه والذى يليه .ذبلت جفونها وتكسرت أهدابها غير
أنها أرادت أن تتمسك بالحزم وتتعلق بأذيال الصبر كما هو دأبها .أنها تعيش داخل السجن تجربة مريرة
وعميقة ،تتأمل زميالت العنبر وتقرأ ما فى دواخلهم ،أنماط من البشر وألوان وأعمار وأحجام وثقافات
متباينة ..عادت " هدى " من غيبتها مع ذكرياتها الطويلة بمالمح ناءت بعبء ثقيل .مضت فترة .
دون أن يصدر عنها حركة وفى عينيها مكان نضارتها القديمة بدا بريقا يداعبها فى استحياء ،يكاد
يلمس عتبة الحرية وأمل العودة .
ها هى " فايزة " فى تلك اللحظة عند قدميها مغلفة فى جلبابها األبيض كأنما هى أيضا تتحضر لمرحلة
جديدة .نظراتها فى وجه هدى بدت صورة ثابتة التتغير فى حين خرج صوت األخيرة بطيئا متأثرا :ياه
يافايزة أنا رجعت كتير أوى لسنين فاتت و كأنى بأتفرج على فيلم طويل .تنهيدة ممتدة مسحت خاللها
وجهها بكفيها .قالت فايزة التى أنتقل اليها تأثير اللحظة :حاسة بيكى يا حبيبتى ..شفت عينيكى وهى
بتضحك وشفتها كمان وهى بتبكى ..أنهت جملتها ودامت نظرتها الطويلة .ثم عادت حين أقتربت :
تعالى فى حضنى ياهدى .رفعت ذراعيها ودارت بهما حول كتفيها .قبلتها فى جبينها .غابت هدى
55
لحظة فى ذاتها قبل أن تعود إلى الحاضر فى وثبة :ميعاد الزيارة قرب يافايزة ما فيش أخبار جديدة عن
عبده ومنصور ؟ ..نفخت فى مرارة ال تتفق ولهجة المرح التى كانت تشيع فى كلماتها :عبده ..أخباره
سودة ومنيلة بعيد عنك ..على يدك أخباره بتوصلنى لغاية عندى .قبل أن ينتفض لحمها على السرير
عاودت :الراجل الناقص أبن الناقصة داير على حل شعره وكل يوم والتانى داخل فى جوازة عرفى مش
قادر يصبر أبن المفضوحة لغاية ماأطلع من هنا .تخبط بكفيها فخذيها :آه يانارى اللى يطولنى رقبته
ودين النبى لما أطلعله ألخليه هو والنسوان صنف واحد ..الصايع الضايع اللى عايش على أفايا
وبيبعزق من فلوسى .ضحكة مكتومة تخرج من بين ثنايا وجه هدى :مش يمكن األخبار اللى بتوصلك
دى هجص وأشتغاالت .
ـ أبدا " جمال النونو " الصبى بتاعى ودراعى اليمين عمره مايغشنى وال يكدب على ده عينى اللى
بشوف بيها الدنيا بره السجن .
ـ سيبك من عبده وسيرته وقوليلى منصور أبنك أخباره أيه ؟ ..تعبر وجهها غيمة حزن تشى بأن
صاحبته تخفى كمدا على شيىء جميل أفتقدته :منصور ده اللى طلعت بيه من الدنيا ده الحيلة ياهدى ..
منه للــه عبده أبن جليلة الطرشة من ساعة ما دخلت السجن ياختى والوله ضاع ،خاب فى الدراسة أبن
الموكوسة قعد يعيد فى الثانوية العامة تالت سنين وآخرتها كمل فى القهوة مع أبوه .
ـ معلش يافايزة مش كل حاجة التعليم المهم أنه كبر وبقى راجل .
ـ كانت جوازة سودة ونسلها هباب ..اللـه يسامحه اللى كان السبب .هزت رأسها ندما وحسرة حين
أردفت :آه لو الزمن يرجع تانى ؟! .مضت لحظات قبل أن تسترجع زمنها غارقة فى تواتر أفكار تروح
وتجىء ،تعيد صور أيام تباعدت ،كأنما أنفتح صندوق الدنيا تتلصص من فتحته الخشبية فى غفلة من
اللحظة ،على تصاوير تعيدها إلى سنوات قديمة تمنت لو لم تكن تعيشها .
حين زارها " خراط البنات " كما يردد أوالد البلد تجاوز عن جسدها وتركه يرعى بال ضابط وال رابط
فتكور وانتفخ كـ " الباراشوت " بال تضاريس ،إال أن خراطها اجتهد ونجح فى تشويه طباعها
و تصرفاتها قبل األوان ،فبدت عدوانية جريئة يقودها لسانا من المقاس الطويل اليرحم صغير وال يوقر
كبير ،حتى أن أبوها المعلم " عبد المقصود " صاحب مقهى البهوات فى حارة " أبن شكر " وهى تعد
واحدة من حوارى كرموز العتيقة والتى لم تطأها يوم قدم أى من البهوات منذ نشأتها ،فاض به الكيل
56
حين فاجأه أستدعاء عاجل بخطاب " مسوجر " على يد عم " جاد اللـه " البوسطجى سلمه يد بيد
للمعلم قبل أن يتناول أكراميته كوب شاى حبر وحجرين معسل بينما تالعبت العمة فوق رأسه وهو يقلب
بين يديه الخطاب :أيه ده يا جاد اللـه ؟ ..رشف دفعة كاملة من الرشفات الالهثة ثم مد بعدها بوزه
وألتقط بشفتيه المبتلتين المبسم يسحب نفسا طويال :األستاذ عبد المجيد ناظـــر المدرســة عايزك بكرة
ضرورى تعدى عليه .
ـ ليه ياجاد اللـه ؟ .رفع عينيه الحوالء بأتجاه عبد المقصود وأن طاش منها األتجاه :بنتك فايزة المرة
دى زودتها على األخر وجابت النهاية ،ضربت مدرس العربى وعضته فى ودنه وحضرة الناظر حالف
ميت يمين ما تدخل المدرسة .
ـ يابت الكلب ..قالها وحزم جلبابه حول وسطه ..وله يامسعد خد بالك من القهوة أنا رايح لغاية البيت
وراجع بسرعة ..خرج من العتبة يتوعد :على الحرام يابت الحرام ما تعتبى المدرسة دى تانى .
أقتحم شقته ،أنطلق من الصالة إلى غرفة نومه كالسهم ،أطاح بجلبابه العسلى المسترخى على شماعة
خلف باب الغرفة قبل أن يسحب من تحته حزامه الجلدى المتدلى كاألفعى ،لحظات وكان فى غرفة فايزة
رافعا ذراعه كتمثال الحرية يحرسه ضوء أصفر مصدره لمبة " تالتين واط " تتراقص فوق عمامته..
مرت دقيقة واحدة أو مايزيد كان قد أودع خاللها عبد المقصود عشر جلدات متتالية على ظهر فايزة
المتكورة عند قدميه ،جلدات لها رنين تسحبك على الفور لمشهد جلد المسلمين على يد الكفار فى فيلم
" فجر األسالم " ،إال أنها أبت أن تتحمل لسعات الحزام ،فجلجل صوتها يشدوصراخا فى الشقة منسابا
إلى الجيران موصوال بالحارة التى عانت كثيرا من لسانها وأفعالها ،فتحركت مجموعة قليلة من أهل
الحارة تدفعهم شهامة بطيئة مترددة أستجابة لنداءها :ألحقونى ياناس ..غيتونى يا أهل الحارة أبويا
حيموتنى .مرت عشر دقائق قبل أن يتمكن مجموعة من الجيران بالفصل بينهما وفض األشتباك ،تم
تجريده من الحزام وهو يردد بصوت متقطع كمن يلفظ أنفاسه األخيرة :بنت الكلب دى حتموتنى
حتجيبلى المرض ..كل يوم والتانى عاماللى مشكلة ..فى المدرسة بتضرب البنات زمايلها وبتشتمهم
وأخرتها عضت المدرس بتاعها وعلى يدكم هنا فى الحارة األسبوع اللى فات ضربت " وصفى" اللبان
وقبلها بهدلت شلبى بتاع الخضار ..قولولى أعمل فيها أيه ..أنا زهقت .ثم أندفع نحوها فى محاولة
أخرى للتخلص من األيدى التى تمنعه من الوصول اليها قبل ان يستعيد عافيته ثانية ،صرخ فى
مرارة :أمها ماتت واخواتها كلهم أتجوزوا وسابولى النصيبة دى فى أرابيزى ! ..غير أن " زوبة "
57
زوجة " حامد " الحالق أحتوته فى صدرها قبل أن تلقنه فى اذنه :بنتك كبرت يامعلم وآهى دلوقتى
بتاعة ستاشر سبعتاشر سنة جوزها وأخلص منها وتبقى فى أفا راجل يشيل همها .اال أن " حامد "
أشار إلى مالحظة :وأهم حاجة فى العريس أنه يبقى راجل أبن أبوه عشان يقدر عليها ويعرف يشكمها
وزن " عبد المقصود " كالم " زوبة " بميزان راحة البال والخالص من وجع الدماغ ،فأقتنع بالفكرة
وتحمس لها ،بينما لم تجد قبوال عند كل من لمح له ورأه مناسبا ،لم يجد تجاوبا سوى من "عبده"
الشهير بـ " الجن " فهو عربيدا فى حوارى كرموز يخطف من الخلق ما وسعه ذلك ،نصاب بالفطرة
بلطجى بحكم النشأة يجيد اللعب بالكلمات ،سجين سابق بسجن الحضرة بتهمة النصب والبلطجة .
أعتقد " عبد المقصود " فى شخصيته القوة الكافية للجمها بضخامة بنيانه وأقتنائه لمالمح رادعة حيث
يملك شعرا أكرت يغطى رأسه الكبير وشارب كثيف يعتز به يلمسه ويداعبه على الدوام كدلوعة
فى وجهه .
دخل "عبد المقصود " شقته ساحبا " عبده الجن" فى يده الذى بدا فى هيئة " فريد شوقى " فى فيلم
" بداية ونهاية " حيث السوالف تغطى نصف صدغيه ..عند عتبة الصالة .أشار إليه :أقعد ياعبده
حأدخل أجيب العروسة عشان تعاينها ..لم يسمع ردا بل رأى أبتسامة لم تكتمل خرجت من بين شفتيه
وتوقفت عند زاويتهما .
أدار " عبده " رأسه فى كل األتجاهات يتفحص كل شبر تطاله عينيه كاللص الذى يدرس المكان قبل
مرحلة التنفيذ ،بينما يفرك كفيه محدثا نفسه بهمس :دى باين عليها حتحلو وحتلعب بالجامد ياجن .
صوت" عبد المقصود " يأتيه متسلال :يابت أمشى أسمعى الكالم ،ياساتر عليكى .تقدم بها الى الصالة
يجرها من يدها ..يسحبها سحبا وهى من خلفه تسير كالمخبولة .
تتطوح للوراء يسبقها صدرها وبطنها .قام " عبده " من كرسيه فى بطء ماسحا صدره بكفه كما أعتاد
" محمود المليجى " فى أفالمه ..تتفحصه فايزة فى معاناة كمن يجلس فى حمام بلدى يشكو أمساكا ،
تعتصر مالمحها عصرا ..أنتقلت نظرات والدها من وجه العريس إلى وجه أبنته التى تعانى األرف
وعدم الرضا ،فخرج صوته يمأل المسافة بينهما :أدى ياستى العريس نقاوة أبوكى ..ده عبده الجن
ودى بنتى فايزة ..عارف يعنى أيه بنتى فايزة .أجاب عبده مرتديا قناع الخجل :يعنى بنت المعلم اللى
بيعلم األصول وكبير معلمين كرموز .قاطعه مضيفا :مش كده وبس ياجن ،فايزة دى هى األدب كله
58
واألخالق يعنى الطاعة والحنية .أنهى جملته فى أرتباك يضغط على أضراسه وهو يلكزها فى جنبها كى
يستقيم وجهها باتجاه سحنة العريس .أردف :وده عبده يابت عارفاه طبعا ..هو شقى حبتين ومزودها
تالت حبات لكن إن شاء اللـه ربنا حيهديه لما يحصل النصيب وتتم الجوازة .قالها وسكت ثم قرب
وجهه من عبده :عشان أنا ناوى والنية للـه حأخليه يشتغل معايا فى القهوة ويبقى دراعى اليمين أنا
محتاج راجل يبقى جنبى فى شغل القهوة ..ثم تحسس خد أبنته :أيه رأيك بقى يافايزة ؟ .أنكمش خدها
قبل أن يضيق صوتها :فى أيه ؟! ..أحتدت نبرته :فى عبده يابت ! الذى عدل من وقفته وشد صدره
ونفخ رقبته كالطاووس مستعرضا طوله وعرضه .
ــ ده بلطجى يابا ..زالت نفخته وأنكمشت رقبته وبدأ كالطاووس المحتضر ثم مط شفتيه :برضه ده
كالم يامعلم .أدرك أبوها بوجوب أنهاء الموقف سريعا :قوم يا عبده أتكل على اللـه دلوقتى و عايزك
تجهز نفسكو تحضر حالك و الشهر اللى جاى كتب الكتاب والدخلة وأنا حأجهزلكم أوضه هنا فى البيت
و حأفرشها أحسن فرش وأبقى عدى على الليلة فى القهوة .
لم تكن تستطيع أن تقف فى وجه حماس والدها الذى انتقل اليها وقادها إلى هذا المصير ،فسقطت
خاضعة ألوامره بالزواج من " عبده " قبل أن تفقد القدرة حتى على القلق أو التفكير أو التردد بعد أن
ربط أبوها زواجها من عبده بتنازله لها عن المقهى وبيتين ،األول تسكنه فى حارة " المناجيلى"
والثانى فى أخر حارة " أبن شكر " القريب من المقهى .
أنتهت مراسم الفرح فى سالم وسط حضور جماهيرى واسع ضاقت بهم " أرض الوسعاية " المواجهة
للمقهى ،فى حين تصدر الصفوف األولى لفيف من أصحاب المقاهى بمنطقة كرموز ومجموعة ال بأس
بها من أصحاب السوابق المقربين من " عبده " .أكمل " عبد المقصود " ليلته فى المقهى ،ليفسح
المجال للعروسين ألنجاز المهمة ،فى حين دخل العريس غرفة النوم تسبقه فايزة بخطوات مرتبكة
يتحسس بكفه ظهرها .الليلة بالنسبة له ليلةحاسمة ،أو هى ليلة تاريخية كما يقول الرفاق أو ليلة
مصيرية ،كما يقولون األكثر تشددا .أما هى فكانت تنتفض وترتجف ،كان خياال دمويا رهيبا ذلك
الذى يسيطر على تفكيرها كلما تجسدت أقاويل النساء أطياف تتحرك عما يحدث للعروس فى ليلة دخلتها
59
أراد أن يحقق المستهدف فى ليلته و بالرغم من قوته وتحفزه عجز عن التمكن منها ،فلم تمكنه ،كانت
كالعجل الذى أبصر قاتله شاهرا نصله ،فأجتاحتها نوبة صراخ وتمرد ال ينفع معها عشرين "عبده"
مجتمعين .
فى اليوم التالى خرج العريس من خلوة الدخلة ،أنتحى باألب جانبا الذى أسرع بدعوة نسوان العيلة ..
عمتها نبوية وبنتها سهير ومعهما " زوبة " زوجة حامد الحالق فى حين أنزوى العريس الذى لم
يعرف كيف يحزم أمره ،وأستمر الجدل حتى ظهيرة هذا اليوم ،والعروس فى الداخل تتكور على نفسها
كالفأر المذعور .أنفض األجتماع على قرار واحد صدر بأجماع األراء تصدر لتنفيذه نبوية وزوبة
بمساعدة عبده .أخيرا دوت صرخة العروس كأنما أنغرز خنجر مثلوم فى أحشائها ،أصبع نبوية
المسنون يفض الغشاء الذى راوغ قدرة عبده وأرهق كرامته وذل حيث المذلة ،خرجن بعدها من
الحجرة ،تشرعن المنديل الملطخ بدم الذبيحة .عاش شبح تلك الليلة لفترة حائال بين الزوجين .وبعدها
عرفت على يديه ،و منذ البداية لعنة الجنس الردىء ،الجنس الذى يتحول الى حلبة مصارعة وينتهى
بأرهاق الجسد وفراغ فى الروح .
دخل " عبده " هذه الزيجة طامعا فيما تمتلكه فايزة عن أبيها مقهى وبيتين ،كان يأمل أن يغرف بجماع
كفيه دون وهن ،لكن األمور فى حقيقتها كانت تسير بمهارة وأساليب فايزة الخفية ..ثالثة شهور
بالتمام والكمال ودب الحمل للمرة األولى يتحرك فى أحشاءها ،راحت تشعر بذلك الكمال والقوة التى
يبعثها جنين يتحرك ،شعرت بأنها أمتلكته تماما ،وحين سحبت رأس منصور من بين فخذيها لتعلن عن
وصول طفلها األول هدأت طباعها المتمردة وسكنت وأنشغلت به لفترة ،غير أن توترها قد زاد وأشتدت
عصبيتها حين تأخر الحمل الثانى ،وفى ليلة باردة .لم تجد سوى بطن قدمها رفست بها عبده فى جنبه
كادت أن تطيح به من على السرير مكفيا على وجهه ،قام من جوارها فزعا تائها من سباته العميق
على صرخاتها المتألمة :قوم ودينى لدكتور أنا عندى نزيف .أحتوى دهشته وهو يتمتم يلعن الساعة
واليوم التى جمعته بها ،لم تنجح محاوالته فى تهدأتها وتبديد مخاوفها ،اقتادها من يدها كالشاة الذاهبة
الى المذبح وسلمها لذلك الطبيب الشاب الذى لم يحصل على فرصته بعد وتولى الكشف عليها .بفرح
طفولى قال :هى محتاجة جراحة بسيطة وممكن نعملها هنا فى العيادة لو حبيتوا .فكان له ما أراد .
نصف ساعة أنهى خاللها الطبيب الشاب عمله داخل فايزة قبل أن يخوض بيده المرتعشة فى تجويف
الرحم بمشرط مرتبك ،لم ينطق بكلمة بعدها مكتفيا بأبتسامة وهو يلملم أدواته ..ثالثة أيام والنزيف
60
يتواصل ،حينها فقط تولى أمرها الدكتور " عياد " فى قسم النساء والتوليد بمستشفى الشاطبى الذى
ترك فى أذانها معلومتين ،األولى قالها بدهشة :الدكتور اللى أنتى رحتيله ده أكيد سمكرى عملك جرح
فى عنق الرحم .ثم أضاف لها معلومته الثانية قبل أنصرافها من المستشفى :وفى الغالب يامدام فرصة
أن يحصل حمل تانى حتكون صعبة خالص ..الرحم بقى عامل زى الشراب المقطع ؟!.
أصبحت " فايزة " هى المستغلة لزوجها ال هو المستغل لها ،فدفعت به إلى صدارة المقهى بعد أن
مرض والدها ثم مات ،بادرت هى بأعطاء أختيها عايدة وفتحية المتزوجتان بالصعيد حقهما من ميراث
والدهما عدا ونقدا ،سارت خطتها للحياة كما رسمتها حين أعدت زوجها لمستقبل تستفضل أفاقه
الضيقة الحدود لمهنة والدها " صاحب قهوة " مستثمرة طباعها الى أقصى درجة ،الشكيمة والقوة
الصارمة القادرة على فرض أرادتها على ذلك الطامع ذى العينين القاسيتين والكفين يفركهما فى طلب
للرضا مثل جرو صغير يتقافز من حولها ..فرضت عليه أنماطا جديدة من السلوك واألفكار ووجهته
وجهة مغايرة عما كان يحلم به من أطماع ،لذلك عند ثورتها و هياجها ،ال يفعل شيىء سوى أنه
يتكور على نفسه مستجديا األستعطاف حتى اذا مارقت ،يطوى صدره على األلم وينكمش الى جوارها
مروض النفس على القناعة بها ويركع تحت قدميها طالبا مزيدا من الرضا والغفران .حقيقة األمر أن
" عبده الجن " لم يحب هذه المرأة أبدا ،ففيها شيىء منفر دائما ،شيىء متحفظ طارد ،غير أنها
بالنسبة له ضمانة حقيقية لمستقبله ،بفضلها أستهواه دور " المعلم " وأصبح له شأن وكيان ،يشعر
بالذعر والخوف بمجرد التفكير فى خسارتها وأن يعود الى سيرته األولى مما جعله مرمى لكل هدف من
أقدامها ..هى مزقته فى خواطرها المكبوتة كما حاول هو دائما أن يمزقها بلسانه فى مجالسه ،حتى
أحالمها طردته منها ،ودائما ما تحرجه بأستعالئها المتعجرف فى المناسبات القليلة التى جمعتهما
مرغمين لتهئنة أو عزاء ،المهم أن يكون لها ظل ،ينفصل عنها بمشيئتها ،ويتبعها بمشيئتها ..لم
تكن أبدا فى حاجة إليه .حاولت جاهدة بعد خذالنه لها حين طغت أنانيته وسلبيته على كل شيىء ،حتى
على أبنهما الوحيد " منصور " أن تبحث عن فكرة من بين مجموعة أفكار تستثمر فيها ما تبقى لها
من ميراث بعد أن ملت من أيقاع حياتها الرتيب الذى يبدأ من المغربية إلى منتصف الليل راقدة فى
مكانها بجوار عبده فى المقهى ترصد كل مليم وسحتوت ،كانت كالسيف فوق رقبته ،فهى تدرك حيله
وأالعيبه ،قبل أن يشير عليها جارها فى الحارة " جمال النونو " الشاب الثالثينى صاحب عينان
حالكتان كأنهما من فحم ،له جسد هزيل ووجه شاحب قلق ،كما يحتفظ لنفسه ببعض السوابق من قبيل
فرض سيطرة وبلطجة ،أشار لها بأن مشروع " التاكسى" أستثمار ناجح ومضمون ،ألتزمت بنصيحته
61
وأقتنت تاكسى الدا فئة " "2105أدارته بحرفية وحزم تحت قيادة " النونو " الذى أظهر أنضباطا
والتزاما بحضوره اليومى للمقهى فى العاشرة مساءا لتسليمها ايراد اليوم تحت سمع وبصر " عبدة "
ونظراته المترصدة لعلى وعسى يناله من الخير صدقة ،إال أنها كانت تتعمد أن تبقيه فى الظل
وال تسمح له بالتدخل .
أفسحت " فايزة " لعقلها مجاال ألستخراج فكرة جديدة تبنتها بحماسة عقب عملية جرد مفاجئة
لبعض الكراكيب المكدسة فى المخزن التابع للمقهى والذى ال يفصله عنها سوى حائط مشترك ،بعد
معاينه سريعة تم اجالء الكراسى والطاوالت المهدمة واخالئه من اجولة الفحم ظهرت مساحة المخزن
الحقيقية ،فأضيىءذهنها بحتمية استغالله ..أستهوتها تجارة المالبس الجاهزة وأستقرت عليها كبداية
لمشروع أستثمارى بعد استشارة النونو وبعض المقربين ..بدأت بزيارات متقطعة للمنطقة الحرة
ببورسعيد ثم تحولت لزيارات ثابتة كل أسبوع بصحبةصبيها وتابعه " خضر" ،صالت وجالت
بمشروعها الجديد فما كاد يمتأل المخزن بكل أنواع المالبس حتى يفرغ سريعا ،سياسة التقسيط بل
التنقيط التى اتبعتها مع اهالى كرموز كانت سببا رئيسيا فى قفزتها السريعة وتحولها من تاجرة شنطة
إلى معلمة صاحبة كيان له كلمة وهيبة ..ثالث سنوات حتى أصبحت فايزة تفهم من أسرار التجارة ماال
يفهمه تاجر عتيق ،فسيطرت على دنياها الجديدة بأقتدار وقوة .خيال النصب أو " الطناش" لم يزر
أبدا عقل أيا من المتعاملين معها ،الكل يدرك جبروت " فايزة عبد المقصود " جبروت أتاح لألستاذ
" محمود المحامى" المكلف منها بأدارة تعامالتها مع التجار والزبائن وكذا حسابات المقهى ..سهولة
فى األداء بدون تعقيدات لدرجة أنه لم يقدم بالغا ولم يزر قسم شرطة وال محكمة بل أنه لم يواجه أى
مشكلة من أى نوع .
منح القدر " عبده الجن " أستراحة مؤقتة ،يستجمع فيها قواه ويلتقط أنفاسه ،كان ذلك حين قامت
فايزة بغزوة من غزواتها لبورسعيد ،وكما جرت العادة وبأتفاق مسبق مع من بيده األمر من مفتشى
الجمارك ،ضاعفت فايزة حجم بضاعتها المهربة داخل سيارة نصف نقل من ممتلكاتها تحت قيادة
" خضر" تحسبا لزيادة الطلب المتنامى مع قرب عيد األضحى ..كانت دائما تدير مجريات األمور من
داخل التاكسى بصحبة النونو كغرفة عمليات متقدمة ،على نحو مفاجىء ومدبر تم تغيير طاقم مفتشى
الجمارك بأخرين والذين لم يجدوا صعوبة فى ضبط البضاعة المهربة داخل السيارة بينما لم تتمالك
فايزة أعصابها وهى تراقب المشهد من مخبئها وهى ترى بأم عينيها بضاعتها وهى تصادر ،كان
62
أكثرعيوبها وضوحا هى هذه األندفاعة العصبية التى تباغت بها الناس أحيانا على غير توقع منهم ،
فأندفعت كالمجنونة صوب مفتش الجمارك تدفعه بكلتا يديها لمنعه من تكملة ما بدأه ،فواجهها هو
األخر بدفعة قوية لعلها تكون رادعة ،إال أنها عاجلته بلكمة قاسية بيمناها كان لها أثر فورى حين
تصدر أبهامها المحاط بفص ذهبى متوجا بحبة زرقاء عين المفتش ففقأتها فى الحال .
لم تستمر محاكمتها طويال ،أنه أعتداء مباشر على موظف عام فى الدولة أثناء تأدية مهامه الوظيفية
وأصابته بعاهة مستديمة ،هذا ما قالته النيابة فى مرافعتها ..تسلمت فايزة مكافأتها على أنجازها
المريع من قاضى المحكمة ..سبع سنوات مع الشغل والنفاذ تقضيها فى األسر .
ما أن غابت سيارة الترحيالت بفايزة فى جوف الطريق ،أحس" عبده " براحة وأنتابته نشوة الظافر ،
فغمره شعور القائد المغوار وقد أمتطى صهوة جواده وأستل سيفه ،ودخل المقهى منتصرا فاتحا .رمى
أيامه الماضية وتخلص منها وراح يقرع صدره بكفيه ويزعق صارخا :خالص يابشر ..من هنا ورايح
زمن عبده الجن حيرجع تانى ؟! .فأصبحت المقهى بحساباتها وأيراداتها مباحة له وإن كان يتوخى
الحذر حتى ال ينكشف أمره .
رمشات سريعة ثم أغماضة طويلة قبل أن تنشق جفنى " فايزة " عن دموع محبوسة ..تنهيدة ساخنة
تستعيد بها اللحظة وهى على حالها ثابتة فى مكانها تحتضن ركبتيها الى صدرها فى حين التزال
"هدى" واجمة تستقبل مالمحها الضوء الخافت الذى يأتيها من خارج العنبر مرتجفا بفعل الهواء
فترعش الظالل والوجوه واألجسام الممددة .
همست فايزة بنبرة غلب عليها سلطان النوم :حتقوللى لوالدك على األخبار الجديدة فى الزيارة الجاية ؟
( الزيارة اللى جاية ) كررتها هدى ،بدت لهذه الجملة مذاق مر فى فمها وهى تنطقها ؟! ..تبدل حالها
وخرج صوتها مهموما :يبقى يحلها الحالل ساعتها .
ــ عندك حق ..تصبحى على خير يا هدى .قالتها ثم أفرجت عن ساقيها فى وجع بعد أن قبضت عليهما
خالل جلستها ..قامت من مكانها تحجل على قدم واحدة بأتجاه سريرها وهى تتثائب .
أرتفع صوت الصراصير تطلق أنغامها فى سكون الليل ،فى حين مددت هدى جسدها ثم أنكمشت بعدما
أيقنت بأنها سيالزمها األرق حتى الصباح ..نسيت األنهاك وجرى الليل قبل أن تسلم نفسها لوابل من
63
الوخزات .شردت مرغمة وراء دفء الماضى الهارب فى شكل صور صامتة وكئيبة وألحت فى أقناع
النفس بوجود العزاء المؤمل فى الحرية ،فى المقابل أنضم شخير فايزة الى مجموعة العازفين
" المشخراتية " كسيمفونية تتردد فى كل ركن من العنبر .
الفصل الثانى
روتين يومى معتاد لم يتبدل أو يتغير وسط كل المتغيرات والمؤثرات التى أستجدت على حياة أبناء
هدى ،دائما هى جلسة العشاء التى ال تتم طقوسها إال وقد تحلق الجميع حول مائدة الطعام القابعة فى
ركنها المنزوى فى آخر الصالة ،حكايات ومالحظات وعبارات أشبه بخواطر تم رصدها تخص كل منهم
فى محيط حياته اليومية المحدودة ..ثبت " يوسف " عينيه العميقتان اللتان يظللهما حاجبان كثيفين
وشعر مسترسل للخلف على بشرة بيضاء وعود مستقيم طويل ..ركز نظراته فى وجه أخته نورا التى
لم تبدل مالبسها عقب عودتها للتومن عملها ،بدت على غير عادتها وهو ما لفت أنتباهه حين لمح
شعرها الجاف وقد جمعته إلى مؤخرة رأسها وعيناها شبه مغمضتين بثقل جفنيها على عكس هيئتها
المعتادة ،دائما ما تطلق شعرها الناعم األسود الغزير منسدال حتى كتفيها يحوط وجهها البدرى التى
تسكنه عينان لوزيتان تنسجم بتناغم مع باقى تفاصيل وجهها بينما صدرها المنتفض الذى يحرس جسد
محدد بدون ترهالت به كثير من مفاتن األنوثة .
ـ مالك يانورا شكلك تعبان قوى ؟ تساءل يوسف .ببطء قبل أن تدعك عينيها :واللـه يايوسف من
الصبح لغاية ماجيت دلوقتى وأنا واقفة على رجليه ،الوقت بقى ضيق وبنحاول بأيدنا وسنانه نشطب
الشغل ونجهزه قبل عرض األزياء الشهر اللى جاى .ألتقطت " بسمة " كلمات أختها وهى تستند بكلتا
يديها على المائدة تتحاشى أصابعها لمس طبقين فارغين إال من ورك فرخة أصبح هيكال بال لحم بعد أن
أجهزت عليه وبجانبه طبق سلطة تلوثت أطرافه ببقايا جزرة وقصاقيص جرجير ،كالمعتاد علقت فى
حدود شخصيتها المنطلقة فى أحاديثها العابرة و ماتحمله من متناقضات متباينة ،؟ حيث يمتزج الحزن
و الحياء فى صوتها والمرح والبهجة فى عينيها فى آن واحد ..هى دائما ثورة المرح فى البيت وبركان
الجسد الذى أستوى فى تناغم ملفت للنظر ،الرأس بالشعر بتقاسيم الوجه تتناسب مع الكتفين العريضين
فوق صدر على شكل مثلث نافرا على خصر مكتنز .بنبرة مازحة :أيوه ياعم المهم ،البلد كلها حالها
واقف والشغل فى األتيليه عند مدام زيزيت مولع نار ! .جاهدت كى تخرج منها أبتسامة واهنة :والنبى
64
الحكاية مش ناقصة أر يا بسمة وأتيليه زيزيت مش مستنى حال البلد يوقف وال يمشى ده له زبونه
وناسه .تؤيد أيات على كالمها :عندك حق يا نورا سمعة األتيليه مسمعة فى كل مكان فى أسكندرية .
منذ أربع سنوات وقبل تخرجها من كلية األداب بعامين تبنتها " زيزيت " وحققت لها أمنيتها القديمة أن
تتعلم حرفة التفصيل ،فعلمتها الصنعة على أصولها وعرفتها خبايا أسرارها وأعطتها من خبرتها ما لم
تعطى أحدا من قبل لما رأت منها أصرارا وأجتهادا ،وان كان األصل وراء تلك الحماسة هو حبها
الشديد لنورا التى رأت فيها األبنة والصديقة وشريكتها فى حياة الوحدة ،كما وجدت فيها فرصه سانحة
لرد جميل أمها صاحبة الفضل عليها ،فأصبحت زيزيت بال منازع هى السند واألمان لها وألخوتها منذ
لحظه دخول هدى السجن .
تضاعف راتب نورا عدة مرات وزاد كثيرا فى أخر عامين حتى تحول الى رقم محترم بفضل موهبتها
الفزة وخصوصية صنعتها التى جعلتها رقما صعبا ال يمكن تجاوزه داخل األتيليه بعد أن أجادت
وتخصصت وأبتكرت فى تصميم مالبس المحجبات ،كما أنها أنفردت بتصميمات فساتين الزفاف الخاصة
بتلك الطائفة حتى أصبح أنتاج األتيليه يخرج معظمة من تحت يدها .
ألتصقا يوسف وبسمة بنورا .هى بالنسبة لهما الحياة بكل معانيها ،كانت من نوع يحتاجانه بشدة ،
فهى صلبة حنونة جريئة قبل أن يضاف إليها صفة السخاء فى الفترة األخيرة ،لم تكن تلك الصفات
وليدة الحاضر بل من رحم الماضى منذ بداية اليوم األول ،حين أختفى وجه أمهم فى السجن وعندما
أطفئت جميع األنوار وهدأت الحركة ،ولم يبقى مايمأل السمع إال صوت السكون حينما أستولى خوف
على قلب نورا ،وأرتعش البدن مع نشيجها المؤود فى الظلمة والذى يحدث فحيحه صوتا أيقظ بسمة
ويوسف المنكمشان فى ركن الفراش ،فأنشدا معها على نفس الوتر المتصاعد بكاء حادا جاءت على
أثره عمتهم " أيات " لتضىء النور وتهدأ حزنهم وأحساسهم بالخوف والوحدة بكلمات لم تكن لها أثر
كبير فى نفوسهم :ما تخافوش ياوالد وخليكم شطار ..أنا عارفة أنكم محتاجين مامتكم ..بس أنا مش
بأيدى حاجة ..تنهدت للحظات فى قلة حيلةثم أستدارت خارجة من الغرفة بينما تولت نورا األمر حين
تمددت فى الفراش تتوسطهما ،تحتضن يوسف وبسمة التى دفنت رأسها بين تجويف الصدر الصغير ،
بديال عن األم ،وراحت تغط غطيطا خفيفا تقطعه من وقت آلخر زفرة عميقة كأنما تزيح عن صدرها
أكواما من الهم ،بينما ألصق يوسف ظهره فى الحائط وأخفى وجهه تحت الغطاء وأحاط ذراعه بأخته
وغاب فى سبات .بينما لم يغمض لنورا جفن حتى تسلل ضوء النهار من النافذة ،لم تدر متى غفلت
65
عيناها ،إال أنها أستيقظت على صوت عمتها تدعوها لألفطار ..الجفون مثقلة ،وحريق يلهب العينين ،
لكن النهار بدا لنورا التى بات عليها أن تحمل الهم مبكرا ..بدا بعيدا فهى لم تتعد الخامسة عشرة بعد ،
يليها يوسف بعامين وبسمه التى تصغره بثالث أعوام .فكان لزاما عليها أن تشارك " نعمة " فى كل
كبيرة وصغيرة بداية من نظافة الغرف مرورا بالغسيل والمسح والكنس نهاية بطريق عودتها من
المدرسة حين تنعطف بأتجاه سوق األبراهيمية لشراء أحتياجات اليوم التالى كما لقنتها عمتها وعند أخر
النهار تحاول أن يدخل رأسها المتعب بعض مما هو مكتوب فى الكتب المدرسية التى ستؤدى أمتحانا
فيها أخر العام .حاولت بسمة الصغيرة أن تساعدها وأن يشارك معهما يوسف ،لكن األخت الكبرى
مألها أحساس غامر بالفداء ماركة " أمينة رزق " رفضت أن تهين أخوتها فى أعمال البيت وأقتصر
دوريهما على أسناد " نعمة " فى الجلوس والوقوف أو تدليك ركبتيها بدهان الروماتيزم .أستكانت األم
الصغيرة للحياة التى فرضت عليهم ،التقشف وضيق اليد لعجز العمة عن توفير حياة أكثر راحة بعد ان
رأت نفسها قد أستدرجت الى بؤرة األحداث ولم تعد على هامشها دون قصد منها ،والتى ركنت على ما
تسحبه شهريا من البنك مما تبقى لها من بيع شقة الزوجية بعد طالقها ،فكانت مسئولية طارئة أعطت
لحياتها مذاقا كانت لمرارته حرقة فى القلب ،ذاقت نورا وأخواتها تلك المرارة أيضا ،وبدت مالمح األلم
تزحف على وجوههم لتكشف عن ضائقة العيش وزوال النعمة ،فى حين أستطاعت نورا أو أرادت أن
تعطى أنطباعا بأنها تسد الفراغ وتكمل دور األم ،على صغرها .كانت كلمة ثناء من عمتها أيات أو من
الجيران ،أجرا مجزيا لها .التجربة قفزت بعمرها و ماعادت بطفلة .
وظلت نورا تعايش حياتها فترة ،فتاة هادئة ،تفكر ،تجيد أتخاذ القرار وتعرف السبيل لتنفيذه قبل أن
يتالشى دور عمتها أيات التى أختارت أن تكون حياتها دائما فى الظل ،حياة رتيبة قضتها نورا هى
وأخوتها ،أقصى ما يقع فيها من متع ،هى رحلة صيد صباح كل يوم جمعة على شاطىء جليم تحت
قيادة الدكتور " كرم سباستيان" وصديقه نوح البواب ،نادر وشريف ولدى خيرى علم الدين كانا دائما
من ضمن أفراد الرحلة ،وبالتوازى وفى نفس الوقت يزداد أصرارها يوما بعد يوم على متابعة دروس
يوسف وبسمة ،مما دفعها لتلبية دعوة األستاذ خيرى واألعتماد عليه فى مراجعة دروسها هى
وأخوتها ،فبادر بتحديد ثالثة أيام أسبوعيا لهم تعاطفا منه لما لحق بهم و ماتطويه نفسه من شعور حاد
بالفجيعة والخسارة يصحبه أخر بالرثاء حد مغالبة البكاء لما آل له حال أمهم وإن كان حال أبنيه
ال يختلف كثيرا عن حال أبناء هدى بعد وفاة زوجته " سميحة الغريانى " وأقامته منفردا معهما ،فكان
البيت كبير أكبر سعة من حاجتهم ،إال إنه كان مملكته التى ورثها عن زوجته ..هذا السكون لم يشعره
66
بالملل ،والوحدة لم تضايقه ،يخدم نفسه وأوالده ،خفيف الحركة كعازب يلعب جميع األدوار ،األب
واألم والخادم المطيع .
كانت نورا بقدها الدقيق المتناسق وحركتها الدءوب المشتعلة وخفة دمها الطبيعية ،تحرك لدى شريف
ـ على غير قصد منها ـ خيال المغامرة فى كل حصة تحضرها ،فكان ال يكف عن مزاولتها مستغال غياب
والده لدقائق فى المطبخ لعمل فنجان قهوة أو زيارة للحمام ..فى مداعبة ثقيلة أختلس شريف كراستها
الخاصة بواجباتها فى غفلة من والده الذى كان بصحبة " نوح " يباشر ماسورة مياة فى المنور
أصابها الرشح .فطاردته فى الصالة لتستردها ،حاورها فى أرجاء المكان ،دخل حجرته ،أقتحمت
الباب وراءه ،رفع يديه بالكراسة ،شبت على أطراف أصابعها لتطولها ،طوح يديه الى الخلف ،أختل
توازنها ،أرتمت على صدره ..طوق ذراعاه كتفيها ،دفعته ،فك حصاره ثم راحت تقابله بأنفاس
الهثة ..لم تقرأ مالمحه من مثل هذا القرب من قبل ،به وسامة ملحوظة يكبرها بثالثة أعوام ،يميل
لونه إلى البياض يرتدى المالبس الكاجوال والجينز ويبدو متحررا متمردا ،له شعر متبعثر وقسمات
متحددة بصالبة ،تبدو كمالوأن تم نحتها بصرامة تخفف من حدتها عينان صافيتان بلون بنى :لكن
ما الذى يشدها إليه بهذا العنف ؟ تقدم منها أكثر من الالزم فشعرت كما يشعر النائم إنه يفتح ذراعيه
ليحتويها ،وعندما ضمها إليه غمرها فيض من السخونة الذى تعبر عنه تلك الضمة والدفء الذى
يحتوى ذلك الصدر .دفنت رأسها فى اعطافه وتملكها خدر ظل يدعوها إلى أن تبقى .كانت تستطيع ان
تلتقط نظراته اليها وتترجمها فتشعر إنها تقول لها أشياء ال يقولها غيره ،ترتاح لمعانيها ،وتشعر أنها
قريبة منه ،وأنه أقرب الناس إليها .نشر ذراعه حول جيدها وأحتضن كفها بذراعه الملتصق حول
العنق ،فوطأت قبضته صدرها النافر ثم رفع ذقنها بسبابته وقبل ما بين العينين ثم أرنبة األنف ..
نمنمات خافتة كانت تصيب القلب الصغير بالتوتر ،ال قدرة لها على النظر إلى عينيه الواسعتين اللتان
ضاقتا فجأة على صوت جرس الباب ..رنتان هما طريقة األداء المعتادة لخيرى فى أستعمال الجرس .
أنتفاضة تلتها أبتسامة .شريف بالنسبة لها كان يضيىء خيالها ،كانت تتقدم صورته على كل الصور ،
فتشغل مساحة من نفسها ؟! .عندما يحتضن خيالها صورته فى الليل تتقلب على جانبها األيسر وتدير
ظهرها لبسمة ..ألول مرة تنام وصدرها ليس فى أحضان أختها .ألتقت الليلة بأحضان شريف .فى
األحالم ! هكذا صا رت عالقتهما منذ البداية ،حب متنكر فى ثياب الجيرة .فكانا يتالقيان بال أضطراب
وبال خوف .غاصت نورا الى أذنيها فى دوامة البيت الخالى من روح ربة البيت وسلطتها ،فلم تلبث أن
صارت مديرة البيت والروح األمين الذى يحرس سير الزمن فيه ،بعد أن أبت عمتهم أيات وأصرت أن
67
تدفن نفسها فى داخل غرفتها وأحتميت بالصمت والموسيقى ،وقبل أن يتوارى دور نعمة خلف التعب
والمرض .لم تبخل نورا من اللحظة األولى لسجن أمها أن تمنح أخوتها نفس الحب الكبير الذى أفتقدوه
حتى بدت كأم خبيرة تلحظ وتحس وتراقب كل متغير يطرأ عليهما ،فكان واضحا جليا يوم نجاح بسمة
فى الصف الثانى األعدادى حين داهمها فى منتصف المسافة من غرفتها الى الحمام ،مغص شديد ،
تقلصت ،صرخت متألمة ،هرعت اليها نورا كالمجنونة تسندها ،لم تعد قادرة على األحتمال ،تعثرت
بسمة ،ترنحت نورا ،أنساب بين فخذيها سائل لزج دافىء ،أصابت الدوخة بسمة ،تمايلت ،مالت
معها نورا :مالك ياحبيبتى حاسة بأيه ؟ سقطت على األرض تتكور كالشرنقة حول نفسها تغالب
الصراخ :ألحقينى يا نورا .مأل قلبها رعبا منظر الدماء التى لطخت األرض ولوثت فستانها الرمادى ..
بسمة كانت تغادر طفولتها دون وعى .يومها عرفت أنها لم تعد طفلة ،فهذه هى البينة بأنها دخلت
مرحلة جديدة كما لقنتها نورا بعد أن مرت بذات التجربة قبل أن تسميها لها نعمة :دى أسمها الدورة
يانورا والزم تيجى كل شهر .ثم لحقتها بـ " خرقة " لوال تدخل أيات السريع فعلمتها بروتوكول التعامل
مع " البريوت " .أحست بسمة بذلك الشعور المتناقض ،لكن أنزعاجها ولى وباتت تنتظر الموعد كل
شهر وتستعد له .ألتحم وجودها بوجود نورا التحاما كامال ولم يعد من الغريب أن تصبح هى أمها
بجدارة وتكون هى أبنتها بالمعنى الوجدانى األصيل .فى حين لم يعد يوسف بالنسبة لنورا مجرد أخ
يصغرها بل الرفيق والصديق وكم سجلت أبتسامته الحلوة فى نفسها السعادة ،وال عاد من الغريب فى
ساعات الضعف أن يبكى على صدرها الرحيم دون أن يساوره حياء الرجل من الضعف والدموع ،كان
يحتمل تعاسة واقعه بال مرارة .هو شاب برىء النفس لم يمسه دنس ،وقد مر به عامه العشرون من
سنتين ،وكانت أحالمه وتطلعاته فى السنوات األخيرة تفضى به دائما إلى حالة نفسية يملؤها ظمأ
صادق الى حب عظيم .هذه المعجزة التى يريد أن تسقط عليه بال صراع وال وجع قلب .وجد حلمه فى
" هدير" زميلته بالسنة النهائية فى كلية الهندسة ،من عائلة غنية فهى أبنة المقاول السكندرى الشهير
" أحمد الشهاوى" له شركة عريقة التاريخ فى األنشاءات والمقاوالت و له بصمة واضحة فى منطقة
" سموحة " ينتشر شعار شركته على عدد ال بأس به من األبراج الفخمة فى الشوارع الرئيسية
والراقية بالمنطقة .بداية رومانسية كالسيكية جمعته بزميلته منذ ثالث أعوام ،كان ذلك كلما غرست
نظراتها فى عينيه ،تأهبت أبتسامته المترددة لتناجيها ..كانت نظراتها الحالمة الوديعة تضىء الكأبة
التى تحيط بحياته ،كان يكتفى بأن ينظر لها خلسة ،يرى فى عينيها لهفة ألن يحادثها عندما تجمعهما
68
قاعة المحاضرات ..لما ال وقد أشتهر بين الطالبات بوسيم الهندسة .كل ما فيها يرشحها ألن تكون
أميرة أحالمه ،وها هى وقد أصبحت يقظته وأحالمه .
نغمات متقطعة كاللحن المرتعش أصابت آذانهم فى جلستهم حول المائدة ،كان مصدره صينية بها أربع
أكواب شاى تتراقص فى يد نعمة و تحتك ببعضها ،أنتفضت بسمة تنقذ ما يمكن أنقاذه ،تسندها كأنما
تسند عودا خاويا آيل للسقوط .تناول يوسف الصينية من أخته رافعا عينيه تجاه نورا .بنبرة خجولة :
ما تنسيش بكره تشترى لنا شوية حاجات عشان زيارة ماما يوم الخميس .أزاحت وجهها بعيدا قبل أن
تنكمش مالمحها .فى أقتضاب :حاضر .
ــ ياريت يوم الخميس نخرج بدرى من البيت عشان نوصل فى ميعاد الزيارة .كانت ملحوظة أضافتها
بسمة .
ــ أنا مش رايحة معاكم عندى شغل متأخر والزم يتسلم ..قالتها بأداء من فاض به ..نازعتها دهشة
يخالطها قلق :ليه يانورا ..دى رابع زيارة ما تجيش معانا فيها تشوفى ماما ؟! .كان أشد ما يزعج
نورا تلك األعراض التى تداهم يوسف وبسمة قبل كل زيارة ،تشوق وحنين وتحضيرات تشتد وتيرتها
كلما أقترب الموعد ،كل من حولها فى البيت رصد تلك التغيرات التى الزمت نورا كقرين اليفارقها .لم
يستطع أى منهم فهم أو تحليل تلك الحالة .
تمر بكفها على جبينها المتكبر وشعرها الملموم :يابسمة ياحبيبتى أحنا بنجهز لعرض األزياء الشهر
اللى جاى فى شيراتون المنتزة ،يعنى كل دقيقة لها تمن ومحسوبة علينا .تلفت نحوها والتكشيرة
تغرس وجهه وحاجبيه وعينيه :الزيارة دى مرة كل شهر ومابتزيدش عن ساعتين تالتة مش حيحصل
حاجة يعنى وال الدنيا حتتهد وعرض األزياء مش حيتأخر عن ميعاده ؟!.
ــ الزيارة اللى فاتت ماما بكت كتير وكانت حتجنن ومش القية سبب واحد مقنع يخليكى ما تجيش
تشوفيها .قالتها بسمة باستنكار بينما نكست نورا وجهها قبل أن تمسك رأسها بكفيها :حرام عليكوأنا
تعبانة ومش فايقة للكالم الفارغ ده ،أبتلع ريقه ،بدا عليه وكأن جملة أسئلة تدور فى رأسه .أختزلها
كلها :بصراحة يانورا أنا مش فاهمك ومش القى أى مبرر يمنعك من زيارة ماما .ثم تأملها فى حيرة
بينما سحبت نفسا عميقا وتهيأت ألظهار الحدة وبمالمح لعبت بها الشياطين ،فأقتحمته فى عنف :أنتو
مش قادرين تحسوا باللى أنا فيه ..أنا من جوايه تعبانة وهلكانة و طول النهار زى النحلة عشان أقدر
69
أوفر لحضرتك مصاريفك وطلباتك عشان ما تبقاش أقل من أى حد وقبل ما تحقق معايا يا أستاذ وتعمل
فيها وكيل نيابة أبقى شوف مصروفك كل يوم وصل لكام والهدوم اللى مالية دوالبك تمنها أيه وأحسب
الكورسات بتاعتك وبتاعة الست أختك بتتكلف كام ..شوفوا مصاريف أكلكم وشربكم .زادت عصبيتها
وهى تصرخ فيهم قبل أن تخبط المائدة براحتيها فأنتفض الجميع :أيه األنانية اللى بقت فيكو دى ؟
ال بترحموا وال بتعذروا ..مش كفاية قلقى عليكو طول النهاروأنا شايفة البلد كلها على كف عفريت
وسيادتك عاملى فيها ثورى والهانم أختك رايحة جاية فى المظاهرات ..كل ده مش شايفينه
وال حاسينه ..كعادتها ختمت كلماتها برأى حاد متصلب :وخالص أنتهينا قلت مش رايحة يعنى
مش رايحة .
أختصرت أيات مداخلتها :أهدى شوية يانورا ،الحكاية مش مستاهلة كل العصبية دى ،رأيك وأنتى
حرة فيه وكل واحد أدرى بظروفه .لم تجد نورا ردا على تلك الكلمات ،هزت رأسها متجنبة الخوض
فى العيون ،فى حين أصبحت أيات تدرك أن شيىء غامض أصبح مسيطرا على نفسية نورا كما أستقر
داخلها شعورا الزمها منذ فترة ليست بالقصيرة بأن أختها تحاول كبت و طمس مشاعر أخوتها
تجاه أمهما .
ــ ليه كمية الغضب والعصبية اللى نورا بتبقى فيها قبل كل زيارة ؟ ليه دايما بتحاول تفكرنا بكل حاجة
بتعملها لنا أول ما نقولها تعالى معانا الزيارة ؟! ..لم يستطع يوسف أن يمتنع عن ترديد تلك التساؤالت
على نفسه فى لحظة أصبحت حدود المائدة تتراجع أمام عينيه ،بينما أشتات أسئلة وأفكار أخرى تطير
من رأسه لتحط فوق رأس أخته التى تهدل فكها أستغرابا أو جزعا ..غمغمت مغلوبة على أمرها آسفة
حزينة فى حين أفلتت عن نورا دهشة أستنكار حين شعرت بأنها خرجت عن المألوف فى حوارها مع
أخوتها ..نظرة خاطفة فى وجوههم قبل أن تستقر عينيها فى أتجاه كوب الشاى :أنا ما كانش قصدى
،أعذرونى ضغط الشغل بقى كله على دماغى .أردفت بكلمات متقطعة :وبصراحة أنا نفسيا مش مهيأه
لزيارة ماما دلوقتى خالص ..معلش غصب عنى ! .لم تفلح كلماتها فى تبرير حرج أدركهم جميعا .لكن
يوسف كعادته سارع إلى التقليل من التوتر وحدة الحوار بأبتسامة وبلهجة طبيعية وخيبة ظنه تغالب
عتبه :أحنا مقدرين تعبك واللــه يانورا ،أنتى مش أختنا الكبيرة وبس ده أنتى كمان أمنا وصاحبتنا
وكل حاجة لنا ..معلش سامحينا .تراجعت نبرة صوتها فتحولت الرءوس نحوها :كل اللى أنا وصلتله
70
و اللى ربنا أكرمنى بيه مش عايزة منه أى حاجة كل اللى يهمنى أنتو بس ومستقبلكم وأزاى أعوضكم
عن سنين البؤس اللى فاتت .
ــ وليه ما تفكريش فى نفسك يانورا أنتى عملتى كتير عشانا وكملتى رسالتك بشكل ممتاز وكلها كام
شهر ويوسف يتخرج ويبقى مهندس أد الدنيا ويعتمد على نفسه وبسمة كمان قدامها سنتين وتتخرج
من كلية التجارة .تلك الكلمات مصدرها أيات التى أبدت حيرة ودهشة .
ــ يعنى أنتى مش شايفة ياعمتى حال البلد اللى مايسرش وال تكونى فاكرة أن يوسف أول ما حيتخرج
حيالقى الشغل مستنيه ..أنتى بتحلمى ياعمتى ؟!.
ــ لما نشوف حكم األخوان حيودينا لفين ؟! .قال يوسف كلماته وهو يتكىء بيديه على المائدة وينهض
نصف نهوض وكان وجهه قد أطمأن نسبيا بعد ان زال التوتر رغم أنه اليزال مطبوعا بطابع األلم ..
أتجه الى غرفته مارا بنعمة التى تهالكت فوق مقعد تراقب تطور األحداث .بينما غادرت بسمة مقعدها
بمالمح تسليم أو أحتجاج ..
حيرة وأرتباك وعدم فهم هو ما أجتمع عليه الجميع ،ال يكفون عن أطالق التخمينات حول حالة نورا
المحيرة المربكة .بقيت األخيرة فى مكانها ترشف من فنجان الشاى ومالمحها التى غصت فى أعماق
المحنة التى صدمت كيانها الطفولى منذ سنوات وقتلت فيها الطفلة التى كانت قبلها تتوثب فى أرجاء
البيت فرحا ومرحا قبل أن تكتمل داخلها تركيبة جديدة خرجت من رحم مرارة السنين ..خلطة سرية ،
لم يستطع كل من حولها فهم كل مكوناتها .
0000000000
بقايا جدران تشكل بيوت ،متالصقة أو متقابلة ،تشكل فى مجموعها حارة ،هذا هو الشكل الهندسى
المعتاد للحوارى فى منطقة كرموز ..ال تكاد تمتد بضعة أمتار طوال حتى تنعطف يمينا أو يسارا ،وفى
أى موضع منها يطالعك منحنى يطوى وراءه مجهوال ؟! .بركة مياه طافحة حول بالوعة صرف ،بيت
قديم متهدم أو حتى كلب يجلس مستأسدا ينتظر مرور أى غريب أو يصدمك شمام أو حشاش أو قاطع
طريق يفعل بك كل األفاعيل .
71
الناس فى حارة " المناجيلى " بسطاء بال تحذلق و ال أسرار .رائحة البشر المختلطة برائحة الطبيخ ،
وأصواتهم العالية المتداخلة مع صراخ باعة الروبابيكيا والخضار وسباب المتعاركين الذى ال ينقطع .
يجعل المشهد مكتمال .
الحارة تعج بساكنيها بالرغم من مساحتها الضيقة ..نساءها ،كمعظم نساء المحروسة ،ال ينشغلن إال
بالطبخ والحبل والوالدة كالقطط واألرانب ،ففى كل سنة ولد فى البطن وولد فى الحضن وولد يلتصق
بركبتها حتى طفحت أركان الحارة و ماعادت تتسع لفقس جديد ،وحين تتفحص السحنات والوجوه
المارة فى الحارة أبتداءا من الجدات الالتى ضمرت أنوثتهن وأصبحت صدورهن مفرطحة إلى اللواتى
برزت بطونهن مرورا بأشكال المتسولون والمجذبون بأجسادهم النحيفة وهم يترنحون أو يعرجون
يزاحمهم عدد ال بأس به من الشمامين والمبرشمين ،فيجتاحك شعور كاسح بأنك ترى فيلما وثائقيا عن
حارة " المناجيلى " .
حول واحدة من الطاوالت فى مقهى " عبد المقصود " يدور الحوار هادئا أو مستفزا عن أحوال البلد
وثورة يناير ،مالها وماعليها ؟! .ودور القنوات الفضائية الخاصة ومسئوليتها المباشرة عن تدهور كل
شيىء فى البلد ( رأى واحد بلحية ) !! فى حين أحتدم النقاش على طاولة أخرى حول أهداف جماعة
األخوان المسلمين ومواقف السلفيين وسياسات الرئيس مرسى المربكة والمحيرة بينما طاولة أخرى
أرتفع فيها صوت القفشات والنكات والضحكات .
هنا كل شيىء الفت ومغر ،ليس الدخان المتصاعد من األفواه واألنوف أو الصياح وحدهما ؟ أو الكلمات
البذيئة وال صوت التليفزيون المتواصل بال أنقطاع ،بل أنه الجدل الملتهب الذى يحتد بينهم فجأة دون
مقدمات ،يعلو ويعلو حتى تتيقن بأنه سينتهى ال محالة الى صراع باأليدى والرؤوس ،فتهتزله
أعضاءك ولكنه يتراجع رويدا رويدا ثم يتالشى ..دائما ما تكون قصص المطرودين من أشغالهم
والعاطلين والمدمنين والنساء ،ال تمثل تلك الحوارات فى ذاتها أى دهشة أو أستغراب ،فى حين تتصدر
مجموعة من شباب الحارة األشاوس التربيزات األمامية منطلقين على سجيتهم يحيون لحظتهم األنية
واليبغون عنها بديال ،حيث أمعنوا فى سب بعضهم بألفاظ ومصطلحات يحتفظون ألنفسهم بحقوق
الملكية فى أبتكارها .وعلى يسار المدخل يقع الجزء الهادى من المقهى الذى يقطنه مجموعة متخشبة
هامدة من أصحاب األمراض المزمنة والمعاشات يلتصقون ببعضهم فى دائرة صغيرة كأنهم يحيطون
بميت ،لهم وجوه غائرة وعيون ذاوية ،تدرك فى مالمحهم أنهم ال ينتظرون شيئا وال يتوقعون جديدا
72
يتفحصون كل من يمر أمامهم بنظرات عميقة ساكنة،العالقة لهم بالحوارات الصاخبة وال اللغط المثبعثر
فى كل األمكنة .
لم يكن األمر يخلو من عيون تراقب وأذان تنصت ..أنه " عبده الجن " ،كان على غير عادته ،يجلس
وحيدا فى موقعه بصدارة المقهى يجول بعينيه بين هؤالء وهؤالء مختبئا داخل كوفيته محنطا فى جلباب
أبيض وعباءة عسلية ،وظل لوحة تحتل مكانا بارزا فوق رأسه و تفترش جزءا من مساحة
مكتبه الصغير تظهر فيها رأس أنسانى لها صدغ مستطيل تعلوه عين ثعبانية ضيقة وقفا طويل
غريب التكوين ،صورة غلب فيها اللون األسود على األبيض ..أنه الراحل " المعلم عبد المقصود"
والد فايزة ..مط عبده شفتيه مناديا :ولـه ياجمعة ..هات لى شيشة .بدا منفصال بفكره عما يحيط به
،غارقا فى ذاته عازفا عن الكالم .ربما كان يفكر فى موعده مع األستاذ " محمود المحامى " الذى
يتفاوض نيابة عنه منذ أسبوع مع " كريمة " عاملة تغليف بمصنع حالوة والتى تزوجها عرفيا من
ثالثة شهور ،كعادته كل فترة غير أنها كانت مختلفة عن سابقتها ،رأسها وألف برطوشة أن يدفع لها
عبده ألفين جنيه كما جاء فى نص العقد الذى حرره وأشرف عليه " محمود المحامى " .
أتاه " جمعة " من خلف " النصبة " حامال الشيشة ولوازمها ،أرتكز على قدميه منحنيا بجزعه يتعامل
فى خفة مع الشيشة ،وما أن تم طقوس أشعال الجمرات وتكريس المعسل فى الحجر ورص الجمرات
الصغيرة بالماشة وهو يطرقها بهوادة فترسل شررا أزرق ليبدأ معها رحلة شد األنفاس حتى تنشط ثم
يناولها لعبده ليغرد بها مكركرا شاردا بذهنه مع كركرة الماء فى أذنيه وصورة اللهب األزرق المندلع فى
الحجر كلما شد نفسا عنيفا بعدها ينفث الدخان قبل أن يخرج المبسم من بين شفتيه ليفسح مجاال لخروج
سؤاله :منصور أيه اللى أخره لغاية دلوقتى ؟ .
ـ مش عارف يامعلمى ..طب ما تكلمه على الموباين .يلوى فمه ضيقا :كتر خيرك ياأفا المحمول بتاعه
مقفول ..روح أتكل على اللـه شوف شغلك .بينما يدخل فى تلك اللحظة األستاذ " سعيد " عتبة المقهى
والملقب على ألسنة روادها بـ " سعيد تشكك" .تحس فيه أنه كائن قادم من زمن ال يفرز وال ينتج
سوى الكالم والسفسطة والتشكك ،أصلع وعلى عينيه نظارة سميكة بأطار أسود موديل الستينات ،له
مالمح غير مرتبة فالعينين متباعدين واألنف يكاد يلتصق بفمه ،يرتدى جاكيت قديم يخفى تحته قميص
ال يفسخ طرفى يأقته ال صيفا وال شتاءا .
73
بعد ثورة يناير تيقن بعلو مكانته الكالمية ،إال أنه كان من سجيته أن يقفل كل النوافذ فى وجه الحياة
مهما تغيرت األحداث وتبدلت األحوال .تشعر به كائنا خفيا يعمل فى همة ألغتيال كل األحالم ..غير أن
معظم المحيطين به قد أستشعروا تحوالته المزاجية فى هذه األيام الحرجة ،فبدت أفعاله وحركاته سوى
تشنجات عصبية وزفرات أشبه بغباءات كبيرة ،كان التحليل المنطقى لحالته كما أشار بعض خبراء
المقهى وحكمائها هو أنفصاله عن زوجته وأقترانها بأخر ،فأنفرد بنفسه مع الوحدة الكئيبة التى جعلته
مصابا بحالة من العصيان ال يعرف معها بأى اتجاه يسير ،أختار المسيرات والمظاهرات داوم على
الخروج فيها حتى وإن كانت مظاهرة تنادى بتحريم المظاهرات ،أعتبرها شريان يضخ فيها غضبه ،
ولما تهدأ المسيرات والتجمعات والمظاهرات تكون ضالة الكالم هدفه وغايته .سحب كرسيا ثم صفع
قعدته بكف يده كأنه يهش من عليه الغبار ،أنضم لمجموعة من المشجعين يراقبون فى حماسة غير
ضرورية دور طاولة ملتهب كان طرفية " عم نوفل " واألستاذ " أمام" تابع " العشرة " بذهن خالى
من أى مادة تصلح لحديث ..أستعد يراقب كى يلتقط مدخال أفضل لما يأتى من كالم ،أو ليتبين وقع
الحديث القادم ،غير أنه بالتأكيد كان قد أعد بعناية كيف يبدأ :أيه اللى األخوان بيعملوه فى البلد ده ؟!.
بنبرة غير مبالية على لسان عم نوفل :هو أنت مش كنت متحمس لهم وبتقول عليهم حيعدلوا البلد !!.
ــ أنا ماقلتش كده أنا قلت الناس دى مليانة فلوس والبلد حينولها من الحب جانب .
أستقبل الحاج " تاج " تبرير " تشكك" بأبتسامة خفيفة برزت فيها أسنان صفراء تتوارى خلف شفتين
رفيعتين تحددان المالمح الهادئة للوجه األبيض واألوداج المتهدلة والعيون الضيقة .مال بفمه على
مبسم الشيشة قبل أن ينزعه :بلد أيه اللى حينولها من الحب جانب ..أسألنى أنا عن األخوان ياسعيد
الناس دى كل اللى يهمهم أزاى يتمكنوا من البلد ...يتكامل المشهد كما أراد .أرتفع صوته كالنذير .
قال تشكك :مستحيل يتمكنوا من البلد وأحنا موجودين الشعب مش حيسكت ياحاج ولوجت على أرواحنا
تبقى سهلة .أضاف وكأنه يفشى سرا :لو األخوان عايزنها دم وحيسلطوا ميلشياتهم على الناس
ساعتها حتالقى فى كل حارة وفى كل حى ميلشيا تصدهم وتوقفهم عند حدهم مش حيسيبوهم .
جاء صوت من ركن المقهى معقبا ،تحس انه ينفجر فيه ذلك األنفجار اليائس ،كان عجوزا متعبا ولم
يكن فيه جزء سليم إال لسانه :لو سكة الدم دى أتفتحت فى مصر مش حتتلم تانى أبدا وال تقولى
ساعتها أحنا حنبقى زى لبنان وال الصومال ..كلنا حناكل بعض و مافيش حاجة فى البلد حتفضل واقفة
على حيلها كله حيتهد على دماغنا .خرجت همهمات متفاوتة بين األعتراض والقبول على هذا الرأى ،
74
كل له فهمه ،غير أن الوجوم قد أستشرى فى الوجوه كالعدوى .قام " عبده " من مكانه بعد أن أحس
بشيىء من القتامة يلقى بظالله عليه ،أراد أن يفتت الغمامة الثقيلة التى كبست على مالمحه :يعنى هو
الريس مرسى مش شايف بعينه كل اللى بيحصل ده وال دى سياسة مرسومة وهمه ماشيين عليها .لم
يكمل مالحظته بعد أن بطش به السعال ،فأغتنم " تشكك " فرصة أنشغاله :الجماعة دول مايعرفوش
يعنى أيه وطن ،دى ناس بتفكر فى خالفة ومش فارق معاهم البلد تقع وال تتقسم دول عالم معقدين .
خرجت نبرة قبل أن ينقيها من أثر السعال .قاطع عبده :همه أحرار فى تفكيرهم المهم أحنا عايزين
أيه وحنحافظ على البلد وال أل والعبد للــه اللى قدامكم أبو الوطنية !! ..دائما ما يتفاخر عبده بنضاله
الوطنى إبان األيام األولى لثورة يناير المجيدة وأستشهد بدوره البطولى المقاوم حين كان يركض
بال هوادة خلف سيارات األمن المركزى مطاردا لها فى شارع كرموز الرئيسى قبل أن يتمكن هو
ومجموعة من أحرار حارة " عويضة " بالقيام بعملية فدائية ناجحة داخل قسم شرطة " مينا البصل "
أسفرت عن تحرير كل الحرامية والمجرمين من داخل حجرة الحجز واألستيالء على كل األسلحة
الموجودة .فرغ عبده من قصة الوطنية ثم تقاسم مع الموجودين سرد الحكايات تباعا ،كلها حكايات
مليئة بالصراعات والهزائم والخيانة فيها لها دور كبير ،الراوى هنا سعيد تشكك .
تحول " عبده " الى ترابيزة الحاج " تاج " ثم أنضم إليهما " تشكك " قبل أن يباغتهم " جنش "
الجزمجى بصندوقه المتدلى من كتفه وبطنه المتقدم ورجلين يسحبهما معه سحبا تحت جلباب غامق
ال يبلى أبدا وال يخلعه قط ،فقد بات من طول عشرته له يحمل شكل جسمه ،أنقض بال مقدمات على
حذاء الحاج " تاج " يدلكه بالفرشاة بينما " قناة الجزيرة " مباشر تذيع لقاء مع أحد الناشطين
السياسيين أصحاب الوجوه المعروفة فى الفترة األخيرة ،تصلبت أذنى " تشكك " تلتقط كلمات الناشط
قبل أن يسحب من بنطلونه جزءا من قميصه ،أخذ يمسح به نظارته ،فأختصر كل ما يموج فى ذهنه
كعادته عند بداية أحاديثه بالسب واللعنات على معظم الموجودين فى الساحة السياسية ،عباراته كأنها
أشياء مقلوبة ال توحى بأى أنتماء أو أحترام ألى حزب أو حركة أو جهة .يشير بأصبعه بأتجاه الناشط
المتفزلك على الشاشة :آهو ده بالذات عميل أبن عميل ..كلهم خونة وبيدوروا على سبوبة يطلعوا
منها بأى مصلحة .طأطأ " عبده " قبل أن يمد يده لكوب الشاى ..بدا مذهوال حين سأل وهو مازال
ملخوما مما سمع :مش الراجل ده كان قاعد ليل ونهار فى ميدان التحرير ..أزاى بقى عميل
وخاين ؟! ..يدير " تشكك " وجهه عن المتسائل المتطفل بازدراء .يمضى مبررا :يا معلم عبده مش
75
كل الل ى فى التحرير بيخافوا على البلد ونيتهم سليمة أكترهم قابض يابا ؟! ..لم يصل فيه السؤال
إلى ذلك المنحنى الفاجر الذى يربكه .فأضاف :اللى بيسموا نفسهم ناشطين وأنهم صحاب الثورة واللى
أتلمو دلوقتى على شلة الدقون اللى طلعوا لنا فجأه زى العفاريت كانوا كلهم قبل الثورة مش ألقيين
ياكلوا وال كان حتى يعرفوا شكل الفلوس و دلوقتى كلهم راكبين أحسن عربيات وساكنيين فى أحلى
شقق ..أصحى يامعلم أحنا كلنا أتباعنا وأتقبض تمنا كاش ..كان أداءا حماسيا سرعان ما أنتشر
فى المقهى متواثبا فوق كل الطاوالت ،فأرهف الجميع أذانهم ،معظمهم كانوا من المفلسين يستمعون
إلى أرائه المفككة المفاصل ،يرسمون بنفاق على وجوههم معالم األنصات إليه بجدية ،بينما أبدع
" تشكك " وأضاف منشدا :الناس دى حرامية وعايزين ياكلو البلد فى بطونهم ..عمركم سمعتم عن
وظيفة أسمها " ناشط سياسى " طب حد عاقل يجاوبنى ويقولى الناس دول بيصرفوا منين وبيعيشوا
أزاى .أسكته " تاج " مقاطعا :أهدى ياسعيد وسيب األيام تبين مين مع البلد ومين اللى ضدها .
أرتفعت خيوط الدخان فى صمت " .جنش الجزمجى" ميال إلى الفكاهة ،يأخذ الدنيا من جانبها
الهزلى ..رفع عينيه ويديه من على حذاء الحاج تاج .يسأل :من حقهم ياخدوا فلوس ؟! ..ويسترزقوا
كمان .قطب " تشكك" حاجبيه :ليه إن شاء اللـه ياجنش ؟!..
ــ عشان همه ناشطين مش كسالنين .دوت ضحكات متقطعة قبل أن يقاطع أحدهم :بيقولك مرات
واحد ناشط بتقول لصاحبتها جوزى راح يشترى لنا بطاطس ،عربية صدمته ومات ..صاحبتها أتخضت
وقالتلها وأنتى عملتى أيه ؟..أبدا عملت كوسة .أرتفع زئير ضحكاتهم .أصابت تشكك بالكأبة والوحدة ،
تململ فى جلسته وهو ينظر إليهم واحدا واحدا ،شعر أنه لن يستطيع أن يكمل جلسته بينهم وفى هذا
الجو الباسم بينما دخل عبده فى وصلة ضحك قبل أن يضع كوب الشاى جانبا وضرب فخذيه حين لمح
األخير ينتفض غيظا وقد أرتعش حاجبيه كأنهما تتراقصان ،فأستجمع بقايا كرامته وربت على ركبتيه
بكلتا يديه ثم نهض مرة واحدة :سالمو عليكم يامعلم عبده ..سالمو عليكو يارجالة .
ــ مالسه بدرى يا استاذ سعيد .قالها عبده بينما قام الرجل العجوز ثانية :تالقيه رايح يشترى
بطاطس ! ..مضى " تشكك " ينقل خطواته بعصبية ظاهرة خارجا من المقهى تزامنا مع أنتهاء
" عبده " من وصلة الضحك والسعال ..ثم سأل :ما تفهمنى يا حاج تاج مرسى واألخوان حيودونا
لفين ؟! ..حاول أن ينهى النقاش المبتور ،الذى يبدو بال بداية وال نهاية :أسمع ياعبده كلمتين حاقولهم
76
لك وحطهم فى ودانك ..مصر دى كبيرة أوى ومن األخر عمر األخوان ما حيحكموا مصر وأنتخاب
مرسى ده قول عليه كده خبطة على الدماغ والناس أختارته وهيه مدروخة .
ــ كالمك صح ياحاج كنا كلنا مدروخين والشعب كله كان عامل دماغ .سكت فجأة وتوتر حين لمح أبنه
منصور يدخل المقهى .نهض :عن أذنك يا حاج ..أتجه نحوه بخطى هادئة حتى سد عليه الممر بين
الطاوالت :كنت فين لغاية دلوقتى ياوله ؟ ..بنبرة مشروخة وجفنان متورمان :كنت نايم يابا .بلكنة
أبوية تحمل معانى ال يجيدها :لك حق تنام لغاية دلوقتى ماهى دى آخرة الصياعة والسهر طول الليل .
أشاح بعينيه بعيدا وقد بدا وجهه كئيبا كالعادة فى ساعات النهار بينما يكتسب رونقا خاصا فى آخر الليل
بعد أن أصبح رجل وله خباياه التى ال يريد الكشف عنها أليا كان .توزعت مالمحه وتركيبته وحالته
المزاجية بالتساوى بين أمه ووالده ..طويل قوى البنية كأبوه ،وجهه لحيم وعيناه واسعتين كأمه .ال
تنقصه الوسامة ،بشرة خمرية وشعر طويل يغطى جزءا كبيرا من أذنيه وقفاه ،معلوم للجميع بأنه
يكسب الكثبر من المقهى ،تتمناه كل أم لبنتها فى الحارة ،والكثيرات ينصبن حوله الشباك .
ــ أتفضل يافالح أترزع مكانى لغاية ما أروح لمكتب محمود المحامى .
ــ مش القصد ..النهاردة حنشطب بدرى عشان بكرة ميعاد الزيارة بتاعة أمى .
أزاحه عن طريقه قبل أن يرد بملل :روح أقعد مكانى وبكره ربنا يسهل ويعديها معانا على خير .قالها
وأنطلق متعجال فى حين أنكمش منصور محتال مكان أبوه ،يرمى بنظراته الحادة لكل ما تصل إليه
عينيه ،إال أنه رفع يده فى تحية بأتجاه صاحبه الحميم " سليم " فور دخوله عتبة المقهى ،عالقة
قديمة مستمرة منذ أن زامله فى مدرسة " النهضة األبتدائية " وهى المرحلة األخيرة فى عالقة سليم
بوزارة التربية والتعليم ،أتجه بعدها بكل حماسة إلى المشاغبات والرذالة ثم أحترف بعض المهن كانت
أحداها النقاشة والتى أظهر فيها نجاحا فى دهان الجير ،له سحنة تتغير حسب ما يتعاطاه ،فتجده مرة
شابا ومرة كهال وأخرى شيخا هرما .له خطوة مميزة تحس فيها بالترنح ؟ ،يقترب من منصور وهو
يتفقد شعره بأنامله الذى وضع عليه مايكفى من " الجيل " بينما نفرت منه خصلة على جبينه مثل ذيل
الفار .
77
أفسح " منصور" مكانا لكرسى " سليم " الذى سأل قبل أن تلمس مؤخرته مقعدته :أبوك فين ؟..
ــ عند محمود المحامى .قالها وأشعل سيجارته التى كان قابضا عليها بشفتيه .
ــ يعنى أنت مش عارف أبويا ومشاكله اللى حاطط نفسه فيها !!.
ــ قصدك نظام العرفى اللى داير بيه مع النسوان الساكة ..طب أطلب لنا شاى وشيشة .
ـ أتنين شاى وشيشة هنا ياجمعة .بينما كان يراقبة سليم من خالل حاجبيه :اللـه يسهلك ياعم ..عرفت
أنك كنت مع البلطية النهاردة ؟! ..أنتبه ولم يجب ،وإنما ألتقى حاجباه عند منبت األنف فى ثنيتين :
تقصد نوسة ..واللـه ماشفتها النهاردة .حضر " جمعة " بصينية بها كوبين شاى وشيشة وضعها
بين ساقى سليم .فما أن ادار ظهره حتى تابع منصور :بتسأل ليه ياسليم ؟ ..لم يأته الرد سريعا ،
مازال األخير يسحب أنفاسا طويلة من الشيشة ثم يحاصرها داخل صدره ال ينفث الدخان إال بعد مدة .
قال حين أغمض عينه نصف أغماضة :أنا لسه شايفها من ساعة داخلة حارتهم وكانت متظبطة
ع المسطرة محزأ ومحبك ع األخر قلت أكيد الحلوة كانت مع منصور .توتر األخير فظهر الشريان الذى
يشق جبهته حين يغضب ،يدخن سيجارته ويطقطق بأظافره على بطن كوب الشاى ..لحظة عصبية
تنتابه فى حين سعل سليم سعاال خفيفا كى يتيح الفرصة لصوته أن يخرج :هى أيه العبارة يامنصور..
ساهما :خرجت راحت فين ورجعت ؟ قالها ثم ثأثأ ونطق بعبارات مفككة وألفاظ من الشتائم الضخمة
بينما يضغط سليم بالماشة على الجمرات يتناول أنفاسا قصيرة :ليه تعكر مزاجك وتشغل بالك وتخلى
الصراصير تلعب بدماغك ما تتصل عليها وتسألها ؟ .دار بعينيه للحظات ثم قام من مكانه قلقا غاضبا :
أل مش حأتصل أنا حأروح لها البيت ! قرر ذلك وهو يضع علبة سجائره فى جيب قميصه ثم صرخ :
جمعة ..ربع ساعة وجاى .قالها وألتفت لصاحبه :أستنانى حأروح أشوف الحكاية دى وحأرجع على
طول ،هز " سليم " رأسه قبل أن يقبل على الحجر ملهوفا متأمال صاحبه الذى أختفى فى ثوانى من
المقهى .
غار منصور فى الحوارى المضاءة نصف أضاءة وسط صمت وهدوء مباغت فى هذه األزقة الضيقة
المتعرجة التى أفضمت به إلى بيت عتيق محشور بين أشباهه ،واجهته ليس فيها شيىء من تناسق ،
78
كانت من تصميم وأبتكار جده الراحل " عبد المقصود " بصفته مالك البيت ومن بعده ألبنته فايزة ،
وبالرغم من مساحته الكبيرة إال إنه موقوف على سكان همهم األكبر أختصار النفقات والعيش يوم بيوم
أجتاز منصور المدخل الصغير ،ثم دفع بابا صغيرا معلقا فى زاوية ،صعد السلم الحلزونى الضيق
المظلم الذى قاده إلى شقة نوسة ،فلما صار عند العتبة ،رن الجرس ..لحظات وكان الباب مفتوحا قبل
أن تطالعه نوسة بأبتسامة مصحوبة بنصف وقفة وقد أنحشر جسدها فى فستان ضيق قصير ،فتفسر
تفاصيله بتحديد واضح ،الوسط الضيق والصدر المدبب ،فالسوتيان أصغر من مقاس صدرها
بـ " نمرتين " من الدانتيل الذى يكشف وال يخفى ،بدت مالمحها جامحة ،عينان سوداتان فوقهما
حاجبان مرسومان بدقة على بشرة بيضاء المعة ..جمال وحشى يضرب الفقر فى نخاعه بكل ما أوتى
من عزم دون أن ينجح فى تشويهه .صراخ جسدها باألغراء كان تلقائيا ،أصبح عليها أن تشق طريقها
بسالحها الوحيد .أنوثتها المتفجرة .
صوت أمها الست " بدرية " يأتيها من الداخل مجلجال :مين يا نوسة اللى على الباب ؟ .تقرب عينيها
بشقاوة تالعبهما فى عينيه خرجت كلماتها مع دوران اللبانة فى فمها التى تبرزها فى بطء عند طرف
لسانها :ده منصور ياما ..
ــ تعالى يا منصور أدخل .صحبته إلى الداخل وهو من خلفها يتبع خطواتها بينما بصره منحصر فى
أردافها المرتجة المدربة .
بدت الشقة صغيرة ضيقة وتجهيزها من موبيليا وطالء وأضاءة دون المستوى فى حين كانت " بدرية "
ملء كنبة أسيوطى فى ركن الصالة ،أوشكت أن تتحول إلى كائن كروى طوله مثل عرضه ،لها وجه
أبيض منتفخ يوشك على األنفجار ،غالبا ما تفقد لونه تحت وطأة مساحيق من شتى األلوان ،خطوط
بالقلم األسود تحت العينين ،ظالل خضراء على الجفون يظللهما حاجبان رفيعان مقوسان ..الست
بدرية صاحبة تاريخ طويل من الكفاح المشرف سطرته منذ ثالثين عاما حين شقت طريقها مغنية
مغمورة فى األفراح الشعبية وفى سبوع المولود وحفالت الطهور إلى أن توالت نجاحاتها حتى أصبحت
مطربة كرموز األولى قبل أن تطور أدائها وأرتفعت بسقف الطموحات حين أكتشف فيها " عم داود "
متعهد كومبارس نواة جيدة لممثلة سيصبح لها شأن فى سماء الفن ،دائما ما كان لها دور فى معظم
المسرحيات التى تعرض باألسكندرية فى الصيف .
79
خمسة وعشرون عاما هى المدة الزمنية التى قدمت فيها رسالتها الفنية بنجاح ،وإن كان يعاب عليها
أن كل أدوارها كانت صامتة إ ال ما ندر منها عندما تنطق بكلمة أو كلمتين ،غير أنها ألقت بمسئولية
الخرس فى كل أدوارها على عاتق المخرجين والمنتجين الذين حاصروها دائما فى أدوار تعتمد على
الحركة وسط المجاميع ،ولكن سبحان مغير األحوال جاءت ثورة يناير المجيدة فاتحة خير عليها حين
توقف النشاط المسرحى تماما فى األسكندرية ،فلم تجد أمامها سوى األختيار الصعب وأعلنت قرارها
باألعتزال !..
أقتنص منصور مساحة صغيرة إلى جوارها وجلس محصورا قبل أن تنضم إليه نوسة وتلتصق به .
أستدارت برأسها فى صعوبة مستفسرة :خير يامنصور يابنى جاى تاخد األيجار؟ سدد نظرة وعيد
باتجاه نوسة :أل ياست بدرية أنا جاى أفهم األمورة بتاعتنا كانت فين النهاردة على سنجة عشرة .
بأستهانة ردت بدرية بعد تفكير لم يطل وهى تلعب له حاجبيها وتتنهد من أعماق بطنها :حتروح
فين ياحسرة كانت عند " منعم " الكوافير .تفحصها بركن عينه :وهيه برضه محتاجة كوافير
ياست بدرية !.
ــ أسمع يا بنى ..تخاف عليها على عينى وراسى ؟ ،تطمن عليها كتر خيرك ياحبيبى لكن راحت فين
وجيت منين ..أل " صورى" ماتأخذنيش أنا بس يا نور عينى اللى أسألها .زادت جلسته أنكماشا
وضيق فتحتى عينيه وصدرت عنه صيحة غضب ذاهلة :أزاى بس الكالم ده ياست بدرية ما أنتى
راسية على اللى فيها وفاهمة كويس أن نوسة بتاعتى .حشدت أذانها .تسمعه .وقد أرتفع حاجب
وأنخفض األخر بينما تمر بأصبعها على أحداهما :بتاعتك أزاى ياروح الست بدرية ؟ .
ــ يعنى حتبقى مراتى على سنة اللـه ورسوله .النت نبرتها :أحنا سمعنا الكالم ده كتير يا منصور
وبصراحة بقى أنا عايزة أشوف بعينى .
ــ بكرة الزيارة بتاعة أمى وأنا نويت أفتح معاها الموضوع وإن شاء اللـه الخير كله حيبقى بكرة ..
مصمصت شفتيها :ع العموم بكرة مش بعيد ..تشرب قهوة ؟ يفرك يديه مبتسما :أل أشرب شاى .
80
محاوالت متكررة منها للملمة لحمها قبل أن تنجح فى النهوض ،تجر قدميها جرا ،بينما كان ظهرها
يختفى من الصالة بأتجاه المطبخ أرخت نوسة جسدها بنعومة حتى مأل منصور عينيه من ساقيها
المنحدرتين بأستقامة وجلدها الالمع المشدود يغريه ،بينما لم تغب عنها نظرته التى سقطت عند فتحة
العنق ،كذلك لم يغب عنه ذراعها البض المستدير بال ترهل .ولما أنفرجت فتحة الثوب ،لتحيط
بإطار داكن الحمرة ،فخذان بضان خلبا عقله ..ألتصق بها ثم مديدا جريئة تقفل فتحة الثوب ،المست
أصابعه الخشنة نعومة اللحم األبيض ،ففتحت فى لحظة شوق لألصابع الداخلة ،فبرقت عيناها وسرت
سخونة فى بدنها كله ..أمتدت يده تداعب شعرها وعنقها ،فأحس بها تلتصق به وكأنها أرادت أن
تطمئنه على وجود غنيمته بجانبه .مالت على العنق العصبى فالعبت شعره ليكرر صوته المتهدج
بالشهوة والرغبة :بحبك أوى يا نوسة .قال جملته ثم مط شفتيه لعله يقبض بهما على شفتيها قبل أن
تبعدهما :أنا كمان بحبك يامنصور بس مش بأيدى حاجة ..أنت اللى مالكش غرض .
تضغط بضروسها على لبانتها :أيوه أنت يامنصور ..بقالك سنة بتقوللى حأكلم أمى فى موضوعنا
لما أروح أزورها ،وزيارة ورا زيارة وال منك كلمتها وال حتى بينت كرمات .هدأت الرغبة المحمومة
حين أدلى رأسه :ما أنتى عارفة أن أمى فى أيدها كل حاجة وهى صاحبة الحل والربط وعشان كده الزم
أتكتك براحة وأخد رضاها فى حجرى ..أمى لو باركت المشوار بتاعنا ده الدنيا كلها حتضحك لنا .
أجتذبت كلماته رضاها وأصبح الجو دافئا وقبل أن تزيد سخونته سمعت نوسة الصوت المألوف لزحف
شبشب أمها على البالط ،وهو أعالن منها عن قرب ظهورها قبل أن تبلغ ركنهم فى الصالة كى
ال تفاجئهما ملتحمين فى عناق ..أقبلت بدرية بصينية الشاى تستكشف بنظراتها ما أسفرت عنه الجلسة
الخلوية قبل أن تلقى بنظرة فى عينى أبنتها التى فهمت القصد منها ،فتحولت بأتجاه الولهان :بكرة
ياما منصور حيروح يزور أمه الشر برة وبعيد فى السجن ووعدنى أنه حيفاتحها فى موضوعنا .
وضعت الصينية على المنضدة الصغيرة كى تتمكن من وضع يديها حول وسطها بتأنيب :ده أخر كالم
يا منصور والزى كل مرة ! .
ــ وعزة جالل اللـه بكرة حأكون مخلص الشغالنة دى كلها ومش حأرجع من عندها إال ومعايا موافقتها
ــ لما نشوف أخرتها .قالتها بتسليم وأرادت أن تكافأه .أردفت :طب باألذن يابنى ورايا حاجات فى
المطبخ حأعملها ..شعر منصور بأن طريقه أخضر فأراد أن يحتويها بين يديه ،بينما كانت نوسة يطيب
81
لها أن ترى شهوته تتدفق منه ،كانت تجعله يرتوى من مجرد المالمسة وكانت ترى رغبته فى النظر
إلى نهديها البيضاوان المكوران ،يرى أستدارتهما وهى تنحنى لتقديم الشاى قبل أن تضع يدها عليهما
وعاتبته بعينيها وأبتسمت ..بدت شفتاها ترتجفان بأبتسامة تتدبر فيها أقتراحا ما :أنا جتلى فكرة
يامنصور .سحب يدها من على صدرها :هو ده وقت أفكار يابت .
ــ أهمد وأسمعنى ،أيه رأيك لو تكلم أبوك المعلم عبده وتتفق معاه ييجى عندنا هنا يفاتح أمى ونقرأ
الفاتحة وأنت براحتك بقى خد وقتك مع أمك وأبقى مهد لها فى أى زيارة وساعتها الحتمانع
والحترفض.
وقع كالمها كان باديا على مالمحه حين أرتبكت نظراته وأنكمشت جبهته .لم تسمع منه تعقيبا
فعاجلته :أيه رأيك فى الفكرة دى ؟! ..خبط جبينه بكف يده :يانهارك أسود يانوسة ،بقى أنتى عايزة
أبويا ييجى عندكو البيت ويتفق مع أمك وكمان يقرأ معاها الفاتحة من غير موافقة أمى فى األول .
صدى كفيه على فخديه كان معبرا :تصدقى وتؤمنى باللـه .
ــ ده أبويا من كتر خوفه من أمى لما بيعدى من أدام صورتها اللى متعلقة فى البيت بيمشى على
طراطيف صوابعه .عند ذاك تطلق ضحكة مجلجلة أفقدتها توازنها فمالت على كتفه بطراوة ثديها
فيتوتر جسده للحظة ويكف عن الحديث ،فيجرع كوب الشاى دفعة واحدة قبل أن يشعل سيجارة يدخنها
لعلى أنفاسها تخفف توتره ،بينما ترمقه بنظرة ماكرة من طرف عينها وهو يمسح قطرات الشاى من
حول فمه بظهر يده وهى تتدلل وتراوغ .كانت كالقطة التى تلعب بالفأر قبل أن تجهز عليه ،وتأكله .
أزاحت يده بحركة حاولت أن تجعلها ال تشى بأمتعاضها ..أبعدت شفتيه عندما أقتربت من خدها أنفاسه
الساخنة ،ظلت فى كل لحظة تتصدى لمحاوالته وتحبطها قبل أن تهمس وهى تدفعه فى صدره
بميوعة :كفاية كده يامنصور وقوم روح شغلك قبل أمى ماتاخد بالها .لمست منه أستجابة قبل أن
يقبض بكفيه على خديها تاركا قبلة على شفتيها كان لها تأثير مؤلم على فكيها ،نهض بعدها واقفا :
أدينى ماشى ياقشطة .تقدمت أمامه ،فتحت باب الشقة ،أراد النزول سريعا قبل أن تظهر أمها وتلقنه
كلمة أو جملة حول زيارة الغد ألمه ..بينما أدركته نوسة وهو يهبط الدرجات على عجل :أسمع
يامنصور .توقف وهو يرنو الى أعلى :حترجع بكره أمتى من الزيارة ؟
82
ــ يعنى بعد العصر كده .همست :أول ما ترجع أبقى كلمنى على طول ،عايـــزة أسمع أخبار حلوة ..
صعد درجة وهو يفتح فمه :دى أول حاجة حأعملها بس أدعيلى يانوسة ..ضحكت :حأدعيلك ..هبط
يكمل الدرجات .
0000000000000
مازال عبده ماثال أمام األستاذ " محمود المحامى " الذى تصدر مكتبه بمالمح صارمة واثقة زادت من
فجاجتها بدلة فيرانى وكرافتة سوداء مع نبرة صوت لها رنة وكأنه مقدم برامج فى حين أسترخى عبده
بجلبابه الفضفاض وقد بدرت منه صيحة دهشة عفوية ال تخلو من هامش كوميدى :خير ياأستاذ
محمود جايبنى على مال وشى كده ع الحامى عامل زى الدكر اللى مزنوق فى نتاية !! ..رجع بجسده
مستندا إلى ظهر كرسيه :يعنى هو أنت ياسى عبده لما الواوا تنأح عليك ويكون لك مزاج فى جوازة
تيجى وتبقى عامل زى فرقع لوز لغاية العقد مايتكتب وبعد الواوا ماتخف تخلع وتسيب لنا وجع
الدماغ ! ..تداخلت رأسه بين كتفيه :يعنى أيه يامتر الكالم ده ؟ .
ــ يعنى لم الدور ياعبده ..أحتد فجأة .لعله لم يفهم مقصده من تعبيره :يعنى أيه الم الدور ؟ .
ــ يعنى خلص البت كريمة وأديها القرشين بتوعها وخليها تروح لحال سبيلها .قالها بصيغة قرار..أراد
أن يقاطعه :مأهو أنا عايز أقولك ..لكنه صفع سطح المكتب بيديه مقاطعا :ال تقولى وال تعيدلى أنت
تخلص الحكاية دى وبس وأبعتلى فلوس كريمة اللى مكتوبة فى العقد .
بنبرة من فاض به :خلص نفسك ياعبده أحسن لك ..الوله " جمال النونو " صبى فايزة لو شم خبر
عن الحكاية دى حيبلغ المعلمة وساعتها أنت حر منك لها بقى ! أرتبكت الكلمات على لسانه :أل لحد
كده ويبقى الزم ألم الدور وأخلص نفسى .
غير أن عبده فوجىء به يقهقه بوتيرة عالية متواصلة ويكاد ينقلب على ضهره ويضرب كفيه ،سرعان
ما شاركه عبده الضحكات فلم يكن يتصور أن األستاذ محمود أنسان قابل للضحك مثله .لم يمهله
83
األستغراق فى دهشته بل قذف عليه بسؤاله كمن يقذف بحجر :أخبار دفاتر الحسابات بتاعة القهوة
أيه ؟ بدا كمن سحب لصدره نفسا :أن شاء اللـه حأجهزهم وأبعتهملك متستفين .
أختصر الموقف :أدامك أسبوع ياعبده وتكون الدفاتر هنا على مكتبى .شابت صوته نغمة خيبة :
ماينفعش أسبوع ..فى أمور الزم تتظبط وفى حاجات لسه حتتشال وحاجات حتتحط .
ــ ماشى حأسيبلك فرصة أسبوعين تظبط فيهم نفسك وأنت سيد العارفين أنا الزم كل شهر أقفل حسابات
فايزة من شيكات وأيصاالت أمانة ..ده حتى الوله النونو سلمنى أيراد التاكسى بتاع الشهر اللى فات
وبيجهزلى أيراد الشهر ده ومش فاضل غيرك ياعبده .مسح شاربه قبل أن يحفزه الفضول :طب لو
فرضنا أنى ماقدرتش أجهز الدفاتر فى األسبوعين دول ،أيه اللى حيحصل يعنى ؟ بتكشيرة صرخ فيه :
ساعتها ياحلو حأخلص ذمتى وحأقدم طلب زيارة لفايزة وحأقولها جوزك عبده الجن اللى بيدير القهوة
مش عايزنى أراجع الحسابات وال عايز يسلمنى األيراد ،أراد عبده أن يعترض ،ولكنه تفكر فى األمر ،
فأحجم ،هو ال يريد أن يقحم نفسه فى أية مشكلة مع فايزة ،كما أنه يعرف عقم مثل هذه المناقشات مع
األ ستاذ محمود ..أومأ برأسه مسلما .أمتثل صاغرا .ثم قال مخاطبا :ماشى كالمك يامتر ..أمرى للـه
أسبوعين وحتكون الدفاتر بين أيديك ..أرتخت مالمحه :يعجبنى فيك عقلك الكبير ..الدفاتر تكون
عندى هنا كمان أسبوعين وبكرة بالكتير تكون فلوس كريمة جاهزة ..ماشى ياعبده .شعر األخير
بصدره ممتلىء بشيىء ثقيل كاألسمنت سريع الجفاف ،بينما أنشغل فى حوار داخلى سريع بينه وبين
نفسه ،راح يفاضل بين أحتماالت األسوأ واألكثر سوءا .غير أنه أعد نفسه على كره منه لتنفيذ
تعليمات المتر ..هز رأسه مهموما قبل أن يلملم جلبابه وقام من جلسته أسود الوجه كالغراب .
000000000000
جموع من البشر تمضى وأخرى تأتى ،تتحرك بمسارات متعرجة ومرتجلة وايقاع يصعد بالحركة إلى
غاية ال تخطئها األفواج الماضية واآلتية .مكان الحدث عند البوابة العمومية لمبنى السجن .تلك هى
مشاهد الحركة التى تدور أحداثها فى بالتوه الساحة الخارجية الممتدة أمام البوابة .
يوم حافل باألرتباك ،محفوف بالعشوائية .المشاعر األنسانية بشتى درجاتها هى القاسم المشترك لكل
الموجودين .أنه يوم الزيارة ..
84
المشهد من الداخل مختلف بأختالف الشخوص .بعضهم تنفس الصعداء فور مروره إلى الداخل مثقل
بحمله من حقائب وأكياس وأطفال قبل أن يعبث أمن السجن بأصابعه فى كل شيىء ،فهم يدققون
ويفحصون ويفتشون أحمالك وجيوبك وبين ثنايا مالبسك وداخل تفاصيل جسدك .وأخرون عقب
خروجهم من البوابة رأوا فى تلك الخاتمة خالصا ! .
يوسف وبسمة كأنا من ضمن فوج تقرر دخوله حين سمعا مناديا فى هيئة " صول" يتلو أسماء
السجينات المتاحة لهن الزيارة وجرى على لسانه أسم أمهما ،شعر يوسف حينها ببلوغ غاية أستحالت
إلى أمنية طارئة أو مصيرية .
تحرك الفوج فى بطء بارد وكان فى القلب منه بسمة وأخيها ،يرتطم جسديهما بجموع المتلكئين الذين
يتركون أجسادهم يدفعها لهم اآلخرين .توقف الزحف عند ساحة أستقبال واسعة مستطيلة تشرف على
مبنى العنابر وقد تناثرت طاوالت بطول المكان وعرضه ،المشهد بدا فوضويا ،تصل إلى األسماع من
كل ركن ثرثرة الواقفين والجالسين .كل تطحنه همومه .الحوارات تدور أشبه بالصراخ ،كلها جمل
مشتقة من قاموس الفقر والمرارة مصحوبة بشرح واف عن أزمات عاتية تتردد على ألسنة الزوار يزيد
من مأساتها عيونهم الباكية ،بدءا من أزمة الغالء والعيشة واللى عايشنها وحالة السواد والكآبة التى
تمكنت من البالد والعباد ،نهاية بتفاصيل التعب واألرهاق والتكلفة عند كل زيارة ،غير أن األمر
ال يخلو من أنحرافة سريعة على حال البلد تحت حكم األخوان ،فدفعت البعض إلى القول بأن حال
الموجودين داخل السجن أفضل كتيرا ممن هم خارجه ،بينما تحفظ البعض وأوضح أن الحال قريب
الشبه وليس بأفضل .
رغم سنوات السجن الطويلة مازالت " هدى" تحمل فرحا وخوفا غامضا عند لقائها بأوالدها فى كل
زيارة .هلع يظهر ويسيطر ويختفى .تسمرت فى مكانها عند عتبة المبنى المشرف على مكان األستقبال
وسط صف طويل من السجينات ..مشهد يترك لديك أنطباعا ،بأن عددا ال يستهان به من المصريين
يتابع حياته من داخل السجون .تهلل وجهها حين لمحت يوسف وبسمة .طوقت جبهتها بكفها فوق
عينيها وكأنها تحجب عنهما لفح رؤية مفزعة حين لم تجد بينهما نورا .لم تجد جوابا سوى دهشتها
التى أعتادت أن تعلنها داخلها فى كل زيارة أختفى فيها وجه أبنتها .ولما أستجمعت شتاتها ،تحركت
نحوهما مسرعة تنادى بلهفة :يوسف ..بسمة ..كانا وحيدان ،منزويان فى ركن قصى داكن ،كأنهما
تعمدا أن يتواريا عن األنظار .
85
سمعا النداء .قطبت بسمة جيبنها لتتبين .أتخذ األمر منهما ثوان ليتأكدا قبل أن يرفع يوسف يده
ملوحا ،تقدما فى هرولة يدفعهما الحماس ،ليمرا بين أنواع البشر المختلفة ما بين قائم وقاعد ونائم
وثائر .كانت بسمة هى األسرع بأتجاه أمها ومن خلفها أخوها يحاور بجسده رجلين وسيدة مروا فجأة
من أمامه بخطوات باردة ثقيلة حتى أفلت منهم ،وعند نقطة التالقى ،كانت هدى األكثر أندفاعا كقطار
خرج عن قضبانه ،بينما تحول صدر بسمة لصدادة أحتوت كل األرتطام العاطفى المجنون التى بدت
قوته متعادلة بينهما ،بين لهفة جامحة وشوق تزيد حدته عند كل لقاء ،عناق ساخن مبلل بالدموع .
فى حين أستقر يوسف فى مكانه قبل أن تصيبه رعشة سرت فى بدنه كله ،أصابت عينيه وشفتيه .لم
يتحرك من مكانه ،فجرته أمه وعانقته وشرعت تدور به وتضمه إليها وهو أطول منها ولكنه خاضع
مطيع ..لحظة درامية يذوب فيها الفرح فى الحزن ..كان هناك عتاب صامت بدا واضحا فى عينيها
وهى تسير بينهما تتأبط ذراعيهما حتى أجلستهما على يسارها ويمينها حول منضدة دائرية خصصتها
إدارة السجن ألستضافة أسر السجينات التى التتجاوز عدد أفرادها ثالث .تتناقل بنظراتها تتأمل
مالمحهما تبحث عن فارق أستجد فيهما عن الزيارة السابقة .لم تمهلها بسمة متابعة الفحص حين
نهضت نصف نهوض ومالت نحوها تقبلها :وحشتينى أوى أوى ياماما ..تدور عينيها فى خريطة
وجهها :أنت أكتر ياحبيبتى ،كلكم وحشتونى .
بينما مازال يوسف معلقا ذراعه بذراعها وأدلى برأسه نحو ظهر يدها المدلى على مرفقه ،قبله فى
خشوع :ربنا يخليكى لنا يا أمى وما يحرمناش منك أبدا .
ــ وال يحرمنى أبدا منكم ياحبايبى ربنا وحده اللى أعلم زيارتكم بتعمل جوايه أيه دى هيه اللى بتصبرنى
وبتخلينى أتحمل عيشة السجن .لم تجد بسمة سوى كلمات عفوية منفعلة وغير مرتبة :واللـه ياماما
أحنا بعد كل زيارة بنفضل نعيد ونزيد فى كالمك اللى بنسمعه ومافيش ساعة بتعدى علينا إال وبتكونى
حاضرة معانا ..أنتى غالية أوى عندنا يا ماما .
ــ ربنا يهونها يابنتى ونرجع نتجمع تانى زى زمان .تنهيدة طويلة يشوبها اليأس .أردفت :هو ده
األمل اللى أنا عايشة عليه وبيصبرنى ع األيام السودة الطويلة .لم تعرقل كلماتها سوى حشرجة ألمت
بصوتها قبل أن تباغتها نوبة بكاء سريعة تعمدت بعدها أن تكون متماسكة .لملمت شهقاتها :لما بأفتكر
أول يوم لى فى السجن ولما الزنزانة أتقفلت على كنت متأكده أنى مش حكمل يوم واحد وحموت لكن
86
الحمد للـه ربنا وقف معايا وقوانى وخالنى أتحمل أسوة الزنزانة واأليام البطيئة اللى ما بتعديش ..
بارقة أمل عثرت عليها بسمة وصدرتها فى جملة مفيدة :هانت ياماما فات الكتير .
ـ أحنا كلنا حاسين بيكى وعارفين أد أيه أنتى متحملة وصابرة بس على رأى بسمة خالص هانت .كان
ذلك رأى يوسف بينما أدلت بسمة برأسها داخل الحقيبة يسبقها شعرها مغطيا وجهها قبل أن تردعه إلى
الخلف رافعة عينيها :شوفى ياست ماما أحنا جبنالك أيه ؟ فأطلت األخيرة برأسها معها على محتويات
الحقيبة التى تصدرها كيس دجاج كنتاكى من الحجم العائلى وتوارى تحته علب تونة وعصائر ومعجون
أسنان وفرشاة وفى القاع فوط صحية يجاورها كيس كبير .لم يجد يوسف فى عينى أمه فضوال
وال أستفسارا عن الكيس الذى يحوى غيارات داخلية وشرابات صوف وشبشب ماركة " "Nikبقدر
مالمح حيرة مبهمة تغزو عينيها ال تبارحها رغم ما تقوم به من جهد لطرد تلك الصورة المطبوعة فى
مالمحها ،ثم تنظر إليهما نظرة غريبة فيها أستفهام وقلة حيلة :هى نورا برضه مش عايزة تيجى
تزورنى ؟! كان أول سؤال تبادرهما به .تلفت حوله وطاله األرتباك بينما يبحث عن كلمات مقنعة :
بصراحة ياماما نورا ما قدرتش تيجى معانا ..اليومين دول بالذات عندها شغل كتير أوى لدرجة أننا
مابنشفهاش غير بالليل ع النوم .تدعمه بأجابات سريعة كما تم األتفاق مسبقا .قالت بسمة :مدام
زيزيت بتحضر لعرض أزياء كبير والوقت ضيق أوى عشان العرض أدامه شهر وبصراحة ياماما كان
اللـه فى عونهم .
ــ ده األكتر من كده نورا بتتغدى وتتعشى فى األتيليه .رمى يوسف إليها بهذا الخبر المحير الباهت
وعاد إلى صمته قبل أن يرجع بظهره إلى مسند كرسيه يتأمل زوارا بدأوا يتخذون أماكنهم أستعدادا
للقاء .
لم ت تفوه هدى بكلمة ولكن دموعها تولت األجابة ..هذه المرة بتدقيق وحس أكبر قرأت بسمة فى داخل
أمها حزنا وأحباطا وتسليما .لم تلمح أمال .أوجعها المنظر :واضح أنك مش مصدقانا .رسمت هدى
بتقاطيع وجهها عالمة أستغراب ممزوجة بقلق :يعنى زيزيت بتحضر لعرض أزياء وأختكم قاعدة ليل
ونهار فى األتيليه ..هى دى أخرتها يايوسف .تلفتت بأتجاه بسمة :مش قادرة تفهميها أن أمها أغلى
من مليون أتيليه ومليون عرض أزياء .كست عينيها الدموع :مش قادر يايوسف تقول لها أن أمك
بقالها ست شهور ماشافتكيش وال سمعت صوتك .ثم التلبث أن تدعك أنفها وعينيها بمنديلها وتستأنف
حديثها ،كأنما تحدث نفسها :أنا مش مصدقة نفسى نورا اللى كنت بأعتبرها صاحبتى وأختى وكل
87
حاجة لى فى الدنيا معقولة تنسانى كده بالبساطة دى ؟ تتصارع أسئلة مخيفة ضربت رأسها كشظايا
منفجرة جعلت أفكارها غير خاضعة ألى منطق ..تنمو الكآبة فى داخلها قبل أن تتطوع دماغها
لمساعدتها ،سرحت تستحضر لها أوقاتا سعيدة قضتها مع نورا ،هكذا هى ،يسعفها ذهنها مما يقيها
من أزمات نفسية ..غابت تستعرض أيام ولت حين كانت أبنتها فى مدرسة " ماريا أوزيليا " وكانت
ترافقها دائما فى حفالت المدرسة الموسيقية بمناسبة عيد األم وعند أنتهاء العام الدراسى ..هى نفسها
التى رافقت الكون عند والدتها .كن يتالشين كل منهما فى اآلخر إلى أن صارتا كتلة واحدة ..
أستحضرت رائحة عطرها التى كانت تحبه ممزوجا بروائح تلك اللحظة وهما محاصرتان بزخة مطر لم
تفو فروع وأغصان أشجار شارع " شامبليون " على حمايتهما منها ،وأرتمت نورا فى حضنها هاربة
من البرق والرعد معلنة :لما بأكون فى حضنك ياماما مش بخاف من أى حاجة فى الدنيا وال حتى من
الحاجات اللى بتنور فى السما ..بدأت هدى تضيق بذاكرتها ،فكم تمنت لو أصابتها غيبوبة حتى ترحل
عن الواقع وال تتذكر شيئا ..حاوال تبادل الكلمات معها لتهدأة قلقها ومخاوفها ،غير أنها عادت إليهما
بفضول برىء :قوليلى يابسمة وأنتى ياباشمهندس أنا فى حاجة قولتها غلط زعلت نورا وال يمكن قلت
كلمة ضايقتها و جرحتها وأنا مش واخدة بالى ،يمكن أكون طلبت منها حاجة وكانت فوق طاقتها
ومكسوفة منى .تدعك بأصابعها جبهتها .تعتصر ذاكرتها :مع أنى عمرى ماطلبت منها حاجة وال حتى
من أى حد وكمان مستحيل أكون زعلتها ..أزعلها أزاى وأنا بأعد الساعات والدقايق عشان أشوفكم ..
تخطى منسوب الشك أفق العقل إلى الحد الذى يفضى بأنفجار فى أى لحظة :يمكن يكون حد طلب منها
ماتجيش تزورنى ؟! ..ينصت يوسف لها بألم إال أنه ال يريد أن يتدخل أو أن يقطع عليها تسلسل سرد ال
يزال فى بداياته .لكنه أمام تعبيرها الفاجع الذى خلف على وجهها حسرة .أضطر إلى التدخل :أيه
الكالم اللى بتقوليه ده ياماما ..واللـه ما فى حاجة خالص من اللى بيدور فى دماغك ده .سألها قبل أن
تبادره بمالحظة أو سؤال :وأنتى ممكن تصدقى أن نورا تقدر تتأخر عن زيارتك إال إذا كان فى سبب
جامد أوى وغصب عنها وأنا فهمتك ياأمى أن شغلها فى األتيليه بقى ليل ونهاروالدقيقة عندهم بقت
بتفرق .
بدت تفاصيل المشهد تتجمع وتكتمل ،تسحبها الدقائق والثوانى إلى تشكيل درامى يصعد بها شيئا فشيئا
حتى الذ روة .قالت وقد ظهرت عليها عصبية خفيفة :أكيد مش ده السبب ياباشمهندس وال السبب
زيزيت وال أتيليه وال عرض أزياء وال غيره ..الحكاية ببساطة أن أختكم الفلوس جرت فى أيديها
وغيرتها وحست أن بقى لها وضع وبرستيج وبقت معروفة ومهمة ..سكتت للحظات حين سحبت نفسا
88
طويال حاولت أن تحبسه قبل أن ينفلت منها خارجا مع أستنتاج توصلت إليه :نورا بقت بتستعر منى
وشايفة أن وضعها الجديد مايسمحش لها بزيارة أمها المسجونة ..أعلنت األتهام و تفحصتهما ثم
أستأنفت :حد فيكم شايف أن كالمى غلط ؟ كما كانت طريقتها فى نطق السؤال صاعقة وموحية وتحمل
فى طياتها العديد من األسئلة التى تبحث عن أجوبة .هوت كلماتها كالمطرقة على رأسيهما وعصفت
بهما دوامات وتعطل عقلهما عن التفكير وأصابهما وجوم اليعرفا معه ماذا يقوالن ..أهتزت بسمة
ثانية ،أو ماتبقى منها ،فألتفتت نحو أمها ثم إلى الجالسين متناثرين حولها ،فأحست بدفء فى قلبها ،
ألن العيون ،كل العيون فيها دموع مثل دموعها .أرخت جفنيها أمام نظرات أمها المشحونة .لم
يستأنفا كالمهما ،لم يكن أحدهما قادرا على المواجهة ،حتى كلمات العزاء ،أحسا أنها فقدت المعنى ..
بقيا صامتين يرقبانها وهى تجتهد للتماسك ،ربما ليس طلبا لسماع مبررات وحجج واهية بقدر سعيها
ألرضائهما وتلبية رغبتهما الملحة فى أن تعود لطبيعتها .
جلست مطرقة حتى ناوشتها بسمة باليد والكلمة لتخرجها عن صمتها :يعنى أحنا بقالنا شهرين من أخر
زيارة محرومين من كالمك الحلو ومن ضحكتك العسل اللى الزم ليالتى أفتكرها قبل ما أنام ..يرضيك
يعنى ياجميل تبقى الزيارة كلها حزن ودموع !! تتظاهر بأستقرار خارجى زائف ،تخفى ما تشعر به من
ظنون وهواجس وعدم قدرة على ربط المبررات فى سياق واحد .أيقنت تغير العالم حولها ،كما تغير
أدراكها له ،لم تشأ أن تغرق فى تفسير أو توصيف الحالة وقررت الخروج من كآبتها المركبة
وأنخفضت بنبرات صوتها الى ايقاع منحدر هادىء وكمن يدلو بشيىء محظور :خالص ياوالد مافيش
دموع والحزن وربنا وحده اللى يعلم أد أيه بأستنى زيارتكم بفارغ الصبر والدنيا بحلها مش بتكفى
فرحتى لما بأشوفكم قدام عينى وأالقيكم كبرتو ..ساعات كتيرة بأبقى مش مصدقة نفسى أن
ربنا عوضنى وبقى عندى راجل زى يوسف و عروستين زى القمر ..ألف شكر ليك يارب .أخيرا
سقط ذلك السور الزمنى وأختفى ،ضحكوا مثلما كانوا يضحكون فى سهراتهم الصيفية على كورنيش
األسكندرية ،لكن هذه المرة تنقصهم نورا .أجاب يوسف عن سؤال حسبته قد ضاع فى زحمة
أحاديتهم :بصراحة ياماما هدير بالنسبة لى مثالية فى كل حاجة و بتحبنى وفهمانى ومؤدبة ومن عيلة
كبيرة واألهم من كده أنها دايما بتفكرنى بيكى ..نفس شخصيتك القوية مع أنها بنت وحيدة بس مش
دلوعة وتفكيرها أكبر من سنها .سندت مرفقيها على المنضدة :نطمن األول على تخرجك يايوسف
وتبقى مهندس أد الدنيا وبعدها يبقى كل شيىء سهل .قابلها بأبتسامة عريضة صامتة دون تعقيب .
89
فى نفس اللحظة وفى ذات المكان أستعد فوج أخر من السجينات ألستقبال ذويهن ،بينما وقف
" عبده الجن" ملتصقا بكتف أبنه " منصور" يحملق بعينيه ويتطاول بعنقه ،لعله يلمح فايزة .بدا
وجهه عبوسا كئيبا ،بعينيه أحمرار وأنتفاخ مكشوفان ،وبسحنته ذبول وشحوب كأنه لم يذق طعم النوم
من عدة ليال .فى حين تصلبت فايزة فى مكانها مكتوفة األيدى تراقب الوجوه كأنها مخبر فى كمين .
لمحتهما .أشارت إليهما بثبات ..تسمرت قدماه فى األرض حين لمحها ثم أذا به يتقدم نحوها يجر
رجليه بعدما أيقن أن مثل هذه اللحظة ال بد قادمة وال مفر من المواجهة ..شبح أبتسامة يراود شفتيه ،
تدريبا أعتاد عليه لتهيأة مالمحه ألستقبال زوجته بينما ضبطت األخيرة جلبابها األبيض حول جسدها
وعصبت رأسها بالطرحة البيضاء ومضت إليهما ..كلما أقتربت منهما خرج صوت عبده بدعائه المعتاد
فى كل زيارة :ياخفى األلطاف نجنا مما نخاف !! ذلك الكائن المغرور المتجبر تجعله تلك الزيارات دائما
فأرا مذعورا .ثوان قليلة وكانا ماثلين أمامها .أختطفت فايزة أبنها تضمه إلى صدرها بقوة ،فينقض
عليها يحتضنها ويخفى وجهه فى ثوبها بينما مدت يدها بأتجاه زوجها وسحبته من ياقة جلبابه فى جذبة
مفاجئة وغيبته فى دسامة صدرها تضغط على ظهره فى قوة وصرامة قبل أن تباغته بنبرة غامضة
مريبة :واللـه زمان ياعبده ياجن !! طالعها بأبتسامة ذليلة وكلمات ترحاب مبالغا فيها أن تسترمذلة
الشعور بالخوف مما تنطوى عليه الجلسة من تساؤالت وأستفسارات قد تفاجئه بها :بسم اللـه ماشاء
اللـه وال حول وال قوة إال باللـه ،تصدقى وتؤمنى باللـه يافايزة ..بترقب قبل أن تشبك يديها على
بطنها :ال إله إال اللـه .
ــ لو أنا مش شايف بعينى أنك هنا قدامى فى السجن أنا كنت قلت أنك لسه طالعة من حمام بخار بلدى
من بتوع زمان اللى بيخلى النسوان تلعلط وتنور..الصراحه أنتى كل مابتقعدى فى السجن بتزيدى حالوة
وجمال ..أل وكمان بتصغرى ..أيو واللـه !! ملتفتا ألبنه يطلب تأييده :صح يامنصور ؟! ..أبتسامة
مرتبكة :صح يابا .سحبتهما خلفها إلى مكانها المخصص .جلست معتدلة ووضعت ساق فوق ساق
بعظمة تنظر بثبات تجاهه فى حين دعك عبده كفيه ولم يعد فى وجهه من المالمح غير أبتسامة مفتعلة
ثم أخذ نفسا عميقا بعد أن تأكد أنها تحدق فيه .أستسلم ساكنا لنظراتها بينما بطرف عينه يراقب
تفحصها له بقلق ..تصعد بعينيها نحو رأسه تدقق فى أركانها الكروية فى حين رف طرف شاربه األيمن
بحركة عصبية ،مبعث توتره وحرجه كان سؤالها المباشر :أنت صابغ شعرك ياعبده ياجن ؟! ..جف
ريقه وبدا لسانه ممددا فى فمه كعود الحطب ،ظل يختار ما يمكن أن يقوله ،ثم وجد نفسه يتمتم
ببالهة :منه للـه حامد الحالق عملها معايا ..تضغط بفكيها :عملها معاك أزاى ياجن ؟!.
90
ــ قالى مادمت رايح تزور المعلمة يبقى الزم أظبطك عشان مايصحش تشوفك كده ..رفعت له حاجبا:
صح حامد عنده حق !! حاول الهائها حين حاصرها بثرثرة حول سكان الحارة وزباين المقهى وحال
الدنيا منهيا تقريره هامسا فى أذنيها بعاطفة مصطنعة عن ليال جنسية محروما منها ،يستفيض فى تلك
العبارات التى تستغرق منه وقتا طويال وتقتضى تحايال بارعا لعله يقتل زمن الزيارة ،بينما منصور يعقد
حاجبيه فى جمود وال يبسطهما أبدا حتى أقتربت منه وداعبته ولعنته ولعنت أبوه وأضحكته ثم قبلته فى
خده وناوشته ،دائما ما تجد مختارات عجيبة من األلفاظ ترسلها على الفطرة فى وقاحة عذبة وهى
تتحسس كتفيه :مالك ياوله كده عمال تطول وتعرض ،كلها كام شهر وتبقى زى البغل اللى جنبى اللى
عايم فى مية البطيخ .عبده تلدغه كلماتها وتحت شاربه الكثيف تنام بسمة ساخرة على شفته :ماتفك
سحنتك وأفرد وشك يا أبن البغل ! ..فأنشق جفناها عن النظرة القوية التى تجيد رشقها فجأة فى عينى
من تكلمه :ماتقولى يابنى مالك وش اللى جابك مقلوب ليه ..أبوك مضايقك ومزهقك فى عشتك ،ماهو
أنا عارفاه وحفظاه ده راجل أنانى مايحبش غير نفسه ماعندهوش ريحة الدم راجل ناقص تالقيه راميك
فى القهوة ليل ونهار وهو داير يتسرمح .أنكمش عبده ولم يعلق ،تركها تشتمه بمحصولها الوافر
العجيب من أقبح النعوت .غير أنه قال بعد أن هرش بسبابته رأسه وهو يضغط على الحروف :عاجبك
كده ياأبن الكلب آهى جابتها فى ،ماتقولها فى أيه وخلصنا ؟ ..أستعد منصور وتماسك ،إال أنه سرعان
ماأرتبك وتحدث حديثا غير متصل راح يقفز بعباراته من معنى لمعنى دون ترتيب ..أستشفت فايزة
بيقظتها أتجاه فكره ومداه فعالجته وهو يتململ فى جلسته الصعبة بأنذار حاسم :فى أيه ياوله مالك
عمال تلف وتدور زى الحية ماتقول عايز أيه .زاد أضطرا به وهمس مناجيا نفسه :أنا مش عارف
حأفاتحها أزاى فى حكايتى ؟! بدت منفعلة .أنه يثيرها ويفسد خطتها للتحمل والصبر ،لكنها
وماأقدرها ..كانت قد أستردت سكينة نفسها وأسدلت على وجهها قناعا من هذه األقنعة التى تجدها عند
الحاجة لتغطية أسوأ المواقف ودفع أكبر النكبات :هو أنا يامنصور بتأخر عنك فى أى حاجة بتطلبها ،
ده أنت ياحبيبى أبن عمرى ونور عينى ..ده أنت الحيلة والحسنة الوحيدة اللى طلعت بيها من الجوازة
السودة دى ..يقدم كلمة ويؤخر مثلها حتى تشكلت على لسانه جملة مفيدة :بصراحة ياما أنا لى طلب
عندك وعايز موافقتك .أدركت بفراستها من النظرة والصوت أن أبنها يريد أن يقول شيئا ،فحاولت
معه أن يفك عقدة لسانه :طلب ..قول يامنصور عايز أيه ؟ .
ــ عايز ياما أتلم وأشوف بنت الحالل اللى تخدمنى أنا وأبويا .عينيها توقفت ولمعتا لهفة وفضول
عند ذكر " بنت الحالل " مقاطعة بنبرة متسلية :آه هى الحكاية فيها بنت الحالل .ثم عاودت
91
األستماع إليه .يواصل كالمه :وقلت لنفسى آهى تبقى فرصة لما أمى تطلع تالقى واحدة مستنياها
تكون خدامتك وطوع أيدك .تعلقت به عينيها التى أتسعت دهشة وذهول من أن يأتى هذا الكالم
من أبنها " العيل بتاع أول أمبارح " :عايز تتجوز يامنصور ؟! .هز رأسه دون أن ينطق أو يرفع
عينه .أردفت :وبنت الحالل دى اللى عجبتك وكلت دماغك مافهمتكش وال نورتك والقالتلك عيب ياأبن
الحالل تفاتح أمك فى موضوع زى ده وهى فى األسر مسجونة ..مش قادر تستنى لما أخرج ياأبن
المفضوحة ..أنت فاكرنى ياوله واخدة تأبيدة .
ــ أبدا ياما أحنا قلنا نقرأ الفاتحة بس يعنى ربط كالم لغاية ماتخرجى بالسالمة .
ــ أخس عليك ياقليل األصل ياناقص ياأبن الناقص ..هو أنت حتجيبه من بره طالع زى اللى جابك
أعمى البصر والبصيرة .غير أن عبده وقف حاجزا فى طريق عباراتها وتابع محاوال أمتصاص غضبها
ومحاصرة أى أنفعال قد تلقيه فى وجهه أو فى وجه أبنه .ردت بتوتر خف كثيرا بعدما نجح فى سحبها
الى الهدوء :ومين بنت الحالل دى اللى شقلبت كيانك وخلتك عديم األصول زى أبوك .قبل أن ينطق
لسانه لكزه أبوه فى ساقه وتولى الرد :مافيش حد فى دماغه ..كبرى دماغك يافايزة وما تشغليش بالك
ماأنتى فاهمة ياست الكل السن ده .أبدى عبقرية فى األصالح لم تعرفها عنه إال فى حاالت نادرة .أشعل
لها سيجارة ثم دفعها بين شفتيها .سحبت نفسا طويال وهى تنصت وقد أرهفت سمعها لكالم زوجها
حول بعض القضايا واألمور التى تخص المقهى وبيت أبن شكر وقد ركزت عينيها الواسعتين على
وجهه وغرزت أصبعيها فى خدها ودخان السيجارة يتصاعد من بينهما .
بينما التزال هدى تحكى حكايات ال تنفذ عن نورا ثم تمد يدها بين لحظة وأخرى لتلملم أطراف طرحتها
البيضاء ..كانت هناك منطقة جافة خاوية فى كيانها رغم ما تبديه من فرح وجرأة وتحد ..حال أيات
أثلج صدرها وهى تتابع كلمات بسمة :حالها أتغير كتير عن األول ،دلوقتى بتقعد معانا وبتسمع
مناقشتنا وحكاياتنا وكمان بيبقى لها رأى .
ــ الحمد للـه يابنى أنها خرجت من أزمتها ..هى أتأخرت أوى بس آهو كل شيىء بأوان .
فى تحفظ قال يوسف :هيه ماخرجتش أوى يعنى لكن أحنا كنا فين وبقينا فين .
92
ــ لسه بتخرج كل يوم خميس ؟ تولت بسمة األجابة :هيه دى الحاجة الوحيدة اللى فى جدول عمتى
ماتغيرتش ،يوم الخميس بعد المغرب تظبط نفسها وتخرج تتمشى على الكورنيش ،صيف شتا ده ميعاد
مقدس .
ــ واللـه عمتكم دى زى النسمة دايما بتفكرنى بهوانم زمان فى كالمهم وحركاتهم بشوف فيها ليلى مراد
وراقية ابراهيم وليلى فوزى بس لألسف ياعينى ماقدرتش تتحمل أسوة الزمن وغش الناس ..ربنا
يكون فى عونها .تقاطيع من اليأس ظهرت سريعا على مالمح يوسف :ربنا يكون فى عونا كلنا ،البلد
كل يوم بتسوء عن اللى قبله ومرسى وجماعته عايشين فى ملكوت تانى والناس كلها فى سكة تانية
وماحدش عارف بكرة شايل أيه .
ــ كالم يوسف صح ياماما والمصيبة الكبيرة دلوقتى أن الناس كلها بتتكلم وتفتى فى السياسة اللى فاهم
على اللى مش فاهم كله بيرغى والوحيدة فى مصر اللى مالهاش دعوة باللى بيحصل هى نعمة .فاجأها
األسم :بالحق نعمة عاملة أيه دلوقتى ؟ .
ــ أزاى بس ياماما ،ده أنا وعمتى كل شهر الزم نروح بيها للدكتور يتابعها .
برقت عينيها بالدموع :خلو بالكم عليها ياوالد ،نعمة دى بتاعة الزمن الجميل واأليام الحلوة ..ست
أصيلة .ختمت جملتها بنبرة متحسرة :ياخسارة يازمن !!.
كانت ساعتين من أصل ثالث ساعات قد أنقضت من وقت الزيارة .بقى الحال على حاله ،عبده محشور
فى كرسيه ،محاصر ومحصور من كل الجهات .تفهم فايزة نفسيته عن ظهر قلب فيطيب لها أن
تكايده ،وهى ال تعدم دائما كلمة مسمومة تتوج بها تلذذها بتنغيص كيانه :أنا لما دخلت السجن ياراجل
يامعفن وسيبتلك الواد ده أمانة فى رقبتك كان زى قضيب القطر ال كان متنى وال ملوى وال معوج وحاله
دلوقتى ال يسر عدو وال حبيب ..خيبته فى التعليم وبوظته وخيبت أملى فيه وكمان الوكسة زادت
وبسالمته عايز يتجوز .لم تمهلة حق الرد بل أضافت فى لهجة من تذكرفجأة شيئا كان قد نسيه :ماهو
عنده حق شايف بعينيه أبوه راجل ناقص وعايب عمال يتسرمح ليل ونهار على أفايا وبفلوسى واللى
93
زاد وغطى صابغ شعره كمان ،كلماتها وصلت إليهما كأنها مخالب نمر مفترس ينهش لحمهما .لم
ينطق عبده بل بدا كثعبان مزنوق تلوى على نفسه محتدما بالغل حتى كاد غليان الخوف تحت عظام
جمجمته أن ينفجر .فناولته وخزة أخرى :ودين النبى ياعبده ياجن إن ماتعدلت أنت وأبن الكلب ده
ألكون مخليه الكبير والصغير فى كرموز كلها يتفرج عليكوا !! .قام منصور من مقعده كالمصعوق
يستجمع خوفه :ماحصلش حاجة يعنى لكل الكالم ده ،أنا ماغلطش ياما وال طلبت المستحيل كل اللى
قلته نقرأ فاتحة وبس .أنتفضت فجأة من مكانها وهى تدمدم وتتوعد وتسب :أل ياروح أمك انت غلط
وأتعديت األصول واللى الزم تفهمه ياحيلة وتحطه فى دماغك الوسخة دى أنى أنا بس اللى أختاروأنقى
واللى على مزاجى أنا مش مزاجك أنت .رمش اليها عبده مرتعدا :صح يافايزة كالمك كله صح
ياختى .أراد منصور أن ينسحب .تحرك خطوة .فمدت يدها وشدت بذراعه وأعترضته ووقفت أمامه
تحدق فيه وهو ينظر فوق كتفها ألبعد منها وسألت بألحاح :مين ياوله اللى لحست عقلك ..أسمها
أيه ؟ ألتفت بعيدا ولزم الصمت بينما هى ال تفلت ذراعه من يدها ،أحست أرتباكه وأرادت أن تريحه
منه ،لكنه كان كاألبكم :أنا أعرفها ..هى من الحارة عندنا ؟ سحبته نحو كرسيه :أقعد ..فظل واقفا
ينظر حوله كالمذهول .شدته ونزل بأرتطام وجمود وبقى صامتا ال يتحرك .حذرته وهى تقف عند
نهايات الكلمات :ع العموم ياروح أبوك لو أنا عايزة أعرفها ..حأعرفها وأحسنلك تفوق وتصحصح
لحسن تشوف منى أيام أسود من شعر أبوك المصبوغ .أستدار برأسه يتهرب منها .أمسكت به من يده
وأرغمته على النظر إليها وجها لوجه ،ثم تركته وجلست ويدها مشبوكتان فى حجرها وأبهاماها تضغط
أحداهما على األخرى ألتماسا للقوة ثم نظرت لزوجها فوجدته يبتسم ولكن أبتسامة غامضة وغير مبررة
وال مجال لها فكانت نظرتها إليه نظرة فهمها قبل أن تلوى شفتيها وسكتت كما سكت الناس جميعهم
فجأة وفى وقت واحد ،حتى الوشوشات لم يعد يسمع هسيسها .كل هؤالء البشر ،سجينات وزائرين
أرتدوا جميعا إلى دواخلهم بظالل حزن ألزمهم الصمت عندما أقتحم المشهد فرد من حراسات السجن ،
طويل القامة متوترالقسمات بشاربه الذى يشبه بصمتين من بصمات األصابع وعلى وجهه حدة
معلنا أنتهاء الزيارة .أصاب الجميع غضب وثاروا ثورة ال يهتم بها أحد ..باقى نصف ساعة على
أنتهاء الموعد الرسمى .فى مثل تلك األحوال من خيانة المواعيد يعم الغضب وتفلت األلسنة وتنهمر
الشتائم مطرا .يبدأ الناس ثورة وهياجا ،يفتأن يتكسران شيئا فشيئا حتى يستحيال إلى تذمر واهن .قد
ال يكون األمر مفهوما لهم وال يملكون تفسيرا وال تبريرا واألسئلة تدور فى الروؤس ،إال أنها ال تقدم
وال تؤخر وال تفسر .
94
نهض الثالثة وقوفا ،هدى وبسمة ويوسف فى زوايا مثلت ونظراتهم مشتبكة كأنهم يبحثون أزمة
وخطوات الناس حولهم مرتبكة وعيونهم زائغة حتى أصواتهم وأنفعاالتهم ال يتحكمون فيها بينما خرج
صوت هدى بكلمات سريعة وموجزة :خلوا بالكم من بعض ياوالد و خد بالك يايوسف من أخواتك
وقولوا لنورا ماما حتستناكى الزيارة الجاية عشان هى وحشتنى أوى .يضمها إليها :حاضر ياماما
وبأوعدك من دلوقتى أنها حتكون معانا الزيارة الجاية .بينما بسمة غلبتها دموع الفراق :خلى بالك
على نفسك ياماما وكلى كويس .تحتضنها وقد أصابتها رعشة لم يستطع معها يوسف أن يحبس
دموعه.
عند أعالن أنتهاء الزيارة نزل الفرج من السماء على عبده ،شعر كمن يخرج من حال لحال يغادر قلقه
وخوفه فى حين تابعت فايزة بقوة وصرامة ما بدأته مذكرة عبده بكل المنسيات ،القهوة وحساباتها ،
ايجار البيتين وضرورة أشراف محمود المحامى على كل كبيرة وصغيرة مع تحذير صريح سمعه
كل من مر بجوارها :أحترم نفسك وألزم حدودك أحسنلك والقهوة تترزع فيها ما تفارقهاش ال ليل
وال نهار .ثم باغتته بأصابعها تفرق شمل شعر رأسه :وأول ماتوصل البيت تغسل رأسك
بالجاز ياراجل ياناقص ..عايزة الزيارة اللى جاية أالقيها بفتة بيضا .أنهت التحذيرات وأحالته لوصايا
سريعة :فتح عينك ألبنك وأعدله دماغه وخلى بالك من الوله النونو ومش عايزة أسمع منه شكوى
ياجن ..ظال منصور ووالده ،الخيبة والخوف تتقاذفهما تصعدبهما وتهبط دون أن تترك لهما فرصة
أللتقاط األنفاس ،تعبا وأصابهما ملل مشحون بأحباط ظل ينمو ،حتى دخال منطقة حزن عميق بينما
وقف منصور وكان حجر بنطلونه الجينز ملتصقا بما بين فخذيه نتيجة أنتفاخ طارىء ضرب الخصيتين
فسحبه بتأفف يبعده فى حين تحرك عبده بخطوات أزدادت أتساعا حتى أصبحت هرولة مذعورة ..ماهى
إال لحظات وكأنا عبده ومنصور يخطفان الطريق خطفا بأتجاه البوابة وقد أنتفخ جلبابه األبيض ورفرف
فى الهواء ..كان يشعر بنظراتها تخرق ظهره .
عندما غادرت بسمة بصحبة يوسف كان الزحام شديدا وحركة األجساد تضاعف لحظة الفراق ،بينما
التزال هدى على وقفتها الملهوفة كأنها تبدى أسفها على هذا الفراق .كانت تلوح لهما وكأنها تتشبث
بجدار ينهار ..راحت تتلكأ لتكون آخر المودعين ،ثم مالبثت ال تخطو وال تلوح حين صارت قامات
المودعين تبعد وتقصر فركزت نظرتها على ظل يوسف وبسمة وهو يتالشى رويدا رويدا وعيناها
ترحالن وراءهما ..منظرها التعس ووقع خطواتها ،وحتى ظلها وهو يسير إلى األمام والى الخلف
95
أصابها بشعور جارف باليأس دفعها أن تطأ ظلها بقدميها ،أن تقهر ذاتها ..أحتلتها أفكار وظنون
وتهيؤات مجنونة وأيقنت أنها ستجنى أحباطا مديدا ينحفر فى الذاكرة ،وقد ينفجر فيها !.
الفصل الثالث
عند تباشير الشتاء وقدوم أسراب النورس على شواطىء األسكندرية ،وزحف الموجات الرغوية
المتالحقة .كعادتها كل يوم خميس خرجت " أيات " من باب الشقة تدق األرض بكعب حذائها دون أن
تستدير وهى تحث خطاها حاملة على ظهرها تاريخا من العزلة .
شوارع األسكندرية بعماراتها القديمة وطريق الكورنيش العتيق ونادى سبورتنج الذى كان مالذا
للباشوات وعائالتهم ،فكل هذه األماكن تسكن طفولتها مثلما يسكن وجهها األلم والوحدة ..كان الليل
قد هبط على الكورنيش مسلما البحر الى تدرجات اللون الغامق ،المرتحل رويدا رويدا نحو عتمته
الكثيفة .بينما الموج يضرب صفحة الماء ،كمن يلطمها ،والهواء فى هياج كالماء ينشط محدثا
ضجيجا وسط السكون ..ال أحد فى الشوارع سوى الشتاء ،فما من بشر يستطيع أن يشاركها موقفها
فى هذه البرودة الشديدة ..كانت تتلقى البرد كله وحدها والهواء يصفر فى أذنيها ويلفح وجهها .
بداية غير مشجعة لها ،فقاومت وسارت منكمشة داخل معطفها الصوفى الثقيل ،تضم طرفيه المبطنة
بالفرو كلما صدمها الهواء .خطواتها بطيئة متمهلة ،تلتفت بنظراتها تجاه البحر ،تغرق فى تداعياته ،
لم تسحب تأملها إلى ضفاف تستكين إليها .وقفت ..أرادت أن تستنشق هواء مشبعا بالملح واليود .
الهواء هنا عند الكورنيش يتسرب فيها ويحملها فتعلو روحها بينما اليود ينعش الدورة الدموية وينشط
ذاكرة صرفها الزمن عن البوح بأسراره ..مرت فى لحظات حكايتها مع شاكر أمام عينيها ..أصبحت
الريح أكثر نشاطا ،لم تعد تعبث معها برفق إال أنها بقيت ثابتة فى مكانها تتأمل قبل أن تنكمش رأسها
تدريجيا داخل معطفها منتبهة لتأمالتها نحو بحر ال يجيب وهى تستحضر سؤالها المتكرر ،وسمعت
نفسها تهمس :وبعدين ياأيات ..الزمن واخدك على فين ؟! .الريح تضرب فيها بقوة وشراسة :
الشهور جابت سنين وأنا على نفس الحال واقفة عند عتبة الماضى ال قادرة أشوف النهاردة وال بأفكر
فى بكرة .تتنفس هموم تضرب فى داخلها فتزلزلها :ياخسارة ياأيات ..كل حاجة راحت منك ،السعادة
والمال والعمر و ماعدش فاضلك حاجة فى الدنيا .راحت تدقق فيما حولها بهدوء .بدت كأنها تصطدم
بواقع تنهار دوائره واحدة بعد أخرى ..تبتلع ما تبقى فى حلقها بصعوبة :أنتى أنسانة فاشلة ..مافيش
96
حاجة نجحتى فيها حتى الحب الوحيد اللى قابلتيه فى حياتك فشلتى وماعرفتيش تحافظى عليه ..كل
حاجة ضاعت من أيديكى وماعدش عندك حاجة تتسندى عليها ال راجل وال والد وال فلوس خلى بقى
كرامتك وكبريائك ينفعوكى ..والنتيجة عزلة ووحدة جوه أوضه ضلمة مع بيانو وشوية ذكريات
وهروب من كل حاجة حتى من المسئولية .أسئلة راحت تتمادى داخلها يتخللها مزيج بين الهدوء
والهياج ..إال أنها ثبتت فى مكانها وتماسكت تدافع :أنا مهربتش من المسئولية ،أنا وقفت جنب والد
المرحوم نديم وصرفت عليهم كل اللى كان حيلتى وماتأخرتش عنهم .يأتيها ساخرا من عمق بحر
يترصدها :يعنى كان كل دورك أنك صرفتى عليهم كل اللى حيلتك وكأنك جمعية خيرية وال فاعل خير ؟!
والد نديم كانوا محتاجين منك أكتر من كده ..كانوا محتاجين األمان والصدر الحنين اللى يلمهم
والنصيحة اللى تنفعهم ويالقوا حد يعوضهم عن أبوهم اللى مات وأمهم المسجونة ،عمرك ماشاركتيهم
فى لحظات ضعفهم وال فى لحظات يأسهم وخوفهم ..كل حاجة فرطى فيها من غيرتمن ؟! ..يشتدالهواء
يضرب بجبروت ووحشية .شعرت بطرفى معطفها األسود يرفرف على كتفيها كالجناح فظلت للحظات
على وضعيتها كأنها نسرا محلقا بينما مازال صوتها من داخلها يرتفع كى يتغلب على عواء الريح :أيه
ياأيات ..كلها كام سنة ومش حتالقى حد جنبك ،الكل حيدور على مصلحته وعلى طريق يمشيه وأنتى
بس اللى حتفضلى لوحدك واقفة فى مكانك تتفرجى عليهم زى العاجزة ..خليكى كده زى ماأنتى متحنطة
فى أوضتك مستنية الموت لما ييجى وأنتى محبوسة جوه زنزانتك اللى اخترتيها بنفسك ..تبدلت السماء
فجأة ،فأنشقت عن خيوط أمطار متصلة ،بينما هى ال تبالى تنصت بأنتباه لما يخرج من داخلها ساخنا :
أختارتى أسهل طريق تمشيه طريق الهروب من كل حاجة وكبرتى دماغك وصغرتى نفسك وخليتى نورا
البنت الصغيرة اللى كانت محتاجة سند ودعم هى اللى تشيل المسئولية كلها على دماغها ..أتحملت
وصبرت ووقفت مع أخوتها لغاية ماوقفوا على رجليهم ووقفت معاكى كمان وماتخلتش عنك وأختارت
أنها تبقى الكبيرة وأنتى الصغيرة .أجابت بال تفكير وكأنها تريد أن تضع حدا لهذا الصوت المتمادى
الكاشف :واللـه أنا ماكنتش عايزة األمور تمشى كده أبدا لكن نورا هى اللى كانت بتسعى للدور ده
وكانت رافضة أى حد يشاركها فى المسئولية هى اللى قررت تخلينى زيادة عدد وماليش لزمة ..
ماكانش بأيدى حاجة أعملها .أدلت رأسها لألرض ولم تفارق عينيها خطواتها الثقيلة التى تتقافز حولها
قطرات المطر ،بينما تراخت عضالتها وهى تسير تراقب األمواج الكبيرة المندفعة قبل أن يظهر لها
فجأة خلفها وحولها أناسا هوايتهم المفضلة المشاغبة و " الغتاتة " كأن رمادا كالحا قد نثر على هذه
المخلوقات التى ال هوية لها ،دائما ما يخرجون من قبورهم ليال من جوف مناطقهم العشوائية بأطراف
97
المدينة ،يتسكعون هنا وهناك .أنهم بشر وصلوا الى حد أصبحوا فيه ال قيمة لهم ،وصاروا أصفارا ،
اليمكن أن يفعلوا إ ال شيئا واحدا ..هو أن يطالبوا بكل شيىء .هؤالء هم تركة خلفتها سنوات
الماضى ..أستدارت أيات بعينيها ثانية تجاه البحر تتأمل مساحته الشاسعة متجاهلة تلك الكائنات
الضئيلة التى تسعى أمامها وتثير ضجيجا تافها حولها ،وإن أستوقفتها بعض عباراتهم من عينة :أيه
يامرى اللى موقفك فى السقعة دى ؟!.
ــ أراميط أيه يابرشمجى ،دى مرى خلصانة وأخرها سردينة .
أستدارت هاربة مع صوت قطرات المطر الذى أشتد فوق رأسها ورشح إلى وجهها فألصق بالخدود
خصال من الشعر بينما أنتفخ فراء معطفها بالماء وتصلب ،فأتجهت الى حافة الرصيف تأهبأ لعبور
طريق الكورنيش الذى أجتازته ركضا هربا من شالل المطر ومن ذلك الحوار البائس الذى كان يتسلل
داخلها على أستحياء قبل أن يتطور فيخرج عن أستحيائه حتى أصبح نافذا ال تستطيع معه المناورة .
أختبأت بجوار " بنزينة " تراقب طابورا من سيارات التاكسى والميكروباص تتسول لترات قليلة من
" بنزين " 80الذى تحول الى حلم يداعب كل صاحب سيارة فى األسكندرية .هدأ المطر وأختفى البرق
وسكت الرعد .رفعت أيات رأسها للسماء تتحسس بوجهها أنقطاع الماء ثم تحركت من مخبئها ،بدت
أقل مما كانت وكأن األمطار أكلت من هامتها .
000000000000
كان المشهد عارضا ومختلفا داخل العنبر عقب انتهاء الزيارة ..السجينات تصلن تباعا وكل منهن تأتى
بحملها بين ذراعيها ،لفائف وأكياس وسجائر ومبالغ مالية .أنه يوم النصر .يوم جمع الغنائم بعد
معركة الزيارة .
حالة أستثنائية من األنشغال الطارىء ،همهمات ،كلمات متناثرة هنا وهناك ،الصوت يعلو فوق صوت
األكياس ،الكل منشغل بالتنقيب داخلها
98
ثآلثة أيام مرت كاملة ولم تنقطع فيها األجتماعات والحوارات ،تحليالت مستفيضة وقراءات مختلفة
عما دار فى لقاءاتهن .أخبار سارة ومفرحة تحصلت عليها مجموعة قليلة منهن ،بينما نالت
المجموعة األكبر حظها الوافر من األخبار السيئة الصادمة مثل"عواطف وحكمت " اللتين سمعتا خبر
طالقهما غيابيا ،فى حين تلقت " فتحيه " خبر زواج زوجها على لسانه شخصيا مبررا فعلته بعبارة
مازالت ترددها بأداء غلب عليه البالهة واألستغراب وبحالة نفسية سيئة :الراجل قالىما أقدرش أغضب
ربنا يا فتحية وأرافق نسوان فى الحرام ،قلت أتجوز وآهو أصون نفسى وبالمرة تربى العيلين .أرادت
" سامية " أن تخفف عنها فمرت بكفها على ظهرها :معلش يافتحية هو برضه معذور ،الراجل بيدور
على الحالل ومش عايز يغضب ربنا .واجهتها بعينين زاد أحمرارهما :ربنا مين اللى يغضبه ياسامية
ده راجل أبن وسخه عشته كلها حرام فى حرام ده هالس وحرامى وأيده طويلة ..قبل أن تنهى وصلتها
ألمت بها رعشة وحالة من البكاء الهيستيرى :منك للـه ياسعيد ..حسبى اللـه ونعم الوكيل .
فى حين ألتصقت هدى بسريرها و تمددت متصلبة كأن لها جسد من حديد ،ال تحرك ساكنا بدت
تائهة مغيبة .كان وجهها محتقنا كـمؤخرة " قرد " أسلمت نفسها للكأبة وتحولت إلى كتلة من حطام
المشاعر ..بدت كحياة بال أحالم ،حاولت معها فايزة فور أنتهاء الزيارة أن تكشف ما سترته عن
فحوى لقاءها بأبناءها ،إال ان ماحصلت عليه كانت أسئلة وليست أجابات .
شريحة لحم مع قطعة مكرونة بالباشميل فى طبق صاج هو ماتبقى لدى فايزة من بقايا الزيارة .تمد
يدها فى محايلة مستمرة ومتكررة :تعدمينى ياهدى وتكون طلعتى من العنبر ده على ضهرى لو
ماأكلتيش كل اللى فى الطبق ده .ردود متعبة بطيئة :حرام عليكى يافايزة أنا مش قادرة أبلع حاجة .
ــ أنتى من ساعة الزيارة ومافيش لقمة دخلت معدتك أنا قلتلك تعدمينى ..يعنى عايزة تعدمينى ياهدى .
قالت جملتها بأنفعال وبصوت عالى ،فتحولت الرؤوس نحوهما .أستجابت فى تباطؤ .فتحت شفتيها
كأنها تحاول فك لحامهما بينما فايزة قرفصاء تراقبها تحثها وتشجعها وكأنها أمام طفلة .خرج تساؤل
غامض على لسان هدى بنبرة من فقد طاقته وأحتله اليأس :قوليلى يافايزة هو أيه اللى حصل بره
السجن وأحنا مش فاهمينه ؟ .بتلقائية أفصحت عن معلوماتها حسب فهمها للسؤال :اللى حصل كتير
أوى ياهدى ..الوله النونو بيقولى أن الدنيا برة بقت سايبة ع اآلخر واللى فى شوقه حاجة بيعملها ،ده
بيقولى المخدرات والبرشام بتتباع فى الشوارع زى الخضار ،والوله خضر كان قالى لوفيه أتنين تالتة
أتلموا على بعض بيعملوا عصابة ويثبتوا الناس ويقلبوهم .أضطرت ألظهار أبتسامة واهنة رغماعنها :
99
مش ده اللى أقصده يافايزة أنا بسأل عن نفسية الناس يعنى طباعهم وأحوالهم لسه زى األول وال
أتغيرت ..يعنى لسه فى صلة رحم وناس بتخاف على بعضها وال المواضيع دى أنتهت وأحنا هنا
عايشين فى وهم ومش فاهمين حاجة ؟! ..أيقنت أنها كانت تجيب فى أتجاه آخر :آه ..أنتى بتسألى عن
نفسية البشر ..فردت رجليها ثم مدت يدها فى مغارة صدرها ،قبل أن تخرجها متوجة بعلبة سجائر
" " L.Mأحمر وهى واحدة من " خرطوشة " كاملة تسلمتها من عبده :أستنينى لما أولع سيجارة .
زحفت بعينيها تجاه الشعلة :شوفى ياستى الدنيا علمتنى أن البعيد عن العين بعيد عن القلب وفى الزمن
األغبر اللى أحنا فيه ده القريب من العين والقلب برضه بعيد وخسران ..يبقى بذمتك أحنا حالنا حيبقى
أيه وعينة النسوان اللى حوالين منك شاهدة على الزمن واللى بيحصل فيه ..عندك اللى تعبت واللى
ضحت واللى أتبهدلت عشان خاطر بيتها وعيالها وآخرتها مافيش حد بيجى يزورهم والحتى يتف فى
وشهم .كلمات أخافتها :قصدك أيه ؟ .مدت يدها "بحتة " لحمة تفض بها شفتى هدى المطبقتين قبل
أن تجيب :الحسبة دلوقتى أتغيرت ياحبيبتى مش زى زمان وخدينى أنا مثال وعبرة ..يعنى أنا لو
ماحلتيش مال ساترنى وعندى بيتين ملك وقهوة كان زمان عبده الجن ومنصور أبنى ماعتبوش السجن
ده أبدا وكنت أتنسيت .لمعت عينيها بالدموع وزادت حالتها سوءا بينما " حتة " اللحمة فى فمها تدور
تبحث عن مخرج أما للداخل أو للخارج .
فرمان عاجل من " الريسة عفاف " حارسة العنبر :تعالى معايا ياهدى أنت مطلوبة فى األدارة .قالتها
بصيغة بيان مقتضب وكان له أثرا مرعبا داخلها ،فهو ينبأ عن أمر جلل فى أنتظارها .خرجت من
محبسها بمالمح مهمومة ونحيلة .لم يطل أنتظارها وبالتالى لم تسحبها هواجسها إلى منطقة عذاب
وأضطراب حين أصطحبتها " عفاف " فى عجالة بوجهها الناشف ..سارتا عبر الممر الموصول
والمؤدى إلى خارج مبنى العنابر ومنه إلى ممر آخر كأنه نفق فى جبل ،بينما شعرت هدى بالتوتر وبدا
لها طريقا بال عودة ..سمعت وقع خطواتها على بالط الممر .قالت بفزع :هو أنا حصل منى حاجة
ياست الريسة ؟ .كان سؤاال قد أختارته من بين مجموعة أسئلة راحت تضرب دماغها فى تلك اللحظة
بينما تعتصر ذاكرتها تبحث فيها عن جرم أو مخالفة أرتكبتها .
وقفت أمام باب حجرة تطل على الممر ،تقدمت منها الحارسة ثم طرقت الباب ودخلت ،عادت لها بعد
لحظات ،سحبتها من يدها وقادتها إلى الداخل ..حجرة متوسطة وأثاث متواضع فاتح اللون وسجادة
عادية ومكتب خشبى كبير تجلس خلفه فى كرسى ذى مسندين أمراة فى األربعين تضع نظارة بيضاء
100
على عينيها وأمامها جهاز كمبيوتر تتقدمه الفتة نحاسية مكتوب عليها " األستاذة هناء خليل ـ أخصائية
أجتماعية " .عينيها فوق األوراق المتناثرة أمامها تنشغل بها وصوت األوراق أثناء تقلبها يمزق
السكون بينما علم مصريغطى جزءا من مساحة الحائط الخلفى بألوانه المتعددة ورمزه المحفوظ ..
تفحصتها هدى خائفة مرتبكة ،كانت مذعورة ،تنظر حواليها فى فزع .خلعت نظارتها وأصطنعت
أبتسامة واجهتها بها وهى تشير لها بالجلوس ثم أقتربت بعينيها من شاشة الكمبيوتر ..تدقق ..ثم
بدأت تتلو كرنفال من تواريخ الزيارات الخاصة بهدى وأستدعاء لعالقاتها مع زميالتها فى العنبر ،
معلنة لذلك التتبع الذى ال ينتهى لتواريخ كل حدث ،تفصيالته وتبعاته فى حين توجهت هدى بكامل
أهتمامها إليها وهى تتلو تلك التفاصيل المكدسة على الشاشة .أنكمشت فى جلستها ،أختلطت فى
رأسها المتعب األوهام بالحقائق وتداخلت األشياء بالطول والعرض ..هذه لحظة الشكوك والهواجس .
أسبلت عينيها بينما حاولت األخصائية خلق جو من المرح حين نظرت إليها :أخبارك أيه ياهدى .
ضاقت عينيها وغضت جبينها .بصوت ممتد واهن :الحمدللـه .صاغت فى ذهنها جملة مهذبة تستفسر
عن وجودها فى مكتب األخصائية ،لكنها بادرتها بسؤال :وأخبار بنتك نورا أيه ؟! .أنفجرت الدهشة فى
مالمحها فور سماعها أسم أبنتها يتردد على لسان األخصائية :مش فاهمة حضرتك تقصدى أيه ؟
أعادت صياغة تساؤلها :مالك أترعبتى كده ليه أنا بطمن بس ..ده شغلى !! .
ــ شغلى هنا أنى أرصد الحالة النفسية للسجينات وأى تغيير فى سلوكهم .تنقر سطح المكتب بقلم فى
يدها ،تابعت :بنتك نورا زى ما هو واضح قدامى فى بيانات الزيارات السابقة كانت دايما موجودة
فى كل زيارة بأنتظام ماعدا آخر أربع زيارات .قامت فى بطء من كرسيها .أردفت :فى الفترة
األخيرة وبعد كل زيارة غابت فيها نورا الحظــنا أن حالتك النفسية بتبقى تعبانة شوية وتقريبا
مابتاكليـش وأغلب الوقت بتكونى منطوية على نفسك ومش عايزة تكلمى حد ..تطلعت اليها .أدلت
بأجابة كتحصيل حاصل :ال أبدا ياأستاذة أنا حالتى تمام ومافيش عندى أى مشكلة وبخصوص نورا بنتى
الحكاية كلها أن ظروفها فى الشغل بقت صعبة أوى وده السبب اللى بيمنعها عن زيارتى ! .أدركت
األخصائية معاناتها من خالل صوتها ،أقتربت منها قبل أن تجلس أمامها على كرسى مقابل ..تأملتها
للحظات ثم مالت نحوها :أسمعينى ياهدى ،أنا أستدعيتك هنا عشان أساعدك وأكون جنبك وأقف معاكى
لو عندك مشكلة ..ده دورى هنا .لم توفق الجابة محددة :يعنى أنا مطلوب منى أيه ؟ مبتسمة :مش
101
مطلوب منك حاجة ياهدى لكن لو عايزة تعتبرينى أخت أو صديقة وتسمحيلى أتدخل فأنا ما عنديش مانع
.أصابها هلع :تتدخلى أزاى يعنى ؟ قاطعتها كى تطمأنها :ماتخافيش ياهدى لو حأتدخل فده حيكون
بصفة شخصية مش بصفتى الرسمية والزم تعرفى أن أى مشكلة بتقابل أى سجينة أول حاجة بأعملها
أنى بأرجع للملف بتاعها وبأفحصه كويس جدا ومن قرايتى لملفك فهمت قضيتك كويس وعرفت وضعك
األجتماعى اللى أنتى جاية منه والظروف اللى محيطة بوالدك ..عشان كده أرجوكى ماتقلقيش خالص .
أستعادت هدى أطمئنانها وراحت تقترب بال شعور من الحديث المعد من األخصائية ،فتحت لها قلبها
عن أوجاعها ومشاعرها ،فطفحت كلمات الحسرة على شفتيها :كل لحظة بتمر على هنا وأنا بأراجع
نفسى وبسأل هو أيه اللى حصل منى وخلى نورا تبعد عنى وتبطل تزورنى .شردت ثم أضافت :فى
البداية كان عندى شك أن ممكن ال قدر اللـه يكون حصلها حاجة ،لكن الحمد للـه زيزيت صاحبة األتيليه
اللى بتشتغل فيه نورا جت هنا وزارتنى وطمنتنى عليها .تحاصرها بأستفسار :طب ماقالتلكيش أيه
السبب اللى خالها تبطل تيجى تزورك ؟! .تنتزع من حلقها كلمات يائسة :ماقدرتش أفهم منها أى حاجة
غير شوية تبريرات زى أنها شايلة كل المسئوليات على دماغها من أول شغلها و أخواتها والبيت ،
تنهيدة وصلت سخونتها إلى وجه األخصائية .أردفت :أنا عارفة إن نورا شالت حمل كبير أوى فوق
طاقتها وأكبر من سنها لكن حأعمل أيه ماكانش بأيدى ..ده نصيبى ونصيبها ! .
تساءلت هدى كثيرا لتفهم مدى المتغيرات التى أستجدت خارج السجن وأثرت سلبا على كل شيىء ،
حتى على المشاعر األنسانية ..دفعت جسدها إلى ظهر الكرسى وتبادلت مع األستاذة " هناء " حديث
مطول طال أمورا كثيرة ،غير أنها لم تصل معها إلى أجابة قاطعة وسبب واحد منطقى يمنع نورا من
زيارتها ،كان كل ما تم طرحه بينهما لم يتعد سوى األحتماالت والوسوسات ..أجابات عائمة كأنها رثاء
قبل أن تعقب بكلمات معبرة ومشجعة ،كانت هى مسك الختام من جانب األخصائية :خالص أتفقنا
ياهدى حتبقى جامدة وقوية زى ماكنتى دايما ومهما كان السبب اللى منع نورا من زيارتك الزم تعذريها
وأنا متأكدة أن كل حاجة حتبقى أحسن من األول .أستقبلت كلماتها بمالمح هادئة ومنفرجة ،بصوت
عاد تدريجيا إلى طبيعته :أتفقنا ياأستاذة .
ــ وكمان فى حاجة مهمة الزم تحطيها فى دماغك اللى فاضلك هنا أقل بكتير من اللى عدى .أنهت
جملتها بأبتسامة عريضة بينما واجهتها هدى ببريق لمع فجأة فى عينيها .
000000000000000
102
بعد أن صب " خيرى علم الدين " فنجانا جديدا من القهوة ،عاد إلى مسقط رأسه حيث جلسته
المفضلة أمام المدفأة المحفورة فى أحد جدران الصالة ..يبدو فى جلسته هادئا قليل الكالم .يوغل فى
رجولته ،والزمن منحه الهيبة بعد سنوات طويلة من الوحدة والشعور بالفقد كلماتذكر زوجته الراحلة "
سميحة الغريانى " تجذر داخله شعورا متناميا منذ رحلت أن شيئا ما ذهب وليس من السهل أستعادته ،
لم يعوضه األصدقاء وال حتى القراءة التى أدمنها .دائما ما يتذكر أيامها األخيرة قبل رحيلها حين
كان يراقب الجسد الذى ضاجعه عمرا وأنجب منه أبنيه نادر وشريف ،ممددا على الفراش ،عاجزا ،
عليال ،يتألم فى صمت موجع قبل أن يرحل فى هدوء دون أن يسبب أى متاعب لمن حوله .كثيرا ما
يشعرك لوهالت بأنه أنسان غير أجتماعى ،وحيد ،تضافرت عليه ظروف المعيشة بحيث حولته الى
ترس فى عجلة ،يدور معها بشكل رتيب ،ليست ثمة قدرة داخلية أو خارجية يعول عليها أن تحدث له
تغييرا .أحيانا كثيرة كان يريد بعض الرفقة أو بعض الدفء ..العيش بعيدا عن عاطفة الحب جعلته
يجف .خلع نضارة القراءة ونزع فنجان القهوة من بين شفتيه ،مدد ساقيه على كرسى صغير أمامه
وأشعل سيجارة جديدة لزوم القهوة قبل أن يطوى كتابا عن أسرار جماعة األخوان المسلمين من تأليف
المنشق عنها " ثروت الخرباوى " بعد أن غاب بين صفحاته لساعتين وكأن الشيىء يعنيه سوى
ماسيدخره من مضمون تحملة تلك األوراق .أتخذ فى جلستة وضع المتأمل قبل أن يتحول إلى مواجهة
مع النفس ،كانت واحدة من أزماته التى يعرفها ميله إلى نمذجة الناس ،فكان يصنف من حوله ذهنيا
حسب رؤيته .مرت حياته بالكثير من المنحنيات واألمور الطارئة قبل أن تنحسر فى نهاية األمر ما بين
عمله فى مصلحة اآلثار ورفقة أبنه شريف فى المنزل بعد أن تخطا سويا العالقة المعتادة بين األب وأبنه
إل ى صداقة قوية متينة بحكم الحالة األجتماعية ،فهما تقريبا مقطوعان من شجرة بعدما رحل " نادر"
األبن األكبر الى امريكا منذ ستة أعوام حين كان السفر بالنسبة له آخر أحالمه وأكبر من واقعه ،بل كان
أمرا حتميا ،ليس رغبة بقدر ما كان قرارا مصيريا ،كان له طموحات غير عادية ،لم يعرف لها طريق
أو أمكانية تحقيق داخل األسكندرية أو حتى فى مصر كلها .رحل " نادر " مخلفا وراءه أبوه وأخيه قبل
أن يودعانه فى المطار بالدموع والتمنيات بينما هو كان طائرا قبل أن يصل الى طائرته ! .ترك لهما
حيزا من القلق زمنا ثم أستدعاهما أو أستعادهما وطمأنهما بمكالمة تليفونية عن أحواله ونجاح محاولته
فى تثبيت قدميه فى بالد األمريكان .حدثهما عن أمنياته ومحاولته للم الشمل كى يرتاح باله ويطمئن
قلبه قبل أن تختفى عنهما أخباره مجددا .منذ عام ونصف سطر القدر لمصر والمصريين ومن قبلهما
103
" خيرى علم الدين " وأبنه " شريف " أنفراجة أمل وسعادة بالغة حين فاجأ " نادر" الجميع بزيارة
قصيرة تاريخية ألرض الوطن ..بدا كمن خلعوا له لسانه وزرعوا بدال منه لسانا أخر أمتزجت كلمات
العربى باألنجليزي وبصحبته أمرأة غريبة لها طباع غريبة ومالمح أغرب ،هى زوجته " بادين " التى
تكبره بسبع سنوات .قال الراجع من بالد األمريكان ألخيه فى جلسة جمعتهما فى حضور والده ،كما
كان يحدث فى الماضى :جهز نفسك يابطل ،المطعم بتاعى أنا وبادين محتاجك معانا .كان فى واقع
األمر يحاول مساعدته على الفرار بنفسه من واقع صعب مرتبك ..أعترض شريف مبديا بعض
المالحظات شارحا وجهة نظره ،غير أن األخ األكبر وضعها داخل قاموس " الهجص " المصرى
وصفها بأنها حالة من حاالت التمسح فى أكاذيب تتسمى بأسماء ضخمة مثل الوفاء والبر بوالده
وأستحالة أن يتركه بمفرده كما يستحيل أيضا أن يترك حبه األسطورى لنورا ويرحل ،وإن كان لم
يصرح بذلك مباشرة ،بينما يرى نادر أن تلك المسميات دائما ماترد على ألسنة أمثال أخيه من القاعدين
المقعدين أو العجزة والفشلة وأصحاب مبدأ " األنتخة " .مع ألحاح نادر وشرح أيجابيات السفر أبدى
خيرى موافقة مبدئية كى يضمن ألبنه مستقبال كأخيه ،فى حين سايرهما شريف وتظاهر بالموافقة
ووعد بتنفيذها على مراحل فى قادم األيام .
رحل " نادر" كما جاء .زيارة لم تسفر عن شيىء يذكر سوى مبلغ نقدى فى يد أخيه ومجموعة
نصائح مملة تسير كلها بأتجاه الطموح والنجاح وقدرة المرء على أقتناص الفرص التى ال تنتظر كثيرا
مختتما كلماته بأراء هجومية على مصطلحات العاطفة والعشرة ومصر أم الدنيا والتى أستوقفته الجملة
األخيرة .فقاطع بحدة :أم أى دنيا ..دنيا المجارى الطافحة وال الشوارع المكسرة وال الزبالة اللى فى
كل حته وال الفقر والمرض اللى طايل كل الناس ..فوق بقى يا أخى وسيبك من الهبل ده ..أنت عايش
جوه بلد متخلفة ؟! .أراد خيرى حبس جملة أعتراضية فلتت منه :لما بلدنا فيها كل العيوب والمأسى
دى جيت ليه يانادر ؟! .أبتلع دهشته ..لم يتخيل أبدا أن يأتى السؤال عنيفا على لسان أبيه :أنا جاى
أشوفك وأطمن على حضرتك أنت وشريف .بأبتسامة هادئة سبقت تعليقه :يانادر ياحبيبى الزم تفهم
أنى أنا وأخوك راضيين بالعيشة المتخلفة دى وأنا شخصيا بأعشقها وده مش أحساسى لوحدى ..كل
اللى عايشين على أرضها بيعشقوها لدرجة الجنون حتى لو كان كالمهم وتصرفاتهم مابتدلش على كده
والدليل على كالمى البنى أدم المصرى هو الوحيد فى الدنيا لما بيهاجر وبيعيش فى أغنى بالد العالم اللى
فيها العيشة مستريحة ومافيش فيها كل البالوى اللى عندنا أول ما يحس بالتعب و العجز أو المرض
أول حاجة بيعملها بيرجع بلده تانى عشان يقضى أيامه األخيرة ويدفن فيها ..بلدنا يانادر مش فيها
104
مرض وجهل وفقر وبس ،أل فيها حاجات تانية ..جايز تكون مش معروفة ..فيها أعظم سر موجود
فى الدنيا ..الكائن المصرى !! قال كالمه وطالت نظرته فى عينى أبنه الذى هز رأسه دون تعقيب إال
ماتيسر :أوكيه يابابا ..قالها بنبرة أستهانة .
خشخشة مفاتيح تدور فى كالون باب الشقة أنتشلته من جلسة التأمالت .وقع خطوات مرهقة بأيقاع
منتظم تتسلل إلى أذنيه ،هى دائما خطوات شريف الذى أطل برأسه ليتأكد من وجود أبوه فى مكانه
المفضل قبل أن يطيح بالجاكيت المعلق على كتفه عند أول كرسى وفى اليد األخرى كيس يتطوح بين
يده .أقترب من أبوه وبادره كالعادة بتقديم تحية عسكرية :تمام يأفندم ..أبنك شريف وصل مدغدغ
يافندم .أداء ساخر أعتاده شريف مع والده من أيام األنفالت األمنى المصاحب لبدايات ثورة يناير حين
تصدر " خيرى" مشهد اللجان الشعبية بالحى وكان المسئول األمنى عن توزيع مجموعات الحماية من
شباب الحى أمام مداخل العمارات وعند النواصى ،منذذ ذلك اليوم وتعامل شريف معه وكأنه جنرال
عسكرى وتحولت الدعابة إلى عادة .أبتسامة أستقبل بها أبنه قبل أن يتفحصه سريعا :حمد اللـه على
السالمة ياسيدى ..أيه اللى أنت جايبه فى الكيس ده .تقدم بخطوة عسكرية وبنبرة ميرى :الكيس ده
سيادتك فيه ربع النشون حلوانى وكيس مخلل وست رغفة فينو ومعاهم كمان كيس بن سفيانوبولو
وصاية لزوم سعادتك .
ــ ماشى ياأبو نادر .أستجمع مفاصله المفككة ونزل بجسده مرتطما على كرسى مواجها لوالده كأنه
يهوى من قمة جبل فاردا ساقيه ،يدعك ركبتيه قبل أن تئن مالمحه :آه يارجليه .قالها وأنحنى على
حذائه ..فك رباطه .نصف أبتسامة .مندهشا :مالك يابنى أنت لسه صغير ع الخيبة دى .
ــ خيبة أيه بس يابابا أتناشر ساعة واقف على رجلى لما أتكسحت .
ــ وماله ياشريف أى بداية بتبقى متعبة وبعد كده األمور بتتحسن وتبقى تمام ..نفخ ومسح جبهته :
تتحسن فين بس والدنيا عمالة تزيد كعبلة وأندلة وكل يوم فى النازل .عشر دقائق كانت كافية ليسرد
شريف تفاصيل يومه مكررا مالحظة سبق وأن ذكرها بأنتظام فى الشهرين السابقين :كل أقسام المول
فيها ركود ال بيع وال شرا مع أن العروض حقيقية وبجد والتخفيضات كبيرة .رماه بنظرة خاطفة :هى
دى نتيجة السياسة الفاشلة لألخوان أنهيار فى كل حاجة وفوضى فى كل مكان البلد بقت عاملة زى
105
العيان اللى بيصارع الموت والدكاترة اللى مسئوليتهم يعالجوه واقفين بيتفرجوا عليه وهو بيطلع فى
الروح وياريت سايبينه يموت فى هدوء ..أل دول كمان بيتخانقوا مين اللى حيغسله األول ! تجمدت
مالمحه .دارت األفكار سريعة مرعبة فى رأسه كدوامة فى بحر :واللـه يابابا أنا خايف لحسن
ادارة المول تستغنى عن عدد مننا .أغمض عينيه قبل أن يرجع برأسه للوراء :مش عارف أقولك أيه
يابنى ،خليها على ربنا .
قبل ثالثة شهور أنشغل شريف كثيرا بالحصول على فرصة عمل ،كان قد وقع فى سلسلة رفض
جهنمية ،يبدأ يومه بعد أن يستيقظ متأخرا ،يتحرك إلى األماكن التى تعلن عن وظائف شاغرة عن
طريق النت أو جريدة الوسيط .كان يدرك فى أعماقه شيئا ما ،ناقصا ،غير مكتمل .شعر بأن هناك
حدود بين طيبته وشره .بين جنونه وتعقله ،بين جيبه ويده .كانت متناقضات نائمة بداخله ،لم تصحو
من سباتها إال بعد أخر مشادة دارت بينه وبين نورا ،حين أصبح طباعها وأنشغالها ،يزرع المسافة
بينهما .لم يعد يراها .تقلصت لقاءتهما لتكون مرة أو مرتين شهريا بعد أن كانت مرتان يوميا ،األولى
فى منتصف اليوم أثناء فترة الراحة من شغل األتيليه والثانية بعد التاسعة مساءا عقب أنتهاء عملها .
غير أن الحال تبدل حتى أصبحت بالنسبة له مثل خيال مسافر وعد بالرجوع لكنه لم يرجع .وألن أمرها
كان عسيرا على التفسير بالنسبة له وكانت دائما خارج دوائر التوقعات وحين عاتبها وأعلن لها عن
رفضه لسلوكها الفاتر نحوه ،كانت حادة حين دافعت عن نفسها بشدة حتى أوصلت إليه أحساسها
بالتميز .لم تترك لديه أنطباعات سلبية إال عندما سألته :أنا بأشتغل وبأتعب وعارفة ألتزاماتى كويس ..
تقدر تقولى أنت بتعمل أيه وال بتفكر فى أيه وال عايز أيه أصال من حياتك ؟ لم تنتظر منه أجابة .نظرت
إ ليه فقط .كانت كلماتها له شديدة القسوة ،وشت بالكثير من الحدة التى كانت مكبوتة بداخلها .بدا
ساهما .حزينا ،تنم تجاعيد جبهته المتقلصة عن قلق عميق ينمو فى أعماقه .حاول أن يدافع عن
نفسه :مين قالك أنى مستسلم للوضع ده أنا كل يوم من أول النهار آلخره بأدور على شغل ومش ساكت
ودى مشكلتى وأنا حأحلها بطريقتى ،لكن المشكلة الكبيرة فيكى أنت .تابع منفعال :من ساعة مابقى
لكى وضع وكلمة مسموعة فى األتيليه ومرتبك بقى باالالف أتغيرتى وأتحولتى ومش شايفة قدامك غير
الفلوس وبس .لم تكن أعصابها تهتز أبدأ لكالمه ،بل تتحداه فى ثقة وهو مواصال هجماته فى أصرار
على أن ينال الغلبة فى النهاية :بقت كل حياتك بتاخديها بعناد وتحدى وكأن الدنيا عندك حرب ياغالب
106
يامغلوب .متشبثة بعنادها :حتى لو كان كالمك صحيح مش عيب أبدا أنى أنجح وأثبت وجودى ويبقى
عندى ارادة ألن اللى زيى ممنوع عليه الفشل ..عارف ليه ؟ عشان لو أنا فشلت حأضيع و أخواتى
حيضيعوا معايا ..أنا مسئوليتى كبيرة وتقيلة وفى عيلة متعلقة فى رقبتى يعنى الزم أحارب فى كل
خطوة ومش زى ماأنت قلت ياغالب يامغلوب أل ياشريف ده ياقاتل يامقتول ..فهمت وال لسه .كلماتها
حملت إليه شعورا لم يستطع استجالء ماوراءه مرة واحدة .تراجعت عباراته وبدت متكسرة :أنا
ماقلتش عيب أنك تنجحى أو تثبتى وجودك ،لكن مش الزم يكون نجاحك ده على حساب اللى بينا !!.
المسألة بالنسبة لها ليست بالماضى حين أحبته وهى صغيرة وال بالحاضر وهى تحبه بكل أحباطاته
وفشله ،لكن المستقبل هو الذى يهمها .كيف ترتبط من رجل مفرغ من األحالم واألهتمامات .أتخذت
وضع من ال تعنيه الكلمات وهى تتصنع الدهشة :عمر الشغل والمسئولية ما يكونوا على حساب اللى
بينى وبينك ..الظروف هى اللى بتحكم وساعات بتبقى أكبر من حاجات كتيرة وأى عالقة ناجحة الزم
الطرفان فيها يكملوا بعض يعنى ماينفعش طرف يكون عملى أوى وعايز ينجح والتانى واقف فى مكانه
مافيش حاجة بيعملها غيرأنه يفضل يتهمه ويكسر فيه .نظرات شريف الذى نفذ صبره مسلطة عليها ،
ناطقة بالريبة وتوشك أن تلفظ األتهام :سيبك من الجمل الكبيرة دى والكالم بتاع مسلسالت رمضان ..
الحكاية كلها أنك بقيتى مش شايفة غير نفسك وبس وبتوزنى كل حاجة بميزان الفلوس بس وسيادتك
بتحاولى تجمليه وتسميه نجاح ..بطلى الكالم التخين ده ألن ماعدش له معنى .كشرت وتجهمت وتغير
لونها وبدت كقطة شرسة ،فقدت الكثير من رقتها :مش أنا ياشريف بتاعة الكالم التخين ،أنت اللى
بتحب نظريات الفاشلين وبتعجبك أوى الكلمات الخايبة اللى ال بتودىوال بتجيب وبدل ما حضرتك تشوف
عيوبك وتحاول تغير من نفسك عايز ترمى كل مشاكلك على غيرك عشان أنت عديم الطموح متجمد فى
مكانك ..شعر بأن صورتها فى رأسه غير واضحة المعالم .لم يقل لها شيئا ،كما لم يلحظ أثرا للماضى
فى حديثها .لم تظهر أمامه أى تراجع بل أستدارت فى غضب بأتجاه درجات السلم متجهة إلى األتيليه
تردد بعد أن زادت رقعة التوجس بينهما :عن أذنك ورايا حاجات أهم من الكالم الفاضى بتاعك ؟!.
كلماتها القاسية لم تجعله يفقد األمل ،بل حاول بشتى الطرق أخراجها من تلك الدائرة المستحكمة مابين
أخوتها وشغل األتيليه ،إال أنه كان محاصرا مثلها ،لكن بنوع أخر من سياج كان من صنعها هى ،
يدور فى فراغ الدائرة باحثا عن ذاته الذى تأكل بفعل نجاحاتها ـ هى ـ فى قيادتها ألسرتها وسد فراغ
األم المنكوبة فى السجن وقفزاتها الناجحة فى األتيليه مقابل فشله ـ هو ـ فى العثور على كيان يليق ،
اللهم إال هذا العمل الباهت الذى أقتنصه من بين عشرات الطامعين بتوصية من األستاذ " برسوم "
107
صديق والده ،فيدفن أحالمه فى جدول وهمى من ساعات عمل مزدحمة على ماكينة " كاشير " بنظام
الوردية فى أحد الموالت الضخمة بشرق األسكندرية .تتنازعه أحالم مستقبلية غاصت منه أسفل قدميه
وجار البحث عنها ،فقنع ب 800جنيه شهريا يزيد عليها مايقارب نصف الراتب " تبس " .
لمحه خيرى من تحت نظارته قبل أن يطوى كتابه ويحشر داخله كومة أوراق :مالك شكلك مش
عاجبنى ؟ ..أجابة مقتضبة غير كاشفة :أبدا يابابا مافيش حاجة .أدرك أن شيئا يشغله .قام من كرسيه
أمام المدفأة وجلس فى مواجهته :أنت لسه زعالن مع نورا ؟ مسح شعره بكفه وظهر السؤال الحائر
فى عينيه ،وينطق به لسانه :بصراحة مش عارف أقولك أيه ..نورا أتغيرت أوى وبقت واحدة تانية
مش هيه دى اللى أنا عرفتها والهيه اللى كنت بأحلم معاها وبنخطط سوا لمستقبلنا .أنكمشت مالمحه
أستغرابا :يعنى أيه بقت واحدة تانية ؟!.
ــ أنا نفسى مش عارف ..بقت عاملة زى ماكينة الفلوس اللى أنا شغال عليها كل همها شغلها ومرتبها
الكبير ده غير أنشغالها المجنون واللى زايد عن الحد بأخواتها وأصرارها الغريب على أنهم لسه أطفال
وهى أمهم ،عايشة فى كدبة وصدقتها وفاكرة أن بسمة ويوسف دول والدها يعنى الزم تأكلهم وتشربهم
وتطمن عليهم لمايناموا والعصبية والقلق والتوتر يركبوها لو أتأخروا شوية برة البيت ..هدأت حدته .
ثم تابع :بصراحة أنا بقيت مش فاهم حاجة ..يا أما أنا مش طبيعى ياأما هى مجنونة ؟! .أنفرجت
شفتيه عن أبتسامة خفيفة وهو ينظر فى عينى أبنه قبل أن يسطر كلماته وحيثيات حكمه على طباع نورا
عبر قائمة مليئة ببنود ونقاط ال يوازى منطقها منطق .وبدأ دفاعه :أوال ياشريف الزم نكون متفقين
على أن نورا هى الوحيدة تقريبا اللى أتحملت وشالت المسئولية كلها على كتافها من بعد أمها ما دخلت
السجن ،وفى سن كان اللى زيها ما يعرفش أصال يعنى أيه معنى كلمة مسئولية .يحدق فيه عن قرب .
مكمال :متفقين على كده ؟ هز رأسة :ما أحنا كنا معاهم لحظة بلحظة وعارفين أد أيه هى أتحملت لكن
أنا بأتكلم عن دلوقتى .
ــ مافيش زمان ودلوقتى وهيه دى تركيبة نورا وهو ده طبعها خالص بقت مدمنة للمسئولية وخوفها
الزايد على شغلها وأخوتها ده طبيعى جدا ألنه بالنسبة لها عمرها كله وتعب السنين ومتنساش أنها هيه
اللى كبرت وأكلت وعلمت وأشتغلت وصرفت ..همه بالنسبة لها شهادة نجاح وملكية خاصة ..أنا متفق
معاك أنها ساعات بتبقى متسلطة عليهم وشديدة معاهم لكن ده بدافع الحب والخوف .قاطعه كالتائه:
طب أنا فين من كل ده يابابا ؟ ..أبتسامة أقرب إلى ضحكة مكتومة :أنت برضه موجود جواها ومن
108
ضمن مسئولياتها ألن اللى بينكو مش من سنة وال أتنين ده موجود فيها من ضمن تركيبتها اللى
أتشكلت فى السنين اللى فاتت كلها والتوتر اللى بيحصل ده سببه بسيط أوى وهو أنك بكل بساطة
ماحققتش لنفسك أى حاجة وده اللى بيخليك دايما خسران فى أى مقارنه معاها وده مش معناه أنك
فاشل ..أل أبدا ،لكن نورا وظروفها اللى عاشتها هى اللى خلت نجاحها واضح وماحدش يقدر يعرف
لو أنت كنت فى نفس ظروفها كان حيبقى حالك أيه ؟! .قال جملته األخيرة على سبيل الترضية .
ــ بصراحة أنا تعبت وحاسس أن الدنيا صعبة واأليام تقيلة .سحب نفسا يائسا قبل أن يكمل فى مرارة :
كنت فاكر أننا لما نقوم بثورة كل حاجة حتتعدل وحيبقى شكلنا أحسن ..ياخسارة ؟!.
شريف كان ثائرا .لم ينس أبدا تلك األيام ،كان فى طريقه إلى ممارسة حياة يومية رتيبة وسط
الكآبة واليأس حين واجهته جموع الغاضبين تتقدم فى أعصار مدمر ،تهدر حناجرها " الشعب يريد
أسقاط النظام " أندفع .صرخ مع الصارخين حتى كادت تتمزق أحباله الصوتية .كان وسط حشود
بشرية ال يحصيها العد .كان يشعر بنهرمن الدفء ..هل بسبب هذه الشوارع التى كان يقطعها
جريا ؟! .أم بسبب الهتافات التى كان يرددها بأقصى مايستطيع خلف الشباب المحمولين على
األكتاف ؟! .أم بسبب أنفالتا داخليا لم يعهده ؟! .مفاجأة تحبل بالكارثة .رد فعل الجماهير التلقائى كان
يعصف بكل العقول وبكل األنظمة وبكل التدابير .المصريون كلهم أندفعوا ،البلد كلها ركبها عفريت
المظاهرات .
بعد مرور أسبوعين على تلك المشادة العنيفة بين نورا وشريف ،خفت وتيرة الخصام وأنكسرت حدته
حين تصدت له عند خروجه من باب المصعد قبل أن تفتعل حديث ال معنى له :مالك شكلك متبهدل كده
ليه ؟ حاول سحبها من معصمها فى المساحة الخالية بين الشقتين ثم ثبتها على الجدار الفاصل :أفندم
يا ماما نورا ،واحد لسه راجع من الشغل عايزة يبقى شكله أيه .قالها وفرد ذراعيه وثبت كفيه على
الحائط وهى معتقلة بينهما ،تخترق نظراته من أعلى فرجة ضيقة فى البلوزة البيضاء .أستشفت
ماتنطوى عليه نظرته فأبتسمت نصف أبتسامة وهمت بالخالص :أوعى أيديك ياشريف حد يفتح الباب .
لمس خديها حتى شفتيها ثم أغمض عينيه وأقترب بشفتيه اللتان أنفرجتا كالكماشة ،وقبل أن يلتهم
شفتيها أصابهما أرتباكا مفاجىء حين دوى صوت نوح البواب :أقفل باب األسانسير يا اللى فى التالت .
فلتت بوجهها من بين يديه وسحبت جسمها باتجاه المصعد :سالم بقى وحأكلمك بالليل لما أرجع من
األتيليه ،بينما لملم أعصابه المشدودة وتوجه بها الى داخل شقته .
109
كانت ثورة يناير بالنسبة لشريف ثورة فاشلة بحكم النتيجة وما آل إليه الحال بعد أنقضاض األخوان
المسلمين على السلطة وبعدما أيقن الكثير أن حكمهم ال يختلف عن سابقه ،اللهم إال فرق واحد فى
منظومة الفساد ،فالسابق فساده ماليا وأقتصاديا وسياسيا ،أما الحالى ففساده فى منهجه الفكرى
وتكوينه حيث يعتمد على نظرية عفى عليها الزمن ،نظرية المحتل والمستعمر الذى دائما ما كان يبدأ
خطواته األولى بالتحكم فى مفاصل الدولة ومؤسساتها ،ليمرر من خاللها خططه وأستمرار وجوده .
بينما " خيرى " وبطريقته المعتادة المتأنية فى رصد وتحليل األحداث بعد تلك المتغيرات الجذرية عقب
ثورة يناير ،كان يرى أن أزمتنا أزمة وعى ؟ ،فال أحد يدرى وال أحد يعرف ،الكل مشوش ،حتى
النخب ة طال وعيها التشويه بفعل الشيخوخة أو التوجه .أظهرت " ثورة يناير " قسوة النظام السابق
وتغوله وفساده والذى أنهك المصريين ،فبات الشعب كله مضروب فى بنيته ونخبته وثقافته ولقمة
عيشه ..فقر وجهل وتمزق .واألن وبعد الثورة خرج علينا من هربوا من دنيانا وجاءونا بمنطق
وتفاسير جديدة تودى بالعقل وتسحق مابقى من المنطق وتزيد الهوة وتسحبنا لعصور الخيمة
والصحراء .ردة للخلف مئات السنين .
الوعى دائرة واسعة أبتلعت داخلها كل شيىء .كان خيرى قد نجح فعال فى تدريب روحه على قبول كل
ما حوله والتعامل معه وفق معايير جديدة ،وأصبحت األشياء المحيطة به جزء من مكونات الصورة بعد
أن طبعت نفسها فوق عديد من الصور القديمة ،لم تكن باهتة أو منضبطة عليها بقدر ما كانت تشف
عما وراءها ..كانت البداية بتطور ثورى مفاجىء فى مسلكه حين باغته صديق عمره وكاتم أسراره
" برسوم " زميل عمل بمصلحة اآلثار منذ خمسة وعشرون عاما .وعقب أنتهاء ندوة مملة حضراها
بأحدى القاعات فى مكتبة األسكندرية بحضور لفيف من محترفى الكالم وحين دار النقاش حول مجموعة
دراسات وتحليالت تؤكد أن مدينة األسكندرية فى طريقها للغرق تحت مياه البحر خالل العشرين سنه
القادمة ،بدت كلمات المشاركين فى الندوة مطاطة وطويلة ،فزلكة من الدكتور فالن وسفسطة على
لسان الدكتور عالن وكلمة من هنا ومثلها من هناك وأنتهت الندوة على توصية هامة فارقة سيذكرها
التاريخ .مفادها :أن تكون هناك ندوة أخرى لتكملة النقاش ! .
ــ يوم الخميس الجاى حتيجى معايا ياخيرى فى المقر بتاع جريدة أسكندرية اليوم .قال برسوم .
رفع كفه مسلما فى ضيق :أل سامحنى مش عايز أحضر ندوات تانى أنا توبت ! .
110
ــ دى مش ندوة ياخيرى دى حاجة جديدة لسة مولودة فى أسكندرية وأنا عندى أحساس جوايه بيقولى
أنها حتجيب الفرج ،وبعدين خالص أنا رشحتك تبقى معايا من ضمن مجموعة المؤسسين ؟! .بحث فى
رأسه عن أجابة وهو يتطوح فى مشيته ،كانت المفاجأة أكبر من أى رد ،غير أنه أختصرها برسم
مالمح على وجهه لم يستعملها من قبل فى حين أكمل برسوم ما بداه قبل أن تحتوى صديقه المفاجأة :
أنا عارف رأيك كويس فى حكاية األحزاب و األئتالفات وتريقتك عليهم وحافظ كمان جملتك المشهورة
ال على المجنون حرج وال المريض حرج وال " على األحزاب حرج " أشعل سيجارة قبل أن يطلق أول
نفس منها فى وجه صديقه الذى مازال يعانى تنميال فى مقعدته جراء جلسته الصعبة فى الندوة :لما
أنت ياأخى كل يوم معايا فى الشغل ومش بنبطل كالم وعارف رأيى كويس بتقولى علي الخيبة
دى ليه ؟!.
ــ عشان ده مش حزب زى اللى بالك فيه ..ال نفس الشكل وال التركيبة دى حاجة جديدة خالص ! .
ــ مش فاهم ؟! .رشحت أبتسامة على مالمحه النحيلة وأزدادت صلعته لمعانا :تقدر تسميها كده حركة
توعية أو مجموعة وطنية بجد مش زى اللى موجودين دلوقتى وكل همهم منصب والشويعملوه ،دول
ناس بيحاولوا يعملوا حائط صد قبل البلد ما تقع وتتخطف كلها ومانعرفش نرجعها تانى !! .كانت
كلمات غامضة ومربكة ،تباطأت خطوات خيرى على أرضية البورسلين داخل المكتبة .ثبت فى مكانه
واضعا يديه داخل جيبى بنطلونه بعدما تمكنت منه الحيره قبل أن يرمى بالسيجارة من بين أصبعيه
بطريقة لم يفعلها سابقا .أستدار وأصبح فى مواجهة برسوم بحاجبين مرفوعين يتفحصه وكأنه يراه
ألول مرة قبل أن ترتخى مالمحه فجأة وأنفرجت شفتيه عن أبتسامة سرعان ماتحولت إلى ضحكة ذات
مغزى :طريقة كالمك الغامضة دى يابرسوم بتفكرنى بأفالم الجاسوسية لما كان بيظهر فى المشهد
راجل الموساد وهو البس بالطو أسود وحاطط على عينيه نضارة سودة وهو بيحاول يجند البطل عشان
يخليه يتجسس لحسابه .أبتلع ضحكته .ثم تابع :نفس الكالم اللى مالهوش أول من آخر .قابله
بضحكة ساخرة :لو حتدقق فى المشهد اللى انت بتقوله حتالقى الفرق مش كبير ..أسرائيل كانت بتجند
الخونة وضعاف النفوس أما الزمن األغبر اللى أحنا فيه ده بقى عندنا عشرات االالف من الجواسيس
والخونة عاملين زى الطابور الخامس ،تالقيهم فى كل مكان جنبك فى الشارع وفى المؤسسات
وساكنين معاك و الزقين فى جسمك زى الميكروب ولآلسف الصنف ده مش أسرائيل اللى مجنداه ..دول
بشر أتربوا بطريقة شاذة وأتغسلت دماغتهم وأتسيطر على عقولهم بشعارات وأفكار سودة وبقوا
111
بيتحركوا فى وسطينا زى األفاعى وكل يوم والتانى بيغيروا جلدهم ويتلونوا حسب الظروف ..زالت
دهشته بعد أن سحب نفسا طويال قبل أن يخرجه ببطء :فهمت قصدك يابرسوم بس النوعية دى مش
شريحة صغيرة دول نسبتهم كبيرة فى البلد وطول مافى فقر وجهل حيفضل عددهم يزيد وشرهم حيكبر .
ــ كالمك صح وعشان كده أنا بأعرض عليك األمر ده وتبقى معانا و تشاركنا وأنا متأكد أنك لما حتقابلهم
وتقعد معاهم حترتاح أوى ألفكارهم وكفاية أنهم ناس مخلصين وبيخافوا على البلد وهمه تشكيلة من كل
النوعيات فيهم رجال أعمال وصحفيين وأدباء وموظفين وعمال .
قبل أن يصفعهما هواء البحر عقب خروجهما من بوابة المكتبة وبعد أن أمتصت برودة الهواء دهشة
خيرى وأستغرابه :بس أنضم لكم فى أيه يابرسوم وأنا مش فاهم أنتو عايزين تعملوا أيه بالظبط ؟!.
ــ حأقولك ياسيدى ..المجموعة اللى أتكونت لحد دلوقتى تقريبا تالتين واحد وكلهم متفقين على أن
حكم األخوان فى مصر الزم ينتهى وبسرعة قبل البلد كلها ماتروح فى سكة اللى يروح مايرجعش أو
فوضى من كل نوع حتخلى بلدنا شبه الصومال وكل سنة وأنت طيب ..عشان كده كل واحد فى
مجموعتنا بيقدم أفكاره وتصوراته وبناء عليه حيتم دراستها وتحديد الخطوات .
ــ تشاركنا وتحضر معانا األجتماعات وتقدم أفكارك .سايره وهو يخفى أستغرابه :حأفترض أنى عملت
اللى أنت بتقوله ده وكتبت التصور اللى أنا شايفه أو حتى غيرى كتب أيه اللى حيحصل يعنى وال أنت
فاكر أن التالتين واحد بتوعك همه دول اللى حيخلصوا البلد وينقذوها ؟! .ثقة ضاعفت من نبرة صوته
وجعلت خطوته أكثر أسترخاءا :اللى مش عاجبينك دول يقدروا يعملوا كتير أوى ياخيرى ..قاسم أمين
لما رفع شعار تحرير المرأة كان لوحده من غير سند وغاندى لما قاوم األنجليز ماكانش يملك إال فكرة
حاربهم بيها وبرضه كان لوحده .حتى الضباط األحرار لما خططوا لثورة يوليو كان عددهم كام واحد..
كل حاجة بتبدأ بعدد صغير هو اللى بيبقى الشرارة وبعد كده الناس بتتلم حواليهم وبتتحول لثورة .
بالرغم من أن خيرى علم الدين كان أكثر أمتاعا ،حيث أنه يشعرك انك تجلس فى وكالة أنباء .تسمع
النبأ وتحليالته وتعرف وجهة نظره التى تقودك إلى أشياء غائبة عنك .ورغم الفضول الذى أثاره فيه
هذا األلحاح من صديقه برسوم ،فأنه تمنى من صميم قلبه ،أن يبقى بعيدا عن مجريات األمور ،يكفيه
أن يحلل .أن يجمع المعطيات كعادته ،وأن يقيم األشكاليات جميعها ويتنبأ لينتشى فيما بعد وهو يرى
112
نبوءاته تتحقق واحدة بعد األخرى .لم تكن عضويته فى المجموعة تهمه وال يريدها ،ولكنه وجد نفسه
منساقا تحت ضغط األلحاح ،كما أن التحول الغريب والجوهرى فى المناخ السياسى المصرى بعد ثورة
يناير أغراه كثيرا حيث لم تعد هناك نخبة أو غيرها بالمعنى المتعارف عليه ،الكل ينتفض فى حالة من
الهيجان والمراهقة السياسية ،الشباب بثوريته المندفعة وغير المحسوبة وبمبدأ " كن فيكون "
واألخوان كعادتهم مصلحة الجماعة فوق الجميع وبحكمة " خد وأجرى " أما الكبار المتمرسون فحدث
وال حرج بداية من كالم منمق فاقد للجوهر والمعنى غير قابل للتطبيق ،وان كان يحسب لهم تحولهم
المفاجىء إلى نجوم فى البرامج الحوارية مدعومة بلياقة بدنية تحسب لهم فى خفة الحركة من قناة
ألخرى فى وقت وجيز .
حاصره برسوم يوميا بإلحاحه مذكرا أياه بموعد يوم الخميس :الساعة سبعة بمقر جريدة أسكندرية
اليوم .
ــ أدام محطة ترام األزاريطة الدور الخامس .ضاقت عينى خيرى قبل أن يفرد أبتسامته :مافيش كلمة
سر وال أسم حركى وال أى حاجة من الكالم ده ! .
ــ أبقى خبط على الباب تالت خبطات وقول جزر .قالها وأنفجرت ضحكاتهما حتى دمعت عيناهما .
أنصاع يكتب .أرتعشت يده وكانت أصابعه تتململ أثناء قبضها على القلم ،بدأت تصوراته وأفكاره
تتوالد قبل أن يحصل برسوم على أجابة شافية :أنا بدأت أكتب شوية تصورات حسب اللى أنا شايفه
و طريقة تنفيذها ..لما نشوف مجموعة الهجص بتاعتك دى حتعمل أيه ؟ غير أنه باغته بقبلة مباركة
وهو يهتف :مادمت كتبت تبقى أقتنعت وربنا يسهل بالباقى .
000000000000000
مناقشات دائرية فى حلقات تكونت بتلقائية من الطلبة المتجمهرين داخل حرم جامعة األسكندرية ،
ناقشوا أحالمهم عن الديمقراطية ومستقبل البلد ،كما أستعرض الكثير منهم برامج األسر الطالبية
المرشحة ألنتخابات الجامعة بعد أقرار الالئحة الجديدة للنظام األنتخابى للجامعة .كادت تتحول
المناقشات إلى مشادات حامية بين التيارالمدنى المستقل وبين طلبة األخوان مما زاد من سخونة
113
المشهد ..تطوع طالب من التيار الشعبى عريض الصوت :أحنا عايزين نشارك فى الحكم والزم يكون
لنا كلمة ونفهم بلدنا رايحة على فين .أنتفض أخر ،العصبية أضاعت من كلماته تأثيرها :همه فاكرين
المصريين دول أيه ..بيستخفوا بعقولنا ليه ..البلد بتتأخون قدام عنينا وأحنا واقفين بنتفرج .كلمات
حماسية تحولت الى حركة أحتجاج جماعى ،تقدم طالب من حزب الدستور حمله زميله على كتفيه وسط
حشد طالبى يحيط به كالسياج ،ليهتف هتاف البداية :يسقط يسقط حكم المرشد .بينما تقف بسمة
متحمسة فى قلب أحدى الدوائر تحاور وتناقش بوعى أو بدون وعى ..فى أيامها األولى بالجامعة منذ
عامين أستعادت بسمة عالقتها ب " نورهان " التى زاملتها فى مرحلة األعدادية وعرفت " نور "
صاحب الوجه الطفولى و " باسم " صاحب المالمح المتجهمة كما عرفت أحمد وساندى وعاشت معهما
قصة حبهما المستحيلة ،ألن ساندى مسيحية .هؤالء هم الصحبة القريبة لها التى ال تفارقهم ،
بتجمعون فى " كافيه " الكلية قبل المحاضرات وبعدها ثم طوروا من أداءهم حتى أصبح وجودهم
فى الكافيه طوال اليوم مختتمين يومهم بسندوتشات " فول وفالفل " من مطعم ( محمد أحمد)
بمحطة الرمل .
أنفلتت " بسمة " عن صحبتها النمطية من خالل مصادفة معتادة ومتكررة فى الوسط الطالبى ،كان ذلك
يوم أن أصيبت بحالة من الدهشة وهى ترقب جمعا غفيرا من الطلبة مدعومين ببعض الموظفين وقد
أحتشدوا أمام مبنى األدارة مطالبين باقالة العميد فأستندت الى سيارة تتابع الوجوه الغاضبة المهتاجة ،
وجدته إلى جوارها مستندا إلى نفس السيارة يدخن سيجارته بنهم وبينما كانت هى فى حالة من
السرحان أقترب منها " أمجد" بالسنة النهائية بالكلية والتى منحته األيام طوله الفارع وعينان لها بريق
كحدة السيف ،أنتشلها مما هى فيه من أستغراب وحيرة وبطريقته الساخرة التى يعرفها كل من حوله :
أيه رأيك فى اللى بيحصل ده ؟ لم تجيبه بل سألته :أنت أيه رأيك .لم يخدعها برأيه :العميد ده من
فلول مبارك وأحنا عملنا ثورة عشان القديم كله الزم يتنسف .تململت فى وقفتها :بصراحة أنا أول مرة
أشوف مظاهرة من القرب ده .
ــ أنا فى سنة أولى .يجوب بعينيه فى أنحاء جسمها :ده أنتى لسه حتشوفى العجب .حاولت أمتصاص
كل نظرات الطلبة الداخلين للجامعة ،لكنها لم تستطع أن تصرف نظراته عنها ،لم يترك فيها جزء
إال وتفحصه وكأنه فنان يتأمل لوحة كثيرة التفاصيل ،ماجت بذهنه ،كما لم يكبح عنان خياله وهى
114
تنتصب أمامه نخلة باسقة مثمرة ،جردها فى ذهنه من التيشرت " النبيتى " والبنطلون الجينز الضيق
ثم نقلها إلى فراشه وعبثت فيها أصابعه وتخلل لحمها وفعل معها ما يعشقه من مشاهد تسكن ذاكرته .
وبعد أن غادر أرتباكه الغريزى بدأ بينهما حديثا مازال ممتدا .كان دائم التهكم على شعارات تيار
األسالمى السياسى موضحا لها :أوعى تاكلى من شغل الدقون وال الزبيبة وال البنطلونات القصيرة ..
كل ده هجص ونصب دول ناس فاضية من جوه وعقولها مهوية وعايشين فى زمن عكرمة وأبو لهب
وبعد الثورة جتلهم الفرصة لغاية عندهم وبدل مايجددوا أفكارهم ويعيشوا معانا فى العصر اللى أحنا فيه
عايزين يرجعونا كلنا لزمن الكفار والمسلمين .بدت مذهولة إزاء برمجة أفكاره وكالمه المرصوص
الذى يغلفه حماس البداية والتعارف فطوح بها إلى لحظات مشابهة وإلى كالم مطابق سمعته كثيرا فى
أفالم األبيض واألسود :مش المهم أننا نقول شعارات وال نرص كالم كبير أهم حاجة أن الشباب كله
الزم يتفق على مطلب واحد ويحارب بكل قوته عشان يحققه ..العدالة ..العدالة فى كل حاجة ..فى
األكل فى الشرب فى الوظيفة وكمان فى األنسانية ..عشان كده ضرورى الزم تفضل الحالة الثورية حية
ومستمرة و الزم المظاهرات واألعتصامات والوقفات تبقى كل يوم لغاية ماأهداف الثورة تتحقق كلها .
غير أنها فى أول األمر كانت تغيظه :ما هو أنت أشتراكى ناصرى وشعاراتك دى مكانها المتاحف ..إال
إنها عندما سقطت فى بئر أرائه وأفكاره وجرفها تيار التذمر لم تكن تدرك أنه يحصد من وراء تلك
الشعارات ثمار مازرع فيه بالفطرة ..عن سوء التوزيع ونصيب الفرد والعدالة الغائبة .كالم كثير لم
تكن تفهمه .
عرضت عليه " بسمة " أن يشاركها وصحبتها برنامجهم اليومى ،فشاركهم فى وليمة فول وطعمية
على سور الكورنيش ،هناك بدا صامتا كان يشعر أن هذا العالم ليس عالمه على األطالق وبدا طافيا
بفكره خارج الجلسة بنكاتها وحكاياتها وعند الرحيل كان هناك قرارا مفاجئا أجتمعوا عليه بزيارة خاطفة
إ لى "مكرم " محل جيالتى شهير برأس التين لم يوافق أمجد ألسباب عديدة ،غير أن " أحمد " أنقذه
وأعلن على المأل بأنه معزوم بمناسبة خروجه معهم ألول مرة .
مشوا بمحاذاة سور الكورنيش ،تسكعوا وضحكوا ولوثوا زوايا أفواههم بالجيالتى وبدأت الثنائيات
تتضح ،وأنفصال عن الجميع وتوجها إلى فتحة فى سور الكورنيش ،جلسا على الشاطىء يكتشفان
صورة البحر من جديد وكأنه أنشأ حديثا ،رسم بأصبعه دوائر وخطوطا على الرمال بينما هى تراقبه
وتتبع نظراته ،إال أن وجهه المتطلع أدهشها بمالمحه الغاضبة وجبهته العريضة ونظرته الحادة من
115
عيونه العسلية وذلك الشيىء الغامض فيها ،شدها إليه بصمته ،فمنذ دخولها الجامعة تعودت مع الذين
تجلس معهم أن يستعرض الواحد منهم أهميته وذكائه ويحاصرها بأسئلة عن حياتها الخاصة ،لكن
أمجد تعمد األستخفاف بكل األسئلة وبالحياة بل وبنفسه بينما هى جسدها ينتفض غيظا من ال مباالته
وبدا وكأنه ال يريد أن يعرف شيئا عنها ،أنشغل بالها بطريقته وزاد أهتمامها به وحاولت أن تقرأ داخله
المغلق وكانت إذا لم تحدثه يركن إلى الصمت .أستمرا فى الجلسة ثالث ساعات بكت فيها بسمة وهى
تحكى له عن أمها المغتربة فى الخليج ،غير أنها فى حقيقة األمر كان بكاؤها لعدم قدرتها على البوح له
عن مكان أمها فهذا ماحفظته منذ سنوات وأقسمت عليه مع يوسف أمام نورا أن تكون تلك الكدبة هى
الرواية الرسمية عندما تذكر أمهما في أى حديث ،حكت له عن أحترامها وحبها لنورا األخت
واألم وعن يوسف األخ والصديق والعمة أيات سجينة غرفتها ،كما أخبرته عن حبها للون األسود
وكرهها الشديد للسبانخ والقلقاس وعشقها المجنون للممثلة " منى زكى " ولم تخف عنه أعجابها
بـ " أبراهيم عيسى " لم تجد منه تعقيبا فقطعت سكوته وأنتزعته من جموده بسؤال حشرته داخل حديث
عشوائى تبحث من خالله عن مفتاح يمكنها من الدخول لشخصيته :ماكلمتنيش عن نفسك عايش فين
وأزاى وبتفكر فى أيه ..حاجات زى كــده يعنى ؟! .فتح " أمجد " مجاال لحنجرته بأفتعال كحه وهى
تنتظر :أنا ياستى من عيلة متواضعة جدا على أد الحال والعبد للـه هو الكبير وأخويا سامح الصغير
وريم أختى الوسطانية ومعانا هنا فى الجامعة بس كلية أداب سنة تانية وأمى ست بيت غلبانة مكافحة
شبه ستات كتيرة بتقابليهم كل يوم وأنت ماشية فى الشارع ،أمى من الصنف اللى دايما تالقيه
واقف فى طابور العيش أو تشوفيها أخر النهار وهى راجعة من السوق بعد ما أشترت بواقى الخضار
والفاكهة ..على أد فلوسها ،أمى طول الشهر بتحاور األيام وبتحايلها عشان المليمين اللى بتأخدهم
من أبويا يقدروا يكفونا أكل وشرب .لم تفارق عيناه وجه بسمة قبل أن يعيد رسم مالمحه بضحكة
عارضة .تابع :نسيت أقولك أن أبويا كان بيشتغل فى شركة النحاس وخدم فيها ثالثة وعشرين سنة
ومن تالت سنين بس ربنا كرمنا بثروة ماكانتش على البال .رمقته فى أستغراب :طلع لكم ورث !
هرش رأسه ليصيغ لها واقعا :الحقيقة هو مش ورث ،الشركة عطته مكافأة سبعة أالف جنيه وطلعته
معاش مبكر ..جحظت عينيها حين سمعت الكلمة األخيرة :يعنى خصخصة .
ــ تمام هى خصخصة .أردف دون أن يلتقى بعينيها :ونص المكأفاة طارت فى أول شهرين لما أبويا
قرر يعمل تستيكه للسطح عشان أحنا ساكنين فى أخر دور والشتا لما بييجى علينا بنبقى تقريبا عايشين
تحت مصفة .
116
أصغت إلى أحالمه عن السفر إذ تعذر دخوله مجال التمثيل ،كما اخبرها عن تفكيره فى األنضمام لحركة
األشتراكيين الثوريين ثم أفشى لها عن " مسج " على موبايله من شركة موبينيل تقدم عرضا " أشحن
بعشرة جنيه وأتكلم مجانا من منتصف الليل إلى ظهيرة اليوم التالى " فهمت مقصده وعرفت أن للحديث
بقية بـ " أبو بالش " ..تكلما فى أناء الليل وحتى أطراف النهار وقابلته طيلة األسبوع ،كان يفكر فيها
كثيرا ويقترب منها وتطورت العالقة ونمت بسرعة كنبات اللبالب ..أسابيع قليلة كانت كافية ليفرج
أمجد عن شخصيته الحقيقية بعد أن جاهد فى أن يقمعها داخله ،فهو معروف فى الوسط الجامعى
بكفاءته المشهودة فى المدح والقدح والكر والفر طبقا للظروف ومقتضيات الحال وتطويع قدراته على
األستفادة من األحداث واألشخاص ،وألسبابه الخاصة من ميراث الفقر والعدم وجد أن بسمة فرصة ال
يجب أهدارها خاصة وأن الـ " سى فى " التى تملكه ملىء بالكنوز ..أمها فى الخليج من سنوات ومن
عائلة عريقة ومن وسط راقى ،فكان يقتحمها بشكل سافر وكان بطبعه وأفكاره يدرك أنها ليست تحفة
وليست فلتة ،فهى ال أكثر من رعناء مخترقة أو أية صيغة من الصيغ ذات األبعاد الملغومة ،هذا هو
أعتقاده ..عقدة الفقر والعوز جعلته كالحصان الملجم تركبه المصلحة الشخصية ،فهو قادر
وبأمتياز على أخفاء نواياه الحقيقية فى قالب من السخرية الالذعة والنكتة المحبوكة بحيث ال يعرف أحد
مقصده ،فكان مصدر حيرة بالنسبة لها ،غير أنها لم تستسلم بدافع الحب وتقمصت دور طبيبة فى
لتستخرج معمل تحاليل فأخذت عينات متعددة من شخصيته المركبة ووضعتها تحت الفحص الدقيق
النتائج تباعا وعلى ضوئها تحدد الدواء ،فحين تراه غاضبا على كل شيىء متمردا وفى كالمه دخان
يتصاعد مثل قدر يغلى وعندما تشعر به مأزوما حادا وال يجد مكانا يتنفس فيه ،كانت تفسح له مخرجا
أو طريقا قبل أن توقفه فى مواجهة مع أوجاعه النفسية وحرمانه المزمن من الشعور بالسعادة فكانت
مقنعة وبارعة فى حديثها :نفسى أعرف سبب واحد لكمية الغضب اللى جواك ..أنت ليه مش عايز
تفهم أن الدنيا اللى حواليك كلها أتغيرت وماعدش فيه دلوقتى أنا أبن مين وال ده وضعه أيه ..خالص
الليلة دى عدت وخلصت وكله بقى شبه كله .غير أنه كثيرا ما يشعر أن األمور ال تجرى على النحو
الذى يرضيه ،دائما تلبسه غريزة حاقدة عنيدة كانت تدفعه إلى التمرد على كل األوضاع .فتراجع لحم
خديه إلى الداخل وتقلصت مالمحه وبدا كالشيخ المريض :عندك حق فى اللى قلتيه أنا فعال أرفان
وغضبان من كل حاجة ..من الفقر والعيشة الجبس والمستقبل اللى مالوش مالمح وحال البلد اللى ال
يسر عدو وال حبيب .قاطعت بكلمة " بس " إال أنه أوقفها بنبرة محتدة :مافيش بس ..أنا لو فى
مكانك ووضعى زى وضعك وساكن فى حتة راقية وأمى بقالها سنين فى الخليج وعيشتى مرتاحة كنت
117
برضه حأتكلم زيك كده وحأعيش دور الواعظ اللى عمال ينصح ويدى تعليمات ..هزت رأسها وثبتت
نظرتها فى وجهه :أنت محسسنى بأنى جاية من كوكب تانى ..واللـه يابنى الكالم ده خلص من زمان
وأنتهى من أيام فيلم رد قلبى والدليل على كده أنى لما عرفتك ما كانش فارق معايا أنت غنى وال فقير
كل اللى يهمنى أنى بأرتاح معاك وشايفة أن جواك حاجات كتيرة كويسة مع أنى عارفة عيوبك وحافظاها
كويس لكن فى حاجة بتشدنى ليك .بعد ما راثون طويل من المكالمات واللقاءات جاءت اللحظة الحاسمة
وفى نفس موقع لقاءهما األول على سور الكورنيش حين حدق فى عينيها وأدلى بأعترافه التاريخى :
أنا بحبك يابسمة .وضعت كفيها على خديها وأغمضت عينيها :ياربى أخيرا قلتها .قطعا معا كل أشواط
الرومانسية ،كان يمثل أمامها كل شيىء كما كانت تمثل له ،عرفت من خالله أشياء وأشياء وكانت
تنقل له كل ما يدور حولها ومع زمالئها ،بينما يلقى لها برؤيته عن الدنيا واألحداث فتشابكت األراء
وتفاعلت فى نوع من الفوضى الجميلة والحب المتمرد من خالل لقاءات شبه يومية داخل الجامعة بينما
تكفلت بسمة بدفع فاتورة لقاءاتهما الخارجية التى جمعتهما فى " ماكدونالذ" ومطعم العربى أخصائى
الكبدة األسكندرانى أوفى كافيهات الداون تاون دون أن تجرحه بينما كان هو ينتقى أيام معينة يختارها
بعناية ليرد لها فيض العزايم فكانت المرة األولى فى شهر أبريل من العام الماضى ويومها لم
ينفق من جيبه بل من حنجرته حين سارا سويا فى مظاهرة ضخمة الى المنطقة الشمالية العسكرية
بـ " سيدى جابر " وهى تردد معه :يسقط يسقط حكم العسكر .والثانية كانت فى ديسمبر الماضى أمام
مسجد القائد أبراهيم حين تشابكت أيديهما وسط جموع تنادى :أرحل يامرسى .شعرت معه أنها
مسلوبة األرادة فأستكانت لهذا الشعور على الرغم من أدراكها الكامل لطبيعته ،بينما كل من حولها أكد
لها أنه متغير المزاج أنانى الطبع ،أنصتت لنصيحة صحبتها ولم تقتنع بل دافعت عنه بأستماتة أمام
أحمد وساندى وجادلت نور بعصبية ووافقت مكرهة كى تهدأ ثورة "باسم " بهزة من رأسها قبل أن
تؤكد لهم بملل أنها تقيم الموقف ،كانت أجاباتها نابعة بأنها أصبحت مسئولة عن نفسها وعن تصرفاتها
وليست فى حاجة إلى نصيحة ،لقد تسلمت نفسها منهم ،لم تكن تعلم أنه تغلغل فى كيانها الى هذه
الدرجة وأنه أستولى على وعيها كامال .
00000000000000
فى غرفته البيضاء ذات السرير الوحيد المجاور لـ " كومودينو" تزينه أباجورة نحاس بدون لمبة
ومكتب صغير بجوار النافذة يلهث فوقه جهاز كمبيوتر لم يرحمه "يوسف " منذ عامين وأمامه كرسى
118
جلدى ،معلق على ظهره فردتين شراب " بيج " بينما أرضية الغرفة زرعت بالكتب وأدوات الهندسة
ومذكرات الكورسات ،نغمة غربى صاخبة أندفعت فجأة فى حالة هيجان تصاعدى من موبايل يوسف
الذى سلم نفسه للنوم متأخرا فبدت مالمحه وكأنه فى حالة موت سريرى بينما تسربت النغمات الملحة
إلى مركز األحساس فى مخه الذى أستقبل الرنات بكرمشة وجهه قبل أن يجاهد فى فرده كمريض فى
غرفة أفاقة بعد أجراء عملية وهو يتحسس بأصابعه مكان الموبايل حتى سحبه من على الوسادة ،شق
جفنيه بصعوبة محاوال طرد غشاوة علقت بعينيه وقرب شاشته لحدقتيه كأنه يعانى قصر نظر .أستعاد
وعيه :أيوه ياهدير .قالها بنبرة من يحتضر بينما أتاه صوتها مغلفا بنشاط وحيوية مبالغا فيها :أنت
لسه نايم لغاية دلوقتى يايوسف .
ــ صباح الخير ياهدير ..أنتى فين .كشفت عن موقعها بضحكة :أنا هنا عندك ياأستاذ واقفة قدام
مدخل العمارة .أستقبل جملتها بتعبيرات غامضة ،غير أنه قام من سباته كمن تلقى نفيرا فى أذنيه ..
هبط من سريره يترنح كتائه فى الصحراء متجها للنافذة ،دفع الشيش بكف يده متقمصا دور ضابط
صاعقة فى مهمة أقتحام ،وارب جفنيه لصد هجمات ضوء النهار ثم دار بنظراته يبحث حتى ألتقط
مكانها كجهاز أستشعار ،كانت تقف أمام سيارتها " الالنسر" رافعة رأسها نحوه بينما الشمس تضىء
وجهها فتبادل معها األشارات وهو يحدثها :خمس دقايق وأكون عندك ..سالم .
رمى الموبايل على السرير وتعرى من " الترنج " ثم بلغ باب غرفته بالبوكسر ومنها الى الحمام وكأنه
فى سباق للتتابع ،أختزل طقوس برنامجه الصباحى فى الحمام وخرج منه سريعا متجها الى غرفته
ليضع رجليه فى بنطلون جينز أسود ويستر لحمه بقميص أبيض مطلقا سراحه حتى " الهنش" .غادر
غرفته مسرعا قاطعا الصالة بأتجاه باب الشقة قبل أن يتفادى فى طريقه " نعمة " القادمة من رحلة
عودة من المطبخ إلى غرفة أيات :مالك يابنى متسربع ليه كده ع الصبح .
ــ معلش يانعمة كملى أنتى مشوارك ..طريقك أخضر .خرجت نورا من غرفتها تستطلع وهى تسد أخر
زرار فى بلوزتها أستعدادا للخروج :صباح الخير يايوسف ..مالك مستعجل ليه ؟ أستدار ناحيتها قبل
أن يبلغ الباب متجنبا الخوص فى التفاصيل :هدير مستنيانى تحت العمارة .
ــ هو أنت مش النهاردة عندك تدريب فى المكتب اللى بتروحه مع هدير .
119
ــ أيوه يانورا ..خرجت عمته أيات هى اآلخرى من غرفتها تزامنا مع جملته األخيرة تقف عند عتبتها
ككائن محنط داخل روب زهرى :ماتنساش تسألى يايوسف عن سيديهات مزيكا جديدة تكون نزلت
السوق .بنبرة ضيق :حاضر ياعمتى ولو مالقيتش حأبقى أجيبلك حاجة للشيخ محمد حسان .فتحت
شفتيها ثم أطبقتهما بسرعة وكأنها تبتسم فى حين أقتربت منه نورا تلقى عليه نظرة فاحصة قبل أن تمد
يدها فى حقيبتها :خد يايوسف الخمسين جنيه دى .
ــ ماشى ياعم المهندس يمكن تعزم هدير على حاجة يكون نفسها فيها ..طوفى وال أرواح .قابلها
بأبتسامة مع نظرة أخيرة قبل أن يدسها فى جيبه ثم رحل بعدما رفع يده بالسالم متلقيا منها نصيحة
كل يوم :خلى بالك على نفسك يا يوسف .
أحتار لثوان قبل أن يحدد بوصلته باألتجاه للمصعد أو قفز الساللم ..أختار األخيرة وأندفع فى السباق .
فى تلك اللحظة أنتفض " أنور" متجها إلى سيارة هدير تحمله ساقين قصيرتين مرتديا قميصا أكبر من
مقاسه تحته بنطلون ال يبلغ نصف ساقيه ،هو شاب ريفى وارد " أبو حمص" أستعان به نوح ليقوم
بحراسة العمارة ليال ،دار حول سيارتها يطوقها مسحا وفى نهاية كل مسحة يرسل نظرة إلى وجهها
ليتأكد من رضاها عن عمله .لمحت يوسف يقترب من مدخل العمارة فأخرجت نصف رأسها من شباك
السيارة وأبتسمت له وهى تشده نحوها بنظراتها .
أجتاز المدخل .الهدف باب السيارة قبل أن يلوى رقبته ناحية أنور :الحساب ده عندى .أقتحم السيارة
منحنيا ثم أخذ يزحف بجسده على الكرسى مسندا رأسه على حافته بينما اليزال يقاوم خدر المفاجأة .
سألها وهو مغمض العين :أيه المفأجاة الجامدة دى .بنظرة ركنية :بجد يايوسف .
ــ طبعا .رائحة عطرها تمأل فراغ السيارة فى حين خطفت لقطة سريعة من وجهه عندما أحست
بحشرجة صوته :أنت لسة نايم وال أيه ؟ قالتها وأستقامت بوجهها لتدفع بعصا الفيتيس ثم اندفعت
محاذرة وسط صفى سيارات على الجانبين ،أدارت الكاسيت على مقطوعة موسيقية هادئة وسارت
السيارة مثل نصل يخترق جسد ميت .ترد خصلة شعر حركها الهواء أمام عينيها :أنا قلت أعدى عليك
نروح المكتب سوا .
120
ــ واللـه رحمتينى من الزحمة والمواصالت .
ــ معلش يابنى أتحمل شوية هو فى حد اليومين دول يالقى مكتب زى بتاع المهندس ناجى يتدرب فيه ..
متتبطرش ياباشمهندس .
عدل من وضع جسمه :أتبطر ..يتقطع لسانى لو ده قصدى ولوالكى ماكانتش جتلى الفرصة دى أبدا .
ــ أنت تأمر ياباشا وأحنا خدامينك بس ماتنساش تدعى للحاج أحمد أبويا وبالمرة لماما .كرر كلمتها
األخيرة بلكنة محبطة :ماما !! .لم ينس أبدا ذلك اليوم عندما تلقى مكالمة موجزة وبصوت متعب قالت
فيها هدير .مش حأقدر أجى المكتب النهاردة يايوسف .
ــ تعبانة شوية ،ياريت تجيبلى نماذج التدريبات ورسومات الموقع .
ــ عندنا هنا فى البيت .تقمص هيئة الشاب المندهش الخجول :أزاى بس أجى عندكوالبيت ..باباكى
ومامتك حيقولوا أيه ! .فاجأته :أيه يابنى الكالم الخايب ده هو أنت فاكرنا عايشين فى زمن الطرابيش
وال أيه ،طبعا مش حيقولوا حاجة وكمان الزم تفهم ياأستاذ أن اللى بينى وبينك من بدايته لغاية دلوقتى
بابا عارف كل تفاصيله .
ــ يابنى الحاج أحمد أبويا ده صاحبى وحبيبى وما أقدرش أخبى عنه حاجة .فى حين أنها دائمة التحفظ
فى سرد تفاصيل عالقتها بيوسف ألمها .ولما أستشعر جديتها لم يقدر على كبح جماح دهشته فتخلى
عن أداء دور الشاب الرصين وخاطبها :أنا جاى على طول مسافة السكة .
حمل الرسومات ونماذج التدريبات وأتجه بها إلى منطقة سموحة حيث المقر الرسمى ألقامة أسرتها ،
وجدها فيال بالغة الفخامة ،لها جدران خارجية مغطاة بالطوب الفرعونى ،بينما كانت هدير منتظرة فى
شرفتها المطلة على ممر طويل مزروع بالخضرة ،ولما رأته مالت بخدودها المشتعلة نحو السور تشد
خصرها ليهب صدرها عليه ..أستقبلته أمها فى وجوم عند باب الفيال بوجهها الدسم األبيض وبعينين
121
واسعتين ثابتتين فى مكانهما كأنهما عيون ميتة وحجابا يدور حول رأسها دون رقبتها وهو أمامها
واقف كالصنم فاردا ذراعيه فى استقامة وقد رص فوقهما الرسومات والنماذج كقاتل سلم نفسه
لمطارديه حامال كفنه .قالت دون أن تبتسم :أهال ..أتفضل .وضعته كلماتها ذات النبرة الناشفة فى
صميم الخوف المربك .تعثر :شكرا مش حأقدر عشان مستعجل .قالها وهو يبحث بعينيه خلفها عن
هدير التى سمع وقع أقدامها تندفع من الطرقة نحوهما .لحظات وكانت محشورة بينهما كأنها تزود عنه
وأصرت على أصطحابه للداخل بينما كان أصراره على الرفض أشد مبديا أسباب واهية لم تقنعها ،غير
أن سبب رفضه الحقيقى هو شعوره المتنامى بأن أمها ترفضه تماما وال تستسيغه فأثر السالمة وعدم
الخوض فى حالة حرج قد تخدش كرامته ،فهى نوع من النساء مغرور متكبر وحدود شخصيتها ومنطق
تفكيرها ينحسر فى تزويج أبنتها من مهندس قدير غنى وليس طالبا على وشك التخرج مستندة فى ذلك
على المعلومات الشحيحة التى انتزعتها من على لسان أبنتها فزادت تصلبا وتمسكت بالرفض الشديد
خاصة أنها تجد غرابة وعدم راحة فى كون أمه فى حالة سفر دائم ومتصل منذ سنوات فى الخليج بينما
أوالدهافى رعاية وكفالة عمتهم كما أنها لم تبتلع مهنة نورا أخته ودائما ماتكرر على أسماع أبنتها
بصيغة المعايرة :يعنى بتشتغل خياطة .كانت تلك مجموعة أسباب أستندت إليها أمها ولم يشفع عندها
ساللة الباشوات والبهوات التى ينحدر منها .
ولما دخل ،برقت فى وجهه المرايا التى تكتسى بها الطرقة المؤدية إلى الريسبشن الضخم ..يمرعلى
سجاد تغوص فيه األقدام قبل أن يلفح وجهه هواء بارد لعله التكييف .كان يتبع خطوات هدير وكأنه
يسير فى حراستها بعد أن أختفت أمها من خلفها ،أختار أول مقعد صادفه فى حجرة األستقبال ،بدا
داخله ضئيال حين جلس ..دارت عيناه تمسح المكان وتشاغل بالنظر فى اللوحات المعلقة التى وضعت
جميعها فى أطر مذهبة لتنسجم مع أثاث الصالون الكالسيكى فدعته هدير لمشاهدتها عن قرب ،اللوحات
معظمها زيتية مرسومة بحرفبة عالية ..خطوطها صريحة ..أشجار خضراء يجرى وسطها شالل مياه
يتدفق فوقه سرب طيور لم يعرف هويته ،لم يكن فيها أية تعقيدات وكأنها تنتمى الى زمن لم يضطرب
بعد ! ثم نقل نظراته المرتبكة بين اللوحات دون فحص حقيقى بينما شعرت هدير تجاهه بنوع من
األشفاق على أرتباكه قبل أن يعود إلى مقعده صامتا بعد جولته السريعة فى حين أختارت هى مقعدا فى
مواجهته تبادله الصمت ،حاول فى كل مرة أن ينطق فيها وأن يعتذر عن صمته الذى طال حتى أسكته
دخول " نجاة " وهى خادمة من بين ثالث خادمات يخدمن فى الفيللال تحمل صينية يشع منها بريق
مفضض ويتوسط فراغها كأس عصير بلون أحمر .مدت له الكأس :شكرا .تذوق ما فيه برشفة
122
صغيرة ،قلبها فى حلقه ..أستحسنها فأفرج عنها لتمضى فى جوفه .راقبته واألبتسامة تداعب
عينيها :أشرب يايوسف ده عصير كراز ! رفع حاجب واحد :طعمه جميل جدا .أنتبهت لقدوم والدها
الذى دخل بهدوء وقد أحاطت وجهه أبتسامة زادت من حمرته ،رجل ستينى بدا أنيقا فى بدلة فاتحة
اللون من دون كرافت ،له مالمح متفائلة وشعر فضى ناعم صففه على طريقة الممثل الراحل
" سليمان نجيب " .لم يمهله يوسف فرصة الوصول إليه فسبقه وتحرك نحوه يمد كفه مصافحا :أزى
حضرتك يافندم .
فرغا من المصافحة وبادره يوسف بتصريح دفاعى :الحقيقة هدير طلبت منى أجيب لها رسومات من
مكتب المهندس ناجى عشان هى تعبانه شويه .ربت على كتفه :أقعد ياباشمهندس ..ده بيتك ياأبنى
وفى أى وقت أهال بيك .تحركت بأتجاه والدها ومالت برأسها على كتفه قبل أن تفلت منها ضحكة التزال
فى مرحلة التكوين ،إال أنها حبستها بأشارة من عينى يوسف :من أول مادخل يابابا وهو ساكت
ومتل خبط وملخبطنى معاه ! .التقت على هذه الجملة عيونهما وقد أحمرت بشرته بينما ظهرت أبتسامة
طيبةغطت مالمح الحاج :ليه كده يايوسف ..دى هدير دايما بتكلمنى عنك وعن ثقتك فى نفسك .
ــ ربنا يخلى حضرتك ..هدير هى اللى مزوداها حبتين .جلس بجوارأبنته وأستهل حديثه وعيناه
مركزتان على الرسومات :هانت ياوالد كلها شهرين تالته وتتخرجوا .
ــ تقريبا هدير قالتلى أن مالكش أخوات صبيان .ضاقت عيناه :أيوه ياعمو .
ــ يبقى مالكش جيش ..يعنى أن شاء اللـه تبدأ شغل على طول .فتح عينيه يرسل نظرة طموحة :ربنا
يبعت ياعمو .توقفت الكلمات حين ظهرت أمها فجأة بعد أختفاءها ،تتهادى إلى داخل حجرة الصالون
ورأسها المرفوع ناطقا بالكبرياء والتحفز ،صافحته باشارة من رأسها وتقبلت تحيته بتكلف فى حين
أدار الحاج أحمد حديثا محببا إلى قلبه ،راح يشرح بداياته األولى وخطوات نجاحه المتتالية كمن يقدم
" سى فى " للحصول على وظيفة :أنا يابنى من أول الناس اللى حطيت أيدى فى شغل هنا فى منطقة
سموحة .رفع عينيه للسقف مستدعيا جغرافية المنطقة .أردف :ماكانش فيها غير شارعين أسفلت
واحد يودى لجنينة الحيوانات والتانى لعزبة سعد والباقى كله عبارة عن أرض مافيهاش غير برك ميه
123
وزرع شيطانى وبوص .ينصت يوسف كطالب فى محاضرة دون أن ترمش عينه بينما الحاج يشير
بأصبعه بأتجاه الشرق :التالت عمارات اللى عند المدينة الجامعية كانوا أول شغلى فى المنطقة الكالم
ده كان فى نص السبعينات واللى كان بيشرف على الشغل بتاعى المهندس ناجى اللى أنتو بتدربوا عنده
دلوقتى ..والحمد للـه بعدها العجلة مشت وبقى عندى فى سموحة برج فى كل شارع .أختلفت مالمحه
وظهرت ثالث خطوط طولية على جبهته عالمة تجهم وضيق حين عاود كالمه :أيامها عمرنا ماسمعنا
عن بيت بيقع وال عمارة بتميل كان فى ضمير وأخالق ومهنة المقاول كانت لها شنة ورنة الواحد منهم
يبقى واقف فى مكانه زى األسد يخاف على شغله وسمعته ،حتى المهندسين زمان كان فيهم الهيبة
واألخالص ناس بتعمل شغلها صح وع المسطرة والمهندس اللى كان أسمه يتحط على يافطة أدام عمارة
بتتبنى كان أحسن من مليون رخصة .أنهى حديث الذكريات بخبطة من كفه على فخذه :آه زمن !..
بينما زوجته تتلوى وتزوم فى حين تفاعل يوسف وزالت رهبته :كالم حضرتك مظبوط بس ماتنساش
أنه زمانكم ماكانش فيه فهلوة وال بلطجة كان كل واحد عارف اللى له واللى عليه .
ــ أبدا يابنى كان برضه فى زمنا فيه الحلو والوحش بس ماكانتش منتشرة بالطريقة بتاعة دلوقتى
دى ..تبحث لها عن دور فى الحوار .قالت هدير :أنت راجل أصلى ياحاج أحمد يابتاع زمان وبتاع
دلوقتى .
ــ أنتى شايفه كده ياهدور .زادت نبرة الجد فى صوتها :طبعا ده أنت مافيش زيك فى الدنيا
كلها .قالتها و تعلقت عيناها بوجه أمها عند نهاية جملتها :وطبعا ماما كمان .همسات خفيفة مدروسة
خرجت منها بتململ :مرسيى ياحبيبتى .بينما يوسف يراقبها وقد أقتحمته حاالت الجفاف ،لم يرفى
وجودها سبيال إال ترديد لكلمات المجاملة :طبعا دى األم عماد البيت .
ــ عماد البيت وال عماد حمدى " .أفييه " همست به هدير فى أذنه قبل أن تلحقه بأشارة من أصبعها
كى يفتح مجاال للحوار مع أمها ،أضطربت قصاحته المعهودة وهو يحاول التودد اليها :هدير دايما
بتكلمنى عن حضرتك وأد أيه بتحبى النظام والترتيب .لم ير تعبيرا واضحا على مالمحها فزادها بيتا :
ياريت الناس دلوقتى يبقى عندهم الصفات دى .أبتسامة غير كاملة لم تكشف إال عن أسنانها فى الجانب
األيسر ثم زمت شفتيها وأرخت جفنيها وعقدت حاجبيها وكأن جبهتها عليها حجر ثقيل فى حين دار
حديث جانبى بين هدير ووالدها حول وعد كان قد قطعه على نفسه بتغيير سيارتها بينما أراد يوسف
معاودة محاولته فى أستمالة أمها ،وما أن تقع عينه على سحنتها إال ومر بأصبعه على رقبته حول
124
العنق ،زاد شعورة باألختناق وهو محاصر بال حيلة أمام نظراتها الثابتة فى وجهه وكأنها تعرف كيف
ومتى ستنتهى تلك العالقة التى تمسك بأطراف خيوطها جيدا ..هرب بنظراته إلى ملجأ األمان حيث وجه
هدير ،باشرت عينيه عملها فى تقاطيعها قبل أن تنزلق منه إلى النهدين الحبيسين المرفوعين ،لذة
حسية تنسيه إلى حين الحصار المضروب حوله بنظرات أمها القاسية ..أنتبهت هدير إلى مدى نظراته
فأستقبلتها بغمزة :منور واللـه ياباشمهندس !!.
نصف ساعة مرت ،وماكان بالجديد إال أسم "مدام هدى " والذى تردد فجأة وعن قصد على لسان
أمها ،فكهربته وهى تستفسر :من يوم ما هدير دخلت الكلية من خمس سنين وهى بتقولى أن مامتك
فى األمارات ..أزاى مافكرتش ولو مرة واحدة أنها تنزل أجازة تطمن عليكم وتشوفكم ..متهيألى دى
حاجة غريبة أوى ؟! .أستجمع كلماته فى تبرير تدرب عليه سابقا :بصراحة ياطنط ماما كل سنة بتبقى
عندها النية تنهى العقد بتاعها وترجع ..لكن زى ماحضرتك شايفة ظروف البلد بقت عاملة أزاى ..بس
إن شاء اللـه بعد ماأتخرج هى حترجع وحتبقى فى وسطتنا .أرتفع الجفنان الثقيالن عن عينيها
الواسعتين تبحثان عن عينيه ودون أن تدرى كانت نظرتها فاضحة لسريرتها وهى تضغط على الكلمات
فى تأفف :واللـه ده زمن العجايب ! .لمحت هدير فى وجهه ومضة ذعر شعر بها أيضا والدها الذى
أستعان بعبارات ملطفة :هانت يايوسف إن شاء اللـه لما تتخرج األمور كلها حتتغير وحتبقى أحسن
وأنا متأكد أنك حتبقى مهندس جامد أوى .
أنهى يوسف جلسته مكتفيا بتلك العبارة ومشى مع والدها حتى منتصف الريسبشن ثم تابع منفردا بعد
مصافحة وداع حارة قبل أن تتسلمه هدير عند باب الفيال بنظرة طويلة مصحوبة بكلمتين :بحبك
يايوسف .بادلها نفس التعبير من خالل عينيه العميقتين بينما أمها تراقب مغادرته من مكانها وتتابعه
خطوة بخطوة .
الشمس تزاوله من خالل زجاج السيارة فيغير وضعية وجهه تفاديا لتسلطها السافر بينما أنتاب هدير
ضيق أعلنت عنه بأنفعال :واللـه العظيم ده أطول وقت قضيته فى أشارة مرور من يوم ماأتعلمت
السواقة على أيد عم " سالمة " سواق العائلة .لم يتبق فيه إال صوت متذمر حين عقب يوسف بنفاذ
صبر :أنا قلتلك أمشى من شارع بورسعيد أسهل .تكورت خديها على أثر نفخة قوية :وأنا كنت أعرف
منين أن بتوع الميكروباص حيقطعوا طريق الكورنيش .أتخذ العقاب الجماعى ساعة كاملة أنهارت
خاللها حيويتها وتالشى نشاطها وبدت مستسلمة لقدرها كما تراجعت رأس يوسف الى مابين كتفيه
125
أنتظارا للفرج قبل أن يتم فك الحصار فجأة ودون ترتيب بعد ورود أخبارية عن توافر " البنزين " فى
ثالث محطات بنزين بشارع أبو قير .
أغلقت كاسيت السيارة وسارت ببطء بمحاذاة الرصيف تبحث عـن مكان لتركن فيه ،خرجــا من السيارة
مصابان بانحناءة فى الظهر و أجتازا مدخل العمارة بعدما رمى يوسف بنظـــرة مستفسرة لعم " جودة "
البواب :صباح الخير ياعم جودة ..المهندس ناجى وصل .
ــ ده جه من بــدرى وخـــرج من شوية مع الباشمهندسين سحب نفسا محبطا وأتجه لألسانسير وهى
تتبعه :عاجبك كــده آهو الراجل جه ومشى ..مين بقـى حيراجع معانا الرسومات .جذبتـه لجوارهــا :
ياسيدى كبر دماغك دخال األسانسير وقبل أن يصل بهما للطابق الثانى كانت هدير قد تلقت مجموعة
ال بأس بها من القبالت فى أنحاء متفرقة بالوجه والرقبة متحاشيا الشفتين المصبوغتين بالروج .
مكتب أنيق تطل جميع نوافذه على شارع أبى قير ،كان خاليا إال من المهندسة " إيمان " مديرة مكتب
المهندس ناجى .أتجها الى حجرة مكتب صغيرة ملحقة بالمكتب الكبير ،كانا وحيدان جلس كل منهما
على مكتبة أمام اآلخر ..أنشغال فى فحص بعض الرسومات بينما هى كل دقيقة تنهض من
كرسيهاتتواثب فــى خفة تجيد أصطناعها وهى تتحرك أمامه لعرض ماتوصلت اليه من رأى .
0000000000
فى تلك األثناء وبينما أصابعها تداعب فنجان القهوة خرج صوت أيات مستنكرا وهى تجلس فــى ركـن
الصالة تراقب نعمة التى جلست أمامها منكمشة منحنية الرأس وهى تعتصر عينيها داخل صينية بها أرز
تتحسس حباته فى عملية فرز شكلى :هـو أنا مش قلت لك مـية مـرة يانعمة الزم تلبسى بنطلــون تحت
الجالبية .بنبرة تسليم :أنا بأتخنــق لما بألبس بنطلــون بحس أن نفسى بيروح منى .توجهـــت اليها
بنظرة ملل قبل أن ترشف آخر رشفة :أنتى حرة عمر ركبك ماحتخف وأبقى دورى على اللى يجرى
معاكى عنـد الدكاترة .وضعت الفنجان بجانبها وأنكمشت مالمحها عندما أنساب صوت جرس التليفون
المتقطع فــى حياء ممزقا حالة الصمت فى الصالة الكبيرة .رنينه فى المنزل يكاد يكون نادرا ،شعرت
بصوته كأنـــه أجابة عن المجهول أفزعتها :سامعة يانعمة جرس التليفون األرضى ..ده أنا بقالى
شهور ماسمعتهوش بيرن .تتبعت صوت الجرس بخطوات متلهفة فى حين علقت نعمة :الموباين خلى
التليفونات دى مالهاش أى لزمة .بينما ترفع سماعة التليفون ،ردت بهمس حذر :أيوه ..مين حضرتك
126
؟ أتاها الصوت متجها إلى طبلة ودنها مباشرة :هنا منزل هدى عبد الفتاح أسماعيل ؟ أهتزت مالمحها
بشدة وأرتعشت شفتيها .لم تجيبه بل سألته بصوت ممتد :أنت مين ؟ كانت أجابته بصيغة بيان :
معاكى النقيب عادل عبد الرحمن من مصلحة السجون .راجعت أفكارها بسرعة وكأنها تسترد ذاكرتها :
أيوه هنا منزل هدى .رد بكلمات متالحقة لكن رنة الفرح فيها :نحب نبلغك أنه صدر قرار عفو من
األفراج .. وزارة الداخلية بحق السجينة هدى عبد الفتاح أسماعيل ويوم الخميس الجاى هو ميعاد
مبروك !! كادت السماعة تسقط من يدها .دهشت وتجمدت مكانها أمام هذه المكالمة الفاصلة المشحونة
بالمفاجأة المذهلة ،أنتابتها حالة طارئة مابين الحقيقة والسراب وهى تتجه متشنجة كاألنسان اآللى
صوب نعمة التى تنتظر وصولها بوجوم وترقب :أنتى سمعتى اللى أنا سمعته يانعمة .كمن يبعد عنه
تهمة :وأنا أعرف منين ياست أيات هو مش أنتى اللى رديتى .تستوضح مشاعر لم تعتادها منذ فترة
طويلة ،راحت تتحدث بصوت كمن خرج لتوه من غرزة بلدى بعدما تعاطى كوكتيال من شتى األنواع
واألصناف :الراجل قاللى فى التليفون أن هدى حيفرجوا عنها يوم الخميس .أستقبلت نعمة الخبر
بأنتفاضة تستخدمها دائما وتصيب من حولها بالفزع حين تسمع خبرا مفاجئا :هدى مين ..الست هدى
بتاعتنا ..سبحان اللــه ..ألف نهار مبروك ،شوفى السنين جرت أزاى بسرعة ..ياسالم ع الزمن دى
ياعينى سابت عيالها وهمه ..صرخت فيها أعتراضا :بس خالص أسكتى شوية سيبينى أركز عشان
أشوف حأعمل أيه ؟ .
الزال المكتب الهندسى فى تلك اللحظات يحتضن داخله يوسف وهدير وعصافير الرومانسية تحوم فوق
رأسيهما يتداوالن الهمس عن أحالم مستقبلية ورسم خطط البدايات ..غرقا فى وهم هدوء صنعاه .
رنين موبايله أستدعاه من رحلة األحالم إلى واقعه وقطع اللحظة كما قطع جملة هدير التى بدأتها :بابا
كل أمنيته وأمله فى الدنيا أنى أتجوز وأعيش معاه فى الفيال عشان ..رأى يوسف رقم عمته يظهر على
شاشة الموبايل حتى داهمه قلق وتوتر محدثا نفسه بعفوية :خير ياعمتى عايزة منى أيه ؟ رفعه ألذنه
ثم تلقى منها بدون مقدمات :أيوه يايوسف ..فى واحد ظابط أتصل على تليفون البيت وبيقول أن مامتك
حيطلعوها أفراج يوم الخميس .عقد الذهول لسانه ،لم ينبس بكلمة .سكت يتلقى الخبر حتى النهاية ،
أخترقت كلماتها مركز األتزان فى مخه فأدلى رأسه لألرض وهو يلف حول نفسه بينما هدير تدقق فى
وجهه كمن يقرأ الطالع فى حين تحرك للخلف خطوات وأعطى لها ظهره وأتجه ناحية الشباك كى يتمكن
من طرح أسئلته على عمته بعيدا من أذانها :أنتى متأكدة من اللى أنت بتقوليه ده ياعمتى ؟ تمكنت منه
نوازع الخوف واألرتباك حين عال صوتها وأنفجر خارج الموبايل :عمتك لسه عقلها فى دماغها
127
وماخرفتش .لم تستطع هدير كبح نظراتها المتلصصة لمعرفة مايدور غير أنها لمحته وهو يبتسم
وعيناه تلتمعان .أنهى المكالمة وأبعد الموبايل عن أذنه ببطء ثم شرد بنظره فى فراغ المكتب يراوده
سؤال ملح :هى ممكن عمتى تكون جت لها حالة وأتخيلت أن التليفون رن وأن حد بيكلمها .أقترب من
هدير التى جلست فى وضع المنتظر وهى تسند ذقنها على قبضة يدها ،وقف أمامها ليبدأ بأداء دورفى
مشهد مرتبك ،بدا مضطربا رغم محاولته رسم أبتسامة ،فأنكشفت حيرته وتردد من أين سيبدأ وهو
يحرص على اال يزيد من حالة األرتباك فى حين كانت هى توظف صمتها دون أن تدرى وهو يفتش عن
سبب يصلح تفسيرا لتلك المكالمة :دى عمتى اللى كانت بتكلمنى وقالتلى على مفاجأة كبيرة أوى .
ــ خير يايوسف .حملت كلماته عفوية حاول بها طرد أى حرج يمكن أن يتسلل اليها :بتقوللى أن ماما
أتصلت على تليفون البيت من شوية وبلغتها أنها حتوصل من األمارات يوم الخميس .قالها وصمت
وكأنه يعيد تقييم الموقف من بدايته ،فهو كثيرا ماحدثته نفسه فى مواقف عديدة أن يفضى لها بحقيقة
ما يخبأه اال انه خاف سوء العاقبة وكان دائما يغمره شعور جارف بالندم يظل يعذبه حتى أنفلت قيده
بالمزيد من األنغماس فيه واألستسالم له غير أنه كان فى سره يعزى نفسه بأنه مضطر للكذب ويمنى
نفسه بأنه سيتغير وسيتدبر أمره فى الوقت المناسب وسيعلنها عما يخفيه .
ظلت األستفسارات تعبث بألحاح فى رأس هدير :أخيرا يايوسف مامتك راجعة ..ياه ..ده أنا نفسى
دلوقتى أدخل جواك وأعرف أحساسك أيه ..أكيد النهاردة يوم مش عادى عندك .حاولت أن تفهم بينما
ق رأ يوسف أسئلتها ثم تداوال بعدها لدقائق حديثا باهتا تعمد فيه أن يكون حذرا ثم أستأذنها فليس لديه
من الوقت الكثير كى ال يطيل الحوار .قاطعها وقد بدا أقل قدرة على التماسك :مش حأقدر أقعد أكتر من
كده الزم أرجع البيت .سحبت حقيبتها من على مكتبها وتناولت موبايلها وأنتصبت أمامه :أنا حأجى
معاك أوصلك يايوسف .
000000000000000
كمسحراتى رمضان دارت أيات بالخبر من خالل أتصاالت سريعة ومقتضبة بدت فيها نبرة الذهول هى
الطاغية فى صوتها ،بينما تلقت نورا مكالمة عمتها كمن تلقى طعنة سكين أصابت شريان رئيسى فنزف
بغزارة حتى جف الجسد من الدماء ،بهتت وتسمرت أمام مانيكان خشبى تعالج على هيكله عباية
فى مرحلتها األخيرة من التشطيب ..عالمة أستفهام تكبر وتكبر حتى تتضخم وتسد عليها مسارب
128
التفكير ،تحاول أن تستوعب جملة عمتها التى طرحتها بطريقة صادمة :مامتك حتخرج من السجن يوم
الخميس .بدت كالمصعوقة ومنافذ الرؤية غمامة سوداء قاتمة تعصب عينيها .لم تشعر فى تلك اللحظة
بالواقفة فوق رأسها تمطرها بكلمات األستفهام :فى أيه يانورا مالك مسهمة كده ليه ولونك مخطوف .
مالحظـة ألقت بها زيزيت فى وجه نورا التى حاولت أحتواء ماتشتت داخلها ،اال انه كان فوق
أحتمالها :الحقيقة مش فاهمة ..عمتى بتقولى حاجات غريبة مش قادرة أستوعبها .سحبت من يدها
المقص بتمهل ،كانت تشهره كسالح هجومى فى وجه المانيكان :حاجات غريبة زى أيه يعنى .مرت
بكفها على جبهتها :بتقولى أن فى واحد أتصل وقالها أن ماما حتخرج أفراج يوم الخميس .تطوى
طرفى المقص بضغطة سببت صوت متوتر كأنه موسيقى تصويرية فى مشهد درامى :هدى حتخرج يوم
الخميس ..ياه على السنين .تداخلت مالمحها ونشطت دموعها كزخات مطر مفاجىء .أردفت :مبروك
يانورا ..مبروك ياحبيبتى .قامت األخيرة من جلستها كعجوز متهالكة وخلعت مريلة الشغل ذات اللون
السماوى :عن أذنك يامدام أنا حأطلع أشوف أيه الحكاية .أنسحبت متوترة من حجرة التفصيل فى حين
تولد شعور غريب لدى زيزيت رصدته فى مالمح نورا ..ال هو فرحة بسماع الخبر وال تشوق لرؤية
أمها وال أمل يداعب مالمحها وال قنوط يهوى بها وال حتى أحساس بالترقب .رددت دون وعى :أنا
مش فاهمة نورا حصلها أيــــه ؟ .
كانت نورا أول الواصلين الى الشقة لتجد نعمة وعمتها تجلسان فى مكانهما كحراس معبد بينما راقبت
أيات أرتباكها غير المبرر من لحظة دخولها وهى تستفسر بصيغة أتهام :أنا مش حأسألك تانى ياعمتى
بس أنا عايزة أفهم اللى كلمك فى التليفون قالك سبب األفراج أيه ؟ قبل أن يبلغ السؤال مداه :مالحقتش
أعرف منه حاجة هو قالى كلمتين ورد غطاهم .وكأنها تنتظر نزول الوحى أو خروج األلهام ..راحت
تقطع الصالة ذهابا وأيابا عدة مرات وتتوالى عنها األسئلة مقابل أجابات مقتضبة من جانب عمتها بدعم
من نعمة كشاهد ما شافش حاجة قبل أن تلقى بنفسها على فوتيه الصالة ..أغمضت عينيها لدقيقة ثم
فتحتهما وقد تفككت مشاعرها المركبة لتلد أحاسيس مختلفة ظهر فيها الذهول والقلق والخوف والفرح
لدرجة أنها لم تخرج مندفعة بكل أحاسيسها فى لحظة فرح عارم أو غضب فادح أو حزن داهم ،بينما
أيات تتأملها وتنتظر منها ماستقرره من خطوات قادمة ،فهى تعلم أنها توازى الجميع ،كلهم فى كفة
ونورا فى كفة راجحة .
129
طرقات منغمة على باب الشقة بأيقاع " وحياة قبلى وأفراحه " مصدرها أصابع بسمة التى أستقبلتها
أختها كلوح تلج متصلب بينما بسمة يشع غليان الفرح فى وجهها التى بادرت أختها بحركة خاطفة
ودارت بها كراقصة باليه ثم هرولت وهى ثائرة الشعر فى أيقاع رشيق على أطراف أصابعها متجهة إلى
عمتها قبل أن تطيح بمذكرة محاسبة على كرسى فى أول الصالة ..فتحت ذراعيها كجناحين :تعالى فى
حضنى ياعمتى ياحببتى يابتاعة األخبار الحلوة .أنحنت فوقها تلف رقبتها ورأسها فى عناق خانق حتى
خرج تيشرتها الـ " الروز" عن حياءه منفلتا خارج حرم البنطلون الجينز فبدت فى هيئة فتاة خارجة من
حفلة تحرش بأحد شوارع األسكندرية بينما نجحت عمتها فى تخليص رقبتها ورأسها من حماسة يديها
لحظة دخول يوسف من باب الشقة بوجه طافح بالذهول ..أقتحم الصالة وألقى بسالمه ثم أتجه ناحية
عمته قبل أن يزيح بسمة من أمامها مرتمياإلى جوارها على الكنبة محشورا بينها وبين نعمة
التى سقطت رأسها على أثر غفلة نوم سريعة .أتجه بكالمه مستفسرا من صاحبة الحق الحصرى عن
الخبر :فهمينى براحة كده ياعمتى الحكاية أيه من األول ؟ تحركت اليه نورا بخطوات عصبية ولم تمهله
سماع أجابات مكررة ،بدت فى حالة عدائية وكأنها ترفض تصديق الخبر فصاغت فى رأسها قرارا
أفرجت عنه بنرفذة :مش حنفضل نعيد ونزيد فى اللى عمتك قالته ..أنت دلوقتى تاخد بعضك و تروح
لمديرية األمن وتتأكد بنفسك من الخبر ده .قطب حاجبيه فى بالهة :أروح أقولهم أيه ؟
ــ ياأخى فى أستعالمات هناك أسأل وأستفسر عن المكالمة دى .كمن يرفع ثقال ضعف حجمه :حاضر
يانورا مع أنى متأكد أن الخبر ده صحيح .
ــ واللـه وأنا كمان يايوسف أحساسى بيقولى أن ماما حتكون معانا يوم الخميس .قالتها بسمة بفرحة
طفولية بينما الزالت نورا تحاول سد ثغرة من الفرح يزداد أتساعها كل لحظة على مالمح يوسف وبسمة
:أصبروا شوية لغاية مانتأكد من الموضوع كله .بدت كلماتها كردة فعل أخيرة فى حين أدار يوسف
ظهره دون أن يلتفت اليهم وهو يمضى إلى الباب بينما شيعته نورا بنظرتها :خلى بالك على نفسك
يايوسف .قالتها وأنكمشت على نفسها داخل كرسى منزوى فى ركن الصالة والصداع يضغط على
رأسها فأزاحت خصالت شعرها من فوق حاجبها وضغطت بأصبعيها على جبهتها .ألتفتت أختهاإليها
ملوحة لها بيدها تختبر درجة تركيزها :أيه ياجميل أنت مش معانا وال أيه .جاهدت ألخفاء قلق غير
مفهوم وأبتسمت أبتسامة ضبابية :بأفكر أيه اللى ممكن نعمله .دون مقدمات عادت نعمة فجأة للحياة
من غيبوبة نوم عارضة :هو أحنا لسه حنفكر نعمل أيه ده يادوب نلحق نوضب البيت ونحضر كام أكلة
130
من اللى أمك كانت بتحبهم ..ده غير أوضتها اللى عايزة تتهوى وتتنفض عشان لما تيجى بالسالمة يوم
الجمعة تالقى كل حاجة تمام .صححت لها بسمة المعلومة :الخميس يانعمة .
ــ كمان !! بدت أيات كمن لم تقع عيناها على مشهد من قبل يسابق فيه الكل الزمن للوصول إلى غايات
مثباينة ..كل غاية منهم تقع فى خانة الحاالت الطارئة .
0000000000
الفصل الرابـع
أسند عبده رأسه على صدره كأنه فى جلسة عزاء محاصرا بين الحاج تاج وسعيد تشكك بينما هسيس
تالوة قرآن بأداء متسارع مصدرها قناة " أقرأ" يتلوها شيخ سعودى بنبرة أضفت جو من الحزن على
المقهى والموجودين ..حالة من األسى تجتاحه منذ أن هجم عليه خبر األفراج عن فايزة ،دوما شاردا
ويثأثىء وله نظرات موروبة تشى بالحذر والترقب ..غرز ابهاميه فى صدغه وهو يمسح المقهى بنظرة
الملكية لكل مافيها وقد أوشكت على العودة الى صاحبتها ..غابت أصوات الجالسين عن أذانه ،لم يعد
يسمع شيئا ..زاغ بصره فى الدخان والبخار المتصاعدين ..مد ساقيه أمامه بعد أن أفرج عنهما
" جنش الجزمجى " قبل أن يعتقل مركبتين خاصة " سعيد تشكك " بينما رشف عبده رشفة طويلة من
كوب الشاى ويدس بوزالشيشة التى ترقد بجوار قدميه فى فتحة فمه ..كركر فى رتابة ثم يخرج الدخان
بتكاسل من فتحتى أنفه كعاصفة خماسينية أخفت وجهه ،بينما الحاج تاج يرصد حالته المزاجية فتطوع
مهدئا ماسحا على ركبته :وحد اللـه ياعبده وأهدى كده وصلى ع النبى .أشاح بنظره يستدعى
ثباتا :ال اله اال اللـه ياحاج .قالها ومال بجسده لألمام ورشحت الكلمات منه كندابة فى مأتم :ياخسارة
يابلد ..ثم خبط على فخذيه :ياخسارة ياحكومة ياداخلية ..خالص يارجاله ماعدش فى عدل فى البلد
دى .طالته نظرات الترقب .موضحا :عدل أيه ده اللى يخلى واحدة تطير عين موظف حكومة وتخليه
أعور بقية عمره وأخرتها يكافؤها و يطلعوها عفو ..يرضى مين الكالم ده ،يرضيك أنت ياحاج تاج
ياللى زرت بيت ربنا وال أنت ياسى سعيد يابتاع المظاهرات والثورة ..ماحد يفهمنى ويقولى ؟! ال ردود
وال تعليقات سوى أجابة بال منطق تسللت إليه أتية من األسفل :يعنى هو كان فيه حد فاهم حاجة فى
البلد دى لما أنت عايز تفهم يامعلم عبده .قال جنش بينما أدلى عبده برأسه :أنا عارف نفسى كويس
131
طول عمرى فقرى وقليل البخت .صارع الحاج تاج ضحكة كادت أن تغلبه إال أنها بدت فى عينيه :أنا
مش عارف أنت مكبر األمور ليه هيه فايزة دى مش مراتك برضه وأم أبنك وصاحبة النعمة اللى أنت
فيها دى ..أهدى باللـه وكفاية عليك لحد كده ياعبده أديك عشتلك كام سنة فى الهلس والمزاج وهى فى
السجن ..خالص بقى ولم الدور وأبدأ معاها صح عشان هيه كمان تبدأ معاك صح وماتنساش أن
السجن أصالح وتأديب ياعبده ..تجول األخير بنظره فى وجوه الزباين يبحث عن إجابة مناسبة تصلح
للرد قبل أن يلتقط واحدة زادته أحباطا :الطبع غالب وعمره ماحيتغير أبدا تقولى بقى السجن أدب
السجن أخالق الكالم ده ماياكلش معايا ..طب تصدق وتؤمن باللـه ياراجل ياطيب ده أنا لما بأروح
أزورها وعزة جالل اللـه بأحس أنها صاحبة السجن والضباط والعساكر معزومين عندها .خفت صوته
وضعف كمن يوشك على البكاء :دى جبارة وقادره ياموالنا .قالها وبدا خائفا ،فمنذ لحظة تأكده من
الخبر وعصف بفكره الوسواس الخناس الذى يوسوس فى صدور الناس ..الكوابيس واألحالم الغامضة
تالحقه فى نومه ثم هاربة تداهمه فى يقظته كأنها كائنات تتشكل أمام عينيه كاألشباح فى مدينة مهجورة
،يظهر له دائما وجه فايزة بمالمح مصاصى الدماء أو فى صورة ريا وسكينة حين تعتليه فى نومه
تخنقه بينما أنفاسه تتقطع وتجحظ عيناه وينساب العرق من جبهته بغزارة مرتعدا مفزوعا منفلتا من
بين يديها إال أنها ما تلبث تباغته فى مشهد أخر أشد أثارة وعدوانية حين تتقدم نحوه تدق األرض
بقدميها محدثة صوت يصم أذنيه وهو ممددا على سريره تقترب نحوه شاهرة مقص ضخم كالذى
يستخدم فى تقليم األشجار،فتصفعه على فخذه صارخة :أفتح رجليك ياسيد الرجالة يادكر ! يفتح حين
تفتح طرفي المقص عن أخرهما وتمر به بين فخذيه حتى بلغت قضيبه الذى بدى ذليال مرتعشا بين فكى
المقص بينما عبده لم يحتج مكتفيا باشارات من كفيه كأنه يدفعها عنه على طريقة " البانتوميم " ..
ضغطة واحدة منها وبعدها للـه األمر من قبل ومن بعد ثم صرخة مدوية صدرت عنه مؤكدا نجاح
عملية " الطهور " ليدفن بعدهـا عبده وجهه فى كفيه :حرام عليكى يافايزة ..خالص مابقاش لى لزمة
..أنتصبت واقفة بنظرات شامخة تعاين المكلوم قبل أن ترمى إلى جوار قدميها رجولته المبتورة وهى
تنادى فيه ضاحكة :قومى ياختى حمداللـه ع السالمة .عاد من سرحته المؤلمة على وقع استفسار
تشكك :هيه مراتك حتطلع يوم الخميس الساعة كام ! .تفاصيل مستفزة تزيد حنقه :حتطلع فى ساعة
سودة ياأخى ..أنت مالك ياجدع أنت ! .أجابة محتجة أعادته للوراء ملتصقا بظهر كرسيه فى حين تدخل
الحاج تاج :العصبية بتاعتك دى مش حتنفع ياعبده .
132
ــ يعنى أنت عاجبك أسئلته الخايبة دى ..أكيد سهرة أمبارح اللى قضاها فى قسم الرمل مخلية
دماغه منملة.
وصل " منصور " المقهى بمالمح متفائلة ولمح أبوه محاطا بصحبته قبل أن يلتقطه الحاج تاج الذى
أشار لتشكك :قوم معايا ياسعيد نلعب عشرتين طاولة ونسيب عبده مع أبنه شوية يدبروا أمورهم .قام
تاج وتبعه تشكك تشيعه بصقة غليظة من فم عبده الذى لم يعرف هل هى تحية وداع أم خالصة مرارة
يمضغ ها من لحظة سماع خبر األفراج .سحب منصور كرسيا وقبل أن يجلس الى جوار أبوه تلفت
يستكشف األجواء :أيه يابا جو الحداد ده .تنهيدة مستسلمة :حنعمل أيه بقى أدى حال الدنيا .
ــ مالها الدنيا ماهى ماشية حلوة معانا وزى الفل .
ــ حلوة وزى الفل ..أبقى قابلنى وتف على خلقتى لو شفت بعد كده فل وال غيره .هرش رأسه :دى
برضه أمى يابا مش عزرائيل وال أنت فاكر يعنى أنها حتخرج من السجن حتاخد رقبتك .
ــ وله ياجمعه هات واحد بن تقيل .قالها عبده وأعتدل على كرسيه فى مواجهة أبنه :الدنيا يابنى كانت
ماشية معايا ومعاك بالرضا واألنسانية وعلى يدك أنا مدور القهوة ومظبطها ع الشعرة وبرضه مسلك
133
أمورى وشايف مزاجى برضه وكله باألصول وكمان أنا ماقصرتش معاك يامنصور ومصروفك بتاخده
بالزيادة وفوقيه بوسة وال بأدقق معاك وال بقولك رحت فين وال جيت منين ولما فاتحتنى فى موضوع
نوسه بنت بدرية مافتحتش بؤى بكلمة وكل اللى طلع من ذمتى أنى نصحتك وقلتلك واحدة واحدة
وبالهداوة يامنصور عشان أمك ماتجيبش عاليها واطيها ..مش ده اللى حصل منى .
ــ مكبر دماغى معاك عشان عارفك راجل وفاهم بتعمل أيه .ثم أرتد للوراء وعالمات األسف تسكن
مالمحه .تابع :لكن دلوقتى بقى ياروح أمك أنسى الكالم ده كله ،أمك حتطلع من السجن زى الكلب
المسعور حتنهشك بسنانها لوخرجت عن طوعها وأنسى بقى حكاية نوسة وشغل روميو اللى أنت
عايشه ده وسلم لها نفسك والجزمة فى حنكك عشان هيه بالصلى ع النبى اللى حتفكرلك وحتنقيلك
وتجوزك والمطلوب منك بس أنك تخضع وتبقى زى الشبشب اللى فى رجل جنش ..خد منى وأسمع
كالم مجرب .
شعر منصور بروحه تنسحب إلى قدميه :يعنى أيه الكالم ده يابا ؟ .
ــ يعنى زى ماسمعت وأنت فاهم وأنا فاهم وماتعمليش فيها مصدوم ،أنصت إليه كمن يعانى خلال فى
األعصاب حين ألمت به رعشة ..تخيل كل كلمة تخرج على لسان أبوه بأنها عين الحقيقة وما ستؤول
إليه األمور .لم يستطع أن يحول نظره عن والده الذى يداعب شاربه وال أن يقف األنفعال الذى أستبد به
فمط شفتيه وأتسع منخاره قبل أن ينفجر صوته مضطربا :أنت قلقتنى أوى يابا ،الذى سارعه بأجابة
شافية :بص أدامك ياحمار وأنت تشوف القلق بعينك .تتبعت عيناه نظرات والده المتجهة لمدخل
المقهى وهو يراقب تاكسى فايزة " الالدا " الذى يتهادى إمام المدخل تحت قيادة " جمال النونو " الذى
أخرج رأسه من شباك السيارة يلقى نظرة فاحصة متشفية مشيرا بيده :منور يامعلم عبده ..شايف
الفرحة حتنط من عينيك ..معلش أستحمل شوية كلها يومين والمعلمة تطلعلك !قذف بجملته كالجمرات
وكأنه يرجم شيطان رجيم ثم أندفع مخلفا شروخا فى رأس عبده وشفة مرتعشة ونبرة متذمرة :رابع
مرة النهاردة يعدى على أبن المفضوحة ويقولى البؤين دول .بدا منصور وقد أخرسته مشاعر لم يفطن
لنوعيتها ..هل هو توتر مشوب بالخوف أو القلق من عاصفة ال أمل فى تحاشيها .
134
مرت نصف ساعة كاملة أفرغ فيها عبده مأساته ومخاوفه أمام حيرة أبنه الذى بدا مشوشا .أنهى عبده
كالمه ثم قام من كرسيه مهموما رافعا عينيه فى مذلة مستجديا :أسترها معانا ياللى بتستر الغالبة .
جملة لم تعد تفارقه كمجذوب أمام جامع ،قالها وأتخذ طريقه للخارج بينما لحقه صوت الحاج تاج :
على فين ياعبده .يمسح صدره بيده :مخنوق شوية حأشوفلى أى داهية تلمنى .خبط جنش كف على
كف :الراجل حيجنن ياولداه .
ــ بصراحة الراجل معذور ..الوليه مراته دى الشر نفسه يهرب منها .عبارة اضافها تشكك وهو يتابع
عبده الذى يمر بين الزبائن ..يجر قدميه وسط تلميحات مكشوفة وعبارات ساخرة ترددها ألسنتهم ،ما
من تحية تلقى عليه إال وتتبعها عبارة " شد حيلك " منغمة بنبرة شماتة وتشفى بينما قام منصور
واضعا يديه فى جيب بنطلونه يحاول أستيعاب صدمة الحدث الذى لم يعطه قدره المطلوب .
0000000000000
أنتفاضة حياة تدك قالع الرتابة والكآبة داخل العنبر ..حركة دؤوبة ونشطة ،األستعدادات على قدم
وساق وحالة من الفرح العارم واألستنفار تسيطر على المالمح والكلمات ..بدا العنبر فى تلك األثناء
مقسوما لنصفين كما هو الحال فى مصر كلها ..مجموعة تهلل وتغنى وأخرى تراقب وتتحسر كعوانس
تخطاهم قطار الرجال فى حين تشابكت أيادى من شملهن العفو فى دائرة بوسط العنبر يحجلن على
أقدامهن وهم يرجعن للوراء فتتسع الدائرة ثم أرتدادة لألمام فتضيق بهن وكأنها رقصة أفريقية لطرد
األرواح بينما تحولت فايزة على غير المعتاد إلى كائن وديع مسالم تتحرك بطول العنبر وعرضه الذى
أزداد أتساعا وبراحا أمام مشيتها المنفوخة بصدر متقدما أياها بينما التضاريس الوعرة والهضاب خلفها
تهتز فى رشاقة نادرة حين أقتربت من دائرة الفرح مخترقة أحكامها واأليقاع يسرى من يديها على طبق
صاج تنقر عليه بحماسة مستدعية نغمة األنشودة الخالدة " آه ياواد ياولعة خدها ونزل الترعة "
والحناجر حولها تردد بال هوادة كلمات األغنية مع طلقات زغاريد مدوية كالصراخ فى حين ظلت هدى
خارج الدائرة تراقب المشهد لعلها تتخلص من حالة األرباك التى الزمتها من لحظة سماعها خبر األفراج
التى تلقته مثل عطشان يطارد الماء ،تستشعر داخلها بفيضان من الفرح يندفع ويفيض ،فأستسلمت
على نحو مفاجىء لتلك الرغبة الحثيثة فى عدم مقاومة الفرحة أو مجرد التفكير فيما ستحمله لها األيام
وأستكانت لألحساس المباغت بالرضا والخالص من كل شيىء ..من القضبان والحراس والمراقبة
والحشرات .
135
وكما هو متعارف عليه داخل السجون تبادر السجينات المفرج عنهن بتقديم العطايا والهبات ،فكانت
هدى هى النموذج والمثل حين فتحت ضلفة الدوالب الحديدى العتيق ومالت داخله ناحية رف خاص بها
وسحبت منه بطانية صوف كانت هدية من أوالدها منذ ثالث سنوات بمناسبة عيد األم وأحتوتها بين
ذراعيها قبل أن تسحب كل غياراتها الداخلية وعدد أتنين شبشب وثالث فوط ثم سارت بهم بطول العنبر
بحذا السراير وهى تفرغ حمولتها على زميالتها :خدى يافتحية سونتيانه وكيلوت وأنتى يانعمة شرحه
.ثم ناولت بأبتسامة :وأنتى ياتوحة الفرشة والمشط ودبابيس الشعر وصبع الروج بتاعك .قالت
جملتها ثم طوحت يدها برمية قوية موفقة بأتجاه " أم السيد وبحرية " :وأنتو خدوا البطانية دى تدفيكم
لغاية ما حد من الداخلية يفتكركم .تبعتها فايزة على نفس الدرب وتقدمت فى شهامة الى وسط العنبر
تنادى فيهم حتى أنتبهوا ثم أصدرت قراراتها تباعا وكأنها تتلو وصية :براد الشاى واألتنين مج من
نصيب عواطف واألطباق والمعالق والفوط للحاجة زينب وبكره قبل مانتكل على اللـه من هنا بقية
السجاير اللى فى الخرطوشة خدوها ووزعوها على بعض .إنتهت وصيتها قبل أن تسحبها هدى من
يدها فى الحاح :كفاية بقى تنطيط وتعالى نقعد شوية .خطوتان وسلتت فايزة يدها من يد هدى وألتفتت
ناحية توحة مساج ..أشارت لها بيدها ملوحة ثم مرت إليها حيث تقف أمام سريرها حتى ضاقت
المسافة بينهما الى نصف متر ثم نظرت فى عينيها وأبتسمت :مش عايزة أمشى من هنا وأنتى زعالنة
منى ياتوحة .قابلتها بأبتسامة بريئة وأرتمت على صدرها :واللـه أنا فرحنالك أوى يافايزة .
ــ عقبالك ياتوحة .تنهدت :عقبالى فين بقى شكلى كده حأكمل مدتى وأمرى للــه .وضعت يدها برفق
على كتفها :اللى فاضلك مش كتير ياتوحة بس المهم لما تطلعى أبقى غيرى الشغالنة .شبكت يديها
على خصرها :مش بأيدى يافايزة ياختى .ثم ذيلت جملتها بصهللة أرتدت على أثرها فايزة خطوة
للوراء :روحى ياوسخة ربنا يبتليكى بمسمار حدادى يتحشر فيه وال ينفع معاه دخول وال طلوع.
ــ مش حيلحق ينحشر ياحبيبتى ..الشواكيش اللى بتدق كتير .قالتها ضاحكة وأتجهت صاعدة إلى
سريرها .بينما أسرعت هدى ناحية فايزة تشدها :يعنى أنتى الزم تطولى معاها فى الكالم .
أتجهتا سويا ناحية ركن مجاور لسرير فايزة وجلستا على األرض تستندان الى الحائط فى صمت بينما
تحولت هدى بعينيها بين الوجوه الفرحة واألخرى الحزينة حتى توقفت عند " الحاجة زينب " التى
أنكمشت قرفصاء فى سريرها وكعادتها ال تفارق عينيها صفحات المصحف المفتوح تتلو فيه بنبرة
136
خشوع وندم ،فهى تعتبر من السجينات القدامى التى تم أرسالها للسجن على يد قاضى جنايات طنطا
بحكم مؤبد فى قضية جلب مخدرات من لبنان وأشتهرت فى السجن بـ " هند رستم " عنبر ج فكانت
تملك فتنة التقاطيع والتفاصيل التى أصبحت ذكرى بعد ما نجحت سنوات السجن فى محو المالمح
والمفاتن وغابت العيون المثيرة خلف نظارة سمك زجاجها أربعة مللى بالكاد تعثر بها على كلمات
القرآن فى مصحفها قرينها الدائم فى ساعات الليل والنهار فحصلت بجداره على لقب " الحاجة زينب "
عادت هدى من رحلة معاينة الوجوه بشعور حزين :الحاجة زينب صعبانة على أوى يافايزة ..ناس
تيجى وتروح وهى ياعينى قاعدة فى ملكوت تانى .وضعت يدها على ركبة هدى :الحاجة زينب دى
خالص سلمت أمرها للـه وماعدش يفرق معاها أى حاجة ..خلينا والنبى فى نفسينا أحنا اللى ورانا كتير
ياهدى .
ــ عندك حق .بينما تسلل الخوف الى مالمحها وقد أنتابتها حالة من السلمية وهى تتابع بنظراتها
جدران العنبر وشروخه وكأنها تقرأ عليها شريط حياتها .أردفت :أول يوم جيت هنا فيه كنت متأكدة
أنى مش حأستحمل حبسة وبكتيره شهر وال أتنين وحأموت .بنبرة ساخرة أكملت :أتحملت وأتحملت
وشهر ورا شهر وسنة ورا سنة لغاية مابقوا تسع سنين وتالت شهور وال مت وال جرا لى حاجة وأدينى
كمان خارجة بكره ..سبحان اللـه .عاجلتها فايزة بتحذير واجب :ونبى ماتفكرينا باللى فات وخلينا فى
اللى جاى .
ــ ياخوفى من اللى جاى ..حاسة بحاجة كده جواية مش قادرة أفهمها وحاسة أنى قلب مقبوض
وخايفة .أشعلت فايزة سيجارة وأغمضت عينيها ثم فتحتهما قبل أن تنفخ دخانها :ومين سمعك ..أنا
كمان دماغى عمالة تجيب وتودى ..الكام سنة اللى أتنيلت فيهم هنا مخليانى كأنى مش أنا حاسة أنى
بقيت واحدة تانية .مسحت هدى رأسها بيديها ورجعت بظهرها للحائط :خايفة أوى من الناس يافايزة
..السجن والزنزانة كانوا منسينى حاجات كتيرة أوى ..والدى دلوقتى كبروا ..نورا وبسمة بقوا
عرا يس ويوسف ربنا يحميه خالص حيبقى مهندس أد الدنيا ..لم تخف قلقا بدأ ينتشر كالسرطان فى
مالمحها .أستأنفت :مش عارفة وجودى معاهم حيسببلهم أيه فى حياتهم .
ــ من الناحية دى أطمنى ع اآلخر وال حيحصل حاجة وحياتهم حتبقى زى العسل ..أنتى ياحببتى
ماتشغليش بالك بالوساوس اللى فى دماغك دى ..أنتى مادخلتيش السجن عشان حاجة بطالة ال سمح
اللـه أنتى جيتى هنا عشان حق عيالك .أضافت قبل أن تتحول نبرتها إلى ثقة :الناس دلوقتى وبعد
137
الثورة بقوا حاجة تانية أتغيروا وماعدش فيه حد بيدقق وال حد بيسأل الكل هايص وملهى فى حاله
وماتنسيش أنك طالعة من هنا برخصة ! .
ــ أيوه ياهدى برخصة حسن سير وسلوك الدور والباقى على اللـى طلعوا من السجن هربانين وبقوا
دلوقتى بيحكمواالبلد ! تحولت إليها بنظرة ركنية مشمولة بأبتسامة :يعنى أنت شايفة كده ! بسطت
فايزة كفيها على األرض ورفعت مؤخرتها تستعد للوقوف :قومى بينا عشان ننام خلى خلقتنا وأحنا
ماشيين من هنا بكرة تبقى صابحة ورايقة .أتجهتاإلى سريرهما ،فردت هدى جسمها ووضعت مرفقها
على جبهتها وعينيها شاخصة إلى السقف وكأنها تناجيه .لم تكن تنام فى اليومين األخيرين ،وقعت
فريسة ألوهام وهواجس تهدد راحتها النفسية بدت قلقة متوترة ..كان خوفها من مواجهة الحياة هو
صراعها األول ..دائما تمنى نفسهابأنها أصبحت أكثر نضجا فكانت تتعجل الفرار من سنوات سجنها
التى تحمل جروحا فاض صديدها قبل أن يداهمها فى نفس اللحظة أحساسا متصاعدا يغطى المسافة
المتبقية لنيل حريتها فبدت أمامها بال أفق وال نهاية والوقت صار بطيئاوثقيال .أغمضت عينيها قبل أن
تسحب مرفقها من على جبينها ليستسلم إلى جوارها بينما الليل راح يوغل فى رحلته الكئيبة فى حين
استلقت فايزة على سريرها .بدأت فى شحن بطاريتها من جديد كى تستعيد حالتها القديمة فراحت ترتب
أفكارها وخططها ،تهدم وتبنى ،فرأسها ال يحوى سوى صور وخواطر مشتتة ضيقة األفاق ضيق
حوارى كرموز ..تجولت بخيالها فى أزقة حارتها تستعرض وجوه المعارف والجيران ثم سرعان ما
سلمت نفسها لغيبوبة النوم .
00000000000000000
الخميس 12ظهرا
كان السجن مختلفا وبدا فيما يشبه أن يكون ضاحية منفصلة فى أطراف مدينة ،كانت كوكبة من جنود
األمن المركزى ببدالتهم العسكرية المائلة نحو السواد القاتم بأزرارها النحاسية الالمعة وخوذاتهم
المكورة ومعاطفهم الغليظة المربوطة بأحزمة جلدية سميكة وأحذيتهم الثقيلة شديدة السواد ،يقفون فى
أنتباه يتقدمهم واقفا ضابط ذو وجه معبر وهيئة صارمة ،وقف مباعدا قدميه ويديه وراء ظهره بينما
عدد من رجال األمن بزى مدنى يطوفون باحة األنتظار من أولها الى أخرها وكل شبر فيها مرصود ،فال
138
يفلت من مشهده التفصيلى شيىء ،الكل مشدود وفى كامل توتره ،بينما غصت باحة سجن النساء
بالمنتظرين ،خليط من البشر ومزيج من السحنات ..أكتظاظ وحركة دائمة ..سيارات صغيرة وكبيرة
تنتظر المفرج عنهم ،بالرغم من المشهد المزدحم العشوائى إال أن كل شيىء يبدو محسوبا ومظبوطا
وال يخرج عن سياقه ،فالخروج خطيئة تجد على الفور من يتدخل بفظاظة لقمعها .
وصلت " أيات" بسيارتها الى باحة السجن تحمل فى جوفها يوسف فى المقعد األمامى ونورا وبسمة فى
المقعد الخلفى ،هبطوا جميعا من السيارة وساروا فرادى بخطوات مرتبكة وعيونهم شاخصة نحو بوابة
السجن ،يرصدون كل من يمر خاللها وتعكس وجوههم قلقا ولهفة .أتخذوا مكانهم محشورين وسط
الناس ثابتين فى مواقعهم وكأنها معركة وجود ..ساعة من األنتظار تحت لهيب الشمس كانت كافية
لسلخ وجوههم بينما أحكمت أيات أيشاربها لتغطى صدغيها لعله يكون ساترا لبشرة أكلتها الشمس .
أنفتحت البوابة وخرجن السجينات تباعا فى طابور فأصبحن فى متناول البصر ،فماتنفك تظهر وجوه
شهباء كأنها وجوه شاحبة بينما األهالى متأهبين وفى أقصى درجات الترقب ،فجأة ودون مقدمات
أطلقت سيدة خمسينية العمر صاحبة وجه ملسوع من الشمس زغرودة البداية ،فكان لها صدى وسحر
فى آذان المنتظرين فتبعتها أخريات حتى أجتازت أول سجينة فى الطابور بوابة األنتظار فبدأ األرتباك
والعناق وتحول المشهد كله الى حالة درامية دامعة ..ظهرت هدى تطل برأسها من البوابة وقد أختفت
جهامة السنين الماضية وبش وجهها تالزمها فايزة ملتصقة بكتفها بعد أن أنجزتا أتفاقا يشتمل على أدق
التفاصيل كى تلتقيا فى توقيت ال يدركه خلل مهما تغيرت الظروف .
غشت عينى هدى أشعة الشمس المنعكسة من المقدمات المعدنية للسيارات القابعة فى أماكن األنتظار ،
بسطت ظل كفها وقاء لعينيها من الشمس وهى تستطلع وجوه المنتظرين حتى ألتقطت رأس أبنها من
بين الرؤوس المرفوعة فأنتفضت ووضعت كفيها فى قوسين حول فمها لتحتضن صوتها وتدفعه طوليا
ليبلغ آذانه :يوسف ..يوسف .ظلل عينيه بكفيه وأرسل بصره ليجوب المكان باحثا عن صوتها ..
لمحها ..فتفجرت حماسته وأنسلخ من بين األجساد ووسع أبتسامته حتى شملت عينيه ..لهفته سبقت
صوته .هتف :ماما ..ماما هناك أهيه .شبت بسمة على أطراف أصابعها وأخرجت رأسها المحشورة
من بين أكتاف المتزاحمين بينما أيات تعقبت بنظراتها أشارة أصبع يوسف لعلها تصل للهدف ،لكن
نورا الذى طال الترقب وجهها لزمت الصمت ولم يمنحها ظل أبتسامة فى حين أندفع أخوها ومن خلفه
139
أخته ثم أيات ونورا بخطا أقل حتى نالت عينى هدى وجوههم قبل أن تهرول إليهما تحمل نظرة تشتمل
على أبتسامة عريضة .
وصل الجميع عند نقطة التالقى ..فتحت هدى ذراعيها آلخر مدى تتلقف فى محيطهما بسمة ويوسف ،
قبالت عشوائية توزعها وتطبعها على وجهيهما فأختلطت الدموع وأرتبكت النبرات وهى تلفهما بنظرة
دامعة :وحشتونى ياحبايبى وحشتونى أوى .مط يوسف شفتيه وعنقه ناحية جبينها مقبال :حمد اللـه
على السالمة ياماما .صعدت بذراعها إلى كتفه وراحة يدها تنفرد بكل اتساعها وتضمه اليها ثم قبلت
جانب جبهته بينما بسمة تعلقت برقبتها وأفرغت فرحتها العنيفة دفعة واحدة بكلمات كانت كالهذيان :أنا
فرحانة ..فرحانة فرحانة واللـه العظيم أنا مامصدقه نفسى أنا كأنى بأحلم ..الزالت نورا منكمشة خلف
ظهرى يوسف وبسمة ونظرت ألمها نظرة خجل فبادرت إليها هدى وأتجهت ناحيتها تسحبها لصدرها
وأحتوتها فى ضمة طويلة أستسلمت فيها نورا ولم تتماسك فغلبتها الدموع وقهرتها دون توقف وجعلتها
تغمض عينيها وهى تسمع نشيج أمها على كتفها يتقطع معاتبة :كده برضه يانورا أربع شهور
ما أشوفكيش .بال جدوى حاولت أن ترد إال أنها فضلت أن تدفن رأسها فى صدر أمها وتفرج عن
مشاعر حبستها شهورا :أعذرينى ياماما وسامحينى واللـه ظروفى كانت صعبة .أنهت أيات مشهد
الدموع وفضت العناق المحتدم بينهما وقد أستنفرت بقايا أحاسيس كانت خاملة والتى نشطت فجأة بحكم
الضرورة فرفعت ذراعيها تتجه بهما لهدى التى أستلمتها :حمد اللـه على السالمة ياهدى .
ــ اللـه يسلمك ياأيات .بينما تعانى أيات من ضعف المخزون من كلمات المجاملة فبدت مرتجلة :شكلك
زى ما هو ياهدى ما أتغيرتيش .دققت فيها :أنتى كمان ما تغيرتيش ياأيات وكأنى سايباكى أمبارح .
تقبلت كلماتها بضحكة أعادت لوجهها نضارة قد فقدتها منذ تسع سنوات ثم بادرت بسحبها من يدها :
كفاية كده ويالال بينا نمشى من هنا .تحرك الجميع ودب فيهم نشاط عفوى بأتجاه السيارة يتقدمهم
يوسف كى يفسح لهم ممرا بين األجساد .
وبينما يمر موكب هدى فى حراسة أوالدها كان هناك موكب أخر على مقربة منهم بقيادة "عبده الجن "
وقد تهيأ ألستقبال حرمه وقد تلفف بالبياض كما لو أنه مكفن بالجلباب والطاقية الشبيكة وعلى يساره
وقف منصور وجمال النونو فى حالة ترقب التى زالتا عنهما حين فغر عبده فمه الواسع وأنطلق فى
ضحكــــة صفراء عندما وقعت عيناه على فايزة قبل أن يسبقه أبنه مندفعا بحماسة الشباب صوب أمه ،
فأرتمــى فى أحضانها لتبتلعه فى صدرها قبل أن تخرج منه كلمات الهثة :وحشتينى أوى ياما .
140
ــ أنت أكتر يامنصور .يلحقهما عبده ملفوفا بعاطفة مفتعلة :كفارة يافايزة ..ألف مبروك ياختى واللـه
تستاهليها .ألقت بنفسها بين ذراعيــه بحكم المشهد ومن خلف كتفية ..كتر خيرك ياعبده ياجن ..
أنتظر النونو دوره وهو فى أشد درجات الفرح قبل أن ينحنى برأسه يقبل يدها :كفارة يامعلمة .ثم
ألتفت إلى عبده ومنصور :أتبهدلنا من غيرك يامعلمة .رسمت إبتسامة متكلفة :خالص يانونو من هنا
ورايح مافيش بهدلة .
ــ ربنا مايحرمنا منك يافايزة .قال عبده ثم أصطحبها النونو وسارت إلى جواره بخطوات متمهلة بأتجاه
سيارة التاكسى بينما عبده ومنصور يلهثان خلفهما حتى أستقر الجميع داخل التاكسى لتبدأ رحلة العودة
إلى حارة المنجى .
فى نفس توقيت مغادرة فايزة وصحبتها كانت هدى قد أنحشرت فى سيارة أيات فى المقعد الخلفى بجوار
الشباك وإلى جانبها بسمة ونورا التى غابت عينيها وراء نظارتها السوداء وقد تقلصت مالمحها بفعل
ألم طارىء مصدره جلد المقعد الذى حولته الشمس إلى فرن حامى فتقلبن عليه كلما لمس جلده الملتهب
مؤخراتهم .كانوا داخل السيارة فى عســر وضيــق ال تكاد أحداهن أن تحرك كوعها من مكانه بينما
أراحـــت نورا رأسها فوق المسند العلوى للمقعد وبدا جانب وجهها غائما ..جربت أيات محرك السرعة
وحررت مكابحها وبدأت تتحرك رويدا رويدا ثم أنطلقت إلى البوابة الرئيسية لتصلها فى لحظات ..وكان
هناك جندى فى األنتظار يغالب النعاس واقفا عند بابها وعلم مصر فى أعلى البوابة هابطا على صاريه ،
إذ لم يكن هناك هواء يرفعه ويجعله يرفرف أو ربما ألسباب أخرى ال يعلمها إال العلم! ..فتح البوابة
وأنطلقت أيات كمن يهرب من عدو يالحقه ،بينما لمحت عبر المرأة العاكسة مبنى السجن وباحته وهما
يتضاءالن ويصغران فى مكانهما منارين بأشعة الشمس ..يضؤالن ويضؤالن حتى صارا نقطتين ثم
نقطة مالبث الطريق والغبار أن أبتلعهما .
" هدى" عيناها شاخصتان إلى الطريق فيما يشبه الشرود .السجن والحراس ،كالهما أنزاح للوراء .
دخال الماضى .رفعت وجهها وقربته من الشباك بأتجاه الشمس وعيناها مغمضتين ،تركت األشعة
الدافئة تمشى فوق جفونها ،أتخذ هذا الوضع لحظات قبل أن تفتحهما على مشهد أثار فيها خوفا
وشجونا حين رأت سيارة ترحيالت السجن الزرقاء تسير عكس األتجاه ناحية البوابة وقد أمتألت عن
آخرها بسكان جدد ستكون العنابر والزنازين مأوى لهم ،فقفز على الفور من ذاكرتها نفس المشهد
وذات اللحظة وربما نفس السيارة وهى تقرأ فى نظراتهم من وراء شباك السيارة أستسالم قدرى كمن
141
يودع الحياة ..المشهد العابر جعلها تدرك سريعا أن للحياة فلسفة خاصة ليست خطا مستقيما لها بداية
ونهاية كما تعلمنا من كتب األولين ،بل هى دائرة ال أول لها وآل آخر ..نرحل ونعود فى نفس الدائرة
ليضيع أولها فى آخرها ،فأناس يبكيهم اللقاء وأخرين يبكيهم الفراق ..سحبت نفسا طويال بطول
السنين الماضية وهى تتأمل الشوارع تنفلت من بصرها مسرعة هاربة إلى الخلف .ذهنها بدا مثل
الشوارع مشتتا باهتا تتزاحم به الهواجس واألفكار تفر دون قدرتها على األمساك بخيط منها .قطعت
أيات نصف المسافة فى طريق العودة بقيادة هادئة وأتزان نفسى مع صمت تام أصاب الجميع كالعدوى
وكأنهم الزالوا فى مرحلة األستيعاب قبل أن تقتحم أيات قلب دوامة الفوضى إلى وسط األسكندرية ،فلم
يخلو المشهد بعد من تبعات الثورة ،تحول قلب المدينة الى حالة مرضية ميئوس منها فأصاب األنسداد
شرايينه ولم يعد هناك مجال أو مكان ألى حركة ،صفوف من السيارات بالكاد تتحرك كسلحفاة عجوز
وأصبحت الفوضى هى عين الحقيقة فى األسكندرية ..نفخت أيات زفرة ساخنة وهى تردد :عمرى
مافكرت أنى ممكن أسوق فى الوقت ده أبدا .لم يعلق أحد فأدارت الكاسيت تبحث عن مسكن ألعصابها
ونظرت لهدى فى المرآة بحماسة قبل أن يركبها عفريت األنسجام :حأسمعك شوية مزيكا
حينسوكى السنين اللى فاتت كلها .أرسلت لها نبرة متعبة من خالل المرآة :لسة زى ماأنتى يا أيات
المزيكا بتجرى فى دمك .
ــ المزيكا هى اللى مصبرانى على األيام السودة دى .ألتفت اليها :األيام جميلة ياعمتى أنتى بس اللى
شايفاها سودة .
ــ طب أسمع وأنت ساكـت يامتفاءل .علقت من محبسها بين أمها وأختها :على طول كــده ياماما ناكــر
ونكير .تناهت إلى أذانهم موسيقى رتيبة ذات أيقاع واحد مطرد فى حين أنشغلت هدى عن الموسيقى
بمتابعة الطريق واألنصات لبسمة التى التكف عن الوشوشة فى أذنها بلغة الهمس ..خرجت السيارة
من دوامة الزحام بمعجزة وقدرة قادر والطريق أمامها يتثنى ويتلوى وهدى تتأمل بعين فاحصة شوارع
مرت بها من قبل وقد كساها التراب وزينتها أكوام القمامة تحرسها أرصفة من دون بالط وأشجار بال
أوراق ،فهزت رأسها كمدا :ياه دى أسكندرية عجزت أوى .خفضت أيات من صوت الموسيقى :هيه
أسكندرية بس اللى عجزت ..مصر كلها شاخت وإنحنت ..البلد أتخطفت ياهدى ووقعت فى إيد ناس
سايقين بينا بسرعة الصاروخ ..بس مش لقدام ..لورا ! .أستطاعت نورا أن تحرك يدها لتكتم
142
ضحكة :أصل عمتى بتكره األخوان .قربت هدى رأسها فى أفا أيات :الناس بتقول أن مرسى وجماعته
دول بتوع ربنا .
ــ ليه بس كده ياماما عمتى لما بتسمع الكالم ده الدنيا كلها بتتشقلب أدام عينيها .كانت جملة تحذيرية
من بسمة قالتها حين أطلت أيات بسيارتها على شارع الكورنيش بعد أن أجتازت شارع بورسعيد بعد
عناء وكأنها والدة متعسرة قبل أن يلوى يوسف عنقه للخلف فى لهفة مخاطبا أمه :بصى شوفى الناس
اللى على شمالك دول .تلفتت بنظراتها لتقع عينها على جمهور محتشد أمام مبنى أدارة شركة مياة
األسكندرية ومن خلفهم أنتشر عشرات من رجال األمن المركزى وقد الح فى عيونهم هلع مكشوف من
الهتاف الحماسى للمحتشدين ،لم تدرك هدى حقيقة البالء الذى نحياه لكنها من خالل الالفتات المرفوعة
أدركت أن الغليان يتعلق بتظاهرة أحتجاج ضد رئيس الشركة ألجباره على تثبيت العمالة المؤقتة ..
تشممت هدى الهواء الذى يحمل رائحة البحر فهاج شعورها برؤية القوارب والصيادين والناس
والحبيبة فأحست بحاجة إلى أن يحيط بها وأن يحملها تيار هؤالء الناس الذين ال تعرفهم وأن كان
وجودهم ينعشها ..خرجت " آه " دون وعى منها وهى تحمل أحاسيس من الصعب أن يدركها من
حولها ؟ ..أحساس يعبر عن هذا البلد ،دائما ما كان الكورنيش يغمر مشاعرها باألطمئنان ويشعرها
برحابة العالم وأتساعه وقدرة األنسان على تغيير مكانه وبقائه حيا ..أرسلت نظرتها إلى أمتداد البحر
حتى خط األفق ،فوجدته محايدا ليس غاضبا والمطيعا .فأبتسمت ..أحتواهم الصمت فى السيارة
لدقائق وهى تتجه على مهل ناحية المنزل قبل أن تبادر أيات بسؤالها وهى تتفادى سربا من تالميذ
المدارس :تحبى ألف بيكى شوية ياهدى أفرجك على البلد .تعليق بسمة كان شافيا على هذا العرض
السخيف :هيه أسكندرية بقت فيها شوارع عشان تلفى فيها .نظرة قاسية من عمتها :البركة فى
مرسى .أحست هدى بنبضات قلبها تتسارع وشعرت بجسدها يرتفع فوق المقعد ومعه روحها كلما
أقتربت السيارة من ميدان محطة الرمل ،حشدت ذهنها وتأهبت قبل أن تنتحر فى عقلها عشرات األفكار
واألسئلة حين وطأت السيارة شارع شامبليون الذى ينحشر كالعروس الخجول بين الكورنيش وشارع
ترام بورسعيد وزاد تركيزها حين ظهر لها عن بعد الطوابق العليا من البناية فبدت وكأنها تروض نفسها
لرؤيته فراحت تستعيد مالمحه وذكرياتها وتملكتها خواطر قلقة بين الماضى والحاضر تعبث برأسها ،
إال أنها نفضت عنها صراع اللحظة وهى تتابع السيارة تتهادى فى ظل صف من السيارات الخامدة على
جانب الرصيف حتى أستقرت بهم أمام مدخل البيت ..لم يسحبها تأملها للبناية كثيرا ونزلت من بطن
السيارة كالتائه بدون دليل يتبعها الباقيين ،بينما وقف نوح البواب فى محيط المدخل كالذى يحرس
143
منطقة نفوذه وهو يضيق فى عينيه محدقا فى الداخلين يزر رمشه يبحث فى ذاكرته عن أسم لهذا
الوجه ..تسمرت حدقتيه وتوقفت رعشة جفنيه ثم أبتسم ..أبتسم طويال ليخرج بعدها صوته ممتدا
ساهما يخاطب زوجته المحنية على نفسها وقد أرتكزت على قدميها تكنس المدخل :شوفى يا أم نور
مين اللى جاى علينا .لم ينتظر منها أجابة سعفته الذاكرة ثم هرول نحوهم وصوته يتهدج :الست
هدى ..ياأهال ياأهال ..واللـه زمان ألف حمد اللـه على السالمة ،ظل يهز يدها بكلتا يديه الواهنتين
وعظام وجنتيه أنفرجت عن أبتسامة :نورتى بيتك ياست هدى .وقف الجميع خلفها فى أنتظار
نهاية سريعة لفرحة نوح وترحيبه بينما تطيل هدى التحديق فيه وتدنى وجهها منه :ربنا يخليك
ياعم نوح ..المكان منور بيك ياراجل ياطيب .ضغطت على يديه فى عطف حين لمحت فيه الكهولة
فأصابع كفه أصبحت عظاما وعيناه ضاقتا كثيرا ،بينما هبت أم نور تقبل كتفيها :واللـه أنا مامصدقة
نفسى ..نورتى الدنيا ياست الكل .
ــ كتر خيرك يا أم نور .قالتها ثم تجاوز الجميع المدخل الواسع المعمول من الرخام األبيض وصعدوا
ست درجات تفضى إلى مكان المصعد ،بدت البناية شديدة النظافة وال يخدش نظامها شيىء .
أحتواهم المصعد كفئران فى مصيدة ينتظرون الفرج بينما هدى فى مواجهة الباب كاألمام ومن خلفها
المصلين ،بدت نظراتها مرتبكة وهى تتفحص سقف المصعد قبل أن تنقلها الى الطوابق التى تهبط أمام
عينيها من شراعته المستطيلة ،توقف بهم فى الطابق الثالث محدثا " تكة " خفق لها قلبها قبل أن
يشير لها يوسف :أفتحى الباب ياماما .دفعته على مرتين وكأنها لم يعد فيها جهد ..سارت ببطء بأتجاه
الشقة ،خطوتين وألتفتت نحوهم وكأنها تطلب دعما فأرسلوا لها نظرات مشجعة قبل أن يتقدمها يوسف
ويفتح باب الشقة بينما هى تراقب وتردد :سبحان اللـه ..سبحان اللـه حتى أدمعت عينيها ..فتح الباب
وأنزاح للداخل وبقيت أمه متصدرة مدخله ،مدت رقبتها فأطلت برأسها ودارت بعينيها وكأنها تتأكد أن
كان كل شيىء فى مكانه بينما تتطاير خياالت غير محددة تقطع أسترسالها وتبذل جهدا كى ال تحيد
ببصرها حتى تنتهى من المعاينة التى لم تكتمل حين خرجت لها نعمة متلهفة صارخة :ألف حمد اللـه
على السالمة ..ألف مبروك .أرتدت مالمح هدى وتراجعت شفتاها عن األبتسام فقد أدهشتها حالة
الضعف والعجز وايقاع خطوتها المترنح .سارعت إليها وضمتها فى رفق :أزيك يانعمة وحشتينى أوى
واللـه .أنفتحت حنفية الدموع :البيت كان وحش من غيرك ياست هدى وربنا يعوضك خير عن السنين
اللى فاتت ..تسندها :تعالى أقعدى يانعمة .
144
ــ معلش ياست هدى كتر خير الدنيا .تدخل يوسف :نعمة دى بتتدلع ولما تخف أن شاء اللـه
حنشوفلها عريس .أنشغلت هدى تحاول أن تحدد مواضع األشياء ..تسير ببطء وهى تالمس كل ما تمر
به ثم دارت بجسدها دورة كاملة فى وسط الصالة وقد أستعادت بعض الثقة لتبدأ رحلة الطواف داخل
المنزل ،تحركت بهرولة فى أرجائه وهى تطل من كل جانب فيه حتى سحبتها قدميها الـى باب
غرفتها تضغط على مقبضه بيد مرتعشة ،فتحته وأستقبلها ظالم الغرفة حيث شيش النافذة مغلقة
فتحسست الجدار حتى عثرت على زر النور فأشرقت األضاءة فيها وأثار جو الغرفة فى نفسها أشيــــاء
قديمة كانت باهتة ،فلمعت وأتضحت وطفت بكل تفاصيلها من جديد فتقدمت إلى رأسها ذكرى تلك الليلة
البعيدة وأول يوم لها فى الغرفـــة التى دخلتها كملكة متوجة يتقدمها زوجها الراحـــل مقدما لها فروض
الطاعة والوالء .شبكت يديها خلف ظهرها وهى تتجول فى الغرفة تقرأ من كتاب الذكريات كل حدث فى
كل ركن فيها ،بدا أن شعورا باألمن والطمأنينة قــد أستولى عليها وبينما عينيها تجوب المكـــان تنشط
الذاكرة فتتضح تفاصيل فى الغرفة لم تكن موجودة من قبل ..أختفت الستائر القطيفة التى كــان يعشقها
نديم ويسميها " ستائر الرومانسية " كما أختفت النجفة الكريستال ذات الداليات وصحونها الدائرية
وأست بدلت بأخرى مودرن بلون النيكل ..مرآة الدوالب البلجيكى بها جرح قطعى بطول تالتين سم خصم
كثيرا من وقارها ،إال أنها لم تقف عند تلك األمور وبدأت تدير شريطا من الذكريات وهى تلمس صورة
زوجها قبل أن تباغتها أيات من خلفها تنزعها من حديث هامس كانت على وشك أن تبدأه مع الراحل :
كفاية عليكى سرحان ياهدى األيام جاية كتير .قالتها وألتفتت خارج الغرفة تكمل باقى جملتها :هاتى
يانورا لمامتك أى حاجة من عندك تلبسها .
ــ قبل أى حاجة الزم أخد دش األول .قالتها كأمنية وتشكلت علـــى شفتيها أبتسامة سريعة ثم أردفت :
أنتو مش عارفين قيمة النعمة اللى عندكم فى البيت .
ــ أيوه ياحبيبتى اللى يعرف يستحمه فى السجن يبقى ربنا راضى عنه .
ــ أنسى بقى ياماما األيام السوده اللى فاتت .كان تعليقا من يوسف فى حين أرادت أيات أن تختصر
المشهد :ياريت تسيبوها ياوالد تأخـذ الشاور بتاعها وتظبط نفسها .
145
دخلت هدى الحمام فى حراسة بسمة ونورا التى سلمتها غـيارا وبرنس وفوطـــة ،حاولت أن تستعيــــد
طقوسها القديمة فى األستحمام ..خلعت مالبسها بتردد وهى تستعيد جو المكان ..وقفت داخل البانيو
وفتحت الدش فوق رأسهــــا لتحقق لنفسها ماكان يراودها وهى أسيرة .أرخت رأسها للخلف متلقفة
دفعات الماء على وجههــــا مغمضة العينيـن مفتوحة الفم بينما تسرى فيها رعشة حين ينسال الماء
ساخنا يدغدغ أعصابها وعضالتها بينما رغوة الصابون تتجمع بين ساقيها المضمومتين ..نصف ساعة
تحت الماء أعادت لوجهها الحياة وأستعادت دورتها الدموية نشاطها قبل أن تخرج منكمشة داخل برنس
نورا األبيض التى بدت فيه أصغر سنا وشعرها المبتل يلتصق بجانب وجهها وهى تقرع أسنانها،
فأقتادتها بسمة حتى باب الغرفة مشددة :عايزاكى تدخلى تنامى ياماما وتريحى جسمك على األخر
ولما تصحى حنرغى أنا وأنتى للصبح .ثم ودعتها بقبلة ..دارت حول نفسها فى الغرفة وأقتربت
من المرآة تنظر لوجهها وهى العادة التى توقفت عن ممارستها منذ دخولها السجن ..أتجهت ببصرها
إلى أعماق العينين المرسومتين أمامها فى المرأة وبدا طيف أبتسامة فاترة يتموج على شفتيها
المتقلصتين ..أستطاعت أخيرا من أن تكتشف فى عينيها المعانى القديمة المألوفة لديها ..ها قد عرفت
نفسها ووفقت بين الصورة وبين األصل ..تحركت بأتجاه السرير .وقفت تتأمله كثيرا قبل أن تتحسسه
بيدها ..ثم أستلقت عليه وهى تخشى إال تستطيع نوما لفرط ما بها من قلق وفرح وما يتقاذفها من
متناقضات ..أستطلعت كل جزء فى الغرفة من مكانها ،مازالت ال تصدق أنها قبل ساعة من اآلن كانت
السجينة هدى عبد الفتاح ..سبحان مغير األحوال ..لم يكن لديها وقت لتصاب بالدهشة المفرطة ألنها
بالفعل أنزلقت سريعا وبنعومة مبهرة فى نوم هادىء دون أن تصطدم بحواجز األرق والفرحة .
0000000000000000
قبل أربعين دقيقة غادر تاكسى " الالدا " موقع السجن وفى جوفه فايزة يجاورها أبنها فى الخلف بينما
عبده فى الصدارة بجانب النونو .أستكانت فايزة لفترة كانت توزع فيها نظراتها بين الطريق وبينهم
وحواسها كانت تستجيب ألدنى أشارة تصدرعنهم ..أبتسم النونو نصف أبتسامة وخاطبها من خالل
المرآة :البشر فى كرموز متلهفين يشوفوكى ياست الكل .رفعت ذقنها فى شموخ :طبعا ياوله مش
ناسى وأهل حتتى .يقابلها يأسنان صفراء تظهر عبر المرآة على أثر ضحكة واسعة :واللـه عندك
حق ..المعلم كمال األخرس وشلته وكل تجار القماش مسيحين ومسلمين الكل مستنى عند القهوة ده
غير الحبايب والجيران الكل جاى يجامل وكمان ..أنقطع حبل كلماته فجأة وألتهبت مالمحه حين خرجت
146
عليه سيارة " هيونداى" من شارع جانبى ومرت أمامه بسرعة فتحول برأسه ناحيتها معاتبا بلطف :
هو أنت فاكر نفسك سايق فى الصحراوى ده أنت حمار أبن وسخة ،وضعت يدها على كتفه مثنية على
أدائه وهى ترمى بالمعنى تجاه عبده :جدع يانونو ،هو ده الصح واللى مايعرفش فى األصول ويغلط
ياخد على دماغه .قالتها وظلت ترمقه بنظرة تحمل أشارة الوعيد بينما شعر عبده بوخز نظراتها يخترق
جانب وجهه فتمتم :أسترها يارب ! .عادت تستفسر :كملى ياوله مين تانى مستنى .يتابعها فى
المرآة :بقولك البشر كلهم نسوان ورجالة كبار وصغار كله فى األنتظار .ثم وارب جفنيه وخفت
صوته وخرجت منه عبارة خجولة :والعبد للـه أتفقلك مع فرقة من عندنا عشان تقدم التحيه وكله
فضلة خيرك .عقدت أصبعيها تحت ذقنها مستغربة :يعنى أنت يانونو اللى بلغت الناس بميعاد خروجى
وأنت اللى جهزت المسائل وكمان أتفقت مع فرقة ..يكونش أنا أرملة ومش واخدة بالى ..ده زى
مايكون الجحش اللى قاعد جنبك متوفى .ثأثىء األخير مضطربا وضم رجليه المفتوحتين :أزاى بس
الكالم ده يافايزة .ثم لكزه فى فخذه يذكره :ماتقولها مين اللى علق النور داير مايدور فى القهوة ومين
اللى من أمبارح بيجهز المكان وعينيه ماشافتش النوم ..ماتقولها يانونو .فى حين برأ منصور نفسه :
عارفة ياما أول ما أبويا بلغنى بالخبر من فرحتى بقيت زى المجنون و مشاريب الزباين كلها خلتها على
حسابى .أبتلعت كلماته بتأفف :شاطر زى اللى جابك .
ضاقت وأنكمشت المسافة المتبقية للوصول إلى كرموز بينما لم يتوقف النونو عن الرغى طول الطريق
وكأنه أكتشف فجأة أن لديه حاسة الكالم ،سمعت منه فايزة ملخصا مؤجزا عن التاكسى وأيراداته
وصيانته وعن محمود المحامى وتفاصيل التعامل معه ثم معرجا على أحوال الحارة وسكانها وعن
العيشة واللى عايشنها ..ظل النونو على هذا الحال يتلو األخبار على شكل عناوين فى حين لم يسمع
صوت لعبده والحركة سوى أبتسامة يتيمة يظهرها كلما لوى رقبته ليناولها سيجارة ثم سرعان ماتموت
على شفتيه قبل أن يالزمه الصداع كصديق وفى .أكتفت فايزة بما سمعته من صبيها وتحولت بنظراتها
ناحية منصور :وأنت ياحيلة مافيش حاجة عايز تقولهالى .زحف بظهره معتدال :ما أستغناش ياما .
بينما توارت رقبة عبده إلى داخل كتفيه كأنما يتفادى لكمة حين شعر أن دوره هو التالى إال أنها تخطته
عندما الحت أمام عينيها منطقة سوق الجمعة وهى أول حدود كرموز الجغرافية التى بدأت تتضح
معالمها على مدى الشوف فأعتدلت وأستقامت بظهرها وأصلحت أيشاربها ولم تخف أحساسها بالعظمة
فى حين يردد النونو :حمد اللـه على السالمة يامعلمة نورتى المنطقة .ويؤمن عليه عبده :أى واللـه
ياوله يانونو .توغل التاكسى إلى قلب كرموز النابض وغاص فى حواريها قبل أن يتسلل إلى أذنيها
147
صوت رجالى منغم من خالل ميكرفون اليزال أرساله بعيدا :عيلة حودة القط والحاج سلمان وأبو نادية
بيقولوا حمد اللـه ع السالمةوكفارة يامعلمة .سحبت نفسا متكبرا وأنتفخت رقبتها :دى الحبايب كلهم
متجمعين .قبل حارتين من حارة المناجيلى أستقبل الناس بالضجيج والفرح مرور التاكسى على
أراضيهم فأختلطت كلمات الترحاب بهمسات النميمة وأستحوذت كلمة " كفارة" على نصيب األسد
ترددها األلسنة عشرات المرات فى حين تطوع أشبال الحوارى بالجرى والدفع والطراخ وراء التاكسى
بينما واجهتهم فايزة بهزات من رأسها وتحية صامتة مع كف تلوح بها .
دخل النونو بالتاكسى حارة المناجيلى دخول الفاتحين ويده على النفير لم تفارقه ،فتحرك حشد
المنتظرين وأحاط بالسيارة وبدت فرحة بال منطق ..صخب وزغاريد وأيقاعات موسيقية مدوية تنخر
فى األدمغة مصدرها " فرقة اللول الشعبية " وهى واحدة من الفرق العريقة فى كرموز والمدربة على
مواجهة الجماهير واأللتحام معها ،فتقدم رجال الفرقة األشداء وقد أنتفخت وجوههم بفعل مزمارا
يصرخون فيه وقد شقوا الصفوف وصوال للتاكسى قبل أن تخرج منه فايزة بعد أن فشل النونو فى
الوصول الى مدخل المقهى ..أرتفعت النغمات فى حماس على لحن " سالمة ياسالمة رحنا وجينا
بالسالمة " بينما تدافع نحوها نسوان الحارة كأجراء ضرورى ألثبات الحضور وليتحول صدغيها الى
مرمى يستقبل قبالت محمومة ومباركات قبل أن يتصدى لهن منصور منحشرا كعازل فى حين أفسح
النونو وعبده مجاال لها للمرور وهى تدلى رأسها فى تحية ثم ترفع كفيها على رأسها ثم صدرها كما
تلقت مجموعة من التهانى خالل مسيرتها بأتجاه المدخل من كبار تجار كرموز التى كان لها باع فى
التعامل معهم ..أتخذ هذا الوضع منها عشر دقائق قبل أن تطأ قدميها أعتاب المقهى والتى زينت
واجهتها بلمبات من فئة الـ 100واط بشتى األلوان بينما طاف جمعه فى نشاط وهمة على الجميع
بأكواب الشربات بلونها األحمر الصارخ فى حين تشكلت دائرة حول فايزة من المهنئين قبل أن تنتبه
فجأة على أنحسار الصخب وخفوت صوت مقدم التحيات فى الميكرفون حتى خرس تماما وتحول الرغى
إلى كلمات متقطعة حتى تالشت إلى همس ،فأرسلت نظراتها من بين أجساد الدائرة تستطلع حتى
ألتقطت عينيها مشهدا غريبا ومفاجئا حين رأت مجموعة من الشباب ال يتجاوز عددهم الخمسين فردا
والتزيد أعمارهم عن بدايات العشرينات يتقدمون بخطوات منتظمة كفرقة كشافة رافعين الفتة كبيرة
مكتوب عليها " ائتالف حارة عسليةيبارك عودة المعلمة فايزة الى حارة المناجيلى " حضورهم
المفاجىء أصاب الجميع بالدهشة واألستغراب وعلى رأسهم فايزة وقيادات الحارة ،الجميع يعلم حجم
الخصومة الشديدة بين الحارتين وأن كان سببها الرئيسى مازال تحت البحث والدراسة وإن كانت هناك
148
أقاويل تتناسل كالعادة تتردد من هنا وهناك عن أن أفرادا من حارة عسلية منشقين عن األئتالف قد
هجموا فى ليلة مظلمة على مقر جبهة حارة المناجيلى فى " زقاق نمنم " والذى أسفرعن ثالث أصابات
فى صفوف المدافعين من الجبهة وأستيالء المجموعة المهاجمة على فردين خرطوش وكمية من
السيوف والسنج أضافة إلى مائة زجاجة مولوتوف ،ومنذ ذلك اليوم ال تنقطع التحرشات والمناوشات
بين الحارتين من حين الخر وأن كانت هناك محاوالت من بعض السلفيين من رواد مسجد
" العزة لألسالم" لعقد حوارات مصالحة بين الطرفين بصفتهم وسيط محايد إال إنها باءت بالفشل ،
لذلك رأى أصحاب العقل والرأى النافذ فى األئتالف أغتنام فرصة خروج فايزة من السجن لتكون بادرة
خير فى أتجاه مصالحة شاملة ..تقدم " نعناعة " وهو قيادى بارز بخطوات منحرفة يجر قدمه العرجاء
نتيجة عن أصابة مباشرة تعرض لها أبان ثورة العطارين التى أندلعت العام الماضى بسبب قرارأصدره
مجموعة من العواطلية بتحويل شارع األمير " أحمد رفعت " وهو أحد الطرق الرئيسية التى يربط
نهاية شارع العطارين بشارع عمود السوارى إلى سوق شعبى وأفترشوا فيه بضاعتهم بطول الشارع
وعرضه إال أن أمن األسكندرية أنتفض ورفض هذا السلوك وباغتهم بحملة مكبرة أزالت البشر والحجر
فأنفجرت الثورة وتصدر الباعة المشهد وأنضم اليهم مجموعات من المسجلين ودارت معركة شرسة
لفرض األرادة والسيطرة أستمرت تالت أيام متتالية أستطاع خاللها أبطال العطارين أن يقهروا قوات
األمن وكان لهم ماأرادوا حتى بات الشارع ذكرى .أقترب " نعناعة " من موقع فايزة التى شدت
صدرها ورفعته فى شموخ وهى تنصت لكلمات الترحيب التى يلقيها فى هيئة بيان مقتضب أنهاه بعبارة
" اللـه الموفق والمستعان " ثم تقدم إليها وأنحنى برأسه وهو يمد لها علم مصر مطويا فتسلمته ثم
قلبته بين يديها تبحث داخله عن هدية أو تذكار ،لكنها لم تجد شيئا فتجهم وجهها وأنحنت برأسها تقبل
العلم فى مشهد مفعم بالوطنية وبنبض الثورة ! ..وما أن تسلمته حتى شاع الفرح والزغاريد وهتفت
الحناجر " حارة عسلية وحارة المناجيلى أيد واحدة " فأهتزت بيوت الحارة الواهنة وتعلقت األبصار
بفايزة حين أستندت بيدها على منصور وعبده كعكازين لرفعها على الكرسى الذى أمتطته واقفة ثم
دارت بعينيها فى الوجوه تستمتع بالمجد ثم سحبت أطول نفس يمكنها أن تسحبه من حنايا صدرها
وأنطلقت تتكلم بعفوية :كتر خيركم ياحبايبى ياأهلى وناسى ..تصفيق يعقبه زغاريد فتشير لهم بيدها
لتهدأتهم :أنا اللى عايزة أقوله أن ربنا كرمنى ومدتى فى السجن عدت على خير وسالم وإن شاء اللـه
اللى جاى معاكم هنا فى حارتنا حيكون أحسن ..بس الصبر شوية لغاية ماأخد نفسى وأشوف الدنيا بقت
رايحة لفين وعن قريب إن شاء اللـه حأرجع أشتغل تانى وحتشوفو بعينيكو أحلى بضاعة وأحسن
149
ماركات وكل اللى نفسكم فيه أنا حأجيبه وبرضه على قديمه بالتنقيط مش بالتقسيط واللى عايزة تجهز
وتشور بنتها ماتشغلش بالها طول ما أنا موجودة واللى عايزة تأسس بيتها وتكمل الناقص بعون اللـه
كله سهل وعندى .قوبلت كلماتها بهيجان وفورإن من الحماس قبل أن تهبط من كرسيها مستندة على
كتفى النونو التى همست فى أذنه :كفاية لحد كده ولم الدور أنا تعبانة وعايزة أروح بيتى .تدخل عبده
بعد أن ألتقطها :حاضر يافايزة حاضر ياختى .
أنفض المولد أمام المقهى وتم سحب فايزة إلى بيتها سيرا على األقدام فى رحلة لم تستغرق سوى عشر
دقائق ..وقفت عند عتبة شقتها بعد أن شكرت وودعت المهنئين ومن خلفها كالعادة فى تلك المناسبات
بعض الصحبة من الجيران والمقربين بينما وقفت هى تستطلع الشقة وتتقصى مافيها ،ودون أرادة
منها تعلقت عينيها بصورة زفافها المتصدرة حائط الصالة المواجه لباب الشقة وقد بدا فيها " عبده "
نحيفا طويال وياقة قميصه األبيض أكبر من مقاسه بنمرتين بينما هى تتعلق بذراعه وأسندت رأسهاعلى
كتفه وهو يلف ذراعه بأحكام حول خصرها وكان يضحك غير أنه بدا وكأنه يريد ــ أحتراما للصورة ـــ
أن يقيد فرحته ويبدو عريسا رصينا ،فغلبته الضحكة وظهر معلقا بين الحالتين ..بعد عملية جرد
سريعة لمحتويات الشقة تربعت فايزة على رأس جلسة جمعت فيها صديقاتها وجيرانها من حارة
المناجيلى وبعض الحوارى المجاورة ،أحاطت بها نسوة لهن مثل مالها من وقاحة خبيثة وبذاءة فى
األشارة والقول وأمامهن صينية عليها براد شاى بناء على طلب من فايزة لعله يعدل ما أصاب رأسهـــا
من صداع فتطوع النونو فى تجهيزه ،أسهبت فايزة فى السرد وحكت الكثير والكثير عن بطوالت
ومغامرات لها فى السجن فأستولت على عقل من كانت على يمينها وهى أمرأة بيضاء الجلد ممتلئة أكثر
مما يلزم أل مرأة واحدة ويناديها أهل الحارة بـ " نجية جيلى " وأخرى على يسارها بال معالم معدومة
التضاريس وبدون فواصل ينقصها القعر والسقف وأمامها جلست سمراء مهزولة تحفظ قاموسا من
النكات المكشوفة أثارت بها موجات من الصهللة ،كانت معانيها فاجرة تلقيها دون حياء وبطابع سوقى
مبتذل تجعل منها نموذجا فاضحا لحرائر " زقاق النص " محل أقامتها وهو متفرع من حارة المناجيلى
الذى اليدخله من حالوة العيش نور .مرت ساعة وصار البيت شبه خالى بعد أن أنسحبت النسوة واحدة
فى أثر واحدة وما تبقى غير " أم الشحات " أما الرجال فلم يكن هناك سوى عبده ومنصور وجمال
النونو قبل أن تنصرف أم الشحات وفى ذيلها منصور بصحبة النونو وخلت الساحة تماما إال من عبده
فى مواجهة فايزة التى تفحصته وهو خاضع أمامها فمسحته بنظرة من أعلى إلى أسفل وكأنها تعيد
تقييمه إلى أن قالت :أنا داخله أستحمه أغسل جسمى من أرف السجن وبالويه.
150
فتح فمه عن أخره مبتسما :الزم يافوز وأنا مستنى فى األوضة .عشر دقائق أنهت فيها مراسم
األستحمام ،غسلت كعبيها بالحجر وسلخت لحمها بالماء الساخن حتى عاد لونه األصلى ثم تكحلت
وخرجت منه غير مادخلت وبدت وكأنها تستعيد أمرأة كاملة ولت عنها منذ أعوام .
أستلقت على السرير بقميص نوم أسود خفيف ،فردت ساقيها أمام عبده ينتظران بلهفة لحظة األلتحام
فبدأ معها نوعا من المداعبة بينما هى التتمنع بل تركته يتلمس أجزاءها ويتحسس خريطتها بينما عينيه
تدور فى جسدها بنظرة متأففة ..كم كان يتمنى أن يكون لها خصر يفصل الذى فوق عن الذى تحت
كخصر " كريمة " أخر زواج عرفى أو يكون لها صدر بنهدين كعصفورتين طليقين بدال من هاتين
الكومتين من اللحم المتدليتين إلى بطنها فى حين كان جسمها ينتظر طائعا بعد سنوات الحرمان بينما
أصابع عبده تتحرق نحو الرقبة وهى ساهمة فى رضا فزادت الحماسة وتسارعت األصابع كى تغزو
مناطق جديدة ،وفى مشهد مباغت قبل أن ينهى حديث األصابع فك عبده أزرار جلبابه وراح يخلعه ثم
سحب سرواله فى حركة خاطفة وقذف به إلى وسط الغرفة ليخرج السروال خارج المشهد قبل أن يضيق
بوجود " الفانيال " على لحمه ويطيح بها بجوار السرير ولم يبق سوى لباسه األخير فأندفع إلى جوارها
حتى أندفست هى معه تحت البطانية وبدأ األلتحام وراحا يستخدمان اآلذرع واألرجل بشكل عشوائى
وعاشا فى لحظات فيما يشبه األغماءة وهما يخوضان فى حلكة عمياء تحت البطانية معركة البحث عن
اللذه بال بصر وال بصيرة متعمدا أن يكون شرسا وعنيفا مما أثار حنقها وجزعها حتى أنتهى فدفعته
عنها فى غيظ :قوم كتك األرف ده أنت حمار .أخلى سبيلها محتال مكانا إلى جوارها بينما تحولت هى
إلى كيان منكوش الشعر مجهدة المالمح بعد ممارسة ال تشبع وال تروى فبدت منتهكة وغاضبة بينما هو
يلهث للحظات ثم هزته دفعة من السعال فشلت فى خنقه مرات عديدة وأستدار على جنبه الصقا صدره
بظهرها المتقوس كأنما عادت إلى رحم أمها وشكل أنحناءة جسمه على رسمها وفحيح أنفاسه التى
تلهب ظهرها جعلتها تتململ وقالت والوخم يغلف كلماتها وقد تعمدت أن ترفع صوتها بعد تثائب أخفته
وراء كفها :أبعد شويه الدنيا حر ..أدار ظهره لها يستدعى النوم .
الفصل الخامس
فى يومها التالى فى عالم الحرية أرادت هدى أن تحقق لنفسها أمنية طالما راودتها طيلة فترة سجنها
وهى زيارة قبر نديم .
151
هنا فى المقابر ..الزمن واحد والليل والنهار واحد ..والصمت واحد .الموتى كل منهم اليملك أكثر من
مساحة حجمه .أقتربت هدى من مدفن أسرة نديم الذى يقع على يسار البوابة الرئيسية لجبانة المنارة
تتبعها أيات وبجانبها بسمة ،أجتازت باب المدفن المنخفض بأنحناءة حيث أن أرتفاعه عن األرض
ال يتجاوز المتر وكأن الذين بنوه قد قصدوا أن ينحنى له داخلوه .
أستقبلت هدى قبره برعشة وكأنه زلزال ضرب كيانها .كانت مأخوذة بقبره بأنخطافة تدعوها للتكوم ،
فجثت على كعبيها صامتة تتأمل القبر وكأنها ترى شيئا ال تراه الواقفتان خلفها .فأيات تراقبها وقد
شبكت يديها على بطنها وقد جف وجهها وجفت عيناها بينما بسمة ترصد المشهد من وراء أمها تراقب
المكان الملفوف برهبة الموت وجو الغموض القاتم بفعل أضاءة قليلة متسربة خلفهم على أستحياء من
باب المدفن .فى حين شعرت هدى بالثورة فى نفسها وهاج شعورها وأحست بفداحة الفراق ،فبالرغم
من مرور تلك السنوات لم تبهت ذكراه أبدا ودائما ماكانت تتحدث عنه وإليه بنفس الصوت الخاص
القديم الذى أعتاده منها نديم ،إال إنها لم تعد تستطيعه األن ..صوت لم تعد تجده ..تتحدث بال كلمات
وكأنه يفهم عنها كل شيىء .
قرآن الفاتحة كان بداية المراسم الذى ألهب الحماس وجدد األحزان بينما هدى أنحصر فكرها وهى
فى هذه الصحبة إلى تحليالت وتأمالت وهى تغوص بكيانها فى أعماق قبر نزلت اليه ذات يوم جثة رجل
كان أليف ماندتها وشريك فراشها ثم خبأتها األرض التى أكلتها وهضمتها وتطوى صفحة قصيرة من
كتاب حياتها .
أخبارية سريعة من عم " بكر " حارس الجبانة جاء على أثرها عم " السيد " التربى يسحب فى يده
مقرىء ..خلعا نعليهما وجلسا أمام القبر فى خشوع ..شرع المقرىء يرتل القرآن فى عجالة دون
أجادة ،لم يبلغ فى نفوسهم جالل األيات ولم يومض فى صدورهم المعانى الغالية ثم قفز بينهم فيتلو
دعواته ..يجف ريقهم من سرعة وكثرة الـتـأمين على دعائه الذى أنهمر كالسيل ..أمين األخيرة
يقولها معهم ويمطها ..أميــن ..قالتها هدى ونفحتهما أيات ببعض الجنيهات قبل أن يختفيا عن العيون
فى سرعة البرق بينما جلست هدى فى مكانها تتلو أيات من القرآن مما حفظته تحت أشراف
" الحاجة زينب " فى مسجد السجن وبدأت متحمسة تقرأ القرآن ..كان واضحا الفارق بين القراءتين
فتجلت المعانى القرآنية فى تالوتها وتدريجيا شرع صوتها يتوتر ويختلج وبدأ يتعثر إلى أن سيطر
النشيج المرتعش وأنهمرت الدموع وأهتز جسدها فى عنف بينما دعتها أيات للصمود بعد أن أخذت نفسا
152
عميقا وبحثت داخلها عن شيىء من التماسك والقوة :كفاية كده ياهدى وأدعيله بالرحمة .ترددت فى
أخراج صوتها قبل أن تعثر على نبرة خالية من الحشرجة :نديم وحشنى أوى ياأيات كان نفسى يبقى
جنبى ..كان حبيبى وأخويا وصاحبى .قالت عبارتها ثم أكملت " سورة الرحمن " ودعت له بالرحمة
وبجنات النعيم ثم غلبها البكاء مرة أخرى .فاضت دموعها وتابعتاها بينما نزلت بسمة على ركبتيها
وأصبحت فى محاذاة وجه أمها :ياله بينا ياماما قومى معايا .غادرن باب المدفن كما دخلن بأنحناءة ..
خرجن كأحصنة متعبة تنهى السباق ..واجهن جنازة تتقدم وحملة النعش يركضون وكأنما يسحبهم
النعش نحو المقابر .
00000000000
سحب " خيرى علم الدين " نفسا عميقا بعد مكالمة قصيرة من صديقه " برسوم " أبلغه فيها بتأجيل
األجتماع المقرر يوم الخميس فى السابعة مساء بمقر جريدة " أسكندرية اليوم " إلى صباح اليوم التالى
فى التاسعة والنصف ألنشغال بعض األعضاء فى التحضير لحملة " تمرد " التى تجوب األسكندرية طوال
وعرضا لسحب الثقة من الرئيس مرسى ،وجد خيرى فى ترحيل الموعد لعدة ساعات فرصة ألنهاء
ما بدأه حيث قضى ساعات طويلة خالل األيام الماضية عاكفا على مكتبه الصغير فى غرفة نومه يضع
تصورات تفصيلية عن تلك المرحلة ..شرح فيها كل شيىء من وجهة نظره حاضرها ومستقبلها حتى
تفككت أعضائه .
أراد خيرى من وراء كتاباته رصد تفصيالت المشهد السياسى من كل جوانبه والوصول إلى منطق جديد
يستطيع طرحه غدا على مجموعة األعضاء من واقع أيمانه الشديد بأنه البد من أفكار وخطوات واضحة
ومبتكرة تميز عمل تلك المجموعة عن باقى المجموعات والحركات واألحزاب الموجودة حاليا على
الساحة ،فأعد مجموعة من األفكار والبرامج رأى فيها تطورا وشكال جديدا من أشكال المقاومة للنظام
األخوانى الحاكم ،ساعده فى ذلك تميزه الفطرى ،فهو يتأمل " الفكرة " قبل أن يقدم على تنفيذها ..أنه
يتعذب كثيرا وهو يكتشف فى لحظة عيبا مؤلما فى أداء القوى السياسية كافة ،فمعظمهم ببغاوات
مهرجة بينها وبين دهاء السياسة مابين قرد الغابة وحكمة الفالسفة ،أما أداء مايسمى " القوى
الليبرالية أو المدنية " فوجد فيه هزال سقيم ،فعندما يصغى اليهم مستمعا لحواراتهم فى برامج
153
التليفزيون فى بعض الليالى ،فالشيىء الوحيد الذى يعود به الى سريره وجعا شديدا فى عضالت معدته
وأنتفاخ فى الخصيتين !.
أخيرا أنهى خيرى مابدأه فى الرابعة فجرا حتى ثقل جفناه وداهمه النوم ،لكنه قاوم ،وان لم يفعل
فالصباح سيفر منه ..صلى الفجر فى غرفته أمام مكتبه ثم تمدد على السرير يصارع النوم حتى هزمه
بصعوبة وطلع النهار وقبل أن يبيض تماما قام مترنحا من فراشه حتى بلغ الحمام ووقف أمام
الحوض حتى تجرأ وأنحنى برأسه يستقبل الماء البارد من الصنبور حتى غمر رأسه وقفاه وتدحرج إلى
سلسلة الظهر ..أفاق ثم أرتدى بدلته " الفيرانى " وقميص سماوى وكرافت كحلى ثم نظر إلى وجهه
فى المرآة ..وعدل وضعه ومر بيده على شعر رأسه ..أمعن النظر فى تلك الهالة الرمادية التى أحاطت
بالعينين ،ومضةأسى .كان يقينه يتحقق وسحبت األربعين الخمسين من العمر .كان قانعا بما سينتهى
به المطاف ،مرتديا أخر عمره طاقية بيضاء على جلباب أبيض تاركا لحيته ليبدو مثل أولياء اللـه ..
ولكنه لم يلبث أن أتهم نفسه بالنرجسية وأشاح بوجهه وهو يدرك أن حساب العمر اليوم يتم بالخصم
ال باألضافة ..تماسك حتى التنسيه اللحظة العبثية ما هو مهيأ لتنفيذه ومستعد للقيام به .جمع أوراقه
المتناثرة وحبس أنفاسه وخيل إليه أنه يملك قوة شمشون فأحكم أصابعه كلها حول كومة األوراق
ودسها داخل حقيبته " السمسونيت " ثم جذبها بعد أن أغلقها بأحكام وهو يقول محركا رأسه وكتفيه :
على اللـه يقدروا يفهموا اللى أنا كتبته فى الورق ده .كان يشعر أن األوراق دونه بال معنى وبال
شخصية .مجرد أوراق .مضى يحس بنشوة لم يمارسها و أخذ يستعد للمهمة الجليلة .
تمام التاسعة صباحا ..يتدفق خيرى إلى الشارع بقدميه سيرا إلى مقر جريدة " إسكندرية اليوم "
بمنطقة األزاريطة التى ال تبعد عن منزله سوى عشرون دقيقة مشيا ..تململ فى مشيته ،فالشمس
بدأت تغضب وتصب لعناتها وتستعرض قدرتها على حرق الوجوه ..يسير وال يعبأ بالسيارات التى بدأت
تصرخ وتذكره أن اليوم بدأ بالفعل .زادت حيويته ودب فيه الحماس حين عبر الشارع بأتجاه المبنى ،
أستقبل المدخل بنشاط وأندفاعة قبل أن تستوقفه مجموعة الفتات تزاحمت على جدران المدخل تشيرإلى
أس ماء أطباء ومعمل تحاليل ومكاتب محاماة بحث فيهم بعينيه حتى عثر على الفتة صغيرة محشورة فى
زاوية خافتة تحمل أسم جريدة إسكندرية اليوم فمنحها نظرة عطف قبل أن يصعد السلم المرمرى ليواجه
بتنويه صادم كتب بخط أسود كئيب " المصعد معطل" ..من بئرالسلم تطلع إلى أعلى بعينين تدور مع
الساللم صاعدا دورا فدورا ..فقد كثيرا من همته ونشاطه حين بلغ طابق الجريدة ..وقف للحظات يحاول
154
تنظيم أنفاسه ثم دخل على أستحياء قبل أن تلتقط أذنيه أصوات صادرة من مكان ما بالداخل ،كانت
متفاوتة الطبقات بين المنخفضة والمحتدة والعاقلة ؟ ،فأبطأ خطوته وبدا كمستكشف وهو يتخبط بنظراته
فى طرقة نحيفة طويلة حينها أدرك أنه بحاجة ألستعمال موبايله ..رنة واحدة منه كانت كافية لخروج
" برسوم " مهروال من تلك الزاوية المخفية التى ال ترى عبر الطرقة ..رمقه خيرى فى صمت قبل
أن يصل إليه برسوم بوجه محتقن :أيه اللى أخرك كده ياخيرى .جال برأسه متفقدا :همه األحرار
وصلوا .قالها بأبتسامة وسارا حتى نهاية الطرقة ثم أنحرفا بأتجاه الزاوية ومنها إلى قاعة كبيرة تضم
مجموعة رجال بكامل عددهم كمانوه سابقا األستاذ برسوم وقد ألتفوا كسوار من لحم بشرى يحتضنون
مائدة مستديرة التبعد سوى مترين عن منصة صغيرة بها ميكروفون وفى خلفيتها شعار الجريدة .
سحب "برسوم " صديقه من يده الذى تأخر بخطوة قبل أن يعد له كرسيا إلى جواره مخاطبا الجمع
المترقب :أحب أعرفكم باألستاذ خيرى علم الدين زميلى وصديق عمرى وزىماقلتلكم قبل كده أنه
صاحب رؤية وله وجهة نظر ووجوده معانا حيساعدنا كتير خصوصا فى المرحلة دى ..تعليقات تحمل
ترحيبا وقبوال قابلها خيرى بأبتسامة وتحية صامتة ..فى حين أستهل بدايات الحديث رجل بدين وقور
المالمح فى منتصف الخمسينات له نظرة مباشرة ونبرة هادئة ينادونه باألستاذ " دراز " وهو مالك
الجريدة .أعتدل ناطقا :فى البداية بأرحب بيكم كلكم وبأكرر أسفى على تغيير الميعاد وأن كان السبب
مقبول ألن أى تحرك بأتجاه أسقاط األخوان ورئيسهم أحنا معاه وبندعمه .عشر دقائق كاملة أستغرقتها
كلمة األستاذ " دراز" أنهى فيها المقدمة الترحيبية قبل أن ينتقل إلى سرد األحداث التى وقعت فى
األسبوع الماضى حسب ترتيبها الزمنى دون تعقيب أو تعليق حتى أنتهى عند أخر حدث :وتقريبا كده
معظم أحياء أسكندرية وقعت على أستمارة تمرد وده يعتبر تحول كبير فى خريطة مواجهة األخوان وده
اللى حناقشه النهاردة .ختم نشرة األخبار ثم أرسل أبتسامة مفاجئة بأتجاه خيرى :وأحب أقدم تحياتى
وترحيب المجموعة كلها باألستاذ خيرى على تفضله وحضوره معانا النهاردة .أستقبل األخير الكلمات
بكحة مصطنعة :الحقيقة أنا اللى زادنى شرف بحضورى هنا وسط المجموعة المحترمة دى اللى بتحب
بلدها وخايفة عليها من مصير مجهول وأتمنى أن المناقشات وعرض وجهات النظر تقدرتساعدنا
على وضع خطة واقعية ممكن ترجمتها على األرض .قاطع برسوم :أن شاء اللـه المناقشات حتتم
ياأستاذ خيرى بس ياريت تتفضل األول على المنصة تسمعنا رؤيتك وتعرفنا وجهة نظرك .قالها ثم
نهض واقفا وأزاح كرسيه ليمر خيرى بأتجاه المنصه بعد أن فتح حقيبته وأخرج منها كومة أوراقه ..
بلغها ببطء ثم بسط أوراقه على المنصه قبل أن يسحب واحدة منها ويقربها أمام عينيه ثم شرع يقرأ
155
ما كتبه :بسم اللـه الرحمن الرحيم ..أحب أوجه التحيه ..ثم سكت فجأة ولم يكمل بدا كاألخرس ..رفع
عينيه وتأمل الوجوه المنتبهة ثم أزاح الورقة من أمام عينيه وكأنه يبعد حاجزا ظهر فجأة :المفروض
أنى أقرأ اللى مكتوب فى الورق وأشرح وجهة نظرى ورؤيتى زى ماأتفقت مع األستاذ برسوم ..ياريت
تسمحولى أتكلم معاكو ببساطة ووضوح ..وأول حاجة الزم نكون متفقين عليها أن األحداث على
األرض أسرع بكتير من أى كتابة ومن أى أوراق وحتى من المناقشات نفسها والحاجة التانية ودى
مهمة جدا بالنسبة لى أنى مش عارف هى أيه الخطوات اللى حيتم تنفيذها على األرض ..ده لوفرضنا
يعنى أننا أتفقنا على رؤية واحدة ..عشان كده الزم يكون فيه تحديد لألولويات وتدبيراألمكانيات اللى
حتربطنا بالشارع وتخلينا فاعلين فى األحداث أو حتى على األقل جزء من التفاعل .ألتقط أنفاسه وتمهل
قليال وأمسك الميكرفون بأصابعه وتابع مبتسما :بصراحة أنا أول مرة فى حياتى أتكلم فى ميكرفون
فياريت تسامحونى لو فى أرتباك .ثم عاد إلى مالحظته :أعذرونى على اللى أنا قلته ،لكن أعتقد أن
حضراتكم متفقين معايا فى وجهه النظر دى ،وعلى العموم أنا برضه حأقولكم على وجهه نظرى
المتواضعة من اللى أنا شايفه على الساحة قدامى .طوى أوراقه ثم وزع نظراته على الموجودين وقال
شارحا :حضراتكم تفتكروا أن فى أيام مبارك كان فى تضخيم لقوة الدولة ومؤسساتها وخصوصا
المؤسسة األمنية وتقريبا كلنا كنا مقتنعين أن أحنا عايشين فى دولة قوية على األقل أمنيا وأن كل شيىء
مرصود وتحت السيطرة لغاية ماجه يوم 25يناير وأكتشفنا كلنا مفاجأة كبيرة ومدوية وبالبلدى كده
عرفنا أن شوية عيال مايجيش عددهم تالت أربع تالف دوخوا األمن وخلوهم ياولداه مكسحين وأتكشفوا
بسرعة واللى كان نتيجته نزول الماليين للشوارع وبقت كل ساعة تعدى نتأكد أكتر أن البعبع األمنى
ماعدش له وجود أنسحب وأتبخر من كل مصر ..اللى عايز أقوله من ورا كالمى ده أننا الزم نطبق
نفس القياس على األخوان وعلى السلفيين بمعنى أننا أتضحك علينا للمرة التانية وأتصدرت لنا صورة
مبالغ فيها عن قوتهم وعددهم وتنظيمهم وأنا على قناعة تامة أننا قريب أوى حنكتشف قلة عددهم
وضعفهم الشديد وأن الشعب المصرى ممكن بكل سهولة فى الفترة الحالية أنه ينهى ظاهرة التيارات
الدينية وبالضربة القاضية كمان واأليام حتثبت صحة الكالم ده ..سحب نفسا بطيئا كى يصبغ جملة
جديدة تدور فى ذهنه :آخر نقطة أحب أطرحها عليكم أننا الزم نأخد خطوات سريعة وعمليه عشان
الطرف التانى بيتحرك بخطوات أسرع بهدف التمكين واألستيالء على كل حاجة واألوراق اللى معايا دى
كتبت فيها تصور يمكن تنفيذه على األرض وحأوزعه على حضراتكم عشان تطلعوا عليه وبعد كده نحدد
ميعاد سريع نتناقش فيه ونشوف ممكن نعمل أيه .وقبل أن ينهى كالمه سحب الورقة األخيرة من كومة
156
أوراقه ونظر اليها بعينيه الموغلتين فى العمق توحيان بأنفعاالت المحظور وقرأ أخر كلماته فى الورقة
األخيرة :هناك صراعات ستفضى حتما الى هزيمة للبلد من نوع أخر وساعتها سيكون الكالم بحديث
الراحلين حتما !!..قالها ثم هدأت نبرته وخرجت منه جملة لم يعرف من أين عثر عليها " :وكأن هذا
الشعب يولد من زمن عاقر " .
وضع ورقته أمامه ونظر إلى الجالسين بينما صمت الجميع لحظة وكأنهم راحو فى غفوة قبل أن تعبر
كلماته من أوراقه إلى عقولهم بعدما نهض واحد من الجالسين يعبر عن أعجابه :كالمك ممتاز ياأستاذ
خيرى أنا بأحييك ..وكأنها أشارة متفق عليها فبادر الجميع بالتصفيق وتحرك األستاذ " برسوم" بأتجاه
الم نصة فكان أول من القاه خيرى وصافحه وضغط على يده :أحسنت ياخيرى ..كالمك مهم وموجز
ومتهيألى لما نقرأ توصياتك اللى فى الورق أكيد األمور حتوضح أكتر .هز األخير رأسه مبتسما دون
تعليق .
0000000000000
" هدى " رغم تحررها من السجن تقبع فى أعماقها أمرأة حبيسة ..أنطلق عقلها وجسدها خارج
القضبان ،لكن بقى جزء من كيانها أسيرا ..حاضر جديد يحيط بها من أول ساعات النهار حتى هبوط
الليل ..تحايلت على نهارها وقسمته لتقصف عمر ذلك السكون الممطوط ،فقضت أيامها األولى على
وتيرة مسالمة ال تكاد تتغير :من الغرفة هذه الى تلك ومن المطبخ الى الصالة ،تجوب الشقة وتطوف
فى غرفها تستكشف وتنقب فى كل ركن ،غريزة األم داخلها تدفعها للبحث عن وجود فعال وقوى
ليعوضها سنوات أختفاءها القصرى ،أما فى المساء فتفتح رأسها على مصراعيها لتمألها بأخبار
وبرامج التليفزيون محاولة منها لاللمام بموضوعات مستحدثة تستخرجها وتستلهمها مدفوعة بأعجاب
منقطع النظير باألعالمية " لميس الحديدى "
اليوم أستهلت " هدى " صباحها بالتوجه الى غرفة أبنتيها بعد أن خرجتا مبكرا األولى للجامعة والثانية
لألتيليه ،بدأت بتنفيذ ماأتخذته باألمس من قرارات بينها وبين نفسها وفى مقدمتها القيام بعملية تنظيف
شاملة لكل غرف الشقة بأستثناء غرفتها التى أنتهت منها باألمس ولم تتركها إال وقد أعادتها لسابق
عهدها بعد أن وضعت خطة سريعة كان أول بند فيها صندوق ذكرياتها ..سريرها الذى حمل خريطة
جسمها وأحتوى فحولة الزوج الراحل الذى عبر بها حقبة الفتاة الحالمة إلى امرأة أشبعته حتى التخمة
157
ومأل أناءها من فيضانه الهادر الذى جرف فى طريقه كل الحواجز والفوارق وأودع فى قاعها ثالث
بذرات صارت بعدها ثمرات هى كل ماتحصلت عليه من أيام الرضا .
دعكت أخشابه بلمعة موبليا قبل أن ترفع مراتبه للتهوية كما أعادت نجفتها القديمة من منفاها ببلكونة
المطبخ ،وجاهدت معها لتحيا بدعم من الماء الساخن الذى أزال عنها تراب السنين وكأن الحياة تعود
لها تدريجيا قبل أن يقول الليمون والكربونات كلمتهما الحاسمة فبزغ بريقها الذهبى القديم وباتت جاهزة
للتعليق ،إال أنها لم تستطع أكمال المهمة بمفردها فأستعانت بـ " نوح " البواب للمساعدة والذى أبدى
حماسة ولبى النداء ..نزع النجفة الفضية وعلق الذهبية وقام بتوصيل أسالكها كما أشرف بنفسه على
فك مرآة الدوالب المشروخة وحملها طواعية الى ورشة زجاج بشارع " صالح الدين " وقام بنفسه
بعملية التركيب وبمجهود فردى نال به أستحسان هدى بعد أن قاوم فى عناد رعشة أصابعه حتى أنهى
المهمة المستحيلة التى أستهلكت منه وقتا كبيرا كان يكفى لتركيب عشر مرايات ،وبالرغم من ذلك لم
يتسرب الملل أو الضيق إلى نفس هدى بعدما عوضها نوح بتقديم تقرير وافى عن العمارة وسكانها فى
التسع سنوات الماضية ..سرد لها وقائع وأحداث بأداء سهل وموجز راعى فيه عدم الخوض فى
األعراض أو المسائل الشخصية كعادته دائما .
يوم كامل قضته فى غرفتها قبل أن تتمكن من ترتيب تفاصيلها السابقة وكأنها ترمم أثرا نجحت فى
أعادته إلى زمن الزال مقيما داخلها ،فكان من حقها فى نهاية اليوم أن تلصق ظهرها بالحائط وتحبس
أنفاسها وهى تلف غرفتها بنظرة أيقنت منها عودة الروح إلى كل ركن فيها فتحررت أنفاسها الحبيسة
وهى تردد :الحمد للـه هى دى أوضتى اللى سيبتها من تسع سنين ..فى مساء نفس اليوم أستقبلت
آذانها عبارات الدهشة واألعجاب على لسان كل من عاين غرفتها واضعين ذلك المجهود فى خانة
األنجازات المدهشة ،غير أنها قاطعتهم متوعدة :أنتوا لسه شفتوا حاجة ..من بكرة حأفرم باقى أوض
الشقة وبعد كده الصالة وحيكون الحمام والمطبخ همه مسك الختام .كلماتها كانت رسالة واضحة وقوية
بأنها نجحت فى األنغماس فيما يحيط بها من مكونات مختلفة حيث تالشت صور السجن وأبتلعت الصور
الجديدة وأستسلمت لتفاصيل حياتها وراحت تغيب فى عالمها الصغير بعد أن وجدت الساحة خالية
أمامها لوضع بصماتها على كل شبر فى المنزل ،فنورا نهارها وليلها تقريبا فى األتيليه بعدما أطمأنت
لوجود البديل الذى يسد أختفاءها بينما نعمة الحول لها وال قوة وأنحسر دورها فقط فى مالزمة أيات ..
تجالسها طول اليوم وتتركها فى أوقات الرقاد لتعاود الكرة فى الصباح توقظها أن كانت نائمة لتحكى لها
158
عن المنام الذى رأته فى ليلها وهى تقدم لها فنجان القهوة بالحليب بينما تستسلم أيات لها وتبدأ فى
سرد تفاصيل المنام الجديد فى أنتباه وشغف لعلها تفتش فيه عن شيىء ..عن حلم قديم يراودها أو
مفاجأة تحملها لها األقدار ،فال تملك من أمرها سوى األنصات أو ربما حركة جسد نعمة المتهالك أضفى
عليها نوعا من األستسالم ويبعث صوتها المنكسر فى نفس أيات الشعور باألطمئنان .فى حين بدا أن
يوسف وبسمة يعيشان حالة من األنسجام والرضا عن سير الحالة العائلية فأنتابهما أحساسا مشتركا
بأنهما اآلن أصبحا لديهما راعيان ..فزادت ثقتهما فى األيام وأستبشرا خيرا فيما هو قادم ،وبدا أن
الكل يعيش ويندمج ويتشكل تشكيال خاص به .
بدأت هدى حملتها المكبرة تتوعد كل شبر فى الشقة بأنزال عقاب النظافة بعد أعالن حالة طوارىء
أستثنائيه ألنهاء فوضى ضربت الشقة منذ زمن ،تحركت بنشاط وخفة مرتدية ترنج أسود أستعارته من
بسمة وكان أصغر من مقاسها فبدا مشدودا ملتصقا بجسمها يفضح تضاريسها فى أثارة ألقصى درجة
منسجما مع إيشارب ذهبى طوقت به رأسها على شكل حلقة تنفلت من جانبيه خصالت من شعرها
األسود على لوحة بشرتها البيضاء فبدت رائعة .
الحماسة واألصرار كانأهما شعارها ،خطوات متسارعة ومتالحقة فى كل مكان بالشقة وكأنها من
ساكنى الغابات من المفترسات تضع لمستها فى كل ركن مطبوعة برائحة عرقها وكأنه أعالن منها عن
فرض السيادة والنفوذ على كل سنتيمتر تصل إليه ..داخل غرفة أبنتيها شدت مالءة السرير ورفعت
السجادة وجمعت كومة من المالبس ستكون الغسالة مأوى لها ثم شرعت بعدها بعملية بحث وتمشيط
داخل الغرفة لعلها تتمكن من ضبط أى ركن أو زاوية لم تصل إليه يد النظافة ..فتحث الدوالب على
مصراعيه وأرسلت نظراتها داخله تتعقب سكانه قبل أن تصاب بقدر كبير من األنبهار حول كم المالبس
المعلقة ،فلم تجد على لسانها سوى كلمات ربانية تكسر بها دهشتها :بسم اللـه ماشاء اللـه عليكى
يانورا أيديكى تتلف فى حرير ..ربنا يحميكى يابنتى .دقائق قليلة وبات كل شيىء فى الغرفة تحت
سيطرة عينيها فأرسلت نظرة أخيرة كمراجعة نهائية قبل المغادرة ..غير أنها لم تجد شيىء يستحق أن
تعيد عليه سوى ستارة النافذة التى أختفى نصفها خارج الشيش بفعل نشاط هوائى لطيف فتصدت لها
تشدها للداخل ،إال أن شيىء غريبا أثار المالحظة عندها وهى تطل من الشباك ،الحظت أن كل شيىء
فى الشارع فى مكانه كما هو مثلما رأته قبل دخولها السجن ..ال تغيير وال تجديد ،ودون مقدمات
تذكرت فجأة تاريخ زواجها كما تذكرت تاريخ والدة أبنائها ..أرتدت مبتعدة عن سور الشباك مستغربة
159
وهى تبحث فى رأسها عن سبب مقنع لتلك الظاهرة ،من أين جاءت تلك التواريخ لتحشر نفسها فى
رأسها فى هذه اللحظة ..لم تقف طويال وخرجت من الغرفة بمالمح بلهاء بأتجاه حجرة يوسف .فى
طريقها مرت بجوار غرفة أيات الموصودة وتجاوزتها قبل أن تصل إلى مقبض باب غرفة يوسف
وفتحته فى فرجة صغيرة وحشرت رأسها وألقت نظرة فوجدت أبنها حافى القدمين والصدر :أنت
صاحى يايوسف .قام يتخبط بالبوكسر :أيوه ياماما .أجتازت العتبة بينما أرتبك يوسف .جلس على
حافة السرير يضع قدميه داخل حذائه مبتسما أبتسامة خجولة ..دنت منه وتحسست خديه وشعر ذقنه :
كبرت ياحبيبى وبقت راجل .رفع عينيه :حأعمل أيه ياماما أدى حال الدنيا .فما كان منها إال وأحتضنت
رأسه ودفستها فى بطنها :عندك حق يابنى هو ده حال الدنيا .باغتتها ذاكرتها وهى تمسح شعر رأسه
وتذكرت وجهه وهو صغير حين كان يرتكز بذقنه على كتفها وهو يبتسم أبتسامة مشاغبة قبل أن ينفلت
من بين يديها ويحلو له أن يخلع مالبسه قطعة قطعة وهو يعدو فى البيت سعيدا بعريه وهى تالحقه
وحين تمسك به يصرخ ويبكى ويركل ويرفض أن يرتدى حتى سرواله الداخلى .قام يوسف من مكانه
وأنتصب أمامها واضعا قبلة على خدها :خالص بقى ياماما الدنيا حالها أتعدل وبقيتى فى وسطينا
دلوقتى .
ــ ربنا مايحرمنى منكم .قالتها ومرت بعينيها لتكتشف فوضى الغرفة :أوضتك دى عايزة تتنسف ..هز
رأسه مكتفيا بمراقبتها وهى تنزع الستارة وتحاصر مالبسه المعلقة على رشاقة خلف الباب قبل أن
تسحبها وترمى بها على أرضية الغرفة حتى كونت هرما صغيرا تسربت منه رائحة عرق نفاذة ممزوجة
بعطر الـ " وان مان شو " فأنتج رائحة كالخميرة إالأنه أبدى مالحظة حين أعتلى بنطلونه الرمادى قمة
الهرم :البنطلون ده لسه مغسول ومكوى .
ــ من النهاردة ياحبيبى فيه نظام تانى .الحاجة اللى تتلبس ويبقى ريحتها عرق الزم تتغسل .لم يعقب.
أشاح بنظره ناحية المكتب وكأنما يرشدها عن وجود زوج شرابات أسفله ..تتبعت نظراته وقالت وهى
تنهج :ماتشغلش بالك ياحبيبى ولما ترجع أن شاء اللـه حتالقى الدنيا كلها متظبطة .
ــ أنا مش عايز أتعبك معايا .توجهت له بعتاب :كده برضه يايوسف ..اللى بأعمله ده حقكم عندى
وده أحلى تعب فى الدنيا ..أنت كل اللى مطلوب منك مذاكرتك وبس .قالتها وهى تلملم أوراقه المتناثرة
بجوار مكتبه بينما ألتفت إليها :خلى بالك ونبى ياماما ده ورق المراجعات .
160
ــ ماتخافش ياحبيبى أمك مش جاهلة .كل ورقك حألمه على المكتب عشان تبقى أوضتك فاضية قدام
عينى ولما ترجع حتالقيها بتبرق .
ــ ربنا يخليكى ياماما .قالها قبل أن يصدر تليفونه رنات متتالية فرفعه ألذنه :صباح الخير ياهدير .
أنصت ثم أجاب :نص ساعة وحأكون عندك .أختصر ردوده ما بين " آه " و " أل" ثم أنهى المكالمة
وأستدار فوجد أمه ترمقه فى أبتسامة فبادر :دى هدير مستنيانى فى الكلية .
ــ ربنا ينجحكم أنتم األتنين وتحققو اللى نفسكم فيه مع أن سيادتك بطلت تكلمنى عنها .أنهى أرتداء
مالبسه ورافقته حتى باب الغرفة :واللـه أبدا الحكاية كلها أنى مستنى تأخدى نفسك شوية وبعد كده
حأقولك على كل حاجة بالتفصيل .أشرقت مالمحها عن أبتسامة عريضة حين سمعت تلك الجملة :
عشان خاطر الكالم الحلو ده قولى بقى نفسك أعملك أيه على الغدا .
ــ اللـه على السؤال الجميل ده ..ملوخية طبعا .قالها بأداء الملهوف .
ــ من العين دى قبل العين دى .سارع بطبع قبلته األخيرة على جبينها :عن أذنك دلوقتى ياماما يادوب
ألحقلى مكان فى المراجعة .ثم خرج مسرعا بينما وقفت تدور بعينيها فى غرفته التى بدت شحيحة
التفاصيل سهلة دون تعقيدات كصاحبها ..نجفة بسيطة بثالث لمبات تطل على دوالب أتنين ضلفة
يجاوره سرير وأمامه مكتب صغير ..أستهلت البداية بفتح الشباك للتهوية وتغيير الهواء الراكد والمقيم
داخل الغرفة منذ أيام قبل أن تتجه للمطبخ وهى تدرك أن كابوسا ينتظرها غير أنها أنحرفت بأتجاه غرفة
أيات ..نقرتين على بابها الموصود ثم فتحته مستطلعة قبل أن تستقبلها نظرات أيات من موقعها على
كرسيها الهزاز التى لم تفارقه منذ ساعتين وهو الشيىء الوحيد الذى يتحرك داخل الغرفة بينما نعمة
منزوية وملتفة حول نفسها بجوار قدمى أيات وكأنهما تمثاالن فى متحف .أوقفت حركة الكرسى :
صباح الخير ياهدى .
ــ محتاجة نوح يجيبلى شوية حاجات .الحت بوادر حركة فى مالمح نعمة الميتة وأستعاد لسانها نشاطا
مفاجئا :نوح بطل يقضى طلبات للسكان ..الراجل عجز ياست هدى وماعدش زى األول .أصابت
161
كلماتها دهشة هدى :ده لسه أمبارح كان بيساعدنى وجابلى مراية جديدة للدوالب وركبها بنفسه .
نصف أبتسامة على شفتى أيات :عشان هو بيعزك بس عمل كده وع العموم أى طلبات أنتى عايزاها
حأخلى أنور يقضيها لك .كانت مالحظة توضيحية قابلتها هدى بأستفسار :أنور ده اللى كان بيمسح
السلم أمبارح .هزت أيات رأسها وهى تنهض من مكانها تتلفت يمينا ويسارا تبحث عن موبايلها حتى
لمحته على طرف السرير :محتاجة أيه ياهدى .
ــ الرز موجود فى دوالب الخزين اللى فى بلكونة المطبخ .تلك كانت فتوى من نعمة بينما قربت أيات
شاشة الموبايل الى عينيها تبحث عن رقم نوح ،لم يستغرق البحث أقل من عشر ثوان حيث رقمه هو
الرابع من بين خمسة أرقام هى كل مالديها .
ــ أيوه يانوح أبعتلى أنور عشان يجيب لنا شوية حاجات .أنصتت ثم نظرت لهدى وأردفت :عايزين
فراخ وملوخية .أبتسمت :كتر خيرك ياراجل ياعجوز .وضعت موبايلها جانبا :تمام كده ياهدى .
ــ مؤقتا بس لغاية ماأعرف البيت ناقصه أيه وحأبقى أشترى بنفسى خزين البيت ..المهم بس أن أنور
ده مايتأخرش على فى الطلبات .قالت عباراتها ثم أعطت لهما ظهرها لتخرج فى عجالة فى حين تابعتها
أيات بنظرة متفحصة عميقة وسيطر عليها شعور بأن دور البطولة القادم فى المنزل ستلعبه هدى بال
منازع ثم همست بنبرة رضا :سبحان اللـه العظيم .لمحت نعمة نظرتها :فى أيه ياست أيات .
ــ هدى زى ماهيه ..صحيح الطبع غالب .زحزحت نعمة جسمها وكأنها تمشى بمؤخرتها :عايزة الحق
ياست أيات اللى الست هدى عملته فى يومين تالتة مايعملهوش تالت رجالة مع بعض ..أسم اللـه
عليها غيرت شكل البيت كله بقى زى اللبن الحليب .عادت أيات الى كرسيها الهزاز وبدت مالمحها بال
تعبير وصدرت عنها نبرة باردة :حأقولك أيه يانعمة أنا عن نفسى ماليش فى شغل البيت وأنتى بقيتى
خالص موتورك مفوت ال بتهشى والبتنشى يادوب فنجان القهوة اللى بتعمليه ونورا هانم األتيليه واخد
كل وقتها وبسمة أيدك منها واألرض .أنصتت نعمة وقد زادت أنكماشا :عندك حق ياست أيات .
00000000000
162
فى نفس الوقت وفى أجواء مختلفة بدت فايزة متأهبة لتناول وجبة أفطار خفيف حيث أن الصباح فى
توقيتها يبدأ ظهرا فأستعدت له جلوسا على كنبة فى الصالة وأمامها مائدة صغيرة وقد حبست نفسها فى
جلباب أبيض بخطوط زرقاء و توجت رأسها بعصابة رمادية مشدودة بعنف حولت جمجمتها إلى شكل
الشمامة فى حين أستنفرت حواسها فى شغف على طبق الفول الذى زين المائدة وإلى جواره ثالث
بيضات مسلوقة وبصلتين وكومة جرجير وأربع أرغفة ،بدت فى جلستها كالجبل المستقر فى مكانه بعد
أن بسطت هيمنتها تماما فى اليومين الماضيين وراحت تمارس وظيفتها القديمة فى التسلط واألستبداد ،
فكان أول حصادها أن أستقامت أفعال عبده الذى أبتلع وجودها مستسلما دون مراوغة بالرغم من
المرارة التى تفيض منه مكتفيا بأصدار عبارات والء وكلمات غزل كى يتمكن من أستمالتها لعله ينجح
فى أستعادة حياته الماضية ،إال أنه وحتى اللحظة لم يرصد أى مؤشرات ايجابية تدل على نجاح
خطته ..فى نفس الوقت وداخل غرفة النوم وقف عبده أمام المرآة وهو يعاين مالمحه ويرصد فى
حسرة وقار السن الذى ظهر عليه فجأة حين شاب شعره دفعة واحدة بعد أن زال عنه سواده المستعار..
بدا منكمشا داخل جلبابه البلدى الواسع له فتحة مستديرة عند الرقبة و أكمام واسعة ،أشاح بوجهه
فزعا حين سمع صوت فايزة يأتيه كالنذير :بتهبب أيه كل ده عندك .توترت حركته وزاد أرتباكه
ومسح شعره بكفيه فى سرعة وفر مهروال خارج الغرفة قبل أن يتمكن من أنزال الجلباب الذى توقف
فوق ركبتيه وأجابها :أنا جاى يافايزة ..ثوانى وظهر فى الصالة يرسم أبتسامة مشفوعة بمالمح
نشطة طارئة .بادرها ليسيطر على شرها :المعلم عبده الجن بيرسل ماسش بيقول فيه صباح الفل على
ست الكل ..إلتفتت إليه بمالمح متصلبة ،لم تضحك ولم تنفرج سحنتها وكوفىء على فشله بالصمت
وسرت الدهشة فى بدنه بينما أحتدت نبرتها :تعالى أقعد هنا أدامى وسيبك من الخبالن اللى أنت بتقوله
ده .نفذ األمر وجلس أمامها على المائدة يفصل بينهما طبق الفول وحلفائه بينما تابع بتأفف البيضة
المسلوقة وهى تختفى كاملة داخل فمها تتبعها بلقمة فول قبل أن تحشر معها باقة من أوراق الجرجير
لتسهل عملية البلع ،توقفت فجأة أضراسها عن الطحن حين رمقته بنظرة متوحشة وكأنها تذكرت
وجوده :مد أيدك وأطفح بدل ماأنت بتبحلقلى فى اللقمة .
ــ ماأنتى فاهمة يافايزة أنا ماليش فى موال الفطار ده الزم أعمل أصتباحة األول أشق ريقى بحجرين
معسل وكباية شاى ..قذفت أمامه برغيف :أطفح .رفع يديه بكمهما الواسعين على طريقة من يهم
باقامة الصالة :بسم اللـه الرحمن الرحيم .تفحصته :كل يا موالنا .كسر لقمة ووضعها فى فمه ثم
163
مضغها طويال وحاول بلعها فى حين سددت له نبرة تحذيرية :وأنت راجع من القهوة ماتنساش تجيب
معاك دفاتر الحسابات عشان أبعتهم لألستاذ محمود المحامى يراجعهم ويرسينى ويفهمنى أولى من
أخرى .أجاب واللقمة تنحشر فى حلقه فتخنق العبارة :وماله يافايزة حقك ياختى .تزر عينه قبل أن
ت نخفض نبرته وتركبه المسكنة :بس مش حينفع النهاردة يافايزة أدينى يومين كمان .واجهته بأصبع
مقوس فوق حاجبها وبعين مفتوحة وأخرى منكمشة :ليه أن شاء اللـه !! .
ــ عشان بقالى شهرين مانزلتش المصاريف فى الدفاتر ماهو أنا مش مالحق على شغل القهوة
لوحدى ..الليلة كلها على دماغى .
ــ المحروس أ بنى مكبر دماغه وسايقها سرمحة طول الليل والنهار .تدرك أرتباكه :ماشى ياعبده مش
مشكلة وال يهمك يومين كمان مش حيفرقوا ،لكن ورحمة أبويا لو لقيت أى لعب فى الدفاتر وعزة جالل
اللـه ياعبده ألوريك اللى عمرك ماشفته .أستوعب وعيدها وأزدحمت فى رأسه أفكار كثيرة أستعصى
عليه ترتيبها قبل أن يتأهب للرد إال أنه قال بلهجة مترددة فى البداية مالبثت أن أستقامت وهو يعلن
براءته :عيب يافايزة مش عبده الجن اللى تظنى فيه كده ..أنا برضه جوزك وأبو أبنك وأكتر واحد فى
الدنيا يخاف على مصلحتك .
ــ مافيش عيب ياجن واللى بينى وبينك الدفاتر .تخبط على صدره بكفها ثم أردفت :خلى بالك مش
فايزة اللى تأكل من الكالم ده .ضاقت عينيه وأنكمشت مالمحه وتهدل شاربه الذى كان منتفضا من
لحظات ثم ألقى باللقمة التى فى يده على المائدة وتناول كوب ماء شربه حتى أخر قطرة فى قاعه وكأنه
يبتلع به خوفه ثم مسح شاربه بكم جلبابه بينما لم تنصرف نظراتها عنه إال عند سماعها صوت خطوات
منصور قادما من غرفته إلى الصالة ..ظهر مرتديا قميص زهرى وبنطلون جينز أسود وعلى وجهه
مالمح متهالكة موزعا نظراته بين أبوه وأمه قبل أن يعثر على نبرة تصلح لتكون بداية :صباح الخير
ياما .مسحته بنظرة :صباح الخير ياحيلة .ثم تراجعت بجسدها للوراء لتتسع المسافة بينها وبين
المائدة :أنا نمت أمبارح بعد الفجر وبسالمتك ماكنتش شرفت .
ــ على ماشطبت شغل القهوة أنا والوله جمعة كان الفجر شقشق .رماه أبوه بنظرة ركنية وهو يرى فى
وجوده تخفيفا عنه فى حين أدلى منصور برأسه لألرض يستجمع ثقته بعدما حسم أمره وأتخذ قرارا
164
بمفاتحة أمه فى موضوع " نوسة " بعد أن أنهى بروفات أستمرت ليومين كاملين على كيفية مفاتحتها
دون خسائر تلحق به ..هدأ أنفعاله وأستجمع شتات شجاعة هاربة :عايز أتكلم معاكى ياما فى موضوع
كده .قال جملته بنبرة مرتعشة قبل أن تلتفت اليه :أقعد أفطر األول وبعد كده صدعنى بمواضيعك .
برأس منحنية جلس الى جوارها :أيه ده ياما فول وبيض على الريق كده .دحرجت إليه بيضة وناولته
رغيف :هيه الناس بتفطر أيه على الصبح .قام عبده مضطربا :الحمد للـه شبعت .
ــ مش تستنى لما تشوف الحيلة عايز يقولى أيه .تململ فى وقفته وأرتبكت كلماته .ال ياستى أنا
حأتكل على اللـه أشوف أكل عيشى وأنتى مع أبنك تتصرفوا سوا .إال أن منصور قام مذعورا وكأنه
يحاصره :أيه يابا حتبعنى وال أيه .أزاحه بظهر يده هامسا فى أذنه :أن جالك الطوفان !! ..قالها
ورمى نظرة خاطفة بأتجاه فايزة :عن أذنك يافوز ..ردد عبارته وخرج من الصالة تشيعه بمصمصة
من شفتيها :بالسالمة ياسيد المعلمين .رفعت عينيها ألبنها وجذبت يده بشدة :أقعد ياوله مالك واقف
كده ليه زى اللى محصور ميه .نزل بجسده متخشبا كالصنم ،إال إنها وبنظرة خبيرة تشككت فى أمره :
مالك يامنصور فى أيه ..عايز فلوس ياوله ومكسوف .هز رأسه نافيا .
ــ شفت حاجة على أبوك وعايز تقولها لى .قال دون أن ينظر اليها :الحكاية مش كده ياما .
ــ أمال الحكاية أيه ياقلب أمك ؟ تلكأت الكلمات على لسانه :فاكرة الموضوع اللى فاتحتك فيه فى أخر
زيارة فى السجن .ضيقت حاجبيها ومرت بأصبعها على عصابة رأسها تسترجع مايقصده حتى أرتخت
مالمحها ثم أطلقت صهلولة كان لها أثر طيب فى نفسه :ال هو أنت لسه ياوله بتفكر فى حكاية الجواز
دى :كست وجهه عالمات العبط :أيوه ياما وعايز رضاكى .تستدرجه فى أندهاش وحذر :وماله
ياحبيبى ..بس مش تقولى هى مين األول ..أنا أعرفها ؟ هز رأسه باأليجاب .عقدت حاجبيها فى
لهفة :مين ياوله ؟ .
ــ نوسة ياما .أنكمشت جبهتها ولوت رقبتها تبحث فى ذاكرتها :نوسه مين يامنصور .
ــ نوسة بنت الست بدرية اللى ساكنين فى بيتنا فى حارة أبن شكر .تاهت نظرتها فى وجهه لثوان قبل
أن تخبط بكفها صدرها :نوسة بنت بدرية كومبارس .تزحزح من جوارها مرتعدا وبدا صوته
كالمكهرب :هيه ياما .قذفته بنظرة أرف ثم لطمت فخذيها :عايز تتجوز بنت بدرية أم حرأوس
ولبانة ..يافضحتك يافايزة ..تندب وتنوح وظل جسدها المدكوك ينتفض :ضحكت عليك ياأبن
165
الموكوسة يادلدول ياوسخ .ثم راحت كعادتها تلعن وتسب أبوه وتنسب له كل نقيصة تخطر لها على
بال :هو أنت حتجيبه من بره طالع دنى زى اللى جابك ..بتقلده يامنصور بتجرى ورا بنت بدرية زى
ماهو بيجرى ورا النسوان الساكة ..اللــه يخربيتك أنت وهوه فى يوم واحد .أرتج لحمها وهى تنهض
من مكانها فجأة بعد أن تلون وجهها وبدا كمؤخرة قرد :على جثتى ياأبن الكلب ياأهبل ده أنا أفرتكك
بأيديه دول وأفشخك ..بدرية وبنتها ضحكو عليك ولفوا دماغك ياأبو رياله .تراجع منصور بظهره
للوراء رافعا يديه كمالكم يحمى وجهه من ضربة مفاجئة :واللـه أنتى ظالمهم ياما ..بدرية وبنتها مش
زى ماأنتى فاهمة .أزدادت ثورتها وتضاعف حجم صوتها بشكل عجيب فأنخلعت قلوب سكان البيت
على صراخها وهى تتوعد :ورحمة أبويا ألخليك تندم ياأبن النجس أنت والمقاطيع اللى ملموم عليهم .
أنهت وصلتها قبل أن تتأهب لبصقة :أتفوه عليك وعلى أبوك .بينما وثب منصور من مكانه حين شعر
بالبصقة تمأل صفحة وجهه المحلوق فتزيده لمعانا فهز رأسه كرجل سد الماء أذنيه فأطبق فمه وهو
يكشر عن أنياب الغضب العاجز قبل أن يلعن نفسه بال رحمة وهو فى وضع المتأهب للقرار :أنا أستاهل
ضرب الجزمة أنى باخد رأيك ..أنا مش صغير وال بأمص فى صوابعى ..أنا راجل .قالها وأندفع
أندفاعة المخبول يفر من أمامها فتعدو فى أثره وهى تلقى عليه جرعات متتالية من اللعنات :أمشى
ياأبن الكلب ياأهطل ..راجل أيه ياأبو لباس ملون ياوسخ .بينما خرج من باب الشقة يركض وخطف
ثالث درجات من سلم البيت فى وثبة .كان يهرب من أمامها كالكلب المضروب النابح فى حين عادت
فايزة أدراجها بأنفاس الهثة بعد فشل محاولتها فى اللحاق به ..جلست على الكنبة ثم مسحت وجهها
كى تبحث عن هدوء مؤقت وهى تحدث نفسها :بقى الحكاية كده يامنصور ..طب أنا حأعرف أوريك
ياأبن بطنى .
00000000000
فى نفس اللحظة التى فر فيها منصور من قبضة أمه كان عبده قد وصل المقهى ليتسلمه جمعه عند
المدخل يحاصره بتقرير موجز عن طلبات عاجلة :بعد صباح الخير يامعلمى ..البن والينسون يادوب
يكفونا ساعة وكلمت الحاج منعم حيبعتلنا عشر كياس سكر وعندنا كمان دستة كبايات هالك ده
غير ..نفخ عبده كاظما غيظه :أصتبح يافقرىوأصبر عليه شوية وغور جهزلى أصتباحتى .ثم مر من
أمامه متجهما وجمعه فى مكانه متسمرا وعيناه عالقتان فى أفا معلمه :ماشى يامعلمى .
166
سار عبده بجلبابه الواسع وسط طاوالت خالية حتى أقترب من كرسيه وجلس نصف جلسة ثم غلبته
تنهيدة تشى عن هم أستوطن داخله وظل على وضعيته حتى لحق به جمعه بالمطلوب الذى راح يتعامل
مع الشيشة بأقتدار يرفع جمرات النار من هامتها بينما عبده يراقبه قبل أن يدس يده فى جيبه
الفضفاض وأخرج ورقة " السوليفان " ومد جمعه يده دون أن ينظر إليه فأسقط عبده فى اليد الممدودة
القطعة البنية الصغيرة فعالجها على الفور بين أصابعه وهيألها مكانا ورد الجمرات حواليها فى ضربات
خفيفة بطرف الماشة ثم أهاب بالمعلم المتسلطن فوق عرشه الخشبى قبل أن يعتدل فى جلسته :شد
يامعلمى .شحن طاقته وفتح رئتيه يدس بوز الشيشة فى بوزه ثم سحب أنفاسا قصيرة متقطعة أعقبها
بنفس طويل ممتد ثم نفث الدخان من بين شفتيه وطاقتى أنفه فى خيوط كثيفة بينما يتابع جمعه بفخر
انجازه :تمام يامعلمى .
ــ اللـه ينور ياوله .سمعها ورحل متجها خلف النصبة فى حين راح عبده يمشى بنظراته متعقبا دخانه
قبل أن ترتخى شفتيه ويسحب" الالى" من بينهما حين علقت عيناه بوجه أبنه منصور الذى دخل
المقهى بمالمح مهزومة وسار بخطوات متلكئة وهو مطقطق الرأس ناحية والده مالبث أن سحب كرسيا
إلى جواره وجلس منكمشا فى قاع كرسيه بينما دقق أبوه فى مالمحه ثم تجاهله وسحب أنفاسا متالحقة
ثم قال وقد خرجت العبارة المعدة مع الدخان فى وقت واحد :شكلك كده واخد الطريحة التمام .ندت عن
صدره تنهيدة طويلة ثم هز رأسه دون أن يفسر فأحتدت نبرة أبوه :ماتنطق ياوله عملت معاك أيه
الولية ربة السجون دى .
ــ كانت حتاكلنى يابا .أتجه األخير بجسده كله نحوه :ليه ياوله عملتلها أيه ؟ .
ــ فاتحتها فى موضوع نوسة وعليها أتقلب حالها وأتحولت وكانت حتفترسنى .ضحك عبده ضحكة
محتشمة لكنها شامتة :تستاهل عشان أنت عبيط أبن كلب قلتلك أتقل مش وقته دى لسه طالعة من
السجن وهايجة علينا ماسمعتش الكالم وأدى النتيجة .مال برأسه لألرض وهو يهمس همسا يتكسر
على شفتيه :أهو اللى حصل بقى.
ــ وطبعا أنا أتاخدت فى الرجلين وشدت السلخ على أنا كمان .روى منصور تفاصيل مادار بأنفعال
مكتوم بينما ينصت عبده إليه بعين مغمضة وأخرى مفتوحة متحاشيا الدخان المتسرب إليه ثم أزاح
الشيشة من أمامه فاردا ساقيه وبدا مسترخيا يليق بجلبابه البلدى الواسع ثم أردف :ياريت بقى تقفل
على حوارات البت نوسة دى وتكن شوية .قاطعه فى أستنكار :أزاى بس يابا وأنا أديت الناس كلمة
167
وقلتلهم حأفاتح أمى وهمه مستنيين منى أحدد لهم ميعاد عشان نخلص الحكاية .يكبح جماح سخريته :
يابنى ناس مين وكلمة أيه أنت محسسنى أنك حتتقدم لبنت المحافظ الليله كلها نوسة وأمها بدرية
كومبارس ..أسمع كالمى ولم الدور أحسنلك بدل ماأمك تخلص عليك وعليهم أنا أدرى منك بفايزة .
صفعت ه الحقيقة :طب وبعدين يابا العمل أيه ؟ ! قام األخير يلقى عليه نظرة محذرا :ماتعملش حاجة
وقفل على الموضوع ده لغاية مانشوف الدنيا رايحة فين و أتفضل قوم دلوقتى وشوف الوله جمعه
حيقولك على التموين الناقص .أستند على كرسيه وقام كعجوز وشعر بنفسه محاصرا بين سندال أمه
ومطرقة نوسة بأنوثتها المبالغ فيها ومن خلفها أمها التى تلح عليه ليل نهار متذكرا أخر عباراتها التى
تلقاها فى أخر زيارة لهم باألمس التزال معانيها تدق مؤخرة رأسه :لحد كده وكفاية لف ودوران
يامنصور ..عشمتنا أنك حتفاتح أمك وهيه فى السجن وزيارة ورا زيارة ال شفنا حاجة وال حصل حاجة
وآهو ربنا كرمها وخرجت وماعدش لك حجة يبقى األصول يانور عينى أنك تيجى المرة الجاية وأمك فى
أيدك واللى أوله شرط أخره نور .تاه فى كلماتها ونكس رأسه خارجا من باب الشقة قبل أن تندفع خلفه
نوسة تستوقفه وتحجزه بصدرها النافر وخصرها الطرى يالمس بطنه :ماتزعلش من أمى يامنصور
هى خايفة على وكالم الناس بقى كتير وأنت كل يوم والتانى داخل طالع عندنا .أراد أن يظهر غضبا إلى
أنها ناولته جرعة أضافية بعد أن رفعت أصابعها تتحسس شفتيه لتحبس فيهما األنفعال :وبصراحة بقى
أنا محتاجالك أوى ياريت تستعجل وتخلصنى يامنصور .أرتعشت شفتيه خلف أصابعها قبل أن يزيحهم
فبادرت هى بمعالجة رعشتهما بقبلة أتخذت منها نصف دقيقة حتى تالشت الرعشة وأنفجرت فيه نبرة
الحماسة وهو يدلى بتصريحا ناريا :حأفاتح أمى وحأخلص الموضوع كله والمرة الجاية مش حاجى
لوحدى .
000000000000
دخل الليل منذ ساعة وأستقبلته هدى وحيدة فى الصالة بعد أن أتمت بنجاح عملية تطهير شاملة للشقة
قبل أن تعيد للبيت أحشائه التى أخرجتها وأصبح كل ركن فيه شاهدا على مجهود جبار يستحق التقدير
ونالت نصيبها العادل من آالم مبرحة فى الظهر والكتفين وأرتخاء فى األطراف فأستسلمت هامدة
وغاصت فى مقعدها ممددة الرجلين تنتظر وصول أوالدها بين لحظة وأخرى ،مازالت هدى فى البدايات
تتحسس نمط حياتهم تجهل مواعيدهم المعتادة فى الخروج والعودة ،فكان لزاما عليها أن تستقى
معلوماتها عن الوقت والساعة بسؤال متكرر تطرحه على أيات كل فترة حتى أشفقت عليها ولم
168
تجد أمامها فى أخر األمر سوى األدالء ببيان توضيحى :أرتاحى شويه ياهدى لسه بدرى على وصول
والدك ..نورا عندها شغل كتير وبترجع فى حدود الساعة تمانية ويوسف وبسمة تقريبا فى
نفس الميعاد .
ــ همه بيخرجوا من الكلية وبيروحوا يحضروا كورسات مراجعة .كان البيان كافيا ليختفى السؤال الملح
عن الوقت من قاموس أسئلتها .شعرت فى جلستها بأن هناك شيىء يعتصرها ويحدث فى فضاء الصالة
يظهر ويختفى ..ربما قلق أو خوف أو أضطراب ،لم تعرف من أى مكان داخلها يأتى ذلك الهاجس ،إال
أنه رحل سريعا حين تسللت إلى مسامعها همسات موسيقية بدت وكأنها تعيدها إلى حلمها القديم عند
دخولها البيت ألول مرة ،النغمات تأتيها عبر ضربات البيانو الصاعدة بعزف أيات من وراء باب غرفتها
بينما سطوة النغم يجلل المشهد حولها يستدعى عالمها األخر المنفلت منها فى صورة الزوج الراحل
وهى تحيطه بذراعيها أيام سهراتهما فى كازينو" مكسيم " بالمعمورة .بدت ساكنة كالمالك تسترجع كل
لحظة بشرود ثم تنهيها بأبتسامة أو دمعة تترجرج داخل عينيها ،غير أنها قاومت أستغراقها فى
المواقف والذكريات ..أنزلت ساقيها الممددة فى أنتفاضة حين أنصتت لدوران مفتاح فى كالون باب
الشقة ،فتأهبت فى جلستها ترقب ظهور الداخل ..أنتصبت واقفة حين ظهر وجه نورا فتحركت إليها :
حمد اللـه على السالمة ياحبيبتى ..أتأخرتى أوى يانورا .
ــ أل أبدا ياماما هو ده الطبيعى .قالتها بأبتسامة منهكة قبل أن يستوقفها حال البيت فوزعت دهشتها
وهى تحاصرالصالة بنظرات سريعة ثم قطبت وجهها ونمت عالمة أستفهام كبيرة وهى تتجول
بين الغرف تقف عند أعتابها :عملتى كل ده أمتى ياماما ؟ فرت منها أبتسامة ثقة :ياحبييتى ده أنا
هدى عبد الفتاح واألجر على اللـه .رن جرس الباب مع نهاية الجملة فتقدمت إليه هدى بخطوات
واسعة ..فتحته لتواجهها بسمة بذراعين مفتوحين وعينان ضاحكتين ثم عناق ملهوف :وحشتينى أوى
أوى ياهدهد .لم تكمل ديباجة المقدمة عندها أقتربت منها نورا :كل ده تأخير يابسمة معقولة فى
مراجعات لغاية دلوقتى .لم تستسيغ الجملة ومرت بجوارها دون رد قبل أن تتسمر عند حدود الصالة :
أوه ..واو ..أيه األنقالب الفظيع ده ..ده أنتى عاملة شغل جامد أوى ياماما .
ــ ولسه أنا نويت كل يوم أعمل حاجة لغاية ماأرجع البيت ده زى ماكان .
169
ــ ياهدهد ياعظيم ده أحنا ربنا حيكرمنا آخر كرم .بأداء عصبى قاطعت نورا :سيبك من الرغى الكتير
ده وأدخلى غيرى هدومك عشان نأكل .
ــ يوسف جاى حاال ياماما .لم تبرد جملتها إال وفتح يوسف باب الشقة على ضحكة ساخرة منها :
ياريتنا أفتكرنا خمسة جنيه .لم يخف دهشته مثل سابقيه :أيه جو النضافة ده .قالها وأغمض عينيه
قبل أن تتسع فتحتى أنفه يتشمم ثم نظر فى وجه أمه التى طمأنته بأبتسامة :أيوه ياحبيبى دى ريحة
الملوخية اللى أنت طلبتها .
ــ ياسالم على قلب األم وتقليتها قصدى وحنيتها .رمى بمذكرتين كان يحملهما على منضدة األنتريه
وأقترب منها ساحبا يدها ليطبع قبلة :ربنا مايحرمنى منك والمن أكلك .أبتسمت ثم أتجهت للمطبخ
تحمل معها كلمات األعجاب واألشادة قبل أن تردد على مسامعهم :ياريت تغيروا هدومكم بسرعة
وأستنونى على السفرة واألكل حيكون جاهز حاال .راقبتها نورا حتى أختفى ظهرها من الصالة :ماما
شكلها كده عايزة تعوض التسع سنين فى تسع تيام .ثم أنسحبت إلى غرفتها تتبعها بسمة :واللـه ماما
دى ماحصلتش نضفت البيت ده كله لوحدها وكمان جهزتلنا األكل ..سبحان اللـه .وقبل أن يبلغ يوسف
باب غرفته أصدر نداءا :أنا حأغير هدومى بسرعة ..أنا ميت من الجوع .
فى المطبخ خاضت هدى سباقا محموما مع الحلل واألطباق قبل أن تبدأ رحلة مكوكية من المطبخ إلى
المائدة تضع أصنافها بعناية تزامنا مع خروج أهل البيت تباعا من مكمنهم رافعين راية الزحف بأتجاه
المائدة حتى أكتمل النصاب القانونى عدا نعمة التى التزال فى منتصف المسافة الفاصلة عن موقع
الوليمة تجاهد للوصول وهى تراقب هدى التى تخطتها حاملة سلطانية ملوخية فاحت رائحتها كقنبلة
غاز مثير لألعصاب كان مكانها محجوزا بين أطباق األرز ثم أدارت ظهرها للمرة األخيرة بأتجاه المطبخ
ألحضار الديك من موقعه فى نار جهنم داخل الفرن قبل أن تتحاشى فى طريقها األصطدام بنعمة :
ماتشدى حيلك شوية يانعمة األكل بقى جاهز .تحمست وزادت سرعتها فى المتر األخير حتى وصلت
بسالمة اللـه وجرت كرسيا مجاورا أليات التى ساعدتها فى الجلوس لحظة وصول هدى بجثة الديك التى
زينت به وسط المائدة فأشرأبت أعناقهم وتزاحمت عليه األبصار ليكتمل أنسجام المشهد مع الملوخية
واألرز والشوربة فى حين أتخذ األمر من المتحلقين حول المائدة لحظات قبل أن تصلهم أشارة البدء
على لسان هدى :ياله ياحبايبى بالهنا والشفا وعايزة أسمع رأيكم .أنهت جملتها ثم أنقضت بيدها على
170
جثة الراحل الممددة فى السرفيس فشدت وركه فأنخلع من مكانه وقدمته ليوسف قبل أن تجهز على
بقيته حتى فككت أجزاءه ووزعتها بينما مالت بسمة تهمس فى أذن أخوها :من حقك الورك ماهو أنت
دكر البيت .
ــ عندك شك فى الموضوع ده .عشر دقائق تجمد فيها الزمن وأصبح الشيىء مهم ،فاألهم هى
ماتطاله األيدى من داخل األطباق .لم تصل لهدى حتى تلك اللحظة أى عبارة تقدير أو كلمة شكر فحالة
التركيز تمنع مثل تلك األمور بينما عملية الطحن والبلع تسير بنجاح داخل األفواه وأن هدأت حدتها
نسبيا حين قارب السباق على األنتهاء ،حتى نعمة أثبتت جدارة على " التراك " وان كانت ال تملك من
األدوات غير سنتين فى األمام وأربع ضروس خلفية فى حين بدت هدى فى جلستها كملكة على عرشها
يكفيها القليل وهى تنقل نظراتها بينهم كرادار مراقبة ..أخيرا شعرت بنفسها تجتاز أختبارا صعبا عندما
الحت بشاير النجاح حين جفت سلطانية الملوخية وبان قاعها األبيض وتناثرت عظام الديك حول أطراف
المائدة ..هدأت األنفاس وتباطأت حركة األيادى حتى تراجعت الرؤوس وتقدمت البطون ..اآلن فقط
حان وقت المديح فأستهل يوسف :بصراحة الواحد مش عارف يقولك أيه غير ربنا يخليكى لنا ياست
الكل .توالت بعدها عبارات التأييد واالشادة وكأنه أستفتاء يعيدها بقوة ألعتالء العرش من جديد بينما
رفعت بسمة عينيها عن المائدة صوب أمها وهى تتحسس بطنها :الحمد للـه أول مرة أحس أنى أكلت
بجد .لم تمر تلك الجملة دون تعقيب من نورا :والسنين اللى فاتت دى كلها ماكنتيش بتاكلى وال أيه ..
أمال بقيتى كده بغلة أزاى .لم تعلق سوى بابتسامة حذرة قبل أن تدلى بخبر :عم نوح قابلنى وأنا جاية
وبلغنى أن الخواجة كرم وعمو خيرى وشريف جايين يوم الخميس عندنا عشان يسلموا على ماما .
أضافت نورا فى أفتضاب :ومدام زيزيت كمان جاية معاهم .أبتسامة عريضة وهى تلملم أطباقها :أهال
وسهال بيهم فى أى وقت ومن غير أستئذان ده أنا حتى من يوم مارجعت ماشفتش حد فيهم .
ــ همه مقدرين ظروفك وسابوكى ترتاحى يومين .قال يوسف فى حين عقبت أيات :وع العموم البيت
دلوقتى بقى زى الفل ويشرف .
ــ المهم أن ماما محتاجة شوية هدوم أو على األقل طقم تلبسه تستقبل بيه الناس .كانت تلك مالحظة
مهمة من بسمة .أستفزت نعمة :نورا تجهزلها بدل الطقم عشرة .عقبت بنبرة جافة :أغسل أيديه من
األكل وأبقى أخد مقاساتك وبكرة أشوفلك حتة قماش فى األتيليه أعملهالك فستان .مالت بسمة بصدرها
عند حافة المائدة :وأنا عن نفسى حأخد ماما بكرة أنقيلها شوز وأجيبلها شوية حاجات داخلية .
171
ــ كل القلق ده عشان زيارة الجيران ..فركت أيات يديها :دول مش أى جيران يايوسف دول والد
األصول اللى بقو زى حتة الدهب وسط كوم صفيح ! ..ساخرة كعادتها بسمة :دهب أيه وصفيح أيه
ياعمتى دول يادوب يتعدوا على الصوابع وقريب أوى حينقرضوا .تنويه ساخر قابلته نورا بأسترخاء :
ليه بس يافقرية .
ــ مش هيه دى الحقيقة ..عندك مدام زيزيت عايشة لوحدها ومقطوعة من شجرة والخواجة كرم شبها
وعندك عمو خيرى يادوب ماحيلتهوش غير شريف والتانى مهاجر ..أدى ياستى سكان العمارة الطويلة
العريضة حتى عم نوح حاله من حال السكان عايش بطوله مع مراته العيانة .مدت هدى رأسها :
البركة بقى فى الجيل بتاعكم هو اللى حيعمر المكان وحيحييه من جديد لما تتجوزوا وتملوه عيال ..هى
دى سنة الحياة .لم تستطع بسمة حبس ضحكة منفلتة :جيل أيه بس ياماما ..العمارة كلها مافيهاش
غير جوزين بس من الجيل اللى بتقولى عليه ده منهم جوز على شمالك أنا ويوسف وعلى يمينك فى
فردة من الجوز التانى األنسة نورا والفردة التانية شريف وده بقى تسألى عنه األنسة وهى تفيدك .
بينما أفصح يوسف عن معلومة :شريف قابلنى أمبارح وأشتكالى منك يانورا وبيقولى أنك بقيتى أخر
طناش معاه ومكبرة دماغك .أحتدت نبرتها :خليك فى حالك يايوسف .هز رأسه وأبتلعها دون تعليق ..
فى محاولة للفهم أرادت هدى أن تستفسر ،إال أنها قررت أن تنهى اليوم على هذا الحال دون توترات :
قومى معايا يابسمة نشيل األطباق .
ــ حاضر يا ماما .ظلت نورا فى مكانها تتأمل أمها وكأنها تستوعب شيئا تحاول فهمه أو وضع جديد
تحاول هضمه .
فى مساء اليوم التالى تأهبت بسمة للخروج مع أمها وكعادتها لم تستهلك وقتا طويال فى تبديل مالبسها،
دائما ما تضع نفسها فى قالب سهل من المالبس البسيطة اليخرج عادة عن بنطلون جينز وتيشرت مع
ماكياج خفيف بينما لم يكن الحال سهال بالنسبة لهدى التى تربعت فوق سريرها بقميصها الداخلى تقيس
ماتبقى من مالبسها القديمة التى أستدعتها من جوف خزانتها وكومتها أمامها وصارت الحول لها
والقوة ،البلوزات والفساتين ضاقت عليها وضاقت بها وحتما ستحال لصندوق الذكريات .شعرت أن
شيئا قد أمتلكته قد ضاع منها ،تمنت لوأن تخرج مع بسمة بشيىء جديد ،فتدخلت األخيرة وعثرت لها
على حل سريع يفى بالغرض مؤقتا حين أستعارت لها بلوزة وبنطلون واسع من الفخدين حتى الساقين
172
من دوالب نورا لكنه كان ضيقا عليها عند الخصر ..عاونتها بسمة فى تبديل مالبسها وحبست لها
أزرار البلوزة فى عروته وشدت لها الكم وهى ترسل لها أبتسامة :أيه القمر ده اللى واقف قدامى .
ــ راحت على مين ياقمر طب واللـه أنت أخرك بالكتير تالتين سنة .ضحكة مصحوبة بحالة معنوية
مرتفعة وهى ترد شعرها للوراء بفعل فرشاة تحت أشراف أبنتها :سيبك منى المهم أنتى ياحبيبتى أنا
نفسى ومنى عينى ييجى اليوم اللى ألبسك وأهندمك بأيديه وأسلمك لصاحب النصيب .أبتسمت وهى
تفتح حقيبة يديها تسحب منها زجاجة برفان مكورة باغتت بها أمها برشة حول العنق وتحت األبطين :
صاحب النصيب ياماما حيتخرج كمان شهرين بس مشكلته عويصة أوى ..ماعندهوش كاش .أدارت
لها هدى ظهرها لتواجهها من خالل المرآة :تقصدى أمجد .
ــ هو فى غيره ياماما ..مش أنا كل زيارة كنت بأحكيلك كل حاجة .
ــ طبعا ..بس يمكن فيه شوية تفاصيل كنت بأعديها عشان يوسف كان دايما قاعد وسطينا .واصلت
هدى تعقيبها وهى تخرج من الغرفة تتبعها أبنتها :ع العموم مادام هو كويس وأبن حالل أنا ماعنديش
مانع ياحبيبتى .توقفت قبل أن تصل إلى باب الشقة :المشكلة مش فيكى ياماما .
ــ ياريت ..المشكلة فى نورا ..كل ماأتكلم معاها عن أمجد وأجيب سيرته تكشر فى وشى وتقولى أنا
مش مرتاحة له ده مالهوش مستقبل والحكاية مش ناقصة فقر ،صمتت هدى ولم تعلق وهى تكتشف
يوما بعد يوم حجم نورا الحقيقى داخل كيان البيت .
رفضت هدى ركوب المصعد وأستعملت السلم ،أرادت إال تلفت أنتباه أيا من سكان العمارة وفضلت
الخروج المتخفى السريع ..شعور يتنامى داخلها بالحرج ،ربما من هيئتها أو من لقاء مباشر مع أحد
من الجيران دون تمهيد مسبق قبل أن تستعيد توازنها .خرجت من مدخل العمارة بخطوات مرتبكة
خجولة تكاد تدفس نفسها فى جسد أبنتها التى بادرت بتهدأتها :خليكى طبيعية ياماما ..مالك ماشية
173
خايفة ليه ؟ .أدلت برأسها لألرض :أعذرينى يابسمة دى أول مرة من تسع سنين أمشى على أسفلت
غير أسفلت السجن ..حاسة كده زى ما تكون الشوارع بقت واسعة أوى .
ــ أنسى بقى قصة السجن دى وخليكى بنت النهاردة وأمشى كده فاردة طولك ،ده أنا ناويه النهاردة
ألففك لف وحأجيبلك شوية حاجات حتخليكى ترجعى زى زمان فاتنة العمارة ..أبتسامة خجولة قبل أن
يتردد على شفتيها تساؤل :هو أنتى معاكى فلوس يابسمة .
ــ ماتقلقيش نورا أديتنى بالزيادة .هزت رأسها ولم تتمكن من التعقيب حين فاجأها مشهد ميدان محطة
الرمل بحركته المرورية المضطربة وأختالط اللحم البشرى بصاج السيارات يزاحمهما عربات اليد
المتجولة وسط رائحة العوادم والعرق بينما الليل يتخلل كل تفاصيل المشهد فى حين هدى وبسمة تشقان
طريقهما وسط الخلق تهربان من الزحام ونظرات العيون الجوفاء والوجوه المجهدة والخطى المتسكعة
المتعبة .
أستقبلت هدى تلك الصورة بمالمح شرهة تنم عن رغبة عارمة فى ملء عينيها بتفاصيل الدنيا .جعلها
تتلكأ فى مشيتها وتتوقف بنظرات مشدوهة ناحية العمارات الضخمة التى ظهرت فجأة ،كما أستوقفها
كم البشر المتكتل فى الشوارع فطرحت سؤاال ساذجا :هو النهاردة فى مناسبة وال أيه .بدون أكتراث :
الزحمة دى بقت كل يوم ..الشوارع ضاقت على الناس .لم تقتنع ومدت يدها تشد على ذراع أبنتها
خوفا من الضياع فى المتاهة والفوضى بينما عينيها تتطلع فى مالمح الخلق المهمومة تتفرس فى
الوجوه بدهشة طفل ثم تنقل نظراتها لواجهات المحالت ونوافذ العرض المزدحمة ببضائع تشى بتدنى
الذوق بينما اليخلو المشهد كله داخل المحالت من ضجيج تعلوه كلمات المساومة ويشوبه أحيانا تعليق
ماجن ..وقفتا أمام محل ضيق لبيع األحذية وأوليتا الناس ظهريهما حين لمحت بسمة حذاء أسود بكعب
عالى داخل محبسه فى الفاترينة ،عاينته وفحصته جيدا بعينيها ثم قالت :أيه رأيك فى الشوز األسود
ده .لم تجيبها بدت شاردة تندس بنظراتها فى كل زحام ،غير أنها أستعادت وعيها على صوت أبنتها :
ركزى معايا شوية ياماما وبصى على الشوز األسود ده .منحته نظرة طويلة ثم أبتسامة :جميل أوى .
بينما صاحب المحل فى تلك اللحظة يرصدهما بنظراته المترقبة حتى دخلتا وأنحشرتا فى أحد أركانه قبل
أن تشير له وتوجهه لموقع الحذاء فتناولته من يده وقلبته بسمة بين أصابعها بالتبادل مع أمها .دقائق
وخرجتا من المحل بصحبة الحذاء بعد سداد مائة وخمسة وخمسون جنيها بينما أنتاب هدى فرح
طفولى أستوطن مالمحها ،أصبحت الدنيا األن فى نظرها غير الدنيا وكل شيىء فيها أخذ لونا جديدا
174
يبتسم فى عينيها ولوال خوفها من أن يظن بها المارة الجنون لغنت متجاوبة مع أحاسيس الحرية
غيرأنها ترجمت حالتها بعبارة عفوية :أنا فرحانة أوى يابسمة حاسة كده كأنى رجعت عشرين سنة
لورا .تمضيان فى شارع صفية زغلول بأتجاه منطقة المنشية :الفرحة دى كلها عشان حتة جزمة .
ــ ال ياحبيبتى مش حكاية جزمة ،الحرية حلوة يابنتى وكفاية أنى ماشية جنبك وفى وسط الناس وده
بالنسبة لواحدة زيى كأنها معجزة كنت من كام يوم ست مسجونة ولسه قدامها كام سنة على الخروج ..
حكمة ربنا فوق كل شيىء .
ــ ياأمى ياحبيبتى أنا قلتلك أنسى بقى اللى فات .
ــ ماشى يابسمة حأنسى بس فهمينى أحنا رايحين على فين .
ــ حأعزمك على سندوتشات كفتة تحلفى بيها .أبطأت خطوتها :بس أحنا كده حنتأخر .
ــ عندك حق ياهدى .قالتها ووقفت ثم مالبثت أن فتحت شنطتها وسحبت من داخلها الموبايل :وأدى
ياستى الموبايل كمان حنقفله قبل نورا ما تتصل وتعملنا حكاية وتستعجلنا .ظهر عليها القلق :نورا كده
حتزعل وحتعمل مشكلة .
ــ كبرى دماغك ياماما نورا من غير حاجة زعالنة على طول ومتنشتة وعصبيتها اليومين دول زادت
أوى .سارتا بتمهل ..تعيد هدى صياغة سؤالها :أنا حاسة كده أن نورا أتغيرت وماعدتش زى األول .
ــ من يوم مارجعت البيت لغاية دلوقتى ماحاولتش تقعد معايا تحكيلى والتفضفضلى وبصراحة أنا مش
فاهمة أيه السبب .قالت جملتها وشمل الحزن وجهها بينما شدت بسمة عنقها لترتفع بنظراتها فوق
الرؤوس الممتدة بطول الرصيف حين بات مطعم الجمهورية فى مرمى البصر :نورا طيبة وبتخاف
علينا وكل طلباتنا بتحاول توفرها لنا بس الضغوط والظروف بتخليها جافة شوية فى التعامل .
ــ ضغوط أيه يابسمة .قالت عبارتها بصوت عالى حين زاد الضجيج حولها ونفير السيارات يصم
األذان ورائحة الكفتة تقتحم االنوف مصدرها مطعم الجمهورية التى أحاطت بمدخله جمهرة من الزبائن :
ماتنسيش أنها مسئولة عن البيت كله من أوله آلخره وبعدين مصاريفنا بقت كتير أوى ياماما .
175
ــ عندك حق كتر خيرها فعال واحدة غيرها كانت فكرت فى نفسها وفى مصلحتها .ثم أطرقت رأسها قبل
أن تعاود :لكن فهمينى هو أيه اللى حصل بينها وبين شريف شايفاها كده متغيرة من ناحيته .بأداء
سريع حين أقتربت من الجمهرة :خلينا دلوقتى فى سندوتشات الكفته وبعد كده حأقولك كل حاجة .ثم
سحبتها من يدها ونحتها جانبا :أستنينى هنا على جنب وأنا حأعيش مع الزحمة دى .أطاعت األمر
وبدت كصندوق األمانات بعد ما تسلمت منها شنطتها وكيس الحذاء ..أقتحمت بسمة دائرة الزحام
مستفيدة من لياقتها وليونة جسدها وهى تتلوى بين األجساد كالدودة حتى تصدرت المشهد وصارت
وجها لوجه أمام البائع بينما أمها الزالت تبحث عنها من خالل زاويتها .عشر دقائق وخرجت كما دخلت
بنفس األداء محملة بكيس عليه شعار مطعم " الجمهورية " وعيناها مركزتان تجاه أمها التى أستقبلتها
بضحكة وتعليق :يابنت العفاريت ده أنت خلصتى نفسك بسرعة .فتحت الكيس ومدت يدها تسحب
سندوتشا :عيب ياماما ده أنا متدربة على األفالم دى ..أمسكى وكلى وقوليلى رأيك .قضمة صغيرة
أستساغت طعمها فتبعتها بأخرى كبيرة وهى تردد بحشرجة :طعمها حلو باين عليها لحمة بلدى.خطوات
متسكعة وكأنهما صعلوكتان بال هدف ،ثم أعادت تكرار نفس السؤال :أحكيلى بقى حكاية نورا مع
شريف .قالت بصوت غير مؤهل لخروج نبرة نقية حيث التزال الكفتة فى مرحلة الطحن بين الفكين :
الحكاية ببساطة ياستى أن نورا عمرها ماحتتغير من ناحية شريف أبدا مش عشان هيه بتحبه من
صغرها ..أل ياماما الحكاية أكبر من كده بكتير ،شريف بالنسبة لها حتة منها يعنى زى ماتقولى كده
مزروع جواها وقريب منها لدرجة ماحدش يتصورها ..شريف هو الفرحة الوحيدة والحاجة الحلوة اللى
فى حياتها من يوم ماأنتى مشيتى من البيت ورحتى اللى مايتسمى ،كان هو النور الوحيد فى األيام
السودة اللى شفناها فى األول ،كانت تصرفاته معانا كلها رجولة وأكبر من سنه وكفايه أنه هو اللى
شجع باباه يقف معانا ويساعدنا فى الدروس وهو اللى خلى الخواجة كرم ياخدنا معاه كل جمعه نصطاد
وعمرى ماحأنسى ياماما لما كان يحوش من مصروفه وهو فى الكلية عشان يجيب لنورا شوز
وال تيشرت حتى أدوات المدرسة بتاعة كل سنة كان الزم يجبهالى أنا ويوسف ولما كان أخوه نادر
يبعتله فلوس من أمريكا عارفة كان بيعمل معانا أيه .كانت ساهمة تستغرب تلك المثالية :عمل أيه ؟!.
ــ أشترى ليوسف تالت أطقم أخر شياكة عشان دخول الجامعة .حكت بأصبعها مؤخرة رأسها :أنتى
كده قلقتينى يابسمة ..بقى الرجولة والشهامة يبقى جزاءها المعاملة الجافة دى ونكران الجميل .طب
أزاى .كانت قد أنتهت من أكل السندوتشات وحوطت فمها بمنديل تمسح ركنيه :عايزة الصراحة ياماما
176
األمور كلها أتغيرت وأتشقلبت لما نورا أشتغلت عند زيزيت فى األتيليه و بقى وقتها مشغول وضيق
لدرجة أنها بطلت حتى تتصل بيه غير فين وفين .
ــ كالم مايدخلش الدماغ يعنى أى حد يشتغل ينسى الناس اللى بيحبهم ويتخلى عنهم .
ــ واللـه هو ده اللى حصل ياماما وأحتمال تكون نورا أتغيرت لمابقت الكل فى الكل فى األتيليه ومرتبها
بقى بسم اللـه ماشاء اللـه كبير والدنيا زهزهت معاها وبقى شريف مش مهم فى حياتها وهيه ماعدتش
زى األول وماتسألنيش ليه ؟ ..سكتت لحظة ثم أردفت :ساعات كتيرة بأبقى مش فاهمة نورا بتفكر
أزاى أو عايزة أيه بالظبط .سحبت نفسا ثم قالت فى تعجب :المفروض أنك عايشة معاها ليل ونهار
وأنا عارفة أنها مابتخبيش عنك أى حاجة .
ــ صدقينى ياماما فى تصرفات كتيرة بأبقى مش قادرة أفهمها زى تصرفاتها مع شريف فجأة تقلب
عليه وتهرب منه من غير سبب وفجأة برضه تالقيها بتحبه أوى وتكلمه فى اليوم عشرين مرة .أطلقت
هدى ضحكة ساخرة :يعنى أنا كمان شربت من نفس الكاس اللى شرب منه شريف قاطعتنى وبطلت
تزورنى فجأة ومن غير سبب .لم تعثر على أجابة شافية :كبرى دماغك ياماما هى دى نورا ..ظهر
التعب على خطوات هدى وتخلفت عن بسمة مسافة متر قبل أن تلتفت اليها األخيرة :شدى حيلك شويه
ياماما أحنا قربنا على منعم .أنكمشت مالمحها :منعم مين ؟ .
ــ ده الكوافير بتاعى أنا ونورا .تجر قدميها :هو أنتى محتاجة كوافير ده أنتى زى القمر .
ــ مش عشانى المرة دى ..ده عشانك أنت ياجميل .مرت بيدها على شعرها وبشرتها :أنا يابسمة.
ــ أيوه أنتى ياماما ده أنا ناوية أخليكى قنبلة العمارة .لمعت تلك الجملة فى رأسها وتوجهت تتبعها دون
تعليق وبدت مستسلمة وظلت صامتةإلى أن وصلتا عند تقاطع شارع الفلكى مع شارع السلطان حسين
حين أشارت لها بسمة :هو ده منعم الكوافير .أجتازت عتبة المحل .
ــ أيه النور ده كله .كانت تلك أول كلمات منعم حين دخلت بسمة ومن خلفها هدى ،فصافحته بحرارة
قبل أن تبادره بجملة أستباقية :الزيارة دى مش عشانى ..دى للمزة اللى ورايا .أنحرف برأسه يمينا :
أهال وسهال شرفتينا يامدام .تنويه البد منه وهى تقربها لجوارها :أوال دى ماما وعندنا بكرة مناسبة ..
يعنى تستلمها منى بوضعها ده وتسلمهالى بالكتير أوى بنت عشرين سنة .رماها بنظرة لطيفة مثل
177
صوته :ماتشغليش بالك مامتك جمالها ربانى وشوية الشغل اللى حأعملهم حيخلوها ماحصلتش .
تسلمها برقة وأجلسها على الكرسى الضخم حتى أرتخى جسدها المنهك وتركت له شعرها ووجهها
وديعة بين أصابعه .صال وجال حولها كراقص باليه يصفف ويرسم وينحت بينما فى الخلفية جلست
بسمة كمراقب جودة ال تتأخر عن تقديم نفحة مديح كلما أنهى جزءا بنجاح :اللـه على أيدك يامنعم
يافنان .
ــ مرسى .أتخذ العمل منه مايقرب من ساعة وربع حتى أنحسرت عن وجهها تفاصيل السنوات
الكبيسة ورحلت غير مأسوفه عليها ،وعندما قرر منعم األفراج عنها بكفالة مائتين جنيها شملت
تصفيف الشعر وصبغه وتنظيف الوجه ورسم الحواجب خرجت هدى لجماهير شارع الفلكى أمرأة مثيرة
تلتهمها العيون المتفحصة التى أثارت فرحة بسمة :شايفة ياماما الناس حتاكلك بعينيها واللـه أنا
مامصدقة نفسى أنتى بقيتى واحدة تانية خالص بالظبط شبه ممثالت المسلسل التركى .
ــ طب خلصينا يابسمة أحنا أتأخرنا أوى .أتجهتا بخطى سريعة للمنزل وقد دب فيهما نشاط غلب
عليه طابع المرح وخاصة هدى التى شعرت بأنه قد عادلها نوع فريد من األرتباط ببسمة ..أرتباط غير
مشروط ..محبة تتجاهل كل ماحدث فى حياتهما معا من فراق ألما بها ..شجعتها بسمة بماتملكه من
براءتها القديمة وأندفاعها السهل للحياة .
مع دقة الثا نية عشر منتصف الليل فتحت بسمة باب الشقة ..التلفزيون فقط كان يضيىء الصالة
ويعكس نوره ..مالمح منفعلة تسكن وجه نورا المتصلبة فى جلستها قبل أن تنتفض من مكانها متجهة
ناحيتهما فأستعدت لها بسمة بأبتسامة مرتعشة بينما توارت هدى خلف ظهرها بحجة غلق الباب .
أقتربت منها بعصبية بعد أن ضغطت على زر النور فأضاءت النجفة كشافاتها ففضحت مالمحها التى
كساها الغضب قبل أن تنفث جزء منه فى شكل سؤال أجبارى منفعل :كنتو فين لغاية دلوقتى وسيادتك
قافلة الموبايل ليه ؟ .قبل أن تسترجع أنفاسها من صعود السلم :لفيت شوية أنا وماما أشتريت لها
جزمة وأكلنا سندوتشات وبعد كده عدينا على منعم الكوافير .تحولت بعينيها تعاين رأس أمها فى
غضب :ماينفعش الكالم ده ياماما أحنا هنا لنا نظام ماشيين عليه من سنين وماينفعش نغيره .ثم نقلت
بصرها ألختها متوعدة :من أمتى بتقضى الوقت ده كله بره البيت ..هو أيه اللى جد علينا أنا عايزة
أفهم :كانت طريقتها فى نطق السؤال صاعقة وموحية بينما ظلت هدى صامتة تقف بال حيلة وأدلت
رأسها لألرض بعدما ولت عنها عالمات الفرح وأحتلها نوع ثقيل من أحاسيس غريبة لم تعرفها من قبل
178
إال أنها حاولت تلطيف األجواء :خالص يانورا حصل خير .لم تتخلص بعد من عصبيتها :أل مش خير
ياماما ..يعنى أنا أفضل قاعدة مستنية ودماغى عمالة تجيب وتودى والقلق حياكلنى وتقولى خير ..ثم
وجهت غضبها فى وجه أختها :الموضوع ده مايتكررش تانى يابسمة وياريت ياماما لوسمحتى تمشى
على نظامنا .حاولت هدى تجاهل كلماتها فأخذت تدعك ذراعيها لتمنح نفسها بعض الهدوء .
خرج يوسف مذعورا من غرفته بشورت يحاذى ركبته وفانلة زرقاء سواريه على صوت أخته المنفعل
وكعادته بسط األمور وهونها قدر أستطاعته بعد أن سمع من نورا وجهة نظرها فحاول أن يبدو منطقيا
ومقنعا وغير منحاز بالرغم من جو األرهاب التى تمارسه نورا :طب أهدى شوية يانورا وأسمعينى ..
ماما الغلط مش عليها بسمة كان الزم على األقل تتصل تطمنك .الزالت فى نبرتها سلطة حائرة أتقنت
أدائها :أنا لغاية دلوقتى مش قادرة أفهم أزاى قدرتى تسيبينى الوقت ده كله قلقانة ومتوترة ثم ختمت
جملتها بمالمح مستائة وأندفعت إلى غرفتها وأوصدت بابها فى وجه الجميع بينما نظرت بسمة ألمها
والمت نفسها بشدة ومطت شفتيها أسفا :معلش ياماما ماتزعليش منها هيه دايما بتبقى عصبية لما
بتقلق علينا .أما هدى فى تلك اللحظة كان فى وسعها أن تحتوى المشهد كله فى ذاتها وهى تستشعر
مذاق المغلوب على أمره غير أنها لم تترجم شعورها إلى أحتجاج :ماحصلش حاجة ياوالد ونورا عندها
حق .أقترب يوسف منها محاوال تغيير الموضوع ،لكن بسمة أرادت منه أجابة على سؤال خرج منها
بنبرة غاضبة :يعنى أنت يرضيك اللى نورا عملته ده وبعدين هو أنا أتأخرت مع مين ..مش مع ماما ؟ّ.
لم يرد بأجابة قاطعة لكن شيئا فشيئا أخذت أرادته تتوارى ومنطقه يتخلخل وأصبح رأيه حبيس صدره :
خالص بقى يابسمة ماتعيديش وتزيدى شوية نرفذة وراحوا لحالهم .تركتهما هدى يتجادالن وأتجهت
إ لى غرفتها تحمل كيس الحذاء .أحست بأنها تخسر هيبتها ..هذه المرة كان لوجومها سبب آخر
تتحاشى أن تظهره حتى لنفسها .يتسرب إليها ويأخذها الى خوف مستتر ،لم تلتبس األمور عندها
مثلما هى األن .
الفصل السادس
البيت المشهود له بالهدوء والسكون أصبح أكثر صخبا وتحول ليل الصالة والصالون إلى بقعة من النور
الفاضح لكل شبر فيهما بفعل كشافات تسكن فوانيس ذهبية داخل نجفتين عتيقتين مدعومتان بأضاءة
179
منبعثة من أسبوتات مدفونة فى أطراف السقف بينما صوت الموسيقى الهادر يخرج متبجحا من جهاز
كمبيوتر فى غرفة يوسف موصول بسماعتين قاما بعملهما على أحسن مايكون ونجحتا فى خدش حياء
المنزل التى أستنكرتها أيات بتأفف صامت وقلقلة فى جلستها وكأنها أكالن ينهش مؤخرتها الملتصقة
بكرسى الصالون وهى تتابع صوت " ناسى عجرم " المايع بأنتفاضة تصدرعنها كل دقيقة :وطى
الزفت ده شوية يابسمة .خرجت األخيرة من غرفتها كى تضمن وصول صوتها من خالل الصخب :
ياعمتى ياحبيتى فى ضيوف جايين دلوقتى عشان يباركوا لماما ..يعنى ماينفعش يسمعوا المزيكا
بتاعتك .تلقت أذنيها التوضيح فأشاحت بوجهها فى أرف وهى تحدث نفسها :بقالى ساعة البسة
وقاعدة فى مكانى ال فيه حد جه وال حد عبرنا لغاية دلوقتى .أنتاب الساكنين فى المنزل أحاسيس
متفاوتة حيال تلك اللحظات وإن كانت حالة الرضا هى المسيطرة بعدما تملكهم شعورا حماسيا بعودتهم
إلى بؤرة األهتمام من جديد وبدى لهم أن الحدث له أهمية خاصة ،لذا كان األستعداد جادا فى غرفة
نورا التى أظهرت جدية وأهتماما بدت واضحة فى تسريحة شعرها الجديدة وحرصها على أن تبدو
بمكياج مناسب ..وقفت متأنية أمام المرآه تستهل البداية برفع الرموش المرتخية لتقلبها ألعلى فى
أنحناءة بفعل " ماسكرة " كان لها فعل السحر فى ظهور شكل العين براقا ومثيرا ثم مرت على الخدين
قبل أن تتوقف يدها حين تبادلت النظرات مع أختها من خالل المرآة التى كانت فى كامل الجاهزية
للخروج إلى الصالون :صبع الروج الفاتح اللى كان هنا راح فين يابسمة .أقتربت من خلفها وهى
تتمايل كبندول الساعة :مش عارفة يانورا .واجهتها بنفخة ولم تعقب بينما أنفرج وجه بسمة عن
أبتسامة مكر :ماسكرة فى العين وكريم أساس وشعرنا نازل على الكتفين وكمان بندور على صبع روج ..
كل ده عشان خاطر زيزيت جاية وال عشان الخواجة كرم وعمو خيرى .أزاحتها من طريقها قبل أن تجلس
على طرف السرير تنتعل حذاءها :أل وأنتى الصادقة ده عِشان عم نوح .لم تجد بسمة أداءا يصلح سوى
" الغتاتة " :الشياكة دى بتقول أن شريف أكيد جاى مع عمو خيرى ..صح وال أنا غلطانة ؟! وقفت
وعدلت من وضع جيبتها السوداء لتحاذى مستوى ركبتيها قبل أن تضع ذراعيها داخل بلوزة " روز"
رقيقة أضفت عليها جماال كالسيكيا من طراز " سعاد حسنى " :ماعنديش فكرة أن كان جاى وال أل .لم
تستطع اختها مقاومة جملة أعتراضية :واللـه شريف ده ماحصلش وماعدش موجود منه دلوقتى كفاية
رجولته وأخالقه وكتر خيره أنه متحمل نرفذتك وعصبيتك و ياريت النهاردة تبقى لطيفة معاه وماتحاوليش
تضايقيه ..شريف بيحبك أوى يانورا .لم تتلق ردا سوى نظرة مترددة ،فأنهت كالمها و خرجت من
الغرفة وأغلقت الباب خلفها .بينما دارت نورا بعينيها كأنما تبحث عن رد إال إنها لم تجد سوى نفس
180
الكلمات التى دائما ماترددها بينها وبين نفسها :واللـه أنا كمان بحبه ..أكتر من نفسى وأكتر من حياتى .
شاع اآلسى فى وجهها حين أردفت تدافع عن نفسها :ياخسارة ماحدش قادر يفهمنى حتى شريف بقى
زيهم ال قادر يفهم الظروف وال عايز يستوعب أن الزمن أتغير وكل حاجة أتغيرت .رنين جرس الباب كان
كفيال ألنهاء حوارها الداخلى فزاد أرتباكها قبل أن تودع المرآة بنظرة أخيرة عاينت فيها وجهها ثم أتجهت
خارجة الى الصالة .
دخلت " زيزيت " فكانت أول الواصلين وقد مالت قسمات وجهها للفرح الشديد حين أستقبلتها بسمة :أهال
ياطنط ..أتفضلى .
ــ حاال حتكون موجودة .تسلمتها نورا لحظة خروجها من غرفتها من منتصف الصالة حتى الصالون قبل
أن تنحرف فى رشاقة ناحية أيات :أزيك يامدام أيات مختفية ليه اليومين دول .أستعادت األخيرة نبرة
الهوانم وقالت بأداء راقى :أهال يازيزيت أتفضلى ياحبيبتى .توجهت عند أول كرسى على يمين الصالون
جلست مشدودة منتصبة كما لو لم ينتقص الزمن من تفاصيلها شيئا وبدت متحررة لينة داخل مالبس
عصرية يصعب تصنيفها على مقياس الموضة ..هل هى أخر صيحه من تصميمها أم أنها مالبس مجنونة
أستجلبتها من بالد ماوراء البحار ..ارتدت بنطلون كاكى ضيق حول المؤخرة واسع من الفخدين ومنكمشا
حول الساقين بينما غطت جزءها العلوى ببلوزة بيضاء بياقة صغيرة وقصيرة الطول تحازى حافة
البنطلون ..لحظات وتسلل ألسماعهم صوت يشبه بزقزقة فأر " سيسى " كان مصدره حذاء هدى الجديد
حيث الزال فى مرحلة " التزييق " ظهرت من ناحية غرفتها متجهة إلى الصالة ومنها للصالون بخطوات
متمهلة داخل ثوبها األنيق الذى أشرفت على أنتاجه وأخراجه نورا وبمشاركة من زيزيت على أستحياء
بينما شعرها األسود الكثيف تهتز خصالته مع حركة الحذاء أبو كعب ،فبدت فى مشيتها كفتاة أعالنات..
وقبل أن تجتاز أعتاب الصالون لمحتها زيزيت فقامت من مكانها ببطء فاغرة فاها وأتسعت عيناها وقد
أعلنت مالمحها عن دهشة مضاعفة بانت فى عفويتها :واو ..مش ممكن .ثم تماسكت حين أبتعدت
خطوتين عن كرسيها تأهبا ألندفاعة لم تتأخر ..أقتحمتها فى عناق حار تحول إلى بكاء وتدافعت على
لسانها عبارات التهنئة منفعلة باهتياج الفرحة :وحشتينى وحشتينى ياهدى ..حمد اللـه على سالمتك
ياحبيبتى .قالتها بنبرة مرتعشة .لم تستطع هدى منع دموعها :ربنا يخليكى يازيزيت واللـه أنت كمان
181
وحشتينى أوى وكنتى على طول فى بالى ودايما بأوصى نورا عليكى وكتر ألف خيرك ياحبيبة قلبى على كل
اللى عملتيه معايا ومع والدى .
ــ عيب ياهدى ماتقوليش كده أنا ماعملتش حاجة خالص أنتى ياحبيبتى اللى عملتى كل خير معايا والفضل
يرجعلك فى اللى أنا فيه .حضر يوسف من غرفته عند نهاية الجملة فاردا أبتسامة :أزيك ياطنط ..أيه
الشياكه دى .
ــ أهال ياهراب يا أونطجى أبنك خالص كبر ياهدى على وعايش دور المهندس وبطل يعدى علينا فى
األتيليه.
ــ الدور ده أنا أعيشه مع أى حد لكن لغاية طنط زيزيت جميلة الجميالت ماأقدرش أبدا .بينما تراقب نورا
حديث الوفاء المتبادل بين أمها وزيزيت بنظرة ثابتة غريبة قبل أن تصدرفرمانا أقعدوا واقفين ليه .
تجاورتا على كنبة الصالون ودار بينهما همسا فشلت نورا فى ألتقاط أى همسة منه بفضل صخب األغانى
وصوت بسمة العالى وهى تبدى رأيا واجبا ليوسف :كنت لبست التيشرت األسود أحسن من القميص
الضيق ده .
ــ أنتى مابتفهميش فى الذوق .أثارت تلك الضحكات الممتدة حفيظة نورا حين أنتهى الحديث مع نهاية
حديث الهمسات الذى كان له آثرا جميال الزال عالقا فى عيني هدى :واللـه أنا أول مرة أضحك من ساعة
مارجعت البيت .نوهت عن ذلك وأسترخت فى جلستها فأنكشفت ساقيها الرخاميتين ببياض وردى ،فكان
لزيزيت تعليق :أيه الجمال والحالوة اللى بقيتى فيها دى ..ثم مالت عليها وأردفت :أنتى كنتى فين بالظبط
التسع سنين اللى فاتوا ؟! ثم أغمضت عينيها تمنع ضحكة بريئة :كنت فى دنيا غير الدنيا ..دنيا ربنا
مايكتبها على حد .ربع ساعة من الرغى المتبادل قبل أن يتحول لحديث جماعى شاركت فيه نورا وبسمة
كما ساهمت أيات ببعض األراء عن أحوال الدنيا ثم أحوال األتيليه على لسان زيزيت .كان الحوار كافيا
ألستعادة هدى بعض الثقة فى أول لقاء مباشر مع صديقتها الحميمة فى حين لم تكن تلك المدة كافية ألنهاء
عملية الفحص والمعاينة التى بدأتها زيزيت فى وجه هدى وتفاصيل جسدها وكأنها تحاول أسكات أسئلة
الدهشة واألستغراب وهى تردد داخلها :أكيد السجون فى مصر أتطورت أوى ! ..لم تمض لحظات وكانت
هدى فى صدارة باب الشقة تستقبل الدكتور كرم سباستيان وتابعه نوح ،قابلتهما بأبتسامة صغيره
سرعان ماكبرت حتى شملت وجهها :أهال ياخواجة كرم .
182
ــ أهال يامدام هدى حمد اللـه على السالمة .صافحها وأفسحت له ممرا للدخول ثم ناولها هدية مكفنة فى
كيس أبيض عليه حروف ذهبية تشى عن وجود برفان من النوع الغالى ..تسلمته منه بحرج بالغ :ليه كده
ياخواجة كرم ده المفروض أنا اللى أقدملك هدية على تعبك مع والدى وعلى رحالت كل جمعه .لم يمهلها
وعاجلها ضاحكا :أنا صحيح مش مصرى لكن أفهم كويس فى األصول .أنهت مراسم الترحيب بضحكة
تابعها نوح الواقف عند حدود باب الشقة :أدخل ياعم نوح واقف ليه .نفذ األمر وأصطحبتهما إلى
الصالون وأجلستهما على الكنبة بأشارة من يدها بعدما رحلت عنها زيزيت إلى كرسى مجاور أليات حرصا
منها كى تأخذ سمنة الخواجة المساحة المناسبة التى تليق بكرشه المترهل بينما اليزال وجهه يحمل
قسماته القديمة وإن أصابها الكثير من التغيير ،فالذقن زادت كثافة وتراجع شعر رأسه خاصة عند المقدمة
وتضاعف مقاس نظارته على األقل درجتين ..بادر نوح المنزوى بجواره :واللـه فرحتنا كبيرة أوى ياست
هدى والحمد للـه على رجوعك سالمة من المحنة الكبيرة .
ــ كتر خيرك ياعم نوح والحمد للـه على كل حال .قاطعت بسمة :ياسالم على كالمك الحلو ياعم نوح كأنك
واللـــه بتقول شعر .
ــ أنت فين ياخواجة مختفى ليه عن الصورة ..أنا بقالى مدة ماشفتكش .سؤاال طرحته أيات وكانت أجابته
حاضرة :ياأيات هانم أديكى شايفة أحوال البلد ماعدش فى أمان زى األول وبقى الخروج دلوقتى صعب
حتى الصيد بتاع كل جمعة بقى ماينفعش اليومين دول ..
ــ اللـه يرحم أيام زمان كان يوم الجمعة عندنا زى يوم العيد بحر وصيد وسمك ولعب .كان ذلك الترحم من
نصيب يوسف .فى حين ظلت نورا صامتة يغلب عليها التوتر والقلق ولم تنطق بكلمةإال بجملة مقتضبة
حين الطفها الخواجة :خالص يانورا نسيتى أنكل كرم وبطلتى تسألى عنى ..طب مكالمة حتى بربع جنيه
مش حتكلفك حاجة .
ــ معلش يا أنكل أعذرنى وقتى بقى ضيق جدا ويادوب باجى البيت على العشا والنوم بس وعد منى
األسبوع اللى جاى حنخرج نتمشى سوا زى زمان وأحكيلك وتحكيلى .أبتسامة ماكرة أضاءت وجهه :أنا
وأنتى بس وال فى حد تانى حيبقى معانا .جاملته بنصف أبتسامة ثم قامت من مكانها :عن أذنكم دقيقة
واحدة .ربت الخواجة على كرشه حين طرحت عليه زيزيت عرضا :حأستناك بكره تشرب معايا القهوة فى
األتيليه عندى شوية كتالوجات لسه جايالى من قبرص ومتهيألى الكتابة اللى عليها باليونانى ياريت
تترجمها لى .
183
ــ أوامرك يازيزيت .بينما كانت نورا تتحرك فى الزاوية المخفية بين الصالة والصالون بخطوات قلقة
وعصبية ،لمحها يوسف من ركنه وراقب توترها فقام متجها ناحيتها وبداية أبتسامة خبيثة تتالعب فى
عينيه حين أقترب من خلفها :ماتقلقيش زمانه جاى دلوقتى .أرتبكت وهى تستدير نحوه :هو مين ده
ياسى يوسف ؟ .خفض من صوته :هو فى غيره ..شريف اللى بقالك شهرين مقاطعاه من غير سبب .
ــ هو بطل يشتكى يانورا باين عليه فقد األمل .شعرت بفجاجة موقفها وبدت وكأنها فى أزمة طارئة وقبل
أن تجيب أقتحمت عليها بسمة الكدر :عمتى بتقولك تعالى أقعدى مع الضيوف .تنهدت ووجهت كالمها
ألخيها :حاضر جاية ..روح أنت يايوسف أقعد مع الضيوف .أنسحب وتركها مع زفرة ساخنة تعيد تقييم
حساباتها .
فـى تلك األثناء خرج خيرى من شقته تقوده خطاه إلى أن وقف أمام شقـة هدى يتبعه شريف
كـ "بودى جارد " .أصلح خيرى الكرافت والقى نظرة متأنبة على حذاءه بينما أبنه يراقبه مستغربا :أيه
الحكاية يابابا حضرتك فاكر أنك جاى معايا تخطبلى وال أيه .
ــ التفاصيل الصغيرة دى ضرورية يابنى أدم ..مش كفاية اللى أنت عاملة فى منظرك ده .
ــ فى حد يروح يزور ناس فى مناسبة ببنطلون جينز وتيشرت هو أنت رايح رحلة .
ــ موضة يابابا .تلقى المعلومة وضغط على جرس الباب الذى دوى رنينه داخل الشقة فأستقبلت نورا
صداه برعشة وارتباك طفولى وكأن شيئا ما تحرك داخلها ودب فيها نشاط مفاجىء وأتجهت بحماس إلى
باب الشقة إال أنها توقفت فجأة .تسمرت مكانها ثم تراجعت ،لم تستسغ حالة الهرولة فعدلت أتجاهها
وأشارت ألمها من خارج حدود الصالون :لو سمحتى أفتحى الباب ياماما .ألقت جملتها ورحلت فى عجالة
تخفى نفسها خلف الستارة القطيفة المعلقة عند أول الممر المؤدى لغرفتها وأتجهت بعينيها ترقب الداخل
حين تهيأت أمها لفتحه ..أنزاح الباب ليظهر وجه خيرى الذى أعد أبتسامة سابقة التجهيز قبل أن تتقلص
على شفتيه وتختفى حين طالعته هدى ..وقف خامدا كالمصعوق ،الشيىء فيه يتحرك ..أتسعت عينيه عن
نظرة ثابتة كمن به مس ،تخلى عن حياءه وهو يتفحصها منبهرا ..داهمه بريق عينيها .ظل ساهما ينظر
184
اليها فبادلته نفس النظرات يسحبها بهيبته الخفية ..هيبة المثقف المتمكن ،فهو رجل له جاذبية النضج
الرصينة ..حدث نفسه وهو فى متاهة التأمل :معقول الجمال ده ..مستحيل تكون الست دى كانت
فى السجن ..سبحان اللـه !! هيئتها وشكلها كانت شاهدا على المودة التى عاملها بها الزمن .مد يده
وصافحها ،فأحس ببرودة فى أناملها وأرتعاشها قبل أن يأتيه صوت أبنه من خلف كتفه مربكا :هو أحنا
مش حندخل وال أيه ؟! نظر إلى وجهها فرأى الحياء يعلوه وقد أطرقت ال تستطيع النظر إليه ولكنها ظلت
ممسكة يده بيدها .وبقيا لحظة صامتين ،كان هو كالتائه أو المسحور وكانت هى تستغربه ولم تعلق ..
ثوان مرت بدت وكأنها تدور فى توقيت خارج حدود الزمن وكأنها لحظات مستوحاة من كتاب ألف ليلة
وليلة صفحة لقاء الفارس باألميرة وتحديدا سطر الهيام واألنبهار .ثم بدأ هو :حمد اللـه على السالمة
يامدام هدى .نظرت إليه والخجل يمألها ،فجذبت يدها من يده :اللـه يسلمك ياأستاذ خيرى .تقدم خطوة
وتبعه أبنه بعد أن فرغ من عناق هدى التى قالت مالحظة وهى تحيط وجهه بكفيها :بسم اللـه ماشاء اللـه
كبرت أوى ياشريف .ضحكة شبابية سبقت رده :أنا بقالى مدة على الحال ده ياطنط .قابلت تعليقه بضحكة
أضافت إلى جمالها جماال مثيرا ثم سارت تتقدمهما بينما ثوبها األسود الالمع ال يتيح الفرصة للنظرات كى
تثقبه ،لكنه يستطيع تحريض الخيال كى يحلق كيف يشاء ويتصور .أنضم خيرى الى بقية الضيوف بعد أن
تلقى منهم ترحيبا حافال ومميزا يليق بكيانه داخل العمارة .جلس فى ركن الكنبة بجوار نوح بتوجيه من
الخواجة كرم وهو يتلفت باحثا عن مصدر صوت " عمرو دياب " بينما توجه شريف فى حراسة هدى
ناحية األنتريه المجاور للصالون كما أرشدته بخطواتها وكأنها تعد له جلسة خاصة بعيدا عن الضيوف ،
إال أنه لمح نورا تتحرك فى خلفية الصالةبالقرب من األنتريه وهى تتابعه بنظراتها ،فما كان منه إال أن
رسم على وجهه نوعا من الالمباالة ــ التى تعرفها وتعرف أنها غير طبيعية ــ لكنه ماكان يقدر على أن
يبدوطبيعيا ،كما كان ال يستطيع أن يظهر اللهفة التى كان يخفيها داخله ،كما لم يستطع أن يتحرك أمامها
بطريقة طبيعية فأغتنمت أرتباكه وسبقته لألنتريه وجلست على كرسيها المفضل فأستوت عليه وعلقت
رجال فوق آخرى بينما جلس هو قبالتها بأشارة من هدى :أتفضل ياحبيبى أقعد وخد راحتك ده بيتك
ياشريف وكفاية اللى سمعته عنك وعن رجولتك وشهامتك .
ــ ماتقوليش كده ياطنط أحنا كلنا بنكمل بعض واللى بينا وبينكم يادوب حيطه .هزت رأسها مبتسمة
وأنصرفت من أمامه .ثم أنحط أمام نورا صامتا وشد جسده على الكرسى ورسم تعبيرا متجاهال وجودها ،
غير أنه لم يستمر طويال فتاملها دون أن يطرف له جفن ..أخر مشادة بينهما الزالت أثارها عالقة فى
مالمحه ..بادلته نظرة طويلة ثم أنفرجت شفتيها عن أبتسامة ضيقة سرعان ماسحبتها لتعيد تشكيل
185
مالمحها بصورة جديدة حين أنقبض فمها وأنعقد جبينها وأرتخت عينيها ..كانت تشعر به متوترا أمامها ،
أدلى برأسه لألرض ولم يستطع أن يرفع وجهه إليها .لحظة التوتر باعدت بينه وبين الرغبة فى تفحص
مالمحها ومظهرها بينما هى تجيد قراءة وجهه جيدا وشعرت به يعيد ترتيب نفس الشعارات القديمة ويردد
نفس العبارات والتبريرات بينما هى تزداد قناعتها كل يوم بأن الشيىء حقيقى يتكون من ذلك " التفنيط "
المتخلف و المستمر القابع فى عقله والذى تحول مع مرور األيام إلى قناعة يؤمن بها بأن عملها لدى
زيزيت يمتص قواها ووقتها وأحالمها أكثر مما ينبغى حتى كاد ينفجر بسؤاله الملتهب كلما رأها :نفسى
أعرف السبب الحقيقى اللى خالكى تتغيرى من ناحيتى ..ليه أنشغلتى عنى ومابقتش نمرة واحد فى حياتك
زى زمان ..أنا خالص زهقت ومابقتش قادر أتحمل طريقتك دى والحل الوحيد اللى قدامى أنى أخيرها بينى
وبين شغلها ..لكنه أجل السؤال عدة مرات ،فهو يعرف أن كيانها كله مرتبط بعملها ،فأيقن أن هذا السؤال
ال ضرورة له وحاول فى الشهور الماضية أن يستشف ماوراء عينيها عن معنى يصلح أو يساوى مقدار
التغيير المتنامى الذى ضرب عالقتهما وأصابها بالفتور ،فكان كلما عاود طلبه فى الفترات السابقة للقائها
كانت تطلب منه أن ينتظر لوقت أخر وتتعلل بجملة أسباب ..وتكرر الطلب والتأجيل واألنتظار ! كان يشك
فى عواطفها نحوه .تلك الحالة لم يستطع فك طالسمها وظن بوجود شيىء مستتر لم يستطع فهمه .لم
يتصور فتاته تعيش يوما واحدا دون أن تراه أو تحدته كما كانت دوما .هو يعلم انه قابع داخلها وسط
منطقة معينة ..ال يمكن أن ينزعه من مكانه شيىء أخر .نظر إليها نظرته العميقة التى تعرفها جيدا
فخضعت لها وفهمت ماتعنيه ..هو يبحث عن نورا القديمة .أغمض عينيه شاردا ورأى نورا الصغيرة
وصورة وجهها فى كل رحلة صيد جمعتهما مع الخواجة كرم ..كيف كانت رقيقة وتثير األحساس بالرأفة
لبراءتها ..كل مافيها ينادى العين ويثير الشهية والرغبة فى لمس خدها األبيض ،عندما كانت ترمى
الصنارة ثم ماتلبت أن تشد وتشد حتى يحمر وجهها ويتورد ثم تعض شفتها بأسنانها وهى تحاول وشعرها
يموج ومنابته فوق الغرة صارت حمراء ،فكان يتعقبها بنظراته وهى منحنية ورأسها فى مستوى ركبتيها
فتحس بالخجل وتعدل من وضعيتها ..عاد الى اللحظة األنية بأرتباكة حين أنتصبت أمامه بسمة تحجب عنه
وجه نورا وهى تمد له صينيه بها كأسين من عصير البرتقال وهى فى حالة صمت تراقب سرحانه بينما
سمع قهقهة الخواجة وهو يصيح :أيه ياشريف السرحان ده كله ..مد أيدك لبسمة وخد منها العصير .
جلست هدى منفردة على كرسى فى مواجهة خيرى ال تفصلها عنه سوى منضدة وعلى يمينها جلست أيات
عاقدة ذراعيها تراقب حوارا ثنائيا بين يوسف وزيزيت بينما التزال هدى تعيش مرحلتها األنتقالية بهدوء
وثقة تحاول التعافى السريع والتخلص من الماضى ..تأملت وجوه جيرانها ،لم تعد الوجوه التى عرفتها
186
قبل دخولها السجن غير أطياف باهتة فى ضبابة الماضى ..تفحصت مالمحهم بعناية وهى ترصد فيهم
حصاد السنين قبل أن تسحبها عينيها إلى وجه خيرى الذى ما زال على عادته معها من لحظة مجيئه يغرق
نظرته فى نظرتها وهى ترصد تطلعه ونظراته الغارقة بأبتسامة خجولة تخصه بها بينما هو يمر بعيونه
على جسدها كأنه يلمسها وحين أنزلقت عيناه إلى ساقيها ..هاهى تتيح له الفرصة ليتأمل ـ من غير قصد ـ
سمانة الساق مكتنزة ومشدودة تقود إلى فخذين أملسين ـ بالتأكيد ـ وشديدى األستدارة ـ حتما ـ يتدثران
بدفء الثوب األسود الذى يحتضن كل الكنوز المستورة ..ألتهب خياله قبل أن تعدل من وضع ساقيها
الرخاميتين ثم سكنت ناعسة وأرخت أهدابها على عينيها وعلت وجهها حمرة ثم أنسحب حضورها
وأختبأت فى شرنقة الحياء بينما رفع خيرى كأسه من العصير وكمن يتخلص من ضغط عصبى هائل جرع
كأسه دفعة واحدة ولم ينتبه إلى بقية الحاضرين .أستغرقته اللحظة كما أستغرقتها فكان البد من الخروج
من الدائرة التى وقعا داخلها قبلما يشعر الموجودين بذلك خاصة وقد أنتابه شعور مفاجىء أنه يتصرف
كمراهق ويخسر رصانته فأشاح بنظرته قبل أن يرتد بذاكرته إلى لحظات أخر لقاء مباشر جمعهما قبل
دخولها السجن فى وقت اشتداد أزمتها مع القتيل " نسيم الشرقاوى " .لم يجد مهربا من عقد مقارنة
سريعة بين ماكانت عليه وماآلت إليه إال إنه خرج سريعا من المقارنات تأدبا منه أو خوفا على فساد
الجلسة وتظاهر باآلصغاء لكلمة مديح تجرى على لسان الخواجة كرم :ياسالم عليك ياخيرى وعلى
تحليالتك اللى قلتهالى آخر مرة كلها طلعت مظبوطة وتمام وكأنك بتقرأها من كتاب .خرج من حالة
المراقب ليتحول إلى حالة المخاطب :مش شطارة منى والحاجة ياخواجة المثل بيقولك الجواب بيبان من
عنوانه واألخوان طلعوا أكبر مقلب شربه المصريين فى تاريخهم ،دول مجموعة من الناس تركيبتهم غير
تركيبتنا وفهمهم للبلد غير فهمنا عشان كده أنكشفوا بسرعة والناس مابقتش طايقاهم وخد منى الكلمتين
دول على مسئوليتى مرسى أخره معانا سنة بالكتير .أطل نوح برأسه من بين العمالقين :سنة أزاى بس
ياأستاذ خيرى ده جلدهم تخين ولزقتهم مغرية .آثار هذا التوصيف ضحكات كرم التى أطلقها ببراءة وقد
أختفت التجاعيد من عنقه حين مالت إلى الوراء قبل ان تستدعيه زيزيت بجملة تحذيرية :خد بالك من
نفسك اليومين دول يادكتور كرم ..خطف األجانب شغال على ودنه فى سينا وربنا يستر وماتوصلش
الحكاية لغاية اسكندرية .
ــ واللـه يازيزيت بعد ثورة يناير دى ال حصلت أجنبى وال حصلت مصرى الناس بتعاملنى فى الشارع على
إنى سلفى ملتزم بلحية وناس تانية لما يدققوا فى شكلى يقولوا على راجل كبير وشايف نفسه وماشى ع
الموضة .قالها ومازالت آثار الضحك عالقة بمالمحه .
187
أراد يوسف الواقف مستندا بمرفقه على كرسى عمته أن يكون له حضورا :أنا لو منك ياخواجه أرجع
اليونان أستخبى فيها كام شهر لغاية ما الدنيا تهدى شوية .داهمه صمت مباغت وسرت فى مالمحه
تعبيرات حزينة وتلون بياض عينيه بخطوط حمراء خفيفة ثم قال بصوت متكسر :ماعدش ينفع يايوسف
أتينا بقت غريبة على وماليش فيها حد ..أسكندرية دى بلدى اللى أتولدت فيها وشفت فيها أحلى أيام
عمرى واللى إن شاء اللـه ناوى أموت فيها ومافيش حد يابنى بيهرب من بلده لما تتعب والتمرض وأوعى
تصدق أن مصر حتفضل كتير على الحال ده وال حد يقدر يتمكن منها التقولى أخوان وال غيره وأسألنى أنا
عن البلد دى .لم يتوقف بعدها عن الكالم لنصف ساعة كاملة راح ينبش فى صندوق ذكرياته وتوقف عند
تواريخ عديدة كلها تؤكد أن مصر حاليا فى كبوة عارضة لكنها من نوع جديد والحقا ستمر منها .كانت
محاضرة مؤثرة ختمها نوح نيابة عنه :الخواجة نسى يقول حاجة مهمة أنه لو فكر يرجع اليونان مش
حيالقى هناك بواب أسمه نوح .قابل القفشة بضحكة عفوية خرجت مع دفعة سعال أدمعت لها عينيه .
ــ ونسيت كمان حاجة مهمة ياعم نوح مين أصال حيسمحله يرجع اليونان تانى ده أنت روح عمارتنا
وأتعودنا على وجودك ومانقدرش ننسى القعدة معاك فى الفرندة فى الصيف وإحنا بنسمع منك
قصة إسكندرية أيام الخواجات ومانقدرش نستغنى عن السمك الطازة بتاعك اللى بتوزعه على سكان
العمارة وأنت راجع من صيد كل جمعه أنت تقريبا ياخواجه األنسان الوحيد اللى فى الدنيا مايعرفش يزعل
وال يكره .كانت تلك كلمات يوسف قالها كى يتيح لنفسه فرصة تخفيف ماأقترفه من ذنب قبل أن ينحنى
برأسه بعد لكزة فى فخذه من كوع عمته فناولها أذنه ليتلقى تعليمات فورية :روح لنعمة فى المطبخ
قولها تجهز أطباق الجاتوه والحاجة الساقعة .أطاع األمر وأنسحب من الصالون ومر فى طريقه على
شريف ونورا فرماهما بنظرة :وحدوا ..هو أنتو قاعدين فى عزى وال أيه .قذف بجملته وأتجه للمطبخ .
شعر شريف بالحرج من صمته وأستسالمه ألنطوائه بينما نورا تخالسه بين اللحظة واألخرى النظرات
الحائرة آملة أن يقلع عن صمته ويكلمها إال أنها كانت البادئة وكأنها عثرت على بداية مالءمة :مافيش حد
قالك أن دمك تقيل .نظر إليها ليتأكد عما إذا كانت كلماتها تعبر عن غيظ أم مداعبة ،فوجدها تنظرإليه
بوجه مغتاظ وباسم .فأكملت :ع العموم أنا بحب اللى دمهم تقيل .تفككت الكثير من المعانى التى كانت
جامدة وسالت خلف بعضها ..ها هو أمامها وهى تطالبه باألعتراف الصريح :أنت لسه زعالن منى وال
مقاطعنى ؟ هى تعرف أنه ال يستطيع أن يكذب ،وربما هى تحتاج لسماع شعوره ناحيتها بعد تلك القطيعة
بينما شعر أن الحصار أكبر من قدرته على األنفالت من طغيانها وجبروت لحظة المباغتة غير أنه سدد
188
نظراته فى عينيها وكانت فى حلقه صرخة ألم مكتومة ،جاهد أن يمنعها من اآلنطالق .لكنه أجاب :
متهيألى مش حيفرق معاكى .
ــ من ناحية يفرق فهو يفرق ..لو زعالن قولى السبب ولو مقاطعنى برضه الزم تفهمنى ليه .قالت
جملتها بأداء مايع .
ــ الزم تعرفى حضرتك أنى مش مرسى ..بأستغراب :مرسى مين ؟! .
ــ الريس مرسى يعنى أنا مش أستبن وال حأقبل أنى أبقى تحت الطلب واألمر وفى آخر جدولك بعد أخواتك
وشغلك ..مش أنا يانورا اللى يبقى تحصيل حاصل فى حياتك .قال جملته األخيرة بمرارة وكبرياء ،وما أن
قالها حتى غمس نظرته فى عينيها يلتمس تأثير كلماته ..كبت لسانها دعابة نطقت بشائرها فى عينيها
وجاهدت رغم األبتسامة أن تكون جادة فى كالمها :يعنى أفهم من كالمك أنى أنا عامالك أستبن وتحت
الطلب وكمان موجود عندى فى آخر الجدول ده أيه الهنا واألملة اللى أنا فيها دى .يأخذ نفسا يعبر به عن
ضيقه وكان أكثر مباشرة :بطلى األسلوب ده وماتحاوليش تقللى من اللى أنا فاهمه ومتأكد منه وبطلى
طريقتك دى وخليكى صريحة مع نفسك ..ثم مال بجسده وقرب عينيه من وجهها :تقدرى تقوليلى سبب
واحد مقنع يخليكى تشتغلى كل يوم أكتر من أتناشر ساعة فى األتيليه من غير يوم أجازة واحد كنت فى
األول بأعذرك وأقول لنفسى هى بتحاول تثبت وجودها وتكسب ثقة زيزيت لكن دلوقتى وبعد مابقيتى كل
حاجة فى األتيليه وبقالك زباين ومحالت كبيرة بتطلب شغلك باألسم يعنى بقيتى ناجحة بكل المقاييس ..
فاضلك أيه تانى عايزة توصليله ..أهدى بقى شوية وخدى نفسك !! هدأت نبرته وسكنت حدته وحل
مكانهما دهشة وأستغراب بينما هى تنصت له فى وجوم وتهز ساقها المعلقة على األخرى بحركة ال أرادية.
فأستطرد :واللى محيرنى أكتر ومش ال قيى له تفسير عالقتك الغريبة بأخواتك واللى مصرة تعامليهم على
أنهم لسه أطفال وقصر والزم يفضلوا تحت وصايتك وسيطرتك وشاغلة بالك بيهم زيادة عن اللزوم وقاعدة
لهم على الواحدة وعلى طول قلقانة ومتوترة بسبب ومن غير سبب .رجع بظهره للوراء :تقدرى تقوليلى
أنا فين بقى من كل ده .أجاوبك أنا يانورا ؟ سكت للحظات ثم عاد :البرنامج اليومى بتاعك كومبليت
ياأنسة واللى زيى مش حيالقيله مكان فيه .توقع منها غضبا منكرا ،لكنها تنهدت وهى تطرق .ثم قالت فى
189
هدوء :مع أنى معترضة على كل اللى قلته ..بجد أنا مصدومة من تفكيرك ده .أنزلت رجلها المعلقة
وتزحزحت لألمام :تفتكر ياشريف كل الساعات اللى بقضيها فى األتيليه بأبقى عاملة أزاى ؟ يعنى مثال
حاطة رجل على رجل وعاملة فيها مديرة وتحت أيدى تالت أربعة ..أنت بالذات أكتر واحد جه زارنى فى
األتيليه عمرك شفتنى قاعدة فاضية وال بشرب شاى وال حتى بأستريح ..أنا بأتعب وبأشقى فى كل دقيقة
عشان الشغل بالنسبة لى شيىء مصيرى يعنى حياة أو موت ..أنا ياأستاذ جربت كل األيام السودة اللى
ممكن تتخيلها أنا وأخواتى وماكانش معانا حد غير ربنا ال عندنا بابا وال كان فى ماما .تحجرت عينيها
وأحتدمت مالمحها :وكمان معنديش أخ فى أمريكا حيبعتلى كل شهر مساعدة تكفينى أنا وأخواتى
وتريحنى من التعب ده وتشيل عنى مصاريف أخواتى وعمتى وطلبات البيت .نظر اليها طويال ..أدرك
ماكانت ترمى إليه .تابعت :ومين اللى قالك أنى وصية على عمتى وأخواتى ..أل ياأستاذ أنا أكتر من كده
بكتير أنا هنا مسئولة عنهم ..أنا أمهم وأختهم وصاحبتهم وكل حاجة لهم فى الدنيا ..أنا اللى ربيت
وعلمت وكبرت دول مسئوليتى أنا لوحدى .قالت جملتها األخيرة بأداء عصبى وبدت كالنمرة المفترسة .
بينما تريث شريف لحظة ألختيار ألفاظه ويجعل النية الحسنة فيها واضحة :اللى قلتيه يانورا أنافاهمه
كويس ومقدره وكمان عشته معاكى لحظة بلحظة بس أنا كمان محتاجلك عايز نورا بتاعة زمان ..وياريت
توزعى مسئولياتك بالعدل بين شغلك وأخواتك وخليى جزء صغير عشانى .ثم أردف مبتسما :وآهو الحمد
للـه مامتك خرجت بالسالمة وحتشيل عنك شوية .رفعت ذقنها ألعلى وكأنما تذكره بما غاب عنه :ماما
تشيل عنى ..ده أنت طيب أوى ..رجوع ماما البيت مالوش غير معنى واحد عندى أن المسئولية اللى فى
رقبتى حتزيد واحدة ..واضح أنك ناسى أن ماما ال بتشتغل والحيلتها حاجة .تنهد بينما السؤال يولد على
لسانه وسرعان ماتحولت المطاردة التى قامت بها أسئلته المتكررة التى يوجهها إلى رغبة فى محاصرتها :
من كده أنك حتفضلى على نفس الحال ده تخرجى الصبح وترجعى أخر النهار هلكانة وتعبانة يعنى أفهم
ع النوم على طول .أبتسامة مرهقة :ماتقلقش ياشريف أوعدك أنى حأحاول أظبط األمور وكمان ياسيدى
حأحطك فى مكان كويس فى الجدول عشان ماتزعلشى .أخيرا وجدت األبتسامة طريقها إلى وجهه بينما
ظل والده يرمقه من حين ألخر بنظرة خاطفة من زاويته يطمأن من مالمحه عن سير األمور قبل أن يتوجه
مباشرة بكالمه لهدى مستغال جو الجلسة التى تحولت الى ثنائيات هامسة بينما الحالة الغنائية للمشهد
أصبحت أكثر ألهاما عندماأطلت " أليسا" بصوتها المتسلل من غرفة يوسف بأغنيتها الملتهبة " أجمل
أحساس فى الكون أنك تعشق بجنون وأدى حالى معاك " :الحقيقة يامدام هدى أحنا كلنا فرحانين برجوعك
وأن شاء اللـه األيام اللى جاية تعوضك عن كل اللى فات .أرتبكت وقد لعثمها وده وطريقته فى الحديث :
190
شكرا ياأستاذ خيرى والحمد للـه على كل شيىء وبصراحة أنا مش القيه كالم أشكرك بيه على تعبك
ووقوفك جنب والدى .
ــ ماتقوليش الكالم ده والدك همه والدى وأنا متأكد أنى لو كنت مكانك أكيد حتعملى اللى أنا عملته .
أبتسمت لكالمه وظهرت ألول مرة غمازتان فى سفوح خديها :بعد الشر عليك .تطلع اليها مبهورا وكلما
نظر إليها خلسة شعر بشيىء ينمو داخله لصالحها وخاف أن تفلت منه كلمة تكشف عن حالته .غير أنه
قال :سبحان اللـه الدنيا دى عجيبة أوى .
ــ أزاى يعنى .كلل العرق جبينه لشدة أرتباكه :مش عارف ..لكن هيه كده دايما فى كل األحوال بتبقى
عجيبة .أبتسامة رقيقة ونظرة عميقة :من ناحية عجيبة فهى عجيبة وغريبة وماتقدرش تعرف أيه
المفاجأت اللى ناوية عليها .
ــ مظبوط ومتهيألى أنك خالص أخدتى دورك فى مفاجأتها الحزينة مش فاضل غير أنك تأخدى حقك منها
فى أيام جايه حلوة مع أنى مقدر التجربة الصعبة اللى عشتيها و السنين اللى راحت من عمرك .لم تعقب
مطلقا على تلك الجملة .كانت عاقدة العزم إال تقول شيئا عن فترة سجنها ..سرها معها هى فقط ملكا
خالصا لها ،لن يشاركها أحد ولن تشارك أحد حتى أنها دارت عن نفسها ماتعمدت أخفاءه من تلك
" التجربة " ظاللها وأبعادها وشخوصها وبترت منها أجزاء كما يفعل الجراح مع مريضه .هربت من
عينيه تتابع حديث نوح المتكىء إلى ظهر المنضدة فى تبلد وأسترخاء وهو يجيب عن سؤال للخواجة الذى
تالشى شعوره بما حوله وتركز وعيه فى طرح السؤال :مش وضع البلد دلوقتى يانوح بيفكرك باأليام اللى
بعد نكسة 67؟ سحب نفسا بعمق حكمته وأعتدل فى جلسته قبل أن ينحنى بجبهته لألمام كمن يحاول
تلخيص بعض األمور :هيه مش بالظبط ياخواجة أياميها الصدمة والهيجان بعد النكسة كان لهم سبب
مفهوم والشعب كله كان عايز حاجة واحدة ..ياخد التار ،أما دلوقتى فالليلة ماشية شيش بيش واللى
صوته عالى أكتر بيتسمعله وماحدش بقى عارف مين الثورجى من البلطجى مين اللى عايز يخدم البلد
ومين اللى بيدور على خرابها .أضاف موجها كالمه لهدى المنتبهة :واللـه ياست هدى بعد حكاية الثورة
دى أحنا شفنا فوضى ماكانتش على البال وال النية .حرك رأسه ببطء وبدا مأزوما وكأنه يروى كابوسا ،
فلن تغيب عن ذاكرته ما مرت به العمارة وسكانها فى بدايات ثورة يناير حين كان األنفالت األمنى والكر
والفر فى ذروته خاصة وأن موقعها قريب جدا من جبهة الحرب لقربها من مسجد القائد أبراهيم قلب الثورة
السكندرية فى حينها ..بدت العمارة الضخمة خرساء ال تنطق ،السكان جميعهم يعتصمون فى أعماق
191
غرفهم خشية من هجوم مباغت من مجموعات البلطجية القادمة من أطراف المدينة تغزو األحياء الراقية .
كان سرده موحيا ومنظما وال يزال قوى الذاكرة جيد البدن الينم عن شيخوخته سوى تجاعيد الوجه والبقع
البنية الداكنة على ظاهر اليدين .أرادت هدى التعقيب :سمعنا كتير ياعم نوح عن حكاية األنفالت دى وأحنا
فى" السج ..ن " قطعت الكلمة قبل أن تخرج منها كاملة .راجعت نفسها وعدلت " الصياغة " :فعال البلد
شافت أيام صعبة أوى .أستثمر خيرى الحديث عن العمارة وتطرق كعادته فى األسترسال عن أعطال
المصعد المتكررة وحتمية تغيير بعض مواسير الصرف .قال بنبرة يحث فيها المستمعين عن قيمة العمارة
وطرازها وكيفية الحفاظ عليها مع نبذة تاريخية عن الطراز المعمارى األيطالى ،كما طالت عدوى
األسترجاع ذاكرة زيزيت وتوقفت عند أقوال ألمها الراحلة عن مدى تعلقها الشديد بالبناية ثم أسهبت فى
ذكر محاسنها وتضحياتها حتى كلل الحزن عموم وجهها فبادرت هدى بألهاء صديقتها بعيدا عن سيرة
الموتى خوفا من أن تجرها الى كآبة الماضى وتسترجع مأساة أنفصالها عن زوجها :واللـه ياجماعة أنا
متفاءلة أوى واأليام اللى جاية البلد حتقف على رجليها ..ده أنا حتى لسه سامعة مرسى أمبارح بيقول أن
فى مشاريع كتيرة حتتعمل فى البلد .عند نهاية جملتها دبت الحياة فجأة فى التمثال عندما أعتدلت أيات بعد
أن ظلت طوال الجلسة فى وضع األستماع فتحفزت وتزعمت موقفا يشاركها فيه كل من زيزيت والخواجة
كرم تقودهم الرغبة فى تحقير الحاضر .فقالت فى تأفف :فى حد يصدق أن مصر اللى حكمها محمد على
ومن بعده أمراء وسالطين وملوك ..مصر اللى علمت الدنيا يعنى أيه دولة ..يعنى أيه حضارة ييجى عليها
اليوم اللى يحكمها شوية أرهابيين عاشوا حياتهم كلها تحت األرض ..معقول حد يصدق اللى بيحصل ده ..
بالبساطة دى مصر الكبيرة تتخطف كده قدام عنينه وأحنا قاعدين نتفرج الحول لنا وال قوة !! .هنا تخلى
خيرى عن هدوءه فكان حاسما :مستحيل ده يحصل ياأيات هانم وماتقلقيش ..الناس فى بلدنا قولى عنهم
زى ماأنت عايزة ..قولى جهلة مش فاهمين أو مضحوك عليهم وال حتى مكبرين دماغهم كل ده مقبول ..
لكن مستحيل حد يقدر يخليهم يغيروا طبعهم وال شكلهم وال بساطتهم وال أى حاجة فى حياتهم وخدى الكالم
ده على مسئوليتى .أستحسنت كلماته وعجلت بواجب الضيافة ..لعبت هدى وبسمة دور الجرسون ..
قطعتان من الجاتوه مشفوعتان بعلبة " كنز " كانت من نصيب كل ضيف بينما ظل الحديث بين نورا
وشريف يتدرج ببطء إلى أن عادت المياه لمجاريها وتجسدت الحميمية بينهما حين ألتهم شريف قطعتى
الجاتوه من خالل " شوكة " فى يد نورا .دقائق ونهض الجميع دفعة واحدة وكأنه أتفاق مسبق يتقدمهم
الخواجة كرم متكئا على ذراع نوح :أحنا أزعجناكم النهاردة يامدام هدى .
192
ــ ماتقولش كده ياخواجة ده أنتم نورتونى وجميلك مش حأقدر أنساه أبدا .أنحشر يوسف مقاطعا :
الخواجة دلوقتى نسانا ياماما و مافكرش حتى ياخدنى معاه الجمعة اللى فاتت وأنا شايفه بعينى دول من
الشباك شايل عدته ومعاه عم نوح رايحين يصطادوا .
ــ خلص أمتحاناتك ياباشمهندس ولك عندى رحلة صيد محترمة وحأجهزلك ماكينة صيد حديثة هدية منى
لك .ضحك نوح حتى ظهرت بقايا أسنانه :أنت بتصدق الكالم ده ياخواجة ..يوسف بيقول كلمتين فض
مجالس
ــ المية تكدب الغطاس .قالها يوسف وهو يكمل معهما المسيرة حتى باب الشقة بينما تقابلت زيزيت مع
هدى فى منتصف الصالة وسارت معها خطوتين ثم أنتحت بها جانبا كمن عثرت على فكرة كانت فى طى
النسيان طفت فجأة إلى سطح ذهنها :الحمد للـه ياهدى دلوقتى والدك كبروا وكل واحد فيهم بقى عارف
مستقبله كويس مش فاضل غيرك أنتى .
ــ يعنى أنتى كمان الزم تفكرى وتحددى مستقبلك ..مش معقول ياهدى تطلعى من حبسة تدخلى فى حبسة
وتبقى زى أيات .لمحت نورا أثناء وقوفها مع شريف بجوار كنبة األنترية الحوار الجانبى .فقالت دون أن
تنظر له :أستنانى دقيقة واحدة .وصلت إليهما مع بداية جملة على لسان زيزيت :وبصراحة كده أنا
محتاجاكى معايا فى األتيليه ..الشغل كتير والحمد للـه .كلماتها زرعت المفاجأة والدهشة فى مالمحها :
محتاجانى أنا يازيزيت .
ــ أيوه ياهدى أنتى لسه صغيرة والزم تشتغلى وتعيشى حياتك وال أيه يانورا ؟ .أحتدمت مالمح نورا بشكل
مفاجىء .أربكها العرض فأضطربت وقلقت ثم صمتت لحظة قبل أن تجيب :سابق ألوانه الكالم ده يامدام.
أرادت أن تتماشى مع رأى أبنتها خشية الصدام :نورا عندها حق ..سابق ألوانه الكالم ده يازيزيت ..
أنهت جملتها مع وصولها عند باب الشقة :ع العموم فكرى وأنا لى قعدة تانية معاكى .ثم طبعت قبلة على
خدها وفعلت الشيىء نفسه مع نورا وأنصرفت ثم عادت هدى بخطى مسرعة بأتجاه خيرى الواقف عند
عتبة الصالون يتبادل األراء مع يوسف وبسمة حول جدوى جبهة األنقاذ فى معارضة حكم األخوان ،
توجهت إليه دون أن تفارقها أبتسامتها وكأن األبتسامة جزء من لغتها ،تقدمها خيرى تتبعه هدى بأتجاه
باب الشقة قبل أن يتوقف ويلتفت اليها :حمد للـه على السالمة أنتى نورتى الدنيا كلها .أرتخت جفونها :
193
كتر خيرك .مشى تالت خطوات حتى وصل عند عتبة الباب فصافحت يده يدها ..هربت منه الكلمات حين
نظر إليها فلمحت فى عينيه نظرة من يود األنفراد بها ثم ضغط على يدها وتجاوزها بعد أن شعر بشيىء
ماأستقر داخله ،فى حين الزال شريف حبيسا فى مكانه ينظر لنورا :ومن هنا ورايح مش حأضغط عليكى
تانى بس حأستنى منك تليفون الصبح قبل ماأروح الشغل .هزت رأسها وودعته بأبتسامة مع كلمة أشتاق
إليها :بحبك .قالها ثم تسلمته هدى وشيعته حتى الباب و صافحته وهمست له :نورا بتحبك ياشريف خلى
بالك عليها وحاول تعذرها وتقدر ظروفها .أبتسم :حاضر ياطنط .أوصدت الباب خلفه ببطء وهى تكتم فى
نفسها أحساسا لم تفهم مكوناته بعد ،ولم تجد ألرتباكها خالصا غير أن تتجه ناحية الصالون لتنضم إلى
جلسة تزعمتها بسمة ترصد وتقيم مادار فى الحفلة .خلعت هدى حذائها :ياه ده أنا رجليه أتكسرت من
كعب الجزمة .لوحت لها بسمة :تعالى جنبى هنا يانجمة ..ده أنتى كسرتى الدنيا النهاردة .
ــ ماتبطلى بقى نفخ فى لحسن واللـه حأخد قلم فى نفسى .قالتها حين جلست بجوارها .
ــ الصراحة ياماما أنتى كنت فورة النهاردة .قال يوسف .
ــ ماشى يايوسف مقبولة منك .ثم مرت بعينيها ناحية نورا المحنطة فى مكانها .أردفت :مالك يانورا اليوم
ماكانش عاجبك وال أيه .سحبت نفسا هادئا وأظهرت أبتسامة فاترة :بالعكس ده كان يوم جميل جدا وآهو
على األقل حسينا بتغيير .رمتها بسمة بنظرة ركنية ماكرة :تغيير بس ..ده كان يوم زى العسل وأحلى ما
فيه قعدة األنسجام مع شريف فى الركن البعيد الهادى ..كنتو شبه جوز العصافير .قاطعتها هدى بضحكة :
عصافير أيه يابنت ! واصلت بسمة تقييمها الساخر يقابله حرج بالغ فى مالمح نورا :مش قصدى عصافير
أوى ..حاجة كده بتفكرنى باألستاذ كمال الشناوى مع الست نور الهدى لما كانوا فى أخر الفيلم وهى بتأكله
حتة الجاتوه ..ياسالم على الرومانسية .
ــ واللـه أنتى رايقة وفايقة .رددت جملتها وقامت ببطء قبل أن تصدر تنويها :أنا داخله أنام عشان عندى
شغل كتير بكره وأنت يايوسف كفاية عليك كده وقوم شوف وراك أيه .وقبل أن يأتى دورها بادرت بسمة :
عارفة وأنا كمان شرحه أدينى قايمة .بينما أشاحت هدى بنظراتها تتفحص الصالون والصالة :وأنا كمان
حأقوم أظبط البيت شوية بس أغير هدومى األول .توجه يوسف إلى غرفته مرورا بالصالة التى خفتت
أضاءتها على يد نعمة وأكتفت بالكشافات المخفية المنبعثة من األركان :اللـه ينور يانعمة .فى حين
أقتربت بسمة من عمتها التى لم تفارق كرسيها منذ ساعتين :وأنت أيه حكايتك ياأيات ..بنات األصول
194
مايسهروش برة أوضهم لغاية دلوقتى ..ياله قومى معايا .أتكأت بيدها على مسند الكرسى ولم تخف
ضحكتها :ماشى يامجرمة .
حين عادا العازبان إلى الشقة تبادل خيرى وأبنه حديثا هادئا تحت أضاءة شمعدان فى الصالة دام عشر
دقائق تجادال فى بعض األراء حول الزيارة إال أنهما أتفقا وبشدة على رأى واحد أو جزه شريف بأستغراب :
مستحيل حد يصدق أن طنط هدى كانت فى السجن وكمان أم لتالتة .حاول خيرى أن يتجاهل الحديث عنها
كى ال تفضحه كلمة أو عبارة إال أن شريف أختارت عينيه أيقاعا ساهما حين توجه له والده مستفسرا :
كنت شايفك أنت ونورا قاعدين فى ملكوت تانى ومابطلتوش كالم .
ــ بصراحة أنا لما بأتكلم معاها وبأسمعها بعقلى بأعذرها وبأراجع نفسى وبيجينى أحساس أنى أنانى
وصغير أوى .لكن ..أعتدل ولم يمهله :من غير لكن ..نورا بتحبك وعايزاك وأنا فهمتك قبل كده وقلتلك
حاول تقدر ظروفها وخليك جنبها وماتحاولش تستفزها وبطل تحطها تحت ضغط األختبارات الصعبة .ثم
علت نبرته نسبيا وهو ينظر فى عينيه محذرا :وخلى بالك كل ماحتخنقها وحتضغط عليها حتكون أنت اللى
خسران .مال بجبهته وبدا صوته مهموما :عندك حق يابابا حأحاول ماأضغطش عليها تانى ومش
حأفاتحها بعد كده فى حكاية شغلها وأخواتها .
ــ المفروض أصال ماكنتش فاتحتها فى حاجة زى كده أنت بتخلق مشكلة من غير مشكلة مع أن الحكاية
بسيطة ومش مستاهلة ..يابنى أخواتها مش حيفضلو جنبها طول العمر وبالنسبة لشغلها الزم تكون
صريح مع نفسك وتعرف أن نورا دلوقتى بقى لها وضع وكيان وبتكسب كويس جدا أحسن من مدير بنك
فى وقت ماعدش فيه حد بيكسب حاجة فى البلد وأكيد دى حاجة فى مصلحتك مش ضدك .لم يتبق إالشيىء
فى عينيه كان أيجابيا :صح ياعم خيرى كالمك حكم ياخسارتك فى البلد دى .
ــ واللـه يابنى دى بقت الخسارة فى كل حاجة .قالها بأبتسامة واهنة .
195
ــ متهيألك ياشريف واضح كده إنى قصرت أوى فى حق نفسى .بدا وكأنه يحاكم نفسه على نمطية أستسلم
لها منذ سنوات قانعا بتفاصيلها اليومية .
ــ مادام أنا مش فاهم وال أنت فاهم يبقى أدخل أنام أحسن وياريت تصحينى بدرى ..تصبح على خير يابابا .
سحب نفسا أخيرا قبل أن يتجه مخدرا لباب غرفته :وأنت من أهله ياحبيبى .
دخل خيرى غرفته بخطوات مسترخية كالمترنح ثم أضاء عتمتها قبل أن يسحب نفسه من داخل جاكيت
البدلة ورماه على كرسى بجوار الباب ..جلس على حافة السرير يخلع حذاءه ،رفع قدما وشرع بفك
رباطه ..شرد فى فراغ أرضية الغرفة ثم أستلقى على السرير بثيابه .غابت هدى عن مجال الرؤية ،لكنها
ظلت فى المخيلة تطرق بعنف ذلك الدماغ الذى تصدع .نبرات صوتها التائهة بين الحلق واألنف ،بين
األنوثة البالغة وتثنى الجسد داخل الثوب األسود ..الساق والشفتان والضحكات مازالت جميعها محفورة
فى ذاكرته ،ال يمكن له أن ينسى حركة عينيها والبريقها ،ولن يغادره صفاء وجهها ونبرة صوتها الحزين
فأستقر يقينه على أنها أمرأة مشتهاة وبدت له كأعجوبة هذا الزمن ..لما ال وقد تجاوزت األربعين بثالث أو
أربع سنوات ولكن جمالها ال يعترف بالزمن وكأن وجهها يتحدى السنين وشبابها الخالد الشاذ يثير دهشته.
يغمض عينيه ثم ينحدر ببطء وينحدر كما يحلو له .كان يتوق إلى المرأة التى تحدث فحيحا مربكا يكثف من
اللحظة .فمنذ وفاة زوجته وهو يختلى بنفسه فى تلك الغرفة التى كانت تشاركه فيها " سميحة هانم "
وبحكم الضرورة والحاجة دائما ما يستحضرها حين كانت تحته تتكسر وتتأوه وتلهث ...األن وفى تلك
اللحظة تالشت صورتها فى ذهنه ولحقت بصاحبتها إلى بطن األرض بينما دخلت صورة الجارة الحسناء
تسكن فى الذاكرة بشعرها الكثيف المنسدل والوجه المرتوى والرقبة المرمرية والصدر األعظم فأمتزجت
فى أعماقه دغدغة اللحظة المحبطة برعشة الحرمان المكبوتة ..أحس بنشوة لم يبلغها فى السنين
األخيرة .نظر للسقف يبحث عن أجابة لسؤال برىء تردد داخله :هو أيه اللى حصلك ياخيرى وشقلب
حالك من ساعة ماشفت هدى ؟! ..لم يجد لديه جوابا مقنعا .لكنه غامر بالقول :أكيد لحظة ضعف
وحتعدى ! ..وبدأت األسئلة تتداعى فى رأسه :يمكن حياة الوحدة اللى أنا عايشها هى السبب ؟ .كان دائما
أحساسه الغالب أنه من الصعب أن تعود الحياة لضريح مثله .شعر أنه رجل مع أيقاف التنفيذ ..غير أنه
196
أفاق على أسف بداخله عميقا وموجعا :كيف شغلته األحداث وشاغلته الى حد أنه نسى أن الحياة تنطوى
علي مشاعر حب أستثنائية ال تخطر له ..رفع رأسه واضعا ذراعه تحتها وهو يردد فى نفسه :هو أنت
حتحاسب نفسك على أيه وال أيه ..جايز تكون خسرت حاجات كتيرة لكن أكيد كسبت حاجات تانية .سحب
نفسا حائرا :وبعدين ياخيرى ..خنق حواره الداخلى وصمت حين لم يجد رأى يضيفه أمام وضع تتساوى
فيه الحجج والحيثيات ،فأمسك عن كل قول .حدق بنظرة بانورامية فى كل أرجاء الغرفة ثم قال فى
محاولة هروب مستعجلة قبل أن يتحامل على نفسه ويعتدل جالسا :أقوم أحسن أعملى فنجان قهوة لما
أشوف أخرتها .أتخذ قراره كى ال تدهمه األسئلة بعد أن هبت فيه األفكار واألراء والصور بدون ترتيب
والمنطق .
فى تلك األثناء ..لم تستطع هدى أبدا وعبر سنوات سجنها أن تدفع عن نفسها أحساسها الدائم بأنها
وحيدة ..أختلت بنفسها فى الصالة ،رفعت رأسها وألقت بها على حاجز كنبة األنتريه تتأمل آخر ليلها بعد
نهاية يوم أعتبرته تاريخيا ..أسترجعت الشخوص والكلمات والنظرات وجدتها كلها أيجابية وفى صالحها .
أتخذ منها األسترجاع والتقييم ساعة من بعد منتصف الليل ..حاصرها النوم فأمسكت " ريموت "
التليفزيون تقلب القنوات وتشقلبها فى ملل بعدما أربكها كم القنوات ولم تعد تعرف أولها من أخرها غير
أنها لمحت على أحد الرفوف أسفل ترابيزة التليفزيون ألبوم الصور القديم .قامت فى تلكأ وسحبته
من مرقده ثم أنزوت به فى ركن الكنبة ،نفضت عن غالفه الغبار فأمتآلت خياشيمها بروائح غريبة
تشبه روائح كورنيش األسكندرية .توقفت عينيها فى أستغراب وهى تردد :أزاى نضفت الصالة كلها
ونسيت أنضف ترابيزة التليفزيون .فتحت غالفه قبل أن تضغط على الريموت فتحول التليفزيون لصورة
بال صوت ،لعلى مخيلتها تسعفها على أستحضار أشياء كثيرة غابت مع تراكم السنين واألحداث فقفزت من
طياتها صور شاحبة بألوان باهتة ..صور لم تمسها أصابعها من عصر ماقبل السجن ،بعضها كان قد
ألتصق ببعضها ،لكنها أستطاعت أن تفصلها واحدة عن واحدة بعناية وتركيز كأنها تتولى عملية جراحية
لشخص عزيز .وجوه كثيرة تداخلت وأزدحمت شاشة العرض بتلك الوجوه التى مرت ومر زمانها ..وجوه
لم تعد كما هى األن حتى األماكن تغيرت أو أستبدلت .كم مرة تتقطع مشاهدتها ..كم مرة تتزاحم الصور
والذكريات .توقفت عيناها وظهرت أبتسامة حين رأت صورة لبسمة وهى ترتدى فستانا ورديا منبسط
الصدر بال فواصل ونهدين صغيرين كحجم زيتونتين تثيران العاطفة واألشفاق ..الصور تتكرر برتابة مملة
قبل أن تستقر نظرتها على صورة " نديم " وهو يطوق خصرها بذراعه ثم تلتها صورة أخرى تجمعها معه
ولم يتقاعس فيها عن ضمها إليه ابان الذكرى السابعة لميالد نورا ..كان دائما فى جميع صورهما يمسك
197
بها وكأنه يخشى أن تضيع منه .أقتحمتها تفاصيل الغرام الذى كان .تنبش فى ألبوم الصور تبحث عن
سنواتها الضائعة وهى معلقة على أعتاب حياة بين بريق الماضى وخذالن الواقع .
قامت من جلستها بصحبة السكون المنتشر فى كل ركن ثم أنحرفت ناحية غرفة نورا وبسمة قبل أن تتجه
لغرفتها كما كان دأبها فى الماضى .دخلت بهدوء ووقفت أمامهما تتأملهما وهما نائمتين فى حراسة
" أباجورة " أضاءتها أقل من شعلة شمعة ثم جلست برفق على حافة السرير من ناحية بسمة ووضعت
يدها على جبين أبنتها تسوى شعرها الذى تعود أن يقف فوق عينيها بينما شعرت بها بسمة وفتحت
عينيها وأمسكت بيد أمها وتسربت أبتسامة من بين شفتيها وهى تغالب النعاس حتى أستسلمت له
واألبتسامة عالقة بشفتيها .بقيت إللى جوارها حتى ثقلت جفونها ثم نهضت برفق قبل أن تلتفت إلى نورا
تطمئن على نومها ..فكانت ممددة وتحت رأسها وسادة يتمرغ فوقها شعرها الفاحم المتموج وفى حالة
نوم سريرى كامل ..أقتربت منها على أطراف أصابعها كراقصة باليه ..وقفت لحظة تتأمل تحفتها ..أطالت
فيها النظر ثم همست بشفتيها :نايمة زى المالك ياحبيبتى .عبارة لم ينقطع لسانها عن ترد يدها سنوات
عديدة .إال أنها شعرت بحاجة ألن تلتصق بها ،فتمددت بجوارها على هامش السرير ووضعت رأسها على
نفس الوسادة ،ربما تستطيع أن تسافر معها إلى عالم أحالمها .زحزحت نفسها بهدوء وأصبحت أكثر
ألتصاقا بها ..طفا على ذاكرتها فجأة وهى فى أقصى حاالت التركيز فى وجه نورا ،عندما كانت الى جوار
نديم وقد تمددا فى السرير وبعدما تسلل إلى حواسه ريح أنوثتها المنتفض من فتحات قميص نومها األسمر
فأعتدل بجذعه وأنحنى عليها ..فأبعدته برقة وحدثته بدالل وهى تتحسس بطنها :اللى جاى حتسميه
أيه ؟ .ردته بسؤالها عما كان ينوى فعله وشرعا يتبادالن أقتراح األسماء وكانت أرائهما على األسماء
مابين " بلدى أوى ..قديم ..مش أستيل " وأخيرا لم يجدا مانعا من قبول " نورا " إن كانت بنت أو "
يوسف " إن كان ولدا .أغمضت عينيها :اللـه يرحمك يانديم ..بنتك كبرت وبقت عروسة زى القمر وبقت
هى اللى فاتحة البيت وشايلة همنا .وسعت نظرتها لتشمل كل مالمح أبنتها :سامحنى يانديم ..عارفة أن
ده ماكانش المستقبل اللى كنا بنحلم بيه لنورا ..فاكرة كالمك لما كنت تتحدانى وتقولى شخصية نورا
وطبعها حيخلوها فى يوم من األيام حاجة كبيرة فى البلد وحتفكر الناس بأسم عيلة السبروتى .بلعت ريقها
بصعوبة :سامحنى ياحبيبى ماكانش بأيدى .ثم رفعت رأسها ببطء وزحزحت جسدها بحرص قبل أن تطبع
قبلة على جبينها وقامت دون أدنى صوت وخرجت كما دخلت كالطيف .
00000000000
198
أنزوى منصور فى ركن قصى من القهوة تصله األضاءة على أستحياء بجوار نافذة تطل على حارة المنجى
وأمامه جلس صديقه الصعلوك " سليم " الذى صب الشاى فى كوبين قبل أن يضع بين شفتيه سيجارتين
من طراز كامل الدسم أشعلهما معا وناوله واحدة :خد يامنصور رطب جوفك ..شد وأسحب ده صنف
أستثنائى وارد مطروح .أندمجا صامتين وراحا يرشفان ويدخنان حتى قال منصور بلكنة بلطجة وهو يتأمل
سيجارته بين أصبعيه :جبت الحشو ده منين ياسليم ؟ .
ــ دول أربع سجاير هدية من الوله حوده اللى شغال فى الصحة .ضاقت عيناه يحاول التذكر :حوده مين
مش واخد بالى .
ــ الوله حوده أضرابات ..حودة ياأخى اللى ساكن فى حارة عويضة .خبط بكف يده جبهته وقد علقت به
ابتسامة :أيوه أيوه ..مش ده اللى فى هوجة الثورة لطش عربية األسعاف اللى كان شغال عليها وخباها
ورا مخزن عبد المولى .يتتبع دخانه مع نظرة أعجاب .مكمال :عيل أبن حرام بصحيح ولما الليله أسودت
عليه رجعها بعد فيلم خربان وقالهم أنا أتثبت بعد ماشفاها وخالها على األربع عجالت .زفر دخانه ببطء
وتساءل :وده دخله أيه فى موال الحشيش .أستدعى سليم حكمة على مقاس تفكيره :بلدنا دلوقتى بقت
على المشاع ياصاحبى وال أنت مش واخد بالك .أرتد للوراء يشغل ظهر الكرسى وعلق ساقا فوق األخرى
متقمصا دور خبير مستأنفا ما بدأه :الكل دلوقتى يابنى دخل اللعبة والسبأ أبتدى يعنى اللى كان قبل الثورة
مالوش فى أى حكاية دلوقتى بقى له لعبة وحكاية .يسمعه منصور بملل دون تركيز بينما الزال صديقه
مندمجا :يعنى فى صنف دخل وفتح صدره فى لعبة المخدرات توزيع وتجارة وفى اللى شق طريقه فى
حتتين سالح سلكهم من ليبيا بياكل من وراهم الشهد ده غير اللى داس فى حكاية المقاوالت هد وأبنى
وأقلب فى تالت أربع شهور وال فى حد بيسأل أزاى هد وال أمتى بنى أهتز عمود الدخان المنبعث من أنفه
مع هزة رأسه :كالمك صح ياسليم وآهو كله بيرزق .قالها وسحب أخر نفس من سيجارة المزاج قبل أن
يهمس متمنيا :ماتناولنى واحدة تانية ألحم بيها لحسن الدماغ لسة محتاجة .أخرج علبته من جيب قميصه
المفتوح حتى حدود القفص الصدرى ونفض منها واحدة :وماله ياخويا مش بأقولك ده صنف أستثنائى .
أشعل منصور السيجارة وأغمض عينيه يسحب منها نفسا طويال بينما أستفسر منه سليم وهو يختبر
بأصابعه جفاف " الجيل " فى فروة رأسه :مالها الدماغ بقى يامنصور .فتح عينيه وأرسل نظرة بائسة
شملت معظم مساحة المقهى كما شملت مراقبة للطاوالت والزبائن وجمعه :نفسى ياأخى الدنيا ترضى عنى
واألمور تسلك تبقى معايا وماحدش يبقى كابس على نفسى .
199
ــ ما أنا بأقولك يامنصور البلد دلوقتى مليانة لعب والحدق اللى يمسك فى لعبة يسترزق منها .
ــ طب ماتقول لنفسك بدل ماأنت داير تتسكع كده عامل زى بتاع العيال .بنبرة بجاحة :أقله أنا بأعرف
أرمى جتتى على البشر وبأطلع من ده بجوز جنيهات ومن التانى حتة حشيش ومن واحد زى حاالتك كده
فنجان قهوة وال واحد شاى وآهى بتقضى برضه .بنظرة ركنية شامتة أكمل كالمه :مش زى ناس قاعدين
زى خيبتها العارفين يروحوا وال ييجوا بس يافرحتى مش شايل غير أسم وزاعق بيه ..منصورأبن
المعلمة فايزة اللى عندها وعندها واللى يقلبك ويفتشك يالقى أخرك بريزتين قاعد بيهم زى الذليل ياولداه
مستنى رضى الست الوالدة .بدت فوضى غضب فى مالمحه :وأنت عايزنى أعمل أيه يعنى .قالها بإيقاع
مرتفع أستوقفت جمعة لحظة مروره بصينية عليها أتنين شوب زبادى :فى حاجة يامنصور .لم يرد
وتجاهله بينما قرب سليم رأسه المشتعلة بالجيل وتفحص هيئة صديقه :عايز الصراحة أنت راجل
نص كم ..أنا لو مكانك ودى أمى وعزة جالل اللـه كان زمانى مصمصتها .لم يعقب وشرد بعينيه بعيدا
فأعاده سليم :ده أنت الحيلة ياجدع يعنى أنت عندها أول الزمن وآخره والصح بيقول أن طلباتك تبقى
أوامر .نكس رأسه على صدره وزاره طيف الضعف :حيلة أيه دى أمى مش طايقانى وال بتقبل منى كلمة
من يوم مافتحت معاها موضوع البت نوسة وكأنى مش أبنها ياجدع ومش شايفة قدامها غير الوله النونو
اللى سرها كله معاه وبقى عينيها وأيديها ورجليها .أعترضته زفرة حزينة كمن يبحث عن هوية .أردف :
لكن أنا وأبويا بالنسبة لها أيدك منها واألرض مابنشوفش منها غير البهدلة واألهانة فى الداخلة والطالعة
وبتحاسبنا بالمليم وكأننا شغالين عندها باليومية .لم تفلح كلماته فى تغيير وجهة نظر سليم :كل اللى قلته
ده مايدخلش ذمتى بربع جنيه مخروم .فى ملل :ليه يادكتور ! .
ــ كالمك كده محسسنى أنى بأسمع موظف فى أرشيف الحول له وال أوة مش ده منصور أبدا اللى أعرفه ده
أنت من خالصة شباب حارة المنجى ومش كده وبس ده أنت أبن عبده الجن يعنى زمن األجرام والصياعة
الصح ..أدينى أنت بقى عقلك وفهمنى أزاى أنتو الجوز مش عارفين تلفوا دماغها وتاكلوا عقلها ..زادت
حماسته وعصبيته :يعنى أبوك ده بجاللة قدره واللى فرحان بطوله وعرضه وشنبه اللى مفرود على
الجنبين مش قادر يكسر رقبتها ويخليها زى أى مرى فى الحارة آخرها طبخة وكنسة وبالليل تبقى زى
الجزمجة تستنى نصيبها .نظر له منصور بهدوء مفجع يتأمل مالمح وجهه الثائرة :تصدق وتؤمن باللـه
ياسليم .
201
بجوار طاولة عم" يونس " وأبن خالته " شفيق " فى ضيافة األسطى " خميس" األستورجى الذى نال
شرف أقتراب كرسيه من مؤخرة نوسة .
ــ أنت أتجننتى يانوسة والجرى فى دماغك حاجة ؟! .قالها بنبرة الملهوف لسماع أجابة جاءته ال ينقصها
الجرأة والميوعة :أيوه جرى يامنصور .ألقى نظره من فوق كتفها يتفحص الهمس والعيون :فى حد
عاقل يابت يدخل برجليه قهوة بلدى باللبس ده .مالت بوسطها قبل رأسها :ومين قالك أنى عاقلة .جذبها
من رسغها :تعالى معايا نطلع من هنا .سحبها أمامه وخرجا من عتبة المقهى ودفعها من الخلف بكفه فى
رقة حتى أبتعدا عن حرم المقهى عدة أمتار فى ضيافة نظرات جائعة بينما كفه المبسوطة على ظهرها
يوشك أن تنزلق إلى موقع " الهنش " كان يتحسس اللحم الطرى تحت التيشرت الخفيف .فتقدمت عنه
خطوة فسقطت اليد المتحسسة لكن بقيت العين المتفحصة فى خلفيتها الطاغية ،فكانت قادرة بجسدها
الصاعق على جذبه واألحتفاظ به حتى وهى تدير له ظهرها قبل أن تتسع خطواته ويلحق بها حتى لمحت
ظله يقترب منها حتى حاذاها وزحمت كتفه كتفها فوقفت أمامه عند رأس الحارة وواجهته وكأنها تريد أن
تقيس نفسها به .فعاجلها بعصبية :هو مافيش أختراع أسمه المحمول مافيش ربع جنيه فى رصيدك يكفى
رنة .حدقت فيه من خالل الليل وضوء لمبة الشارع وبصوت ال قوة فيه :صوابعى دابت من األتصاالت
والرنات وسيادتك مكبر دماغك وأخر طناش ..قلت مابدهاش بقى آجى بنفسى المشرحة وأشوف القتيل
حكايته أيه! ..النت نبرته وبدا ظريفا وحريفا :واللى جاى يشوف القتيل مش يلبس أسود ويجيب معاه
أزازة جلوكوس والمضاد وال أى حاجة يمكن القتيل لسه فيه الروح وييجى منه .لم تبخل عليه بنظرة من
أعلى ألسفل مع أبتسامة ضيقة :مش باين ..أنا شايفة قدامى جثة متلجة .
ــ أنت ماخلتش فيها أول وال أخر يامنصور ..كم مرة وعدتنى حتخلص كل حاجة أول ماأمك تخرج من
السجن وآخر مرة عندنا فى البيت قلتلى بعضمة لسانك اللى عايز قطعه الزيارة اللى جاية حتكون أمى فى
أيدى وآهو لغاية دلوقتى الشفت أمك فى أيدك وال فى ..مالوش الزمة .قالت جملتها بمرارة ..أشعل
سيجارة ثم نوه عن سخطه :أمى صعبة أوى يانوسة ودماغها زى فردة الجزمة ومش عارف أوصل معاها
لحل .فكان أول خاطر أحتل ذهنها :معناه أيه الكالم ده يامنصور ؟ .
ــ من غير رغى والكالم كتيرأنا شاريكى يابت وعايزك النهاردة قبل بكرة بس الحكاية كلها مربوطة فى أيد
أمى ومافيش حل قدامى غير أنى أفضل وراها واحدة واحدة وباللين وبراحة حتيجى معايا سكة .قال
202
منصور كلماته بغير أقتناع ،كان مدركا فى قرارة نفسه أن الوصول لحل يرضيه مع أمه أمرا مستحيال ،
ألنه أعتداء على مناطق نفوذها ،والتى تحتفظ لنفسها بحق أتخاذ القرار منفردة بناء على أعتبارات
تفهمها هى وال يهم فيها رأى آخر ،هى التى تقرر وتختار وهى التى تدفع وهى التى تضع يدها فى يد
الرجال .وأنكمش السؤال فى أعماقها مهزوما ثم ضاع فى دوامة قلقها ومخاوفها ،إال انها تماسكت
وأطلقت تهديدا :يبقى خالص يامنصور وكفاية لحد كده .نظر إليها بال كلمة .فتابعت :أدور أنا على حالى
وأنت تروح لحالك وخليك بقى جنب أمك وسيبنى أنا أشوف نصيبى .أنحشر الكالم فى حلقه وخرج منه
بصعوبة :أيه الهبل اللى بتقوليه ده يانوسة ..فيه حد عاقل يسيب النعمة اللى ربنا بعتها له ..ده أنا من
غيرك يابت يبقى ماليش لزمة فى الحياة ..أقفى جنبى يانوسة وساعدينى .
ــ طب وأنا بأيدى أيه أعمله ..أمى مسودة عشتى يامنصور بسببك كل يوم نأورة ورمى كالم فى الرايحة
والجاية ده أبن أمه وبيخاف منها وأبقى قابلينى لوخد خطوة لقدام ..بأسمع وأسكت ومش راضية أتكلم
وأقول فى نفسى ال يابت منصور ده راجل ومش حيتخلى عنى ..لكن اللى أنا شايفاه أن أمى عندها حق فى
كل كلمة .
ــ أنتى فاهمة غلط يانوسة ..لمحت فيه األنكسار فأختصرت الموقف :الغلط والصح يامنصور أنت تيجى
دلوقتى معايا ع البيت وتقعد مع أمى وتفهمها الدنيا ماشية أزاى يمكن تالقيلنا حل .تنهد مضطرا .سحب
نفس أخير من سيجارته ثم ضربها بطرف سبابته :اللى تشوفيه .
مشت بجواره تصحبه للبيت وبدت بجانبه كولية أمره ..خمس دقائق من السير المتعرج داخل حارتين قبل
أن تطأ أقدامهما حارة أبن شكر ثم أجتازا مدخل البيت صعودا إلى الشقة حتى تصدرت الباب وهو من خلفها
كظلها قبل أن تلصق به مؤخرتها فى منطقة ماتحت الحزام كى تفسح ليدها ممرا داخل جيب البنطلون
ألنتشال المفتاح من حشرته ثم أولجته فى الباب وصحبته إلى الداخل وهى تحيط خصره بذراعها قبل أن
ترفس الباب بكعب قدمها فأحدث أرتجاجا سمعت على أثره صوت أمها :أنت جيتى يانوسة .
ــ أيوه ياما ومعايا منصور .دلف إلى الصالة بينما صوت أقدام بدرية الثقيلة تسمع بوضوح قادمة من
غرفتها ودخلت عليه بفم ملوى وأنف مرفوع مرتدية مالبس الخروج وسحنة شوهها الماكياج الردىء ،
فالحاجبان تجاوز تخطيطهما طولهما الطبيعى وبقعتين بلون الدم المتجلط على الوجنتين بال أنسجام .
نظرت إليه بعين خبيرة فأدركت أنه مسطول ،فتكلفت وهى تصفعه بكلماتها حين أقتربت منه كوحش كاسر
203
حتى حشرته فى ركن الكنبة وأجلسته عليها كما يجلس السلطان ضحيته على الخازوق :أنت أيه حكايتك
بقى ياسى منصور ..بصراحة كده أنا مش فهمالك راس من رجلين .
ــ أمك خرجت من السجن وقلنا الحمد للـه األمور حتتصلح والحال حيمشى وآهو فات كام أسبوع وأنت
يانور عينى أختفيت ال حس وال خبر .خلع على وجهه معالم الجدية .هو دائما يفعل ذلك كلما أكتشف أن
هناك من يحاصره ويسد عليه منافذ الهروب :وال أختفيت وال حاجة ياست بدرية واللـه العظيم أنا ماساكت
وكل يوم والتانى عامل حكاية كبيرة مع أمى ومسود أيامها .تشبك أصابعها فوق بطنها الدائرى :وأخرتها
أيه يامنصور .
راح يسترسل فى أحاديث عائمة مفككة ويتكلم بألفاظ موجزة غير مفهومة ،فأستدعت من بدرية أنقباضة:
أنا مش فاهمة حاجة من اللى أنت بتقوله ده .بينما جلست نوسة إلى جواره تلتصق به كقطة تريد أن
تندس فى حضن صاحبها وهى تتبع تكتيك المياعة والدلع :سيبك من الرغى الكتير يامنصور أمى عايزة
تشوف حل .ردد مقولة الضعف :دبرينى ياست بدرية أعمل أيه وأنا من أيدك دى أليدك دى .أخذت نفسا
عميقا متصنعة الحنكة وبدت له وكأنها تبحث عن حل ،لكنها فى حقيقة األمر كانت قد وضعت ترتيبا خاصا
وخطة بديلة فى حالة أمتناع فايزة عن الموافقة ..اذن حانت اآلن لحظة الحقيقة ..سددت له نظرة ماكرة
لحقتها بجملة مثلها :اللى أنا شايفاه يامنصور يابنى أن المعلمة فايزة مش سكتها الكالم وال ينفع معاها
أخد وال رد .بهتت مالمحه :يعنى أيه مش فاهم .وضعت كفها " المتختخ " على كتفه :أمك من الصنف
اللى الزم تحطه أدام األمر الواقع .تهدجت أنفاسه :قصدك يعنى أخطب نوسة وأعلى مافى خيلها تركبه .
قالها ثم ترنح فى جلسته حين ترجرجت به الكنبة بفعل جلوس أضطرارى منفعل من بدرية :بقولك تحط
أمك أدام األمر الواقع عشان تلين وتقبل تقوم تقولى خطوبة ..هو أنت يابنى منصور وال مرسى ! نظر
إليها بغباء ولم يعلق .فأكملت :واألمر الواقع يانور عينى ..تكتب على نوسة ..رفع عينيه إليها ساهما
يتبين جدية الطرح فى وجهها .فأردفت :هو ده الحل اللى عندى وأنت حر .لم يحتج أنما أنتابته ربكة :
يعنى عايزانى أكتب على نوسة من غير موافقة أمى .مسح عرقه وألتفت ينظر فى عينى نوسة :يعنى أنتى
شايفة كده يابت .هزت رأسها فى صمت مع أبتسامة .بينما ردد منصور كالمجذوب عدة كلمات قبل أن
تضعها بدرية فى جملة مفيدة :كتب كتاب ..مأذون ..
204
ــ أيوه ياروح قلبى حتبقى مراتك على سنة اللـه ورسوله وتبقى حاللك وتحت أمرك وكل وأشبع منها زى
ما أنت عايز ..الح فى ذهنه تفاصيل مباغتة غير مرتبة :أبقى عريس ونوسة ع السرير بقميص النوم
العنابى ..أرسلت بدرية نظرة أستقرت فى عينى أبنتها التى فهمت معناها وترجمتها فى الحال فأقتربت منه
وألتصقت به قبل أن ترفع رأسها فى وجهه وأنفها القصير يالمس ذقنه ،فدبت فى أوصاله شهوة .
وهمست :هو أنت نونو ولسه خايف من ماما .ينتابه أحساس الخائف المذعور :مش القصد يانوسة ..
بس الزم أفكر صح عشان النتيجة تطلع صح .قامت أمها تحمل أثقالها وهى تتنهد ساخرة :على ماتفكر
صح ياروح قلبى أجيب طرحة من جوه أحطها على راسى .
ــ هو أنتى أتحجبتى ياست بدرية .مصمصت شفتيها :حنعمل أيه بقى أحنا دلوقتى فى زمن الحالل بين
والحرام بينى وأدينى بقالى كام ليلة شغالة مع فرقة تواشيح فى ساحة المرسى أبو العباس ..عن أذنك ..
ضاق صوتها :سيبك من أمى يامنصور ومن حجابها ..قلت أيه فى اللى أمى قالته ؟! .تأمل وجهها الذى
اليبعد عن عينيه سوى سنتيمترات فى مواجهة غير متكافئة حيث المؤشرات قضت على تردده دون
مقاومة حين نزل بعينيه يتفحص مابين النهدين من خالل فرجة التيشرت بعد ماتحرر األزرار من عروته ..
رمقها للحظة قبل أن تعلو شفتيه أبتسامة :كل اللى أنتى عايزاه يانوسة حأعمله ..أدينى أسبوع واحد
حأرتب نفسى وحأقولك نعمل أيه .تعبث بأصابعها حول شفتيه :بجد يامنصور .فأحتوى شفتيها بين
شفتيه يمتص منهما عسال مسكرا .برغم داللها وأستسالمها تملك قدرة مريعة على أن تصنع منه كائنا بال
أرادة .خلصت شفتيها وباعدت يديه برفق عن صدرها بينما عيناه السوداوان تمتلئان رغبة ولهفة فرأت
فيهما عينى ذئب يحاصر نعجة فقررت أن تعمل على تهدئته بعد ماتناولت يده ووضعتها بين كفيها :أهدى
يامنصور شوية أمى جاية علينا .أنهت جملتها تزامنا مع وصول بدرية وقد غطت رأسها بطرحة
بلون العسل وفاجأته بسؤال مباغت حين رصدت بعينيها بصمات فعلته حول شفتى بنتها :لو عايز نوسة
فى الحالل يبقى المرة الجاية تيجى وتحدد معايا ميعاد كتب الكتاب .شعر بالحرج :أنا حأقوم أمشى
ياست بدرية .
ــ أل أستنى خد واجب الضيافة األول وبعد كده مع السالمة .لم تطل الزيارة ..جلس منصور رهن األعتقال
فى حراسة بدرية ،تجرع فى أخرها كوب شاى ماعت لها نفسه ثم نظر فى ساعته وأصر على األنصراف
بينما نوسة فى لحظة خروجه " تقرص " أمها فى وسطها وهى تردد بعصبية مكتومة :براحة ياما عليه .
قالتها ثم صحبته إلى خارج الشقة وهى تهمس :على أتفاقنا يامنصور ..كمان أسبوع ..والمرة الجاية
205
حأدوقك حاجة حلوة ! .قال وهو يعطى الباب ظهره :دوقينى حاجة تانية غير بتاعة النهاردة .طرقعت
ضحكة وظلت واقفة على رأس السلم وهى تشيعه بأحلى ماتعثر عليه من كلمات حتى أختفى فى ظالم
السلم .لم تمض سوى دقيقة واحدة على دخولها الشقة إال وكان أهل حارة " أبن شكر " كلهم يستمعون
إلى صراخ بدرية وأبنتها وهما يتشاجران بأعلى صوت بعدما فاض بأمها أالعيب منصور ومماطلته بينما
فاض بالبنت الخوف الذى جلجل فى كيانها من ضياع الحبيب .
000000000000000
وصل " جمال النونو " لشقة فايزة فى موعده اليومى الثابت مابين التاسعة والعاشرة مساء ،أستقبلته فى
الصالة المقر الرئيسى لعقد لقاءاتها اليومية مابين حوارية فى الصباح مع سيدات حارة " المنجى " على
شاكلة " حمدية " زوجة حامد الحالق ونبوية سيدة أعمال تدير طشت جبنة قريش وكروانة مش أضافة
إلى أم الشحات وهى من القيادات التاريخية للحارة حيث ولد جميع من فى الحارة فى وجودها ،وبعد
المغرب تستقبل وفودا من تجار كرموز ورموزها المعروفين أمثال الحاج بالل تاجر أجهزة كهربائية وعم
سالم وميالد والحاج سيد البرقوقى من موردى األقمشة والستائر والمفروشات ،كانت لقاءات ناجحة تمت
فى أطار تحركات متبادلة الهدف منها جس نبض السوق من ناحيتها وكيفية العودة لممارسة نشاطها
التجارى فى حين يبحث التجار عن أستعادة وكيل مهم بحجم فايزة ينعش تجارة باتت تلفظ أنفاسها األخيرة
فى كل عموم كرموز وسط حالة من الفقر المتصاعد بين أناس صدرت لهم شهادة وفاة أقتصادية منذ أندالع
ثورة يناير ..دلف " النونو" الصالة يتبع خطاها ،ثوان وكانت فى مكانها أمام مائدتها الصغيرة فى
مواجهة ذلك الكائن صاحب الوجه األرنبى ،وكعادته فور دخوله يقف أمامها منتبها يخلى مافى جيوبه
ويضعها على المائدة وكأنه " ممسوك تحرى " أمام ضابط بقسم شرطة .نثر حاجياته تحت مراقبة عينيها
"علبة سجاير L.Mوموبايل " نوكيا" من أصل صينى وثمانين جنيه تسلمتها منه حصيلة الوردية األولى
قبل أن يسلم مفاتيح التاكسى لـ " خضر" قائد الوردية الثانية ،كانت تلك أول فقرة فى برنامجه اليومى قبل
أن ينتقل الى فقرة التقارير .سحب سيجارة من علبته أشعلها ونظر لها قبل أن ينكمش أمامها فى موقعه
بحسب تكوينه الجسمانى لما يمتاز به من كتفين ساقطين وقفص صدرى ضئيل للغاية اليكفى لحبس
عصفورة بينما هى راسخة فى مكانها ككيان يتفاعل بشكل أيجابى مع واقع تسيطر عليه من كافة جوانبه ،
فكان واضحا فى جالل جلستها الرأس يتحرك بزهو تحت حجاب أحكمت طرفيه مع حاجبين مرفوعين
وسحنة متجهمة أضفت عليها هيبة " أبعد عن الشر وغنيله " ..وكأن شيىء لم يكن ،وكأن السجن فى
206
ذاكرتها مجرد رحلة لطيفة لم يترك فيها مايعكر صفوها اللهم إال تذكار تحتفظ به على ظهر يدها على شكل
بقعة رمادية ناتجة عن صعقة كهربائية نالتها كمكافأة حين قادت تظاهرة للتحرر داخل العنبر خالل ثورة
يناير .سرد لها النونو" مشاهداته عقب دورية أستطالع قام بها داخل المقهى ..يضعها داخل الحدث بكل
تفاصيله .أستهل روايته منكس الرأس يدعك كفيه ولم يعد فى وجهه من المالمح سوى القلق :مشيت من
القهوة على الساعة سبعة وكان منصور تحت عينى قاعد مع الوله سليم بيضربوا سيجارتين فى الركن
جنب الشباك بعدها أستلم خضر مكانى على مارحت عند محمود المحامى أجيب منه وصل األمانة بتاع أم
عبير زى ماقلتيلى ..خلصت األمر سريع سريع ويادوب فى نزلتى من عنده لقيت خضر بيتصل على
وبيبلغنى أن البت نوسة جت القهوة أتكلمت مع أبنك منصور وبعد كده خدته فى أيدها ومشت .تبدل لونها
وكررت خلفه مفردات الجملة بوجه ينفجر دهشة :بتقول دخلت القهوة ..نهار أبوها أسود بنت الوسخة
هى حصلت لحد كده بنت بدرية تدخل قهوتى وكمان تاخد الوله فى أيدها .أضافت بعد سكتة قصيرة :
وبعدين يامنيل .
ــ الوله خضر أتسحب وراهم لغاية مادخلوا حارة أبن شكر وبعد كده طلع معاها البيت .جحظت عيناها فى
شرود ..لحظات صمت أتاحت له فرصة للسؤال :ماتفهمينى يامعلمة بتفكرى فى أيه ؟ .أشعلت سيجارة
وظلت تنفث غيظها وهى تنظر لصبيها الذى ينتظر ثم قامت تلملم لحمها المكدس داخل العباية السوداء .
لفت لفة فى الصالة بخطوات مضطربة ثم أكتفت بعدها بالوقوف متحفزة تداهمها أفكار وأستنتاجات حتى
قفز الكالم على شفتيها مجددا :موضوع البت دى كبير أوى ياوله ..حكاية أنها تروح برجليها لغاية
القهوة وتدخل كده بعين قادرة وتسحب الوله من أيده وتطلع بيه ده مالوش عندى غير معنى واحد مافيش
غيره ..يتتبع النونو بعينيه دخانها وهو يصعد ويهبط أمام وجهها .مستفهما :وده معناه أيه يامعلمة .
رجعت لكرسيها وجلست بوجه يمتأل بكمية ال بأس بها من الغضب :ده معناه أن الوله منصور بيتهرب
منها وعايز يخلع وهيه مش عايزة تهمد وبتلف وراه .رفع النونو عينيه للسقف يقلب كالمها فى رأسه :
كالمك معقول برضه عشان لو فى ود وأنسجام كان يبقى فى أتصال يعنى كان يبقى فى ميعاد فى أى حته
تلمهم غير القهوة .بينما الذت نظرتها بصورة فى أطار عتيق معلقة قرب مدخل الصالة لوالدها الراحل
وقالت فى غضب للوجه الظاهر فى البرواز :ورحمة أبويا فى نومته ألكون قاطعه خبر بدرية وبنتها من
حارة أبن شكر كلها والموكوس أبن الموكوس أنا وهو والزمن طويل وحأفضل وراه لغاية مايسترجل
ويقول حقى برقبتى .ثم نقرت بأصابعها سطح المائدة تستدعى هدوءا يخفف عنها الضغط العصبى مع
كلمات مواساة على لسان النونو :أهدى يامعلمة دى أمور رفيعة وبسيطة وحلها بعون اللـه فى أيدينا بس
207
صلى على النبى كده وخلينا فى المهم وقوليلى بقى حنبدأ شغل أمتى .نظرلها بحيرة حين لم ترد إال أنه لمح
أتساع حدقتيها وكأنها تقرأ فكرة الزال خطها باهتا .فأضاف مستدركا :أيه يامعلمة أنتى رحتى لحد فين .
قالت بعد أن هدأت وظل أبتسامة تزحف على زاوية فمها فى لهفة قبل أن تسحب تليفونها المحمول وناولته
لصبيها واذا بها تقول له فجأة :طلع نمرة محمود المحامى وأتصل عليه .وزن كلمتها وهو ينظر فى قائمة
األسماء :خير يامعلمة ماهو أنا لسه جاى من عنده .لم تجيبه .أجرى األتصال وناولها المحمول قبل
أن يتخلى عن معرفة التفاصيل .أتاها صوت محمود المحامى مرحبا ،فعاجلته بالرد بعد وصلة ترحيب
قصيرة :أيصاالت األيجار بتاعة بيت حارة أبن شكر خليها عندك وماتبعتهاش الشهر ده .كان صوته
مندهشا :مش فاهم تقصدى أيه ؟ طفحت منها ضحكة ذات مغزى :لما أجيلك المكتب وأقعد معاك حأبقى
أفهمك الحكاية .أنهت المكالمة حين تالعبت أبتسامة خفيفة على شفتى النونو :ده باين عليه حوار
كبير أوى !.
ــ أتقل ياوله لغاية ما الزبادى يخمر .لم يفلح وده فى كشف سرها فزاد ألحاحه :ماتخلينى معاكى من أول
الخط يامعلمة ونورينى .توجهت له بنظرتها بينما ينتظر منها كلمة أو جملة توضيحية فأهدته أشارة من
يدها تعنى " حان الرحيل " :ياله قوم أتكل على اللـه وكفايه رغى وتطلع من هنا على القهوة عدل تلزق
فيها ماتقومش عايزة أخبار الوله منصور وأبوه بالتفصيل واألهم من كده الزم تعرفلى منصور راح مع
البت نوسة ليه عندهم فى البيت وخلى عينك فى وسط راسك وماتغفلش عن األفعى الكبير ،هو ده أس
الفساد لحسن اليومين دول الفار بيلعب فى عبى من ناحيته ومش مطمنة له .سبب قلقها المشروع من
عبده حين كانت تشعر به فى أحيان كثيرة ينسحب من جوارها قرب الفجر إلى ركن الكنبة فى الطرقة
المضاءة بذلك النور النحيل ،فكانت تتلصص عليه وتراه يلطم فخذيه وتسمعه يحادث نفسه عن أمور لم
تعد محتملة وعن عيشة سودة يحياها وبات يخفى أكثر مما يفصح رافعا شعار :الصبر يارب .يكرره مرارا
فى جلسته منفردا حتى يجف ريقه ويتخدر لسانه ثم ينام جالسا .أشعلت سيجارة أخرى وألتفت اليها النونو
قبل أن يتخذ طريقه للخارج :لو فيه أى جديد حأتصل عليكى والحتنامى بدرى يامعلمة .قالها بأبتسامة
باردة .نفثت دخان سيجارتها :مش بأتخمد قبل ما أراجع يومية القهوة مع جوز الندامة .ثم أشاحت
بوجهها تحاصرها أفكار وخطط لم تحدد بعد موعد التنفيذها .
بينما فى تلك اللحظة كانت بؤرة المقهى مزدحمة حول مائدة التف حولها مجموعة زباين فى دائرة التصقت
فيها األكتاف وتداعت عليها الرؤوس ،يشاهدون حدثا نادرا أشرابت له أعناقهم " ..عشرة طاولة " مثيرة
208
للجدل أحد طرفيها عم سالمة المستأسد على مقعده بجسمه النحيل ووجهه الضيق والتى أكلته التجاعيد
وحفرت خطوطا على جانبى عينيه الضيقة تتحول شقوقا فى حالة الضحك ،حافى الرأس إال ماتيسر عند
الجانبين خريج معاش منذ ربع قرن من الهيئة السلكية والالسلكية وهو التعريف القديم للشركة المصرية
لالتصاالت ويمثل عنصر الخبرة فى أحداث " العشرة " أمام منافس شاب من مواليد دفعة التسعينات ،هو
أشرف خريج دبلوم صنايع بتقدير سمح له بالترقى طالبا بالمعهد الفنى الصناعى لمدة عامين تخرج بعدها
عاطال قبل أن يلتحق بعدة وظائف قصيرة األجل .أستهلها كفرد أمن بقميص سماوى وكاب كحلى وحبل
ذهبى مشدود من الكتف األيمن حتى أخر جنبه األيسر فى مدخل عمارة بمنطقة سيدى جابر قبل أن يتقدم
بأستقالة مسببة عقب مشادة خفيفة مع البواب كسرت فيها سنته وأحتفظ لنفسه بخط اليزال مقيما تحت
أنفه طوله ست غرز ثم تقلد بعدها مجموعة وظائف على نفس الشاكلة حتى أنتهى به المطاف عامل نظافة
بفندق " البارون " فى شرم الشيخ قبل أن تنقطع عنها أقدام الزبائن بعد ثورة يناير المجيدة فرحل مع
الراحلين حتى أستقر أخيرا فى مقهى " عبده الجن " زبون دائم كامل التفرغ فأحترف الطاولة وأثبت جدارة
وتألقا وكسب أحترام المترددين ولقب بالحصان األسود وهو ما أضفى أهمية على تلك المباراة .
بينما " عبده " فى تلك األثناء كامن فى موقعه متجاهال قيمة الحدث إال من نظرة واهنة يرسلها كل حين
عند أرتفاع أيقاع " الهيجان" مع لقطة يخطفها بفتور من مشهد فى مسلسل تركى تذيعه قناة " دريم "
تظهر فيه حزمة من النساء يحضرن حفلة فى حديقة قصر بفساتين سواريه بدت فيها مساحة اللحم أكثر
من مساحة القماش .بدا مكتئبا واجما .لم يكن تعيسا وحسب ،تعبير التعاسة اليوفر أطمئنانا فى مثل حالته
وال يشفى عليال وال محبطا وال مقهورا ،قهر يجرحه يقطعه ويبعثره بل كان ذلك كله معا ،ومجتمعا .
وصل قهره حالة األنفجار وأحس بعجز فاجع أمام أستقواء فايزة وجبروتها وشعر بنفسه ضعيفا ومهانا
ومنتهكا .لم يشأ تعايره بالضعف وراح يقنع نفسه بمسكنات األلفاظ :أكيد دى غمة وبكره ربنا يعدلها من
عنده .بينما حالته النفسية كانت تمثل مادة خصبة على ألسنة المترددين على القهوة من المقعدين بأمراض
الشيخوخة ومصابى المعاش المبكر وعواطلية حارة المنجى .طال به الصمت قبل أن يغمض عينيه هربا
من صور بدت له رتيبة ومملة يتابع عبر الظالم ملحمة صوتية غير منسجمة ،فرقعة " أوشاط " الطاولة
ينزل مدويا فى حيز خانته مع حماس جماهيرى متصاعد يتخللها نداءات مجتهدة على لسان جمعة لعامل
" النصبة " البليد :فنجان قهوة بن تقيل زى دمك سكر خفيف زى عقلك معاهم واحد شاى أحمر زى !...
نبرته فى النداء كانت أشبه بأستغاثات وسط أدعية مشايخ ومقاطع من سور قرأنية ونغمات شعبية مع
موسيقى غربى كلها كانت خليط من رنات موبايالت تدافعت إلى رأسه دفعة واحدة مع صراخ أشرف
209
وضحكات النسوان التركى بدبلجة لبنانى " مايصة " فتوقف بذهنه عند " المياصة " اللبنانى يستدعى
ليالى طرية باتت فى ذمة التاريخ .فتمتم :اللـه يرحم أيام المزاج ويمسيكى بالخير ياجودت .قالها وتنهد
قبل أن يستقل آلة الزمن راجعا لمشهد نوفمبر 2011حين تعرف على" جودت" الجئة سورية عن طريق
" نعمة بهنس" التى رفعت شعارها فى وجه " عبده " حين هم بها " أسترنى بورقه ياعبده " فكانت أول
" عرفية " فى حياته النسائية كما سهلت له قضاء أسبوعا مع " جودت " بشقة قانون جديد بالعصافرة
قبلى أدرك بعدها وألول مرة فائدة أن ينتمى المصرى لمحيطة العربى .فتح " عبده" عينيه والحال كماهو
الحال لم يلحظ تغييرا فأرسل نظرة بال تعبير قبل أن يبدأ أشتباكا مع ذاته فى حوار أستهله بسؤال :وأخرتها
أيه ياعبده حتفضل قاعد متحنط كده وال حتسترجل وتخلى عندك دم وتشوف صرفة مع الولية دى .لم يجب
وأستدرك وهو الزال فى وضعية األشتباك مع حوار فات أوانه :أزاى الوليه دى أتمكنت منى وخلتنى فى
أيدها زى األرنب وملبشة جتتى وكاتمة على نفسى ..صحيح مرى زى القدر مافيش منها مهرب بتحاسبنى
بالمليم والقرش وتراجع ورايا الكلمة واللفتة .زفرة متعبة بطعم األستسالم :ولية جتتها منحسة ال زمن
هدها وال سجن أدبها .ثم بدت فى لكنته رنة ساخرة :أخس عليك ياعبده راجل من دون الرجالة .ختم
جملته وأدلى برأسه على صدره فلمحه الحاج تاج حين أجتاز عتبة المقهى فأطال النظر فى وجهه فقرأ فى
مالمحه وجوما وبؤسا فتحرك إليه متحاشيا دائرة الصخب وألتقط كرسى خالى وسحبه خلفه .
ــ ماتوحد اللـه ياعبده .رفع عينه فى ملل ليجد أمامه الحاج بجلبابه األبيض الفضفاض وجلس على
الكرسى إلى جواره وكأن عبده لم يشعر بوجوده إال مع كلماته :ال إله إال اللـه ..أهال ياحاج تاج .
ــ مالك فى أيه شايل الدنيا كلها على دماغك ليه .
ــ مخنوق وأرفان مش واخد على عيشة الحصار دى ال عارف أروح وال أجى وال فى قعدة مزاج والحتى
عارف أصرف قرش وال أى حاجة .ظهرت أبتسامته الطيبة :هيه لسه مزنقة عليك .قبل أن يفجر قنبلة
الهم أشار بيديه مناديا :هات أتنين شاى هنا ياجمعة فيهم واحد للحاج تاج ..كلمة مزنقة ماعدتش تكفى
اللى زى حاالتى ..أنا مش القى نفسى ياحاج ..أنا بأموت بالبطيىء .أنتشله من كآبته حين خرج عليه
بلسان ناصح :ياعبده أنت أبن بلد وراجل مفتح وحكايتك مع فايزة مش حتستعصى عليك ..أبدأ معاها
ياأخى من جديد وأديها األمان وأطوى الصفحة القديمة وبأذن اللـه مع المعاملة المظبوطة كل حاجة
حتتغير وأكيد هيه كمان حتتغير .هز رأسه كمن يتلقى عزاء :فايزة تتغير ..واللـه أنت راجل طيب .قالها
بوجه طافح ثم شرد تائها ولم يرد قبل نداءين ولكزة :الشاى ياعبده .أستلمه وبدا حالما كمشتهى الماء فى
210
الصحراء :ياسالم لو فى أنون فى البلد دى يدى الراجل الحق أنه يبدل الحرمة اللى معاه ..حتى ولو بأى
حاجة .بنبرة لطيفة مع رشفة شاى :ببنوتة صغيرة يعنى .
ــ ال ياعم بناقصها حريم خالص يبدلوها حتى بلبيسة جزم .أحمرخديه بضحكة بريئة بينما أضاف عبده
ناقما :أخوان أيه وزفت أيه مش الناس دول ياحاج كانوا مصدعين دماغتنا فى المظاهرات وعايزين
يروحوا القدس ميتين بالماليين .أرتد للوراء يطرح فكرة .أردف :أنا لو منهم يلموا النسوان اللى
من عينة فايزة ويبعتوهم على فلسطين أقله يرازوا بيهم اليهود .قابل فكرته بضحكة كالشهقة :فكرة
تحترم ياعبده .
ــ تصدق وتؤمن باللـه ياحاج أنا لما بأقلق من نومى قرب الفجر وبأشوف خلقتها المكعبلة جنبى على
المخدة ..بعيد عنك كده بأقوم والمؤاخذة زى اللى شاخخ على روحه وبأسيب األوضة كلها وبأختلى مع
نفسى على الكنبة اللى فى الطرقة .يلتقط أنفاسه رافعا كفيه ضارعا ذليال :وأقول يارب أرزقنى بعفريت
يركع قدامى ويقولى شبيك لبيك ..عايز فلوس ..عايز جاه ..عايز صحة .يهتز وهو يخبط على فخذيه :
على الحرام من دينى مش حأطلب منه حاجة غير أنه يخلصنى من الولية اللى جوه !! .دخل" جمال النونو"
المقهى مع نهاية قهقهة الحاج تاج النادرة الحدوث وعيناه مركزتان ناحية عبده بينما قدميه تقوده الى
طاولة منزوية فى الركن فبادر بصفع مقعد الكرسى الخالى بكف يده متظاهرا بأن عليه غبار فى حين توقف
عبده عن الكالم وشعر بأن هناك عيون لئيمة تراقبه وتنظر إليه من ركن واحد تتفحصه خلسة ،لم يجد
أمامه سوى تكتيك " عبده األهبل " ،فشغل نفسه بـ " سعيد تشكك " الذى ظهر فجأة وأندفع ناحيتهما
بخطواته القصيرة وحركته النشطة السريعة ،شد كرسيا وجلس ثم طلب ينسون وأستدعى " جنش
الجزمجى " وخلع نضارته وأزاح عرقا نبت فى جبهته فى مدة ال تتجاوز النصف دقيقة قبل أن يعد لسانه
لبداية كالم آمال أن يكون مثار جدل أو أحباط ،فذكر خبرين لهما عالقة مباشرة بالبلطجة من بينهما سطو
مسلح على فرع بنك بمنطقة القبارى والتانى أقتحام مستشفى األميرى وسرقة جهاز أشعة مع اعتداء
مبرح على األطقم الطبية ،فأستوقفه الحاج تاج مشمئزا :كفاية يا أخى أخبارك السودة دى حرام عليك هو
أحنا ناقصين .
ــ هو أنا يعنى بأجيب حاجة من عندى مش هو ده حال البلد وهى دى األيام السودة اللى أحنا عايشنها .قام
من مكانه يلتحف بالهم :أقوم أمشى أحسن ..السالم عليكم .
211
ــ عليكم السالم ياحاج تاج .قالها تشكك بفرحة وكأنه حقق نجاحا ثم سلم قدميه مسترخيا
لـ " جنش الجزمجى " الذى أحتضنها بين ساقيه رافعا عينيه الكبيرتان :جزمتك ياأستاذ تشكك مش حينفع
معاها لمعة على طول الزم األول تتاخد سكينة معجون ده وشها كله مشقق .أفتعل أبتسامة خجولة :الجزم
عندى ماليه البيت بس الجزمة دى بالذات بأحس فيها براحة نفسية .شعر عبده بالضيق :ماتخلص
ياجنش وطوقها بأى هباب وخلصنا .ثم تابع وجه النونو الذى يشير لجمعه بأصبعيه مصرحا :فنجان قهوة
بن تقيل سكر تقيل .
ــ مش عوايدك يعنى ياأسطى تطلب قهوة بالليل .قالها جمعه بملل بينما نظر اليه فى كراهية :وأنت لك
فيه يابارد ! ..مر الوقت بطيئا دون أحداث مهمة .حتى أنحسرت األقدام وتسربت الوجوه لحال سبيلها ولم
يتبق إال مطاريد الحارة من المفلسين والشمامين والفارين من واجبات شرعية المنضمين لعداد من يعتبروا
أن الزواج صداقة وأخوة ال أكثر ! ..كانت الساعة تجاوزت الواحدة صباحا .أمعن النونو التصنت ..ساعده
صمت الليل وقلة الزبائن على جالء سمعه فتحولت كل شعرة فى جسمه وكل عصب يشاركه األستماع .
مرت ساعة والنونو يالحق عبده دون جدوى بينما األخير يالحظه من محبسه األنفرادى داخل كرسيه بعد
أن فارقه " تشكك" من نصف ساعة ،يدرك أنه تحت المراقبة المشددة من صبيها فيخرج عن صمته من
حين ألخر فيلوح لجمعه الذى يفهم طلبه فيأتيه بالشيشة وحجر المعسل قبل أن يتمتم بالسباب يلعن فيها
فايزة وصبيها دون أن تتحرك شفتيه وال عينيه من وجه النونو ،إال أنه أصابته لوثة غضب مفاجئة دون
وعى منه رافضا كل أشكال المراقبة والمالحقة وقام من كرسيه متجها إليه بخطى منفعلة حتى بلغه فى حين
لم يرفع النونو رأسه إليه مستعمال " الطناش" لكن عندما طال وقوفه أمامه أضطر لرفع رأسه ولمعت
عيناه وأنفرجت شفتيه األرنبية عن تلك األبتسامة الساخرة التى يفهمها عبده فأنحنى نحوه مستندا بكفيه
على الطاولة :ماتفهمنى العبارة أيه يانونو بدل حركات أسماعيل ياسين اللى أنت عاملها دى ! .لم ينطق
وأشار له بالجلوس وأن أتسعت أبتسامته :أقعد يامعلم عبده وبالش الكالم الكبير ده .هم بالجلوس :
ماتجيب من األخر وقولى عايز تعرف أيه وأنا أريحك ؟ .مال برأسه وكأنه يطقطق فقرات عنقه :براحة
على يامعلم عبده لو مش عايزنى أقعد فى القهوة صارحنى وأنا أتكل على اللـه .
212
ــ وماله حأنورك ..آخر الكالم يا أبن الناس أنا متلقح هنا بأشوف أكل عيشى يعنى الباروح شمال واليمين
ومن ساعة مابأوصل المحروقة دى وأستلم من منصور وأنا الزق فى الكرسى لغاية آخر الليل يبقى لزمته
أيه شغل المرشدين ده ولزقتك هنا ليل ونهار مش التاكسى كان أولى بالوقت ده بدل ركنته بالساعات قدام
القهوة .
ــ ماتشغلش بالك أنت بالحكاية دى التاكسى له صحاب يسألوا عنه .صفع عبده الطاولة بكفه وبعدها سمع
النونو رنة غضب .
ــ صحاب التاكسى تبقى مراتى يعنى اللى يخصها يخصنى .غير أن جمال النونو نصيبه من األدب والذوق
محدود يفهم نفسية عبده ويطيب له أن يكايده :ماشى يامعلم عبده حأبقى أبلغ المعلمة فايزة بالمعلومة دى .
صدته العبارة وقام صامتا وسار ببطء الى كرسيه ثم ألقى نظرة على ساعته فوجدها الثانية صباحا فنادى
على جمعه الذى يغالب النعاس والنعاس يغالبه ونظر الى الخارج وحك مقدمة رأسه :أنا ماشى ياجمعه فتح
عينيك كده وصحصح .قالها وأتجه بحذا طاولة النونو ورماه بنظرة وأخذ يهذى فى غضب وتحامل على
نفسه وأنصرف متعثرا فى ساقيه الطويلتين .
خرج بكتفين ساقطين محتضنا األرف مصابا باالكتئاب واذا نطق تنهد وسأل اللـه اللطف بعباده .مضى فى
سيره إلى الحوارى الضيقة المتشابهة فى الصمت والظالم خلف األبواب ،لم يصادف سوى كالب تهز
ذيولها وتتجه إلى كومة عند المنعطف فسار بجوارها يحمل على كتفيه هموم الدنيا وفى رأسه ألف منشار
يمزقه .وسأل نفسه وهو ينقل خطواته :يارب لما أرجع البيت أالقيها مخمودة وال مقتولة وأترحم من سين
وجيم بتاع كل يوم .تعجب من السؤال وهمس لنفسه بصوت مسموع :تعمل اللى تعمله بقى تفتحلى محضر
تفتحلى رجليها أنا زهقت بقى وطهقت وقسما باللـه لو فتحت بؤها بكلمة حأخلى ليلتها سودة .
ظل يمشى وأفكاره تمشى معه حتى فاجأه البيت فأستعاذ باللـه وقبض على طرف جلبابه وصعد السلم يردد:
أسترها ياللى بتستر .دخل الشقة برأس منحنية كمن يتفادى حاجزا ..مر إلى الصالة ببطء يحدق فى الظالم
وكأنه يأمره باألنقشاع وفى رحلته إلى الداخل مر بغرفة منصور ولمح تحت بابها خط من النور وهى إشارة
لوجوده بالداخل ..تسلل عبده إلى غرفته تردد فى فتح الباب حين شعر بخطر يترصده فألصق أذنه ينصت،
ثم قتحه بهدوء وحذر ودخل بكتفه ثم أبتسم حين وجدها نائمة :الحمد للـه مخمودة ..أضاء لمبة سهارى
كى تمكنه من تبديل جلبابه فظهر له وجه فايزة فى النور الخافت مخيفا بجبين ضيق وأسنان بارزة ،شعر
بها تتحرك فوق السرير الذى أحدثت حشيته خشخشة .أحست بوجوده فأنقلبت على ظهرها تثنى أحدى
213
ركبتيها وأنحسر قميص نومها عن ساق بيضاء غليظة .خلع عبده جلبابه وبقى بسرواله الداخلى وفانلة
نصف كم ووقف أمام المرآة يمسح شعره ويعاين خلقته ..عبر المرآة كانت فايزة خلفه فوق السرير .
رمشت بعينيها ثم شقت جفنيها ببطء ،وفى خفوت مؤتلف مع ضوء الغرفة الرقيق صدر عنها نداء
خفيف كما لو أنه جاء من العالم األخر :شرفت ياسبع ! .دون أهتمام :الشغل خدنى فى القهوة وماحستش
بالوقت .ترتكز بكوعها على الوسادة وتحدق فيه بأهتمام .أبتسم فى المرأة وهو ينظر إليها .رفعت
حاجبيها :بسم اللـه ماشاء اللـه الراجل مشغول أوى وشايف شغله ع األخر .أستدار ناحيتها ،لكن نظرتها
وهى تتثائب مع كلماتها الممضوغة كانت تمتحن وجهه بفراسة وقوة وبنبرة مهينة :مش عيب عليك
ياراجل ياناقص ياعايب يااللى شنبك فى وشك أتنين كيلو ترضى بالمسخرة فى قهوة المعلم عبد المقصود .
تضيق عينيه ويصفر وجهه ويتمهل فى حطواته حتى بلغ حافة السرير :مسخرة أيه ياوليه ؟!.
ــ بنت بدرية كومبارس كانت بتعمل أيه فى قهوتى وأزاى تدخل بعين قادرة وتسحب الوله من أيده وتأخده
معاها ع البيت .بان فى مظهره جد طارىء :وأيه يعنى ماتاخده البيت وال تأخده فى أى حته هو أبنك صغير
ماتسيبيه يشوفله يومين حد واخد منها حاجة .فتبدلت سحنته وأنتفخ وجهه مع وصول أول كلماتها :ما هو
طالع نجس زى اللى جابه لو شاف ديل كلبة يريل عليها ال يعرف العيب وال األصول .قذفها برده وهو يلوح
فى وجهها بيديه :العيب يافايزة لما تخلى الصبى العرة بتاعك يلزقلى ليل ونهار فى القهوة وعاملى
فيها مخبر .
ــ الصبى بتاعى مش عرة ياعبده ياجن ولوحطيتك فى دماغى وعايزة أراقبك بجد حأعد عليك أنفاسك
وحأعرف أولك من أخرك وحأطلعلك القديم قبل الجديد ..لم نفسك أحسلك .قالتها ثم هبطت من سريرها
واقفة بينما أنقلب عبده فى جحره أسدا ،فتجتاحه موجة الغضب المفاجىء وأطلق زئيرا وحشيا :حرام
عليكى يامفترية عايزة أيه منى ماتسبينى فى حالى .ثم دار حولها يجرب قدرتها على مقاومة الغضب وبدا
كمن أصابته لوثة إال أنه لم يستطع أن يكمل هياجه حين تصدت له بثورة شتائم :عايزنى أسيبك فى حالك
ياعرة الرجالة يااللى عايش على أفايا وعامل فيها معلم بعد ماكنت بلطجى عايش على أفا الناس ..أنا اللى
لبستك ونضفتك وخليتك محسوب على صنف الرجالة .أعطاها ظهره يهرب من شرر نظراتها فسحبته من
كتفه فأعتدل أمامها :أنا سيباك بمزاجى ..عارف ليه ؟ .عشان أنت عاجبنى كده وبمزاجى برضه بطلت
أسأل عن دفاتر الحسابات القديمة وبأقول ماشى كبرى دماغك وفى األخر الحساب يجمع ..لكن ودين النبى
أن ماأتعدلتش وأتفردت حأخلى كرموز كلها تضحك عليك وأنت عارف فايزة عبد المقصود تقدر تعمل أيه
214
معاك ومع ألف من عينتك ..وضعت كفها على صدغه :وساعتها ياسبع الليل ماتلومش إال نفسك .قالت
جملتها األخيرة بعين مفتوحة بثبات وعين مواربة بينما ظل عبده مرتجفا فى مكانه يرقبها لعلها تتخلى عن
سخطها الزائد الذى شوه مالمحها فتراجع خطوتين وعيناه فى األرض ثم تمتم مستسلما :يافايزة أنا جوزك
وأبو أبنك وحاجتك هى حاجتى واللى يخصك يخصنى ..بس أنتى كبرى دماغك منى وماتقفليش ع الواحدة
وساعتها حتالقى الدنيا كلها ماشية وحتبقى أنتى مرضية وأنا مرضى .صدرت عنها ـ رغم جدية الموقف ـ
ضحكة مجلجلة :من أمتى الكالم ده ياسيد المعلمين ..أفتكرت دلوقتى أنك جوزى وأبو أبنى ..أنت طول
عمرك أنانى وطماع ومش بتحب إال نفسك ياراجل ياناقص ياعديم الضمير .
ــ ماشى ياأم منصور مقبولة منك .نظرت له بتأفف وأرادت أن تختصر المشهد بعد أن ملت من طريقته :
روح أتكل على اللـه نام برة على الكنبة .
ــ ليه يافوز ماتخلينى جنبك الليلة .أشاحت بوجهها وكأنها لم تسمع ،فأستدار وأنصرف بهدوء وصفع
الباب خلفه بينما هى تتعقبه بالنظرات وجسدها كله ينتفض من الغضب .
الفصل السابع
الزالت تلك الزيارة تحبسه دائما فى دائرة من الترقب لخطوة قادمة .
بدأ خيرى يتابع هدى من اليوم التالى ،ظهر لها فى أوقات صعودها ونزولها ،حريصا على الصمت
واألبتسام ..بعد مرور يومين حين بلغت هدى طابقها عقب عودتها من رحلة تسوق ناجحة تحمل أربع
أكياس بيضاء من الحجم الكبير وكيس أسود يتيم أمتألوا عن أخرهم بخزين يكفى أسبوعا من خضار
ولحوم ودجاج وتوابل وبعض المخبوزات حسب جدول أقرته مع نورا يتماشى مع ميزانية رصدتها األخيرة
بعد أجتماع مشترك بأحد زوايا المنزل فى حضور أيات ونعمة قبل أن تعرب فيه عن رفضها المطلق فى أن
يمدهم " أنور " بأى طلبات تشككا منها فى ذمته وفساد بضاعته وأيضا لتجد لها دورا حركيا خارج حدود
المنزل ،فوافق الحاضرون مع تعليق باهت على لسان بسمة لحظة مرورها فى وقت تالوة القرار :أنتى
غاوية تتعبى نفسك ياماما .
لمحت خيرى أمامها عند باب المصعد فأنزاحت لتفسح له مكانا فبادرها بأبتسامة ونظرة طويلة مالبث أن
أعترضها بوسامته بالرغم من تورد جفنيه نتيجة سهر يطارده من يوم الزيارة .أستوقفها بهيئته الفخمة .
215
فقال مرحبا :أهال يامدام هدى ..أخبارك أيه ؟ .ألتقت عيناها بنظراته تكاد تلتهمها وهو مازال بوضعية
األبتسام فغضت بصرها وأطرقت نحو األرض خجلى وعلى شفتيها تتردد أبتسامة متلكئة :الحمد للـه
ياأستاذ خيرى ..أخبار شريف أيه ؟ .
ــ ربنا معاه وقوله مافيش حاجة سهلة وسلملى عليه كتير .تتخطفه جمل وكلمات يحاول األمساك بواحدة
منها كى تتيح له فرصة فتح حوار .لم يعثر إال على واحدة بحكم الشهامة حين نظر لألكياس التى أنهكت
معصميها :طب أى مساعدة .
ــ شكرا ..كتر خيرك .تراجع خطوتين يفسح لها طريقا لتمر بحملها ثم أنصرفت أمام عينيه إلى شقتها
بينما لم يتحرك من مكانه وتابعها بنظراته حتى لمح نعمة توصد الباب خلفها ثم مشى إلى شقته متثاقال
ويتردد داخله شعور متمرد " أى قيد لعين ذلك الذى قيدنى أمامها غير الخوف والحرص وخشية الصد "
أخرج سلسلة مفاتيحه من جيبه وأنتابه أحساس بطعم الفشل ،تحسس مفتاح الشقة حتى قبض عليه من
بين حزمة مفاتيح وأولجه بعنف فى كالون الباب .أستقبله السكون .خلع سترته وألقاها على الكرسى
وأرسل الباب ألطاره بدفعة من نفذ صبره .دخل غرفته وأعتكف فيها تنهشه الوحدة ..هاهو كل يوم
يفترض أنه موجود ،ويتأمل جثته المحنطة وينتظر زمن عودة الوعى بينما سؤال ملح يطرق رأسه فى
عنف :هل سيظل فى الماضى أسيرا ؟ هل يطول األضطراب الذى يعتريه ؟ كان عليه ركوب السؤال :هو
أيه اللى حصلى بالظبط ؟ أحس أن رأسه ال يتحمل مثل هذه األوهام ،وإن كانت هناك حقيقة مؤكدة
اآلن :أنها تلك المرأة التى أعادت إليه شيئا مفقودا .أشعل السيجارة ـ سميرة الوحدة ـ عبست مالمح
الوجه وهو يبتلع الدخان ويطرده فى عصبية قبل أن يرن هاتفه فرفعه ألذنه فى ملل :أيوه يابرسوم ..
الحمد للـه كويس .أنصت لسؤال صديقه المتحمس :ميعادنا النهاردة تمانية ونص فى الجريدة .دلك
فرورة رأسه بعنف :مش حأقدر النهاردة يابرسوم .بلهفة :ليه خير فى حاجة عندك وال أيه ؟ .
ــ لما أشوفك بكره حأقولك .أنهى المكالمة سريعا قبل أن يلح صديقه فى طرح األسئلة فأثر الصمت
والسكينة وشعر بها تمأل فراغ الحجرة وأصبح وجهها البدرى المنير مازال يمأل عينيه ويسد عليه كل
طريق .خرج للصالة يتفقدها لعله يجد فيها مايشغله إال أنه فشل فى المهمة وأتجه للمطبخ وفتح الثالجة
وقرب رأسه بأنحناءة ثم مد يده وسحب طبق به جبن براميلى وحولها زيتون أسود دون رغبة حقيقية
لألكل وقبل أن يوصد بابها عدل عن رأيه وأعاده مكانه وكأنه أكتفى بالمشاهدة وأستبدله بجرعة ماء ثم
216
عاد للصالة وأنحرف ناحية المرآة ووقف يواجهها يتأمل صورته يتبين بعض التفاصيل ،فرأى وجها
مرهقا وجسدا عاطال فمط شفتيه ساخرا من نفسه :خليك كده زى ماأنت العجز حياكلك وحتبقى زى خيال
المآته .أستمر على هذا الحال يدور فى الشقة حتى أنتصف الليل قبل أن يقبع فى غرفته وكأنه يبحث عن
فرج قريب ،فأتجه ناحية النافذة ..حاول فتح الشيش بهدوء حتى ال يشرخ صمت الليل .دخل هواء جديد
إلى محيط الغرفة الراكد .تأمل الكون النائم .هذه المدينة التى تغرق فى الفوضى أمست الحس وال حركة ..
هدوء مثل صمت الموتى .دق قلبه دقات سريعة مباغتة وهو ينقل بصره الزائغ بين الغرفة والمدينة
النائمة ..بدا وكأنه ثمآل تدور رأسه بغير شراب .
فور دخول نورا من باب الشقة هرولت إليها " بسمة " مندفعة وفى ذيلها يوسف اللذان كانا فى أنتظارها
منذ العصر ،حاصراها كأسيرة حرب وأقتاداها إلى الصالة وسط تهليل وهتاف ومديح كأمر معتاد مع بداية
كل شهر حين تعود من األتيليه غانمة مرتبها ،إال أنها قاومت وأنسلتت منهما مع ضحكات متقطعة :
أصبروا شوية يامفلسين حتاخدوا مصروفكم بس أدونى فرصة أغير هدومى .أرتفع أيقاع الرفض وتحت
ضغط المحايلة المنغمة تخلت عن فكرتها وعدلت عن قرارها وأكتفت بخلع حذائها بجوار باب الشقة
ومشت بينهما تتعثر كعروس فى زفة بينما تبادال دغدغة مشاعرها بحلو الكالم دون أنقطاع حتى المائدة
التى أستقرت على رأسها كزعيمة فى حين توافد عليها باقى المفلسين من نزالء الشقة تباعا ،فخرجت
أيات من غرفتها ملفوفة بروبها الزهرى وأختارت مكانها على يمين نورا بينما جاءت هدى من المطبخ
داخل " مريلة " معلقة فى رقبتها ومنسدلة حتى الفخذين وقاية من ماء الحوض الذى أعتاد أن يعبث
بنهديها وبطنها ،خلصت رقبتها وخلعتها ثم أنزوت بجوار الطرقة تستطلع بدهشة حدثا تاريخيا ال يتكرر
إال مع بداية كل شهر ..أقتربت ببطء تبحث فى الوجوه الفرحة عن فهم ،فتحركت إليهم وجلست على
كرسى بين يوسف وبسمة وأحاطتهم بنظرة :خير ياوالد ملمومين ليه كده حوالين نورا .لم يتصدى أحد
للرد سوى بسمة بعد مرور لحظات ودون أن تنظر اليها :كل سنة وأنتى طيبة ياماما النهاردة أول الشهر
وما أدراك ماأول الشهر ..يوضح يوسف :يعنى الفرج ياحاجة .بينما ترفع نورا ورقة أمام عينيها
تستعرض فيها بنودا تتعلق بالمصروفات الشهرية وداخل عقلها تدور عملية حسابية بين الجمع والطرح
وهى تغمغم بصوت اليفهمه أحد ..فى تلك اللحظة وصلت نعمة بسالمة اللـه إلى الصالة قادمة من
217
غرفة أيات تحبو داخل " جالبية " سوداء واسعة حتى أستكانت عند أول كرسى قابلها فى طريقها .جلسة
مكررة ومعتادة مع كل أول شهر ..نفس التفاصيل بنفس األبطال ولم يتغير فى المشهد سوى وجود األم
المحررة ..لحظات من اللهفة والترقب خيمت على الوجوه حين دست نورا يمناها داخل حقيبة يدها
وأخرجت المحفظة المعتادة التى بدت منتفخة وكأن داخلها جنين فى مرحلة التكوين .رفعت عينيها بعد أن
أنتهت من عد بضع ورقات من فئة المائة جنيه ثم سحبتهم كالساحر و قربتهم إلى وجه يوسف الذى بدا
متأهبا :أتفضل ياسى يوسف ..فلوس الكورسات ومصروفك .ثم ذيلت جملتها :شد حيلك ياباشمهندس
عايزين نخلص بقى .قالتها وأستعملت اليد اليسرى فى ألتقاط ثالث ورقات أضافية من نفس الفئة :ودول
كمان لزوم القعدات الرومانسية بتاعة كل يوم مع البرنسيسة بتاعتك .سكنته أبتسامة عريضة :واللـه
أنتى مافى زيك فى الدنيا .فى حين كانت بسمة على وشك أن تسقط عينيها من محجريها داخل
المحفظة تتلصص على يد نورا التى تقطتع المزيد من راتبها .تفرك كفيها أستعدادا لتلقى المعلوم مع
تنويه رددته :خلى بالك معايا يانورا الشهر ده فى مذكرات محتاجاها ضرورى ده غير كورس محاسبة
وكمان فيه شنطة شفتها فى كارفور حأتجنن عليها .ترفع حاجبها بأبتسامة مدهوشة :هو أنا مش لسه
جايبالك الشهر اللى فات طقم كامل شوز وبنطلون وبلوزة .
ــ ماهى الشنطة اللى أنا شفتها هى اللى حتكمل الطقم ..مدت يدها بالمعلوم :فلوسك آهيه وفوقها مية
جنيه صرفى نفسك بيهم زى ماأنتى عايزة وحسك عينك تطلبى منى حاجة لغاية آخر الشهر .خطفت
الفلوس من اليد الممدودة :أمرى للـه حآجى على نفسى .بينما صدر صوت خافت دون أن يفقد كبرياءه
قالت آيات كالم مباشرلم تتوقعه نورا :أنا محتاجة فلوس عشان حفلة عمر خيرت يوم الخميس فى مسرح
سيد درويش .ضحكة مكتومة أصدرها يوسف دون تعليق ،لكن نورا كانت أجابتها سريعة :حاضر
ياعمتى ..أدى متين جنيه وأبقى سلميلى على عمر .أستلمت المبلغ بشياكة مع نبرة متحفظة :كويسين .
كانت هدى طوال جلستها تراقب مايدور من خالل لهفة السؤال الصامت :كده برضه يانورا بتوزعى عليهم
المصروف وماكلفتيش خاطرك تشركينى معاكى حتى ولو من باب المجاملة .تنهدت من أعماق أعماقها
وأقشعر جسمها وهبت رياح حزينة فى نفسها وخنقتها العبرات :ياه ده أنا بقيت كمالة عدد وماليش لزمة
خالص .أحست أن األيام نالت منها إلى حد التعجيز وسرحت بفكرها بعيدا حين أيقنت بأن الدور لها وال
وزن لوجودها ..نورا لن تفهم نفسيتها ،والتريد أن تدرك حجم التمزق الذى يجتاحها أو مرارة الحرمان
من دور أم بدأ يرحل عنها .لوت نورا رقبتها بأتجاه نعمة مشيرة لها بأبتسامة :تعالى يانعوم خد نصيبك .
نهضت بقوامها الدقيق الطويل الذى ال يخفى الكثير من بنيانها العظمى بينما قصدها يوسف ومشت معه إلى
218
المائدة مترنحة تكاد تنهار على األرض فى كل خطوة إلى أن أصطدمت بكرسى خالى مجاور أليات حتى
تشبثت به وأستندت بكفها على مسنده وهمت بالجلوس ثم شغلته قبل أن تطلق أهةمديدة كعمرها :معلش
ياوالد أنا بقيت كهنة ..بادرتها نورا :ده أنتى بركة البيت يانعوم وآدى فلوس الدوا بتاعك .أرتسمت على
شفتيها اليابستين بسمة أستسالم وأقبلت نورا وناولتها نصيبها التى تسلمته وطوته كمن يخفى شيئا
محظورا .أخيرا أدركت نورا ماغاب عنها طوال الجلسة ودست أناملها داخل المحفظة وسحبت ورقة
واحدة بمائة جنيه وأشارت بها ألمها :خدى ياماما ده مصروف أيدك ..مدى أيدك ياماما ؟ فأمسكت يدها .
لم تبسطها .دمعت عيناها .كادت تذوب تأثرا ..وكادت ترفض ..لكنها أكتشفت أنها أضعف من أى رفض
وتوقفت كلمة " ال " عند منتصفها أوأنها تمددت حتى ال نهاية لها .وقبل أن تستغرق هدى فى شرودها
ويستولى عليها شعورا بالضعف كان جرس الباب يرسل رنينه على أستحياء فقامت من مكانها ،وجدتها
فرصة لتنفض عن نفسها أحساسا مترايدا بأن وجودها تحصيل حاصل .فتحت الباب .توقفت تتطلع إلى
فتاة واقفة مثل التمثال ،لكنها مبتسمة ،ترتدى بنطلون أسود ضيق وتيشرت أحمر قانى وحول عنقها عقد
ذهبى رقيق وعيناها تكسوهما بريق األبهة وتقبض بيدها على كيس فضى بحروف ذهبية يبدو على مظهره
الفخامة .بينما وقفت هدى صامتة ترمقها بعينين نفاذتين ثم هزت رأسها وقد صنعت على وجهها أبتسامة
سريعة قبل أن يأتيها صوت يوسف :مين ياماما ؟ ..رددت الفتاة بصوت هامس خجول :حمد اللـه على
السالمة ياطنط .تقلصت األبتسامة وضاقت على شفتى هدى فخرجت نبرتها ممتدة :اللـه يسلمك .تقدم
يوسف نحو باب الشقة تتبعه بسمة يستطلعان .فتح عينيه على أتساعها واقفا فى مواجهتها ملتجئا الى
الدهشة وقد أرتعشت الركبتان وبدت قدماه عاجزتان عن الحركة وكأن يد قوية سمرتهما إلى أرضية
الصالة ..بصوت يكاد ينقطع :هدير ؟! .بدت أن الرجفة القاسية التى زلزلت كيانه عند المفاجأة ستبعثه فى
أنتفاضة متوترة .لكزته هدى فى كتفه ونظراتها فى وجه هدير ال تنقطع :مش تقول لضيفتك تتفضل .
وقف قبالتها بقامته المديدة وكأنه ال يستقبلها وإنما يعترض طريقها بينما قابلت هدير وقفته المرتبكة
وأحتجازه لها على ذلك النحو الذى يكاد يوصد الباب فى وجهها .بأبتسامة هادئة .فى حين أنحشرت بسمة
بين يوسف وأمها وهى تعانى نفس الحالة من األرتباك :أهال ياهدير ..وحشتينى ياحبيبتى ..أتفضلى .
وكان عناقا متوترا ثم سارت هدير بعد أن أنهت أجراءات الدخول متجنبة الخوض فى الوجوه المرتبكة
محشورة بين بسمة وأمها يتقدمهم يوسف بخطوات حذرة كمن يمشى على الحبل .أندهشت نورا لثوان
حين سمعت أسم " هدير " يتردد على لسان أخيها فأبتلعت المفاجأة وأنضمت لعمتها فى صف المنتظرين
219
عند عتبة الصالون ،فتقدمت نورا خطوتين حين أقتربت هدير ثم سحبتها لصدرها تطبع على وجنتيها
قبلتين مصحوبة بعبارة ترحيب :أيه المفاجأة الجميلة دى ياهدير .
ــ أنا أسفة أنى جيت من غير ميعاد .تلقفتها أيات بقبلتين وعبارة مماثلة من الترحيب لكن بصيغة قديمة :
أهال وسهال ياهدير ..دى فرصة عظيمة أوى ! ..لم تنس أيات لقاءها الوحيد بهدير عند بوابة كلية
الهندسة حين تطوعت لتوصيل يوسف بسيارتها العتيقة فى ذلك اليوم الماطر وكانت هدير داخل سيارتها
تنتظره ،ولم تتوان فى الخروج إليها لتتعرف على العمة سليلة الباشوات ،وقابلتها أيات بكلمة تفيض
أحتراما وتقديرا كان لها وقع فى نفس هدير أكثر بكثير من وقع قطرات المطر التى تسقط على رأسها .
جلست هدير على كنبة الصالون وقد أصابها ماأصاب الجميع من أرتباك فيما عدا هدى التى لم تستوعب
بعد حقيقة هذا التوتر فبدت على طبيعتها حين أستهلت كلماتها بالهمس فى أذن هدير بعد أن أختارت
األقامة إلى جوارها :أنت أجمل بكتير من اللى يوسف وصفهولى .
ــ مرسى ياطنط .ثم نكست رأسها وأضافت تبرر وجودها بعد أن أدركت من خالل نظرة خاطفة فى وجوه
الموجودين أنها جاءت فى غير وقتها :أنا أسفه جدا ياجماعة أنى جيت من غير ميعاد بس حبيت أعملها
مفاجأة ليوسف وبصراحة كان نفسى أتعرف عليكى ياطنط .أستقبل كلماتها وقد تسمرت على مالمحه
ضحكة بال معنى :هى مفاجأة فعال ياهدير .قاطعت أمه :ال ياحبيبتى ده بيتك وفى أى وقت أهال بيكى
وبالنسبة لى أنا دى أحلى مفاجأة .قالتها هدى وهى تطيل النظر فى وجهها بينما أكدت نورا :أنا وبسمة
أخواتك ياهدير وبعدين أحنا أصحاب أوى بس عن طريق التليفون وأنا فرحانة جدا أنى شفتك وأتأكدت
كمان أنك حلوة زى صوتك وأحلى من الصور اللى على موبايل يوسف .
ــ شكرا على المجاملة دى يانورا .ثم أتجهت بجسدها كله ناحية هدى ومدت هديتها الملفوفة فى أستحياء :
ياريت ياطنط تقبلى منى الهدية البسيطة دى بمناسبة رجوعك بالسالمة .أزدان وجهها بأبتسامة صافية
وهى تتسلم هديتها وتطبع بعدها قبلة رقيقة على خد الضيفة التى خف أرتباكها كثيرا وأضافت فى نفس
السياق :يوسف كلمنى كتير عن حضرتك وده السبب اللى خالنى أتجرأ وأجى أتعرف عليكى .
ــ ربنا يخليكى ياحبيبتى ده أنا اللى كان نفسى أشوفك من زمان وأقعد معاكى ودايما يوسف لما كان بيجى
يزورنى كل شهر كان الزم يحكيلى عنك طول الزيارة ..وبالمناسبة هو مش بيخبى عنى حاجة خالص .
قالتها ضاحكة بينما أرتدت هدير برأسها للخلف وقد ضاقت عينيها وأنكمشت جبهتها وهى تسترجع كلمات
هدى األخيرة وتردد فى داخلها همسا محتدما :أيه اللى الست دى بتقوله ..زيارة أيه اللى كل شهر
220
بيزورها فيها يوسف ..معقولة ! ..يوسف حيروح الخليج كل شهر يشوف أمه ويرجع من غير ما أنا
أعرف ؟ طب أمتى وأزاى ..ده تقريبا كل يوم معايا ؟ ! شاع فى وجهها األضطراب وهى تنقل نظراتها بين
وجوههم :بيزورك فين ياطنط أرتجفت شفتى يوسف وتلعثمت كلماته وهو يتصدى لعالمات األستفهام
التى مألت وجهها :ماما قصدها يعنى مكالمات التليفون !! ..قصة الحب التى جمعتها بيوسف منذ أربع
سنوات مكنتها من فهم نفسيته وهضم طباعه وصار بالنسبة لها كتابا مفتوحا تعرف كيف تكون مالمحه
عندما يكذب ،وكيف يكون أرتباكه وهو يخفى شيئا وتعلم كيف يكون فى مثل تلك اللحظة وهو يهرب
بنظراته بعيدا عن عينيها حين ينكشف أمرا ماال يحب أن تعرفه هى .أحست هدير فى نظراتهم بشيىء
غريب ومريب فى حين أصبحت هى موضع النظر واألهتمام والمحرض على الصمت والتأمل بينما لمحت
هدى حالة الهلع والخوف فى تقاطيع أبناءها وبدأت تفهم أنها قالت شيئا صادما ،فأرادت فى محاولة يائسة
كسر تلك الحالة المفاجئة :مش تشوف يايوسف هدير تحب تشرب أيه ؟ .لم يسألها بل أرتفع ضغطه حين
ظفر بنظرة غامضة وغريبة من عينها فى حين أختفت نعمة من المشهد حين وجهت لها أيات نداءا :حاجة
ساقعة بسرعة يانعمة .الحظت هدير حال يوسف فأصابها حرج جر وراءه صمتا مربكا ثم أستجمعت كل
ماتملك من قدرة كى تلملم نفسها وكى تبدو على أقل قدر من التبعثر واألضطراب ثم تماسكت فى وقفتها :
معلش أعذرونى ياجماعة مش حأقدر أتأخر أكتر من كده .قامت هدى من مكانها تحتويها فى صدرها
وتقبلها فى كتفها وكأنها تستجديها بأن تمر تلك الزيارة فى ذهنها دون طرح أسئلة .صافحت الجميع
بأبتسامة جاهدت من أجل أن تكون طبيعية ومضت إلى الباب على وعد بزيارة ثانية ولهثت خلفها نورا
وبسمة بعبارات وداعية قصيرة بينما صاحبها يوسف الى باب الشقة حتى وقفا فى لحظة مرتجلة مد كل
منهما يده لألخر مودعا ثم مضتت بعدها وفى أثرها عيونه ترسل النظرات الشاردة .توقفت هدى فى وسط
الصالة وباب الشقة مازال مفتوحا ويوسف اليزال على عتبته ،وما أن غابت هدير داخل المصعد حتى
أستبد به الخوف وظل ساكنا ال يتحرك وأستند إلى الباب .كان يشعر بضعف وكانت خطواته ثقيلة وهو
يتحرك راجعا إلى الصالون حيث جلس الجميع .
تكدس فى الصالون صمت ال تصدع فيه وظلوا جامدين فى أماكنهم كأنهم كتل خرسانية ،بينما هو خر
جالسا إلى جوار نورا قبل أن يغمض عينيه يعيد سيناريو الزيارة المباغتة وحوارها الصعب فى ذهنه ،وما
أن أنطفأت فى رأسه األسئلة والنتائج المتوقعة أحس أنه مهجور شعر برعشة تسرى فى جسمه كله وأن
صوتا يقول له " أنه سيهوى أو يزول " فتح عينيه قليال كانت أمه تتأمله وهى فى مكانها متجمدة وقد
أستولى صمت كئيب فى المكان ،فتكلمت وهى توزع نظراتها فى وجوههم :ماحدش فيكم فهمنى أى
221
حاجة ..ماحدش قالى أنتو مفهمين الناس أيه عنى ؟! أصغى يوسف دون أن يطرف له جفن بينما أمعنت
نورا فى تعذيبها بالتحديق فيها وهى تدارى حيرتها باأللتفات وتحريك الرموش وطاوعهايوسف فى خطتها
التعذيبية دون أن يبدى أى مقاومة .ثم أضافت ذاهلة :بتبصولى كده ليه ..أنا ماغلطش أنا كنت فرحانة
بوجودها وبأحاول أجاملها وماكانش قصدى يابنى أجرحك بأى كلمة وال أسببلك مشكلة .تجمعت خيوط
األنفعال فى وجهه ثم أخذت حدته تتصاعد :أنتى جرحتينى أوى ياماما وطلعتينى أدامها كداب وغشاش .
تضع كف يدها على صدرها :أنا يايوسف .أزداد أنفعاله :أيوه أنتى ياماما ..لما تقولى لها يوسف
بيزورنى كل شهر ..ده معناه أيه ؟ ..هدير عارفه أنك بتشتغلى فى الخليج من سنين يبقى كالمك ده يتفهم
أزاى .أختنق صوتها بالدموع وهى تردف كأنما توجه بكلماتها عتابا للدنيا بأسرها :أنا ذنبى أيه ..
ماحدش فيكم قالى على حكاية الخليج دى أبدا ..هو ذنبى أنى مش عارفة أتلم عليكم ولوساعة واحدة من
يوم مارجعت وال ذنبى أنى مش القيه حد يقعد معايا وال حد بيكلمنى وال بيفهمنى أى حاجة ..ده أنا تقريبا
مش عارفة عنكم حاجة خالص وكأنى واحدة غريبة أو ضيفة قاعدة معاكم يومين تالتة وحتمشى ..سكتت
برهة قبل أن تتجمع موجة غضب فاضت على لسانها :وال أنتو بتستعروا منى عشان دخلت السجن ..أل
لغاية هنا والزم كلكم تعرفوا أنى دخلت السجن لما لقيت حقكم بيضيع وفلوسكم بتروح وده مش معناه أنى
مجرمة وال قتالة قتلة كل اللى حصل كان من غير قصد وغصب عنى وفى لحظة أنفعال دفعت تمنها تسع
سنين من عمرى كنت بأموت فى اليوم الواحد ألف مرة وأنتو بعاد عنى ..عيشت فى زنزانة متر فى متر
وصبرت وأتحملت ورضيت بحكم ربنا .هدأ الصوت الغاضب وأكملت فى وهن :مافيش حد منكم حاسس
باللى جوايا والحد بيشاركنى فى يومى وال بيسألنى مالك لدرجة أنى بقيت مش فاهمة أنتو فرحانين
لخروجى وال زعالنين .أنهت حكايتها الموجعة ولم تستطع أن تدارى مرارتها ،كان أنينها خافت غير
مسموع ثم قامت تمسح دموعها وهى تحدث نفسها :بيحاسبونى على ذلة لسان ؟! ثم مشت تشد عضالت
جسمها ورأسها مرفوع تهزه بقوة كأنما تنفض عن نفسها لحظة ضعف وغادرت متجهةإلى غرفتها مخلفة
مساحة من الصمت لم يستطع أى منهم قطعها ..عندما أقتربت من باب الغرفة شعرت بدوار حين كسر
حاجز الصمت فى الصالون ووصلتها همهمة أصواتهم وتسمع لغطهم وسمعت حديث نورا المنفعل :أهدوا
شوية وخلونا نفكر فى المصيبة اللى حصلت .
ــ أنا رأيى أن يوسف يتصل بيها كمان نص ساعة بحجة أنه بيطمن أنها وصلت البيت وال لسه وبالمرة
يجس نبضها ويشوف أنطباعها أيه .وجهة نظر أبدتها أيات .أيدتها نورا وأضافت عليها كالما حازما :
وماتحاولش تفتح معاها أى كالم عن ماما .هز رأسه :ربنا يستر .
222
بينما هدى كانت على وشك أن تعود إليهم وتصرخ فيهم :حرام عليكم أنا ماغلطش .إال أنها تراجعت
وأكتفت بدخول غرفتها وأتجهت الى النافذة المفتوحة حين شعرت باالختناق وأسندت رأسها اليها تنظر الى
السماء وكأنها تتشاغل عن هواجسها لعلها تنسى أوتتناسى ماهى فيه من صدمة ومأساة لدرجة أنها لم
تشعر بدخول بسمة التى بادرتها من خلفها :ماتزعليش ياماما ..يوسف مايقصدش .أنصتت وهى فى
مكانها التتحرك والدموع ملء عينيها تحاول أخفاءها عنها ،فأدركت بسمة معاناتها .أردفت :عشان
خاطرى ياماما ماتضايقيش نفسك دى مشكلة بسيطة وان شاء اللـه حتعدى .ثم نكست رأسها وأضافت فى
محاولة للتوضيح :الغلطة اللى حصلت دى أحنا مسئولين عنها وكل اللى أنت قلتيه مظبوط كان الزم نقولك
من أول يوم أنى أنا ويوسف ونورا مفهمين كل اللى حوالينا من صحابنا وزمايلنا أنك كنتى مسافرة فى
الخليج .تستدير ناحيتها وأثار كلماتها تدوى داخلها ثم حركت رأسها ثانية نحو النافذة وأبتلعت دموعها:
فى الخليج .أسندت رأسها بأستسالم :أنتم أدرى بحالكم !.
ــ طب عشان خاطرى ياماما تعالى نامى على سريرك وأرتاحى وماتفكريش فى أى حاجة وكله حيعدى
ياجميل .أعتلت السرير فى بطء تنفيذا لنصيحة أبنتها التى أطفأت أضاءة الغرفة وتركتها مع نور األباجورة
الخافت ورددت على أسماعها قبل أن تنصرف :تصبحى على خير ياماما .فور خروجها أستغرقت هدى فى
البكاء وأنكمشت على نفسها داخل السرير .مرت عشر دقائق وكانت طرقات خفيفة على باب الغرفة .
يدخل يوسف ..وجدها نائمة فى النور الخافت ومنكمشة فوقف أمامها ونظرلها من أعلى وطافت نظرته
بالجسم المنكمش فى أعياء ثم تشبث بالوجه الناطق بالسأم الشاكى كما لوكانت قسمات معذبة ..تنهد وهو
يستعرض ما بدر منه من غضب وأنفعال فأحس أنه مذنب رغم أنفه .لقد أثرت فى نفسه دموع أمه
ومنظرها البائس فنطق وجهه بالجملة قبل أن يلفظها لسانه :مسكينة ياماما .قالها وهو يدنو وجهه من
وجهها الذى تصرخ فيه التعاسة .تحركت جفناها ببطء .فتحتهما قليال ،لتنفلت منهما دموعا كانت
محتجزة .قال والتأثر يخنق صوته :ماتزعليش منى ياماما واللـه ماكان قصدى أضايقك .ثم جلس على
طرف السرير ملتصقا يمسك بها من كتفها :ماتناميش وأنتى زعالنة منى .تنظر ألبنها كأنها تلوذ به من
اليأس ثم بادرت تخفف عنه أن أتهمت نفسها بالتسرع وتطلب منه الصفح فتلقاها بين ذراعيه رافضا أن
تلوم نفسها ،فأخذت رأسه ودفنت وجهه فى صدرها ،غسلت دموعها شعر رأسه .ثم قام بعد أن ودعها
بقبلة على جبينها وأنصرف بينما هى أكتفت بعزلتها .كان صعب عليها رغم رصانتها أن تتخلص بسرعة
من آثار ماحدث ،غير أنها ودون مقدمات ينتابها الحنين إلى القضبان ،ورائحة العنبر والمجارى ،تترامى
رائحتها عبر الوحدة ،ويستحيل األلم لذة على نحوما ..أنزاحت ولصقت ظهرها بظهر السرير وثنت
223
ذراعيها تحت رأسها ..ثم لم تصبر على هذا الوضع فتمددت حيث هى ..تأملت جسدها الذى يغط فى سبات
بينما كان الجميع يغط فى نوم سحيق ،أما هى فقد شردت تفكر فى أشياء متفرقة حين حملها ريح األرق
إلى عالمه وتملكتها اليقظة الملعونة ،فأسترجعت كالم " زيزيت " حين زارتها أول أمس فى األتيليه قبل
رحلتها الصباحية للسوق حين كررت عليها بالحاح نفس العرض بالعمل معها ..الزال العرض يتوغل فى
رأسها ويخبط فى جنباتها وظلت مفتحة العينين تدرس العرض بتأنى ..ثم مالبثت أن نامت بعد أن قررت
أبالغ زيزيت بقبولها الغير مشروط .
أستقبلتها زيزيت كالعادة فى مكتبها الصغير الذى اليتعدى مساحته المترين فى مثلهما والمطل على قاعة
أستقبال الزبائن والتى أسهمت هى بنفسها فى وضع تصميمه بحيث جعلت جدرانه من األلوميتال األسود
بأرتفاع متر عن سطح األرض على أن يكمل الزجاج األبيض " الثلجى " صعوده ألعلى الى ماقبل السقف
بنصف متر فأتاح لها فرصة الرصد والمراقبة لكل مايدور فى القاعة وتعمدت أن تكون النافذة المطلة على
البحر فى داخل حدوده فبدت خلفيته كرؤية رسام مجنون حين يظهر البحر من خلفها وهى تجلس على
مكتبها الصغير وكأنه أعلى من رأسها .تشرب هدى قهوتها بنهم ولهفة سعيا وراء أستفاقة سريعة بعد
ليلة عصيبة كان النوم فيها ضيفا خفيفا ..بينما زيزيت أمامها ترشف قهوتها ببطء وتتلذذ وكأنها تعاشر
الفنجان بشفتيها تمتص حافته التى طالها الروج فى حين يقذف هو بقطراته المحوجة من بن
"سفيانوبولو" إلى داخل الفم المفتوح تاركا بصمته عند زاويتى شفتيها ..أطالت النظر الى وجهها
متفحصة عالمات السهر حول العينين .فبادرت :يعنى أنتى عايزة تفهمينى ياهدى أنك عشان تقررى تيجى
معايا هنا فى األتيليه فضلتى طول الليل سهرانه من غير نوم ويبقى وشك عدمان بالمنظر ده .مع رشفة
أخيرة من فنجان القهوة همست بأبتسامة مبتورة :الحكاية مش كده خالص .زمت شفتيها وحبست الكالم
حين رن موبايل زيزيت التى ألقت نظرة على شاشته ثم تجاهلت الرد قبل أن تعاود معاينة مالمح صديقتها
بعد ماأخرست رنينه وحولته صامتا :أحكيلى اللى حصل ؟ سكتت للحظات تابعت منظر البحر عبر النافذة
المشرعة خلف ظهر زيزيت :أمبارح كان يوم صعب أوى ! ثم أعتصرت قصة األمس فى قالب درامى
مرتب بدأته بمشهد نورا وهى بتوزع العطايا والهبات وماسببته من ضرر نفسى مرورا باللحظة الدرامية
المتصاعدة بحضور هدير وحديثها التلقائى معها الذى سبب أزمة وأرتباكا وأفضى إلى نهاية حزينة
وكاشفة لمدى حجم األزمة التى يعيشها الجميع فأستفاضت فى الوصف بينما زيزيت شغوفة لسردها وهى
224
تتابع كلماتها المحملة بالمخاوف والشكوك ،إال أن نهاية قصتها جاءت سريعة على خالف مابدأته من سرد
تفصيلى حين وقعت عينيها على نورا الواقفة فى آخر القاعة تتصدر باب الخروج مبتسمة فى وداع زبونة
من العيار الثقيل تملك سلسلة محالت شهيرة لمالبس المحجبات ،تحدثت معها للحظات قبل أن تتخذ
طريقها ناحيتهما ..نقرت الباب الزجاجى بأصبعيها ولم تدخل مكتفية بمداعبتهما بأبتسامة وكأنها تداعب
سمكتان فى حوض زجاجى ..جاوبتها أمها بأبتسامة مع أشارة لطيفة بيدها ثم أنصرفت لحجرة التفصيل
بالداخل .
وضعت هدى يدها على خدها وبدت مضطربة رغم محاولة زيزيت أضفاء بسمة على وجهها :أنا عايزاكى
تنسى اللى حصل أمبارح كله وأنسى كل اللى فات وفكرى أزاى ترجعى هدى بتاعة زمان الجامدة الجريئة
الواثقة من نفسها والزم ترجعى تفرضى وجودك فى بيتك وماتكونيش كمالة عدد وعايشة على الهامش .
أنهت نصيحتها بضحكة تحمل أستغرابا وتعجب .أضافت :ياسالم على الدنيا ياهدى وكأن الزمن يعيد
نفسة ..نفس شكوتك ووجعك حتى أحساسك بالوحدة ..كل ده أنا عشته ودوقت مرارته ..ياما نصحتينى
ياهدى وشجعتينى أطلع من أزمتى ويشهد علينا المكان ده من أتناشر سنة لما كانت لسه شقة وأنا عايشة
فيها لوحدى مع الجدران وماكانش فى مخلوق بيزورنى وال بيسأل عنى وال فيه حد بيطمن أن كنت عايشة
وال ميتة .أبتسمت عينيها حين أكملت :لغاية ماربنا بعتك لى ووقفتى جنبى ورجعتينى تانى للدنيا وساعتها
حسيت أنى مش لوحدى وفى حد فى ضهرى عشان كده عمرى ماحأنسى وقفتك معايا .أرخت جفنيها فى
خجل وأرادت أن تقاطعها لتبعد عن نفسها حرجا سكن وجهها ،إال أن زيزيت تابعت فى أصرار :أنا عارفة
أن ظروفك غير ظروفى وأن الزمن أتغير لكن لو دققتى كويس مش حتالقى فيه فرق كبير هى نفس الوحدة
والغربة اللى الزمونى سنين ..أنا أكتر واحدة حاسة بيكى وشايفه فى عينيكى الخوف والتردد من أى
خطوة لحسن تسببلك مشاكل ..فهماكى ومقدرة خوفك .فاجأها نضجها وتحليلها المنطقى :كالمك مظبوط
أنا فعال خايفة من خطوة الشغل دى وقلقانة أوى لحسن األمور تتعقد أكتر مع والدى .لم تستطع زيزيت
صرف تواريخ تطفو على ذاكرتها حين أستقبلت كلماتها المتراجعة :أنا كنت زيك كده مترددة وخايفة لكن
لمالقيتك واقفة معايا بجد وبتاخدى بأيدى ساعتها بس أخدت قرارى وكان كل اللى يعرفنى وقتها كان متأكد
أنى حأفشل زى مافشلت فى حياتى كلها ..عشان كده أنا مش عايزاكى تقلقى من أى حاجة وخدى قرارك
وماتخافيش .بينما تنصت هدى لها بتركيز شديد لعلها تنجح فى أبعاد سيناريوهات متباينة تحوم فى
رأسها .بدت كرؤى فى يقظتها ،ترى فى أحداها رفض قاطع من نورا وسعى حثيث للصدام معها بخالف
ضغط متصاعد تمارسه بقوة على زيزيت للتراجع عن دعمها أو تشكيل جبهة مناهضة لها فى البيت .فى
225
حين واصلت زيزيت :عشان كده ياحبيبتى أنا مش حأقدر أتفرج عليكى كتير وأسيبك فى الوضع ده ..ال
ياهدى مستحيل ..فيه دين فى رقبتى ليكى والزم أوفيه ..برضاكى أو غصب عنك دى مش مشكلتى المهم
أنى حأفضل جنبك لغاية ماترجعى زى األول وأحسن .ثم قربت وجهها منها وأرتفعت فيها نبرة الحماسة
وهتفت :حأغيرلك حياتك كلها وحترجعى للدنيا بشكل جديد والكل حيعرف قيمتك وأولهم والدك .ثم مالبثت
أن أنهت كالمها حتى وقفت لتعادل رأسها بمساحة البحر التى تتالعب مياهه الزرقاء خلف ظهرها وقد
تأهبت مالمحها لتالوة قرارها بصوت زادت فيه مساحة التحدى :أنا قررت أنك من بكرة حتكونى معايا
هنا .تلقت األمر وكأنها تنتظره :بجد يازيزيت ..أهتزت خصلة شعرها الصفراء المنفلتة على جبينها مع
هزة رأسها بااليجاب :أيوه ياهدى .بينما تراجع لحم خديها معلنة عن مخاوف الحيلة لها فى صرفها :بس
أنا قلقانة أوى من نورا ورد فعلها .
ــ أنسى نورا خالص وسيبهالى ..أنا فهماها كويس وعارفة مفاتيحها كلها .سحبت نفسا وأطلقته حائرة :
خايفة ترفض وتعملى مشاكل فى البيت وكمان مش عايزة أسببلك مشاكل معاها وأنا عارفة كويس أنها
أيدك اليمين فى الشغل .سكتت للحظات تراجع مخاوف هدى المنطقية ،ثم أنحنت بجذعها وأستندت بكلتا
يديها على المكتب وأدلت رأسها وكأنها تجرى حوارا مع المكتب أنهته سريعا .ثم رفعت عينيها وبدت
عليها مالمح من قال " وجدتها " ..سحبت نفسها من خلف المكتب متجهة للكرسى المقابل لهدى وجلست
أمامها ال تفصلهما سوى منضدة صغيرة عليها زهرية بها زهرة عباد شمس صناعة الصين وأستبدلت
لهجتها الحماسية بأخرى متعقلة :نورا معايا هنا من أربع سنين ومن عشرتى معاها تقريبا عرفت كل
مزاياها وعيوبها ..بنتك عاقلة أوى فى تصرفاتها وفاهمة يعنى أيه مسئولية ولما بتحط حاجة فى دماغها
الزم تعملها وعمرى ما حأنسى أبدا أول يوم جت فيه هنا وقالتلى أنا نفسى أبقى زيك أمسك حتة القماش
وأنفذها وأفصلها على مزاجى أنا مش على مزاج الزبونة ..ثقتها بنفسها كانت زيادة عن اللزوم و دايما
كانت تقولى مش طموحى أكون خياطة أنا عايزة أبقى مصممة أزياء أتحكم فى القماش وأبتكر فيها
موديالت وأنسق ألوان وهو ده فعال ياهدى اللى بنتك وصلتله والزبونة اللى كانت معاها من شوية بتاخد
معظم انتاجها اللى هى صممته ونفذته من دماغها ال نقلته من كتالوج وال شافته على موديل ..هى دى
نورا الشاطرة الواعية اللى بتعشق التحدى والنجاح .خفت بريق األعجاب فى عينيها حين سكتت قبل أن
تعيد بلكنة تحذيرية :وكمان فيه نورا بشخصية تانية .تنصت هدى بتطلع :شخصية تانية أزاى؟ .
226
ــ نورا فيها عيب خطير ،بنتك بتحب التملك والسيطرة وقراراها دايما من دماغها وده واضح جدا فى
معاملتها مع أخواتها وعمتها وان كنت أنا شخصيا بأعذرها فى العيب ده بالذات عشان هى بجد أتحملت
مسئوليتهم من األلف للياء لدرجة أنى كنت بأحس أنها فعال أمهم ..مشكلتها الوحيدة أنها بتتعامل معاهم
على أنهم ملكية خاصة لها وده اللى خالها جافة وشديدة وعنيدة ومابتحبش تظهر ضعفها قدام أى حد حتى
لو كان أقرب الناس لها .أنهت جملتها األخيرة وأرتدت للوراء تحمل مالمح الخوف قبل أن تضيف :عشان
كده أنا قلقانة جدا على وضعك فى البيت .
ــ قصدى أن نورا مش حتسمح ألى حد مهما أن كان يكون له سلطة جوه البيت غيرها وبس .أنصتت
بغضب وتسارع أضطرابها وأزدادت وتيرته :أفهم من كده أيه يازيزيت ؟! .
ــ الزم ناخد األمور بواقعية من غير مانعمل مشاكل والصدام لغاية األمور ماتهدى واألوضاع ترجع زى
زمان ..عشان كده حنبدأ بحكاية الشغل األول من غير ماهيه تاخد بالها .ضاقت عينى هدى .فتابعت
زيزيت :يعنى كل يوم الصبح حتيجى تقعدى معايا ساعة وال أتنين لمدة كام يوم لغاية مانورا تتعود على
وجودك وبعد كده أقوم أنا مدخالكى واحدة واحدة على شغل األتيليه بحجة أنك زهقانة وبتسلى وقتك .قلبت
هدى األمر فى رأسها ثم أبدت موافقة مضطربة قبل أن تستأذن فى األنصراف حاملة فى رأسها حيرة
تتخبطها بين أصرار زيزيت على مساعدتها وبين قلق وتخوف مشروع من رد فعل ال يعلم مداه إال اللــه .
وضعت زيزيت يدها على كتفها وتمشيا سويا للباب قبل أن تلتفت اليها :أنا من أول يوم وقفت مع بنتك من
ساعة مادخلتى السجن وكان قرارى ده عشان أردلك ولو حاجة بسيطة من جمايلك ودلوقتى ومن باب أولى
أقف جنب صاحبة الجميل نفسها اللى أفضالها على وماتشغليش بالك بأى حاجة طول ما أنا جنبك لغاية
ماتثبتى وجودك وترجعى أحسن من األول ..أتفقنا .تبدلت مالمحها حين سمعت الجملة األخيرة وأضاءت
وجهها بأبتسامة :أتفقنــا .
00000000000000000000
فى تلك األثناء دخلت بسمة من بوابة الجامعة محشورة وسط أجساد تجرفها فى كل األتجاهات وكأنها
وقعت فى دوامة من اللحم البشرى ..صارعت وقاومت دون جدوى حتى أستسلم جسدها لنظرية الدفع من
الخلف حتى اجتازت البوابة سيرا على الهواء قبل أن تسقط فى بؤرة زحام جديدة أمام المدخل ،إال أنها
227
تماسكت وشقت طريقها وسط كرنفال ألوان يصيب العين بتلوث بصرى .أخيرا خرجت كالجنين من الرحم
ثم توقفت لثوان أصلحت ماأصابها من " نعكشة " بعد معركة العبور المريرة .وسعت من خطوتها
بعدماأستعادت لياقتها متجهة ناحية الكافتيريا ،فإذا كنت من السائرين خلفها فحتما ستسحب مؤخرتها
نظرك كتحفة منحوتة داخل بنطلون " جبردين " وحتما ستبقى فى ذاكرتك حتى يحين موعد حلمك ،وإن
كان طريقك فى عكس األتجاه فسترى مايسرك من طيب الفاكهة ..حبتان كراز على شكل شفتين أسفلهما
ثمرتان من الرمان معلقتان على صدر منشرح تحته خصر نحيل لين فى حركته نزوال إلى ماال يحمد عقباه
كامنا وسط فخذين يتراقصان بال أيقاع .أستقبلت بسمة وقفة أمجد الذى بدا وسيما فى قميصه " البيج "
نظرا لوجود بديله " الرمادى " على حبل الغسيل ! رفعت يدها ملوحة له بينما رفع رأسه مبتسما يبادلها
نفس األشارة وكأن الذى بينهما لغة األشارة .بادر بالتحرك إليها يراوغ بأداء رشيق مجموعات الطلبة
التى طالت وقفتهم المرتخية أمام الكافيتريا أنتظارا لخلو مائدة أو حتى كرسى فى حين أصبحت قاعات
المحاضرات رجس من عمل الشيطان ،فأختصر الطالب حياتهم الجامعية يسعون فى طرقاتها وخارج
أسوارها ..تائهون بال هدف ..أفكار مشوشة وقضايا كبيرة تطرح بال سند فتتوه وسط الجدل والصراخ
كما تثور بينهم الخالفات العاطفية التى تبدأ وتشتعل ثم تنتهى فى غضون ساعات وال مانع من خصم بضع
دقائق لمناقشة األوضاع السياسية التى تدور دائما فى أطار متحضر تحترم دائما فيه وجهات النظر
المتباينة ،لذلك تفضى تلك المناقشات عن نتائج باهرة دائما ماتظهر فى شكل كدمات وسحجات تتوزع
بالتساوى على وجوه المختلفين مصحوبة بسيمفونية سب ولعن تطال شجرة العائالت من جذورها العميقة
حتى آخر ثمرة وليدة ،هنا يؤكد المراقبون والمتابعون للحركة الطالبية أن مصر ينتظرها مستقبل
مضيىء !! .تصافحا بعد عناء وجهد ثم وقفا مع الواقفين فى مواجهة الكافيتريا قبل أن يشب أمجد على
أطرافه ماسحا الكافيتريا بنظرة سريعة عاد بعدها راسما حسرة مصطنعة :ياخسارة مافيش والترابيزة
فاضية .جذبها من رسفها :تعالى نقعد فى الجنينة بتاعة كلية األداب أكيد حنالقى فيها كراسى فاضية .
مشت معه وعيناها معلقة على مدخل الكافيتريا ..سارا بتمهل وإن كان يسبقها بخطوة ..فى الطريق حاول
أمجد أظهار رجولة ال محل لها من األعراب :البنطلون ده ضيق أوى عليكى .
ــ متهيألك ده هو موضته كده .أجابة مختصرة تلقاها حين وصال إلى حدود كلية األداب قبل أن يتجها
يسارا بمحاذاة قسم اللغات الشرقية وصوال إلى حديقة الكلية العتيقة ،أدار كل منهما رأسه فى أتجاه
معاكس بحثا عن متر واحد من الخضرة يحتوى جلستهما المتعثرة ،لكن يبدو أنهما قد وصال أرضا فى غير
موسم زراعتها .فأنفجرت بتلقائية :أنت مش السنة اللى فاتت عزمتنى على حاجة ساقعة عند
228
بسطرودس ..أنا دلوقتى بقى مصرة أردهالك .أنتفض فجأة وجذبها بقوة من يدها قبل أن يفكر فى العرض:
أتنين قاموا من الكرسى اللى هناك ..تعالى نقعد عليه بسرعة .جلسا صامتين لخمس دقائق أللتقاط
األنفاس ..أستعاد أمجد وعيه العاطفى حين أبتسم وهو يلتفت إليها :وحشتينى .كلمة أعادت لها ذاكرة
الغرام بعد أن أراحت قدميها من رحلة السير العابرة للكليات :وأنت كمان .قالتها وهى تنظر فى عينيه إال
أنه مال لألمام يستند بمرفقيه على فخذيه ثم أنسحب بعينيه ناظرا لألرض بينما تأملت بسمة سكوته
ونظراته المهمومة لألرض قبل أن تنقر بأصبعها على ظهره :يعنى أحنا بقالنا نص ساعة بنلف لغاية
مالقينا كرسى فاضى عشان نعرف نقول كلمتين مش عشان سيادتك تسرح وتتأمل فى األرض .رفع ظهره
وأستقام فى جلسته :مش عارف يابسمة ..حاسس كده أنى مش مبسوط قلقان ..زهقان متضايق ..أى
حاجة مش عارف .
ــ طب لما أنت شايل جواك كل األحاسيس الجميلة دى كان لزمته أيه بقى أصرارك أننا نقعد مع بعض .
سكت ولم يبرر بينما هى لم تحتج .كان لهما مزاج حذر هذا اليوم ..فقدت الكلمات تلك العذوبة التى كانت
ألحاديثهما فى األيام الماضية بينما واصل أمجد رحلته التأملية فى أكتشاف الطبيعة حيث بدا بمراقبة متأنية
لزرقة السماء ثم أنتقالة سريعة لتفحص التربة األرضية قبل أن يعود سالما ملتفتا ناحية بسمة التى
أستسلمت لصمته وتأمالته وشغلت نفسها بالعبث بمشبك حقيبة يدها قبل أن تلتقط أذنيها بداية كلماته :
مالك ساكته ليه .
ــ عايزنى أقول إيه يعنى وأنا شايفة جنبى واحد قلقان وأرفان وزهقان .
ــ ماتفرقش كتير .أستدار بجسده كله متأهبا لتوضيح حالته :مش تسألينى قلقان ومتضايق ليه .عقدت
ذراعيها على صدرها وأنتظرت .تابع :فاضل أسبوعين على أمتحانات آخرالسنة يعنى بالكتير شهرين
والعبد للـه إلى قاعد جنبك حيتخرج ..يعنى مرحلة جديدة خالص .
ــ ودى حاجة تقلق و تضايق .قالتها ساخرة بينما أستعاد فجأة روح الثورى المتمرد :طبعا يابسمة تقلق
وتخوف كمان لما أبقى متأكد إنى حأتخرج من هنا وحأبقى زميل أبويا بعد كده فى قهوة علولة اللى عندنا
فى باكوس يعنى الشغلة وال مشغلة ومش عايزانى أبقى تعبان ومخنوق .لمست أصابعها فخذه الملتصق
بها :قبل ماتفكر فى اللى جاى وتعقد نفسك ركز األول فى األمتحان اللى فاضل عليه أسبوعين .
229
ــ سيبك من حكاية األمتحانات دى ..المهم أنا عايز أخد رأيك فى فكرة كده ضربت فى دماغى أمبارح
بالليل .واجهته بصدرها قبل أن تستند بكوعها على سور الكرسى :قول ياسيدى .
ــ فكرة مش عارف حتتحمسى لها زيى وال أل ..بدا مرتبكا ملخوما والخجل يتعثر بلسانه .فعالجته بنبرة
مخنوقة :ماتجيب من األخر وقول فكرة أيه ؟ .
ــ أنتى عارفة أن الدفعة بتاعتنا حتعمل حفلة يوم السبت فى مسرح الليسيه حتنظمها أسرة المستقبل .
ــ سمعت عنها .أقترب بأصابعه يتحسس يدها ثم ضغط عليها :وطبعا أنتى جاية .
ــ دى مش عايزة كالم .سحبت كفها من يده المعروقة :لم نفسك أحنا فى حرم الجامعة .
ــ حلوة وملعوبة وبمناسبة أننا فى الحرم بأقول لحضرتك ياريت يوم السبت وأنتى جاية الحفلة تجيبى
مامتك معاكى .تهدجت أنفاسها كمن سمعت خبرا مشؤوما :أجيب ماما معايا ..ليه ياأمجد ؟ فأجأه الرد :
عشان أتعرف عليها ..أنتى مش مفهمة مامتك عن اللى بينى وبينك .قالها وبحث بعينيه عن أجابة فى
وجهها فتابع بعد هزة من رأسها :الحفلة دى حتبقى فرصة أشوفها وتشوفنى وأكلمها وتكلمنى وعشان
كمان تطمن أن اللى بينا جد مش هزار وأنى بحبك وعايز أرتبط بيكى وكمان ناوى أعرض عليها الفكرة
اللى خيشت فى دماغى .
ــ فكرة أيه يابنى ؟ ..سكت يستجمع نفسه بينما تتابعه بترقب :أنا بأقول يعنى لو ممكن مامتك تساعدنا
وتقف جنبنا .قاطعته بفزع :أمى أنا .
ــ أيوه يابسمة ..مامتك تقدر تشوفلى عقد فى الخليج بعد ماأتخرج ..متهيألى ده طلب بسيط ومش حتغلب
فيه ..مامتك قضت عشر سنين فى الخليج وأكيد لها هناك حبايب بالهبل وأنتى عارفانى كويس أقدر أسد
فى أى شغالنة وكفاية على سنتين تالتة أحوش فيهم تمن شقة وأظبط نفسى وساعتها نقدر نتجوز ونعيش
حياتنا .كلماته كانت كطلقات الرصاص تلقتها بصوت مترنح :مش عارفة أقولك أيه أنت فاجأتنى بالكالم
ده .بينما يرى أمجد ماأرتسم على وجهها ..يتأملها ويستطيع أن يقرأ خطوطا متداخلة من األندهاش
والتعجب بينما أختبرته بعفوية :هو أنت بتتكلم جد ياأمجد ؟ ! .لم يكن يريد لها أن تضطرب أو تجتاحها
الهواجس :هى األمور دى فيها هزار ..طبعا بأتكلم جد وأنا من يوم ماعرفتك لغاية دلوقتى وأنا صريح
معاكى من غير تجميل وأنتى فاهمة ظروفى كويس وعشان بحبك بجد مش بهزار عايز أشتغل وأنجح
230
وأثبت نفسى عشان كده أول حاجة حأعملها بعد التخرج حأخطبك على طول ولما أشوف مامتك يوم السبت
حأفاتحها فى موضوعنا وحأطلب مساعدتها وحأقولها بكل صراحة أنا عايز أسافر عشان أحسن ظروفى
وأكافح زى ماأنتى كافحتى لغاية ماأقف على رجليه وأليق ببنتك .تكدس أنفعال الخوف فى وجهها حتى
أحتقنت بشرتها وأنفجر الكالم على شفتيها فى محاولة منها لوأد فكرته بالضربة القاضية :أنا مش موافقة
على كل اللى انت قلته ده خالص وال حتى على فكرة األرتباط دلوقتى وال عايزاك أصال تفاتح ماما فى أى
حاجة وكمان هى مش حتحضر حفالت من أصله .تدلى فكه وهو ينصت ألنفعالها ..كان فى واحدة من تلك
الحاالت المترددة مابين أدنى الشكوك وأقصى الغباء وأعمق التشتت والح فى وجهه سؤال لم تعبر عنه
شفتاه :هو أيه اللى أنا قلته غلط وخالها تتكهرب كده ..هى مش عايزانى ليه أتعرف على أمها ؟! .أستعاد
نفسه من بعد أن جمح بها :متهيألى أنا ماغلطش يابسمة وال طلبت شيىء مستحيل عشان النرفذة دى
كلها .قالها وهز رأسه مستاءا وبادلها غضبا وتابع بأنفعال :أوعى عقلك يكون رايح لسكة أنى طماع وال
أنتهازى ..أل ..أنا كل اللى طلبته مساعدة مش حتكلف مامتك أى حاجة أنا ماطلبتش حسنة وال سلفة .
أبتلعت ريقها بصعوبة قبل أن تقرب عينيها تحتويه :أسفة ياأمجد ماكانش قصدى ..مش عارفة أنا
أتنرفذت ليه .الزالت عينيه تحمل الدهشة :ياريت تفهمينى أيه اللى أنا قلته غلط وماخدتش بالى .أختنق
صوتها وهى تتلفت بعينيها وكأنها تستجير بالمرتخين المزروعين فى الحديقة الصلعاء :أنت ماقلتش
حاجة غلط أنا اللى وضعى غلط .قالت جملتها األخيرة بتلقائية ودون وعى ثم وقفت فجأة ونظرت له وهو
جالس مدهوشا :ياله بينا نمشى أنا عايزة أروح .قام ببطء ومشيا سويا فى ظل صمت مريب وأصبحت
نظراتهما التفارق األرض وكأنهما يسيران فى جنازة .لكن بال ميت ! .خرجا من البوابة بمالمح مأزومة .
جمل قصيرة قبل الفراق على أن يكون للحوار بقية كما نوهت بسمة :حأكلمك بالليل .هز رأسه دون أن
ينطق بكلمة وأنتهى اللقاء وأصبحت لبسمة عينان قلقتان ..وأصبح ألمجد وجه مذعور وعالمات أستفهام.
00000000000000000000
كان أجتماعا مغلقا محاطا بالسرية فى ركن الذكريات والتأمالت أمام المدفأة فى شقة خيرى الذى جمع
نفسه داخل " ترينيج" أبيض يلفه خط أسود عريض من عند الصدر ويطوى قدميه فى شبشب أسود بأصبع
بينما جلس أمام صديقه " برسوم " الذى أخفى هيكله العظمى المتهالك خلف قميص أحكم طرفيه حول
عنقه الهزيل ..بدا الجو العام المصاحب لألجتماع يثير القلق والفضول بينما لعبت األضاءة الخافتة
231
المنبعثة من شمعدان نحاسى على رف المدفأة الرخامى دورا مهما فى أستنفار حواس برسوم الذى تفصله
عن صديقه منضدة صغيرة عليها فنجانين قهوة تم األنتهاء منهما فى بداية الجلسة وعلى يسارهما مطفأة
سجاير أجتهد خيرى أن يجعلها مقبرة لعشر سجاير فى نصف ساعة وبمجهود فردى وهو يعيد شرح حالته
النفسية المتأزمة للمرة الثالثة أو الرابعة بصياغات مختلفة وكلها تدور حول أصابة مباشرة تلقاها قلبه
نتيجة أزمة عاطفية حادة نالت منه ومن كيانه وجعلته يشعر ألول مرة بأنه ال يعرف ماينبغى فعله ،
فأستعان بصديقه رافضا األفصاح له فى المكالمة التى دارت بينهما عصرا وأصر على حضوره .ربما يرد
على لسانه حال أو عالجا شافيا ،إال أنه وحتى اللحظة الزال برسوم يفتح عينيه ويغمضهما فى صمت
مكتفيا باألنصات غير قادر على المقاطعة أو األستفسار حتى أمتالت رأسه عن أخرها بكل التفاصيل
وفاضت على مالمحه التى تهدمت وزادت ترهال قبل أن يستقر على لسانه سؤال مباغت :كل اللى سمعته
منك ياخيرى عن جارتك هدى من ساعة ماشفتها لغاية النهاردة أنا ممكن أفهمه وأقبله على أنه أعجاب
بشخصيتها أو بجمالها أو حتى ممكن نسميها نزوة مع واحد محروم زى حاالتك ممكن تبقى مقبولة ..لكن
حب كده خبط لزق و بالسرعة دى ومن غير سبب مقنع ومع واحد زيك بتفكيرك وبمنطقك العقالنى ..يبقى
أكيد فيه حاجة غلط أو فيه حاجه تانية أنا مش فاهمها وأنت مخبيها عنى .نكس رأسه للحظات قبل أن
ينهى تنهيدة طارئة ثم قال :وال فى حاجة غلط وال مخبى حاجة عنك ..أنا نفسى لغاية دلوقتى مش قادر
أفهم وال أحلل أيه اللى حصلى وأيه اللى خالنى مدهول كده ..تعبت من التفكير ومش عارف أعمل أيه وال
أتصرف أزاى ..حاسس كأنى مش أنا وال عارف راسى من رجليه وده اللى خالنى أفتح معاك الموضوع
ده .على مدار ربع قرن من الزمالة والصداقة التقليدية التى جمعتهما دون المساس بطرازها الكالسيكى
القديم حين تفرز التركيبة الشخصية والطباع الشكل التنظيمى لتلك الصداقة فأحتفظ " برسوم " لنفسه
بدور " السنيد " المرتبط دائما بمشاكل البطل يطرح عليه الرؤى واألفكار قانعا بموقعه خارج دائرة الضوء
بينما البطل الوسيم الرصين دائما مايتحمل تبعات النجاح والفشل .أبتسم قبل أن يمارس دوره التاريخى :
يعنى المطلوب منى أيه بالظبط ؟ بعصبية خفيفة :دبرنى ياأخى وقولى أعمل أيه .
ــ نفس الروشتة القديمة اللى قلتهالك ياخيرى فى أول مرة شفت فيها المرحومة سميحة هنا فى العمارة
لما كنت ماسك لجنة الحصر ..أبعد عن السلبية وخليك أيجابى وسيبك من رومانسية عبد الحليم وصحصح
شويه ..عصر النظرات والجوابات وسماع أم كلثوم طول الليل ..الزمن ده ولى وراحت أيامه وبقت فى
رحمة ربنا والبقية فى حياتك .أستوقفت العبارة األخيرة شريف وهو خارج من غرفته بفانلته الداخلية
متجها للحمام فألقى نظرة على األجتماع السرى يتبين المعنى :خير يابابا مين اللى مات ؟ ..ركز برسوم
232
حدقتيه فى وجه خيرى :الزمن الجميل يابنى .أقترب منهما يوزع نظراته متقمصا دور الخواجة
" كولومبو" قبل أن يضغط جبينه يقلب الجملة فى رأسه ويكررها بعمق مضيفا إليها أستنتاجا مستعيرا أداء
الفنان" عبد السالم النابلسى " :الزمن الجميل يابنى وكمان أجتماع شكله كده مايطمنش بين األستاذ
برسوم واألستاذ خيرى تحت نور الشمعدان وقدامهم طفاية سجاير مليانه على آخرها وكمان نحط فى
الحسبان أن الجوز دول أصال منضمين لحركة سياسية ضد األخوان اللى همه دلوقتى ماسكين الحكم .قالها
وقرب نظراته إليهما بالتتابع قبل أن يصفق بكفيه :آه يبقى األجتماع ده عشان قلب نظام الحكم ياأشقيا
والبقية فى حياتك دى كلمة السر ..تبقى الليلة كده رايحة على عمل مسلح .لم يتلق أجابة أو تعليق سوى
نظرة متأففةمن والده :روح أتكل على اللـه شوف وراك أيه .
ــ ماشى ياعم خيرى .قالها باسما وواصل سيره إلى الحمام بعد أن فشل فى نيل أية معلومة وهو يردد
على اسماعهما :ثوار أحرار حنكمل المشوار ..بينما توجه خيرى متلهفا :وبعدين كمل يابرسوم.
ــ أول حاجة الزم نعملها نجهز خطة سريعة و أول بند فيها الجرأة والقلب الجامد وده دورك ياوحش .
خفض من صوته حين ألتفت فى أتجاه الحمام :وحش مين يابرسوم ياخويا ده أنا أول مابشوفها وأقرب
منها وأبقى عايز أفتح معاها أى مواضيع ماتفهمش يا أخى أيه اللى بيحصلى ..خرس تقول ..لخمة
ودهولة ماتفهم .تريث للحظة كمفكر محنك قبل أن يدلى بمعلومة :هو ده الحب الحقيقى ياخيرى ..الربكة
والتوهان والكالم اللى بيهرب منك وتحس أنك قدامها زى لوح التلج ..كل دى أعراضه .مسح خيرى شعر
رأسه بكفيه من المقدمة إلى المؤخرة كمن يتوضأ على مذهب أبن حنبل :صح يابرسوم قالها وشرد بفكره
فأعاده األخير ..ركز معايا وأسمع تفاصيل الخطة .إال أنه سكت حين وطأت قدمى شريف أرض الصالة
راجعا من الحمام وقد حجب أفاه وعنقه بفوطة ووقف أمامهما يمارس دور " الغتاتة" بعد أن مر بطرف
الفوطة على وجهه :خير ياشباب وصلتوا أليه ؟! .
ــ أنت مش عندك وردية يابنى الساعة سبعة ماتخلص بقى وأدخل غير هدومك وماتنساش تجيب معاك أي
لقمة وأنت راجع بالليل .جملة أفضت إلى التخلص منه غير أنه قال قبل أن ينصرف :ماشى يابابا بس لما
أرجع حتفهمنى أيه العبارة .
ــ هو أنت يابنى شغال فى مول وال على ميكروباص .كان توصيفا من برسوم .قابلها شريف بأبتسامة
مجاملة وأتجه لغرفته بينما أقترب برسوم بوجهه الناشف الذى دبت فيه الحماسة وهو يتلو بنود الخطة
متبنيا حالة صديقه على أنها قضية مصيرية تخص جيل كامل من دفعة مافوق الخمسين وخاصة الحاصلين
233
منهم على لقب أرمل .فتابع يشرح :أوال الظروف كلها معانا مش ضدنا .لم يستوضح وأنتظر :اللى أنا
فهمته منك أن هدى تقريبا كل يوم الصبح بتبقى موجودة عند صاحبتها زيزيت فى األتيليه واللى نورا بنتها
شغالة فيه واللى حتكون عن قريب حرم أبنك وهمه التالته بيقدروك وبيحترموك وده يطمنا أن لك شعبية
فى المكان يعنى مش حتبقى قلقان من أى حاجة ومن هنا حتبقى البداية .زفرة ملل قبل أن يسحب سيجارة
من علبته :وبعدين .
ــ سعادتك حتستناها على السلم وحتظبط نفسك الصبح على وقت دخولها األتيليه وبرضه نفس الحكاية
ساعة الضهر وهى خارجة وكالمك معاها كله يبقى بعينيك ..خليها تفهم معنى نظراتك وتفهم اللى تقصده
من غير ماتنطق بحرف واحد وتفضل على الحال ده يومين تالته وبعدها تدخل على المرحلة التانية والكالم
ساعتها حيبقى مباشر وجها لوجه ووقتها حيبقى لنا تكتيك تانى حسب تطور الوضع .سحب نفسا وأنكمش
صوته :قلقان منها لحسن تحرجنى بكلمة وال بحركة .قاطعه :مستحيل يحصل منها أى حاجة ..مش
عشان هيه واقعة فى دباديبك وال دايبة فى حبك ..الحكاية أكبر منك ومنها .رفع حاجبا :نورنى .
ــ أوال هى عارفة أنك حتبقى حما بنتها فى المستقبل القريب وثانيا هى شايله جميلك فوق راسها لما وقفت
جنب والدها وثالثا وده مهم جدا بالنسبة لها وهى أنها فاهمة وضعها كويس أوى فى نظر الناس ..أنها
لمؤاخذة يعنى خريجة سجون وده معناه أنها ماتقدرش تعمل مشكلة معاك وال مع غيرك عشان أى تصرف
مش حيبقى فى مصلحتها وال فى حد أصال حيصدقها عشان كده بأقولك دوس وماتقلقش من أى حاجة .
ألتقط خيرى تبريرات صديقه بأبتسامة تعنى األرتياح فى حين راقب برسوم فرحة صديقه الطفولية التى
دفعته لهرش مؤخرة صلعته بحثا عن صياغة هادئة وواقعية لحقيقة تعمد خيرى نسيانها أو غض الطرف
عنها .فقال ببطء :والمسيح الحى ياخيرى أنت من ساعة مافاتحتنى فى حكاية هدى دى ويعلم ربنا أنا أد
أيه فرحان ومبسوط ويمكن أكتر منك وأنا شايف الفرحة فى عينيك .سكت بعدها ولم يكمل وأدلى برأسه
لألرض فى حين تسلل قلق مباغت ينخر رأس خيرى وظل يرمقه بترقب حين أكمل برسوم :سبحان اللـه
أنا شايف أدامى نفس الفرحة اللى كانت بتتنطط فى وشك زمان هيه نفسها بالكربون لما أتقابلنا فى المكتب
من أكتر من خمسة وعشرين سنة مش حنسى اليوم ده أبدا كنا أول الشهر ولسه قابضين المرتب وكان
فوق منه منحة عيد العمال وكنت يومها أنت لسه راجع من عند المرحومة سميحة و مبهور بيها زى ما
أنت مبهور دلوقتى بهدى ..نفس الحالة وكأن ما فيش فرق بين زمن سميحة وزمن هدى .أبتسم أبتسامة
غير مفهومة :أنت شايف كده .
234
ــ ده رأيى وأن كان الفرق بينهم فى حاجتين بس ..أولهم أن المرحومة سميحة كانت من عيلة كبيرة ولها
أصل وفصل وأقل واحد فى عيلتها كان بيه أما هدى وأنا متأكد أنها أنسانة محترمة ومالهاش ذنب فى
المأساة اللى عاشتها لكن الناس بياخدوا بالظاهر وأكيد حيتعاملوا معاها على أنها ربة سجون .مط شفتيه
وأرخى جفنيه ثم تابع :السؤال هنا بقى ياصاحبى واللى بيفرض نفسه .ضغط خيرى على فكيه وتوترت
مالمحه أنتظارا للسؤال الصعب الذى بادر به برسوم :حيبقى أيه وضعك وسط الناس لو األمور أتطورت
أكتر بينك وبينها ..الماضى عمره مابيستخبى ياخيرى وساعتها خسارتك حتبقى كبيرة ودايما حتفضل
قلقان وخايف .تبادال نظرات صامتة إالأن خيرى أشاح برأسه رافعا عينيه ألعلى ناحية صورة المرحومة
المعلقة فوق المدفأة ،فغاص فيها بنظراته وكأنه يرى أبتسامتها تضيق وخيوط من الدموع تنسال من
عينيها فعاد حزينا على صوت صديقه :أنا طبعا متضامن معاك فى حكايتك مع هدى وزى ماأنت شايف
أهوه أنا واقف جنبك و بنتشاور سوا وكمان بنخطط ..بس ده مش معناه أنى حأكون موافق وال مبسوط لو
تطورت عالقتك بيها ألكتر من أعجاب والحتى حب .لم ينطق خيرى فأضاف برسوم قبل أن يربت على
كتفه :مش عايزك تزعل منى لكن ده حق الصداقة والعشرة والزم أفكرك باللى أنت عايز تنساه .تنهد وهز
رأسه قبل أن يقتل سيجارته فى المطفأة :مش زعالن يابرسوم وكالمك مهم لكن سابق ألوانه .أنهى
تعقيبه وعبث بعقب السيجارة الذى أصبح فى عداد " السبارس" ثم تابع ببالدة :أنت قلتلى فى فرق بينهم
فى حاجتين بين زمن سميحة وزمن هدى سديت نفسى بواحدة فيهم والتانية أيه بقى ؟ أرتد برسوم للوراء
وبدت عليه عالمات األسترخاء :الحاجة التانية ياسيدى دى كانت مهمة أوى بالنسبة لى ..أيام سميحة
كان شعرى مغطى راسى كلها أما أيام هدى بقت راسى والمؤاخذة شبه " تـ ) ....قطب خيرى جبينه
يستوعب الفارق الذى ذكره ثم أبتسم قبل أن ينفجر ضاحكـا .
الفصل الثامن
مضت بضع ساعات من ذلك النهار حتى قارب على الزوال .تقدم منصور بوجه حليق ورأس غارق
فى " الجيل " يتبعه حليفه " سليم " الذى بدا فى هيئة تالجة أيديال قميص أبيض على بنطلون أبيض
وبلغة بيضاء يسمع صوت زحفها على مسافة عشرة أمتار .أقتحما مدخل البيت بحارة " أبن شكر "
مدفوعان بخوف كأنما يخشيان أن يكشفهما أحد حتى تواريا فى السلم الضيق .ضغط منصور جرس
الباب ،فأنفتح له على ضجيج التليفزيون مصدره قناة " المولد" حيث يرطن " سعد الصغير " بأنشودة
" الحنطور " .ضرب صرير باب الشقة وهو يدفعه متقدما إلى الصالة فى رعاية أبتسامة عريضة من
235
" أم ماهر " الجارة الصدوقة لـ " بدرية " أمرأة فى نهاية الثالثينيات لديها ولد وحيد وزوج جديد بعد
رحيل " أبو ماهر " المفاجىء الى مقابر " المنارة " ويقال على ألسنة المغرضين فى الحارة أنها تزوجت
قبل ان تجف مياه غسله .صافحها ودخل ثم ألقى بتحية المناسبة الى بدرية التى تواجه الداخل .مبروك
ياست بدرية .
ــ أهال ياعريس أتفضل .قالتها وأهتزت رأسها التى تعلوها طرحة قصدت أن تكون حجابا ،فاذا بها عمامة
مزركشة تتناغم ألوانها مع ظالل العين مع لون الشفاه ،مع الوردة الكبيرة التى تعلو قمة الصدر الضخم ..
جلس على يمين مدخل الباب يمسح فخذيه بكفيه سعيا وراء حماسة مطلوبة فى ذلك الموقف العظيم بينما
ظل سليم واقفا يؤدى دورا محوريا فى تأمين المكان ،بدا متحركا ال يستقر فى بقعة ألكثر من دقيقة ،
يسحب نفسه متجها ناحية شباك متاخم لرأس بدرية ماسحا الحارة بنظرة فوقية يتفقد فيها الداخل والخارج
تحسبا لوجود مندس أو متابع يرصد تحركاتهما .سحب نفسا مفعما بالثقة حين تأكد من خلو الحارة
من أى متلصص .
األتفاق على التفاصيل ،كان صعبا ،ألنه كان أجابات عن أسئلة مصيرية .أراد منصور وبمباركة بدرية أن
تجرى األمور فى سرية تامة بعيدا عن العيون المترصدة التى تتابع وتراقب وتبلغ ! ..الترتيبات كان
الخوض فيها يقود الى خالفات وأشتراطات ،بدرية تريد حضور المأذون الى شقتها كى يعلم جيرانها
المقربين بأمر الزواج تفاديا ألثارة الشبهات فى حال دخول وخروج منصور المتكرر ،إال أنه أقنعها
بحيثياته " ،حارة أبن شكر " الشيىء يخفى فيها ،كل تصرف يخرج عن المألوف فى المساء ،يصبح
سيرة سيارة تعم الحارة فى الصباح .فى تلك اللحظة أستعدت نوسه للظهور ..توقفت بجوار باب غرفتها..
عدلت من هيئتها وسارت خطوتين حتى ظهر لها منصور يهمس فى أذن سليم ،ترمقه لثوان قبل أن تقطع
الطرقة إلى الصالة ثم خرجت عليه بوجه جديد شحيح المكياج وشعر بدلت لونه إلى األصفر الكنارى
ومالبس فضفاضة تحجب التفاصيل على غير العادة فتوارى الصدر والخصر خلف بلوزة بيضاء واسعة
عليها دوائر صغيرة حمراء بينما أختفت األرداف والفخذين والساقين حتى مشط القدم بفعل " جيبة" جينز
زرقاء تحف فى شوز من نفس الخامة .تراقصت فى خطوتها وهى تقترب على أنغام " سعد" المتصاعدة
التى تلهب حماس أى " وسط " .أستقبلها واقفا بأبتسامة مالت وجهه قبل أن يتفحصها :مبروك يانوسة
ــ مبروك عليك انت ياحبيبى .أكمل فحصه مستغربا :أيه الطقم الملموم ده يابت ..هو أحنا رايحين عند
المأذون وال طالعين عمرة .
236
ــ هو المأذون بتاعك ده فى جامع وال قاعد على البحر ..قوم تعالى معايا ياخفيف .جرجرته خلفها كذئب
فى موسم التزاوج ناحية كرسى يفصل حدود الصالة عن الطرقة .أجلسته وواجهته بجسدها وألتصقت به
حتى المس خصرها وجهه ،إال أن عينيها كانت تحمل لوما :أيه المسطول اللى أنت جايبه معاك ده .صعد
بعينيه :سليم جدع يابت ووجوده النهارده ضرورى عشان تأمين المكان ..سليم اللى مش عاجبك ده
أحسن ناضورجى فى كرموز كلها يعنى لو فى خطر وال حد متابعنا سليم يشم ريحته من على بعد كيلو ..ده
شمام كبير .التفتت إلى موقعه بجوار مدخل الباب ورمته بنظرة مشمئزة :هو من ناحية شمام باين عليه
من غير ماتقول .
ــ ماتشغليش بالك كلها ساعة زمن وكل واحد يروح لحاله .قال عبارته ثم حرك أصابعه يتلمس فخذها :
أخبار اللحمة أيه ؟ ضمت رجليها وأبعدت أصابعه :سيبك من اللحمة دلوقتى وقولى حنخرج أزاى من هنا .
ــ أنا وسليم األول وبعدها بخمس دقايق تسحبى أمك فى أيد وأم ماهر فى األيد التانية وحتالقونى واقف
مستنى جنب مدخل عمود السوارى ومن هناك نخطف تاكسى ع السريع لغاية جامع سيدى جابر .ثم أردف
قبل أن تنمو أبتسامة شيطانية وهو يلعق شفتيه بطرف لسانه :ونقول هناك كلمتين صغيرين يادوب زى
شكة األبرة ..قبلتك زوجة وقبلتينى الدكر بتاعك .ثم أشار بأصبعه طوليا من رأسها حتى قدميها :ونطلع
من عنده والحاجة دى كلها ملك أيدى وبعدها نبقى نظبط المسائل أنا وأنت ياجميل زى ماتكتكنا .أدارت له
ظهرها متجهة ناحية أمها تراقب وتتابع وقد أثنت عليها بنظرة متفق عليها ثم أرتدت إليه ثانية :هو أحنا
قدامنا قد أيه يامنصور .
ــ لسه بدرى يانوسة فاضل ساعة وشوية على صالة العشا .هزت رأسها وسحبت كرسيا من جوار سليم
وجرته وجلست فى مواجهة منصور .لم تنطق بكلمة واحدة وبادلها الصمت ،فأتاح لهما السكوت تأمل
المشهد بهدوء وتريث وبدت مالمحها كمن تلبى دعوة لم يفصح عنها فى حين بدا منصور كما لو كان
مدعوا إلى لقاء مربك ..يعلم جيدا إنه يخطو اليوم خطوة جريئة ،حتما ستكون فارقة فى مستقبله كله .
اليوم سيعقد قرانه على نوسة ،كما أتفق مسبقا ..اليوم يحلم أن يكسر الشرنقة ويغزل ثوب الحياة على
هواه وكما أرتضى ..وعندما يجتمع أثنين على حلم واحد فليس مسموحا لهما أن يحلما فى وضح النهار..
ثم مالبثت أن قامت نوسة تنفض عن نفسها لحظة القلق وعالجت أضطرابها بالتنقل على أكثر من كرسى
بينما زاغت نظرات منصور وراء تحركاتها فى حين أستغل سليم خلو مقعدها وأسرع يشغله ملتصقا
بصديقه وأنتحيا جانبا يتبادالن بقية تفاصيل الترتيبات .أستقرت نوسة على الكنبة تتوسط أمها وأم ماهر
237
قبل ان تشير عليها بدرية :قومى يابت شوفى منصور بيرغى مع الوله المسطول ده فى أيه ؟ نفذت األمر
وأنضمت إليهما تحاول أن تضفى بتوترها وهما يوحى بحيويتها وحضورها .لم تقنع منصور بالوهم .
لمس خيوط التوتر والقلق وهى تنسج نفسها حولها .جلست إلى جواره ..ألتصقت به فوضع ذراعه حول
كتفها وظلل بيده على فتحة البلوزة ،لم تشعر بحرج بينما أراد سليم صنع نجومية وسط الترقب والصمت
فأبدى صخبا مفاجئا وعال صوته دون مبرر :أن شاء اللـه يبقى يوم مبروك عليكم وربنا يتمه
علينا بالستر.
00000000000000000
ألحقى يامعلمة قدامهم أقل من ساعة وحيكونوا عند مأذون جامع "سيدى جابر " .كانت تلك المعلومة
الوحيدة المتوفرة لدى " النونو " قال جملته فى سرعة وهو يلهث كعادته فى تالوة األخبار السيئة .لم يكد
ينتهى إلى سمعها تلك األخبار الصادمة التى تجرى على لسانه حتى خبطت فايزة كفها على صدرها ..كان
يعرف ثورتها التى تنفجر قبل أن تفهم التفاصيل .
ــ هو ده أخر كالم وصلنى على لسان أشرف سويلم .وهى تلملم شتاتها :أشرف سويلم مين ؟.
ــ ده يبقى حبيب عبد العاطى جوز أم ماهر الوليه اللى ساكنة فى الشقة اللى تحت بدرية كومبارس قاله
بعضمة لسانه أنه مش حيقدر ييجى النهاردة القهوة عشان رايح مسجد سيدى جابر يشهد على كتب كتاب
منصور أبن عبده الجن على نوسة بنت بدرية .
قامت ببطء من كنبتها ثم بسطت كفيها على كتفيه وهزتهما :يعنى أنت عايز تقولى أن النهاردة منصور
أبنى حيتجوز فى السر من ورايا من بنت المرى المفضوحة دى .
ــ أيوه يامعلمة .تقلبت حدقتيها وأنشال قلبها وأنحط فى ضلوعها وأرتجف لحمها كالمصعوقة وبدت وكأنها
خارج غالف الدنيا ،فأعادها وهو يرى فى عينيها شررا أصابه بالهلع :عايزك تهدى شوية يامعلمة
وماتنسيش أن منصور يبقى أبنك الوحيد .يطرأ الغضب فى ذهنها وأتجهت إلى غرفتها فى خفة عصفورة
ودفعت الباب بقوة حصان ،فتلهف طرحتها والعباية السوداء قبل أن تدس رجلها فى الشبشب وتدخل
رأسها فى طوق العباية تلبسها حتى أنسابت على جسدها فزادتها سمكا بينما لفت شعرها بالطرحة ،ثم
238
خرجت من غرفتها تحمل وجوما ووجها مخيفا بدا كقنبلة معدة لألنفجار بينما نقاط من العرق ظهرت فجأة
فى جبينها وأسفل أنفها كشظايا صغيرة يصعب لمسها ..كل تلك األعراض حدثت فى فترة وجيزة التتجاوز
العشر دقائق من لحظة سماعها الخبر حتى خروجها من الغرفة الى الصالة حين واجهت النونو بلهجة
عصبية :أتصل دلوقتى بالوله خضر وقوله يلم شوية المقاطيع ويحصلنا على حارة أبن شكر .أعطته
ظهرها وأتجهت لباب الشقة بجسد يهتز كأنها زلزال يتحرك ومن خلفها صبيها يتبعها ويراقب توابعه
بينما صوت الرقع القاسى من شبشبها يدق درجات السلم قبل أن تصرخ فيه دون أن تلتفت إليه :كلم عبده
خرة أس المصايب وقوله أنا حأعدى عليه دلوقتى فى القهوة .
ـــ وأنت مال أمك ..أسمع اللى بأقولك عليه وأنت ساكت .كانت جملة فى شكل صرخة نتج عنها أضاءة
فورية من لمبة نور السلم المعلقة أعلى باب شقة " أم أبراهيم " التى أستطلعت من فرجة صغيرة فى الباب
لمحت منها نزول فايزة العنيف ،فلحقتها عند أخر درجة سلم تطل على بسطتها :خير ياأم منصور فى
حاجة ياختى .لم ترد وواصلت النزول .
فى تلك اللحظة كان " عبده الجن " فى أقصى درجات التركيز وهو يخوض صراع محتدم مع دفتر
الحسابات المفتوح بين يديه تحاوره األرقام وتعانده التواريخ ..ترفض فى أكبار وتحد أن تخشع لتوليفة
من بنات أفكاره يسعى من خاللها لتوفيق أوضاعه المتأزمة ما بين دخل المقهى ومصروفاته .مرت ساعة
والزال يحاول بينما " جمعه " يرمقه من بعيد بعين ثابتة وشفاه تتحرك فى حديث مضطرب يدور مع
الموبايل الذى يركب اذنه .أنتهت المكالمة سريعا ثم سحب نفسه من خلف " النصبة" وكان عبده هو
الهدف ،توجه اليه وظل فوق رأسه يرقبه قبل أن ينطق فى أقتضاب :أنت قافل موبايلك ليه يامعلمى ؟ رفع
عينيه ثم قذفه بنظرة حادة :يعنى مش شايفنى بقالى ساعة متهبب مع الدفتر المنيل ده ..مش راضية
تيجى معايا الشمال وال يمين والحسبة كلها متأندلة .تنهد ثم أردف :وبتسأل على الموبايل ليه يافقرى ؟
ألقى أستفساره األخير دون أكتراث قبل أن يرجع بعينيه يقلب صفحة فى الدفتر ،إال أن جمعة أبى وأستكبر
أن يتحرك من مكانه قبل أن يحقن أذنى معلمه بجرعة قاتلة فى صورة بالغ :األسطى نونو لسه مكلمنى
دلوقتى ع الموباين بتاعى وبيسألنى الموباين بتاع معلمك مقفول ليه .تجمدت مالمحه :والمؤرف ده
بيسأل ليه ؟ .
239
ــ بيقولك حيعدى عليك دلوقتى هو والمعلمة فايزة .كمن أصابته حالة تسمم من جرعة الكالم :حيعدوا
على هنا فى القهوة .
تداخلت مالمح جمعة :أيوه يامعلمى .قام منتفضا يبحث عن أعصابه الهاربة :ليه ياوله ..أيه اللى حصل؟
ــ الوله النونو كان متشنك أوى وهو بيكلمنى و سامع صوت المعلمة فايزة وهى بتسب وبتلعن فى منصور
والمؤاخذة فيك كمان يامعلمى .توقفت الجملة األخيرة فى أذنه ثم أستفسر :هو الوله منصور مشى أمتى
من القهوة ؟ .
ــ هو جه خمس دقايق بص على الشغل وبص فى وشى وكان شكله مبسوط وعطانى سيجارة مالبورو
وقالى لو أبويا سأل عنى قوله لسه ماشى وبعدها خلع مع الوله سليم .
ــ الصراحة أل ..بس هو كان آخر شياكة حتى الوله سليم المعفن كان ضارب طقم أبيض شبه التمرجى .
توتر عبده ونفخ فى وجه جمعه :ده باين عليه كده وراه حكاية سودة .طوى الدفتر وشرد يبحث عن أجابة
لسؤال يدق رأسه :طب هى الوليه حتعدى على فى القهوة ليه ؟ ..أبنها منصور وشكله كده عامل نصيبة
طب أنا ذنبى أيه .تنهد ثم مسح وجهه بكف يده كى يستعيد توازنه ووجه كالمه لجمعه فى سرعة وأرتباك:
روح يابنى شغل قناة القرأن وطوق القهوة بكنسة على السريع .أصدر تعليماته وأنصرف قاطعا المقهى
بأتجاه المدخل وسط عدد قليل من الزبائن مابين ساهم وتائه وهامس يحادث موبايل ملتصق بأذنه .أستند
بجوار حائط المدخل وأخذ نفسا عميقا ثم لفظه مع جملة ممتدة :أستر ياستار .
ــ مالك واقف كده ليه ياعبده .كان سؤاال فضوليا جرى على لسان " عم أمين " حبيس كرسى على يمين
مدخل المقهى من بعد صالة العصر .أجابه بصوت أصابه التنميل :مستنى القدر ياعم أمين .
ــ طب ماتسحب كرسى وتعالى جنبى نستناه سوا .قالها ثم صدرت عنه ضحكة أصابته بالسعال خرجت من
فمه الخالى من األسنان .لم يصبر عبده على وضعيته وتنحى عن مكانه راجعا إلى موقعه فى الداخل تاركا
الظنون تسرح فى رأسه .
240
لم تمر خمس دقائق إال وكانت فايزة على أعتاب المقهى وسط زفة تحاصرها ،جمال النونو على يمينها
وخلفهما خضر يتقدم كتيبة قوامها ثمانى بلطجية ..بينما هم عم أمين نصف همة ،يعكس وجهه الناشف
دهشته :خير يامعلمة فايزة فى أيه ؟.
نظرتها غير مستقرة وعلى فمها غضبة معلقة تشى بالخبل الذى ركبها :هو فين الراجل الناقص .تولى
خضر األجابة :آهو قاعد جوه يامعلمة .دخلت تتأمل المقهى بتأفف وسط أستغراب القاعدين ومرت عيناها
بينهم كأنها الترى شيئا بينما أعاد مشهد دخولها لألذهان أيام ولت حين كان " أحمد بك الدكرورى "
ضابط مباحث كرموز يحل ضيفا على المقهى فى ساعة متأخرة هو ورجاله يتفقد الحالة األمنية قبل أن
يخرج منها غانما مجموعة أسرى .أنفتح أمامها الطريق للوصول إلى عبده الذى تأهب واقفا ألستقبالها
يشد بدنه ويضغط على أضراسه حين بلغته :خير يافايزة فى أيه ؟ ألقت عليه نظرة نارية وهى تتحسس
المكان حوله بعينيها :هو أنت بيجى من وراك خير أبدا .بصوت محتضر :أحنا فى القهوة يافايزة وطى
صوتك شوية .عال صوتها صوت عبد الباسط المجلجل فى قناة المجد :عايزنى أوطى صوتى ..حاضر
حأوطيه .بحث بعينيه فى وجهى النونو وخضر :هو فى أيه ياجدعان حد يفهمنى ! .علقت عيناها فى
وجهه :قاعد بتهبب إيه عندك وأبنك الموكوس راح يتجوز فى السر .تنهشه الدهشة وفارقت الدماء
وجهه وأنسحبت الى قمة رأسه مرددا بشفة مهزوزة :أيه اللى بتقوليه ده ياولية ..منصور أبنى حيتجوز
فى السر .باغتته بقسوة لسانها :أيوه ياسيد المعلمين أصله أبن حالل مصفى وارث عنك جوازات السر .
حاصرته بنظرات متوحشة ولسان متوعد وواصلت :هى دى األمانة اللى وصيتك عليها ياعديم األمانة ..
أسيبلك حتة العيل اللى حيلتى أربع سنين أطلع أالقيه حشاش وصايع وحتة بت ملزقة تشتغله وعايزة تلهفه
منى هيه وأمها عشان تشفط اللى وراه .تململ عبده فى وقفته مثل قدر يغلى والعرق يطفح من وجهه
يستقبل رذاذ نيرانها فى صمت ثم جذبته من يده :تعالى معايا ياسيد الرجالة .بات كالمخبول فى يدها :
آجى معاكى على فين يافايزة .
ــ على حارة أبن شكر عند المرى اللى أسمها بدرية عشان أوريك بعينك ياعبده ياجن اللى يتحدانى وعايز
يستكردنى أعمل فى أيه .لم يفرج فمه عن أى كلمة وأختار السكوت حال ومشى خلفها ولم تفلح محاوالته
فى أظهار التماسك فى تفريق النظرات المتفرجة على كيانه المهزوم ورحل فى ذيلها منكس الرأس وفى
ظله يتبعه النونو وخضر ومن واالهم ..قضى األمر ! .
241
فى الطريق أعدت فايزة عدتها من النعوت واألوصاف المحتمل أستعمالها ..مشت كبرميل بارود متحرك
وسط أحتشاد النظرات المتابعة للركب من النوافذ والشرفات وأمام مداخل البيوت بينما كوكبة من عيال
الحوارى أنضموا إلى الركب دون وعى ،تخطت فايزة وزفتها حارة عويضة وحارة البهاليل قبل أن تطأ
قدميها حارة أبن شكر .خطوتين وغاصت رجليها فى بركة مجارى طافحة ومن خلفها خاضت أقدام الرجال
فى البركة تيمنابها ..تم أقتحام مدخل البيت الذى ضاق بهم .
لحظات وضربت فايزة باب الشقة الذى أنفتح على يد " أم ماهر " التى تلقت صفعة تعارف على وجهها .
بينما أنتفض منصور من المفاجأة حين مد نظره ناحية أمه التى تسد فراغ الباب ،أصابه الدوار كمن يقفز
فى الهواء وأدرك أن كالم الواشين لم يذهب هباء .جف ريقه وجنت عيناه بالمشهد المفاجىء وشعر
بالحصار وهو يردد كالمجذوب :ياليلة سودة ..ياليلة سودة ..حأفهمك ياما .
ــ أنت لسه حتفهمنى ياأبن الوسخة .قالتها ووثبت إلى وسط الصالة فى خفة عجيبة ومن خلفها موكب
مهيب يتصدره النونو وخضر وكتيبة البلطجية وحولهم يلتف بعض من جيران بدرية صعدوا خلفهم يشدهم
الفضول واألستطالع .
طالت فايزة أبنها وجذبته من أفاه حتى أستجاب فأعطاها وجهه فنال بصقة ثم صفعة :ضحكوا عليك يانمرة
ياأبو ريالة .أحاط وجهه بيديه تجنبا للكمة مباغتة :ماحدش ضحك على ياما .قالها بنبرة أستغاثة كمن
وقع فى حفرة قبل أن تدفعه بكلتا يديها لينهار على الكنبة صامتا ذاهال ،وبنفس الليونة والحيوية أنحنت
فايزة على األرض عارضة على العيون أردافها الهائلة وما أنكشف من بطنى ساقيها ،فأختطفت فردة
شبشبها وأشهرته ثم أنقضت على موقع ( بدرية كومبارس ) بجوار منصور المنهار وعلى رؤوس األشهاد
أخذت بدرية تحمى وجهها بذراعيها وهى تتلوى تحت ضربات الشبشب المنهالة على رأسها وصدغيها
وأنفها الكبير بينما فايزة زاعقة وسط الزحمة التى حفت بالمشهد وهى منكوشة الشعر حافية القدمين
مترجرجة فى أنفعالها مثل جبل من " الجيلى " يحتدم فى جوفها بركان :ورحمة أبويا ماحتفلتى من أيدى
يامرى ياناقصة ياللى ماشية على حل شعرك .أنسحبت بدرية بوجهها السابح فى األلوان بأتجاه الداخل ،
سحبتها أرجلها كرد فعل فطرى هاربا من الوحش المندفع خلفها مستهدفة باب غرفتها وتبعتها فايزة بال
عقل ومدت ذراعيها المشرعة وأحتضنتها من الخلف ثم ثبتتها للحائط وأخذت رأسها بين كفيها تدقها فى
الحائط فأرتدت عمامة رأسها للوراء ،حاولت بدرية صلب طولها وخافت أن تغيب عن وعيها ،وراحت
عيناها تتحركان يمينا وشماال تصرخ مستنجدة بشهامة الجيران ،لكن فايزة عاجلتها بضربة خبيرة من
242
قدمها فى بطنها أسقطتها جاثية عند قدميها وبات كل جزء فى جسدها تحت سيطرة فايزة مدعوما بسباب
يقف له شعر الرأس بينما أنضمت نوسة ألمها تحت ألحاح صلة الرحم بعد ماتوقف عقلها عن األستيعاب
للحظات ..وما أن أفلتت بدرية مشعثة الشعر حتى جرت نفسها تحبو على ركبتيها إلى حجرتها وهى تردد
بصوت متهدج :هو أنتى فاكرة شغل السجون بتاعك ده حيخوفنا .زادت كلماتها من غضب فايزة فأقتحمت
عليها الحجرة وأنهالت عليها لطما وأمسكتها من شعرها وهى تقسم أن تجردها من مالبسها وتكون
فضيحتها كفضيحة لحمة العيد وراحت تدفعها من خلفيتها لتخرجها من الغرفة إال أن بدرية تشبثت بالباب
كأنها جزء من خشبه وعال صوتها بالعويل كصراخ أمرأة فى حالة والدة :ألحقونى ياناس حأموت فى
أيديها .بينما فايزة تهدد وتتوعد كل من يقترب :أياك أى عرث يقرب منى ..الزم تاخد نصيبها بالتمام
والكمال .وكأنها أشارة متفق عليها فتصدى الثمانية عجول بأجسادهم يمنعون تنامى مشاعر شهامة بدت
تظهر فى الوجوه.أفاق منصور من صدمته وتدخل يمنع أمه بينما أستماتت نوسة على يديها كى تخلصها ،
لكنها كانت متشنجة ومتصلبة على شعرها الذى تمزق بين أصابعها مرددة :وعزة جالل اللـه لتكونى
أنتى وبنتك بايتين الليلة فى مستشفى الميرى .أخيرا تحرك عبده تحت حرج الموقف وتدخل بمالمح فأر
مذعور ،حاول أبعادها وتهدأتها ،لكنه نال دفعة فخمة من السباب جعلته محايدا وعاد لصفوف المتفرجين
بينما الزالت نوسة تدفعها من كتفيها وهى تصرخ فيها :حرام عليكى أمى حتموت فى أيدك يامفترية .
فأخرستها بلكمة موفقة أودعتها أسفل عينها اليمنى فترنحت وسقطت بجوار أمها ..لحظتها تدخل الجيران
بالصراخ ،فعاد لها عقلها وأستسلمت لنداءات التهدأة وتقبلت حصار جمال النونو وخضر لها كى ال ينتهى
األمر بجريمة قتل ،فتوقفت بعد أن حصلت على نتائج مرضية رأتها فى وجه بدرية وأبنتها ،كما تقبلت من
األيدى الكثيرة التى أمتدت لها " طبطبة " والمعاونة فى لبس الشبشب والطرحة ثم نفضت نفسها وبصوت
متقطع ألقت بيان النصر :قسما باللـه يابدرية لو مالمتيش نفسك أنتى وبنتك وبعدتو عن الوله أبنى لتكونو
المرة الجاية مكانكم فى الترب .ثم أدارت لها ظهرها بينما بدرية لم يكن سليما فى وجهها إال عين واحدة
ورقدت مكانها ككومة بالية مغمضة العين وبدت مالمحها قريبة لكائن بشرى وكأن أسدا أفترسها .فى حين
أستعادت نوسة وعيها وساعدت أمها على الوقوف بناء على توصية رددتها بصوت خافت :دخلينى
أوضتى عايزة أموت على سريرى .تحركت ببطء تجر باقى لحمها خلفها تترحم على جسد صار تحت طائلة
العرج والكساح ..فى تلك اللحظة وقف منصور فى الصالة مدهوشا صامتا سقطت عنه كل ثقته المعهودة
بنفسه وأحتبس على لسانه الكالم فى مصير فاجع ..وها هو ذا يسلم أمره للـه ويعيد حساباته ويرى أنه
أمام قوة ال يمكن أن تعاند أو تقهر .تلفت حوله يبحث عن سند أو معين ،فوجد نفسه وحيدا حتى صديقه
243
سليم أختفى وكأنه تبخر .فى حين تسللت إليه األهانات كأنات مكتومة تطارد أذنيه وكان مصدرها حجرة
بدرية ،شعر بنفسه كمخنث فاقد للرجولة فسحب نفسه منكسرا وفتح باب الشقة يترنح على درجات السلم
يحمل وجهه عالمات المحنة حتى وصل إلى المدخل الذى وجد أمامه تظاهرة وليس من مجال أكثر من
هذا لكى يتجمع البشر من حارة أبن شكر الذين تفحصوه وهو يمر بينهم ومطوا شفاهم عجبا ..وال هم
بفاهمين ! ..حاول أبعادهم :أيه يابشر كل واحد يروح لحال سبيله .ورغم ذلك النداء ال يتحركون إال بطاء
واليمشون اال مترددين ..يريدون مزيدا من " الفرجة " .فى تلك األثناء تباعدت فايزة وفرقتها بخطوات
واسعة بينما منصور فى الخلفية اليكاد يلحق بهم حتى أنعطفت فى أول حـــارة جانبية .توقف فجأة ودون
مبرر ،راقب المشهد كله من بعد بمالمح ومشاعر غير محددة ..هل هى سخرية ،مرارة ،أستسالم ؟
اليستطيع أن يحدد ..الذى يدركه تماما ويحرك دهشته أنه لم يدافع باستماتة عن نوسة وأمها أو حتى
عن نفسه ! .
00000000000000
أتخذت الخطة المعدة سلفا من زيزيت وهدى ستة أيام حتى تقبلت نورا األمور بثبات .كان ذلك حين ألقت
األخيرة نظرة خاطفة على أمها وهى تتلقى تدريبا عمليا على ماكينة " السرفلة " على يد زيزيت ،فأقتربت
منها بحذر :أيه اللى بتعمليه ده ياماما .نبت األرتباك فى مالمح األخيرة ولم تتفوه بكلمة بينما أصابعها
تزداد تشنجا وهى تسحب طرف عباية مطرزة من أنتاج أبنتها من بين براثن سن األبرة الصاعد الهابط .
فتولت زيزيت الرد :أيه رأيك بقى فى شغل ماما ؟! .قطبت جبينها تعيد تجميع الحروف على لسانها ثم
لفظتها بدهشة :شغل ! .أبتسمت وضغطت زر أسفل رأس الماكينة التى أصدرت صوتا متحشرجا كالذى
تخرج روحه أختناقا :تمام كده ياهدى ..أيوه يانورا ماما حتشتغل معانا أنا أقنعتها وقلتلها بدل ماتيجى كل
يوم الصبح تقعدى معايا ضيفة ونفضل نرغى أنا قلت أخليها تستفاد بوقتها وآهو تغيير وأرحم من حبسة
البيت اللى هى فيها ومنها تتسلى وكمان تقبض قرشين .ثم قربت وجهها من نورا .أردفت :وبينى وبينك
أنا عايزاها جنبى عشان نقضى اليوم كله رغى .أنهت كالمها بتمكن وبأداء السهل الممتنع ،فأجهضت
ثورة كانت متوقعة وقضت على غضب تهيأت نورا ألظهاره حتى ضعف وخفت ولم يصدر عنها سوى
أضطراب ضاعف من أرتباكها :بس ماما البيت محتاجها برضه .
ــ ماتقلقيش من الناحية دى خالص حيبقى عندها فترة راحة من الساعة تالتة لستة ده غير أنها الوحيدة
هنا اللى مسموح لها تمشى فى أى وقت يعجبها وتيجى فى الميعاد اللى يريحها .ألتقطت هدى خيط الكالم
244
بعدما تحررت رأسها من وضعيتها ورفعتها بأتجاه أبنتها تستطلع نظراتها الغامضة .ثم توجهت إلى زيزيت
بأبتسامة :ربنا يخليكى ومايحرمنيش منك .قابلت األخيرة كلمات المديح بجملة توضيحية قصدت منها
أفشال أى هجوم معاكسى من جانب نورا ومحاصرتها فى دائرة الحرج :واللـه أنتى ربنا بيحبك ياهدى
وراضى عنك كفاية أنك حتبقى موجودة فى نفس المكان اللى فيه بنتك حبيبتك وكمان جارتك وصاحبتك
واللى أفضالك عليها ماتتعدش .أبتلعت األحتجاج الذى ظهر فى عينيها وهزت رأسها مغلوبة على أمرها .
فقالت مضطرة :مادام ماما عايزة كده وأنتى موافقة يبقى أنا ماعنديش مشكلة .قالتها وأنسحبت ثم
أضافت وهى تمشى بنبرة مخنوقة :أنا حأدخل جوه أجهز الشغل اللى حيتسلم النهاردة .وقبل أن يختفى
ظلها من أرضية الممر المؤدى للداخل حتى أنحنت زيزيت تحتوى هدى فى صدرها وقد أنساب بينهما فرح
طفولى حين زالت عقبة األعتراض والتداعيات المتوقعة من نورا .
قضت هدى أسبوعها األول كنسمة ترطب ساعات العمل والتتدخل فى شئون األخرين ،هادئة ساكنة
كعادتها التثير مشاكل من أى نوع .أنسابت داخل األتيليه بسهولة وتوغلت فى تفاصيله وأكتشفت سريعا
أن األتيليه كيان كبير ويعمل وفق منظومة متكاملة على رأسها أدارة قوية محترفة بقيادة زيزيت وموهبة
فذة تعشق الخصوصية واألبتكار متمثلة فى نورا ومن خلفهما أصطف يدعم بأخالص مثل " رضا" فتاة
سمراء التملك من مقومات األنوثة سوى صوت ناعم ،تعمل لدى زيزيت منذ عامين بعدما فشلت فى
الحصول على األعدادية لثالث سنوات متتالية وحملت وزارة التربية والتعليم مسئولية أخفاقها ،تعتبر
" جوكر" المكان تؤدى أكثر من دور بداية من الكى والتكييس وأنتهاءا برفع المقاسات من على األبدان ،
تزاملها فى نفس الوظيفة " فضيلة " أمرأة أربعينية تحمل لحما كثيفا خشنة الصوت مطلقة دون أوالد بعد
رحلة زواج فاشلة عمرها عشر سنوات من رجل اليملك شيئا ،فأختارت أن تكون سندا له فحفظت له
كرامته وحين تأخرت فى األنجاب دار معها على أطباء النساء حتى سمع كلمتهم األخيرة " فرصة الحمل
ضعيفة يافضيلة " .فكرت بدال منه أن يكون له طموح ومصدر رزق محترم فأستعانت بتحويشة العمر التى
جمعتها على مدار عشرين عاما من الصراع فى محالت بيع المالبس الجاهزة بوسط البلد ،أستأجرت له
محل بمنطقة " الحضرة " لبيع المالبس المستعملة ..ثابرت معه حتى تمكن من تطوير أداؤه قبل أن ينتهى
به المطاف لبيع المالبس التركى المستوردة وفتح اللـه عليه بمحل أخر كما فتح عليها جام غضبه وعايرها
فى الليل والنهار بعيبها قبل أن يحجز لها تذكرة فى قطار المطلقات ويحجز لنفسه مكانا فى حضن ريفية
بيضاء يكبرها بربع قرن .
245
أنصتت هدى جيدا لدروس زيزيت التى كان لها الفضل فى حشو رأسها بالمعلومات عن كل كبيرة وصغيرة
بداية من الماكينات المستخدمة والخامات واألكسسوارات المستعملة حتى أسرار التصميمات الخاصة بها
أطلعتها عليها فى حين أكتشفت هدى نوعيات من النساء من طبقة كانت تعتقد أنها قد أنتهت ،معظمهم
عضوات بـ "روتارى " األسكندرية وفى أندية سموحة وسبورتنج ،دفعتها زيزيت لتبدأ السلم من أول
درجاته فأثبتت نجاحا وكانت لها القدرة على مخاطبة أى زبونة تلتقى بها وكأنها صديقة قديمة ،كانت
ترفض فى البداية أن تأخذ أى أكرامية وهى تقدم الفستان للزبونة ،كانت تنتفض من داخلها حين تسمع
لهجة أستعالء من بعض السيدات فتزداد متاعبها النفسية ،فاألكراميات ليست كلها نابعة من الكرم ..قدر
كبير منها لزوم " األالطة والفشخرة " إال أن زيزيت ألمحت لها أن تساير أمورها ،فأعتادت مع الوقت ولم
يعد شيىء من هذا يثير دموعها كما كانت فى البداية .غدت هدى وبفترة قياسية تعرف كل مجريات األمور
فى األتيليه الذى أصبح بالنسبة لها جسر بين عوالم التصالح بينها ،ويكاد يكون مرادفا للحياة عندها .
كانت تريد أن تثبت لنفسها قبل األخرين أنها جادة وطموحة ودون قصد منها أعادت لذاكرة زيزيت عهدها
األول بالعمل ،فقد عرفت هذه اللهفة على النجاح وتذكرت صدى كلماتها وسط أحالمها القديمة فى المركز
المرموق والحب والزواج ..أحست رأسها تعيش لحظات سقطت من الزمن ،ولعلها تذكرت مواقف كثيرة
أندفعت جميعها الى حافة ذاكرتها عندما طالعها وجه هدى كل صباح .تسع سنوات قد مرت على أختفاءها
فى السجن ..وها هى األن تعثر عليها .
مع بداية األسبوع الثانى أصبحت هدى لها حضور قوى فى األتيليه ،جميع المتعاملين من أصحاب
المحالت الكبرى عرفوها باألسم ،كانت دائمة الخروج مع زيزيت إلى مصانع المالبس واألقمشة وحضور
األتفاقات بل أنها شاركت فى طرح أفكار جديدة لتصميمات واعدة ،فتحولت سريعا للعب دور السكرتيرة
الخاصة لزيزيت التى أكتشفت فيها أمكانية ترشحها ألن تأخذ مكانة متميزة فأطلعتها على ميزانية األتيليه
بينما شعرت هدى أنها تلعب نفس الدور التى أجادته مع زوجها " نديم " حين كانت تمسك بكل ميزانيته
وتشاركه كل األفكار قبل أن يسلم نفسه طواعية لـ " نسيم الشرقاوى " .هذا الدور أتاح لها أن تستعيد
بعضا من نفسها .أجتهدت وبداخلها نكران لكل مرارة الماضى ..تحسب الزمن بالدقائق لتعويض مافات
وبدت كممثلة مغمورة أتاح لها القدر فرصة النجومية فأمسكت بتالبيبها وبدأت رحلتها الصاروخية .لكن
هناك من يرصد ويتابع ..أشياء كثيرة ومشاهد عدة وانفعاالت متباينة وأفكار تروح وتجىء بال تتابع داخل
رأس نورا تكاد تورثها جنونا فوق جنون الخوف المرضى الذى ينتابها كلما وجدت تقدما ملحوظا ألمها ،
فزاد قلقها من تعاظم دورها وتأثيرها المباشر على زيزيت فشعرت بتخوف شديد على عرشها الذى بنته
246
وأحست أن أمها تسرق أنتصارها وتزحزح نجوميتها فى األتيليه ،فحاولت تلمس األلفاظ التى تنطق بها
حين أثنيت زيزيت على هدى التى أقترحت مجموعة أفكار من شأنها أن تسهل على بعض المتعاملين سداد
متأخراتهم تزامنا مع تمويلهم بموديالت الشتاء الجديدة حينها تلقت اشادة التقبل التأويل من المتعاملين
المتعثرين فى حضور نورا وفضيلة ورضا ،فأحست هدى أن كلماتهم تجاوزت األطراء العادى مما أوقعها
داخل دوائر الخجل .فبادرت متحمسة :أن شاء اللـه بعد كده حأحصر كل التجار اللى عليهم مديونيات وأنا
حأتصرف معاهم بنفسى وفضيلة حتساعدنى فى الشغالنة دى عشان هيه عارفاهم من زمان .حاولت نورا
أن تكون عادية :واحدة واحدة ياماما أنتى يادوب ماكملتيش أسبوعين .قالتها بعصبية خفيفة بينما
أستشعرت زيزيت بوجود غضب وغيرة يتناميان داخل نفس نورا التى أستولى عليها أنفعال أرادت أن
تتخلص منه ،فلم تجد فى الموجودين من يصلح سوى فضيلة :أنتى واقفة ليه كده ماتدخلى جوه جهزى
القماش اللى حأشتغل عليه .تلقت األمر بأنكماشة وأحتقن وجهها حرجا وهزت رأسها باأليجاب مغلوبة
على أمرها ومرت من بين الواقفين تمد خطوتها متجنبة لقاء األعين التى ظهر فيها األستياء واضحا .لم
ترد زيزيت أن تعقب فأدارت كالما هادئا :أدخلى معاها جوه ياهدى شوفيها محتاجة مساعدة .كانت
نظرتها كافية لتدرك هدى ماتقصده ..أرادت منها أن تطيب خاطرها .أصبحت نورا دائمة العصبية منذ
اليوم األول لوجود أمها فى األتيليه .من يراها يحسب على الفور أنها شديدة التوتر على الرغم من البسمة
الموجودة والتى تحتل أكبر مساحة من وجهها .على أن هذه السماحة وهذا الوجه المستبشر له جانب
آخر ،فاذا أقتضى األمر أن يتحول إلى النقيض مادام هناك دوافع وضرورات تقتضى تحولها إلى
أنسان أخر .
فى الداخل لم يكن الوضع سهال على هدى وهى ترى عالمات أستفهام تتخطف مالمح فضيلة :أنا مش
فاهمة هيه أتعصبت عليه ليه ..ده أنا مافتحتش بؤى بكلمة .صمتت هدى للحظات فى محاولة للعثور
على رد مناسب :ماتزعليش منها يافضيلة واللـه ماكانت تقصد ..نورا قلبها أبيض وتالقيها بس متضايقة
من أى حاجة .لم تمهلها المتابعة :متضايقة من أيه ياست هدى دى كانت بتضحك ومبسوطة وهى بتتفق
ع الشغل الجديد وفجأة أتقلبت مرة واحدة .
عشر دقائق مرت حاولت فيها هدى تهدأتها بعد ماشعرت بفداحة شكواها حتى نجحت فى جعل المشكلة كلها
فى ترتيب متأخر جدول أوجاعها حين طفت على مالمحها ضربات الزمن الموجعة فغاصت الكلمات فى
حلقها وهى تتذكر هزائمها على مدار عمرها كله ..تجارب مريرة عاشتها خرجت منها بحكمة رددتها فى
247
يأس على أسماع هدى :فى نسوان ياست هدى ربنا خلقهم فى الدنيا دى زى الكبارى وظيفتهم بس أن
الناس تدوس عليهم بالجزم عشان يعدوا البر التانى ومش مسموح لهم يتوجعوا واليتألموا يتحملوا بس
وهمه ساكتين لغاية مااللى بيدوسوا عليهم يعدوا فى سالم وأمان .نظرت هدى لها طويال ..كانت تطعن
حدقتيها وكأنها أمام شاشة عرض ترى فيها شريط حياتها ..تقيس حكمة فضيلة على حالها ..أغمضت
عينيها للحظات ثم فتحتهما دامعتين وأبتسمت ثم مالبثت أن ضحكت ضحكا ال يشبه الضحك ،لكنه سرعان
مارحل عنها أمام دهشة فضيلة وأستغرابها وهى تسأل نفسها :هو أيه اللى أنا قلته وخالها ماتت
على روحها من الضحك .عادت هدى فى تلك اللحظة إلى واقعها تنشغل بأسئلة لم تصل بعد ألجابات
عنها ..تعجبت من تغير األحوال وأختالف المصائر ثم كسا وجهها الحزن فجأة وسمعتها فضيلة كمن
تحادث نفسها :ياه هيه دى حتبقى أخرتها ..نص عمرى ضاع والنص التانى حيضيع واألخر حأخد لقب
كوبرى .أحست أن حالة فضيلة ربما تكون أمتدادا لما ينتظرها من وحدة قاتلة وحياة بائسة ..تتوقف
طويال عند كلمات المعنى لها ،تترجمها الى أنفعاالت وشجن .وفجأة ودون مقدمات تساءلت فضيلة وكأنها
قرأت ماتخفيه هدى :ماتزعليش منى ياست هدى فى الكلمة اللى حأقولهالك ..أنا شايفه كده أن األنسة
نورا جافة معاكى شويتين وفين وفين لماتتكلم معاكى ! .تنتبه قليال على قشعريرة جسدها .تسحب نفسا
بطيئا :أصل أنا وهيه بنتكلم كتير أوى فى البيت !!.
00000000000000000
ــ لم يكن هذا فى خاطرها أبدا ..حقالم تكن غافلة تماما ..كانت تفطن بغريزتها كأنثى لنظرات خيرى
الجريئة التى تطاردها بأصرار كلما ألتقى بها عند باب المصعد أو فى مدخل العمارة .حسبتها مجرد نظرات
معجبة ..لم يطف بخاطرها أى تفسير لنظراته أكثر من هذا ..تكرر اللقاء ،مرة فى الصباح وهى تغدو الى
األتيليه ومرة عند العصر وهى تئوب إلى شقتها حسب خطة برسوم .كثرة المصادفات أكدت مدى غباء
أدراكها .كان مترددا يخاف المغامرة ،أراد خيرى أن يستوثق من كل حركة ..بل من كل رغبة قبل أن يقدم
عليها ،كان يخشى أن ترده .لكن ،تحركت فى أعماقه شهوة جارفة للحياة ..لألمساك بها فى أية صورة
من الصور ربما هذا ما حذا به اليوم إلى الوقوف أمام مدخل األتيليه .ربما أراد أن يجرب اللعبة ويمشى
مع الخطر الى أقصى حد .ليتعرف على حقيقة عالقته بهذا الكون .
طال وقوفه وهى تراقبه من قاعة األتيليه تستعد للخروج بعد أنتهاء فترتها األولى ..رسم أبتسامة وأرسلها
من خلف زجاج الباب فتلقتها وهى واقفة فى منتصف القاعة وقد بدت مالمحه فى عينيها كمالمح فارس
248
من فرسان الحواديت .بل أنها فى األغلب ترى فيه مالمح الهيبة والزعامة ..تغزوها نظراته ..سقط قلبها
فى قدميها وظلت ساكنة تنصت لدقاته ..كانت مستسلمة بينما هو يستعيد وجوده فى نظرته إليها ،وفى
وقفته خلف الباب الزمه خيال لم ينفصل عنه فراح يشيد قصورا ويهدمها ،فكان كلما صنع لنفسه فنجان
من القهوة ،تخيل أنها هى التى تصبه له ،جلس الى مائدة الطعام وتخيلها أمامه بمفردها تشاركه لقمته ،
سار فى الشارع وحلم بها تتأبط ذراعه ،قرأ كتابا وناقشه فى وحدته معها .لم يدرك أنه أستعاد مافقده
إال عندما ينظر إليها وكأن هناك قوة داخله تدفعه ناحيتها .كان يرى فيها صورة جديدة لـ " سميحة " أو
صورة مكررة منها ،أو أنها هى وقد بعثت من جديد فى لحظة اليتذكر تفاصيلها ..فى قلبه تنمو أمنية أن
تبادله نفس المشاعر ..أراد أزاحة هذه األمنية إلى درج الكم الهائل من األمنيات التى يعرف أنها باطلة ولن
تتحقق ،ولكنها النفس تشتهى ! ..بانت الدهشة فى عينيها وهى خارجة من باب األتيليه ..نظرت إليه فى
ذهول عندما أقترب منها وكانت األبتسامة مشنوقة فوق ثغرها ،يتبادالن نظرات خفية يزور فيها كل منهما
األخر متخفيا تحت كلمات الترحيب :ازيك يامدام هدى .نظرت إليه بمشاعر مدهوشة :الحمد للـه كويسة
ياأستاذ خيرى .لم تفارق عينه وجهها .يحاول التودد إليها بنظراته المحيرة :أنا حبيت أطمن عليكى
وعلى الوظيفة الجديدة .أتسعت أبتسامتها على شفتيها وأصطبغتا بلون الخجل :أنا الحمد للـه تمام
والوظيفة كمان كويسة .
ــ ياريت تسمحيلى أبقى أجى وأطمن عليكى كل يومين تالتة ! .كان رقيقا وجريئا فى آن واحد ..سرعان
ماتالشت بسمتها خلف مسحة من قلق تماوج على البشرة الملتهبة بحمرة أنفعال تحاول مداراته .لم ترد .
أتجهت ناحية درجات السلم صعودا دون أن تلتفت إليه .
دخلت شقتها الغارقة فى السكون .يوسف وبسمة يؤديان أمتحان أخر السنة ونورا مازالت فى األتيليه
بينما أيات فى غرفتها بصحبة نعمة يتهامسان ويستحضرن حكايات الماضى كالعادة .
من جديد تستعيد كلمات خيرى القليلة وتطلق العنان لخواطرها التى تتصارع فى أعماقها مؤنبة ومبررة !..
إنها التستطيع أن تقول فى حقه مايعيبه ،هو طيب يتطوع بخدماته لكل من يحتاج ويكفى موقفه النبيل مع
أوالدها .أتجهت ناحية غرفتها .أغلقت بابها وراءها كمن تريد أن تتوحد بالرغبة ،أنفلتت تغالب شعورا
عارما زايلها منذ هجرت تلك الليالى الدافئة فى تلك الحجرة مع الراحل " نديم " .ألقت نظرة فاحصة على
نفسها فى المرأة ..جسد مشدود فى تناسق بال نتوء ،صدر ربما يشرع قالعه اليوم أكثر ..تراجعت للخلف
خطوتين لتتسع رؤيتها ،أصطدمت بحافة السرير الممدد فى المرأة يحكى عن ليال تقلبت فيها على أتساعه
249
تحت وطأة رغبة قاهرة متجددة ،التنضب ،ثم ها هى األن وحيدة .أرتمت فى وسط السرير ..تقلبت على
أكثر من جانب قبل أن تسند وسادتها إلى ظهر السرير ثم تمددت بأسترخاء وسط الهدوء والسبات فى
لحظات مابعد العصر فى حين تجهل على وجه التحديد كيف ستقضى الساعتين القادمتين ..المهم عندها
هو الفرار من شبح الوحدة التى قد تباغتها فى أية لحظة .تحدق فى سقف الغرفة وتغوص فى كتلة الزمن
الكبيس قبل أن تعتدل جالسة حيث شجعها المكان المستكين على خلع الحذائين وتجميع القدمين ثم تقلبت
على جانبها األيمن وأنكمشت فى بعضها ومكثت محشورة فى مالبسها مشرعة العينين نائمة صاحية
كأرنب حذر .نبهتها موسيقى هادئة تتسلل من غرفة أيات ..تنهدت ثم جربت تحريك القدمين وكأن بهما
خدر من فرط األنكماش .أرخت جفناها ..نامت .أستطاعت الغفوة السريعة أن ترحل بها إلى مستنقع به
أحاديث كثيرة ومتشابكة ومتشعبة تؤذى مشاعرها تتقلب فى طينه عيون ترصدها وتحوم فوق وحشته
طيور جارحة .كان يتجسد أمامها رجال له شراع وقدرة ..أغراها باألقتراب والتدقيق ..كان كيانا مغريا
يدعوها إليه .رجل وسيم .أبتسامته الصعبة التفسير يحرك فى النفس فضول التأكد أكثر مما يتطلب
األبتعاد والهرب .وظل هذا الرجل ،الذى بدا أنه يقترب أكثر فأكثر ،يبتسم ،إال أنها وبتركيز شديد تفتش
عنه فى ذاكرتها .ربما قابلته ،غير أنها لم تستطع أن تهتدى الى ذلك حتى أقتربت أنفاسه من أنفاسها،
فتقذف بجسمها فيه وتشعر به يرجها من كل جانب كأنه كفان يدلكانها يضرب فيه بذراعيه ،فاذا به قويا
يطوف بها فى الفراغ وخبأها فى صدره فأرخت جفنيها وحجبت عينيها فى صدره وركبت معه فى حلمها
حصان يقود لجامه الفارس " خيرى" وطار بها ..على نور النهار الشاحب الذى يصلها منهكا من نافذة
الغرفة عاونها على العودة لألستيقاظ ..التزال تضع يدها على وجهها فى محاولة لفهم الحلم .تساءلت
بينها وبين نفسها عن معنى هذا الحلم الخاطف الذى جهلت من بدايته كم سيكون موجزا وجميال .لكن
حلمها الذى هزها بعنف وأدهشها أيضا أن هناك رأى عام داخلها يوافق على وجود خيرى فى أحالمها !..
أثار الحلم بادية على مالمح وجهها وكأنه ينام تحت موجة تغمره ثم تنحسر فتغسله ..بدا كما لو أن هذا
الحلم أمنية طردتها من ذهنها على صوت أيات الذى أنبعث من ركن من األركان مخترقا الصالة متلكئا إلى
غرفتها :أصحى ياهدى ..أنتى ماعندكيش شغل تانى فى األتيليه وال أيه ؟ ..قامت ببطء وشعرت برغبة
جامحة لمصالحة أخر النهار بقبلة ! .
0000000000000000
250
فى أعقاب هزيمتها النكراء وأفشال مخططها على يد فايزة ،بقيت بعدها بدرية طريحة الفراش عدة أيام
تتمدد جثة التقوى على الحركة فوق سرير ضاعف من أوجاعها وعلى حشية تقلق مطباتها نومها ،فكان
أول مابدر منها داللة الحياة أن تململ وضع ركبتيها فى حين أنطبقت شفتاها على أسنانها قبل أن تتقلب فى
األنين كما لو كانت اليقظة عذابا يفوق قدرتها .جاهدت بكل قوة أن تتماسك أمام موجات الزائرين من أهل
الحارة بحجة األطمئنان عن صحتها وأن كان القصد معاينة أثار " العلقة " البادية فى قسمات وجهها
ورقبتها ،وكانت اخر الواصلين " سهير " زوجة " عوض اللـه " فراش بمدرسة " األجيال األبتدائية "
وقد أتخذت مظهر األسى فى جلستها بجوار سرير بدرية وكأنها فى جلسة عزاء بين سواد العباية وسواد
الطرحة ودهشة الصوت حين قالت :اللى يشوف وشك يابدرية ياختى يقول أن تروماى عدى عليه رايح
جاى .بينما ترفع بدرية يدها ببطء كمريض يتلو وصية :ربنا يشل أيدك يافايزة ويشل رجليكى ياقادر
ياكريم .أنحنت سهير تدنو وجهها فى الوجه المنتفخ :لكن ماتأخذنيش يابدرية ياختى أيه اللى يخليكى
توافقى على جوازة بنتك الوحيدة فى السر كده زى اللى ..والمالوش الزمة .قالتها بنبرة شماتة بينما مثل
هذه األسئلة ترددت فى سمعها أكثر من مرة على ألسنة الزوار ..توجهت بنظرتها لـ " سهير " المحنية
وصبت فى أذنها كلمات مرتبكة :الحكاية مش سر والحاجة ياسهير أحنا قلنا نعمل كتب كتاب لغاية الولية
أمه ماتهمد وتهدى شوية وبعد كده كنا حنعمل فرح كبير فى الحارة وكان سى عوض اللـه وأنتى أول
المدعوين ..بس حنقول أيه فى بختنا .قامت سهير " ملوية" المالمح وقد بدا لها هذا العذر على هذا النحو
واهيا ومريبا ..مصمصت شفتيها :معلش يابدرية ..شدى حيلك ياختى وكل علقة وأنت طيبة .أنتفض
صدرها من كلماتها :وأنتى طيبة ياختى .وعندما أستوحدت فى غرفتها بعد أن أنحسرت عنها عيون
الشامتين أمعنت النظر إلى السقف الذى تساقطت منه قطع متنوعة الحجم والمساحة كأنما هو مصاب بداء
يأكل اللحم ويكشف العظم ..تاهت بنظراتها وشردت وسرحت بعيدا ثم عادت فى ظل أبنتها الساهرة على
حطامها ..نظرت إليها تعاين الفشل والعجز وقلة الحيلة المنحوت فى وجه نوسة قبل أن تلمح ببصرها
الزائغ بقعة مخضرة ضاربة إلى الزرقة تسكن كتفها األيمن ،ماتكاد العين تلمح وجودها حتى تتبين بدرية
أنها ليست الوحيدة من نوعها فى الجسم األبيض فتحسستها :ده أنتى كمان يابنتى نابك من الحب جانب .
أبتسامة باهتة :أنا وانتى على الحلوة والمرة ياما .قالتها وشعرت فجأة بأنها الترتبط بالحياة إال بروابط
غامضة وغير مفهومة وتردد فى أعماقها السؤال مهزوما :كل اللى كنت بأحلم بيه راح ياما .تقولها
والتنتظر ردا من أم باتت فى عداد العاجزين جسما وتفكيرا بل راحت تدفن فى راحتيها عويال كأرتطام
الموج .وساد صمت قصير ثقيل قبل أن تستجمع بدرية أحبالها الصوتية :منصور ماأتصلش بيكى يابت ؟ .
251
ــ أبدا ياما ..ده حتى موبايله مقفول على طول من يومها .
ــ اللـه يكسفك ياأبن فايزة بقى دى برضه رجولة تسيبنا كده من غير كلمة والحتى سؤال ..أخييه ..واذا
بالسؤال يبزغ من أعماقها دون قصد والنية :يعنى لحد كده وخالص ياما ..أشيل منصور من دماغى .
سحبت نفسا طويال نتج عنه وجعا فى قفصها الصدرى فأعتصرت عينيها ألما :ماحدش قال كده يابت ..
أصبرى شوية لما األمور تهدى وبعد كده نشوف أيه اللى يتعمل .
ــ تانى وتالت بس المرة الجاية حنعمل حسابنا كويس فى كل خطوة وأدينا أتعلمنا من اللى حصل وعرفنا
وبصمنا بالعشرة أن المرى فايزة دى قادرة وفاجرة وقوية القلب وعالجها الوحيد أنك تحافظى على
منصور زى عينيكى ويفضل عجينه طرية فى أيدك وخليكى وراه وحاصريه وماتحسسهوش بخيبته
والضعفه ومن تحت لتحت سخنيه وخليه يسترجل عشان يتصدر ألمه ويوقفها عند حدها ..فهمانى يابت.
ــ طب لو أمه ركبت دماغها وعاندت حنعمل أيه ساعتها .أشاحت بوجهها :واللـه ما أنا عارفة يابنتى ..
بس ساعتها حنكون عملنا اللى علينا وادى اللـه وادى حكمته ويبقى نصيبك مش معاه يانوسه .زلزل كالم
أمها قناعتها بأنها ستحصل على منصور وأحست أن الحجرة تضيق أمام عينيها ..كانت تتوالد بداخلها
رغبات متشابكة ..تضاعفت فقاقيع الخوف وأمتزجت بالكلمات القديمة :هى شكلها باين من األول اللى
زيى ياما مكتوب عليها عيشة الفقر بقية عمرها ؟! .قالتها وألتفتت ألمها الحزينة وضمت يداها كتفيها
وأراحت حزنها فى حزن أمها ولمعت عيناها لمعانا خافتا وسط ضعفها وهى تربت برفق على صدر أمها
المترهل بال محبس :المهم دلوقتى أرتاحى ياما وإن شاء اللـه لما تشدى حيلك نبقى نشوف حنعمل أيه .
أبتسمت األخيرة فى عينيها وهاجت فى نفسها لوحة قديمة كما تفور من باطن النفس فجأة رواسب منسية
قبل أن تستدعى مشهدا مشابها :عارفة يانوسة الحالة اللى أنا فيها دى من عضم متكسر وجسم متفكك
بتفكرنى بأول طريقى مع الفن ..كان يومها " محمد صبحى " بيعرض مسرحيته على مسرح سيد درويش
ويومها المتعهد طلبنى وقال حتشتغلى فى المسرحية بعشرين جنيه فى الليلة ولما رحت المسرح لقيت شلة
كبيرة من الكومبارس جايين مع صبحى من القاهرة وساعتها خدنى مسئول األنتاج على جنب وقالى
متشكرين مش عاوزين كومبارس من أسكندرية ..بعيد عنك يابت الكلمة دى وجعتنى وماسكتش وقلت
بعلو صوتى ياأشتغل ياتدونى العشرين جنيه وفرجت عليهم الدنيا وأتفتحت ماتقفلتش غير بعلقة أخت دى
بالظبط !! .
252
ــ بجد ياما .
ــ أى واللـه يانوسة ولو واحدة غيرى حصلها اللى حصل ده كان زمنها كرهت الفن واللى فيه لكن أمك
بعون اللـه أصرت وكملت طريقى لغاية األخر عشان الفن ده رسالة .كررت نوسة خلفها نفس الكلمات
األخيرة بنبرة قلق وتخوف :كملتى طريقك والفن رسالة ياما ..باين عليها الولية المفترية فايزة كانت
أيدها تقيلة على دماغها وال أيه ؟! .
00000000000000
يبدو المقهى خاليا فى تلك الساعة بين العصر والمغرب ،فى الخارج مائدتين مضمومتان الى بعضهما
يجلس عليهما صنايعية معمار بدت أياديهم ناعمة من قلة الشغل بينما جلس عبده صامتا يدخن شيشته
بجوار أبنه الذى أغمض عينيه وشبك أصابعه تحت رأسه المسنودة على حافة الكرسى فاردا رجليه أمامه
سابحا فى كتلة من الهم واليأس بينما عبده أخفى قلقه وصنع لنفسه وهما من األسترخاء قبل أن تتدافع
فجأة الكلمات على لسانه :ماتزعلش يامنصور وسلمها للـه وكل شيىء حيتصلح ويبقى تمام بس أنت
ماتشلش فى نفسك لحسن يمسك فيك المرض .قال ذلك وقد شعر فى قرارته بأن هذه األزمة تقرب بينهما
بطريقة ما ..فى حين تنهد منصور وأرتد إلى حزنه وإلى عوالمه المعقدة ،الصاعدة ،بكآبة السبيل
لصرفها .وأمام مثل هذا الحجم من الكآبة الينفع تشجيع واليفيد أستفزاز .سكنته قلة الحيلة وأستغرقته ،
حتى أنه لم يسأل نفسه ذلك السؤال البسيط الذى يرد فى مثل هذه الحالة :الجوازة أتفركشت وشكلى بقى
قدام نوسة عامل زى اللى ماشربش بريل ..يعنى البت راحت منى وأمى خالص حطتنى فى دماغها وبقت
الخسارة من الناحيتين ..أعمل أيه ياربى ؟! ..فى حين كان عبده صامتا يتابع أبنه الذى بدا تائها فى
ملكوته ،فأزاح طاقيته وهرش رأسه ..يستعيد أحساس الماضى أيام الجبروت والفتونة وشعر كمن يخرج
من حال لحال ..يغادر مهانته .كان مؤرقا بكيفية التخلص من تسلط فايزة وحصارها له والتى تنضج داخله
فى صمت ..شعر فى وجودها بأنه تضاءل مثل فأر وتحول وجودها إلى مارد فى حين تكبر الضغينة وتلتف
بقلبه مثل أفعى .سحب نفسا شديدا من الشيشة كى الينام الحجر الجديد فى بدايته قبل أن يرفع رأسه وهو
يطلق الدخان فى وجه منصور :أنت حتفضل سحنة أمك مقلوبة كده على طول وال أيه ؟ .مد رجليه
مستسلما :وحأعمل أيه بس يابا ..أمى دمرتنى وحرمتنى من نوسة وسودت الدنيا كلها فى عينيه .أزاح
المبسم :ماتبقاش طرى كده وخفيف كل مشكلة ولها حل .بدا منصور وكأنه يعانى أعراض مرض
غامض :طب ماتقولى على الحل يابا .نكس رأسه .وحين ينخفض بصره فأن دماغه يزداد
253
نشاطاوأسترجع عبده قصة حياته مع فايزة التى مرت أبرز محطاتها امام عينيه ..وفى ضوء تلك اللحظة ،
أبصر خالل األعوام الطويلة تكرارا لعينا لموقف واحد تعس ؟ ،موقف رجل اليكاد يمسك بشيىء حتى يفلت
منه ،خرج يفكر هذه المرة فى شيىء يمكن أن يبقى طويال فى يده ..هو على يقين بأن فايزة قريبا
ستكتشف االعيبه فى حسابات المقهى وحتما ستجرده من كل شيىء بدءا من وجوده فى المقهى وهو
مايعنى سحب لقب " المعلم " منه وإنتهاءابتحديد إقامته والتى سيترتب عليها خلال فى قواه العقلية ومن
بعدها يتحول إلى مجذوب فى حارة المنجى .
تابعه منصور فى ملل :هو أنا يابا كل ماأقولك شوفلى حل تتوه منى وتسرح فى دنيا تانيه ! .
ــ أنا مش سرحان والتايه منظرك هو اللى قلب على المواجع ..أنا بقالى خمسة وعشرين سنة عايش مع
أمك ماشفتش يوم واحد عدل والحسيت أنى عايش فى أمان زى بقية الخلق وأوعى تبقى غشيم زى الناس
وتقولى أنها عملتك بنى أدم وخلتك صاحب قهوة ..ال يابنى أوعى تصدق الحكاية كلها كانت ماشية مع
مزاجها وعلى كيفها وهيه اللى سعت من البداية عشان ترسمنى الرسمة دى كانت عايزانى منظر عشان
يليق ببنت المعلم وأنا الوحيد اللى كنت على أد أيديهم ..أبوها كان عيان والقهوة كانت محتاجة لواحد زيى
يعرف يسد مع األوباش اللى هنا ..ضحكة مكتومة ثم تابع بمرارة :عارف لو كان الورث ده دكانة
وال مصنع والحتة أرض كانت أمك قلبتنى من زمان وطلعتنى معاش من بدرى .نفخ من جوفه كبتا :
الخالصة يابنى اللى أنت شفته من أمك فى بيت بدرية دى عينه شر محندقة ..أمك جواها مخزن غباوه
وجبروت ولو طلعت اللى جواه عليك ساعتها الحتعرف صلة رحم والحيشفعلك أنك الحيلة عشان كده
أسترجل وأنشف بدل الخيبة اللى أنت فيها دى البتاكل والبتشرب والزق فى القهوة ليل ونهار .
ــ ماليش عين يابا أورى وشى للناس وكفاية المهزأة اللى خرمت ودانى فى الرايحة والجاية ..تلفت
متساءال وعينيه لم تستقر بعد :هو الوله جمال النونو ماظهرش .
ــ ماشفتش خلقته النهارده .أجابة منصور أشعرته باألمان فقرب كرسيه وهمس :بذمتك يامنصور لما
أمك كانت فى السجن مش كانت أمورنا أنا وأنت ماشية تمام وأيامنا كلها كانت بتضحك وكنا عايشين أخر
مزاج وفرفشة .مستغربا :قصدك أيه يابا ؟! .يضغط على الكلمات :جاوبنى بس .
ــ يعنى كنا أحنا الجوز أخر أنبساط ومصروفك كنت بتاخده بالزيادة و اللى نفسك فيه بتعمله ..صح الكالم ؟
254
ــ تمام بس مش لوحدى أنت كمان كنت واخد راحتك ع األخر وكل يوم والتانى دايس فى جوازة عرفى
وماحدش بيقولك تلت التالتة كام .يسحب أنفاس قصيرة الهثة :مش حأنكر وأقولك أل ..ثم صمت وبدا
عليه أن فكرة قد أشرقت فى ذهنه وخرجت منه نبرة كنبرة الخالص :الولية دى الزم تختفى من حياتنا
عشان نعرف نعيش تانى زى األول بدل عيشة المطاريد دى .وكأنما ومضت الفكرة برأسه وهتف دون
وعى :هو ده الحل الوحيد اللى يريحنا ويريحها .توقظ كلماته صدى داخله وزاد أنتباهه فجأة :أيه اللى
بتقوله ده يابا ؟! .
ــ ماتخليش دماغك تروح لبعيد أنا مش قصدى شر الحكاية ومافيها أن فى صنف من البشر لما يتمكن
ويحس أن الدنيا بقت فى أيده وأدتله من وسع مايحمدش ربنا ويزيد أفترى ويتعب اللى حواليه وفى صنف
تانى لما تلجمه وتحبسه يهمد ويرتاح ويريح اللى حواليه وأمك بقى من الصنف ده وعلى يدك وقدام عينك
لما كانت فى السجن كانت بالصال ع النبى زى الوردة المفتحة وصحتها زى الفل وشرها كان ملموم !! .ثم
مال برأسه يدس بوز الشيشة فى بوزه قبل أن يقلب عينيه فى وجه منصور مستطلعا سريان الكالم فى
مالمحه .بينما أبنه هرش بأصبعه ذقنه :معنى كالمك أن أمى الزم ترجع السجن تانى عشان أحنا نرتاح .
خفض من صوته وظلت دعوات الشر ،تنطلق من أعماق أعماقه ،تغسل دعوات الصبر ،التى كانت ،
باألمس القريب .همس فى ضيق :ماأنا قلتلك ياغبى ياأبن الكلب أمك مصلحتها وراحتها لما تكون أسيرة
فى السجن وأنا وأنت مصلحتنا وراحتنا لما تكون هى بعيد عننا .حاول أبعاد عينه عن عينى أبوه طمعا فى
لحظة تركيز وتخفيفا لوطأة الكالم على دماغه فرجع بظهره إلى ظهر الكرسى يتأمل العابرين أمام مدخل
المقهى فى حين شعر عبده أن أبنه الزال فى حاجة لجرعة أخرى :وعهد على لو ده حصل أول حاجة
حأعملها أروح معاك بنفسى عند بدرية كومبارس وأجوزك البت نوسة .أستراح منصور للجملة األخيرة .
مرت ساعة حتى أفرغ عبده مايبطن ،ويصب فى دماغ أبنه المذهول كالما يعجز عنه أى شيطان أوداهية ..
شعر بكلمات أبوه تحتمل تفسيرات متعددة ،أكتسبت أجنحة شيطانية تحلق به فى سمائه الغائمة .إال أنه
تمتم بأرتباك :طب ماتشوف حل تانى يكون مبلوع ومن غير أذية ..دى برضه أمى .عاجله قبل أن يشرع
فى تخيل جديد :ياوله أحنا مش حنأذيها أحنا زى ماتقول كده حنحافظ عليها ونحميها من نفسها وتبقى
قدام عنينا فى مكان أمين ..ثم عال صوته نسبيا كى اليشرد منه :وإياك تقولى أننا ممكن نعيش براحتنا
وهيه موجودة فى وسطينا ..ده أنت لمؤاخذة تبقى أفا ياأفا ،أمك دى عاملة زى بتوع أمن الدولة عارفة
كل حاجة عننا يعنى ياحلو مش حينفع معاها ال لف وال دوران وال تلعب بديلك عشان كله مرصود وتحت
255
عينيها .ظلت كلماته تحفر لنفسها بئرا فى النفس يزداد عمقا ،حتى أستوطنت وأستقرت ،تقطع صوته
بالخوف وهو جالس فى حيرته كالمطارد :والكالم ده أزاى يحصل يابا .بدأت األحتماالت الشريرة
والسيناريوهات الخبيثة تسبح فى ذهنه كالذباب على القمامة فأختصرها فى جملة عائمة :أتقل لغاية
مالفكرة تتخمر فى دماغى .نظر فى وجه أبوه ثم نظر أمامه ساهما ..أدخلته الفكرة الى عالم الال معقول ..
كان ذلك يفوق أستيعابه .
بينما على الجانب األخر لم تتأخر خطط فايزة كثيرا .سارت بخطوات ثابتة بصحبة أفكار طموحة ..نموذج
لحالة بشرية تحمل كل المتناقضات فكانت زيارتها الخاطفة والمهمة لمكتب " محمود المحامى " بداية عهد
جديد تستعد له ..أستقبلها من وراء مكتبه بهيأة عصر الستينات نضارة بأطار أسود عريض وجسد ملفوف
ببدلة " فيرانى " قماشها متصلب تعوق حركته ،يحاول أن يظهر األبتسامة من بين ثنايا مالمحه الجامدة ،
أشار لها بيده :أستريحى ياست فايزة .وضعت ساقا فوق ساق تتفحص المكان طويال ثم نظرت إليه
بأقتضاب :مكتبك زى ماهوه مافيش حاجة أتغيرت فيه من أربع سنين .سحب سيجارة من علبته حتى
منتصفها وقدمها لفايزة التى سلتتها ثم دار بعينيه معها فى المكان :واللـه مافيش وقت ياست فايزة بس
أنا ناوى قريب أعمل عمرة كبيرة .قالها ومد يده داخل درج مكتبه وأخرج ملفا وراح يحدثها وهو يعبث
بأوراق مطوية داخله :أدى حجة البيت بتاعة حارة أبن شكر ودول عقود األيجار بتوع األربع شقق وآدى
العقدين بتوع المحلين ..تناولتهم من يده ثم ألقت عليهم نظرة فى حين سحب شهيقا عميقا دليل الحيرة
الشديدة قبل أن تعيد له األوراق :هى دى كل األوراق اللى تخص بيت أبن شكر ..فهمنى بقى أيه الحكاية
وبتفكرى فى أيه ؟ .نظرت له طويال وكأنها تستعد ألظهار مفاجأة :أنا نويت أهد البيت وأجيب عاليه
واطيه .خفت صوته وأستغرق نظره كل مالمحها .كرر :تهدى البيت ! ..طب أزاى ؟ .تهز رجلها
المعلقة :بأى طريقة يامتر ..أمال أنا جايالك ليه مش عشان تفكر معايا وتشور علي .يرفع حاجبيه
وأضاءت السيجارة المعلقة على شفتيه فى أعقاب نفس طويل سحبه بعمق يحاول لملمة أجابته :
المفروض أول حاجة نعملها نقعد مع السكان األول نجس النبض وبعد كده نشوف طلباتهم أيه ونتفاوض
معاهم وربنا يقدم اللى فيه الخير .بدا واضحا العناء فى مالمحها :خالص أبدأ على طول ياأستاذ محمود
وشوف ميتهم أيه ..بالذوق بالتراضى ماشى بقلة األدب والعافية برضه ماشى .مبتسما :الصراحة ياست
فايزة فكرتك دى صح أوى وجديدة عليكى وأنا شايف أنها حتبقى فتحة خير ورزقها حيبقى واسع خصوصا
وأن مساحة البيت كويسه وممكن تطلع عمارة محترمة .
256
ــ أنت مش غريب ياأستاذ محمود أنا فكرت فى الموضوع ده من مدة بس كنت تقالنة شوية لما أشوف أولى
من أخرى وآهو كل شيىء بأوان وأنا شايفة أن اليومين دول همه عز األوان وقلت ألحق والدنيا لسه كده
فكة وسايبة ماحدش عارف بعد كده اللى جاى ..وأدينى أتكلت على اللـه وبدأت من أمبارح و أتفقت مع
مقاول من حبايبنا وخليت مهندس من الحى يطل ع البيت فى الكتمان .تصدى لها بضحكة ذات صدى :طب
مش األول يامعلمه نتفق مع السكان ونراضيهم عشان ماحدش فيهم يعاكسنا .بادلته ضحكة منغمة لها طعم
السخرية :أيه الحكاية يامتر أنت مش واخد بالك وال أيه ..أنا المعلمة فايزة عبد المقصود .يتفحص
عينيها ثم ينكس رأسه ومالمح األبتسام ترتسم داخل عينيه :عندك حق فاتتنى دى وع العموم ماتشغليش
بالك من بكره حأبدأ أتكلم مع السكان وحأتصرف معاهم .
ــ أتصرف زى ماأنت عايز ..لكن لغاية الولية اللى أسمها بدرية وبنتها مالكش دعوة بيهم بلغهم بس أن
الكالم حيبقى معايا أنا .أمتزجت كلماته بضحكاته :كرموز كلها بتتكلم على العلقة اللى أخدتها بدرية
كومبارس .قامت من مكانها تضبط طرحتها :وحياتك عندى ده لسه دورها معايا ماخلصش ..بسالمتها
فاكرة انها تقدر هى والسنكوحة بنتها تكعبل الوله منصور وتدبسه فى جوازة ..شوف ونبى المرى الهبلة .
أنهت جملتها بضحكة ثم مدت يدها تصافحه بينما أبدى هو مالحظة واجبة :واحدة واحدة ياست فايزة
منصور كبر وبقى راجل أمشى معاه بالنصيحة واألقناع عشان مايركبش دماغه حاولى تكسبيه بدل
ماتخسريه .أنسحبت ناحية الباب قبل أن تناوله نظرة ركنية :المهم أبدأ أنت بس وركز معايا وعايزة أسمع
أخبار كويسة عشان أنا كمان حأديك حاجات كويسة .أبتسم وسبقها يفتح الباب :ربنا يعمل اللى فيه
الخير ..مع ألف سالمة ياست فايزة .بينما كان جمال النونو يقف فى وسط حجرة األستقبال فأردا أبتسامة
ويفرك كفيه وهو يتسلم فايزة عند عتبة الباب :أتفقتى على كل حاجة يامعلمة .
ــ أصبر يامنيل ماتبقاش لحوح كده .ثم سحبته وخرجت .
0000000000000
خيرى ..الزالت أرادته ماثلة كلها فى رغبته فى ترويض الواقع وتشكيله ،ال فى األنكماش أمام صدمة
الواقع والقبول به ..بدا له فى السنوات الماضية التى قضاها مع زوجته ،أنه سبق له أن عاش حياته كلها
وأنه عرف كل شيىء ..التعاسة ،والمهانة ،والكرامة والحب واللذة ..وأنه أعتزل العالم كناسك أرمل
وأنه لم يعد ينتظر أى شيىء ،كان يعتقد أن عاطفته ماتت تجاه النساء .وهاهى ذى الحياة الدنيا تبدو له
257
فجأة من جديد فى عينى هدى .ولم يكن سوى عزم أنتهت إليه حيرته وأوحى إلى نفسه أن تستريح إليه ،
أن يتعرض لهدى أن أتاحت له المصادفة لقاء معها ويكلمها كى يظهر له الخيط األبيض من الخيط
األسود ..مر أسبوع وقد لمحها فيه ثالث مرات فى ظروف لم تكن تسمح للكالم بينهما ،وأن كاد يتكلم فى
مرة لكن نفسه لم تطاوعه .عند باب األتيليه كان ينتظر خروجها .قرر أن يحادثها ..جهز نفسه لبضع
كلمات يقولها ويفجرها أمامها ،كان كل مايسعى أليه هو تحديد موعد يجمعهما ..وبدا له وهو واقف على
عتبة األتيليه أنه أشبه بمن يقف على قمة جبل ..الصعود مستحيل وتحت قدميه هاوية ليس لها قرار .
حاول األحتفاظ بأكبر قدر من الجرأة ،ذلك القدر سيمكنه من خوض مواجهة غير محسوبة العواقب .وقف
منزويا حتى لمحها تفتح الباب وتخرج .أندفع نحوها ..تسمرت فى مكانها ..مد يده لها مصافحا ..قبض
على أصابع ساحرته المرتعدة التى بدت كتمثال ،لم يكن هناك مجال لحديث طويل أو تمهيد وقال لها بأعذب
صوت سمعته :محتاج أشوفك ضرورى !! .جف ريقها وهى تنظر إليه والدهشة تقتلها :خير ..ليه؟ .
ــ فى موضوع ضرورى الزم أخد رأيك فيه .لم تحدد موقفا ،بدا ذلك من أضطرابها ،لم تبد رغبة
والفضول .فكان سؤالها محايدا وضعها فى منتصف المسافة بين الرفض والقبول :ماينفعش يعنى تقولى
اللى أنت عايزه هنا ؟ ..التقط ترددها :ماينفعش .حاولت أن تصل إلى سبب أو تفسير :موضوع
مهم أوى؟ .
ــ طب قولى بخصوص أيه ؟ .قصرت الكلمات وطالت بينهما النظرات وأستشف منها الرضا فى ومضة
العين وأندفع يؤكد أال تضن عليه بالموعد ،فما تقع المعجزات كل يوم ! .قالت وعينيها فى عينيه :ربنا
يسهل .هدى لها قدرة على كبت عواطفها وتلك البسمة المعلقة على شفتيها ،فى الرفض ،وفى الرضا !
ــ حأستناكى يوم الخميس فى نفس الوقت ده فى كافتيريا سان أستفانو اللى قدام محطة الترام .لم ترد
وظلت تصعد درجات السلم وهو بجوارها .وما أن وصال إلى " بسطة " طابقهما أتجهت بعينيها نحوه ..
هزت رأسها بالموافقة ثم أندفعت إلى شقتها كالطائر الرشيق ،فتلقت ببدنها المنتفض كله وقع نظرته
الظافرة الفاهمة التى رأى فيها أنثى يرتاح الرجل لعشرتها ،فهى للحق مخدة من ريش يغطس فيها ،ينام
عليها ويحس النعومة من تحته وفوقه .نكست رأسها ودخلت .أما هو فما من عبد فى تاريخ األنسانية
كلها كان أسعد منه بعبوديته .إذ هو واقف وقفة البطولة أمام باب شقته غير مصدق جرأته .أنه فى تلك
اللحظة أعتقد أن األقدار لم تضع تلك المرأة البيضاء الوردية فى طريقه عبثا .ثمة ما هو مقدر ومرسوم
258
ومدبر وال حيلة لنا به .بينما هى لم تكن تعلم أنه تغلغل فى كيانها إلى هذه الدرجة رغم فرارها كل صباح
من تلك األحالم التى يظهر فيها خيرى ،كانت تراها من جديد تتجسد فى خيالها فى ساعات الراحة بين
العصر والمغرب تسحبها من عالمها وتدخلها الى أحاسيس ومشاعر متناقضة وكأنه فى المنام قدرها الذى
يلزم أن تتحاشاه .
فى المساء كانت قد أنهت هدى أخر جوالتها األستكشافية داخل األتيليه تلقت خاللها تشجيعا منقطع النظير
من زيزيت ،كما تلقت تأنيبا مقتضبا على لسان نورا التى أستوقفتها بجوار حجرة البروفات عاقدة يديها
على صدرها وتهتز فى وقفتها بعصبية :مش كفاية لحد كده ياماما أنتى أتأخرتى أوى على يوسف
وبسمة .ترددت للحظات قبل أن تستسلم لرأيها :عندك حق يانورا أنا نسيت نفسى وكمان أنا جايبة شوية
حاجات من السوق حتعجبك أوى .نطقت جملتها بسعادة وتوجهت لمكتب زيزيت الخالى حيث خرجت من
ساعة لحضور حفلة زواج تلبية لدعوة أحد المتعاملين الكبارمع األتيليه ،أضطرت للذهاب منفردة بعد
رفض نورا القاطع السماح ألمها بمرافقتها بحجة ضرورة تواجدها مع يوسف وبسمة أثناء المذاكرة .
سحبت حقيبتها من على المكتب ومرت تحت رعاية نظرات نورا التى تتبعتها بينما نظرت هدى فى عينيها
مبتسمة :تحبى أعملك حاجة حلوة جنب العشا وال تسبينى أنا أعمل حاجة على مزاجى .قالتها وأقتربت
منها تكتم فرحة تالعبت فى عينيها :أمك أتحينت أمبارح ورحت السوق لميت شوية حاجات حتعجبك .ألف
جنيه كانت كافية لصنع كيان منافس وان كان اليزال وليدا .أرادت زيزيت أن تشعل حماستها وتشعرها
بقيمتها فمدت لها عشر ورقات مطوية من فئة المائة جنيه :خدى دول ياهدى أصرفى منهم وجيبى كل اللى
نفسك فيه وأول الشهر فى كمان زيهم .فور سماعها الخبر أنتاب نورا قلق أحاط رأسها كعمامة تخفى
تحتها حيرة وتضع أمامها عالمات أستفهام عند نهايات أسئلة بدت شاذة فى محتواها ،إال أنها أخفتها
وراء أنفراجة مصطنعة رسمتها على شفتيها :أى حاجة تعمليها ..مافيش مشكلة .
ــ خالص ياحبيبتى زى ماتحبى .رددتها وهى تمشى ناحية الباب التى دفعته وأنسلتت منه للخارج وأعتلت
أول درجة سلم بينما توقفت نظرات نورا عن اللحاق بها حين أختفت مع دوران السلم قبل أن تعود أدراجها
للداخل متجهة لحجرتها محميتها الخاصة وحاضنة أفكارها ..فور دخولها أزاحت جو الطموح الساكن فى
فراغ الحجرة بتنهيدة ممتدة يتقافز منها شيطان أمرد صغير يدعوها لفرض حصار الغرض منه تحجيم
طموح أمها المتصاعد قبل أن تتجسد أمامها ،أمرأة قوية تثبت وجودها فى األتيليه وتصعد درجات السلم
التى سبقتها فيها وهو ما يعنى قوة لوجودها فى األتيليه والبيت .
259
لم تجلس خلف الماكينة كعادتها بل أحتمت بكرسى صغير أنحشرت فيه كما أنحشرت أفكارها داخل رأسها
تتصارع فيما بينها لفترة ليست بالقصيرة تفتش عن أجابة لسؤال ينهشها :أيه اللى جرالك يانورا وخالكى
قلقانة كده ومتوترة ؟ ..الزم تعرفى أن وضعك مافيهوش فصال ومستحيل ألى حد مهما كان يقدر يتخطى
دورك ويقلل من وضعك ..لم تكن أجابة بل أستنتاجا ..أضافت تدلل لنفسها :أنتى نورا اللى نص شغل
األتيليه بيطلع من تحت أيدها وال نسيتى ..أنتى نورا صاحبة البيت اللى ماحدش يقدر يتحرك خطوة اللى
بموافقتى .أدلت رأسها وضمت ساقيها وهزت ركبتيها :طب يبقى خايفة من أيه ؟! ..إال أنها لم تدرك
ماينبغى عليها فعله ،الزالت الصورة غائمة ..تطاردها أفكار مجنونة تدور فى عقلها عن خسارة فادحة
تنتظرها ،لم يكن من السهل عليها معرفة حجم الخسارة المنتظرة وأن كانت على يقين تام بأنها ستكون
على يد أمها .أغمضت عينيها وكأن شيىء خفى داخلها يقاوم مخاوفها .تذكرت مواقف وأفعال وأشياء
وباتت تباعد شبح األم عن دماغها ،الذى ألتهب باسترجاعات الماضى منذ لحظة تصديها لمسئولية البيت
وأخوتها وعمتها .إال أنها فتحتهما بسرعة بعدما حسمت األختيار ..فقدأن الذاكرة أفضل !! .
فى تلك اللحظات ..فقدت بسمة روح الدعابة مؤقتا ولبست قناع الجدية حين أحتل وجهها وجوما لم تفلح
فى أخفاءه عن عينى أخوها يوسف الذى تراكم إلى جوارها على كنبة األنتريه يتابعها بمالمح من أصيب
بنوع نادر من األضطراب حين طرحت عليه سؤاال بدت أجابته بالنسبة له محل شكوك وغموض :يعنى
أنت عايز تفهمنى أن من يوم ماهدير جت هنا البيت لغاية دلوقتى ماعلقتش على أى حاجة وال لمحتلك بأى
كلمة عن اللى ماما قالته .كرر على أسماعها محاوالته الفاشلة فىأستنطاقها وسحبها لموضع تظهر فيه
ماتبطن ،إال أنها لم تبد مرونة وتعللت بضغط األمتحانات قبل أن تقلل من مخاوفه بكلمات بدت طبيعية :
أنت اللى فى أيه يايوسف ..كل يوم والتانى تسألنى مالك مالك ..أنا زى ما أنا كويسة أنت اللى مش طبيعى
وأسئلتك بقت غريبة أوى ومش مفهومة وياريت تبطل ألغازك اليومين دول لغاية ما نخلص أمتحانات وبعد
كده نسأل بعض زى ماأنت عايز .بدت غريبة وهى تتقمص دور الحكمة فقالت بسمة رأيها ببطء :متهيألى
يبقى مافيش داعى للقلق يايوسف ..لو هدير كانت خدت بالها من أى حاجة أو حتى شكت فى كالم ماما أكيد
كانت حتسألك ومش حتعديها .
ــ هو ده اللى محيرنى أنها ال سألتنى وال حاولت تفهم منى أى حاجة وكأنها ماجتش عندنا البيت أصال .
رفعت رجليها المدالة على الكنبة وطوتهما تحتها :مع أنى شايفه أن األمر ده غريب ومايدخلش الدماغ
بس ممكن يعدى خصوصا أن هدير من النوع اللى ماياخدش باله من األمور دى .هز رأسه متفهما وجهة
260
نظرها كأنه يبعد عن رأسه آفة الشك .فتابعت :يبقى خالص كبر دماغك وماتشغلش نفسك وكفايه عليك
أنها بتعبدك عبادة وبتموت فيك ده غير أنها أنسانة سهلة ومش معقدة ومافيش حاجة بتفرق معاها يعنى
بالبلدى أنت واقع واقف وحاطط بنت الحاج أحمد الشهاوى فى جيبك الصغير مش زى ناس واقعين فى
ورطة سوده ومش عارفين يطلعوا منها .أنكمشت عينيه مبديا الدهشة :ورطة أيه يابسمة .خبطت
فخذيها بكفيها تتمايل فى جلستها كالمعددة :أختك اللى قاعدة جنبك خيبتها كبيرة أوى يايوسف .بحث فى
عينيها يترقب :أيه اللى حصل ؟ .
ــ أمجد راكب دماغه وعايز يتقدملى وناوى يقابل ماما أول مايتخرج .
ــ أنتى يابنتى مش قلتى أن ظروفه متنيلة وأحواله صعبة .دارت ضحكتها خلف أصابعها :ماهو عايز
يطلب من ماما تشوفله عقد عمل فى الخليج ! .تحسس كلماتها ثم تداوال فيما بينهما نظرات ساهمة
حتى بادر بأبتسامة باهتةأتبعها بضحكة مذعورة :وكمان عايز ماما اللى تسفره .رمقته وأكتفت بجملة
ساخرة :شفت بقى الوكسة اللى أختك فيها .
ــ أبعدى عنه وأنسيه والخسارة القريبة أحسن . !..شاع التوتر فى مالمحها وأمتصت شحنات القلق
المنبعثة من عينيه لتمتزج بقلقها وتوترها ليصنعا سويا كيانا متجانسا بينما هى صارت تتوزع بين النوازع
والنواهى ..حاولت لملمة صدمة كلماته :بس ..سكتت .تربص بنظراته .فتابعت :أبعد عنه أزاى
يايوسف والمشكلة أصال مش فى أمجد ..هوه كان صريح معايا من البداية وماخباش عنى أى حاجة
وشرحلى ظروفه التعبانة من غير تجميل ..المشكلة فى أختك أنا اللى ماقدرتش أصارحه والحتى ألمحله
عن أى حاجة ..كنت خايفه وجبانة وبدل ماأراجع نفسى لقيتنى كل يوم والتانى بأغرز فى الكدبة أكتر
وعمالة أخترع فى حكايات عن ماما وياما حكيتله على مدارس األمارات اللى بتتخانق عليها عشان
يتعاقدوا معاها ..ومطت شفتيها .أردفت :بالش نضحك على بعض يايوسف أحنا اللى قررنا باألجماع أننا
نكدب على الناس ونخدعهم وبقينا عاملين زى البضاعة المضروبة اللى صاحبها مش عارف يصرفها .
أبتلعت ريقها بصعوبة وكأنها لم تدرك السؤال وال أجابته فتحركت الكلمات على لسانها ببطء :أنت عارف
أنى بحب أمجد وحتى لوسمعت كالمك وقررت أنى أبعد عنه وقلت زى مابتقول كده الخسارة القريبة
261
أحسن ..تقدر تقولى أحنا حنعمل أيه بعد كده فى مستقبلنا ؟ حنفضل لغاية أمتى خايفين ومتهددين
وعايشين بوشين مع الناس ؟! ..طالته المخاوف وأصفر لونه وتهدلت شفته وأصبح المجهول يتداعى
متزاحما يفرض سياجا حولهما ال فكاك منه ..باتا يدركان أن مصيبتهما بالحياة تجاوزت الحد المسموح به
للبشر .ماكان يخطر لهما ببال أنها عميقة هذا العمق كله فى حين لم يطرح أحد منهما السؤال البديهى عن
حقهما فى مستقبل آمن خالى من تهديدات الماضى ،ومايزال نفس السؤال معلقا فوق رأسيهما اليدخل
العقل واليخرج من اللسان .توقفا يائسين عن الكالم حين علقت عيناهما بالباب على صوت مفتاح يدور فى
الكالون ..ثوان وتصدرت هدى المشهد ..دخلت منحنية الرأس حتى أستشعرت وجودهما فأرسلت لهما
نظرة تتبعها أبتسامة :أيه ده حبايبى قاعدين كده ليه .رسما أبتسامة خاوية حين أقتربت منهما ووجهت
كالمها ليوسف :األمتحانات أخبارها أيه ياباشمهندس ؟ سألت وأنتظرت منه نبرة فرح ،إال أنه مسح
وجهه بكفه :هانت ياماما .لم تفهم أجابته فتحولت لبسمة :وأنتى ياحبيبتى األخبار أيه طمنينى ؟ .
ــ الحمد للـه األمتحانات حلوة السنة دى .أرخت رموشها وأطلقت نفسا مستريحا :الحمد للـه ريحتينى ..
أنا حأغير هدومى بسرعة وحأدخل المطبخ بس أدونى نص ساعة بالظبط وحتالقو حتة عشوة ماحصلتش
على ماتكون نورا رجعت كل حاجة حتبقى جاهزة .أنهت كالمها وهى تتحرك ناحية غرفتها .لم ينعما
بلحظة صمت حين خرجت أيات من زنزانتها تتسكع فى الصالة وكأنه غير مسموح لها بالخروج إال فى
مواعيد الطعام .أقتربت منهما تتفحصهما ثم شدت حزام الروب فأحكمت طرفيه حول وسطها وجلست
صامتة حتى أستقبلت جملة بسمة :كفارة ياعمتى ! مسحت الروب بأصابعها من ناحية الصدر عادة
تالزمها منذ زمن وردت بصوت خالى من أى تعبير :يعنى لما أطلع للصالة يبقى كده أفراج ..ماشى
يابسمة ع العموم كله محصل بعضه جوه زى بره .
ظلوا صامتين وكأنهم فى جلسة " يوجا " حتى أحتضنت عينى بسمة وجه نورا المرهق بكل أنواع
المتاعب لحظة دخولها .طافت بعينيها فى الصالة كأمين مخزن يتمم على عهدته قبل أن تبدى أستغرابا
حين أكتشفت موقعهم فى األنتريه .لفت أنتباهها وضعية أختها المنكمشة فى ركن الكنبة يجاورها يوسف
محنطا فى مكانه وكأنهما فى نهاية مشهد مسرحى ينتظران تحية الجمهور .أظهرت قلقا وهى تتجه
ناحيتهما :مالكو قاعدين كده ليه زى اللى عاملين عاملة ؟!.
ــ مستنين ماما بتجهز العشاء .أجابة مختصرة من بسمة لم تهضمها نورا .فتشت فيهما بنظراتها :جديدة
دى !! .
262
ــ آهو بقى .رددها يوسف بتراخى مما أستلزم منها نظرة طويلة فى وجهه أكتفت بعدها بهزة من رأسها
وكررت خلفه بأستنكار :آهو بقى ..مالهم دول ياعمتى .
ــ أنا خرجت من أوضتى لقيتهم عاملين كده زى زرعة الصبار .
ــ ده يبقى الموضوع كبير أوى ..ماشى أنا حأدخل أوضتى أغير هدومى وآخد حمام سخن ع السريع وآجى
أشوف أيه حكايتكم .أدلت بسمة برأسها متحاشية النظر فى عينى أختها قبل أن تسحب األخيرة نفسها
من الصالة قاصدة غرفتها بينما تنبهت أيات لمالحظات نورا التى أستشفتها .على غير العادة .أظهرت
أهتماما :فى حاجة ياوالد ..شكلكم كده مش مظبوط .رمقها يوسف بأستخفاف :ماتشغليش بالك ياعمتى
كلها حاجات تافهة .بذلت جهدا ضعيفا حين سمعت جملته فى محاولة للفهم لكنها لم تحصل سوى على
عبارات مبهمة التجدى نفعا .
لم تستطع نورا الغياب ألكثر من عشر دقائق قضتها مابين تغيير مالبسها والوقوف تحت دش ساخن
أشتهته من بداية اليوم .ظهرت لهم داخل برنس أبيض وخصالت شعر ملتصقة بالخدين وتحمل بين كفيها
عتادها المعتاد بعد كل حمام ..مشط وفرشاة ومجموعة زيوت وكريم بشرة وطالء أظافر ،أفرغت حمولتها
بحذر على منضدة األنتريه كبائع متجول يعرض بضاعته ثم تممت بعينيها على بضاعتها وعلى الموجودين
وشرعت فى إدارة حديث بنكهة وكيل نيابة :أيه بقى الحكاية بالظبط أنا عايزة أفهم ؟! .لم تحصل على
أجابات واضحة إال بعد أن ألحت بعصبية فأضطرت بسمة لسرد مشكلتها بإيجاز ووضعتها على الطاولة
لتكون محل بحث وتداول فى حين أنصتت لها نورا بأضطراب خفيف ظهرت أعراضه فى حركة أناملها
المتشنجة التى تحجز بها نصف شعرها بعدما فرقته لنصفين وعالجته بـ " فركة " زيت من يديها حتى
خضع للفرشاة دون عناد وأنسدل أمام وجهها كستارة تخفى دوران حدقتيها فى محجريهما بعصبية :أنت
اللى غلطانة من األول يابسمة ..كبرتى الموضوع من غير لزمة وخليتى واحد زى أمجد ده يحلم ويرسم
ويخطط وفاكر أنه لما يفاتح ماما تبقى دى بطولة منه وجراءة .
ــ كان الزم من البداية تفهميه أنك مش بتفكرى فى المواضيع دى و تعرفيه أنك لسه صغيرة وأهم حاجة
عندك مستقبلك ..مش مشكلة عويصة يعنى كان قدامك مليون حاجة تقدرى تقوليها ده أن كان لسيادتك
مزاج لحل المشكلة دى .سحبت نفسا ومشت بيدها المعروقة بالزيت ماسحة مقدمة رأسها حتى أطراف
263
شعرها قبل أن تقبض عليه بعنف ثم لفته حول رأسها كرباط ضاغط حول موضع ألم .فأردفت :وبعدبن أيه
أمجد ده أصال اللى أنتى عامله له ألف حساب وقلقانة منه ..حتة عيل الراح والجه وفاكر نفسه بقى الواد
المخلص األنتهازى اللى واقع على مزة هبلة طمعان فيها وفى أهلها ..أصحى بقى من العبط اللى أنتى
فيه ده .أفرجت أيات عن أول جملة حين سمعت كالم نورا :كالم أختك صح يابسمة أزاى سمحتى لنفسك
تخلى واحد زى ده ال له أصل والفصل يربكك بالشكل ده ويخليكى مرعوبة أمال لو كان أبن ناس وال من
عيلة كبيرة كان حصلك أيه .شعرت بسمة أنها قدمت حبيبها فريسة سهلة دون قصد بين مخالب العمة
وأنياب األخت فتقبلت الهجوم الكاسح وأرتضت به قبل أن تستأصل منه الجزء الذى يظهر فيه أمجد كطماع
أنتهازى .تحفظت :أنا معاكى يانورا أنه فقير وواقع ويادوب بيأكل عيش حاف هو و أهله وزى ماأنتى
عايزة قولى فى الحتة دى لكن واللـه ورحمة بابا ال هو طماع وال أنتهازى .كان رأيا قاطعا أستندت فيه ،
لمواقف ووقائع عديدة .لم يعجب قولها أيات فتحرك شيىء داخلها غير مأمون العواقب حين أنفعلت تجتر
صفحة من مذكراتها وكأنها تقرأ منها سطورا أليمة شرحت بعصبية وأستفاضة سمات الزوج الغادر حين
تعرفت عليه فى البداية عندما كان ميزان الخجل والشهامة والرجولة مساويا لـ " شاكر " قبل أن تنحسر
داخله وتزول بعد ماسيطر وتمكن فأستبدلها بطباع رديئة من األنتهازية والندالة واألنانية نالت منها أيات
الجزء األكبر .ترمقها بسمة بنظرة باهتة ال تخلو من مقارنة سريعة تدور فى رأسها عن أوجه الشبه
واألختالف بين ماضى عمتها وحاضرها مصحوبا بخوف شديد يزداد يوميا مع تهديدات أمجد التى يطلقها
كقذائف تضرب كيانها كله بعشوائية حين تتملكه سخونة الموقف العاطفى ويتحول " لثورجى " الغرام .
يهتف :أنا بقى حأتصرف بنفسى يابسمة حأروح لمامتك البيت من غير أذن وال أستأذان وحأفاتحها فى
موضوعنا بكل صراحة وحأفهمها ظروفى كلها بالتفصيل وأنا متأكد مليون فى الميه أنها حتسمعنى كويس
وحتحترم صراحتى وأكيد حتقف معايا لما تتأكد أنى بحبك فعال وبأخاف عليكى و أنا مش قلقان من المقابلة
دى خالص عشان ببساطة كده مامتك ست مدرسة وفاهمة أزاى تتعامل مع الناس .كان رده جاهزا حين
قاطعته بذعر :ماما طباعها صعبة ياأمجد أزاى ممكن تقابلها من غير تمهيد وال أذن !! .
ــ ماعنديش حلول تانية أنت رافضة تعرفينى عليها والحتى عايزانى أتكلم معاها فى التليفون ..قوليلى بقى
أعمل أيه ؟! .كلماته جعلتها وألول مرة تحجز لنفسها مكانا بين القلقين والمضطربين وسكنتها التهيؤات
والهواجس وخيل إليها فى كل لحظة عن اصابة بالغة بقطع فى األحبال الصوتية يؤدى بهاإلى الخرس حين
تفاجىء بوجود أمجد إلى جوارها على كنبة الصالون يربكها ويربك الجميع أو محشورا منكمشا على نفسه
أمام نورا تسوطه بكلماتها القاسية بالتبادل مع عمتها التى تذكره بجذوره الغير نقية ..أوحتى الذاك وال
264
تلك حين تصله المعلومة القاتلة عن األم المكافحة فى بالد الخليج فيكتشف لحظتها أن كفاحها لم يكن على
أرض خليجية ..أنما على أرض القناطر ! أوشكت تلك التكهنات والتهيؤات أن تقتلع قلبها من مكانه ..
أندفعت دماء صاخبة إلى وجهها وأذنيها كأمواج البحر .مالمح الفزع المرسوم على وجه بسمة أمتالت به
عينى نورا فأشفقت عليها :مش عايزاكى تقلقى خالص يابسمة ..توقف الكالم على لسانها حين حضرت
هدى من المطبخ ملطخة بالمياه والصلصة على الصدروالخصر بينما تنوء يديها بكيس خضار ولفة لحمة
زنة أتنين كيلو ترافقها فرحة تشيع فى عينيها و أبتسامة وهى تتقدم ناحيتهم وقد بدت أمامهم كقطة تتمسح
فى أقدامهم :الحاجات دى كلها جبتها أمبارح ..أصبروا على شوية كمان وحأظبط لكم عشوة تحلفوا بيها .
لم تتلق أى رد فحاولت مع نورا :أنا حأعملك بامية باللحمة الضانى اللى أنتى بتحبيها وحأعمل ليوسف
بسلة عشان هو مابيحبش البامية .ثم أفرغت حمولتها أمامهم تعرض بضاعتها .لم يصلها مديحا والثناءا
بل تلقت نظرة واجمة من عين نورا التى أنفعلت أصابعها وهى تسوى ظفرها بالمبرد .لم تستطع كتم
مايفور داخلها فنفثت أبخرة غضب :لزمتها أيه الحاجات اللى أنت جايباها دى ..طلبات البيت أنا بأجيبها
أول بأول .مسحت يديها فى جلبابها :عادى يانورا مافيش فرق ياحبيبتى بينى وبينك وبعدين أنا حأعمل
أيه بالفلوس اللى معايا دى .
ــ ماعرفش أعملى بيها اللى تعمليه .شعرت بكلماتها تعتقل فرحتها فأنقبض قلبها ولملمت بضاعتها
وفقدت الرغبة فى التودد إليهم وأولتهم ظهرها وهى تردد كتحصيل حاصل :أنا حأدخل بسرعة أجهز األكل.
سحبت نفسا أخيرا وأنصرفت بينما واصلت نورا ماقطعته من كالم بوتيرة منخفضة :أنا الزم أشوف حل
فى كل اللى بيحص ده ..مش حتنفع عيشة القلق والتوتر دى .تطوعت أيات بالرد مبدية قدر من الدهشة :
األمور دى مافيهاش حلول اللى حصل ألمكم خالص ده بقى تاريخ مكتوب يعنى الينفع يتمسح واليتغير
والحتى الناس حتنساه .تأثرت نورا بالجملة األخيرة ولم يتبق سوى صراع يدور فى رأسها حول تعريف
مفهوم الخطر الذى يحوم حولهم قبل أن تستدعيها بسمة بموضوعية طارئة :ماحدش قال ياعمتى أننا
عايزين نشطب التاريخ والحتى نغيره ..أحنا بس مش عايزين فضايح وال عايزين حد يعايرنا .أدهشها
ماقالته فتجاوبت نورا :الناس لما بتسمع عن فالن سرق جنيه واحد بتسميه حرامى وتفضل دى صفته فى
نظر الناس طول عمره لغاية مايموت وعمرهم ماحيغيروا رأيهم فيه أبدا وال حتى حيكلفوا نفسهم يعرفوا
هو سرق الجنيه ده ليه ونفس الناس برضه لما حيعرفوا أن أمنا دخلت السجن عشان جريمة قتل مش
حيالقو أسم تانى يقولوه غير أنها قاتلة ! .صمتت ودارت بعينيها فى وجوههم .ثم تابعت :والتفتكروا أنكم
حتالقو حد يتعاطف معاها ويقول أنها كانت مظلومة أو ماتقصدش أو كانت بتجيب حق ضايع .تساءلت
265
بأبتسامة بائسة .وتولت األجابة :أشك ..فى بلدنا هنا الراجل لما يقتل عشان شرفه وعرضه بيالقى اللى
يقف جنبه ويسانده ويدافع عنه كمان ..لكن برضه بيسموه قاتل .أردفت وهى تحنو بنظرتها المبتسمة
على حيرة أختها :مش عايزاكم تقلقوا وال تخافوا أبدا أنا جنبكم وزى ماعدينا سوا من كل اللى
فات ومافيش حدفينا أنكسر والوقع برضه حنعدى المرة دى كمان .هزت بسمة رأسها تبدى موافقة
ضمنية إال أن عينيها تحمل عبارات قاسية وكاشفة مفادها :ان الماضى قد يغيب فترة أو فترات لكنه أبدا
اليضيع وتظل أنيابه مغروسة فى لحم الحاضر الحى !! ..قام يوسف من جلسته مهموما وهو ينفخ :ربنا
يستر بقى .أستوقفته نورا قبل أن يدخل مكتئبا :أنت بالذات مافيش قلق بالنسبة لك خالص ولو كان فى
أى حاجة كانت ظهرت .ثم قامت تواجهه كأنها تردع مخاوفه :عشان خاطرى ياحبيبى مش عايزاك تشغل
بالك بأى حاجة دلوقتى خلص نفسك اليومين دول وركز فى أمتحاناتك ..مستقبلك أهم عندى من أى مشكلة
ألنى ساعتها حأتأكد أن تعبى مارحش فى الهوا وأفتكر كمان أنى وعدتك بعربية أول ماتتخرج ..هيه حتبقى
مستعملة وبالتقسيط بس آهى أسمها عربية وال أيه رأيك ياباشمهندس .أستجاب ببطء :حاضر يانورا
ماتقلقيش األمتحانات ماشية معايا كويس .فردت أبتسامتها ووزعتها عليهم غير أنها لم تملك القدرة على
تفكيك مالمحهم المضطربة أو نيل نظرة هادئة خالية من الفزع .
0000000000000
سحبت هدى نفسها من داخل التاكسى وتدفقت إلى الشارع بمنطقة " سان أستفانو" وقبل موقع اللقاء
بمائتى متر .كانت الشمس وقحة تسوط الشوارع بلهيبها ..مسحت الطريق بعينيها خلفها وحواليها ،
تمشى بخطوات مترنحة وملتوية كمن تتجنب فخاخا منصوبة فى األرض .صعدت بنظراتها إلى الشرفات
المطلة على الكورنيش وأمعنت فى وجوه المارين بجوارها غير أنها ظلت تدهس فى نهم ظل سور
الكورنيش ولعلها وهى تمشى تأخذ وراءها الى هوة اللقاء المجهول ـ الجرىء فوق العادة ـ كل من يعترض
طريق أنوثتها الفائضة عن طاقة أمراة واحدة وان حاولت لجمها داخل ثوب فضفاض بسيط فى تصميمه
بالغ األناقة من مقتنيات زيزيت التى أعلنت حالة الطوارىء القصوى بدعم من " فضيلة " لتجهيزها فى
266
وقت قياسى لتلحق بالموعد المشهود وأستغالال لفرصة غياب نورا فى حجرة التفصيل بصحبة " رضا " ،
فأختارت لها الفستان المناسب وأرغمتها على تحرير خصلتين كثيفتين من شعرها تنسدالن حول خديها
مثل ستارتين تحضنان برقة وجهها وردت بقيته وربطته كذيل مهرة فبدت أكثر سحرا ،كما حرضتها
زيزيت على أستعادة جرأتها المفقودة ثم توجت كالمها بنصيحة أخيرة عند عتبة باب األتيليه قبل خروجها:
عايزاكى تبقى هادية خالص وماتبقيش متوترة وبالش ردود جافة وخليكى طبيعية .هزت رأسها
وأبتسمت فأطمأنت زيزيت وأعطتها تأشيرة خروج .
كلما أقتربت خطواتها من كافيتريا " سان أستفانو" شعرت بنفسها وكأنها تؤدى دورالبطولة فى حلم من
سلسلة أحالم مابعد العصر التى تالزمها منذ فترة إال إنه قفز محموما من دفء العقل الباطن إلى الطريق
وها هو يصاحبها حتى مدخل الكافتيريا .
فى تلك األثناء وتحت السماء المفتوحة داخل الكافتيريا حيث الجزء المطل على كورنيش البحر أختار
خيرى كعادته ركنا قصيا .أستنشق الهواء ومأل الرئتين وأستزاد .تحديده للموعد ولمكان اللقاء ،كانت
تلك فكرة ،اليدرى حتى اللحظة كيف صدرت عنه .
ــ هل ستحضر هدى أم ال ؟ خطر على باله هذا السؤال ،وسرعان ماتطوع عقله لوضع كافة األحتماالت
وأن أنتابه أحساس قوى بأنها لن تحضر ،إذ لم يكن هناك تخطيط أو أستدراج كافى يقنعها .غير أنه أعد
نفسه لكل مكروه محتمل الوقوع ،كأن التأتى ،وماذا سيحدث بعدها ؟ عدم حضورها هو أعنف ما قد يصدر
عنها ..وقتها سينسحب إلى األبد ..أما أن تقبلت جرأته وحضرت وهو ماله فيه بصيص من أمل ،فسيكون
له معها شأن أخر .توتر فجأة وأغلق حواره الداخلى اذ لمح هدى وهى تتهادى إليه عن بعد وكأنها هناك
على البعد التزال حقيقة غير مؤكدة .تأملت المكان من حولها قبل أن تحدد موقعه بينما تأهب هو واقفا
حين أقتربت منه ..تزدحم صورتها فى عينيه .تحرك خطوتين وبادر بأبتسامة ومد يده مصافحا فمدت هى
يدها فى شيىء من األرتباك وشيىء من وهلة الفزع ..شعر برعشة أناملها ،هل كان ذلك رعشة اللقاء ،أم
رجفة خوف ،لم يتبينه .تبادال نظرات خفية تزور فيها كل منهما األخر ..أفسح لها مكانا وأزاح
الكرسى ..وقفت أمامه تهم بالجلوس ..تأملها ،نظر فى عينيها ثم أنزوت أبتسامة على زاوية فمها
فأحدثت أنفراجة مائلة " خبلته " .جلس متفحصا ساحرته التى وضعت يدها على المائدة فأزاح الصمت
قبل أن يعثر على بداية تليق بالحدث الجلل :كتر خيرك أنك جيتى .تسارعت أنفاسها حين أستقرت عينه
فى عينيها :ال ..أبدا .بدت وكأنها تصارع لحظة الصمت بينما عيناه تدوران فى المكان تبحثان عن
267
الجرسون الذى ظهر فجأة :أوامرك ياباشا ؟ سأله ولم ينتظر أجابة .صحب السؤال بأشارة لمساعده أقل
فى الحجم وفى الرتبة الذى أنقض عليهم بنشاط غير عادى :تأمر بأيه حضرتك ؟ تردد :أنا حآخد قهوة
مضبوطة .
ــ وأنا كمان .قالتها وأبتعدت هربا من عينيه .رحال الجرسون ومساعده بعد أن أربكا المشهد .أستعاد
تركيز اللحظة :الحقيقة مش عارف أوصفلك أد أيه سعادتى لدرجة أنى مش مصدق لغاية دلوقتى أنك
قاعدة قدامى .قال كالمه وتملى بوضوح من الوجه والقوام .أستسلمت لنظراته لكن قرأ فى عينيها نداء
رجاء لم يفهمه .أنقضت لحظات قبل أن تستوعب وجودها منفردة أمام رجل فى كافتيريا ،حالة تذكرها
بلقاءات قديمة رحلت كما رحل صاحبها .أسدلت جفنيها وتوقفت نظراته حين وصل الرجل اآللى ومساعده
يتبعه يحمل صينية فضية ،تعلقت عيناه بالجرسون وهو يصب القهوة بينما تسربت منها نظرة عاينت بها
وسامته وحمرة وجهه وقميصه السمنى .أن صرفا ..خرجت منه كلمات وقورة وهويسأل :يضايقك لو
دخنت سيجارة .هزت رأسها نافية بأداء شيك .أشعل سيجارته وأطلق دخانا مرتعش تبخر مع الهواء
القادم من البحر .هيئتهما وحركة العينين وشكل الجلسة وصياغة الكلمات كانت كلها تشير الى أنهما فى
لقاء خارج الزمن ،الداخل فى تلك اللحظة للكافتيريا يتبادر لذهنه أنه أمام لقاء يجمع بين " شكرى سرحان
ومريم فخر الدين " فى فيلم " رد قلبى " بدا وكأن المكان غريبا عنهما حين أكتشفا أنهما سقطا داخل
حوش جامعة ،ثنائيات شبابية على كل مائدة من جيل الالمعقول ووكالء البنطلونات الساقطة والتيشرتات
الحمراء .خلع عن ذهنه خلفية المكان وتنصل من الوجوه المكشوفة والحركات التافهة وأستجمع ماتدرب
عليه فى اليومين الماضيين :من يوم ماطلبت مقابلتك وأنا عمال أرتب الكالم اللى حأقوله لكن دلوقتى بس
حأتكلم معاكى من غير قلق وال تحفظ عشان أحنا أصال مش غرب عن بعض ..دى جيرة طويلة عمرها
سنين .
بعفوية وتماسك :مش جيرة وبس أنت كمان صاحب فضل على والدى طول فترة غيابى .
ــ تصدقينى لو قلتلك أنك أنتى صاحبة أكبر فضل على أنا .أبتسمت وتناولت الفنجان بربكة فتاة صغيرة
بينما سحب هو رشفة طويلة كمن يبحث عن لحظة شجاعة :بجد أنتى صاحبة فضل على وعشان أكون
صريح معاكى أنا قبل زيارتى لكى فى البيت أنا وشريف كنت تقريبا زى المحبوس ..محبوس بمعنى الكلمة
مابين الشغل والبيت والقراية بالليل قبل النوم ..بعد المرحومة سميحة ماعرفش أيه اللى حصلى ..فجأة
لقيت حياتى بقت واقفة واأليام ماعدش لها طعم وبقيت عايش زى اللى بيأدى واجب ومافيش غير
268
التليفزيون اللى ربطنى بالدنيا من القناة دى للقناة دى وتقريبا مابتكلمش تالت أربع كلمات على بعض طول
اليوم ..الوحدة صعبة جدا نادر فى أمريكا زى ما أنتى عارفة وشريف معظم اليوم بره البيت وأنا قاعد زى
اللى بيقضى حكم محبوس بين أربع حيطان .أكتسى وجهها بحرج يتبعه أسى :بتقول محبوس ..أمال اللى
كانوا محبوسين بجد يقولوا أيه ؟! .
أخيرا نجح فى فتح ثغرة فى جدار خجلها حين أنحصرت أعراض البداية وأنتهت مرحلة جس النبض .فبادر
بنشاط :يقولوا الحمد للـه وان اللى جاى حيبقى أحسن بشرط أننا نحط الماضى ورا ضهرنا ونبص على
المستقبل حتى ولو كان فاضل فى العمر أيام وعن نفسى أنا قررت من يوم ماشفتك أنى مش حأفكر فى اللى
فات أبدا وحيبقى كل تفكيرى فى اللى جاى ..ألنى بصراحة شايف قدامى خير كتيروحاجات أجمل
مستنيانى .قال جملته األخيرة وهو ينظر فى عينيها طويال بينما الذت هى بالصمت وقد أدركت أنها المعنية
قبل أن تنفرج شفتاها بأبتسامة صبر وجملة رضا :أن شاء اللـه ربنا حيعوضك بخير كتير .أراد ترجمة
كالمه بتوضيح أكثر :ممكن تسمحيلى أتكلم بصراحة أكتر .ردت بحرج اليخلو من حذر :أتفضل .
ــ أنا قلتلك من يوم ماسميحة أتوفت وحياتى كلها بقت فاضية وماسخة وده قدرى وأنا راضى بيه وماكنش
عندى أمل أن ممكن تحصلى معجزة تغير الجدول الممل اللى أنا ماشى عليه ..لغاية ماشفتك .سكت لحظة
ثم تابع وما أن بدأ كلماته حتى تأهبت حواسها لسماع أعترافاته .
ــ حسيت بحاجة غريبة محتار فيها لغاية دلوقتى ومش عارف أالقى لها أسم وال وصف لكن اللى متأكد منه
أن ربنا سبحانه وتعالى رجعنى تانى للدنيا فى الوقت المناسب و كأنه بيفكرنى أنى لسه عايش وموجود زى
البنى أدمين .أقترب بصدره من المنضدة يبحث فى خريطة وجهها عن أثر لكلماته .ضغطت شفتيها ثم
عادت تتكسر الحروف على طرف لسانها :مش عارفة أرد أقول أيه .تلفتت بتوتر :بصراحة أنا خايفة
وقلقانة و ..كان حاسما :من أيه ياهدى ؟ أحنا مش بنعمل حاجة غلط السمح اللـه وكمان أحنا مش
صغيرين يعنى ماينفعش أننا نخاف من أى حد وعن نفسى أنا فاهم كويس بأقول أيه وعارف أنا موجود هنا
ليه ؟! ..كانت مشدودة ،ربما ،ألن كمية الزفير التى حملتها كلماته فضحت أنفعاله .عادت األبتسامة إلى
وجهها ،لكن كان لها رسم المرارة :أنت عارف كويس أنا أد أيه بأحترمك وبأقدرك وده السبب اللى
خالنى آجى النهاردة .مبتسما :جيتى عشان بتحترمينى بس ؟! وقفا عند هذه العبارة األخيرة دون أن
يهربا من عناق العيون .هى تعلم فى داخلها ،أنها طيلة تسع سنوات منعزلة وبعيدة عن الحياة اليبلغها
منها إلىإنعكاساتها ..تجهل حتى عواطفها الحقيقية .
269
تغيرت نبرتها وسألت نفسها قبل أن تسأله :أنا مش قادرة أصدق اللى أنا بأعمله دلوقتى ؟ .
ــ مستحيل تكونى مش عارفة .قبل أن تستوضح مايقصده ،كان خيرى يشرح لها :أنا فاهم ظروفك
كويس جدا وعارف وضعك فى البيت وعارف أمورك ماشية ازاى مع والدك ..أنا مقدر الحالة دى كويس
بعد تجربتك الصعبة اللى عشتيها فى السجن .غطى وجهها حزن مفاجىء :فى حاجات كتيرة ياأستاذ
خيرى أنت ماتعرفهاش ..أنا لغاية دلوقتى لسه حاسة بوحدة وبغربة فى بيتى تايهة ومش قادرة أالقى
نفسى مع والدى ..كل دقيقة بتعدى بأحاول فيها أتقرب منهم وأعوض اللى فات بحاول أتكلم معاهم كتير
وأبقى موجودة فى وسطيهم عشان يحسوا بوجودى ويعرفوا أن أمهم رجعت ..ألنى حاسة أنهم فقدوا
الذاكرة ونسيونى ..وآهو الحمد للـه األمور بدأت تتحسن ونجحت كتير مع يوسف وبسمة وبقت عالقتنا
معقولة ..لكن .أنزلقت عيناها ألسفل تبحث عن صياغة تصلح لما ستقوله :مشكلتى الكبيرة اللى أنا واقعة
فيها تصرفات نورا الجافة معايا بتعاملنى دايما على أنى واحدة غريبة أو متطفلة بتفرض نفسها عليهم أو
ضيفة تقيلة حتأخد وقتها وتمشى ..مابقتش فاهمة هيه ليه بتعمل كده وال عارفة حتى أيه اللى مطلوب
منى عشان ترضى عنى ..تعبت أوى معاها ياأستاذ خيرى ..أحساس صعب لما تكون جوه بيتك وشايف
أقرب الناس لك مش طايق وجودك ..واللـه السجن وأيامه السودة أهون ألف مرة من األحساس ده .ظل
جسدها يهتز مع دموعها الحبيسة ومالمحها تئن مع كل كلمة كأنها تنزع أشياء أستقرت زمنا فى
أحشاءها .لم ينس ماقرأه فى تلك النظرة الخاطفة ،لكنه لم يدعها تحول بينه وبين أستمرار التجاوب
المتفاءل .فأجأها بأبتسامة قبل أن يتلو عليها تبريرا :كل اللى قلتيه عن تصرفات نورا معاكى هو تقريبا
بالظبط نفس تصرفاتها مع شريف بس الدوافع مختلفة ..نورا بنتك كبرت أدام عينى يوم بيوم وسنة بسنة
وعمرى ماحسيت أبدا أنها طفلة صغيرة أو مراهقة أولها تصرفات تافهة زى بنات كتير فى سنها كنت دايما
بأشوفها عاقلة زيادة عن اللزوم وأكبر من سنها .دون قصد منها قاطعته بعفوية :وده سببه أيه ؟
ــ الظروف اللى بنتك عاشتها خلتها نضجت بسرعة ..حطى نفسك مكانها بنت صغيرة فجأة مالقيتش
حواليها عيلة تحميها وال فى حد واقف جنبها حتى عمتها اللى كان المفروض تتحمل المسئولية وتبقى
كبيرة البيت ..لآلسف أتخلت عنهم وغرقت فى عزلتها وعاشت فى مشاكلها وكل اللى قدرت عليه أنها
رمت لهم كل أول شهر قرشين عشان تخلى مسئوليتها وتشترى دماغها .أنصتت له بشغف وهو يكشف
270
لها عن كواليس نشأة زعامة صنعتها الظروف وشكلتها وكان ألختفاءها القصرى دورا حاسما فى تكوين
سلطة جديدة بأنياب صغيرة .تابعته بخوف أن يتحول عليها ويحملها المسئولية .فأختبرته :يعنى أنت
عايز تقول أن أيات هى المسئولة عن التغيير اللى حصل لنورا .فهم السؤال بطريقته وأجابها كمحاضر
بارع :لما بنتك لقت نفسها مسئولة عن البيت كله باللى فيه وخصوصا لما أخوتها أتلموا حواليها وحسوا
باألمان فى حضنها ساعتها بس حست بحجم المسئولية وقررت أنها تشيل الليلة لوحدها وده اللى حصل
بالفعل لغاية ما بقت كيان كبير جوه البيت وقاست نجاحها بنجاح أخواتها فى الدراسة وكانت مستمتعة جدا
بأنها بتدير البيت لوحدها وده اللى خالها تحس بقيمتها خصوصا لما شافت نظرات األعجاب من كل اللى
حواليها وأنا كنت واحد منهم ..مشكلة نورا بأختصار أنها مش قادرة تفصل بين دور فرضته عليها
الظروف وبين تمسكها الشديد بنفس الدور مع أن الظروف أتغيرت لدرجه أنها مش عايزة تتنازل عنه
حتى لصاحبة الحق األصيل اللى هو أنتى ياهدى وأعتبرت وجودك حيلغى دورها وحتحصدى كل اللى هيه
زرعته .سكت ليلتقط أنفاسه ونظر إليها نظرة سريعة كانت كافية ليرى األنفعال فى عينيها ،كانت مرتبكة
أرتباكا أخذ فى التراجع كلما تغلغلت كلماته فى خالياها ،أحست أنه يكبرها بعشرات السنوات نضجا وتمكنا.
تأملها صامتا حين أستند بمرفقيه على مسندى كرسيه ورجع بظهره للوراء وكأنه أراد أن يأخذ لها لقطة
بعيدة نسبيا لعله يقرأ فيها كل األنطباعات من كل المسافات .فرض سطوته الكالمية ومنطقه الهادىء على
كيانها كله فصار كل جزء فيها أذان تسمع قبل أن ينتقل بها بنعومة إالى عالمه الشخصى فحكى لها عن
تفاصيل حياته المملة النمطية وعن عمله وأنتماءه السياسى وأجتماعه األسبوعى بمقر جريدة أسكندرية
قبل أن يستغرق فى أحوال أبنه شريف من خالل وجهة نظر عامة عن جيل الشباب .ربع ساعة كاملة من
الكالم المتواصل سمحت له بألقاء الضوء على معظم جوانب حياته اليومية مختتما جولته بتصريح أخير :
تقريبا هو ده يومى من ساعة ماأصحى لغاية ماأنام ..الجديد بقى هو أنتى ياهدى .كانت جملة صاحبة
أيادى بيضاء على وجهها .لم تخف نظراتها وكأنها تطلب المزيد .فلبى متابعا :أنتى ظهرتى فى وقت
غريب أوى كنت تقريبا حددت بقية أيامى حأقضيها أزاى وحتنتهى على أيه ..لكن سبحان مغير األحوال
دخلتى حياتى فجأة بكل بساطة وغيرتيها كلها .
ــ غيرتها أليه ؟ كانت تتكلم وكأن صوتها تفتحت فى نبراته طاقات خفية ..غيرتيها من أيام مملة وبطيئة
ومالهاش طعم أليام حأفضل أشكر ربنا عليها طول ماأنا عايش مش حأقدر أوصفلك طعمها واللونها وال
حأقدر أقولك هى أد أيه فرقت معايا .دون أن تدرى أختصرت أجابتها فى قسوة عاقلة ووضعته فى الحال
أمام واقع اليفهم مشاعره :ياأستاذ خيرى أنا ظروفى حساسة وصعبة ان كان فى البيت وال برة البيت
271
متهيألى أنت فاهم الكالم ده كويس وماتنساش أنى أم ولى ظروف مكعبلة وأنت كمان مش الزم تنسى أنك
أب ووضعك زى وضعى برضه مكعبل .خرجت منه النظرة الواجمة :مكعبل ازاى يعنى .
ــ يعنى أنت تبقى أبو شريف وأنا أبقى أم نورا وأنت عارف أن األتنين بيحبوا بعض والخوف أن الصورة
توصلهم غلط وساعتها حيكون رد الفعل عليهم وعلينا مش كويس .قالت كلمتها األخيرة وبدت مرتجفة
ومنفعلة وساد صمت اللحظات العميقة التى تعقب كل أنفعال صادق ..كانت مرتبكة وكان توترها قويا
بألحاح عينين عميقتين تتعرفان فى صراحة إليها .شعر بسخونة كلماتها .هز رأسه يوافقها على
هواجسها :كالمك لحد كبير حقيقى ومنطقى بس مش لدرجة التشاؤم دى ..ياريت تشوفى األمور بنظرة
تانية ..نظرة متفاءلة وساعتها كل اللى قلتيه وخايفة منه حتالقى قصاده ألف سبب يطمنك بس بشرط أن
يبقى عندك قناعة أنك مابتعمليش حاجة غلط .تعامل كما ينبغى لرجل ناضج أن يتعامل فى ظل ظروف
صعبة ومعقدة .كانت لنبرته الواثقة مساحة فى رأسها تحتفظ فيها بمشاهد قديمة لزمن زيارات خيرى
وزوجته سميحة حين أستقبلتهما هى ونديم بعد زواجها بشهر ..رددت فى نفسها "سبحان اللـه فى
حكمته " رحال أثنان وبقيا مثلهما وكأنها أمامه فى مشهد قدرى يصعب تصديقه .لم يمهلها الوقت الكافى
لألسترجاع واألندهاش حين أمتدت يده وأمسك بيدها وأطبق عليها دون مقدمات وال تمهيد ..لم تسحب
يدها تركتها نائمة فى يده ونظراتها الحائرة تتساءل عن تفسير لما يحدث داخلها .سرت بينهما تلك
الرعشة غير المنظورة والتى تفتح الطريق إلى الرغبة ،هكذا يدرك تماما ..تهدج األنفاس تشى بمثل هذه
األمور ..أضطراب الصدر بومضات متحشرجة تشى هى ــ أيضا ــ بمثل هذه األمور ..الخدر الذى يصيب
البدن بالوهن هو ـ أيضا ـ يشى بمثل هذه األمور ..دعوة المرأة التى تنطق بها سكتاتها ولفتاتها ..هى
محرك كل تلك األمور حينها توقف عن كل مايدركه فيها وتساءل :هل يجوز أن ينشطر األنسان إلى
نصفين ،نصف يرغب ونصف يتحفظ ؟ فاذا كلمة بين العينين ،ناطقة واضحة ال لبس فيها وال مجال لظن
وتأويل ! ..انها ،هى األخرى ،يجتاحها نفس األحساس .
وسع الحوار البسيط الدافىء فأثرى المشهد ومنحه ألفة عبرت بهما الحواجز وألغت المسافات .بدا حالما
وهو يجتر ذكريات الزمن الجميل ،أستوحاها كلها من أفالم األبيض واألسود وهو يقيس ذلك الزمان بمدى
نعومته وصدقه ،ولما ال وهو زمن الوضوح مابين األبيض واألسود .فنادى فيها متحمسا :أنا لما بأشوف
كل حاجة قديمة تخص زمن الخمسينات والستينات بأدعى ربنا أن يطلع علينا حد بأختراع يخلى األنسان
272
ممكن يرجع ولو يوم واحد يعيش فى وسط الناس دى ويمشى فى شوارعهم ويأكل من أكلهم ويتكلم
زيهم ..حتستغربى لوقلتلك أيه اللى بيعجبنى فى الزمن ده .أبتسمت :أيه ؟ .
ــ بحب أوى أتفرج على الرجالة والستات بتوع زمان ..تحسى كده أن الست كانت مليانة أنوثة فى لبسها
وفى كالمها وفى حركتها ..كانوا أد أيه متحضرين ومحترمين حتى وهمه قاعدين فى حفلة بيسمعوا أغنية
ألم كلثوم ..حتى الرجولة كان لها ميزان تانى فى الزمن الجميل أما دلوقتى فأحنا بعد السنين دى كلها وبعد
التطور والتكنولوجيا بقينا متخلفين عنهم فى كل حاجة ..فى كالمنا وفى حركاتنا وفى عيشتنا وفى لبسنا
لدرجة أنك ماتقدريش تفرقى فى الشكل بين شاب وبنت لو أنت ماشية وراهم كلها بقت بنطلونات وكله
بيلبس من بعضه وبقت حاجة تأرف .غسلت وجهها بضحكة :واللـه أنازيك تمام دايما بأحلم بزمن سهل
وبسيط مش معقد وتكون كل مشكلة ولها حل .تنهدت وأبتسمت :ومش معنى كالمى ده أنى رافضة
الموجود دلوقتى وال محنوقة منه بالعكس أنا شايفة حاجات حلوة لسه فيها ريحة األيام الجميلة .
ــ زى أيه ؟ سكتت وكأنها تخجل من األجابة ،إال أنها نطقت حين أستحثتها نظراته المترقبة .
ــ زى صوت اليمام اللى بيغنى أول النهار مايطلع على الشجرة الكبيرة اللى قدام البيت ..هو نفس صوته
بتاع زمان وكأنه بيتحدى الفوضى والمأسى ومافكرش يهرب وفضل ثابت فى مكانه وحافظ على أغنيته
وما أتغيرش ..بيفكرنى بأيات ونعمة والخواجة كرم وعم نوح ..دول كمان ماأتغيروش فضلوا زى
ماهمه وكأنهم صحاب الزمن الجميل ورث وبيحافظو عليه .تفحصها دون أن ينطق ،لمحت فيه دهشة
وأستغراب وأشياء كثيرة لم تفهمها .فعاجلته بعد أن شعرت بأنها كشفت عن حالة شعورية تالزمها طويال
ولم تفصح عنها إال فى تلك اللحظة :طبعا أنت أكيد بتقول على عبيطة ؟!.
ــ اللى عندها أحساس عالى كده لدرجة أن صوت اليمام بيرجعها للزمن الجميل مستحيل يتقال عليها أى
حاجة المدح وال ذم ..كفاية بس أن الواحد يفضل يتأملها وهو ساكت ويدعى ربنا فى سره أنها تشوف فيه
حاجة من الزمن الجميل عشان ترضى عنه !! .
ــ أنا ..نطقتها ساخرة .ثم قالت :الرومانسية ممكن تركب على أى حد اللى على اللى قاعدة قدامك دى .
273
ــ أشمعنى ؟ .
ــ عمرك سمعت عن واحدة عاشت مأساة لمدة تالتشر سنة منهم تسع سنين فى السجن وخرجت
رومانسية أو حتى طبيعية مش محطمة .أنصت لها وهو يسأل نفسه :أزاى محطمة وصوت يمامة بيأثر
فيها .أستشفت حيرته :يا أستاذ خيرى أنا لسه عايشة فى حالة تقدر تسميها كده مرحلة النقاهة .
ــ طب خدى بالك المرحلة دى بالذات محتاجة حد جتبك تكونى مرتاحة له .كانت أبتسامة رائعة جعلته
ينطق بعفوية :أنتى ما حصلتيش .تفتحت شفتيها عن ضحكة راضية بدالل يفصح عن أنوثتها .سكتا
فجأة ..ربما يدور فى ذهنها مايدور فى ذهنه ..يقال أن هناك صلة خفية وخطوط أتصال غير مرئية
تصل مابين وجدان الناس ..نظرت فى ساعتها ثم أرتبكت وهى تعلنه :أنا الزم أمشى عشان ألحق أرجع
األتيليه .أحترم رغبتها ثم نظرت أليه طويال وهو يضع نقودا على المائدة ،راقبت حركته المتأنية وهاتف
يدعوها أن تشده إليها من جديد ،لم تجبه وهو يسأل :حتمشى لوحدك ؟ قامت من مكانها وكمن تعلن أن
هذا الذى يختلط سواد شعره بالبياض ،هو فتاها ،بدا لها أكثر الحاضرين شبابا وتألقا .
أفصحت له عن معلومة واجبة :مش حينفع نمشى مع بعض ..أنا حأمشى األول .فى مكانه لبث واقفا لتمر
من أمامه قبل أن يهمس لها :بكرة الصبح حأستناكى عند باب األتيليه عشان فى حاجة مهمة الزم تاخديها.
رمشت بعينيها :حاحة أيه ؟ .
ــ بكرة تعرفى .أدلت رأسها بأبتسامة وأنصرفت .لم يتبعها ..تركها تغيب حتى تاهت فى الزحام ..جلس
إلى كرسيه ويده المرتعدة تبحث فى جيوبه عن علبة السجاير التى فى يده األخرى !!.
الفصل التاسع
فى طريق عودتها أستقلت تاكسيا كئيبا تحت قيادة سائق يحمل وجهه كل أعراض الشر :اللـه يخربيت أم
دى عيشة سودة كل طلب أخده أتذل فيه ساعتين بسبب أم الزحمة دى ..حاجة تأرف .
جلست فى الخلف هادئة تحاشت التجاوب معه ،الزالت محاطة بأجواء اللقاء الذى يسرى أيقاعه فى رأسها
بطيئا تسترجع كل مقاطعه بالصوت والصورة ..تبعثرت أبتسامتها فى وجهها حين مر بها مقطع خيرى
وهو يدلى بأعترافه :أنتى الحاجة الجديدة اللى فى حياتى .لجمت أبتسامتها سريعا كى اليتهمها السائق
274
الذى يتابعها من المرأة بالجنون .مرت ساعة قضتها بين التقييم المنطقى وحالة التوهان التى تتخطفها بين
كلماته ووسامته حتى تلقت خبر وصولها بنبرة غليظة على لسان السائق :حتنزلى أول شارع شامبليون
وال أخره .أفزعتها كلماته وتابعت الشارع عبر النافذة :حأنزل هنا .
تسلمتها زيزيت قبل أن تلتقط أنفاسها وهى على نفس الحال من الصمت والتوهان .لم يردها الى هذا
الواقع سوى كلمات زيزيت الملهوفة التى قطعت عليها الطريق وقادتها للداخل :تعالى أحكيلى بالتفصيل
أيه اللى حصل ؟ مشت معها حتى عتبة مكتبها كأنها تحت تأثير تنويم مغناطيسى :كان بيكلمنى عن نفسه
وعن مشاكل الوالد .ثم سحبت نفسا بطيئا بينما زيزيت تقرأ أفكارها دوما حسب الصورة التى تراها .
ــ أقصد أنى شايفة قدامى واحدة طايرة من على األرض وغرقانة لشوشتها .جاهدت أن تحبس أبتسامتها :
طب أدينى فرصة أطلع البيت أرتاح شوية وبعد كده حأقولك على كل حاجة .
ــ ماشى ياهدى .قالتها وهى تضحك .ثم مرت األخيرة أمام عينيها بخفة راقصة باليه حتى بلغت الباب قبل
أن تتوقف فجأة حين أستعادت وعيها وتلفتت :نورا سألت عنى ؟ .
ــ ماتقلقيش قلتلها أنكى رحتى للحاج سالمة تديله دفعة من حساب القماش .تحررت مخاوفها ثم عادت
إلى عالمها .
دخلت شقتها ..ساعدها جو الهدوء أن تحتفظ بحالتها ..أحتضنت مشاعرها حتى باب غرفتها وأوصدته
خلفها .عتمة الستارة تنشر صمتا فى الغرفة .أضاءت النور فظهر السكون من حولها فأحالها معبدا
ترتاح فيه روحها .خلعت حذائها وألقت بحقيبتها فوق كرسى التسريحة ،جلست على حافة السرير
مفسحة ساقيها قبل أن تدلى رأسها تسترجع كل مادار فى لقائها ..شعرت أنه أستولى على وعيها كامال ،
تنتابها حالة شجن تتكثف فى كل كلمة قالها .بينما عقلها يطوف داخله سؤال كبير :كيف سلبها الحماس
للمقاومة ؟! ..خضعت بسهولة ..نفذ اليها وتسلل الى عالمها .مسحت الغرفة بعينيها قبل أن ترتد نظرتها
حين قلبت كفيها ..تذكرت رغم عنها لمسة يده القوية ،تتبعت بخيالها رحلة أصابعها بين أصابعه التى
275
التزال تحمل بصماته كأنه وشم منحوت على جلدها .شعرت بوقع كلماته على بدنها المستسلم وتسربت
إليها فتكشف أن قلبها المعلق فى صدرها يتلوى ويتشكل من جديد.
فى اليوم التالى .أنتهى خيرى من شرب الشاى واقفا ..يزرر قميصه ثم أطفأ سيجارته وفتح باب الشقة .
هبط للساللم مترددا ..كان مقلقال فى مكانه أمام باب األتيليه ،يتحين الفرصة لظهور هدى واألنفراد بها .
عليه أن ينتظر .لم يفكر فى أمر هذا األنتظار لكنه البد أن ينتظر ،فان حبيبته التى عشقها ولمس دفء
أصابعها باألمس تستحق األنتظار .
تدلت من يده علبة مستطيلة مرسوم عليها جهاز محمول عليه شعار " سامسونج " .عشر دقائق نخر فيها
األنتظار قد ميه راقب خاللها بحذر تحركات " رضا وفضيلة " ذهابا وأيابا فى القاعة كأنهما فى دورية
حراسة إلى أن ظهرت زيزيت بحيويتها التى تسبقها ،تتبعها هدى بجمالها اآلسر ومن وراءهما نورا
تحتضن مجموعة أقمشة وهى تعلن :أنا عايزة توب من كل لون يامدام .ألتفتت إليها األخيرة قبل أن تدخل
مكتبها مبدية موافقة إال أنها لمحت هذا الكيان المبتسم الواقف أمام المدخل ،أنحرفت ناحية هدى التى
أنتبهت على أثر لكزة فى جنبها :شوفى مين اللى واقف عند الباب .ينظر إليها من خلف الزجاج ،أحمرت
وجنتاها ..توترت وخفضت رأسها قليال بينما هو اليكف عن التطلع إليها ..أبتسمت له دون أن تتحرك
فأظهرت لها زيزيت نظرة تشجيع للخروج إليه .أقتربت نورا منهما تراقب المشهد قبل أن تستعيد هدى
تماسكها على صوت أبنتها المتابعة للحظات البوح الصامت :هو عمو خيرى واقف ليه كده .لم تنتظر
توضيحا وتحركت ناحية الباب تفتحه فتقدم منها خطوتين :صباح الخير ياعمو خيرى .
ــ الحمد للـه .ثم رفع يده ملوحا لهدى من فوق رأس نورا التى تراجعت للوراء ناحية أمها تواجهها :عمو
خيرى بيشاورلك ياماما ..عايزك .أضطربت وهمست كأنها تتوجس منها :أروح أشوف يمكن عايز
يسألنى عن حاجة .إال أنها ظلت متجمدة فى مكانها ..ثوان وتحركت رغم أهتزازها الواضح ..أجتازت
مدخل األتيليه فتقدم منها خطوة ..رمقته بأرتباك فنظر إليها طويال ..يحاورها بعينيه .أكتسى وجهها
بتعبير مرتبك ..بادر بنبرته الجذابة :أزيك ياهدى
ــ الحمد للـه كويسه .قالتها وهى تتلفت فى حرج ناحية زيزيت ونورا .
ــ أنا جايبلك حاجة معايا .نظرت للعلبة ..أتسعت حدقتا عينيها :حاجة أيه ؟.
276
ــ ده موبايل ومعاه خط تشغيله النهاردة عشان حأكلمك أول ماتخلصى شغل .أحست برجفة وبدا صوتها
متقطعا :مش حأقدر ..قاطعها قبل أن تكمل أعتراضها :أرجوكى ياهدى أنا محتاج أتكلم معاكى كتير .
صمتت مترددة ثم تناولت هديته بأصابع باردة وكل منهما يخطف من وجه األخر نظرة مستشفة بينما الجو
بينهما مشحون بكهرباء خفية .
حولت نورا بصرها نحوهما فاذا بها تواجه مشهدا حيا يعجز العقل عن التسليم بواقعيته .جاهدت تحبس
دهشة كاد يفلتها لسانها ،التفتت لزيزيت :أيه اللى أخدته ماما من عمو خيرى ؟ ! تجاوزت سؤالها :مش
حتدخلى تجهزى شغل النهاردة ؟ حيرة نورا أخذت قوة صوتها :أنا بأسأل عن اللى ماما أخدته ؟! بدا
وكأنها تسمع أجابة زيزيت بال أمل كبير حين ردت بملل وبصوت رخو وهى تدقق فيها بنظرة قصدت منها
أن توحى لها بأنها فارغة المعانى :مش فاهمة أيه يانورا ..تالقيه بيديها أى حاجة .
ــ أى حاجة يعنى أيه ؟ ! ضاقت بها :أيه حكايتك يانورا ده أنا بأقول عليكى لماحة !! رمت بكلماتها كى
تفهم .ظلت نورا تتأملها مليأ ! ..خيل إليها وهى تتأملها أن فى نظرتها لوما على غباء لم يخطر لها .
كانت درجات السلم خلف خيرى بخطوة أو خطوتين فصعدهما متراجعا بينما ينظر بطرف عينه اليسرى إلى
هدى وهى تدخل األتيليه .
فور دخولها ،أقتحمتها نورا متساءلة :أيه اللى أنت أخدتيه من عمو خيرى ده ؟ همهمت وحولت
نظراتها لآلرض :ده موبايل ! قالتها وهى تحتفظ بعينيها منخفضتين .ولم ترد على ماقالته .فهى تدرك
أن األنطباع األول تتوقف عليه بقية األستجواب .راحت تفتش عن تبريرات بينما تابعت نورا :
وعمو خيرى يجيبلك موبايل ليه ؟ حاولت هدى أن تتجاوز لغة العيون إلى الكالم .لكنها كانت تتراجع
أمام صفع نظرات أبنتها المحملة بالشكوك فأضطرت لخلق موقف :األستاذ خيرى قابلنى من كام يوم
على السلم وعجبنى الموبايل بتاعه ..قبل أن تتابع روايتها قرأت فى عينى أبنتها أتهامات قاسية أدناها
" طب ليه تقبلى منه الموبايل " ..تابعت :ولما سألته أنى محتاجة أشترى موبايل فعرض أنه حيجيبلى
واحد وبعد كده حأحاسبه ! .
ــ برضه مش قادرة أفهم ..لما أنتى محتاجة موبايل ياماما كنتى قلتيلى .كانت نبرتها تأنيبية .أرادت أن
تسمع أجابة شافية من أمها حتى اليصيبها خبل من كثرة األسئلة التى تحتوى دهشة وحيرة ،بينما لم
تفصح هدى عن نفسها إذ لم تكن لها القدرة على الظهور والسيطرة وأخذ زمام الموقف فى حين تولت
277
زيزيت مهمة الدفاع وصارت تحدث نفسها وتحدثها وهى تسحبها ناحية مكتبها بعيدا عن األم الخائفة :أيه
األسئلة الخايبة دى يانورا ؟! .
ــ أنا ماقصدش حاجة يانورا بس عايزاكى تهدى شوية على مامتك ! .أنصتت لمناشدتها وخطر لها هاجس
سكنها ال تعلم له سببا محددا يتردد بقوة داخلها :أكيد فى حاجة غريبة أنا مش فهماها بين ماما وعمو
خيرى !! ..تداعت مخيلتها تستعيد قراءات سابقة ذات صلة :عشان كده بأشوف عمو خيرى كتير عند باب
األتيليه ..آه .كانت كعادتها تختزن المشهد فتفرد له تفاصيل فى ذهنها ثم أتجهت ناحية حجرة التفصيل
بحماسة ،تتوق إلى األنفراد بنفسها لتدرس وتحلل مارأت ومافهمت .فتتعادل أمامها فرص الوصول مع
أمها الى حل أو أزمة ،فهى ال تتبين أيا منهما حتى تحزم أمرها على األختيار .
فى تلك اللحظة أقتربت زيزيت من صديقتها المرتبكة وأنتزعتها من هذا األرتباك ورافقتها حتى المكتب
تهدىء مخاوفها تجاه أى رد فعل محتمل من نورا التى ظلت طيلة النهار تفكر فى المشهد ومعانيه كأنما
فتحت بابا فى رأسها للهواجس .
0000000000
بعد ماهدأت الحياة ظاهريا فى منزل "بدرية" وأستقرار حالتها الصحية بعد أن خفت أوجاعها ورحل الورم
من تحت عينها مخلفا هالة زرقاء باهتة بفعل دهانات ومسكنات بترشيح من طبيب الطوارىء
بـ " مستوصف المبرة " والذى تابع حالتها لمدة أسبوع حتى شارفت مرحلة الترميم على األنتهاء فى
حضور شبه يومى من " منصور" الذى تكفل بكل المصاريف تقربا منه لنيل مغفرة وعفو عن موقفه
الباهت وقت " العلقة " فأظهر تعاطفا شديدا وخجال مضاعفا خصوصا أمام " نوسة " التى واجهته فى
البداية بمشاعر غضب مستعرة أزكاها أبتعاده عنها أسبوعا كامال منزويا خلف خجله .غير أنه تمكن
وبفهلوة بلدى بأحتواء هجومها المتصاعد شارحا موقفه بصراحة وباللغة التى تفهمها مبديا تحفظا على
مقولتها :أنا مش شايفة قدامى غير واحد بيتلبش من أمه وبيترعب من خيالها وأنا ياأبن الناس يلزمنى
راجل يحمينى مش خـ !! ..تصدى لرأيها بما يحفظ له رجولته :أنتى شايفة الحكاية كلها من زاوية
الجدعنه والرجولة أنا بقى شايفها من ناحية تانية .وصلت جملته منقوصة إلى حجر بدرية فترنحت فى
جلستها على الكنبة :حتة أيه اللى أنت شايفها يامنصور وسايب أمك عمالة تجرى ورانا زى الرهوان
278
وكلها كام يوم ياأبن فايزة وحنبقى أنا والبت دى مرميين فى الشارع من غير متوى .قصدت من وراء
كالمها زيارة أمه للحارة منذ يومين حين لمحتها من وراء الشيش تداهم الحارة كريح عاتية وسط كوكبة
من البلطجية تتقدمهم كالغزاة تعاين واجهة البيت وهى تصعد بعينيها ألعاله فظهرت مالمحها مخيفة لعينى
بدرية المتابعة من فتحات الشيش ،فأرتعدت وأصاب قدميها تنميل وكأنها تتعرض لصدمة عصبية بعد أن
سيطرت عليها " فوبيا فايزة " .لم تنتظم أنفاسها ولم تهدأ ضربات قلبها إال بعد أن راقبتها وهى تنسحب
من الحارة خافضة الرأس كثورهائج تنطح مايعترض طريقها .رحلت وبصحبتها الحاج " محمد " مقاول
هدد الذى عاين الموقع فى أنتظار أشارة البدء التى أقتربت لحظتها بعد أن أوشك األستاذ محمود المحامى
على صياغة أتفاق مع سكان البيت وأصحاب المحالت بعد عدة جلسات منفردة عبروا فيها عن توجسهم
حين أستهل محمود المحامى لقاءاته معهم بجمل الترغيب وعرض مبالغ الترضية قبل أن يذكرهم فى نهاية
كل جلسة بعبارة تهديد ووعيد أستوحى مفرداتها من حديث موكلته :اللى عايز يتراضى ويتكل على اللـه
بالذوق واألدب أنا تحت أمره أما اللى عايز يركب دماغه ويسوق فيها ويحط العقدة فى المنشار أحنا
حنتكفل بيه وحنعمل معاه الصح ومايجيش بعد كده يعيط .أطلق وعيده وترك لهم أسبوعا لمراجعة
المواقف على أن يكون اللقاء القادم فى مكتبه هو األخير ألنهاء كافة األجراءات .فى نفس اللحظة بدت
بدرية عاجزة عن أستيعاب مايحدث حين شعرت بوجود مؤامرة تستهدفها بعد أن تم أقصاءها من أى
مفاوضات ولم تتلق أى دعوة كباقى السكان مما دفع نوسة الجراء أتصال سريع بـ "منصور " لتفهم منه
مايدبر ..أثقل كالم بدرية كاهله حين زارهما لتهدأة مخاوفهما موضحا وجهة نظره :ده أنا بقول عليكى
ياست بدرية دماغك كبيرة وخبرة ..فكرى معايا واحدة واحدة ،قالها وألتفت لنوسة التى أحكمت أناملها
حول ذقنها :أحضرينا يانوسة .
ــ أمى عايزة تراضى السكان وتطلعهم من البيت عشان تهده وتجيب عاليه واطيه وده حقها وهى حرة فيه
وناويه تطلع ببرج خمستاشر ستاشر دور وبرضه ده كالم حلو ومعقول وكمان مصلحة للكل .
أنتفضت بدرية وألتحقت حيرتها بكلماتها :مصلحة لمين يامنصور و المصلحة كلها حتبقى فى كرش أمك
اللى مسلطة البلطجية على السكان ليل ونهار عشان يقبلو غصب عنهم بقرشين مايجيبوش أوضة فى
حارة سد وهى تلهف البيت خالص مخلص زى التفاحة المقشرة .تأمل وجهيهما :كالمك كله صح من
أوله ألخره وحأزود كمان فوقيهم كلمتين :البيت حيتهد والسكان حيمشوا بس أمى مش حتحط جنيه واحد
279
فى كرشها ..الخير كله اللى عندها وكمان اللى حييجى بعد كده حيتحط كله فى كرشى أنا وأبويا لوحدينا .
تراكمت الدهشة فى عينى نوسة وأمها التى أنشقت شفتيها عن رغبة محمومه :يعنى أيه الكالم ده ؟ .
ــ يعنى الفلوس والقهوة والمخزن والبيتين كل دى أمالك أمى وبأسمها وهى حرة تتصرف فيها زى ماهى
عايزة ..الكالم ده ممكن يحصل فى حالة وجودها ! قالها وخفض رأسه قليال رافعا عينيه ألعلى فى لقطة
شريرة وتابع بنبرة تصلح لكل األحتماالت :أما لوماكنتش موجودة ..يعنى سافرت مثال أو حتى رجعت
السجن تانى حتبقى الغنيمة دى كلها بتاعتى أنا وأبويا حنقسمها سوا وكل واحد يأخد نصيبه .تصلبت
مالمح بدرية قبل أن تهاجمها خياالت سوداء مصحوبة بذكرى ماحدث لها على يد فايزة :تانى يامنصور
تخطيطات وحركات حلق حوش بتاعتك وتعملى فيها فريد شوقى وبعد كده تطلع حنجرة بس وأخرتها أالقى
نفسى أنا والبت اليتيمة دى اللى بنتاخد فى الرجلين ..ال ياعم كفاية اللى حصلنا وكتر خيرك لحد كده وروح
أتصرف مع أمك بعيد عننا .
ــ هو أنا طلبت منك حاجة ياست بدرية وال قلتلك ساعدينى ..المرة دى أنتى ونوسة بعاد خالص والموال
كله من أوله ألخره أنا اللى مسئول عنه والعبد للـه اللى قدامك هو اللى حيشيل الليله كلها .
بينما الح فى عينى نوسة أضطراب وفزع سقطا مدويان على لسانها :أسمعنى كويس يامنصور وحط
الكلمتين دول حلقة فى ودانك أنا بحبك وشارياك وعندى أستعداد أتحمل معاك أد اللى أحنا فيه ده عشر
مرات ..لكن كله إال الدم ؟! تفقد منصور وجهها بنظرة ذاهلة :أيه الجنان اللى بتقوليه ده يابت دم أيه
وزفت أيه على دماغك أنتى تفكيرك راح لفين ..ماتنسيش يانوسة أنى اللى بأكلمك عنها دى تبقى أمى
عارفة يعنى أيه أمى ..يعنى األم بتاعة الدين اللى هى أمك ثم أمك ثم أمك .بدل حدته بأخرى هادئة :اللى
بأقصده وبأخطط له أن أمى تأخد لها كام سنة هدنة ترتاح شوية وتبعد عننا كأنها فى أعارة وال فى أجازة
مفتوحة لغاية مانشم نفسنا ونقف على رجلينا وتكون المسائل أتظبطت .رنة فرح بانت فى صوت بدرية :
وإن شاء اللـه حتودى أمك أعارة فين .
ــ فى أي حتة تريحها وتريحنا .جملته األخيرة كانت تحوم فى عقله بقوة حين تملكته الفكرة القاسية التى
صبغت تفكيره حتى تجسدت داخله عمال قابال للتنفيذ بعد أن شفيت أوجاع الضمير وصار السؤال داخله
مهزوما :أزاى حتعمل كده يامنصور مع أمك ؟ أزاى قلبك حيطاوعك لما تأذيها ..ده أنت لو أبن حرام مش
حتعمل كده .وقبل أن يخلف السؤال صداه باغتته مالمح أمه بصوتها الذى يجلجل فى أذنيه يحمل كالعادة
فى طياته تلونا واستهجانا وتهديدا :أبقى بلغ حبيبة القلب لما تشوفها أنى حأهد البيت على دماغها ودماغ
280
العالمة أمها ..ورحمة أبويا يامنصور ألخليهم عشا لكالب السكك وبكره تقول أمى قالت .صوتها يحمل له
تشاؤما وينصب له فخا وأيقن أن مابداخلها بركانا من الغضب ولن تهدأ ثورته إال بردم فوهته .حين أدرك
منصور أن ال تراجع والتردد من تدخل جراحى ..أنها لحظة القرار الصعب حيث ال شاهد وال مشهود فأندفع
بأعصاب ثائرة وأطلق مقولة غضب فى لحظة يأس فى وجه أبوه :أنت خالص يابا راحت عليك ..أنت لسه
ماشى على أديمه وكل حاجه عندك براحة وبالبطيىء ونظام أصبر وأتقل شوية ماعدش يأكل فى الزمن ده.
تمتم بقلة حيلة :السربعة اللى أنت فيها دى مش حتنفع يامنصور ..ماتودناش فى داهية أعمل معروف .
دبدب بقدميه :هو فيه أكتر من كده داهية بقولك أمى خالص شرخت وفتحت ع الرابع وأنا وأنت قاعدين
زى جوز الطرابيش مش فاهمين حاجة فى أى حاجة وهيه حطت رجليها فى شغل المقاوالت حتهد وتبنى
وحتبقى من صحاب العمارات يعنى كلها سنة وال أتنين وحتلعب بالماليين وحتبقى شوكتها أقوى من
دلوقتى عشر مرات وبعدها حتتسلى علينا وحتفوقلنا وحتخلعنا أحنا الجوز من غير ما تسمى علينا ..أنا
حترمينى فى الشارع من غير ال أبيض والأسود وحتقولى ساعتها بالهنا والشفا عليك نوسة وأمها وأنت
بقى حتعملك لعبتها يابا وحتحطك فى البيت زى المقام ال تروح وال تيجى وأن كان عاجبك .أحمرت عينه
وواصل أنفعاله :وأياك تقولى ده كالم فارغ وال مش حيحصل وأنا فاهم وأنت فاهم أن أمى ماعندهاش
غالى .قالها وأقتحمه بنظراته متساءال :تقدر تقولى أمى زارت المخزن كام مرة الشهر ده .أخفى قلقه
وتمتم بصوت خفيض :بتاع ثالث أربع مرات .
ــ هى دى البداية ودى الرسمة اللى هى بتكتك لها وأفتكر كويس كالمها اللى بتقوله كل يوم والتانى عن
القهوة اللى مابتجيبش مصاريفها ومش شايفة من وراها حاجة .قبض على يد أبوه ينقل إليه توتره .
متابعا :أمى بتحط السم فى وسط الكالم والزم تفهم أنها مش حتستنى علينا كتير هى خالص رسمت
طريقها ومشت فيه وأحنا بالنسبة لها الحول لنا والقوة وماعندهاش أى قلق من ناحيتنا أحنا فى نظرها زى
خيبتها بالظبط .قابل كلمات أبنه بنظرات مهزومة وأعتراه ضعف سرح فى هيئته ،ولم ينتشله سوى
مناشدة منصور :عشان خاطرى يابا أركن شويه أنت على جنب وسيبنى أنا أتصرف بدماغى .
ــ ماتقلقش حتبقى كل حاجة تحت عينك ماهو أنت برضه اللى نورتلى الطريق وكالمك هو اللى صحانى من
غفلتى ..خالص يابا أنا قررت ماتبقاش نهايتى زى نهايتك كده متلقح ليل ونهار على كرسى فى قهوة
281
عشان أخر الليل أالقى تالتين أربعين جنيه مايكملوش معايا يوم .أطلق عبده نفسا أهتز له شاربه
وأزدحمت فى رأسه عالمات األستفهام وبات طموحه يتخطى حدود الممكن ويشرد فى متاهات المستحيل !.
فى اليوم التالى دخل منصور القهوة بخطوات حثيثة تركبه مالمح نشطة بالرغم من حالة األرهاق البادية
تحت العينين من طول السهر بعدما أحتشد بالفكرة ولم يعد ينام من ألحاحها وتأجج ذهنه كخلية نحل ..مر
بين أناس على مقاعدهم مجمدين فى أستسالم تام ،يبدون كأنهم هنا منذ بدء الخليقة .سحب كرسيا وجلس
صامتا يتشمم عاصفة الدخان المتصاعدة من فم أبوه الذى واجهه بعينين ضاقتا أستغرابا ! .
ــ أيه اللى جابك بدرى ..أمك عطتك الجرعة .بأقتضاب :خرجت من بدرى ..جه الوله النونو خدها
ومشى وال حتى قالت رايحة فين .
ــ حقها ياسيدى مش بقت سيدة أعمال ..مرى مالهاش كبير .قال وأعتدل ثم كرر تساؤله :برضه أيه اللى
جابك بدرى ..
ــ حتى أنت كمان بقيت مهم .تجاهله ومسح القهوة بنظرة قبل أن يهمس :مش قلتلك أمبارح أركن على
جنب وسيبنى أنا أتصرف عشان ماعدش فى وقت .لعب بلالى الشيشة بين أنامله كأنه يغازل لمجهول :
ماتنورنى يامنصور ناوى على أيه ؟ .
ــ أنا مواعد الوله سليم دلوقتى حأشوره فى الموال بتاعنا .أحتج بعفوية :سليم الشمام .قالها وأغلق
عينيه وهز رأسه غير مصدق :أنت جرى فى دماغك حاجة ياوله ..أنت عايز تودينا فى داهية .لملم
منصور أفكاره وعرض حيثياته :الشمام ده يابا لما بيشغل دماغه بيجيب نتيجة صح دى أول حاجة
والتانية سليم صاحبى وبيحب لى المصلحة عشان هو هارش أنه حينوبه من الحب جانب واللى يهمنا أنا
وأنت أزاى نخلص من الليلة دى وبسرعة والوله سليم شهادة حق تتقال هو دايس فى مشوار الصياعة من
زمان وعارف أزاى يخلصنا من الليلة دى من غير مايبقى لنا يد فى أى حاجة ده غير أن مصاريفه على أد
أيدينا يعنى مش حتجرحنا وال حتكلفنا وكمان سليم مافيش من وراه أى قلق وحيبقى تحت عنينا .أنهى
كالمه وتوقع رفضا قاطعا وتأنيبا عنيفا .لكنه وجد مرونة وشعر به يقلب ماسمعه حتى أستقرت مالمحه
على سخرية ظاهرة قبل أن يعاود منصور :قولى أيه رأيك فى كالمى ؟ يبدو كقلعة على وشك التسليم إال أنه
رأى فى أبنه عمال ناقصا يحتاج أتماما :مش عارف أقولك أيه ..بس لو أنت مالى أيدك من الوله ده يبقى
282
خالص ع البركة المهم جس نبضه األول قبل ماتكشف ورقك وأتقل وماتجيبش اللى فى بطنك إال لما تعرف
هو حيعمل أيه وحيتصرف أزاى وخلى بالك يابنى ليشترى منك ببالش ويروح من وراك يبيعك بفلوس .
ــ ماتقلقش أنا عارف حأجيبه سكة أزاى .رأى فى كالمه تطورا ألفكاره القديمة وأستشعر فيه جرأة
وأصرار فأبدى موافقة بهزة رأس صامتة .
ظهر " سليم " متخطيا عتبة المقهى بمشية مترنحة ومالمح عكرة ..أخترق الممر األمن بين الموائد باحثا
بنظراته الضائعة عن مكان منصور الذى لمحه فقام من كرسيه :الوله سليم وصل ..حأقوم أشوف الدنيا
حتمشى أزاى .نبرة حذرة تحرسها نصيحة أخيرة على لسان عبده :خد بالك يامنصور الوله ده خفيف
خلى كالمك معاه بحساب .
ــ ماتقلقش أنا عامل حسابى .قالها وأهداه نظرة ثقة ثم أنصرف وتركه يصارع ذلك الكم الهائل من
المخاوف والقلق ثم قام من مكانه وأحتل كرسيا بموقع متقدم يصلح للمراقبة .
وسع منصور خطوته وقابل سليم قرب النصبة وأستوقفه :تعالى نقعد جنب الشباك .تبعه فى صمت
بشخصه الصعلوك المختال .جلسا صامتين وأخرج سليم علبه سجاير " كليوباترا" بدت فى يده مهدمة
إال من سيجارتين كأنه أنتشلها من تحت األنقاض .علق واحدة على شفتيه وناول األخرى لمنصور الذى
تسلمها ساهما يتملى فى ذلك الوجه الهزيل الذى تغشاه صفرة فأستجمع نفسه حين هبط عليه
إلهام البداية :تشرب أيه ياسليم ،تلفت ناحية جمعة المرابض خلف النصبة قبل أن يعود بعينيه :الصحيان
بدرى يلزمه واحد قهوة دبل .
ــ بدرى أيه اللـه يخر بيت أمك ده أحنا داخلين ع العصر .
ــ الخالصة مصلحة أيه اللى أنت عايزنى فيها .وسع عينيه وأستدعى جدية مطلوبة :أعدلى وشك عندى
وفوق لى كده وسلك ودانك .أستجاب ببطء :باين عليها مصلحة كبيرة أوى .بدأ منصور كالمه حذرا
ومغلفا :لو فى حد ياسليم مضايقنى وواقف فى طريقى وقاطع عنى نعمة ربنا وقافل فى وشى كل الببان
وأنا من جوايه مش طايقه وعايز أخفيه من قدامى ..نورنى بقى ياأبو المفهومية أعمل أيه ؟! مر بأصابعه
تحت أنفه كعادته قبل أن تظهر أسنانه الصفراء بفعل ضحكة سمجة :ماتعملش حاجة ..تقوله بخ !! مشى
منصور بكفه ماسحا شعره من المقدمة حتى المؤخرة يحبس غيظه :حلوة ولطيفة .ثم أشار بيده لجمعه :
283
هات يابنى واحد قهوة دبل عشان الخفيف يتقل ..أعدلى دماغك ياسليم أنا اللى عايزه منك تشيل من سكتى
اللى واقف قدامى ومانع عنى رحمة ربنا .
ــ عارف أنك جدع وأدها المهم أبقى أنا بعيد وبره الصورة وماليش دعوة بأى حاجة .
ــ وال تشغل بالك .قالها واثقا بدا وأن نفحة من طيب ثورة يناير قد بلغته فتمتع بكل الجرأة التى الحدود
والسقف لها .أردف :مش عايزك تقلق خالص والتعمل حساب ألى حاجة وأنت أدرى منى وشايف بعينيك
كله بقى سهل والدنيا بقت سايبة ومافيش حد بيحاسب حد وكل واحد بشوقه يعمل اللى على مزاجه .كلماته
حركت فى نفس منصور نوازع كامنة :واللـه كالمك أخر صح .هذه المرة فهم المعنى وأطمأن ثم سحبه
من يده المرتخية على الطاولة فمال معه سليم بصدره :قربلى وأسمعنى .أودع منصور فى أذنه همسات لم
تلبث أن تكشف عن أضطراب مالمحه :مش فاهم يامنصور .كرر األخير وهو يجاهد غضبته .أن تتوضح
فى وجهه وفى صوته :كالمى واضح ياحمار وع المكشوف عايزك تشوفلى تصريفه مع أمى وماتشغلش
بالك بأى مصاريف .كان يطعنه بعينيه ،يحك ذقنه بطرف أبهامه ونظرة كافية ليدرك منصور فداحة طلبه .
رجع بظهره للوراء مشبكا يديه مبديا دهشة بدت صريحة على عينه اليمنى التى تحمل تحتها ورما من
طول السهر .بينما فى تلك اللحظة كان عبده كامنا فى مكانه ،عقله قد توقف عن التفكيرمنذ لحظة أنفراد
أبنه بسليم بينما عينيه تعمالن بأجتهاد حين صرف عبده عفريت القلق وحل مكانه مارد التوتر وهو يتابع
جلستهما ،كأن يراقب انعكاسات الحوار على مالمح أبنه فى حين وجد صعوبة فى قراءة أى عنوان على
وجه سليم الذى ال يملك أصال سوى مالمح مشتتة بفعل المكيفات ..رفع سليم جفنيه بصعوبة :مش واخد
بالى ..قول كمان ! ..أعاد منصور ماسبق :بأقولك اللى عايز أزيحها من سكتى هى أمى .لم يستوعب
الكلمة األخيرة لكنه أفاق من ذهوله وأسترد لسانه قدرته على النطق عندما أستقرت ثالث ورقات من فئة
المائة جنيه فى راحة يمناه وهو يتلقى تنويها :دول حاجة ع الخفيف كده عشان تركز معايا وبعدها حتأخد
منى بالعبيط بس قرينى األول حتبدأ أزاى وحتعمل أيه عشان أنا عايز أخلص بسرعة .كان ذلك أخر
مايتوقعه سليم ..ظل يرمقه بعينيه الغائمتين قبل أن يجيب برأسه :ماشى ياأبو حجاج .
ــ طب ماتنورنى حتدير األمر أزاى .هرش جبينه التى تقطعها ضربة سنجة قبل أن يتوه بعينيه فى وجوه
الجالسين محاوال أيجاد أجابة ترضى منصور :أنت عايز أمك تختفى خالص وانهيلك الليلة بشادر
وعزا والعايزها معززة مكرمة على سريرها مشلولة والضريرة .
284
أستنكر كلماته ورد بنرفذة :عزا أيه ومشلولة أيه دى أمى ياأبن الحرام أنا اللى عايزه حاجة كده
على األد ..رحلة صغيرة مسافة كام سنة بس .
ــ آه أنت عايزها ترجع زنزانتها ..وماله يامنصور زى ماأنت عايز والتزعل نفسك أطلب لى شيشه بقى .
لم ينتشل عبده من متابعة نهاية المشهد إال عندما أنقطع حبله البصرى الموصول حتى طاولة أبنه حين
حضر " تشكك " وصنع حاجزا بجسده أمام عبده :مساء الفل يامعلم عبده ..مالك قاعد سرحان ليه ؟! مال
برأسه متجنبا وقفته :مش سرحان والحاجة ..تعالى أقعد هنا جنبى بدل ماأنت واقف فى خلقتى كده .مر
أمامه ببطء وجر كرسيا قبل أن يشير لجمعة :واحد شاى هنا يابنى عند المعلم عبده .رماه األخير بنظرة
تأفف سريعة ولم يعقب سوى بنفخة قابلها تشكك بأبتسامة باردة :يدوم يامعلم عبده .ثم مارس هوايته
وأستعرض نشرة أخباره التى ال يعلم أحد مصدرها :بيقولك القمح اللى موجود فى الصوامع يادوب يكفى
شهرين وبعدها مش حنالقى اللقمة الحاف ده غير كمان الرز والزيت بيقولك أخرهم شهر . .يعنى بالصال
عالنبى كده األيام اللى جابة حتبقى كلها سواد فى سواد .بدت كلماته كألة تعذيب تسوط رأس عبده
وتشوش تركيزه فتلوى فى جلسته :ياعم أسكت شوية أعمل معروف .
ــ يعنى أنا غلطان اللى بأفهمك الدنيا رايحة على فين ..الكالم اللى أنا بأقوله ده زى الدهب بيتوزن
بالجرام .كان ذلك كافيا ألستنفاذ صبر عبده :ياعم أنا مش عايز أفهم دماغى مصدعة وخربانة .صمت
بعدها تشكك حتى تسلم من جمعة كوب الشاى فأتشغل به فى حين الزال عبده منشغال بمتابعة عمود الدخان
المنبعث من فتحتى أنف سليم الذى كان يحاول جاهدا العثور على أجابة شافية ترضى طموح منصور الذى
تبادل معه حديثا هامسا كتبادل المنشورات فى زمن األحتالل بينما تمر الكلمات بينهما فى توتر فأستدعت
الحالة من سليم تعديل وضعية الفحم قبل أن يسحب نفسا طويال ممتدا و أطلقه فى وجه منصور كقنبلة
غاز :سيبنى تالت أربع أيام وأنا حأخلصك من المشوار ده كله من طقطق لسالمو عليكو بس أنت تقل
جيبك عشان الحكاية دى مصاريفها كتير وكل مايتصرف عليها صح حتخلص صح .
أستغرقت جلستهما قرابة تسع سجاير أحتل دخانها رئتى منصور ونفوق حجرين معسل فى صدر سليم
الذى رمش بعينيه داخل ساعته قبل أن يعلن عن رحيله تاركا جملته األخيرة تدور فى رأس منصور :
ماتشغلش بالك ياصحبى بعون اللـه ومن غير مقاطعة أمك حتعتكف فى السجن أقله خمس سنين وبعدها
تخرج منه ماتسمعلهاش صوت ده غير مكافأة السجن اللى حتاخدها وهى طالعة شوية سكر على ضغط
285
على ألتهاب مفاصل وبسالمتك تروح تستلمها متسندة ويكون فى أيدك بالصال ع النبى حمادة الصغير اللى
حيقولها كفارة يانانا !! .
0000000000000
حين مشت " هدى " مع التيار الهادر الذى يقوده خيرى ،أذهلتها كلماته وسلبت ماتبقى لها من مقاومة ،
لقد غير خيرى من أعماقها الكثير ،بدد خوفها وحررها من صمتها .لم تكن مغامرة لكنها الرغبة األكيدة
فى تغيير واقع تعيشه فى جفاء ،كى تدخل عالما جديدا لتغير من شروط الحياة ..لم تمر أيام على لقائهما
األول حتى تحول أقترابهما إلى لزمة من لزوم وجودهما معا . ،حكت له الكثير عن همومها .كان يجد لذة
فى المشاركة ،لم تنقطع أتصاالتهما فى ساعات النهار والفى سكون الليل .أصبح أكثر أهتماما بتفاصيل
حياتها وخصوصا عالقتها المتوترة بنورا .أحست بكل هذا الحب تجاه خيرى وأنها تورطت ،فلم تعد تجدى
صورة " نديم " وهو يسقط تحت ضربات المرض وال طيف ذكريات حبها القديم .ليس هناك من يوقف
زحف روحها اليه فأستقبلت كلماته مطروحة على ظهرها تنصت له وهى تفتش عن سبب واحد جعلها
جزءا من عالمه وهو يحكى لها عن صعود نجمه داخل الحركة السياسية فى حين كانت نورا حاضرة يوميا
وبوفرة فى مكالمتهما كما حكت له بشغف عن نجاحاتها المتوالية فى األتيليه ودورها المتنامى فى تسيير
إدارته بايعاز من زيزيت التى تحفظ لها الفضل فى تلك النقلة المفصلية وهى تنوه بسخط مجترة عذابات
تحفظها فى الذاكرة عن سنوات صعبة وظلم فادح ،أنصت لها وشاركها مرارة الذكرى إال أنه بدا واثقا فى
عالج أثار الماضى مستخدما كعادته أسلوبه السهل الحالم فجعلها تعيش الصورة قبل الصوت ..هكذا تبدأ
مكالمتهما أشبه بمذكرات يومية البد من تدوينها هاتفيا قبل أن ينهيها هو دائما بجملة رومانسية
صريحةالمكان فيها للكلمات الغامضة أو العبارات المبهمه متعمدا أن يرفعها من قاموس حواره ..لم يعد
األمر بينهما مخفيا وراء مصطلحات غائمة ،فراح يطرح أفكارا غير مكتملة تاركا لها الحرية فى وضع
نهايتها حسب مايتوافق مع مشاعرها .فصارت مكالمتهما الليلية ـ دون قصد منه ـ كجرعة دواء تبقيه حيا
ليوم قادم .نجح بجدارة فى خطف ثالث مواعيد فى غضون أسبوع واحد كانت كافية لتطهيرنفسيتها من
األرتباك والخجل وتحررت نسبيا من ماضيها العصيب وصارت هى شغله الشاغل .
باألمس كان لقاءهما الرابع بعد ألحاح شديد أثار دهشتها فقبلت رغم تخوفاتها من نورا أن تلحظ شيئا .
أستقل خيرى سيارته الـ " هيونداى " الزرقاء موديل . 2010كان قد عقد العزم على مصارحتها بضرورة
أرتباطهما بعدما منع نفسه من عرض األمر عليها هاتفيا كى يضيق عليها حصاره ويضعف حجتها وينتزع
286
منها موافقة .لم يكن متسرعا فقد أدار األمر فى رأسه عدة مرات ومن كل الوجوه قبل أن يطوقه أحساس
من يدرك أنه على وشك ضياع مرحلة أخيرة من حياته ،فتصاعد داخله صوت محرض الزمه بعد كل
مكالمة :مش فاضل فى العمر كتير ومافيش معنى للتردد ..أنا بحبها ومش قادر أعيش من غيرها .حشد
للفكرة .ردد بتعقل :الخطوة دى محتاجه جرأة وشجاعة .أحتار فى الطريقة التى يفاتحها ليعرض ماعزم
عليه ،حاول أن يتخيل موقفها وسط لحظات قلقه المتواترة :هل تقبل مايعرض عليها أم ستفضل الرفض
أو التأجيل ؟ كان يرى توزعها بين رغبتها نحوه وخوفها من أوالدها وخاصة نورا .إال أن مابينهما كان
غامضا ومثيرا فكلما حاول فك رموز نفسه أمامها كانت ظروفها تمنع ذلك مما يطيل لحظات األنتظار
والترقب فى حين كان لهدى من النباهة مايعينها على حسن التقدير ،فشاءت حكمتها أن تؤجل تسمية
عالقتها به مالم يتدخل عنصر رغم أرادتها .فظل خيرى يتحين الفرصة محبوسا فى فكرته حتى قرر
أعالنها اليوم .لم يعد األنتظار حال ،فأستنفر شجاعته وقرر القيام بخطوة أستباقية حين ضغط السؤال
المشرع فوق رقبته مثل نصل حاد :كيف سيتدبر أمره مع أبنه ويفاتحه ؟! .لم يأخذ وقتا طويال للتفكير .
راح يجمع شتات كلماته حين أستوقف أبنه قبل خروجه :لو مش مستعجل ياشريف أنا عايز أتكلم معاك
شويه .وضع يده على كتفه وتمشيا سويا حتى المدفأة قبل أن يبادره أبنه بضحكة وتعليق :أنت ناوى
تجندنى فى الحركة بتاعة عم برسوم .تلقى تعليقه بأبتسامة مصطنعة قبل أن يجلس :تعالى أقعد قدامى
وبطل تريقة .جلسا متقابلين ولم تفارق عيناه وجه أبنه الذى أستغرب نظراته :أيه الحكاية ..خير يابابا .
تردد ثم هم بالكالم :بقالنا كتير ماقعدناش مع بعض .
ــ أنت الصبح بتبقى فى الشغل وأنا نايم ولما حضرتك بترجع يادوب بناكل لقمة ع الواقف وبأروح شغلى
ولما بأرجع بالليل بأالقيك فى سابع نومه .ألتقط خيرى الخيط ووجد فى كالمه بداية تصلح :واللـه عندك
حق يابنى ..عشان كده أنا زهقت ومليت من قعدتى لوحدى طول اليوم من ساعة مابرجع من الشغل لغاية
تانى يوم الصبح .بحث فى عينى أبوه فوجد نظرة حذرة :الكالم ده معناه أيه يابابا ؟! نقلته تلك الجملة فى
عمق األرتباك :معناه ..سكت .كان يبحث عن كلمات ذات وقع وتأثير إال أنه أصدر نبرة مخنوقة :معناه
أنى عايش فى زهق وملل ووحدة والليل بقى شبه النهار وكله محصل بعضه .ظهرت أبتسامة فى عينى
شريف وفراسة فى غير موضعها :فهمتك يابابا شكلك كده عايز تسافر أمريكا عند نادر وقلقان تسيبنى
لوحدى .أغمض عينيه مبتسما :أمريكة أيه يابنى ..أنت دماغك راحت بعيد أوى .مال برأسه لألمام
وقرب عينيه يتأمله :طب فهمنى ؟ .
287
ــ أنا محتاج يابنى حد يقعد معايا ..حد يكلمنى وأكلمه ..حد يشاركنى فى لقمتى و لو تعبت أالقيه جنبى ،
أنا دلوقتى بكبر مش بصغر .
ــ هى أيه الحكاية بالظبط ؟ سأل شريف نفسه وهو ينظر لألمام متخطيا موقع أبوه الذى تابع :أنا بأفكر
أتجوز ياشريف .بهت األخيروكأن الدماء أنسحبت كلها فجأه من جسمه فأرتخت مالمحه ..صاحبته تلك
الحالة لدقيقة كاملة قبل أن يطرح سؤاال سيبنى عليه رأيا فيما بعد :يعنى حضرتك بتفكر وال خالص
قررت .تبخر الحذر واألرتباك :قررت ياشريف .قالها وأختلس نظرة فى وجهه عاين بها أثر جملته،
فوجده مغيبا شاردا .ساد بينهما صمت ..أدلى شريف برأسه لآلرض كردة فعل عفوية بينما تفهم خيرى
وجومه ومالمح الصدمة التى غزت وجهه ..أنتظر خيرى منه تصريحا أو تعقيبا ،بينما حبس شريف
أندهاشه وأشاح بوجهه ناحية صورة أمه فى إطارها العتيق و صوت والده يتعقبه :أنا مقدر شعورك
وعارف أن كالمى ده مش سهل عليك .لم يعقب أو ربما لم يسمع فهو اآلن يعيد أحداثا أختزنها بكل
تفاصيلها ،فأخذته طائفة من المشاهد القديمة فى سرعة البرق ،حاول أن يستوقف بعضها .فها هى أمه
تتمدد على فراش مرضها فى أيامها األخيرة فاردة ساقيها تتململ :أنا خالص ياوالد اللى فاضلى مش
كتير ..بس واللـه أنا حأبقى ماشية مرتاحة ومطمنة عليكوعشان معاكم أب عمركم ماحتالقوا زيه فى
أخالصه وخوفه عليكم وأنا متأكدة أنه حيكمل معاكم الرسالة لغاية األخر .
أنتظر لحظات قبل أن يصرح :حضرتك فكرت كويس فى الموضوع ده .أنشقت شفتيه عن أبتسامة :فكرت
كتير وأقتنعت ولما حتعرف مين هيه الخنقة اللى أنا شايفها فى وشك دى حتروح فورا .أنتابه فضول
لمعرفة ماتحمله الجملة القادمة لكنه أيقن أن باألمر مفاجأة .حبس أنفاسه .فأسرع خيرى ألختصار
الموقف :هدى ..اللى عن قريب حتبقى حماتك !! فلما سمع األسم يجرى على لسان أبوه أصابته هزة
تسللت إلى كيانه ،وليس يدرى آهو حلم أو حقيقة أم هما معا يصاحبانه وهو يتابع كلمات أبوه :عارف
أنها مفاجأة كبيرة بالنسبة لك ..بس مش بأيدى ده قدر مكتوب وماليش يد فيه .شاع فى وجهه كومة من
الذهول دفعته إلى أستغراب يحرك تساؤال حول العالقة بين أبوه وهدى :أزاى وفين وأمتى حصل كل ده
يابابا .أبتسم خجال ؟ هل تلخص هذه البشاشة الظاهرة مايريد أن يفهمه شريف ؟! .
ــ يعنى ..وده سؤال برضه يتسأل حصل زى ماحصل .ردد عبارته األخيرة تتخللها ضحكة متصلة .فى
حين أحتقن وجه أبنه وسكنه التوتر وتولته الدهشة وأيقن األن أن أبوه مقبل على حياة أخرى وباغته
شعور مفاجىء لم يعرف مصدره :هل هو من قلبه أم عقله حين شعر فى تلك اللحظة باليتم !! .
288
كان ينتظرها بسيارته بجوار سور مكتبة األسكندرية قبل أن يضطر لألنتقال إلى الرصيف المقابل حين أشار
له أمن المكتبة باألنصراف لدواعى أمنية .مكث متربصا بالطريق لعشر دقائق داخل سيارته برفقة صوت
" فيروز" إلى أن الحت له بخطوتها المرتبكة تحاذى سور المكتبة . .أستعمل موبايله لتوجيهها فتلقت
رنته بفزع :أنا راكن على الرصيف التانى .رفعت وجهها كأنها تتشمم موقعه كأنثى غزال فى موسم
التزاوج ..ضاقت عينيها حتى تبينته .أخرج لها يده ملوحا ..تأهبت لعبور الشارع وتصدت بطراوة
جسدها لغارة هوائية أتية من البحر كشفت عن مقاييس نموذجية تجعلها بأمتياز فى صدارة أحالم أى
رجل ،مشيتها اللينة تشى بمفاتن تعمل جاهدة على أحتوائها ..أسرعت بخطوتها تقتحم طابور سيارات
يمر ببطء وسط نظرات تطاردها من داخل السيارات ،تتحرك عيون الشهوة صعودا و نزوال مع أنتفاضة
صدرها المنتظمة ،شعرت بأنها هدفا لكل العيون قبل أن تفلت بجسدها وتجتاز الحارة األولى تاركة
مؤخرتها المرتجة داخل الجيب األسود نهبا لنظرات ثاقبة من الخلف :ربنا يباركلك فيهم .وسعت خطوتها
حين أقتربت من باب السيارة تلوذ بها كمن يهرب من مالحقة .تنفست الصعداء فور دخولها :يعنى
مالقتش غير الحتة دى تستنانى فيها .قطع خيرى أضطرابها وأنتشلها من توترها :أنتى بتاكلى أيه بالظبط
كل يوم بتزيدى جمال عن اللى قبله .أشاحت بوجهها مبتسمة قبل أن ترد خصلة شعر ألتصقت بحاجبها :
بطل وطلعنا من هنا .نظرة غير بريئه طالتها من عينيه قبل أن يحرر " الفتيس" :حنروح نادى التطبقيين
اللى ع البحر مكان هادى حيعجبك .خافضة الرأس :ماشى .أنتبه للطريق وأنطلق بينما تعمدت هى
األنكماش فى جلستها تجنبا لحصول مصادقة صاعقة تكون مصدرا لمشكلة عويصة .خفض صوت
" فيروز" التى ترثى "شادى" :قلتى لنورا أنت رايحة فين ؟ .
ــ زى كل مرة زيزيت عملت الواجب .أبتسم للطريق :بصراحة زيزيت دى ست مالهاش حل .
ــ ربنا عوضنى بيها لو تعرف أد أيه هى فرقت معايا ..ده لوالها كان زمان األيام كلها كئيبة .رمقها بنظرة
سريعة عاين بها جلستها المنكمشة :مالك قاعدة محشورة كده ليه ؟ .
ــ بصراحة أنا خايفة ..يوسف وبسمة مش فى البيت يعنى ممكن أوى حد فيهم يشوفنى وساعتها حيبقى
شكلى أيه ؟! .
ــ ماتقلقيش ياهدى وتوترى نفسك وبعدين يوسف وبسمة مافيش من ناحيتهم قلق خالص أنتى مشكلتك
كلها مع نورا .فتح تابلوه السيارة وسحب علبة سجائره تناول منها واحدة وأشعلها .راقبته :عندك حق
289
مشكلتى كلها مع نورا .قالتها بمرارة ،فالعالقة بينهما على كف عفريت ..معلقة ومتوقفة تقريبا لكنها
تمضى فى سكون وبال مشاكل والتزال هدى غير مدركة حتى اآلن لسر تغيرها .
أنتظرت لثوان قبل أن تضيف خبرا صادما :الحاجة الغريبة اليومين دول أنها مش عاجبها لبسى
وال شكلى .أستقبل جملتها بتجهم :شكلك ولبسك ..أزاى يعنى ؟ أنحرف يسارا قبل أن يختم أستفساره
مهدئا سرعته مفسحا الطريق لميكروباص قادما خلفه كالصاروخ :بتقولى مافيش حد دلوقتى معرى شعره
والبيلبس فساتين أو جيبات كله بقى محجب ماعدا المسيحيين والممثالت .رفع حاجبيه حين توصل لرد :
يعنى عايزاكى تتحجبى .هزت رأسها باأليجاب ..لم يلمحها فتابع :دى حرية شخصية ..وأنتى حرة فى
اللى تلبسيه ومن باب أولى كانت بدأت بنفسها .
ــ بصراحة أنا مش عارفة هى عايزة أيه بالظبط .لمحت فى جانب وجهه أصرارا حين قاطعها :أنا عارف
هى عايزة أيه ..بنتك عايزةتحجمك و تلغى شخصيتك ويبقى ال عندك كلمة وال رأى ،نورا بتعاقبك عشان
أشتغلتى فى األتيليه وبدأتى تثبتى وجودك وطبعا هيه مش عارفة تطفشك منه قالت فيه نفسها مابدهاش
حأشتغلها فى األزرق وأنتى قلتيلى بعضمة لسانك أزاى بتعاملك من يوم ماشفتنى وأنا بأديك الموبايل .
تأخرت فى التعقيب حين شعرت بنفسها محاصرة وسط صفين من السيارات عند أشارة األبراهيمية فأدلت
برأسها فى محاولة للتمويه فبدا صوتها مكتوما :من يوم حكاية الموبايل دى وأنا حاسة أنها مش طايقانى
وعصبيتها زادت أوى مع أنها مافتحتش معايا الموضوع ده تانى .أستفزته نبرة األستسالم فقاطعها وخرج
عن هدوءه :عايزة الصراحة أنتى المسئولة عن اللى نورا وصلتله ده أنتى اللى أدتيها الفرصة تفرد
عضالتها عليكى وتعاملك بالشكل المهين ده .تداخلت رأسها بين كتفيها وأنكمشت :أنا ؟! .
ــ أيوه أنتى ..طول ماهيه شايفاكى بالضعف ده والغلب ده ومابتاخديش منها موقف حتزيد كل يوم فى
هجومها عليكى لغاية ماتخليكى تستسلمى وتوصلك لحالة عمتها أيات يعنى التهش والتنش .أبتسمت
بأستخفاف دون أن تنظر إليه :والمطلوب منى طبعا أنى أوقفها عند حدها وأشدها من ودانها وأقولها عيب
اللى بتعمليه ده أنا مامتك مش بنت صغيرة بتلعب معاكى .تابعها مدهوشا حين أضافت :هو ده اللى
أنت عايزه .
ــ هو ده اللى المفروض تعمليه وتجبريها على أحترام خصوصياتك وتعرفيها أن دورها فى البيت هى أنها
بنتك وبس مش األمر الناهى فى البيت .قصدت الصمت وفضلت الوجوم بينما تابع خيرى يساره بنظرة
يائسة حين أصطفت السيارات وتكدست أمامه وخلفه فأعتصر عجلة القيادة بكفيه :الدنيا شكلها كده أخر
290
كعبلة .جالت بنظراتها خارج النافذة :طب وبعدين حنعمل أيه أنا الزم أرجع األتيليه ع الساعة خمسة .
كانت نظرة طويلة فى أنتظارها حين ألتفتت ناحيته :خالص مش الزم نادى التطبقيين كفاية على أنك قاعدة
جنبى .تجنبت نظرته ولم تجد ردا مناسبا على تلك الجملة وكأنها مربوطة معه بعالقة ليس لها هوية
أوشكل واضح .ربع ساعة مرت ولم تتزحزح سيارة خيرى قيد أنملة عن مكانها التى أنحشرت فى داخل
بركة راكدة من السيارات .بدا وكأنهما بمنفى أختيارى أصطحبا فيه " فيروز " كرهينة يساومان بصوتها
الوقت فأضفت عليهما ماتضفيه نار مدفأه فى ليلة شتاء باردة .بشاير حركة تنبض فى الحديد الممدد على
الطريق فأنفرجت مالمحه حين بدأ طابور السيارات يحبو ببطء كسلحفاة عجوز فأستدعت منه اللحظة أن
يتلو دعاء الطريق :يامسهل يارب ..أمتار قليلة وألتصقت العجالت باألسفلت وصار كل شيىء محنطا مرة
أخرى .نفذ صبره وهو ينظر لساعته :مابدهاش بقى .ألتفت اليها متأمال ثم مال بجانبه األيمن كأنه يهم
بأحتضانها .غادر صمته بعدما لملم شعورا فر منه فى الزحام :ماسألتنيش يعنى أنا ليه طلبت أقابلك
النهاردة .أشارة نفى من رأسها مشفوعة بأبتسامة كانت هى األروع وسط هذا الحصار :مش عارفة ! فرد
ذراعه وأحتضن مسند كرسيها :أنا بحبك و ..ثبتت عينيها بنظرة جانبية فطالت عينيه ومضة بريق :وأيه
ياخيرى ؟ .
ــ وعايز أتجوزك .مرت لحظة تجمدت فيها هدى جمود صنم ،وجمد الزمن نفسه خاللها كأنه يستجمع قواه
كلها كى يعتدل حول محوره قبل أن ينفضها زلزال الدهشة ،لم تستطع أخفاء صدمة العرض :أيه اللى
بتقوله ده ياخيرى .
ــ اللى سمعتيه ياهدى ..أنا فكرت كتير قبل ماأقولك كالمى ده ..مش شايف أى سبب يمنعنى أنا وأنتى من
األرتباط بالعكس كل الظروف اللى حوالينا بتقول أن هو ده الحل الوحيد ..تقريبا أنا عايش لوحدى وأنتى
كمان زى حاالتى حتى لو كان والدك حواليكى ..أنامحتاجلك جنبى ومن غير ماتكابرى أنتى كمان
محتاجانى ..مالوش لزمة ياهدى نضيع وقت أكتر من كده ..العمر ماعدش باقى فيه كتير .أنحنى بجبهته
حتى ضاقت المسافة بينهما وأحتقن وجهه وتابع متحمسا :تعالى نلحق اللى فاضلنا .أنهى جملته ثم راح
يقرأ فى هاتين العينين األنتظار ـ فلما بلغت نظرتها عينيه حاولت الصمود أمامهما ،شعرت بعمق كلماته
التى أصابتها بدوار .تمتمت وسط شرودها :مش عارفة !! .
أستجوبها :مش عارفة أيه ياهدى ..أنا بحبك وعايز أعرف دلوقتى أنتى عايزانى وال أل ؟! سؤاله سقط
على رأسها كجبل ! .كانا فى داخل السيارة فى عالم منفصل ومختلف تماما عما يدور فى الخارج من سباب
291
ولعنات وغبار وأبخرة عوادم .بينما فى تلك اللحظة المصيرية أصبح وجهها عنوانا لنظرته بينما فى
نظرتها أستغاثة وأستفسار وفى بسمتها تودد وانكسار ،وفى حركات يديها بطء وتعب :أنا ..بدت الكلمات
على لسانها كوالدة متعسرة .نظر فى أعماق عينيها فرأى األعتراف ناضجا ينتظر القطاف .أنقذتها عدالة
السماء حين نزلت على طريق الكورنيش وتحركت السيارات تباعا فألتفت إليها معاتبا :يعنى مش عايزة
تجاوبينى .ضغطت على لسانها العنيد أن يلين وينطق ،إال إنها تداركت لحظة الضعف وترجته :معلش
ياخيرى لمانتكلم بالليل حأقولك .أعقبت أقتراحها بأبتسامة ضعيفة .أردفت وهى تتابع الشارع :ياريت
نرجع عشان مانتأخرش .
ــ حاضر ياهدى زى ماأنتى عايزة .قالها ثم أنطلق فى األتجاه الذى جاء منه .أستعان بسيجارة ثانية تعينه
على لجم مشاعره ..نصف ساعة كانت هى تكلفة العودة ،مضت هادئة بسيطة تشاركهما فيروز الطريق
كرفيق ثالث .نظرة أخيرة فى وجهه مصحوبة بأبتسامة حين توقف بسيارته عند نفس نقطة اللقاء
أمام المكتبة .لم يتمالك نفسه ولم يجد لرصانته أثر أمام تلك العيون وعند ذلك الوجه الذى ينزف حمرة :
حتوحشينى لغاية ما أسمع صوتك بالليل .جملة كانت خارج النص وغير متداولة بينهما فقابلتها بصمت
زاد من جمالها قبل أن تسلت نفسها من داخل السيارة ومشت أمامه لبضعة أمتار بينما ظل واقفا بسيارته
فألتفتت تستطلع فوجدته ساهما يتفحص خلفيتها ،شعرت بنظراته تجردها من مالبسها فزاد أرتباكها
وتلعثمت فى مشيتها فأشفق عليها قبل أن تنفرج شفتيه عن أبتسامة وتحرك بسيارته ومر بحذاها فلمحته
بنظرة ركنية حتى تخطاها ،فهدأ الجسد المنتفض وأسترخت خطوتها وسرحت مع خيالها ..ظلت أفكار
تنسج أمامها موقفا .رأت فيه تحول مفاجىء فى عالقتها بخيرى ،فهى اليوم أشد عجزا من أن تفهم هذا
التطور فى سلوكه " ..بحبك وعايز أتجوزك" جملة صارت تالزمها كأنفاسها طول الطريق .أنتابها شعور
بالخوف طردته بسرعة ،فهى التريد أن يتملكها مثل هذا الشعور يوما ،تريد أن تنبذ الخوف من
حياتها .لكنها رغم عنف الدعوة المتسلطة لم تجرؤ أن تستجيب والزال عقلها حتى اللحظة يبدى مقاومة .
تلقت هدى مفاجأة أذهلتها حين أجتازت عتبة األتيليه بحثا عن زيزيت قبل أن تعثر عليها داخل مكتبها
الزجاجى فأسرعت إليها متسللة وبادرتها بسؤالها المعتاد قبل أن تلتقط أنفاسها :نورا سألت عنى ؟ .
ــ يوسف أتصل بيها من شوية وطلعت بسرعة ع الشقة من غير ماتفهمنى حاجة .أجابة غير متوقعة ظهر
تأثيرها فوريا على مالمح هدى التى تقطعت كلماتها :ليه ..فى أيه ؟ .
292
ــ الحقيقة مش عارفة ده أنا حتى أتصلت بيها من عشر دقايق عشان أطمن لقيت موبايلها مقفول .سمعت
تلك العبارة فأنسحبت مرتعشة ناحية الباب وهى تردد :أنا حأطلع أشوف أيه الحكاية ..أستر يارب .
خطفت الساللم خطفا حتى بلغت باب شقتها .أنتظرت لثوان تنصت قبل أن تفتحه ببطء ..أطلت برأسها
فواجهت ضجة بدأت بهمهمة قبل أن ترتفع صخبا ،كان مصدرها كل من فى البيت الذين تحلقوا حول
يوسف بمافيهم نعمة يتلقى التبريكات على دفعات وبعشوائية ..تخطت الباب ساهمة حين أحتل المشهد كل
مالمحها ..أقتربت بتمهل تدس نظرتها فى الدائرة المنصوبة حول أبنها ،فأنطلقت منها نبرة متفاءلة :فى
أيه ياوالد ؟ قالتها وهى تبحث عن أجابة فى عيونهم قبل أن تصلها على لسان يوسف الذى أنفلت
من حصار الدائرة المنسوجة حوله وقابلها مندفعا عند منتصف الصالة بفرحته وضحك ضحكته الواسعة
التى مايزال محتفظا بها منذ طفولته .فصرخ :نجحت ياماما ..خالص أتخرجت .صرخت معه وقفزت
وصفقت :بقيت مهندس يايوسف ..ألف حمد وشكر لك يارب .أحاطته بذراعيها وأحتضنته وهى تردد
تمأل فراغ الصالة :خالص بقيت مهندس ياحبيبى ..بقيت مهندس يايوسف .وكأنها تتأكد من صحة الخبر
ولم تجد أفضل من رد فعل أتت به نعمة على هيئة زغرودة أطلقتها فأبهرت الجميع .ولم تكن هدى لتعبر
عن الفرح الهابط عليها مثل ليلة القدر المنتظرة إال دمع ينحدر على خدها فال تستطيع أن تمسكه .تهدج
صوتها :ياسبحان اللـه دى أول فرحة تدخل قلبى من سنين .أنزاحت ببطء تسحب نفسها حتى المست
بأناملها سور الكنبة تجاهد نوبة بكاء تلح عليها فشلت فى حبسها ورافقتها حتى جلست تتخطفها رعشة
فرح ،فأحاطت وجهها بين كفيها ليمتزج فى راحتيها بكاء ضاحك ،فتحرك لها وتأمل الرأس المدفونة بين
الكفين فنزل على ركبتيه حتى صار فى مستوى رأسها :النهاردة بالذات ياماما مش محتاجين دموع ..
النهاردة الزم تفرحى وكلنا نفرح .أنشق كفيها عن وجه غارق فى الدموع :عندك حق ياحبيبى .أنحنى
بجبهته يقبل يدها المبتلة ..لحظات من الرضا العزيز عن النفس وعن العالم حين يمضى كل شيىء فى
طريقه سهال دون عقبات ..بدا عليه األرتياح وكأنه أدى واجبا ثقيال كان يجب أن يتمه ..أقتربت منه أيات
تختال فى مشيتها ورأسها المرفوع يحمل بصمات أعجاب وتقدير ..وضعت يدها على كتفه فألتفت إليها
قبل أن ينتصب واقفا مبديا أبتسامة حين أنصت لعبارات عمته األتية من قلب الماضى ترددها بأيقاعها
البطيىء .تسجل موقفا :مبروك يايوسف ياحبيبى خالص بقيت دلوقتى الباشمهندس يوسف نديم خليل
السبروتى .كانت تنطق األسم واللقب وجسدها يهتز منتشيا تذكره نظراتها المتطلعة لوجهه بأنه الذكر
الوحيد الباقى من عائلة منقرضة لم يعد لها وجود سوى فى لقب يتعلق فى ذيل تسلسل األسماء وفى بعض
المصطلحات التى تجرى على لسان أيات وبعض من النواهى والمحاذير واألوامر التى تصبغ دائما
293
كلماتها :خد بالك يايوسف الزم تعرف أنك الوحيد اللى حيحافظ على أسم عيلة السبروتى ..أنا عايزة
أسمك كده يجلجل فى كل الدنيا وتبقى مهندس مشهور ومعروف ألن ساعتها الناس كلها حتعرف أصلك
وفصلك وحتشاور عليك وتقول ده حفيد البهوات والباشوات ..سامعنى يايوسف .كانت عنيدة على غير
العادة صارمة فى نطقها وكأنها تنتزعه من فرحته لتحمله ماهو أكثر من الفرح نفسه .أستسلم لحماسها
الجارف مبديا موافقة صامتة عبرت عنها أبتسامته ،لم تمهله نورا فرصة التعقيب حين تسلمته قبل أن
تعتلى يدها كتفه فتوجه إليها بفرحته وعانقها فضغطت بيديها حول ظهره بعدما تنحت أيات جانبا
حين تالشت فرصتها فى الحديث عن الزمن الذى لم يعد زمنا .أبتعدت عنه نورا قليال دون أن تفارق يديها
كتفيه ..تتأمله صامتة ،ينتابها يقين اليقبل المجادلة بأنها فقط الوحيدة صاحبة الحق الحصرى فى
نجاحه ..المشاركة ..ال تلميح وال تعقيب .تملكتها رعشة كان لها صدى فى جسده فأصابه ماأصابها
فأرتج فى وقفته يتابع كلماتها وقد قاربت عينيها أن تلفظ دموعا :الحمد للـه وألف شكر لك يارب النهاردة
بس شفت نتيجة تعبى .سكتت لثوان ترصد فى مالمحه أنتصارا كان صنيعتها .أستخرجت من أعماقها
نفسا طويال تمهيدا للحظة أسترخاء حين أراحت رأسها على صدره تتحسس بنظراتها من خلف كتفيه طول
الصالة وعمقها التى تجرها لسنوات خلت ،لعلها خمس سنوات ،تذكرت عينيه وهى تعلنان عن شاب له
أصرار وطموح يطل من السنين القادمة .أستعادت مقولته المنتفضة بأداء المظفر :نتيجة التنسيق طلعت
وقبلت فى كلية الهندسة يانورا .وحين بادرت بضمه لصدرها تشاركه فرحته سارع يكمل جملته بعد أن
هدأت عاصفة الفرح التى أجتاحتة :بس كلية الهندسة حتحتاج مصاريف كتيرة أوى يانورا .لم تثنها
كلماته أو تربك حساباتها فسحبته إلى صدرها فى عنف وأصرار :ماتشغلش بالك بأى حاجة أنت مسئوليتى
ولوحناكل طقة واحدة فى اليوم لو حأشتغل ليل ونهار ..كله يهون لغاية ماتتخرج وتبقى مهندس يايوسف.
أعادها للحظة النجاح يربت على ظهرها :أنتى صاحبة الفضل على بعد ربنا وحأفضل طول عمرى مديون
لكى وإن شاء اللـه لما أشتغل حتعرفى أن كل اللى عملتيه دين فى رقبتى وربنا يقدرنى على رد جميلك .
فرحت بكلماته وشعرت بالمباهاة :الياحبيبى أنا مش عايزة أى حاجة كل اللى عايزاه أنك تحط رجلك على
أول الطريق و تثبت وجودك عشان اللى جاى صعب وزى ماأتحملت مسئوليتك طول السنين اللى فاتت
وكنت لوحدى حأفضل برضه فى ضهرك لغاية ماتبقى أحسن مهندس فى أسكندرية .أبدى موافقة
غيرمشروطة حين عانقها ودار بها دورة كاملة بينما راقبت بسمة بفضول نظرات أمها المنكسرة وهى
تتابع مشهد البطولة المطلقة التى تلعبه نورا .فهرب لونها حين أستشعرت بأنها المعنية وراء كل كلمة
رددتها أبنتها التى أعتادت على تلك التلميحات التى تقفز منها فجأة كأتهامات تغذيها نظرات جانبية كانت
294
تخفى فى طيأتها لوما ومعايرة .نظرات أفلحت لجعلها تقلب فى رأسها صفحات قاتمة تحمل تواريخ صماء
تدون على الجدران حين كان كل شيىء محبوسا ،الصراخ بال صوت والبكاء بال دمع ولحظات الفرح
تعيشها خياال الواقعا .فأهتزت شفتيها حين عدلت من وضعيتها المنكمشة فأشهرت كلماتها على رؤوس
األشهاد :أنا يمكن يايوسف ماعملتش اللى عملته معاك نورا وال حتى عشت معاكم يوم بيوم وال شفت
بعينى فرحكم وحزنكم لكن يعلم ربنا أنى عشتها كلها لحظة بلحظة كأنى شايفاكم قدام عينى ..أيام أمتحانات
الثانوية كنت شايفاك وأنت قاعد فى اللجنة بتمتحن وكنت شايفاك وحاسة بيك وأنت بتتنطط من الفرحة لما
النتيجة طلعت وكنت شايفة كل واحد فيكم لدرجة أنى كنت بأتخيل كمان شكل الهدوم اللى أنتو البسنها
وشكل الضحكة وطريقة الكالم وبالليل وأنا نايمه كنت بأحس بأنفاسكم وأنتو نايمين ..الفرق اللى كان بينى
وبينكم .سكتت لتوزع عليهم نظرة شملتهم جميعا .ثم عادت بصوت مخنوق :الفرحة كنتو بتوزعوها على
بعض وحزنكم كنتو بتشيلوه سوا أما أنا فكان فرحى زى فرح المجانين أضحك لوحدى وأتنطط لوحدى
وأكلم صوركم لوحدى ولما كان الصبر يفارقنى و السجن يضيق على لما أقعد أحسبها وأالقى أن لسه
قدامى فى الحبس سنين كتيرة أكتر من اللى عدت كانت تجيلى حالة هيجان أفضل أخبط بأيديه على الجدران
لغاية مايغمى على ويفوقونى وكنت أول ماأفتح عينى أدور فى الوشوش اللى حواليه ما أالقيش حد فيكو
وساعتها بعرف أنى لسه موجودة فى السجن ..لو أنتو تعبتم قيراط أنا أتعذبت سنين .أنهت كلماتها بسيل
من الدموع كان لها تأثير بالغ أصابهم بالجمود وقلب المشهد رأسا على عقب ،أما نورا فلم يزعجها سوى
أعراض التأثر التى أنتشرت فى وجه يوسف فأرادت أن تدخل فى صراع كلمات مع أمها وأن تبحث فى
قاموسها عن مصطلحات تكون أشد وقعا وتأثيرا إال أنها أمتنعت حين أتجه يوسف ناحية أمه يمسح
دموعها مبديا لها بعض الثقة :واللـه ياماما فرحتنا من غيرك كانت دايما ناقصة ومالهاش طعم وكنا بنعد
الساعات عشان نستنى يوم الزيارة ومافيش يوم كان بيعدى إال وأنتى حاضرة معانا .أمنت نعمة على
كالمه حين حضرت تحجل على قدمها :ده أنتى الخير والبركة ياست هدى والنهاردة يوم فرح مش يوم
دموع .بينما أستنفرت بسمة بقايا صخبها الذى بدأته منذ نصف ساعة وهرولت إليها :الياست ماما أنت
بتعملى الحبتين دول عشان تهربى من الحاجة الحلوة .
ــ الياحبيبتى شوفوا أنتو عايزين أيه وأنا أعمله .أندفعت تجثم على صدر يوسف :قول ياعريس نفسك فى
أيه ؟ تعلقت فى رقبة أخيها الذى دفعها بأبتسامة ثقة :ماتلزقيش فى كده أنا دلوقتى بقيت الباشمهندس
يوسف وخدى بالك مش أى مهندس أنا تلميذ مكتب المهندس ناجى يعنى راس براس مع أى مهندس شغال
بقاله عشر سنين .لفتت جملته أنتباه نورا :يعنى ممكن يايوسف تشتغل عنده فى المكتب .تصنع مشية
295
الواثق قبل أن يجلس بجوار أمه على كنبة األنتريه فاردا ذراعيه يتمايل برأسه .لحد دلوقتى لسه مش
عارف مستنى هدير لما ترجع من السفر ونشوف حنعمل أيه ؟! أجابته كانت سببا لقيام ثورة تفاؤل عبرت
عنها بسمة :يعنى فى كل األحوال شغلك مضمون .بحكم الغريزة قاطعتها هدى :سيبى كل حاجة على
ربنا وبطلى زن ! .
ـ أل ماتقلقيش من الناحية دى ياماما يوسف وراه البرنسيسة هدير ..يعنى الخير كله ! .
طعم النجاح اليوم له حالوة الينقصها هذه المرة سوى وجود هدير بجواره ،كان سفرها لتركيا مفاجئا
بالنسبة له ..أتصل بها فور أعالن النتيجة أبلغها بنجاحه غير أنه أعتقد داخله بأن فرحتها لم تكن كاملة
كما عهدها وان أجتهد لفهم ذلك إال أنه رجح أن يكون عدم وجودها إلى جواره هو السبب األصيل وراء
أحساسه .
فاجأتهم هدى تسحب نفسها ببطء وجفونها تقاوم األنكسار قبل أن تعلق حقيبة يدها على كتفها :أنا حاروح
أجيب جاتوه وحاجة ساقعة عشان نفرح كلنا مع بعض .قفز يوسف من مكانه معترضا طريقها :ال ياماما
خليكى أنتى أنا حأروح بسرعة أجيب اللى أنتى عايزاه .راوغته ومرت بجواره :أنت النهاردة العريس
خليك مستريح والواجب ده عندى .قبل أن تبلغ باب الشقة صرخت فيها بسمة :ونبى ياماما زودى الجاتوه
أبو شوكالته .
ــ ماشى يابسمة أنا عارفة طلبك .طمأنتها وأغلقت الباب خلفها .خرجت وشبحها يظلل همساتهم .
فأفصحت بسمة :واللـه ماما بتصعب على أوى .
ــ مش عارفة بس بأحسها كده حزينة ومكسورة كان نفسها ياعينى تبقى موجودة معانا وتشوفنا وأحنا
بنكبر قدامها .
ــ يعنى هو كان بأيدينا .كان تعقيبا أخيرا من نورا تجاوزته سريعا حين طرحت سؤالها البسيط الذى فتح
بعده حوارا ممتدا :لما أتصلت بهدير وبلغتها بالنتيجة قالتلك حترجع أمتى ؟ .
ــ يوم األتنين مع باباها ومامتها .ثم أنتظر للحظات قبل أن يكسب وجهه مالمح المفكر .أردف :فيه حاجة
غريبة قالتهالى فى أخر مكالمة أن باباها حيستنانى يوم التالت عندهم فى البيت .لم تخف نورا دهشتها :
296
أبوها عايز يقابلك ليه ؟! ..أنتعش بأمل اليعلم له سببا! ..ذهب مع منطق بدا له شاذا ،غير أنه راهن عليه
حين قال فى نفسه :أحساسى بيقوللى أن الحاج أحمد حيعرض على أنى أشتغل عنده فى الشركة .هو
مايزال يتذكر ذلك اليوم الذى أستقر فى ذاكرته مثل حرج حين أفضت له هدير بعبارات محددة عقب زيارته
األخيرة لها فى الفيال :بابا عمره مارفض لى طلب أبدا هو كل اللى يهمه فى الدنيا دى أنى أبقى سعيدة
ومبسوطة وهو عارف كل اللى بينى وبينك وماعندهوش أى أعتراض مادام حبيبى أبن ناس وبيحبنى
وكمان مهندس زيى .قابل أعترافها بوجه ضاحك تشهد عليه حجرة التصميمات فى مكتب المهندس ناجى
قبل أن تميل بصدرها على مكتبه تتحسس خده :يعنى بالبلدى كده ياسى يوسف مامتك داعيالك عروسة
غنية وزى القمر وبتحبك كمان ولما حتتجوز حتعيش مع بابا فى الفيالوكمان الزم تعرف سياتك أن مكانك
محجوز فى الشركة .قربت وجهها تداعب بأبهامها أرنبة أنفه :يبقى المفروض حبيبى يسمينى أيه ؟
توارت نظرته :مش عارف ؟! .
ــ سمينى الفانوس السحرى هى دى محتاجة تفكير .أحس بالمهانة ومط شفتيه .الحظت تغيره وأدركت
مالحقته كلماتها من تأثير بدا سلبيا ..تذكرت أنه دائما وأبدا يرفض هذا المنطق فى التفكير وأن أبدى فى
مرات كثيرة موافقته على العمل عند والدها .طأطأت رأسها وأمسكت بشحمة أذنه وأبتسمت خجال :نسيت
يايوسف أنك مابتحبش طريقة الكالم دى والبترتاح حتى لتفكير بابا .كان يرى أن عمله كمهندس فى شركة
والدها فكرة مشروعة حيث أنه سيحاول جاهدا أن يثبت كفاءة ويحقق نجاح مما سيسهل عليه تحقيق بقية
أحالمه وأولها أرتباطه الرسمى بهدير .
عاجلته عمته التى تتبعت شروده بسؤال فضولى :وهدير مالمحتلكش بأى حاجة ؟ .
ــ واللـه أبدا ياعمتى .شاركها حالة الفضول وهو يجرجر من الذاكرة مواقف وأفعال ..كان أمرها غريبا ،
لم تتطرق على األطالق لموضوع زيارتها المفاجئة ليوسف فى البيت حتى إذا بادرها واصفا أعجاب أمه
بها وبهديتها ،كانت تبتسم دون تعليق وعندما يمازحها :حماتك بتسلم عليكى وبتقولك خلى بالك من
أبنها .كانت لها أجابة مختصرة :اللـه يسلمها !! .كان غريبا أن يستعيد تلك المواقف فى تلك اللحظة حتى
أنه مضى يستعيد ذلك مرات كطالب يستعد لألمتحان .
تتوالى المشاهد ذهابا وعودة ،ماذا توحى ليوسف ،وماذا يرى وأى مشاهد عليها أن تمر فوق شريط
ذاكرته ،كى يدرك ،يحس القادم ،والقادم ماخاطب به نفسه :مصيبة لتكون هدير عرفت حاجة عن
موضوع ماما ؟! لم يستطع أخفاء ذلك الهاجس وصرح به لنورا التى صدته :أبعد األفكار الهبلة دى عن
297
دماغك يايوسف ..لو هدير كانت عرفت أى حاجة عن ماما ماكنتش سكتت كل الوقت ده والدليل على كده
أنها قالتلك على ميعاد سفرها لتركيا .
ــ كالمك معقول يانورا .سكتت مخاوفه ؟ ،إال أن ذاكرته لم تهدأ وأسترجع لقائه بها فى المكتب الهندسى
فى اليوم التالى لزيارتها ،لم يلحظ عليها أى تغير سوى أنها ترفع حاجبيها المقوسين فيما اليعرف يوسف
أن كانت قد فعلت ذلك لغضب وربما لدهشة أو أرتياح .أقحمت بسمة نفسها بهمجية معتادة :ماتكبرش
المسائل بقى وتبقى قلوق ..هدير بتحبك وبتموت فيك وخد منى الكلمتين دول لوجه اللـه يابنى ..أبوها لما
حيقابلك يوم التالت حيقولك روح أستلم شغلك ياباشمهندس فى الشركة !! .أكتفى يوسف بتلك األراء ودخل
غرفته تلحق به بسمة تتابع معه بشغف نتائج شلته المقربة حين علقت عيناه بشاشة الكمبيوتر يطالع
صفحة التعليم العالى التى أخبرته بأن أيمن وأحمد ورضوى بات تخرجهم مؤجال لعام أخر بينما تراقب أخته
بأضطراب :أنتو السابقون ونحن الالحقون .تابعت مايحدث كبروفة أخيرة لما سيكون عليه حالها بعد
يومين عندما تظهر نتيجتها .توقف يوسف عن المتابعة حين سمع أمه تزرع ضجيجا فى الصالة
كمسحراتى لحوح :الجاتوه وصل ياأهل البيت .
مر بقية اليوم أسريا هادئا بأمتياز ..بدت جلسة أستثنائية .دارت أحاديث عشوائية بال ترتيب ،عرجت
فيها أيات إلى زمن العلم األصيل ،كما تعتقد حين أشارت بشجن لعصر كان فيه العلم منظومة مقدسة مبدية
أعتراضها الشديد على مايتم تداوله حاليا تحت رقابة ورعاية مايسمى بوزارة التربية والتعليم التى تعتقد
بل تجزم بأنه أسما حركيا للتمويه حيث الصلة له بالتربية وال التعليم ،ثم أدارت نورا الحوار فترة ليست
بالقصيرة حين أسترجعت مجموعة مواقف لمشوار يوسف التعليمى ،ذكرته وذكرت المستمعين بمرحلة
صباه حين كان يمتلك جسدا تكسو فيه العظام لحمه فكان أقرب لصورة الهيكل العظمى المتصدرة غالف
كتاب العلوم األعدادية فترتفع ضحكاتهم إلى سماء الصالة تقطع صمت يوسف وتنزعة من تتبع أحالمه
التى باتت قاب قوسين :هى الحفلة دى لى وال علي .
ــ الياحبيبى دى لك ..ده أنت النهاردة فرحتنا الكبيرة .رأى أبدته أيات بينما أنتبه الجميع لنعمة التى رددت
بجدية :ماحدش ينسى النهاردة وأنتو فرحانين كده فضل األستاذ خيرى على يوسف لما كان كل يوم
ياعينى يقعد يذاكر له بالساعات .فقدت هدى ثباتها حين سمعت أسمه ..ضحك وجهها وتمنت من قرارة
قلبها أن يدوم الحديث عنه إال أن بسمة بددت أمنيتها حيث سحبتهم ألمر ثانوى :أنا حأشغل أغانى ..
عايزين نفرح .ثم وقفت فى وسطهم كمقدم األفراح :تحبوأشغلكم أيه ؟ سبقتهم هدى بعفويه :فيروز !.
298
كان أختيارا مريبا أدخلهم فى حالة دهشة عبرت عنها نورا حين توقفت عن هز رجلها :فيروز ..وأنتى
تعرفى فيروز منين ياماما ..أقصد من أمتى بتسمعى فيروز ؟ ! .أدركت تسرعها فى األختيار فدارت
موقفها بتقمص حالة السذاجة :مش عارفة هيه جت كده ! .مالت نعمة تهمس فى أذن أيات :هى فيروز
دى بتاعة أغنية معايا لاير .ضحكت أيات وردت بسمة :دى بتاعة حبيتك بالصيف يانعمة .
أنتصف الليل ورفع النوم شعاره وهتفت الحناجر بالتثاؤب فأنفرط عقدهم وتسربوا فرادى قبل أن يسجل كل
منهم كلمته األخيرة :مبروك يايوسف .فى تلك اللحظة رن موبايل هدى على أستحياء من داخل جيبها
فأصابها بفزع نشطت على أثره حدقتيها حين تزاحمت عليها العيون كالجانى تحاصره األتهامات فأضطربت
كلماتها وهى تنظر فى الموبايل :دى زيزيت ..مش حارد عليها لحسن تمسك دماغى وأنا تعبانه وعايزة
أنام .كان المتصل خيرى ،أحتوت أرتباكها ونجحت فى األفالت من ردود محتملة فأختصرت الموقف :
تصبحو على خير .قالتها وهى تتجه لغرفتها ..فتحت الباب بسرعة وأضاءت النور قبل أن تلصق ظهرها
به وأغمضت عينيها أغماضة طويلة :الحمد اللـه عدت على خير .ثم فتحتهما على هاجس ينمو داخلها :
كانت حتبقى مصيبة لو نورا قالتلى هاتى الموبايل أرد على زيزيت .هزت رأسها حمدا للـه على نجاتها
وسارت بخطوات ثقيلة نحو سريرها والزمتها مقولة :الحمد للـه ..الحمد للـه .تمددت وشردت لدقائق
تستعيد أحداث يومها الحافل المثير .حاولت ترتيبها حسب أهميتها .لم تسعفها اللحظة حين أرتفع صراخ
" السامسونج " الجاثم على بطنها ..أخرسته بضغطة متوترة قبل أن تتهيأ بوضعية األستعداد ،زحزحت
جسدها للوراء فى نصف جلسة وأول مانطقت به :خليك معايا دقيقة واحدة ياخيرى .قامت بهدوء وتوخت
الحذر حين هبطت السرير وتسللت حتى باب الغرفة ،فتحته ببطء ..جالت بعينيها فى أتجاه الصالة
والطرقة ،لم تجد أحدا فأوصدته بتأنى ووجهها يتصاعد فيه القلق ..عادت لوضعيتها مرة أخرى ..همست
قبل أن يعتلى " السامسونج " أذنها :معلش ياخيرى كنت بطمن فى حد صاحى من الوالد .كتمت ضحكة
كادت أن تفلت منها حين طرح سؤاله األول :العروسة قررت أيه ؟! .بحثت عن أجابة تصلح .النهاردة
بالذات العروسة ماقررتش حاجة ..يوسف نتيجته طلعت والحمد للـه نجح .أبدى فرحة :الزم ينجح ده
تلميذى ..ربنا يوفقه فى اللى جاى إن شاء اللـه .عزز الخبر من قوة طرحه :متهيألى كده األمور
حتبقى أسهل كتير .أصابها الهمس بحشرجة مفاجئة حين كررت كلمة " أرجوك " فأعادت صياغتها بنبرة
أوضح :عشان خاطرى ياخيرى خلى األمور تمشى واحدة واحدة ..هو أنت مش قلتلى أنك بتفهم كويس
فى السياسة يعنى أكيد عارف أن فى حاجة أسمها المرحلة األنتقالية .أرسل لها ضحكته المثالية قابلتها
299
بأبتسامة وتابعت :أنا بقى لسه فى المرحلة دى ووضعى لسه ماأستقرش فى البيت ده يادوب لسه بأقول
ياهادى يعنى ماينفعش أخد خطوة زى دى من غير ماأعرف نتيجتها حتكون أيه .
لم يجادلها كثيرا ،كان قد أتخذ قرارا مسبقا بأتباع سياسة الخطوة خطوة وأن يتسلل إليها بهدوء كى يتمكن
من فك شفراتها دون أن يصطدم بظروفها الملتبسة :ع العموم أنا مش حأستعجلك ياهدى لسه قدامنا وقت
لغاية مااللى أنا عايزه يحصل .
ــ اللى طلبته منك النهاردة .دقائق وبدأ مفعول كلماته يسرى فى جسدها كمخدر فأستسلمت مطروحة على
ظهرها وتباطأت عيناها عن الدوران فى الغرفة تحشد نظراتها فى بياض السقف كأنه شاشة عرض ترى
من خاللها صورته ،فتحاصرها عيناه الموغلتين فى العمق ونبرات صوته الرتيب تنخر فى كيانها فتصيبها
بالتنميل بينما هو فى طريقه لخسارة معظم صفاته الوراثية والمكتسبة وكأن فيروسا ال فكاك منه يهاجم
عواطفه المحسوبة ورصانته المعهودة وبات مقتنعا بأنه مستهدف من قوى قاهرة أجتمعت عليه فى
ضحكتها وسكونها ..فى نظرتها وفى خجلها ..بات ضعيفا وأيقن أنه فى حالة متأخرة وبات عاجزا عن
ترويض أندفاعاته .
فى تلك األثناء وعلى غير العادة أنشق جفنى نورا تحت الحاح أنتفاخ المثانة التى أقلقتها من نومها وقامت
مجبرة تتخبط سعيا وراء أفراغ حمولتها ..خرجت من غرفتها تهم برفع جلبابها فى طريقها للحمام مارة
بباب غرفة أمها الموصود ،غير أنها توقفت فجأة حين أستقبلت قرون أستشعارها لهمسات صادرة خلف
الباب ،فكانت دعوة صريحة للتصنت فأنجذبت كالمغناطيس وإلتصقت بالباب ..تجمدت فى وقفتها وبدا
وجهها عاريا من الدماء حين إلتقطت صوت أمها :أنا مش عايزة مشاكل مع والدى كفاية اللى أنا فيه .
أنقطع الصوت للحظات قبل أن يعاود األرسال بثه وسط هدوء اليعكره سوى صوت أنفاسها :واللـه أنا
بأتكلم معاك دلوقتى وخايفة لحسن حد من والدى يصحى ويسمعنى ..ياريت تقدر ظروفى ياخيرى .حين
أخترق أسم " خيرى " أسماعها كتمت أنفاسها وفتحت فمها بدهشة أطاحت بأتزانها فأغمضت عينيها
لدرجة أوهمتها بأنها قد أصيبت بـ " جلطة " .تجاهد للحفاظ على وقفتها قبل أن تدلى برأسها لألرض
تبحث عن فهم ،فأستقلت أفكار تروح وتجىء وهى تتحسس وجهها فى محاولة ألستيقاف أى منها
والتركيزعليها .دقائق غير معلومة ظلت واقفة غير قادرة على األستيعاب إال أنها نفضت رأسها وأختارت
المواجهة وهمت بفتح الباب ،لكن شيئا منعها فى اللحظة األخيرة ..تحررت أنفاسها وأولت الباب ظهرها
300
وعدلت من وجهتها وأتخذت طريقها للصالة وأنهارت عند أول كرسى .جلست واجمة ..بدت لها الصالة
على سعتها بقعة ضيقة بينما الصداع يضغط على رأسها فأزاحت خصالت شعرها عن وجهها وضغطت
بأصبعيها على جبينها ،أصبح رأسها مزدحما بتحليالت وتخيالت ،فأصداء المكالمة تحولت فى رأسها
لقضية رئيسية تشاورت فيها مع نفسها عن كيفية إدارتها ..كان من أوجه األختالف لديها أتسام المشهد
فى آن واحد بالتنافر واألنسجام عندما بدأت الرؤية تتضح وتنكشف بعدما أستشفت مايدور .أبتسمت نصف
أبتسامة مائلة وهى تجز على أسنانها :هى الحكاية كدة ؟! شعرت بنفسها أمام معادلة جديدة ..بدت حائرة
وغير مستقرة ،مفكرة بالطريقة التى يجب أن تخرج بها من المولد بما يكفى من حمص .صارت تلك
المكالمة تحبسها فى دائرة من الترقب لخطوة قادمة .
000000000000
قرر يوسف أن يعفى نفسه من هم التخمين وقلق األنتظار حين تهيأ للخروج من غرفته أستعدادا للذهاب
إلى فيال هدير تلبية لدعوة والدها التى وجهتها نيابة عنه فى آخر مكالمة .وطأت قدميه حدود الصالة
تتصاعد منه أبخرة الـ " وان مان شو" .بدا وسيما كفارس أحالم ،ترجل مستعرضا طوله وعرضه اللذان
سترهما بقميص أبيض مفتوح تقطعه خطوط زرقاء نحيفة طالقا سراحه خارج " كمر" بنطلونه الجينز
الضيق الذى أضفى عليه لمسة شبابية وهو من ترشيحات بسمة الذى أستقر عليه .حين بلغ منتصف
الصالة وجد موكبا ينتظره .تواترت عليه نظرات عمته أيات ونعمة وبسمة التى ترمقه فأغتبط بنظراتها
وأحس بأنتفاضة سعادة حين تفحصته بعناية :مالبستش القميص الكاروهات الكحلى ليه ؟ .تحركت ناحية
مرآة " الكونسول" وألتفت اليها بنفور قبل أن يهتز بقامته الطويلة يضم طرفى قميصه فى معاينة دقيقة
يتداول تفاصيلها مع المرأة :الطقم كله اليق على بعضه ياجاهلة .شعر بالخجل من وقفتهم خلفه ،
فأستدار لهم متصنعا هيئة الواثق :بتبحلقوا في كده ليه ..أنتو محسسنى أنى رايح أقابل أوباما .قالها
وعاد للمرآة ،طبطب على شعره األسود الناعم الذى ورثه عن أبوه ..ومن خالل المرآة كانت عمته أيات
تبدو األقرب خلفه ،شبكت يديها على بطنها وتملته ..بدت مشوشة فى وقفتها ..لمحها قبل أن تفض
أشتباك يديها فأنتظرها فى المرآة حين أقتربت منه حتى أصبحت كظله ..رفعت يمناها فوق كتفه لتجعله
يلتفت إليها بعدما أستقر رأيها على تالوة بيان مقتضب .أستدار إليها مبتسما بوضعية األستماع :عايزاك
تسوق بهدوء وعقل لسه بدرى على ميعادك .كان ذلك أول بند فى برنامج التحذيرات واجهه يوسف
بالحجة :عربيتك أصال ياعمتى يادوب بتمشى لسه ماتعلمتش الجرى .لم تعلق وأنتقلت لفقرة ثانية :أى
301
حاجة باباها يعرضها عليك ماتقبلش بتسرع ولهفة خليك تقيل وبينله أنك متردد مرتبك كأنك بتفكر يعنى
خليك رزين فى ردودك وأياك تنسى أن أبوك هو المرحوم نديم وجدك خليل السبروتى يعنى الزم همه كمان
يفهموا الكالم ده كويس ويحطوه فى أعتبارهم .أبتسم ولم يعقب وأستمر فى تظبيط شعره .أحس بكلمات
عمته تستقر داخله حين غاص بنظرته فى المرآة فبدت له مالمحها تناوشه ،تقترب وتبتعد وكأنها تنبع
من ذاكرة مشوشة ،كان يستعيد مالمحها يوم ذهابه للمدرسة أول مرة عقب دخول أمه السجن ،كانت
نفس الوقفة ونفس النبرة المتحمسة المتباهية :ماتخجلش من أى حاجة يايوسف وأياك تحس بمهانة
والضعف خليك فاكرأنك أبن نديم وحفيد خليل السبروتى .شجعته الذكرى فألتفت اليها وأنتزع من وجهه
أبتسامة وهو يتفرس مالمحها :حاضر ياعمتى ..بس المهم دلوقتى العربية بتاعتك دى حتوصلنى لغاية
سموحة وال أل ؟! قالها وعاد للمرآة مرة أخرى باحثا عن تفصيلة تستحق التنظيم حين رجع للخلف فى
مراجعة نهائية ..كاد يصطدم بأمه التى هرولت خارجة من غرفتها تجر قدميها ومن خلفها أطراف
" الروب " .أقتحمته ودارت حوله تتفصحه من قدميه حتى رأسه :بسم اللـه ماشاء اللـه ياحبيبى ..زى
القمر .أعتدل لها مبتسما ..الح لها وجهه ،تأملته ورات على صفحته ماكانت تظنه مفقودا .تراقصت فى
عينيها آمال جديدة طالما أنتظرتها .كانت بجانبه تطوقه بنظرة حين مدت يدها داخل جيب " الروب"
وأخرجت مصحفا صغيرا حاولت أن تدسه فى جيب بنطلونه الضيق ،فشلت محاولتها فتناوله منها ووضعه
فى جيب قميصه :خليه فى جيبك ماتشلهوش يايوسف حيحفظك فى كل خطوة .
ــ حاضر ياماما .تنحنحت بسمة وهى تنقربأصبعيها على كتفه :هو أنت يابنى حتروح كده أيد ورا وأيد
قدام مش حتأخد معاك هدية تدخل بيها ؟ كانت مالحظة هشة أفضت إلى سؤال القيمة له فأرادت أن تبدى
مالحظة أخرى فكان عقابها صرخة أطلقها يوسف فى وجهها وهو ينظر فى ساعته :كفاية بقى يابسمة أنا
أتأخرت .
ــ ماشى ياعم المهندس حقك .مسح تحت عينيه غير مبالى :نفسى تطلعى منها .
ــ بقى كده يايوسف ده أحنا لسه فى أولها وبتقولى أطلعى منها ..ربنا يدينا زيك .ناولها أبتسامة
مصطنعة :ماشى يابسمة لما أرجع .أستوقفته نعمة حين فكت أسر لسانها قبل أن يتخذ طريقه للباب .
نطقت بجدية التتناسب مع وهن نظراتها وثقل لسانها :أول ماتدخل عتبتهم تقول فى سرك قل هو اللـه أحد
تالت مرات .أضافت عليها أيات :وأنت داخل من باب الفيال خليك فارد كتافك وخلى خطوتك هادية .
302
ــ حاضر ياعمتى .قالها وأنسحب من بينهم وقد تالشت عنه القدرة على األصغاء .بينما عيونهم تتابعه
وتالحقه حتى فتح باب الشقة ليصطدم صدره العريض بباقة زهور بنفسجية تصدرت مدخل الباب .مال
برأسه يمينا ويسارا ثم أطل من فوقه ليجد أبتسامة عريضة تنتظره مصدرها وجه نورا التى دفعته بيدها
للداخل وبصوت الهث :تعالى أدخل .تراجع خطوتين :أيه بوكيه الورد الجامد ده .
ــ ده ياحبيبى تأخده معاك ..ده حيبقى قيمتك وأنت داخل .تسلمه منها بيدين متصلبتين وكأنه فى
مراسم تكريم .
كانت مفاجأة بالنسبة له وجد فيها أضافة وحضور راقى .وضعت يدها داخل شنطتها ومازالت تحتجزه
بجسدها بينما هو يرقبها وهى تطوى ورقة بمائتين جنيه وتحشرها فى جيبه :خليهم معاك ماتعرفش
الظروف حتبقى أيه .كانت الجملة الواقعية الوحيدة وسط زحام الكلمات منذ خرج من غرفته .أستوقفته
بعينيها :أول ماتوصل عند باب الفيال رن على عشان أطمن أنك وصلت .تلك كانت أخر أمنية أبدتها نورا
قبل أن يتخلص يوسف من كوكبة الحريم موليا ظهره لهن خارجا كمتهم أخلى سبيله بكفالة .خرج برأس
تحوى كمية ال بأس بها من النصائح والمحاذير والتوجيهات تاركهم نهبا لمناخ تصاعدت فيه األمال
وصارت األحالم مشروعة ..أيقن الجميع أنهم على أعتاب عصر جديد .
أستقل يوسف المصعد حفاظا على هيئته ..لحظات وكان متدفقا بخطواته فى وسط المدخل حين أستوقفه
نوح بأبتسامة :مبروك ياباشمهندس واللـه فرحتلك فرح كبير أوى وأن شاء اللـه تبقى زى المهندزين
العظام اللى بنسمع عنهم زى المهندس حسن فتحى وأمثاله .أبتسم دون تعليق تعمد الصمت لعله يحصل
على ختام سريع لكلمة نوح الذى فاجأه بمواصلة الحديث مستدعيا أمورا باتت فى ذمة التاريخ :زمان كان
الشاب اللى بيتخرج من الهندسة كان الزعيم عبد الناصر أبو خالد اللـه يرحمه يسحبه على طول ويعينه
عندنا فى أسوان يشتغل فى السد .كان يتحدث بال توقف بينما يوسف بات القلق والضيق شبحان يتحركان
فى وجهه متملمال فى وقفته وينقل بوكيه الورد من اليمنى لليسرى لعلى نوح يتوقف الذى مازال يتابع :
عشان كده يابنى المهندس المصرى سمعته سابقاه فى كل مكان ..لحقه يوسف بنبرة صارمة حين تراجعت
مالمحه :الياعم نوح لغاية كده وحلو أوى أنا ورايا ميعاد مهم دلوقتى وبكرة أن شاء اللـه نتقابل عند
الخواجة كرم ونشوف حكاية المهندسين دى .أنهى كالمه ولم ينتظر ردا وأنطلق من أمامه تاركه يتساءل
فى دهشة :ماقالش حنتقابل بكرة الساعة كام .
303
فى تلك األثناء أنفض مولد المودعين ،أنسحبت بسمة تشد نورا من يدها وصحبتها الى غرفتهما وهى
تنوه :عايزاكى تساعدينى فى تظبيط طقم شيك عشان بكره عندى ميعاد مهم جدا جدا فى الكلية ..
تفحصتها بتنهيدة ونظرة حادة ،فأمسكت بسمة لسانها عن مزيد من التفاصيل ودخلتا الغرفة .فى حين
توجهت هدى أيضا لغرفتها تردد أثناء مشيتها :ربنا يوفقك يايوسف وترجع مجبور الخاطر .ثم أغلقت
بابها فأحدث صريره المعتاد .بينما أنحرفت نعمة ناحية المطبخ لعمل فنجان قهوة كما طلبت منها أيات التى
دخلت غرفتها تحمل ذكريات تنبض من جديد .بدت هذه الليلة على شاشة الذاكرة تعيدها لزمن " معهد
الكونسرفتوار " زمن قديم يستقر فى قاع رأسها .مسحت وجهها بكفيها وألصقت ظهرها بظهر كرسيها
الهزاز وأغمضت عينيها ببطء وقبل أن تنزلق الى هاوية الذكريات فتحتهما حين دخلت نعمة فأردفت أيات
وكأنها تسجل موقفا :ياه يانعمة ..الواد يوسف النهاردة فكرنى بالذى مضى أيام ماكنت بأروح المعهد لما
كان شاكر لسه مدرس بيانو على أده وكنت بأخرج من البيت على سنجة عشرة .مصمصت نعمة شفتيها
وصوت هزهزة فنجان القهوة فى طبقه يتراقص بفعل يديها المرتعشة فيضفى موسيقى تصويرية لمشهد
أسترجاع أيات ..هى ترى أنها نفس الحكاية لكن فى زمن مختلف .
ــ واللـه عندك حق ياست أيات ..هو كان فى حد أدك لما كنتى تلبسى التايير المشجر والحزام األحمر
أبو وردة كبيرة ماسك على وسطك اللى كان زى العجمية .
ــ آه يانعمة ..زمن ! تناولت الفنجان الذى لم يتطلب منها سوى أربع رشفات لتنهيه قبل أن تتسلمه منها
نعمة كالعادة مكفيا فى طبقه لتتقمص كعادتها دور قارئة الفنجان بينما تتابعها أيات وهى تلملم نظراتها
داخل الفنجان بانتظار التشكل األخير لبقايا البن فى القاع ،راحت نعمة تدير الفنجان فى كفها مغرقة فيه
نظراتها ،ولكأن وجه أيات قد صار كله حاسة واحدة كبيرة تنتظر الكلمات التى ستفرج عنها هذه الشفاه
الداكنة السمرة .أختلست نعمة نظرة فى أتجاهها بطرف عينها النائمة :بعد الخسارة مكسب كبير
ياست أيات !! .قالت عبارتها المبهمة ثم غاصت ثانية إلى قاعه تفك طالسمه .ثم أردفت :اللى باين قدامى
أن فى خسارة قريبة حتحصل هنا فى البيت .لكن بعد نقطتين تالتة حيبقى فيه خير كتير ..والزعل حينزاح
على جنب هوه باين ومنور فى الفنجان وكله فى علم الغيب .أستقبلت أيات كلماتها بنفخة ضيق وخيبة
أمل :هو أحنا لسه فينا حيل يانعمة نتحمل خسارة ؟ .
ــ ده أحنا زى الفل ياست أيات واللى جاى بإذن اللـه حيبقى أحسن .تأملت مالمحها التى ذابت بفعل الزمن
تتسرب منها نبرة ضعيفة مصحوبة بنظرة يأس :هيه لسه فيها اللى جاى ..ماخالص يانعمة ماعدش فى
304
وقت ما راحت علينا وكتر خير الدنيا ..يعنى بالبلدى كده أحنا ماعدش لنا لزمة الجوه البيت وال براه .
أرخت جفنيها على ضحكة ساخرة .أردفت :أنا وأنتى يانعمة عاملين زى اللى راكبين حنطور على طريق
سريع الكل بيجرى من جنبنا بعربيات زى الصاروخ وأحنا أصال مش عارفين إن كانت حزمة البرسيم اللى
أكلها الحصان حتوصلنا لغاية فين .أطلقت ضحكة على تعبيرها األخير لكنها ضحكة لها طعم المرارة ..
رفعت نظرها للسقف تئن :آه ..بقيت كركوبة وماليش عازة .أبتسمت لها نعمة وبحثت عن رد مناسب
حين أعتدلت فى ركنها :أيه اللى بتقوليه ده ياست أيات ..ده أحنا لنا لزمة ونص أحنا زى الملح فى األكل
يعنى لومالناش عازة مش حتبقى فى حاجة أبدا لها طعم !! .
شعورها كان هادرا حين تضاعف ألم الخسارة فى نفسها بينما عينيها تتخذ طريقها ناحية النافذة مستجمعة
ذكريات صارت كلها فى بطن األرض .غامت فى رأسها كل الذكريات واألمنيات واألحالم وباخت أرادة
الحياة ،و أن كل ماكان يخصها ككأئن حى فى تلك الدنيا كان قد أوشك على األنتهاء .
سحبها خيالها إلى بقعة مظلمة تخترق عتمتها شعاع أبيض كثيف أرتطم بوجهها فأعتصرت عينيها
تتحاشاه ..صارت فى وقفتها ككتلة صماء واجمة إال من عينين تتحركان بصعوبة تحت ضغط الشعاع
الوقح الذى تتبعت مصدره بصعوبة حتى أنتهت إلى شاشة عرض سينمائى من طراز الرعيل األول ..بدت
أبتسامتها مكسورة حين أجتاحت رأسها مشاهد تنساب فى ترتيب عجيب كفيلم تسجيلى يلخص مواقف
تاريخية عن شخصية مهمة ..عبر الشاشة العتيقة وقفت مشدوهه حين بدأ العرض ..صورة غائمة
تكشف عن شريط سينمائى ردىء يؤرخ لمرحلة الحرب العالمية الثانية ..صور باهتة ووجوه قديمة
تطمس مالمحهم نمنمات بيضاء كبقع فطرية تطفح على الشاشة وخطوط طولية متقطعة تظهر وتختفى ،
صورة أجبرتها على كرمشة عينيها وهى تجول فى الوجوه كمعاينة مبدئية حتى الح لها وجه أمها المندس
بين الوجوه وقد لصقت على جبينها الفتة صغيرة كتب عليها " العام " 47تتحرك بثقة فى الهول الكبير
تدهس بأقدامها سجادة فارسية أصيلة المنشأ وصوتها الراقى يصدح فى البيت الكبير :يانعمان الغدا
حيكون أيه النهاردة ؟ .أبتسمت أيات الصغيرة وأنتفضت بشعرها المجعد فى زمن برىء من األستشوار
"والبيبى ليس" والكرياتين حين أجاب نعمان الطباخ النوبى :النهاردة ياسوت هانم الغدا شركسية
وكوشك الماظية والحلو كراميل .صدى صوته يتردد فى أذنيها حتى اللحظة ،كان لسواد وجهه سكينة
تنبع من أنعكاس بياض أسنانه حين يطالعهم كل صباح بأبتسامتة التى تصنع فيهم أمانا غير مفهوم ..
قفزت أيات بعينيها للقطة كانت فى خلفية الصورة دون إرادتها لحظة ظهور الستارة الزيتى الضخمة التى
305
تحبس خلفها نافذة عمالقة ،تأملت حركتها الرتيبة وكأنه عصر ربيعى بال رياح وال عواصف .ألتئمت
شفتيها بعدما فارقتها األبتسامة حين أنفصلت عيناها عن خلفية الصورة إلى مركزها متتبعة ببطء جسد
أمها المسجى وأبوها إلى جوارها بوضعية األنحناء يمسح بيده الجبين الذى فقد السخونة ..أتسعت عينى
أيات حين أختلطت أمامها التفاصيل بين الجسد المسجى ودموع األب المكلوم ودهشة " نديم " الصغير
حين توقفت أمه عن أحتضانه عندما قررت إال تجيبه أبدا وهو يلح عليها :ماتسيبنيش ياماما .أصابها
المنظر بتسارع النبض وذبول المالمح حين رافقت عيناها المشهد حتى لحظة التسليم والتسلم التى تمت
بهدوء بين أمها وعزرائيل فى حضور مؤثر لوالدها الذى فرد ذراعيه يطوى تحتهما نديم وأيات .صوت
مبهم لم تتبينه كان مصاحبا للمشاهد يعلق على األحداث التى تمر أمامها عبر الشاشة ،إال إنها بعد تركيز
وتدقيق تمكنت من األمساك بتالبيبه عندما كرر الصوت العريض لزمة رافقته مع بداية كل مشهد
" ولما كان " صوت منغم جلى النبرات ..مالت برأسها قليال موجهة أذنها ألعلى لتقوم بوظيفتها لتتأكد من
شخصية صاحب الصوت تزامنا مع حركة شفتيها البطيئة المترددة بعدما توصلت لهوية المتحدث الذى
تمثل أمامها على شكل خيال ضخم يتحرك قادما من أعلى الصورة تصحبه رهبة وخطوة مزلزلة ..ظل
يتقدم حتى أمتألت به الشاشة ،فأطبقت أيات على خديها بكفيها ككماشة كرد فعل مفاجىء حين أنسحب
الخيال للوراء إلى وسط بقعة الضوء التى أظهرتة جزءا جزءا بدءا من القدمين وحتى العنق بينما أيات
الزالت تحت طائلة األنتظار والترقب منتظرة ظهور الوجه ..نشطت حدقتيها تواكب كلماتها المرتبكة :
ياربى ..أم كلثوم .قالت جملتها بذهول وفتحت فرجة صغيرة فى شفتيها المطبقتين :أنتى ياست اللى
بتعلقى على الفيلم بتاعنا .أجابة توضيحية بصوتها الرخيم :التاريخ مش بتاع حد ياأيات ده تاريخ يعنى
يخصنا كلنا وأجدادك ماعاشوش منعزلين فى زمن لوحدهم ده كان زمن يخص بلد بحالها يعنى الكل كان
مشارك فيه من أول محمد على وأحمد عرابى وسيد درويش والسعداوى وعم سليمان ومصطفى كامل
والسالطين واألمراء والملوك وعبد الناصر والسادات كل دول كانوا جوه الزمن فى ماكينة التاريخ اللى كان
كل واحد منهم يادوب ترس صغير جواها .تلقت أذنيها تلك الجرعة الفلسفية بمالمح مدهوشة وأستفسار
برىء :قوليلى ياست مين السعداوى وعم سليمان دول .طرحت سؤالها وأقتنصت أبتسامة من وجه الست
حملت كل األجابات والمعانى :السعداوى ده راجل فالح بسيط عنده تالت قراريط فى قريتى بيزرعهم
خضار وعم سليمان ده بواب العمارة اللى أنا ساكنة فيها فى القاهرة وماتستغربيش أنى قلت أساميهم وسط
مشاهير التاريخ ألنهم ببساطة كانوا برضه موجودين معاهم فى نفس مشهد الزمن وجوه التاريخ والحكاية
بس شوية فروق بسيطة فى األدوار واحد بيلعب دور السلطان والتانى بواب الكل موجود ومشارك وعشان
306
كده ماينفعش أقول مثال زمن أم كلثوم لوحدها من غير ماأحط فيه شندى الجزمجى اللى كان بيلمع جزم
الفرقة بتاعتى قبل ماتطلع على المسرح .حاولت أيات أسكات كل األسئلة واألستفسارات قبل أن تختار
واحدة منها :والكالم ده معناه أيه ياست ؟ .
ــ معناه أن كل واحد كان موجود فى الوقت ده هو كان مساهم فى شكل وطعم الزمن بس فيهم اللى كان
واضح أوى فى الصورة وفيهم اللى كان مخفى عن العين لكن المحصلة أن كله كان موجود فى الصورة ..
فهمتينى ياأيات .خلعت دهشتها :صح كالمك ياست .غادرت أم كلثوم بكيانها الفارع يتبعها ظلها حتى
أختفت من المشهد تاركة صوتها يكرر :ولما كان ..أنشق قاع الشاشة معلنا عن ظهور مهيب لوالدها
الذى خرج برأسه أوال ثم بقية جسده صعودا حتى أكتمل بنيانه شامخا فى وقفته .مرت عليه أيات تطوف
حوله تتحسسه بأناملها كأنها تقيس طولها بطوله الذى أحتواه داخل بدلة صوف أنجليزى وصديرى لميع
أشبه بواقى رصاص يتدلى من جيبه الصغير ساعة " زوديك" معلقة فى سلسلة ذهبية أضفت عليه وقارا
فوق وقار رأسه التى يسندها طربوش أحمر يحفظ توازنه ..تداعت الصور بأيقاع أسرع وصارت الشاشة
خالية من الغيوم وفى تحسن مستمر وهى تطوى السنوات وتأكل مراحل وحقب ،بدت أكثر حداثة حين ظهر
والدها وقد طار طربوشه وراء زمنه ورحل الصوف األنجليزى مع أصحابه إلى أن حانت لحظة التاريخ
المضطربة التى وقع فيها أسيرا داخل بوتقة زمن أنقلبت فيها الثوابت وتبدلت األوضاع حتى برزت لقطته
األخيرة فى ركن الشاشة والتى توقفت أمامها أيات طويال حين منحها بقايا نظرة قبل أن يرخى جفنيه
مستسلما لقدر حام حوله لساعة كاملة تخللتها وصيته األخيرة :خلى بالك من نديم ومن نفسك .ثم أبتسم
أبتسامة أخيرة حين صرح قبل أن تنهار وظائف جسمه :أحنا يابنتى ساللة أصيلة ..بس ياخسارة بقينا
نتعد على الصوابع وياريت لما تتجوزى أنتى وأخوكى تبقوا تخلفوا عيال كتير أوى عشان .لم يكمل ولم
تعرف أسبابه فتحاشت النظر اليه وهو يرحل " ..ولما كان " ..كانت مصحوبة هذه المرة بعينى أيات التى
أمعنت فى وجه جديد تراه ألول مرة مع منتصف السبعينات فكان بجدارة أفرازا حقيقيا لمجتمع
" معاك جنيه تساوى جنيه " كان أنعكاس لمرحلة أنزوت فيها الرومانسية وأنحسرت قيم الرجولة
والشهامة ككماليات غير ضرورية فى زمن طفحت فيه األنتهازية والوصولية كفقاقيع فى مرحلة أحالل
وتبوير للشخصية المصرية وتحولت إلى سمة من سمات هذا العصر وصمت الجميع بطباعها ،فكان
" شاكر" واحد من أقطابها .ظهرت مترنحة فى وقفتها تصرخ منفعلة فى وجهه ..كان مثار دهشتها أن
صرختها بال صوت ومازاد أستغرابها وتوترها حين وجدت نفسها محشورة داخل بدن " أم كلثوم " تقف
وقفتها وتهتز هزتها حتى األيشارب كان معلقا فى يدها بينما الصوت الذى أنفجر منها وخرج مشروخا كان
307
صوتها ..كانتت تعتلى مسرح سينما " ريفولى" رفعت رأسها لتقابل الميكروفون النازل من أعلى ،كانت
تهتف" ياظالمنى " بدت كأستغاثة أطلقتها بكل ماتبقى لها من قوة ..زلزلتها المفاجأة حين هدأت صرخاتها
وأنفعاالتها لتجد قاعة خاوية إال من نفر واحد له نظرة مكسورة ووقفة خجولة ..ضاقت عينيها حتى كشفت
مالمحه ..شاكر! .لم يقدم لها التحية بل أستدار هربا من نظرتها التى سبقته والحقته حتى رحل مذعورا .
جرت المشاهد فى تتابع بين لحظات فرح عاشتها مع نديم أيام نجاحه وزواجه ولحظات أنكسار تجرعتها
فى طالقها وماتالها من مرحلة الحبس األنفرادى التى أختارتها مرورا بوفاة األخ الوحيد ..وفجأة وقبل أن
تنزل كلمة " النهاية " أنطفأت شاشة العرض وأظلمت قاعة التاريخ .أتخذ األمر من نعمة نداءين ملحين
كى تعود أيات من رحلتها داخل آلة الزمن وهى تنادى فيها :أيه التوهان ده كله ياست أيات .بدت األخيرة
كمجذوبة ندهتها النداهة وهى تردد ساهمة :ولما كان ..ولما كان ! .
الزالت بسمة فى تلك اللحظة واقفة أمام دوالبها واضعة يديها حول خصرها تتفحص فى حيرة مالبسها
المعلقة كأضحية العيد باحثة عن طقم ترتديه لمقابلة الغد بينما نورا على سريرها ممددة بجسد مسترخى
وعين تضيق وتتسع بغضب مكبوت وهى تتابع ظهر أختها الذى يميل ثم يعتدل أمام الدوالب
فكان جزاء ترددها صيحة أنفعال صدرت عن أختها :بقالك ساعة واقفة قدام الدوالب محتارة عشان
تختارى حتلبسى أيه ..يكونش فرحك بكره وأنا مش واخدة بالى .أنهت أنفعالها مشموال بنظرة حادة
كانت رادعة لفض األشتباك بين أختها والدوالب قبل أن توارب ضلفتيه ثم سارت بحذر حتى أستقرت
أمامها :طب قومى ساعدينى يانورا وأختاريلى طقم على مزاجك عشان رايحه بكرة مع أمجد الكلية
حيسحب شهادة التخرج بتاعته .قالت عبارتها بأستحياء ..واجهتها نورا ساخرة :شهادة التخرج ..
بسم اللـه ماشاء اللـه ..واألستاذ أمجد ده ماقالش لسيادتك خطوته الجايه أيه ؟ بعفويه :مش فاهمة ؟! .
ــ يعنى بيخطط أليه وال ناوى يهبب أيه ..فى مشروع حيعمله مثال وال وظيفة مستنياه وال حيكملها صياعة
وحيلف بيكى فى الشوارع .أشاحت بعينيها مبتعدة عن وجه كساه الغضب :بكرة حأعرف يانورا .
أنتزعت األخيرة ظهرها من ظهر السرير ومالت بصدرها حتى باتت فى مواجهتها :هيه لسه فيها بكرة ..
ماتسيبك بقى من الهبل والعبط اللى أنت عايشه فيه ده ..أنا نفسى أعرف أنتى عاجبك أيه فى البنى أدم ده ،
شاب عادى وأقل من العادى كمان ال له مستقبل والعنده حاجة يتسند عليها ظروفه متنيلة ماحيلتهوش أى
حاجة يوحد بها ربنا يبقى أنتى متمسكة بيه ليه وعلى خيبة أيه ؟ ثم نظرت فى عينيها طويال كأنها تنتزع
منها أعترافا :ماتجاوبينى يابسمة ؟ لم تعترف ..شردت لثوان .كانت دائما ما تدخل فى صراع مع عقلها
308
حول تركيبة شخصيته ومفردات طباعه الذى دائما ينتهى لصالحه .كم تكره هجوم أختها المفاجىء
وتدخلها السافر فى عواطفها وترفض بأصرار منطق الوصاية وفكرة كونها غبية ومغرر بها ،أنها تدرك
تماما أيجابيات أمجد وسلبياته التى أصبحت محل نفور جميع من أقترب منه .كان على قناعة بأنه سيتبدل
متى أستقامت أحواله ،وأن مافى أذهان األخرين عنه بأنه أنتهازى ومنافق ليس ناشئا إال عن لبس،
وبالرغم من ذلك فان شيئا ماكان يدفعه فى عناد عن أدراك الحقيقة كاملة ،بينما هى تعلم جيدا أن له طموح
عابر ألمكانياته وقدراته ،فهو اليقبل الحياة على نحو ماتعرض له ..كان ينتظر من الحياة شيئا أخر غير
هذا الفقر وهذا النقص .
قاطعت نورا شرودها :سؤالى صعب للدرجة دى وال مش القيه رد ! أرتعشت بنبرتها :أنا بحبه يانورا وكل
اللى قلتيه عنه مايعيبهوش بالعكس أمجد طموح جدا وعنده أحالم كتيرة ومستنى الفرصة عشان يحققها
كلها وآهو على األقل أحسن من شباب كتير ..تعالى عندنا الكلية وشوفيهم عاملين أزاى وال بيفكروا فى
أى حاجة ..نصهم تافهين والنص التانى عقله ضارب ،واللـه يانورا أمجد كويس جدا وبيحبنى بجد .
تعالت أنفاس األخيرة ولم تتفوه بكلمة وأكتفت بنظرة " أرف" تجاهلتها بسمة وواصلت دفاعها :تقدرى
تقوليلى أيه الفرق بين أمجد وشريف ؟! سؤال مباغت غير متوقع أرتطم برأسها مباشرة ،حاولت أستيعابه
بهدوء مبالغ فيه وتحاشت الرد وأنسحبت بعينيها بعيدا عن وجه أختها المتحدى التى تولت األجابة :
األتنين تقريبا زى بعض متخرجين من نفس الجامعة ومستقبلهم همه األتنين فى علم الغيب واألتنين
ماحيلتهومش حاجة ال ورث والفلوس وال أى حاجة .خرجت جملتها األخيرة بأنفعال ثم سكتت ألتاحة
الفرصة لنورا كى تعقب أو تدافع ،إال أنها أكتفت بنظرة غاضبة كانت محرضة لبسمة لمواصلة هجومها :
لو عايزة الصراحة ومن غير زعل أمجد فى نظرى أحسن من شريف بكتير على األقل مش ساكت عايز
يعمل حاجة بيفكر ويخطط عشان يثبت وجوده بعكس شريف اللى مصدق لقى شغالنة أى كالم فى مول
لزق فيها وقال أحمدك يارب وراضى بيها ومبسوط مادام عمو خيرى بيصرف على البيت ومعونة أخوه
نادر مظبطاه ..يبقى بذمتك ودينك مين األحسن شريف وال أمجد ؟! .ضغطت نورا أضراسها فأصدرت
صوتا يشبه " الخربشة" كمن يمضغ رمال فتحرر لسانها المحبوس كثور هائج مطلق السراح :بالبساطة
دى وبالبجاحة دى بتقارنى شريف أبن سميحة هانم واألستاذ خيرى علم الدين بحتتة عيل كله على بعضه
مايساويش أتنين جنيه ..أنتى خالص عقلك ضرب وأتهبلتى بقيتى مش عارفة أيه اللى يفيدك وأيه اللى
يضرك ،الواد ده بيلعب بيكى وبيشتغلك وواخدك سلمة وأنتى زى الهبلة ماشية وراه معمية ال قادرة
تشوفيه على حقيقته وال تفهمى حتى شخصيته الطماعة ..ياخسارة .أنهت هجومها الحاد ثم نظرت لها
309
نفس النظرة التى كانت تحذرها بها من األخطاء دون أن تنطق بحرف .كان عليها أن تعود لبداية الحديث
حين شرعت تتهمها :أنا مش قادرة أصدق أيه التغيير الفظيع ده من أمتى يابسمة بتردى على الكلمة
بكلمتها وبتجادلينى بالبجاحة دى وكمان عايزة تطلعينى غلطانة وأنتى عارفة كويس أوى أنى أنا الصح ..
كل ده عشان سى أمجد ..معقولة ؟! سكتت بعد كلمتها األخيرة ترسم ذهوال وأنسحبت للوراء وعينيها لم
تفارق وجهها تدقق وتنفحص كمن يشخص مرضا قبل أن تلقى عليها أستنتاجا توصلت اليه .أردفت :أنا
عارفة كويس مين اللى لعب فى دماغك كده وغيرك وخالكى تتكلمى معايا بالطريقة دى .بدت كلماتها
كلكمات قوية قضت تماما على مظاهر األحتجاج فتراجعت بسمة وغطى وجهها خجل وأرتباك :واللـه
ماكان قصدى أزعلك أنتى فهمتينى غلط ده كان يبقى أخر يوم فى عمرى لو قصدت أضايقك .ثم مالت
عليها تدلك ركبتيها طمعا فى أبتسامة رضا لم يحن وقتها .فتابعت توضح سالمة موقفها :ومين فى الدنيا
دى بحالها يقدر والحتى يفكر يلعب فى دماغى " " SORRYيانورا فى النقطة دى بالذات أستنتاجك مش أد
كده ده أنتى حبيبتى وأختى وأمى وصاحبتى وكل حاجة لى فى الدنيا .سحبتها تلك الكلمات إلى منطقة هدوء
وأرتياح ،فأطبقت عينيها فى أغماضة طويلة جعلتها تسكن وتطمأن لوضعيتها فى نفس أختها ..فقط
مايعنيها أن تحتفظ لنفسها بالقدر الكافى الذى يضمن لها الصدارة دون أدنى مشاركة من أى طرف يهدد
سلطتها أومكانتها ،دون ذلك فترى فيه تهديدا صارخا ويسحب ماتبقى لها من أسباب الحياة .أخيرا نالت
بسمة نظرة رضا عبرت عنها أبتسامة واسعة من نورا قبل أن تجذبها بعفوبة إلى صدرها فأستسلمت لها
دون مقاومة وعادت لسيرتها األولى فأراحت رأسها على نهدى أختها التى مرت بأصابعها على الشعر
الهش تعبث فى خصالته فأصابها خدر كاد يسلمها لغفوة إال أنها أبت األستسالم حين أنتفضت ترفع رأسها
فجأة كمن أستعاد ذاكرة مفقودة :إال قوليلى يانورا أنتى عايزة ماما تتحجب ليه ؟! سؤال طرحته بال
مقدمات وعلقت عينيها فى وجه أختها التى أنزاحت للوراء وطرحت رأسها على الوسادة فاردة ساقيها
ونبرة مسترخية :كل الستات اللى فى سنها محجبات مش عجبة يعنى ..هيه أشتكيتلك ؟ كأنها تنفى تهمة :
ال واللـه دى كانت بتسألنى عن محالت طرح كويسة عشان حأخرج معاها نشترى كام حاجة .صمتت كأنها
تتدبر أمرا .أفصحت :وحتخرجوا أمتى ؟ .
ــ يعنى يومين تالتة .بدا جوابها مهما لها وكأنها ستبنى عليه الحقا ترتيبات هامة فى أطار خطة وضعت
تكتيكاتها عقب سماعها للمكالمة الليلية التى دارت بين أمها وخيرى بعدما أختلت بنفسها فى غرفتها
ودرست الحدث المفاجىء من كل جوانبه ..كانت تحتاج بشدة لخلق أزمة لتهيئة األجواء لما ستقدم عليه ،
فبدأت بتنفيذ أول بند فى خطتها حين سددت عدة نظرات لتليفونها المحمول وهى فى وضعية التأمل
310
واألستنفار وكأنها تستلهم منه الخطوة القادمة بعدما عبثت به للحظات قبل أن ترفعه فى مواجهة عيناها
تتدبر فكرة راسمة قوسين بحاجبيها ثم أتجهت بأبهامها فى ضغطة مفاجئة أظهرت لها قائمة األسماء
فأختارت منها دون تردد أسم " شريف " .وجهت نورا نبرة تحذيرية خاطبت بها أختها :عايزاكى تبلغينى
بالظبط حتخرجى أمتى مع ماما .تجاوزت عالمة األستفهام وأستفسرت بفضول :ليه يانورا ؟! .
ــ من غير ليه هو أنا مش من حقى أعرف حتخرجوا أمتى ! .ردها سمح لها بأبداء دهشة :أنا مش فهماكى
ماتقولى فى أيه بالظبط .
ــ بصراحة كده بفكر فى حاجة حتعرفيها بعدين بس ياريت ماتكونش ماما موجودة فى البيت فى الوقت
ده ! .خبطت الكلمات رأسها ورغم محاولتها الحفاظ على مساحة األحترام إال أنها طرحت تساؤال :أنتى
متضايقة من ماما ليه يانورا ..حاسة بيكى كده أنك مش مبسوطة من وجودها معانا وده باين أوى فى
معاملتك معاها البتكلميها والبتقربى منها والحتى بتشاركيها فى أى حاجة ودايما معاملتك معاها ناشفة .
كان عليها أن تتظاهر بطبيعتها :يعنى عشان مابتكلمش كتير معاها والبأقرب منها يبقى ده معناه أنى
متضايقة من وجودها ..طبعا أل يامتخلفة ،بس كمان هى الزم تفهم أن وضعنا وظروفنا كلها أتغيرت
دلوقتى وبقى كل واحد فينا عارف دوره ومسئوليته فى البيت يعنى ماينفعش حد يظهر لنا فجأة ويبقى عايز
يغير لنا النظام اللى مشينا عليه كل السنين اللى فاتت .
ــ بس ماما ماقالتش أبدا أنها عايزة تغير نظامنا والتقلب حياتنا دى حتى أصال مابتتدخلش فى أمورنا
خالص المن قريب والمن بعيد .
ــ من غير ماهى تقول والتحاول المفروض أنها تمشى معانا زى ماأحنا ماشيين .قالتها بأداء من يتبنى
نظرية فاشية أقصائية بينما شعرت بسمة أنها فقدت القدرة على التواصل والفهم :طب هى أيه اللى عملته
بالظبط خالكى تقلقى كده .
ــ أنا فاهمة ماما كويس وعارفة أيه اللى بيدور فى دماغها ..هيه عايزة ترجع الزمن بضهره عايزة
ترجعنا زى ماكنا من تسع سنين ضعاف الحول لنا والقوة عشان ترجع تتحكم فينا وتخلينا محتاجين لها
ويبقى مصيرنا فى أيديها تانى عشان ترجع تدمرنا زى مادمرتنا وحطمتنا قبل كده بسبب تصرفاتها
المجنونة واللى كلنا بندفع فيها تمن لغاية دلوقتى من سمعتنا وكرامتنا وكفاية أنها حرمتنا من وجود األم
فى وسطينا فى وقت كنا محتاجين لوجودها .سكتت اللتقاط أنفاسها المتهدجة .ثم تابعت بنظرة ثابتة فى
311
عينى أختها :عشان كده مش مسموح لها أبدا ترجع تتحكم فينا تانى ..خالص هى خدت فرصتها كاملة .
لم تتفوه بسمة بكلمة واحدة تاهت فى المفردات والمعانى بينما تستعيد نورا بعصبية مابدأته :تقدرى
تقوليلى هى فكرت ليه فى حكاية الشغل فى الوقت ده بالذات ؟ أبتلعت ريقها بصعوبة :يعنى تغيير بدل ماهى
قاعدة لوحدها طول اليوم .
ــ أل طبعا مش ده السبب عشان المنطق بيقول أن األنسان اللى بيبعد عن بيته سنين طويلة لما بيرجع تانى
بيبقى ماسك فيه بأيديه وسنانه ويبقى مش عايز يفارقه لحظة واحدة عشان يعوض سنين البعاد .
ــ ماما كل اللى بتفكر فيه أزاى ترجع زى األول وتبقى مسيطرة ع البيت وعلينا وترجع تتحكم فينا والكل
يسمع كالمها من غير مناقشة وده طبعا ماينفعش يتحقق إال لما يكون عندها شخصية قوية وعشان ده
يحصل الزم يبقى معاها فلوس عشان كلمتها تتسمع .هرشت جبينها كأنها تستغيث :حأفترض معاكى أن
ماما هو ده تفكيرها وهى دى خطتها ..أنا برضه شايفاه عادى جدا وطبيعى هيه حرة فى تفكيرها .قالت
وجهة نظرها ثم سحبت قدميها وهبطت إلى أرضية الغرفة وقد أشتعلت مالمحها بحالة من التعمق والتأمل
وهى تقيم الحجة :يانورا ياحبيبتى أحنا مش قصر عشان حد يتحكم فينا بالبساطة دى ولو فرضنا حتى أن
ده حصل ماتنسيش برضه أنها أمنا ومن حقها تعمل أى حاجة هيه شايفاها ..حاجة واحدة بس اللى عايزة
أفهمها ..ليه متخيلة أن ماما عايزة تتحكم فينا ؟! .أدركت نورا ماتخفيه أختها من غصة فى صدرها جراء
هجومها الغير مبررعلى أمها فهزت رأسها بتفهم قبل أن تحتوى حنقها :من األخر كده ومن غير لف
ودوران ماما كل اللى بتعمله ده عشان تحقق حاجة واحدة بس ..أنها تبعدكم عنى بأى طريقة مهما أن
كانت والدليل على كده أنها بتحاول تقلدنى فى كل حاجة ..بدأت بخطوة الشغل وأختارت أتيليه زيزيت
بالذات ودى طبعا مش صدفة أبدا هيه قاصدة أنها تكون فى نفس المكان اللى أنا فيه عشان تثبتلى أنها
ممكن تبقى زيى وتقدر تنجح وتكسب فلوس ومش كده وبس دى كمان بتخطط لحاجة تانية أكبر بكتير من
حكاية الشغل والصدفة بس هى اللى كشفتها ..لكن لألسف مش حأقدر أقولك عليها دلوقتى .تهدل فك
بسمة السفلى فى دهشة وغمرها شعور بأنها تسكن مكانا تنشط فيه المؤامرات وتعشش فى أركانه
الدسائس فمسحت وجهها بكفيها تنفض عن نفسها حالة أكتئاب زرعتها نورا وكلماتها فى الغرفة فحاولت
أن تستعيد طبيعتها :ياترى يوسف يكون وصل وال لسه ؟ .
312
ــ مش عارفه بس لو الطريق سالك يبقى يادوب على وصول وبينى وبينك مش عايزة أتصل بيه دلوقتى
عشان مايتلبش وهو بيسوق .
الفصل العاشر
البد لمن يسعى من محل أقامته بمنطقة محطة الرمل إلى مقصده بمنطقة سموحة حيث موقع فيال
" أحمد الشهاوى" والد هدير أن يخلف وراء ظهره شارع بورسعيد قبل أن ينحرف إلى داخل شارع
" الجتيه" مجتازا طرفه الجنوبى قاطعا شارع أبى قير بأتجاه كوبرى األبراهيمية قبل أن تستقبله منطقة
سموحة من أول نقطة فيها حين تظهر " عزبة سعد" كومباوند للفقراء والذى مر بها يوسف كمنطقة عبور
إجبارية تستوجب من كل سائق أن يظهر براعة وجسارة عند مروره بتلك المنطقة التى تنشط فيها المطبات
والبرك والمستنقعات ..أجتازها يوسف مترنحا داخل سيارة عمته التى أطلقت كل الصرخات من كل
أجزاءها كمريض تجرى له عملية جراحية بدون " بنج " ثم ينتهى بالساعى المسير إلى وسط سموحة
منطقة " هاى كالس" تجتمع فيها أحياء األثرياء وتتمترس خلف محالت فخمة وموالت تغطى حاجاتهم
تطل على شوارع عريضة تسكنها األشجار والتفارقها األضاءة طوال اليوم ..منطقة أستثنائية تعد موطنا
لنوعية متميزة من البشر بنت نفسها على الطراز الحديث وحسب المقاييس العالمية المعمول بها من حيث
األحجام والمقاسات وسحنة الوجوه التى تطفح بالنعمة .الحت أمام عينيه أسوار الفيال التى أزدحمت
بفوانيس مضيئة ،فتباطأ بالسيارة حتى بلغ بوابتها الكبيرة الموصدة ،توقف كمن اليملك تأشيرة دخول ،
أطل برأسه من نافذة السيارة قبل أن يرفع يده ملوحا لعم " سالم " الذى أسرع مقتربا يهتز بجسده الخالى
من العظم .فتح البوابة :أتفضل يابيه .عبر يوسف البوابة فى حراسة نظرات مشمئزة من عينى
"سالم " الذى مط شفتيه مرددا فى أسى :دى عمرها ماحصلت عربية عدمانة زى دى تدخل الفيال .لم
يشعر يوسف بالرجفة العابرة التى أجتاحته فى الزيارة األخيرة .هبط من السيارة ملخوما ببوكيه الورد ،
تالشى أرتباكه سريعا وأتزن فى مشيته حتى صعد السلم فكانت " نجاة " الشغالة أول مستقبليه التى
تسلمت منه البوكيه بحرص زائد وأحتضنته كطفل رضيع وأشارت له بالدخول ..مشى خطوات قليلة حتى
قطعت عليه هدير ممر الوصول الممتد إلى " الريسبشن " الرئيسى كقاطع طريق لم يتقن مفاجأة فريسته .
بأبتسامة والدته التى حظى بها دون أخوته قابلها فى همة وحماس :حمد اللـه على السالمة ..وحشتينى
أوى أوى أوى ! .أراد أن يحتوى أصابعها ،سحبتها ببطء وهى مهزوزة كالحجر فى غير موضعه :اللـه
يسلمك يايوسف .شيىء فيها لم يكن يألفه ..ال وهج العينين وال أشراقة الوجه والتورد الحياة .شيىء ما
313
فيها بدا حزينا .أبتسمت أبتسامة باهتة ثم تجاوزته بنظرتها كأنها ترى فيما وراءه شيئا اليراه .لكنه كان
بالقطع شيئا صادما رأه فى تحير عينيها ورعشة جفنيها ..تحرك للداخل وسارت الى جواره بقامتها
المتوسطة تنظر ناحيته بنظرات مستغربة وكأنها تراه ألول مرة .
لم تعالج سفرية تركيا الجروح الدامية التى لحقت بها وأن بدت ظاهريا متماسكة ،غير أن ألمها كان ينبع
من خالياها وكلما حاولت أن تطمس ذاكرتها وتتناسى كانت تتجدد داخلها أنسجة الحزن والمرارة .
مصدر تلك الحالة المريعة القاسية كان تقريرا وافيا موضوعا على مكتب الحاج " أحمد " والدها الذى لم
يعد لديه لسانا ينطق به مكتفيا بمالمح مصدومة وأعضاء متصلبة حين تلقى ردود " صبرى" سكرتيره
الخاص التى كانت حاسمة وقاطعة :أسمها هدى عبد الفتاح أسماعيل وبطريقتى زى ما أنت فاهم سألت
حبايبنا فى الجوازات وأتأكدت أن الست دى عمرها ماخرجت بره مصر بمتر واحد .أستطال وجه الحاج
أحمد وأهتزت أصابعه تنقر على المكتب فى عصبية وترقب حين سكت " صبرى " أللتقاط أنفاسه ليستعيد
بعدها قوة دفع تشى بمفاجأة قادمة :رحت ولفيت نواحى البيت بتاعها فى محطة الرمل ..وسبحان اللـه
ربنا رزقنى بسرعة بشاب فالح أسمه أنور شغال حارس فى العمارة بالليل الغيته براحة وخدته على جنب
وبرزت له الخمسيينايه وسألته عن يوسف وأمه وأيه قصة الناس دى .أستند الحاج بظهره إلى الكرسى
الجلدى .بنفاذ صبر :قاللك أيه أخلص ؟ .
ــ قالى الناس دى من عيلة كبيرة أوى أصلهم باشاوات زى مابيسمع عنهم وهمه ناس فى حالهم بس الست
هدى أم يوسف كانت فى السجن ولسة خارجة .تجمدت حدقتيه على وجه " صبرى" كالذى يجلس فى
أستوديو تصوير موديل الستينات حيث الوجه المتصلب والعيون الميتة ،بحركة بطيئةولسان مرتجف :فى
السجن ياصبرى ؟! .مارس األخير وظيفته وسرد تفاصيل غير مهمة حتى أنتهى الى الخالصة :قتلت
شريك جوزها اللى نصب عليها بعد جوزها مامات ..لم يتبق فى وجه الحاج اال صدمة تعادل صدمته عقب
أعالن نتيجة أنتخابات الرئاسة !!.
أنحشرت الكلمات فى حلقه وهو يعلن زوجته بما ورده من معلومات التى أهتزت لها كجبل من "جيلى"
مصحوبا بدوخة وعدم أتزان ،لم تصبر عليه وتهالكت على كرسى وهى تعيد وتكرر بنبرة من تخرج روحه
من حلقه :قاتلة ..قاتلة ..يانهار أسود ومنيل .بقيت مرتبكة وغير مصدقة لمدة عشر دقائق قبل أن تعود
لطبيعتها بكمية ال بأس بها من السباب واللعنات طالت يوسف بشخصه وصوال لباقى شجرة العائلة .بينما
أستقبلت هدير حكاية يوسف وأمه على لسان أمها التى زاد فيها الحبكة الدرامية وعنصر المفاجأة خالف
314
المط والتطويل والدعاء عليه وعلى أمه عند نهاية كل تفصيلة ،راحت تمط وتمط كمسلسل من ثالث أجزاء
فى حين أن هدير تهوى وتهوىتحت ضربات عنيفة على شكل كلمات قاسية ومتصلة لم تسكت أمها عن
الكالم ولو أللتقاط األنفاس أو حتى لفقرة أعالنية طارئة ،بل كانت تستعيد وتسترجع كل عباراتها السابقة :
أنا قلتلك ياهدير بدل المرة عشر مرات ..الواد ده أنا مش مطمنه له أبدا شكله مش سهل عينيه جريئة كده
وبيتلون زى الحية ..واللـه كان قلبى حاسس أن الواد ده وراه مصيبة والحمد للـه ربنا كشف سترهم
ولوال زيارتك لهم فى البيت هى اللى كشفتهم كان زمانك لسه مضحوك عليكى لغاية دلوقتى ومش عارفة
حاجة مع أنى كنت زعالنة من حكاية الزيارة دى عشان مايصحش بنت الحاج أحمد الشهاوى تعمل حاجة
زى كده وترخص نفسها لكن أرجع وأقول الحمد للـه كانت سبب عشان تكشفى أرتباكهم وتعرفى حقيقتهم
وخير ماعملتى أنك بلغتى أبوكى بشكوكك ومن اللى سمعتيه منهم .الشيى فى عينيها أو مالمحها يوحى
بأنها حاضرة .توقفت الكلمات فى أذنيها ..ضمت خديها بين كفيها ،حاصرها صداع بدا كالمسامير يدق
فى مؤخرة رأسها .بح صوتها وهى تصرخ بما تبقى لديها من عافية ،كفاية ياماما ..كفاية مش عايزة
أسمع حاجة تانى .كان ذلك فوق طاقتها ..لم تتماسك ،حاولت أستيعاب اللكمة القاضية التى أطاحت بها
فقامت تستند على مقعدها ..ترنحت ثم بركت على األرض منهارة دون وعى ،تلك كانت البشارة بأرتفاع
ضغط الدم فجأة فى رأسها .
بعد أجتماع طارىء جمع أبوها وأمها فى حضور الطبيب المتابع ،قرروا فيما بينهم بحتمية أبعادها عن
األسكندرية مكان الخديعة الكبرى التى خصمت من عمرها خمس سنوات .فكانت بالد أتاتورك سابقا
" أردوغان " حاليا هى المشفى األختيارى لحالتها .
أستغرقت رحلة النسيان والتعافى فى تركيا أسبوعين كاملين تظاهرت بالثبات والتماسك خاللهما ،كانت
تشعرهما بتحسن حالتها خاصة بعد األسبوع األول الذى مر قاسيا عليها كمدمن الزال فى مرحلة أنسحاب
المخدر من دمه .لم تجد هدير غير تلك الخلفية فى ذهنها ..جملة رددتها أمها فى مطار أسطنبول قبل
الصعود للطائرة :من األول وأنا مش مطمنه للولد ده ،شكله كده عامل زى اللغز ولد أبن حرام عرف أزاى
يلفك ويضحك عليكى .بينما كانت أجابات هدير دائما حاضرة وجاهزة ،لم تكن كلمات أنما دموع ونظرات .
لم تستطع أسكات أمها التى واصلت بال توقف :أنا حأتجنن ياناس أزاى فى بنى أدم فى الدنيا ممكن يكدب
ويعيش خمس سنين من غير مايراجع نفسه ولو مرة واحدة مهما كانت الحقيقة مرة !! .
315
ــ أحنا قلنا أيه ياثريا مش عايزين كالم فى الموضوع ده تانى .كانت نبرة تحذيرية أصدرها الحاج أحمد
أسكتت زوجته مؤقتا وأراحت هدير من لسان أمها المنفلت .تقدمت المضيفة البيضاء من هدير تحيطها
بذراعيها وتحتضنها بحزام األمان وهى تبتسم فى وجهها بينما الحزام المربوط على وسط أمها لم يمنعها
من تكرار محاولة " اللت والعجن " فكان صوت قائد الطائرة هو صوت الرحمة حين هنأ الركاب :حمداللـه
ع السالمة .
سبقته هدير بخطوة بأتجاه الصالون بينما هو خلفها يتبعها فأنزلقت نظرته دون قصد إلى مؤخرتها فرأى
فيها ضعفا وهزاال ،حاول فهم الجدية واألرتباك اللذان لحقابها :هى أيه الحكاية ياهدير هو أحنا متراقبين
وال أيه ؟! لم يفلح فى أنتزاع أى كلمة منها قبل أن يدلف إلى الصالون المهيب ،تركته وتراجعت الى الممر
دون كلمة واحدة قبل أن ترميه بنظرة أستكشافية تبحث فى مالمحه عن الوصف الذى توصل إليه والدها :
الصنف اللى زى ده يابنتى اللى يخدع الناس بالطريقة دى يبقى مالوش أمان وعمر عشرته ماتبقى
مضمونة ده بيبقى عامل زى الجاسوس العنده أخالق والضمير .جلس يوسف متوترا وقد غاصت قدميه
بسجادة عليها عرش من األزهار يحف بكرسيه ،لحظات ودخلت " نجاة" بالشاى وضعته أمامه
وأنسحبت.
كان الصالون أقل بهجة ،تشيع به المخاوف الطارئة وبدا باردا .
دخل الحاج " احمد " يرتدى بدلة رمادية وقميص سماوى ومالمح جافة يسحب خلفه زوجته التى تلتصق
بظهره تترجرج داخل بلوزة سوداء وبنطلون من نفس اللون رافعة حاجبيها ألقصى أرتفاع تحمل تحتهما
عين تستدعى شرا ال تخفيه ومن خلفهما هدير منكسة الرأس وكأنهم فى طابور جنائزى ،شد يوسف
جسده فأردا طوله إلتزاما بنصيحة عمته ،مد يده مصافحا " الحاج " الذى بادرة بأبتسامة جليدية :أهال
يايوسف أتفضل أقعد .تجاوزته أمها دون تحية وجلست فى مواجهته كنمرة فى وضعية الترقب أستعداد
للهجوم ،أستقبل يوسف عدم مصافحتها له وكان حجرا سقط على أم رأسه ،حاول أن يفهم السبب من
خالل نظرة خاطفة لهدير التى توارت داخل كرسيها وغاصت معها رأسها بين كتفيها ،فنظرت له فى وهن
وهى تهز رأسها فى يأس من يدرك أن النهاية تقترب .حين ساد الصمت فى الصالون الذى بدا كصمت
الموتى أرسل يوسف نظراته مستطلعا الوجوه لعله يستكشف مجهوال ،أستوقفه منظر هدير حين رأى
أصابعها وهى تتشابك وتنفرج ،تتالحم فى عنف ثم تتباعد وهزهزات الساقين التتباطأ ،فأنتظر لحظات
يفرك أصابعه بلهفة المترقب فى وجه الحاج أحمد الذى أستهل حديثه مبديا هدوءا ينم عن خبرة ماكرة
316
فى فنون التعامل مع كل المواقف :أخبار الست الوالدة أيه ؟! .جفت شفتيه بسرعة متصنعا ثباتا
مزيفا :الحمد للـه كويسة .تابع الحاج حين أعد المقدمة المطلوبة :الصدق يابنى فضيلة ربنا بيزرعها
جوه األنسان عشان يتعامل بيها مع الناس ويبقى واضح وصريح معاهم وتخليه يكسب أحترام اللى
حواليه ..كالمى ده مظبوط والعندك أعتراض عليه .بهت يوسف ،لم يكن ذلك الوجه الذى رآه فى
الزيارة السابقة وأردف بعد أن لوى رقبته ثم رشقه بنظرة صقر :فيه عالقات يابنى بتبقى عابرة بين
الناس وبعضها ودى مش مطلوب فيها أن األنسان يكشف فيها عن أسراره أو حتى عن ظروفه
الشخصية ،لكن فى عالقات بتتبنى أساسا على الحب واألرتياح والعشرة وفى الحالة دى بالذات لو
مافيش فيها صدق وصراحة تبقى العالقة مش سليمة ومزيفة مش حقيقية .بينما أمها تتمعن فى النظر
إليه وهى ترصد أنطباعاته ،لم يكن غيظا ذلك الذى تكظمه ،كان شيئا أخر كهجير فرن محمى يلهب
داخلها ،بدت كفوهة بركان توشك أن تلفظ حممها .واصل الحاج أحمد مابداه من تمهيد قبل أن يميل
بجبهته مستندا بمرفقيه على ركبتيه رافعاعينيه ببطء فى وجه يوسف :أسمع يابنى أنا طلبت من هدير
أنها تجيبك هنا عشان أقولك كلمتين فضلت أنى أنا اللى أقولهملك بنفسى ..ياريت من النهاردة تبعد عن
هدير وتسيبها فى حالها وأنتبه أنت لمستقبلك عشان ده فى مصلحتك ومصلحتها وده مش قرارى
لوحدى ده قرارنا كلنا .أحس يوسف بأقتراب فساد جلسته حين ألتقت عيونهم تستطلع وقع الخبر دون
أن تدرى هدير ماتقدم أو تؤخر ..أختصر يوسف تخبطه وأضطرابه وأرتفاع كمية الدم المندفعة الى
وجهه الذى بدا مشتعال بحمرة قانية بسؤال :ليه ؟! .أختصر أيضا رده :ظروفك يابنى غير ظروفنا .
تعمدت هدير أن التنظر له فى تلك اللحظة إلى وجهه .وأنتظرت صوته :مش فاهم حاجة حضرتك .
ــ أنا عايز أسألك يابنى عمرك سمعت عن منطق فى الدنيا يخلى أنسان يكدب خمس سنين على أنسانة
بيقول أنه بيحبها ومافكرش ولو مرة واحدة يراجع فيها نفسه ويصارحها بحقيقته ؟ تساؤله لم يدم
طويال ،أعطى لنفسه حق الرد نيابة عنه :متهيألى البنى أدم اللى يتقن الكدب بالشكل ده ويتنفسه زى
الهوا ..يبقى أكيد جزء منه وصعب أوى على أى حد أنه يثق فيه وال يأمنله ! بينما زوجته فى تلك
اللحظة تتسع حدقتيها حتى تصبحا كقرصى شمس الهبة :اللى يضحك على بنات الناس يبقى ندل
وخسيس وبنات األصول ماينفعش معاهم الصنف ده .كانت مباغتة وصادمة .فتسلم منها زوجها
الحديث كى التنساق ألبعد من ذلك :مافيش حاجة بتتدارى على طول يايوسف وكل كدبة ولها أخر ..لما
والدتك كانت فى السجن ليه ماصارحتش هدير من البداية ؟ .تمددت مالمح يوسف وتهدلت .أردف حين
لم يجد مقاطعة :بالش من البداية بعدها بسنة وال أتنين لما أتأكدت فعال أنك بتحبها وهى بتحبك ليه
317
أصريت على الكدب وأتماديت فيه مع أنك كان قدامك فرصة كبيرة تشرح لها وجهة نظرك بكل صراحة
وتحكى وتفهمها ظروفك وبعد كده سيب الطرف التانى يقرر بنفسه يكمل معاك والمايكملش ..لكن
أصرارك على الخداع والكدب ده معناه أنك أنسان غير مؤتمن .األمر بالنسبة إليه كان سهال ،لهذا
قالها بجرأة اليستطيع أن يدعى أنها ذلة لسان ،مثله اليذل لسانه أبدا هو يعرف كيف يصوغ مايريد
بالقالب الذى يريد فى الوقت الذى يسمح .
أغمض يوسف عينيه محاوال طرد نوبة طرق مفاجىء زلزلت رأسه ،كان ذلك فوق طاقته ،أجتاحه
التوتر .تداعت فى مخيلته الجمل المنتظرة التى تقال فى مثل هذه المناسبات والتى ألف رؤيتها
وسماعها فى الدراما المصرية :أطلع برة بيتى ياكلب ..أياك تقرب من بنتى مرة تانية ياكداب ياحقير .
تحسس جبهته دون وعى فى حين أكملت هدير فحصه حين نطق :فى الحقيقة أنا كنت حأشرح لهدير
كل حاجة ..بس كنت مستنى الوقت المناسب عشان أفهمها الظروف كلها .أنتظرتفهما أو أستجابة ،
هرب من نظراتهم إلى الصينية ،رفع كوب الماء يتجرعه ،أهتزت أصابعه وشفتيه وتناثرت بقايا الماء
حول فمه بينما أستقبلت أمها كلماته بنفخة ضيق قبل أن تصدر صوتا يعلوه تحد وال يخلو من نزعة
أستعراضية :كنت قبل ماتشرح لها وتفهمها كنت فهمت نفسك األول هدير تبقى بنت مين وأبوها يبقى
أيه عشان كل واحد يعرف حجمه ووضعه .أنهت كالمها وعيناها ثابتة فى وجهه وهو جالس بال حيلة
يبتلع فى بطء مرارة الكلمات بعد أن أصبح محاصرا بضرورة الكالم أو الفعل ،فأضطر وهو يرتعش أن
يتعرى كليا من بقايا كرامته :ماكانش فى حل قدامى غير أنى أخبى عليها مع أنى واللـه حاولت أكتر
من مرة أصارحها ،بس لآلسف ماقدرتش كانت كل يوم الكدبة بتكبر وبتكبر ..فى البداية خفت أخسرها
وتضيع منى وبعد كده حسيت أن الحقيقة حتبقى صعبة وحتحرجها وتجرحنى .أحس بنظراتهم تعريه .
أردف :وع العموم أنا حأشرح لحضرتك الظروف اللى دخلت أمى السجن .أجابه بنظرة من حسم
أمره :األمور دى يابنى مش محتاجة شرح أحنا ناس لنا وضعنا وأنا راجل لى سمعتى فى أسكندرية
كلها يعنى بالمختصر كده ماينفعش شرح والتفسير الناس لها الظاهر .شعر يوسف بالمرارة ..كانت
مرارة من نوع أخر مختلف ،ربما كان الخوف من العجز عن عرض قضيته أمامهم يحاصره ،لكن كان
على أستعداد للدفاع عن نفسه فأوشك على التحول من أحساسه بالدهشة والمفاجأة الى أحساسه بشيىء
من الخوف السابق لحالة األستنفار المضاد واألستماتة من أجل البقاء .
318
ــ اللى حضرتك الزم تعرفه أن أمى مادخلتش السجن بسبب حاجة وحشة أمى كانت بتدافع عن حقنا
وعن فلوسنا من أيد نصاب عديم الضمير وماكانش قصدها أبدا أنها تأذيه والدليل على كده أنها خدت
حكم مخفف وكمان خرجت فى عفو .هاهى أم هدير تستخدم الفخم والغليظ من األلفاظ :أحنا هنا مش
فى محكمة بنسمع مرافعة عن قتالين القتلة والحاج قالك كلمته األخيرة أحنا ناس لنا سمعتنا ووضعنا
ولحد كده كفاية وأتكل على اللـه بعيد عننا .هكذا حاولت أستئصاله كأنه ورم خبيث علق بأسرتها
السليمة النقية فى حين بدا يوسف فى جلسته كصنم .تساءل داخله :كيف لم يدركوا مايحس به ،
أستمعوا لكلماته بال أذان كأنه يتحدث لغة اليعرفوها ،صوته الداخلى المنفعل يضيع فى مساحات
التوجس والقلق التى تمألهم فى حين بقى صوت أمها يتردد فى خلفية أهتمامه لدى متابعته نظرات هدير
لعله يستوضح رد فعلها حين تكلمت وهى تشفق عليه من ذهوله :كفاية يايوسف لحد كده ! .قام الحاج
أحمد من مكانه معلنا أنتهاء الزيارة مبديا بعض الرحمة :من بكرة تقدر تكمل تدريباتك فى مكتب
المهندس ناجى وأنا حكلمه بنفسى عشان تكمل معاه زى أى مهندس عنده وبمرتب محترم ..أنا أب
يابنى وتهمنى مصلحتك .ثم مد يده يصافحه ليعجل بأنصرافه ..خرج من الصالون حين أدرك أنه لم
يبق له مايفعله وأن اليقين قد فارق عالمه فى تلك اللحظة وفارقته الكلمات دون أخطار ..أحس أن
جميعهم فرسان مزيفون ..أتجه ناحية الباب تتقدمه هدير بخطوات مريضة ..توقفت عند الباب المفتوح
وهى تنقل إليه من خالل حدقتين غسلتهما الدموع ..توجهت إليه بوجه منفعل وصوت أكل الغضب
رتابته :ليه كدبت على يايوسف ؟! حاول أن يخفى أضطرابه خلف نظراته المرتعشة ،نقل إليها شحنة
من األضطراب :ماتجاوبنى ؟! همت أن تخرج من شفتيه كلمة أو أعتذار ،لكنه حبسها وألقى عليها
نظرة أخيرة قبل أن يواجهها بجسده ومد يده ،لكنه لم يجرؤ على لمسها حين شعر أن مصيره قد تقرر
فترك يده تسقط بجانبه ،بمالمح متراجعة وعيون حمر مر أمامها مدليا رأسه قبل أن يخرج من حيث
أتى .رحل من هذا المكان ،الذى ذبح فيه من غير موضع الذبح .تعلقت بالباب ومشت به حتى أوصدته
ثم ألصقت ظهرها بظهر الباب ..أدلت رأسها لالرض ،أحست بنفس اللهفة والضياع اللذين أحس هو
بهما .أعتصرت عينيها بقوة فى أغماضة طويلة ،أستبد بها بكاء ،كلما حاولت أن تكتمه أنفلت منها
وبدا وكأنها توشك على الوقوع ..تحملت على نفسها حتى هوت على كرسى ضخم بجوار الباب .
هبط ساللم الفيال يتخبط كسكير ..بالكاد كان يتنفس .قاوم أهتزازه فى طريقه للسيارة الذى سبقه إليها
" سالم " الحارس منتظرا وصوله ليبلغه رسالة كان نصها مختصرا :الهانم بتقولك شكرا أحنا عندنا
ورد كتير .ثم ناوله البوكيه ،نقل عيناه إلى الورد يرثيه بينما لم يتح له سالم فرصة األستغراق فى
319
صدمة أخرى وقام بنفسه بفتح باب السيارة ورمى بالبوكيه على الكرسى األمامى ثم توجه مسرعا ناحية
البوابة ..بصعوبة بالغة دخل يوسف السيارة قبل أن يتلق أشارة من " سالم " يوجهه للخروج :
تعالى ..تجاهله وتحرك ببطء ،أجتاز البوابة كمبتدىء فى مدرسة قيادة .قاد سيارته محاذيا الرصيف
حتى أبتعد ..تابع الشارع بحدقتين ثابتتين ..ينظر من غير أن يرى كالذى يسير نائما حتى غشت
الدموع عينيه فأضطر أن يبطء كى يستجمع شتاته ..توقف أمام شجرة عجوز تطل على شارع مظلم
اليسمع فيها إال نفير سيارات تمر بجواره .ظل ساهما متهالك المالمح كمدمن فات موعد جرعته ،
أغمض عينيه فتسربت دفعة كبيرة من دموعه أصلحت أمامه الرؤية ..كانت الدموع سالحه الوحيد
الذى يملكه حين غلظت يد القهر وأستطالت وتحولت كل األمنيات الطيبة إلى وهم ..صارت كأحالم
عبثية وحب باطل ،حتى الغضب ،أنحبس وزالت عنه القدرة ألطالق صرخة مظلوم أو حتى رسم أنفعال
عشوائى يواكب لحظة المأساة .لم تعد كلمة " صدمة " كافية لشرح حالته التى تجاوزت حدود
المصطلحات والتعريفات .أستمر على وضعيته واجما يتابع الشارع دون أن ينتبه لتفاصيل المكان
ينجرف خلف صراع داخلى الزمه من لحظة خروجه من بوابة الفيال :هو اللى حصل ده كان حلم وال
حقيقة ؟! .نظرة واحدة لبوكيه الورد المسجى إلى جواره كانت كافية ليدرك أن قصة حيه قد فارقتها
الحياة وأن حبيبته التى أعتادها خمس سنوات ولت فجأة وخرجت من عالمه الى األبد .
فى تلك األثناء دب قلق مفاجىء فى مالمح نورا التى خرجت من غرفتها تتبعها بسمة فى ذيلها تكرر
محاولتها الخامسة باألتصال بـ " يوسف " .أحتوتهما كنبة األنتريه " ،فأستفهمت بسمة وهى تراقب
توترها :ماردش عليكى برضه ؟ هزت رأسها بالنفى فأردفت :تالقيه قاعد مزنوق ومش عارف يرد .
ــ أنا مش فاهمة أيه الخيابة اللى أخوكى فيها دى .شعرت هدى بوجودهما ففتحت فرجة صغيرة فى
باب غرفتها " كناضورجى" يراقب الطريق ثم خرجت بتمهل تنقل نظرتها بين أبنتيها فلمحت فيهما
توترا ..أقتربت :مالكو فى أيه ؟ رمقتها نورا بنظرة ركنية دون أن ترد فتطوعت بسمة :نورا أتصلت
ك تير بيوسف ومابيردش .جلست تشاركهما القلق :يمكن تليفونة فاصل شحن ! ضيقت نورا عينها فى
نفور :بنقول تليفونه بيرن ومابيردش .تضاربت مالمحها :آه صحيح أيه اللى أنا بأقوله ده .ثم مالت
على أبنتها بسمة وتداوال حديثا باهتا استهالكا للوقت دار فى مجمله حول هدير ووضعها األجتماعى
والمادى وماسيجنيه يوسف من غنائم حال أرتباطه بها ،فى حين الزالت نورا تكرر محاوالتها اليائسة
قبل أن ينفذ صبرها وترميه جانبا تزامنا مع خروج عمتها من غرفتها ساحبة نعمة من يدها كأنهما فى
320
نزهة ليلية بدار مسنين ،لمحت عيناها جلسة متوترة فتخلت عن يد نعمة التى تطوحت خلفها :أيه
األجتماع ده .
ــ مستنين يوسف ..ربنا يسهل آهو على وصول .كان ردا مقتضبا على لسان هدى التى أفسحت لها
مكانا .
ــ أنا أتصلت بيه ياعمتى كتير ومابيردش .نشطت تخمينات مشروعة ترددت على لسان أيات :ربنا
يستر لتكون البطارية عملتها معاه وال تكون الكهربا قطعت .
ساد صمت مفاجىء حين سمعوا مفتاحا يولج فى الباب .كانت نورا أول المنتفضين من مكانها كمن
أصابها مس ثم رمشت فى ذهول حين ألتقطت عيناها يوسف ومنظر بوكيه الورد المتدلى من يده
كالمعدوم شنقا :أنت مارحتش عند هدير ؟! .بوجه محتقن أغلق الباب خلفه معتصما بالصمت ..مشى
نحوهم مرتجفا قبل أن يتدافعوا حوله تباعا وسط تكهنات أفضت إلى أسئلة عاجلة :فى أيه يايوسف ؟
سؤال مباشر من بسمة قالته بفزع بينما حالته التسمح سوى بنظرة شاردة من عين ملتهبة .كانت
مالمحه تحمل رموزا غير مفهومة لنظراتهم المتفحصة .أخترقهم واجما حتى سلم نفسه لكنبة األنتريه
فتعقبته أمه وأنحنت حتى مستوى رأسه تتحسس وجهه المتفجر :مالك يايوسف شكلك عامل كده ليه ؟
تحلقوا حوله حين نطق أولى كلماته :خالص .أنتظروا توضيحا لم يأتى .فعاجلته عمته :هو أيه اللى
خالص يايوسف ؟ غرس أصابعه فى شعر رأسه يسحبه للخلف بعنف :يعنى كل حاجة خالص
ياعمتى ..عرفوا حكاية ماما كلها من أولها ألخرها .قابلت نورا كالمه بأنفعال شديد :وأنت ليه
تقولهم حاجة زى دى ! مبديا دهشة :أنا ماقلتش أى حاجة همه اللى عرفوا .أجتاح هدى توتر شديد
حين تدافعت عليها النظرات ..تصلب لسانها داخل فمها ورفعت الصمت شعارا وهى تتراجع ببطء
للخلف كمن يتوارى بفعلته .فى حين وقعت المعلومة التى أفضى بها يوسف على رؤسهم كالصاعقة
فتفرقوا منكسى الرأس كأناس فرغوا من دفن ميت وتناثروا فى األنتريه وأستولى كل منهم على كرسى
أحتوى مؤخرته وأحباطه .لحظات وجاءه صوت نورا التى بدت حيرتها مضاعفة بالرغم من محاولتها
ترويض ماينتابها من مشاعر .أحكيلى اللى حصل يايوسف ؟ أستغرق األمر منه ربع ساعة ..سرد
مأساته مختزلة يتخللها رعشة من حين ألخر فى حين لم تفارق عينى هدى وجه أبنها المضطرب
تصدمها كلماته المتسربة من بين شفتيه تحوم حولها كدوامة تبتلعها .أنسحبت الدماء من وجهها فور
أنتهاءه ..دارت بها الدنيا ،لم تمتلك القدرة على أى تعقيب ،كان عليها السكوت بعد محاولة فاشلة
321
لسحب أنفعاله :ليه عملوا معاك كده ..أكيد فى سبب تانى غير اللى قالوه ده ؟! طرحت رؤيتها ونالت
عليها نظرة نارية مصدرها عينى نورا بينما أكتفى يوسف برد يائس :السبب تانىوال تالت هو تمن
والزم كلنا ندفعه .مشت نورا بمؤخرتها على كنبه األنتريه حتى ألتصقت به ،مدت ذراعها حول كتفه :
ماتزعلش يايوسف كل حاجة حتتصلح .دفن وجهه بين كفيه .فأكملت :مش عايزاك تقلق ياحبيبى كل
حاجة حترجع زى ماكانت .
ــ مافيش حاجة حترجع زى ماكانت .دارت بجسدها وسحبته إلى صدرها فيخفى وجهه فى حضنها
منكسرا مستدفئا بهزيمته ولم يقو على التماسك فأنفجر باكيا على صدرها :أنا أتهانت يانورا وكرامتى
راحت وخرجت زى المطرود .مسحت رأسه بأناملها ترسل من فوقه نظرة تحمل كبتا وغيظا وضعفا :
معلش خليك راجل وأتحمل وأنا متأكدة أنك حتعدى من األزمة دى وحتخرج منها أحسن من األول .
أثرت نعمة المشهد حين تعايشت فجأة مع الحدث بنظرية الدعاء على الظالم :ربنا ينتقم منهم ويكسر
بخاطرهم زى ماكسروا فرحتك وبهدلوك ..أخس على ده زمن اللى يتهان فيه والد األصول .
تململت هدى فى جلستها سجينة مكانها التعرف بأىالكلمات تواسى يوسف أو تواسى حالها بعد ماأيقنت
أن شيئا ما بداخلها يحترق حين بدا طيف الماضى ينسج خيوطه على الموجودين الذين أدلوا بعبارات
كثيرة قيلت له على سبيل التعزية ،لكنها لم تواسيه .فى حين بدأت الوساوس تداعب صدر أيات ،فلم
تكن تنصت إلى عبارات المواساة التى تطوف حوله فأستشعرت خطرا مدركة ضرورة أن يتخذ حديثهم
منحنى أخر أستهلته :أنا اللى يهمنى دلوقتى يايوسف أنك تبقى راجل وترمى كل حاجة ورا ضهرك
وتكون عندك أرادة وتخرج بسرعة من األزمة دى ..سامعنى .ثم رفعت صوتها لتشد أنتباهه :أياك
تستسلم للحصل ده خلى عندك ثقة فى نفسك وبص لمستقبلك أنت دلوقتى بقيت مهندس يعنى الزم تفكر
فى اللى جاى وأوعى تغلط غلطتى وتدفن نفسك جوه أحزانك ..لسه بدرى أوى ياحبيبى اللى جاى أكتر
وحتقابل األحسن واألجمل وبكرة تقول عمتى قالت .ألهبت كلماتها حماسة بسمة التى ثارت لدموع
أخيها :واليهمك يايوسف اللى يبيعك بيعه ودوس عليه وبكره اللى أسمها هدير حتعرف قيمتك كويس
وحتندم هى وأهلها على أهانتهم ليك وكلها كام يوم وحترجع تجرى وراك وتقولك سامحنى تتابع هدى
األنفعال المتصاعد فى وجوههم بمالمح هزيلة تسبقها تصورات عن ردود فعل محتملة ستطالها حتما
وتحملها مسئولية ماحدث ..دان صمت كئيب يواكب حجم الصدمة ،حاولت لملمت مخاوفها وسط جو
مشحون بفداحة المأساة حين أستعادت بعض الثبات كأجراء دفاعى عفوى ألبعاد التهمة عنها :يايوسف
322
أنا ماليش ذنب فى اللى حصل ده مش عايزاك يابنى تحملنى فوق طاقتى ،مش عارفة أقولك أيه بس
كمان ماينفعش كل مصيبة تحصلكم تحطوها على دماغى لوحدى ..ليه مافيش حد فيكم عايز ينصفنى
ويبقى صريح مع نفسه ويقول أن أختياره هو اللى غلط أو حتى على األقل يواجه فشله .سكتت للحظات
ثم واجهتهم بنظرة تحمل مرارة وزعتها على الوجوه المتأهبة ثم خصته بنبرة تحد :مش هى دى هدير
اللى كنت بتحكيلى عنها فى كل زيارة وتقولى أد أيه بتحبك وهى الوحيدة اللى فى الدنيا اللى فهماك
وحاسة بيك وأنكم متفقين على كل خطوة حتعملوها سوا ..فجأة كده وبالبساطة دى باعتك ونسيت كل
اللى كان بينكو فى خمس سنين ..معقولة .توقفت كى تتيح له فرصة المقاطعة أو الرد ،لم يتقدم بأى
طعن سوى بنظرة ذليلة منكسرة .فتابعت :حتى لو كان أهلها رافضينك ومعترضين على أن أمك دخلت
السجن وماكانش فى قلوبهم رحمة وماقدروش يعذروا واليغفروا وال يقدروا الظروف اللى خلتنى عملت
كده ..أنا عن نفسى ممكن أعذرهم فى تفكيرهم ده وأفهم وجهة نظرهم ..بس اللىمش قادرة أفهمه
موقف هدير نفسها اللى هيه المفروض بتحبك ومش قادرة تعيش من غيرك ..أزاى ماوقفتش معاك
وأقنعت أهلها ..ماكانتش قادرة تقولهم ماتاخدوش ذنب يوسف بذنب أمه ..ماقالتلهومش ليه أن
يوسف ده أنسان كويس وماشافتش منه حاجة وحشة ..ليه ماعملتش كده يايوسف ؟! .لم يتقدم أحد
للدفاع أو الهجوم فحبست دموعها .أصبحت األن األمور أكثر وضوحا ،هى متهمة فى قضية التعلم
أبعادها .كانت تبحث فى عيونهم عن نظرة رحمة تخصها ،فلم تجد سوى عبارات تخرج على أستحياء
أفتتحتها نعمة بنبرة قدرية :معلش ياست هدى بكره كل حاجة تتصلح ..واللـه دى عين وصابت
البيت .بينما زفرت نورا بملل :مش وقته الكالم ده خالص أحنا اللى يهمنا دلوقتى يوسف وكالمك
ياماما الحيقدم وال حيأخر .دعمت أيات وجهة نظرها :نورا عندها حق ياهدى مش وقته خالص مين
الظالم والمظلوم .
فى تلك اللحظة حول يوسف حزنه إلى جفوة مفاجئة وقام من مكانه متحامال على نفسه حين أنتابته
رغبة جارفة فى أنهاء الكالم واألنسحاب فأستوقفته نورا وطرحت عليه سؤالها األخير :حتدخل تنام .
ــ أيوه .قالها وأتجه لغرفته مارا بكل العيون المتفحصة بعدما ترك عالمات أستفهام تأكل رأس بسمة
وهى تهمس لنفسها بخوف :واضح كده أن مافيش حاجة بتستخبى فى البلد دى ؟! بينما كان منظر
يوسف مدعاة لتنشيط حالة المظلومية الكامنة فى نفس أيات وتصاعدت مأساتها فجأة إلى ذاكرتها لتبلغ
مالمحها قبل أن تتشكل على لسانها كلما تتعبر بها عن مدى تشابه اللحظة بين الحاضر والماضى :
323
نفس القصة بتتكرر بحذافيرها يانعمة نفس اللى حصل مع يوسف النهاردة هو نفسه اللى حصلى مع
شاكر من تالتين سنة .لما كان بينى وبين الحلم خطوة وكنت فاكرة أنى خالص ملكت الدنيا بأيديه
وفجأة لقيت نفسى ماسكه سراب وكل حاجة أسودت حواليه زى اللى حصل ليوسف النهاردة كان رايح
ياعينى وواخد حلمه معاه وفاكر أنه محظوظ وبينه وبين المستقبل خطوة واحدة وفى لحظة كل حاجة
أتهدت ولقى نفسه ضايع ومجروح ..سبحان اللـه .أراحت نعمة ذقنها على كفها لتفنيد المقارنة بين
الحالتين :الياست أيات حكايتك مع اللى مايتسمى شاكر حاجة وحكاية يوسف النهاردة حاجة تانية
خالص ،األوالنى كان طماع وطلع على كتافك أما يوسف فمالوش ذنب أتاخد ياعينى بذنب أمه .
أستقبلت أيات وجهة النظر بتنهيدة طويلة :فيه فرق وال مافيش آهى النتيجة واحدة يانعمة .
دفع يوسف الباب الموارب فأستقبله الهدوء بينما الظالم سادل نقابه ..أضاء النور ..أستلقى الفراش
أمامه كنعش فى مرآة مسحورة .تحرك مهزوزا حتى جلس على حافة السرير ثم أدلى برأسه لألرض
قبل أن يرفعها ببطء حين دخلت أمه ..لم يكترث بدخولها ،فأقتربت منه وأصبحت فى مواجهته وبحثت
عيناها فى عينيه بينما كان هو يتجنب نظرتها .نزلت على ركبتيها أمامه وكأنها فى قاع بئر عاجزة عن
أنقاذه وخيل لها أنها تختنق .شعرت بمصيبته حين قرأتها فى عينيه .تمتمت قبل أن تنضج كلماتها :
أنت شايفنى أزاى يايوسف ؟! ..أضافت وهى تمسك يده تسحبه كى ينتبه وينصت لها :أنت حاسس أنى
ظلمتك ؟ كان قد أتحنى قليال ولكنه حين سمع قولها األخير أنتصب فجأة واقفا وكأنه مصنوع من فوالذ
فأضطرت للوقوف معه ،لقد أصابته أمه فى الصميم ،أجل ،أنه خالل هذه الساعة كلها ،ساعة
الوساوس والهواجس التى قضاها من لحظة خروجة من فيال هدير وحتى اللحظة لم يكن يفكر إال فى
نفسه وفى أحالمه المتصدعة ،حاول أن يسحب يده من يدها الجافة الباردة ،لكنه شعر بها تضغط
عليها بعزم وأحس أنه مقيد ومعتقل .لم يرد ..تركت يده :هى دى أخرتها يايوسف ..بقى هو ده أبنى
الوحيد اللى المفروض حيكون سندى وعكازى فى السنين اللى جاية ..ياخسارة .
أحست أنها شهيدة ..وحيدة .بدأت تدرك أنها فقدت كل شيىء ..كل شيىء بال ثمن ..بال كلمة عزاء .
تماسكت أمامه وعاندت دموعها ،نفضت ضعفها وسارت بحزم وعزم وكأنها أرادت له أن يشعر بها
وأن يعلم أن خطوتها الواثقة تعبر عن ثباتها .خرجت من الغرفة ..مرت بالصالة وفشلت فى تجنب
نظرة متجهمة سددتها نورا دون مواربة .دخلت حجرتها وأغلقت الباب خلفها ،لتصبح تلك الليلة رقما
324
فى موسوعة لياليها الدامية !! ..بينما يوسف أظلم غرفته ومدد جثته ومضى يرخى جفنيه ويغمض
عينيه حيث تطمس له الظلمة ماحدث وماعساه يحدث .
0000000000
توسطت فايزة جلسة ذكورية بأمتياز ..أمامها منضدة صغيرة وحولها فى دائرة مفتوحة محمود المحامى
وجمال النونو على يمينها والحاج محمد المقاول بجوارخضر على يسارها ومن خلفهم أنتشرت مجموعة
خضر القتالية فى ضيافة مدخل بيت " حميدة القاضى" بحارة أبن شكر المواجه لبيتها الجارى أخالئه ..
لحظة تاريخية تشهدها فايزة من موقعها ،لحظة ستكون فارقة فى مستقبلها المعمارى الواعد .بدت فى
وجوههم جدية حين قام محمود المحامى من كرسيه ساحبا حقيبته متجها ناحية " شعبان البقال" الواقف
منكسرا بجوار دكانه الخالى بعدما أخرج أحشاءه على الرصيف ،لم يتبق سوى بوابة صاج متأكلة سرح
فيها الصدأ بكل درجاته تعلوها الفتة مطموسة هرب لونها منذ سنوات .كان مرتجفا مهتزا فى وقفته كمن
يتلقى العزاء فى رفيق عمره .واجهه محمود المحامى متحاشيا النظر فى عينيه :دول عشرة تالف جنيه
ياعم شعبان يبقى كده وصلك المبلغ كله تمانتاشر ألف بالتمام والكمال .أستلم المبلغ صامتا حزينا فتابع
المحامى :خضر حيحملك شوية الكراكيب دول على النص نقل وحيوصلك لغاية البيت .دبت فيه الروح
فجأة معترضا :أنا عايز اليافطة المتعلقة فوق الدكان .قطب جبينه حين رفع عينيه مندهشا :اليافطة دى .
بعناد طفولى :أيوه هى دى ..اليافطة المتعلقة دى أنا عملتها عمولة سنة ستة وستين و كانت شاهدة على
دخولى وخروجى يوماتى الكتر من خمسة وأربعين سنة ..دى عشرة عمر .أحتوى عصبيته بأبتسامة :
اللى أنت عايزه ياعم شعبان والتزعل نفسك .قالها وأشار لخضر الذى قام من مكانه فى حراسة أتنين من
صبيانه وقد تطوع أحدهما وأعتلى سلم خشبى حتى بلغها ،خلخلها من الجانبين قبل أن يحسم أمرها
وينزعها من مكانها نزعا بال رحمة فأرتدت عليه فعلته بغباروأتربة كأنما يواجه عاصفة خماسينية شديدة،
وحين هم بالنزول ظهرت له عائلة كاملة من الفئران أنكشف سترها كانت تعشش خلف الالفتة فتصدى لهم
الواقفون والقاعدون كل منهم بحسب لياقته على المالحقة .تسلمها شعبان بتأثر وأسندها للجدار قبل أن
تمتد إليها أنامله ينفض عنها أوساخا تراكمت عبر عقود حتى تصلبت كالحصى .لحظات ورفع صبيان
خضر مخلفاته على النص نقل ثم صعد شعبان خلفها واقفا وقفته األخيرة مستأسدا وسط كراكيبة متكئا على
الفتته يتجول بعينيه مودعا البيوت والوجوه وعشرة السنين منهيا جولته المؤثرة فى عينى فايزة التى
325
تراقب رحيله بفارغ الصبر .أستغرق فى النظر إليها بحدة ثم خبط صدره بقبضته منوحا كشيعة العراق :
حسبى اللـه ونعم الوكيل فى الظالم .قالها دامعا تعصف به األحزان حتى فارقت الحارة عينيه .رحل عم
شعبان مخلفا وراءه مشهدا جديدا فى حارة أبن شكر حين بدت واجهة الدكان ألول مرة صلعاء بال الفتة
تعلوه .مال محمود المحامى هامسا فى صدغ فايزة بأريحية :ياساتر أخيرا أتكل على اللـه كان محجرأوى .
أظهرت أبتسامة مائلة :هانت يامتر كده مش فاضل غير أم ماهر ودى حتخلع بالليل وكده تبقى األمور أخر
تمام ونقول يامسهل يارب ونبدأ شغل .فلتت منه نظرة محايدة قبل أن يرفع رأسه ألعلى :أل لسه فيه ناس
فوق ماتكلمناش معاهم والتراضوا زى الباقيين .تابعت اتجاه عينيه :أه ..تقصد اللى ماتتسمى
هى وبنتها.
ــ ماتشغلش بالك بالليلة دى ..علقة تانية تأخدها بدرية كومبارس وحتطلع من البيت بجالبية وشبشب
بس أنا تقالنه عشان لى مزاج أذل فيها .مد " النونو" بوزه الناشف مقتحما الحوار :وحياتك يامعلمة أحنا
بعون اللـه نطلعها من البيت ده وهى قاطعة تذكرة خروج من الدنيا .أحتد محمود المحامى :تعرف تسكت
أنت ..ثم ألتفت اليها مستعمال نبرة هادئة :الكالم مايبقاش كده يامعلمة .رجعت برأسها للوراء لتتبين
تفاصيل وجهه :الكالم يبقى أزاى نورنى .شعر أن اللحظة التكفى ليفسر لها تكتيكه فمال برأسه لآلمام
متحاشيا رأسها الملفوفة بطرحة زهرى موجها حديثه للحاج محمد المقاول :خالص ياحجيج أحنا حيبقى
ميعادنا بكرة فى المكتب عشان نتفق حنبدأ أمتى و بالمرة أكون جهزتلك العربون .
ــ أنا طوع األمر وربنا يسهل األحوال .قالها واقفا قبل أن يسحب النونو رجليه مفسحا له مكانا للمرور
فتابع :حأتكل على اللـه يامعلمة وبكرة حأظبط مع األستاذ .
ــ ماشى ياحاج ..أسحب الكرسى وتعالى هنا جنبى ياوله .أخذ النونو موقعه مختبئا خلف كتفها ثم أردفت :
عايز تقول أيه يامتر ؟ سؤاال طرحته حين أعطاها الحاج محمد ظهره .
ــ مش ده الوقت اللى نعمل فيه مشاكل مع بدرية ،الزم تتراضى زى بقية السكان ال أقل وال أزيد .هز
صوتها منطقه :وأيه اللى حأكسبه وأنت عارف كويس أنى بعد أذن ربنا على أستعداد أطلعها من البيت
بنظرة عين .
326
ــ تكسبى كتير أوى ..أولها حنشوف شغلنا من غير شوشرة والوجع دماغ وتانى حاجة وده اللى يهمنى
أنه ماينفعش تظهرى فى سوق المقاوالت من أول عملية بمشاكل وكالم كتير والعيار اللى مايصيبش يدوش
وأحنا يهمنا أن الزبون اللى حييجى يكون مطمن على نفسه وعلى فلوسه مش قلقان وخايف ويقول فى
نفسه ده ممكن اللى أتعمل مع بدرية يتعمل معايا .
ــ يعنى أنت عايزنى أنخ مع المرى دى .أنهت جملتها وقد زادت صرامة وجهها .طل النونو برأسه مجددا
بدا وأن فكرة مفاجئة قد أشرقت فى ذهنه فخرج صوته بلهجة مظفرة :كالم األستاذ صح ولو مشينا
باألصول مع الولية دى حتكسبى كمان بونت معتبر مع أبنك منصور والمثل بيقول اللى مايجيش بالشدة
بيجى باللين .تحركت له برأسها فى أستغراب وكأنها فوجئت بوجوده :وأيه كمان ياحكيم زمانك ! تدخل
المتر مصححا جملته األخيرة بعدما أعاد صياغتها :أبنك منصور طلع وال نزل لسه برضه صغير ولو
سديتى قدامه كل الببان يبقى ربنا وحده هو اللى أعلم حيتصرف أزاى وال حيعمل إيه عشان ساعتها مش
حتبقى فيه حاجة فارقة معاه خالص وكله محصل بعضه .راقب مالمحها قبل أن يستعمل وقاره وحسن من
رتابة صوته كى يدفعها ألعادة النظر .تابع :أكسبى أبنك يامعلمة وهاتيه فى صفك ،األسوة والعند مش
حتنفع معاه والحتجيب نتيجة بالعكس دى حتخليه يغرز أكتر مع بنت بدرية وأنتى ست المفهومية يامعلمة
وعارفة أنك كل ماتقفلى معاه سكة الكالم والتفاهم بتخليه غصب عنه يقرب من أبوه أكتر وأنتى أدرى
منى بعبده الجن وهو الوحيد المستفيد من خصامك ألبنك .ضربت كلماته الجزء المسئول عن التركيز فى
عقلها .دوامة الفكر تدور عاصفة تحت غطاء الرأس ،أشاحت بوجهها تبحث عن رد من وسط أفكار
ملتبسة :مش عارفة أقولك أيه لكن كالمك عاقل ومظبوط .سحبت نفسا ثم أطلقته بمرارة فى وجه النونو
الذى كان يتابع بدهشة لحظة ضعف نادرة طغت فجأة فى وجه فايزة حين خفتت نبرتها :ده أنا لسه أمبارح
مسودة عيشته .
ــ ملحوقة يامعلمة وكله يتدبر .عبارة رددها النونو بحماسة ثم صمت كى يفسح لها الوقت لتسترجع مادار
مع أبنها وبصيص من ندم يظهر خافتا فى حركة عينيها .باألمس كان منصور حريصا على أن يفهم ويتأكد
فأدار معها نقاشا ،كان يعلم مسبقا أن طريقه مسدود ،لكنه نقاش الرجاء األخير .كلم فيها نفسه بأكثر مما
تكلم معها حين دخل مناورا بكيسين موز وتفاح أحمر :خدى ياما شوية الفاكهة دول أتسلى بيهم وبالهنا
والشفا .نظرة ركنية وهى ممددة على السرير عاينت بها بضاعته :ودول بمناسبة أيه ياحيلة .
327
ــ هو اللى يجيب فاكهة ألمه يبقى وراها مناسبة ..هو فى أغلى منك ياما .أستندت على مرفقيها تسحب
جسدها ألعلى مستندة الى ظهر السرير :أنت عايز أيه ياوله بالظبط .أفرغ حمولته على طرف السرير
وجلس بجوارها يتحسس ظهريديها المشبوكتين على بطنها :مش عايز حاجة منك غير رضاكى عنى
وتقفى جنبى وتريحينى فى اللى أنا عايزه .حاول أحتوائها حين جفت مالمحها فأفرج عن أمنية هائمة
داخله ليس لها مستقر :هو أنا مش أبنك الوحيد ياما .ناولته نظرة دون أى تعبير فأضاف :خلينى أيدك
اليمين شورينى ياما ودخلينى معاكى فى زوارقك ،ياما الناس كلت وشى فى الحارة وفى القهوة وهمه
شايفنى ليل ونهار متلقح فى القهوة قاعد زى خيبتها بأعد اللى داخل واللى خارج وأنتى بالصال ع النبى
بتجرى ورا مصلحة هنا وبتخلصى حكاية هناك ..يرضيكى الكالم ده .قامت برأسها تنطحه بأستعالء
وأصرار :أه يرضينى هو ده جزاء اللى يعاندنى ويخرج عن طوعى ،وبراحتك ياحبيب أبوك وأبقى خلى
نوسة وأمها ينفعوك .قالتها ثم مدت يدها تخبطه بأناملها فى جانب رأسه مهددة :كلمتين تحطهم فى رأسك
الوسخة دى ياأبن بطنى ياحيلة ،أبوك اللى أسمه أبوك من يوم ماشفت خلقته وأتجوزته من خمسة
وعشرين سنة كان راسم ومخطط أنه يطوينى فى يومين تالتة تحت جناحه ويلهف اللى ورايا واللى قدامى
جرب كل حاجة ..لئم التعالب شوية على حبة حنان وضحك على الدقون شويتين وجرب البلطجة وقلة
األدب ماخالش حاجة وأخرتها سلم نمر وماعرفش يكسرنى والقدر يطول منى مليم واحد غصب عنى ..
كله بمزاجى !! أراحت رأسها للخلف تسندها ثم تابعت بنبرة أنتصار :وآهو فيك عينين تندب فيهم رصاصة
شوف أمك بقت فين واللى مايتسمى أبوك بقى فين واللى أن شاء اللـه من غير مقاطعة بسالمتك حتحصله
وعقلك فى راسك بقى ..أنسى البنت دى وأبعد عنها وأنا مستنياك وساعتها حأمشيك أنا على مزاجى .
نظرة ضعف ونبرة مشروخة هما ماواجه بهما أمه :ليه ياما كل ده واللـه حرام عليكى ده يبقى أفترى
وظلم .قالها منكمشا وأحتمال أستضافة صدغه لصفعة من كفها كان أقرب إال أنها فاجأته على غير العادة
بهدوء :كل واحد ياحبيبى ينام ع الجنب اللى يريحه .كان يحاول الفهم قبل التسليم بأن ماسيقدم عليه
أصبح قدرا المفر منه بعدما أيقن أنها مغامرة قدرية بأحتماالت مهلكة .
ــ أيه يامعلمة روحتى فين .جملة رددها النونو أعادتها مهمومة .بدت متراجعة على غير العادة مبتعدة
بعينيها كى تتيح ألفكارها فرصة الهدوء والتأمل ،لم تفكر بآلية العناد كما أعتادت ..شردت للحظات وسط
دخان متصاعد من حولها بنفسية سيئة :مارحتش يانونو .كلمات محمود المحامى هزت شيئا بداخلها
وسحبتها إلى منطقة ضعف نائية الزالت تتحسس حدودها بحذر :ع العموم كتر خيرك يامتر نصيحتك على
راسى من فوق ومهما حصل من منصور طلع والنزل هو أبنى الوحيد وأنا عارفة كويس أن السكينة
328
سارقاه والزن شغال على ودانه من كل حتة ومفهمينه أن أمه بتكرهه وواقفة فى طريقه مع أنى واللـه
العظيم مافيش حد فى الدنيا دى بحالها بيخاف عليه واليحبه أدى ويعلم ربنا أن كل اللى بأعمله ده عشان
فى األخر يفضله ويكبره من بعدى ..بس ده مش معناه أنى أعوم على عومه وأمشى على هواه ،الزم
يبقى كله باألصول والعقل .أبدى تفهما :عداكى العيب يامعلمة .فى حين طرح النونو رأيا كأثبات وجود :
وأنا من ناحيتى يامعلمة ممكن أتدخل وأصلح األمور .أحتوته فايزة بنظرة كان لها مفعول السحر ،جعلته
صامتا وكأنه مغيب عن العالم .
ماكان عليها إال أن تنتظر ماسوف تسفر عنه األيام ،وبغريزة األنثى األسطورية حجبت مايفور فى ذهنها
من تخطيط ..قررت فايزة بينها وبين نفسها المهادنة والمرونة ..هذا هو التكتيك ،خطوة تتبعها خطوة ثم
خطوة أخيرة حتى بلوغ الهدف .قامت تتحامل على كتف صبيها :ياله بينا ياوله .قالتها بـ " كرشة "
نفس.
ــ ماقلتيش يامعلمة حنعمل أيه مع بدرية ؟ قال سؤاله واقفا بعدما سحب حقيبته بينما لم تجد فايزة أجابة
حاسمة وسط فوضى مشاعر متخبطة وظالل باهتة من التردد :حأبقى أكلمك بالليل وأقولك تعمل أيه .
المعاينة المبدئية لنبرة صوتها تفسر تراجعا فى حدة الخطاب مع وجود شبهة تعاطف وتفهم .رحلت مع
النونو قبل أن تلقى نظرة أخيرة على واجهة البيت الذى صار مهجورا كبيوت األشباح إال من عينين
تتحركان فى األعلى خلف ضلفتى شيش موارب قبل أن تضمهما بدرية وتسحب نفسها للداخل بعد ماراقبت
رحيل فايزة وفرقتها ..القلق والتوتر هو شعار المرحلة التى تعيشها بدرية وأبنتها وهى تتابع بلهفة عملية
التهجير اليومى للسكان بأحساس مريض أجرب محتجز فى غرفة حجر صحى .حصار وعزلة قطعا عنهما
التواصل وباتت المعلومات شحيحة فبادرت بدرية تحت الحاح المعرفة بزيارة وداعية أستطالعية ألم ماهر
التى أستقبلتها مجهدة ومنشغلة تحزم أمتعتها تحت أشراف " عبد العاطى " الزوج الجديد عن طريق
أشارات شفوية يلوح بها بين الحين والحين مكتفيا بما قدمه من جهد خالل مفاوضاته مع محمود المحامى
التى أثمرت عن عشرين ألف جنيه قيمة الترضية المتفق عليها والتى صادرها كلها مقتطعا منها جزءا
بسيطا ألستئجار شقة قانون جديد على أطراف منطقة كرموز خلف المدافن بعدما أقنع أم ماهر بأنه بصدد
دراسة مشروع جديد سيتولى هو أدارته منفردا فخضعت لرؤيته وأستجابت لفكرته بعد تهديد صريح لها
بأنها ستحمل لقب مطلقة فى حال رفضها .بينما يتابع ماهر تطورات الوضع وهو اليملك من أمره شيئا ،
بدا مهموما ومنطويا على نفسه ينتظر عن قناعة نهاية درامية سيكون حتما هو بطلها .هبطت بدرية من
329
شقتها تجر لحمها خلفها قبل أن تتوقف أمام " بسطـة " أم ماهر التى أزدحمت بأمتعة وصناديق كرتون
وكومة كراكيب ومالبس قديمة تخص الزوج الراحل ستكون من نصيب عم " رمضان " سريح روبابكيا
وبجوار باب الشقة تالجة أيديال طاعنة فى السن ضرب الصدأ أسفلها بعدما تم أجالءها من ركنها التاريخى
على يمين الصالة حتى صارت رسمتها مطبوعة فى الركن وعلى األرضية من طول العشرة .طلت بدرية
برأسها من باب الشقة ثم شمرت جلبابها حتى بلغ ركبتيها قبل أن تفتح ساقيها عن أخرهما معلنة عن وثبة
عظيمة متخطية حاجز المتر متحاشية مستنقع من الحقائب الصغيرة تنوء بها أرضية الصالة ..سارت
بحذر وسط أثاث مفكك ومراتب مطوية وبوتجاز وغسالة وحلل ألمونيوم وحقيبة سفر ضخمة تجاهد أم
ماهر خلفها تدفعها بكل ماأوتيت من قوة تدفعها بكلتا يديها وهى تمشى على ركبتيها بينما الحقيبة مستقرة
فى مكانها كصخرة تأبى األنصياع فى حين كان عبد المعطى مستغرقا فى العبث بموبايله غاطسا فى قعر
كرسى فاردا أبتسامة باردة حين تقطع أنات صوتها الموجوع أنسجامه :أنتى عجزتى وال أيه ياولية ؟!..
ألتقطت أنفاسها الآلهثة قبل أن تزيح عن جبينها خطوط عرق متشابكة فاضت حتى تجمعت عند منبت
الحاجبين :تعبت ياخويا ..من أمبارح عمالة أشيل وأحط أنا والوله ماهر لما ضهرى أتقطم .أستنفر
منظرها حمية بدرية حين دخلت الطرقة المؤدية لغرفة النوم :ماتقوم ساعدها شوية ياسى عبد العاطى .
ــ أنا ماليش فى حكاية الشيل والحط ،وبعدين خالص هانت كلها كام ساعة وتيجى العربية تلم الليلة دى
كلها .
مسحت بدرية من موقعها الغرفة والطرقة والصالة بنظرة تأثر :خالص حتمشى ياأم ماهر وتسيبينا .
ــ عقبالى فين وأنا لغاية دلوقتى مش فاهمة أولى من أخرى والفيه حد كلمنى والحد عبرنى .قالت جملتها
ثم واجهتها تفصل بينهما الحقيبة فأردفت بجرأة :أخدتى كام من الوليه المفترية اللى أسمها فايزة .ثبتت
كفيها فوق حقيبتها العنيدة :حأقولك يابدرية بس أيدك معايا نسحب الشنطة الداهية دى .همست لها
بصوت خافت :هو بسالمته جوزك حالف بالطالق مايساعدك .قالتها وأنحنت فوق الحقيبة بينما رسمت أم
ماهر أبتسامة هزيلة :آهو بقى دلع رجالة يابدرية .أحتقن وجه األخيرة وأنتفخ حين أرتكزت على قدميها
وكتمت أنفاسها تدفع الحقيبة بأتجاه الباب التى لم تتزحزح إال مليمترات قليلة عن مكانها .فرفعت رأسها
تلتمس نفسا جديدا وبصوت متقطع :أنتى حاطة أيه ياولية فى الشنطة دى ..أوعى يكون جوزك عملها
330
وحبس الوله ماهر فى الشنطة .ضحكت ولم تعلق حين ألحت عليها بسؤالها المشروع :ماتقولى ياولية
أخدتى كام من فايزة .
ــ يوه بقى عليكى ساعدينى األول فى الحوسة اللى أنا فيها دى وبعدين حأقولك على كل حاجة .أحست فى
نبرتها تلونا ومراوغة فأستندت بكفيها على األرض وقامت منتفضة :كان على عينى ونبى من يوم عركة
المفضوحة فايزة وأنا ضهرى بينأح على .أنهت كالمها وخرجت من الغرفة متجهة ناحية الباب قبل أن
تلتفت إليها :مبروك عليكى اللى أنتى أخدتيه ياأم ماهر ..قصدى اللى سى عبد العاطى خده .ذيلت جملتها
صهلولة هزت جدران البيت الخاوى .صعدت شقتها خالية الوفاض التحمل سوى أحباطا ويأسا ..لم تجد
كالما مقنعا تصيغه ألبنتها التى سحبتها إلى الداخل يتداوال فى خوف عن مصير قادم بات وشيكا .
0000000000000
" أنتخ يامنصور ..نعيم حيخلصلك الليلة كلها من أولها آلخرها " عبارة أطلقها سليم وظل يرددها بألحاح
فى أذن منصور طيلة ثالثة أيام حتى صارت لزمة على لسانه ترافقه كلما أستفرد بصديقه .جملة كان لها
عظيم األثر فى فقدان منصور طاقته تدريجيا حين قاده سليم من حارة إلى حارة ومن زقاق إلى عطفة
وكأنهما يسيران داخل نفق تتصاعد منه روائح عفنة تشبه رائحة الجثث المتحللة ..سارا بين أزقة ضيقة
تلتف وتدور وتنعطف كدود األرض ،تحاصرهما بيوت من الصفيح على أعتابها كائنات تحسبهم للوهلة
األولى بشرا ،ملتصقين فى أماكنهم اليتحركون فأطمأن الذباب للمبيت على وجوههم دون خوف والتوتر .
أنتفخت عروق منصور وزاد أضطرابا كلما سحبه سليم إلى أدغال منطقة " الدخيلة " فيفصح وهو ينهج :
كده برضه ياسليم دى منطقة تجيبنا فيها .
ــ تالت تيام بتزن على دماغى لما ورمتها عشان آجى معاك أقابل اللى أسمه نعيم ده ،كنا أتنيلنا وقابلناه فى
أى داهية بعيد عن األرف ده .حاول سحب غضبه وانعاش معنوياته :هو فى أيه ياعم منصور أحنا كل اللى
يهمنا مصلحتنا تخلص وعديها بقى وماتلكش كتير ..نعيم ده صاحب مبدأ لما يحب ينجز أى مصلحة الزم
األتفاق يتم عنده فى البيت ..هيه دماغه كده .كان توضيحا ضروريا قبل أن يزف اليه بشارة الوصول حين
أبتسم :أدخل شمال يامنصور من اللى جاى هو ساكن فى أول بيت .زحف بعينيه مستطلعا :وساكن برضه
فى صفيح .
331
ــ عيب ياجدع ده راجل مالى مركزه فى المنطقة بحالها وله كلمة ،نعيم ده كان قبل كعبلة يناير والثورة
والحوارات دى كان شغال مرشد تحت أيد الحكومة والشغل اللى يجيبه كان يرفع بيه ظابط المنطقة رتبة
وترقية ..كان بالصال ع النبى يخلق القضية من العدم يلفقها ويظبطها ويسلمها بناسها بيضة مقشرة ..
راجل بصحيح حتتكيف منه أوى يامنصور .أنخفضت معنوياته فجأة وهو ينصت لـ " السى فى " سار
صامتا شاردا حتى توقف سليم أمام مدخل بيت يطل على مستنقع مياه راكدةيستضيف ثالثة أطفال حفاة
يتقافزون حوله ،فأشار له بالدخول فتعقبته الرائحة والرذاذ حين تخطى المستنقع وثبا مجتازا المدخل
فأصدر صرخة أرف رددها بتململ :دى شورة أمك سودة ..اللـه يحرقك .صدمت كلماته المتوترة مؤخرة
سليم الذى أعتلى قبله درجات السلم ،ثالث طوابق على ضوء والعة منصور قادتهما إلى سطح صغير ،
جزء منه مكشوف تشهد عليه السماء بينما تحتل غرفة خشبية مساحته الباقية ،حين داس بقدميه بالط
السطوح أرسل نظرة فضولية طاف بها فى المكان قبل أن ينحرف ببصره يمينا ناحية سطح الجيران فتتبع
أمرأة تملك " كرشا" باهظا ومؤخرة جبارة تركض بهما خلف رجل بجسد متواضع شاهرة شبشب بالستيك
صناعة محلية تالحقه بضربات تفادى معظمها قبل أن تسيطر عليه وتأسره فى ركن مظلم ثم قامت بتكريمه
كما يكرم الصرصار حين يمر أمام حذائك .سبقه سليم بخطوة ناحية باب الغرفة ..طرقتين بيده الناشفة ثم
أرتد للوراء منتظرا ومن خلفه منصور الذى ألتصق بظهره متابعا بقلق مشهدا لم يتوقعه .وقفا صامتين
تشهد عليهما ظالل البيوت التى أزدادت طوال على أرضية السطح .شيئا مرهقا يجثم على صدره زادت
وطأته حين سمع نداءا أفزعه :زق الباب يااللى بتخبط .بدا كصوت يستغيث من داخل مقبرة .دفعة واحدة
للباب فأنفتح وأهتز معه سقف الغرفة .دخال ملتحمين حين أجتازا مدخلها المصمم لعبور فرد واحد ..
تحررا من بعضهما ليطالع منصور غرفة مستطيلة بها كنبة خشبية تستولى على نصف المساحة وتلعب
جميع األدوار ..نوم وصالة وسفرة مكفنة بفروة خروف غالبا ماتم خطفه وأغتياله ثم سلخه على
يد نعيم ! .من أى زاوية يمكنك أن تتعرف على خريطة المكان ،فى المواجهة طرقة نحيفة بحجم رجل
مسلول فى نهايتها مطبخ شحيح التفاصيل كل مافيه بوتجاز " أطلس " فقدت عيونه األبصار عدا عين
واحدة ال تصلح سوى لتدفئة كنكة قهوة .أصاب منصور األكتئاب الينتشله سوى رائحة بول مركزة وصوت
سليم :تعالى نقعد على الكنبة .جلس ومال بعينيه قبل أن تميل بهما لألمام :أنا حاسس أنى قاعد جوه
عشة فراخ .ثبت سليم مؤخرته فى فروة الخروف بحثا عن توازن خشية األنزالق :ماتاخدش الناس
بالمظاهر ياأخى .
332
ــ أمال أخدهم بأيه ياأبن الوسخة .قالها منصور وصمت حين خرج رجل من زاوية مهجورة بجانب المطبخ
يمسك بطرفى بنطلونه المفتوح قبل أن يضمهما ..طويل عريض بذقن مدببة وعينين بارزتين عكرتين
زاد جحوظهما حين أقترب منهما يزحف بشبشبه .أفزعه منظر الرجل فوقف منصور متحامال على صديقه
الذى بادر بالتحية :أيه ياعم نعيم أنت كنت نايم وال أيه ؟ قالها ومد يده مصافحا قبل أن يمسح األخيريده
فى بنطلونه :ال واللـه كنت بأعمل زى الناس .برزت أسنانه السوداء حين أنشقت شفتيه عن أبتسامة .
أردف :متهيألى ده منصور .تولى سليم األجابة :هو منصور صاحب المصلحة .مد يده المبتلة :
يامرحبا ..ماتأخذنيش ياأخ منصور المكان هنا على أده بس مكنون .كان تنويها أستباقيا قابله األخير
بجملة مقتضبة :المكان كبير بصحابه .فى نبرته رائحة ريفية لمن يدقق ،لكن مع جحود الوطن وحاجة
البطن حين طال رقاده بمركز " الدلنجات " محافظة البحيرة بال عمل فضاقت يده فخلع الطاقية والجلباب
وجاء لالسكندرية غازيا منذ عشر سنوات .
ــ مش كنا أتقابلنا فى حتة تانية يانعيم بدل الكتمة دى .أمنية رددها منصور وهو يتلفت حوله ،حاول أن
بفرض أحترامه على نعيم الذى تحرش به بنظرة من تحت شعر حاجبيه الكثيفان كانت كافية لينصاع
ألشارته :أقعد يافندى المكان هنا ملموم وتحت السيطرة .قالها قبل أن يسقط داخل كرسى بالستيك مشقوقا
ظهره ثم دس يده فى جيب قميصه وأخرج علبة " كليوباترا" سلت منها واحدة أشهرها فى وجه منصور
الذى تسلمها مكرها ثم ألقى بواحدة فى حجر سليم :عشت يانعيم .ثم مر عليهما بشعلته .
بدا أن جسده لم ينكشف على ماء منذ زمن ،بقع سوداء تسكن رقبته كهباب فرن بلدى يتعامل معها بعفوية
عن طريق الهرش والفرك .
ــ أنا تحت أمرك يامنصور شوف طلبك أيه وإن شاء اللـه كله يتدبر .طارت منه الكلمات وأصبح أمامه
خالى الرأس .فأختصر رده :مش أنت اللى طلبت تشوفنى ..أؤمر .
ــ المؤاخذة فى دى الكلمة حكاية زى دى الزم أقعد مع صاحب المصلحة عشان أفهم العبارة من أولها
ألخرها وهيه دى أصول الشغل .داهمته حدة غير مبررة :هو مش سليم قالك على المطلوب .
ــ من ناحية قالى هو قالى ..بس .سكت سكوت التعالب .فعاجله منصور :بس أيه ..قول ياسيدى .
ــ المواضيع دى ياأخ منصور ماتخلصش فى كلمتين فيه تفاصيل رفيعة الزم أفهمها من صاحبها عشان
أعرف أظبط رسمتى وكمان األتفاق الزم يبقى مع صاحب الشأن عشان الحكاية حيبقى فيها هات وخد يعنى
333
ماينفعش يتصدرفيها سليم لوحده .أنتاب األخير أضطراب المقهورين :ليه يا عم نعيم هو أنا مش أد
األتفاق وال أيه .تصنع بعدها غضبا وأنكفأ بوجهه لألرض .
ــ ماتتأمصش كده زى النسوان هى دى أصول الشغل والزم أفهم الخيط أوله منين وأخره فين ..سامحنى
ياصاحبى دى حاجة ماتزعلش .ثالث سجاير مشعة بالدخان كانت كافية لطمس مالمحهم .يجثم صوته
الذى يخرج كله عن طريق حبل صوتى واحد على صدر منصور الذى يطمح ألنهاء األمر سريعا :كالمك
مظبوط يانعيم وأنا سامعك وتحت أمرك .دفع بدخان سيجارته من بين شفتيه فى عزم كمن يقضى حاجته
بعد نوبة مغص :اللى أنا فهمته من سليم أن فى حتة محجرة معاك وعايز تودعها فى األمانات كام سنة
عشان الدنيا تمشى والمصالح تسير وعشان ده يحصل يا أبن الناس الزم أظبط قضية صح يعنى الزم أفهم
كل كبيرة وصغيرة غير اللى سليم قالهولى .
ــ قال أنها مقتدرة ودايسة فى سكة التجارة وعندها ملك فى كرموز ولسه مستجدة فى شغل المقاوالت
والكالم ده كله والمؤاخذة يعنى اليقدم وال يأخر ..الحسنة الوحيدة اللى طلعت بيها من كالم سليم أن الحتة
دى دخلت السجن قبل كده يعنى سوابق وده حيساعدنى فى الرسمة اللى بأخمرها فى دماغى .تابعه
منصور بضيق ال يعلم له سببا ..خبط األرض بقدميه :الخالصة أيه يانعيم ؟ .
ــ أنا شايف أن الليلة دى تخلص بتربة حشيش ..قضية مخدرات ع السريع تريح وترتاح وقطمه أحسن من
نحته .قطب جبينه وركبته رهبة حين سمع كلمته األخيرة فيعيدها ممطوطة :حشيش .
ــ آه حشيش مع شوية سالطات ،لفة بانجو على كام شريط برشام .
ــ لو عايز تخلص نفسك وتنجز هى دى السكة الصح ..البضاعة والتحابيش أمرها سهل وتندس فى وسط
حاجتها وبعد كده كله حيبقى فى أيدينا ..األخبارية والتظبيط والتوقيت حتكون بأشارة من العبد للـه
وساعتها حتالقى رجال المكافحة بيخلصوا الحكاية فى مينت ومبروك عليك وكل عام وأنتم بخير .ترنحت
نظرات منصور أمام نظرة نعيم التى بدت وكأنها تبتلع كل ماتصادفه .
334
ــ حشيش وبانجو وبرشام دول يدخلوا السجن ومنه على الترب .ترافع دفاعا عن وجهة نظره مبديا ألتزاما
بمبادىء يحتفظ بها :عشان أريح ضميرى قدام ربنا أنا مش ضامن هيه ممكن تاخد فيها كام ..شلن
والبريزة وممكن أوى لو وقعت تحت أيد اللى مايرحمش يطسها ربع جنيه مخروم ومطرح مايسرى
يمرى .عبارته هاجمت أذنيه بضراوة أبقته ساهما قبل أن يدلو سليم بدلوه حين أستشعر ضيقا وتأثرا فى
وجه منصور :أيه ياعم نعيم أنت نسيت الكالم اللى قلناه سوا ،أنا مش رسيتك على اللى فيها وفهمتك أن
الحتة اللى الكالم عليها تبقى أمه يعنى ماينفعش بريزة وربع جنيه بناقصها حكاية الحشيش دى وخلينا فى
حاجة كده على أد األيد تالت أربع سنين وتبقى مرضية .حاول منصور تمرير كلماته بينهما :أنا عايز
حاجة مضمونة أبقى فاهم حتبدأ أزاى وتنتهى على أيه .
ــ ع العموم يأفندى سيبنى لبكرة أخد وأدى مع نفسى وأكون دبرتلك حكاية تانية تبسطك وتكيفك وتخلى
الوالدة تروح مشوارها مسافة تالت سنين وترجع .
ــ ماشى يانعيم .قام ينفض بنطلونه شاعرا بضيق فى النفس .كان رأسه مزدحما بخوف وأضطراب
وبتردد مراهق حين ينقلب المزاح جد .فأشار لسليم برأسه أشارة تعنى أنتهاء الزيارة فأصطف نعيم أمامه
يحاصره بجسده :ياريت بكرة وأنت جاى تبقى تجيب معاك خمس بواكى ربط كالم عشان الدنيا تمشى
بسرعة .
ــ ماتشغلش بالك أنا وعدتك حأخلصك وكلمتى زى السيف .نظرة شك تلقاها األخير من عين منصور :ربنا
يسهل .قالها وفر من أمامه مجتازا رقعة السطوح الى سلم األشباح ومنه للشارع يتبعه سليم .
مشى صامتا كمن خرج بكفالة على ذمة قضية ..نظرات ملتبسة واجه بها بيوت الصفيح مصحوبة بوجع
يتصاعد من ناحية الصدر .شعر بنفسه يعد اللقاء كالذى هتك عرضه بأصبعه ..هو الجانى والمجنى
عليه .قطع سكوته وخلصه من صراعه النفسى ذلك الكائن المستفز الذى يزداد أقترابا منه :شفت الراجل
القفل عايز يطس أمك تأبيدة ..أما واللـه ده بغل صحيح ! .أبطأ خطوته ولم يعلق وكأنه أبتلع لسانه فتابع
سليم متصنعا جدية التتناسب مع مشيته المترنحة :حتجهز له الخمس بواكى أزاى .شعر بأنقباض قفصه
الصدرى ..شهيق متقطع وزفير مبتور .تشنجت مالمحه حين ألتفت ناحيته :مش عايز رغى فى
الموضوع ده .قالها بحدة ثم توقف فجأة كمن رأى الفتة " أحذر منطقة ألغام ".
335
ــ فى أيه وقفت ليه كده زى المتكهرب .
ــ طلعنا من مخزن الصفيح ده اللى أحنا ماشيين فيه ..وقف لنا تاكسى وغورنا من هنا .دفعة سعال نشطة
سبقت تعقيبه :فى أيه ياجدع مالك متعصب ليه ومش على بعضك ..مش شغالنة يعنى أخدنا قعدتنا مع
نعيم ماعجبناش كالمه أدينا قصرنا القعدة وخدنا بعضنا ومشينا ..عادى يعنى فى مية طريقة تانية .
فى نفس الوقت زاد توتر عبده وقلقه ،لم تنعم مؤخرته بطعم الراحة ولم يحتضنها قعر كرسى منذ ساعة
تقريبا ،قطع القهوة طوال وعرضا مارا بين الموائد كمراقب فى لجنة أمتحانات ،يتابع النداءات ومطحنة
الكالم الدائرة حوله بال تركيز ..حوارات مكررة ومعادة ووجوه محفوظة ،بينما عبده الذى كان وعيه فى
تلك الساعة مستغرقا فى تعقب تكهنات وأحتماالت ماسيسفر عنه لقاء أبنه مع نعيم ،ينتظر عودته بفارغ
الصبر ..شغل نفسه بمتابعة برنامج لـ " محمود سعد " الذى يستضيف ضيفا ببدلة " بيج" يحاوره حول
قضية مثارة تتناولها بالتحليل كل فئات المجتمع من نخب الفزلكة وأرزقية البرامج أنتهاءا ببائعى الفاكهة
والخضار وعمال اليومية والباعة الجائلين الذى يرجع لهم عظيم الفضل والفخر الى تحويل مصر لسوق
كبير مفتوح ليصبح " بائع متجول لكل مواطن " طرح األعالمى القديرسؤاله بصعوبه بالغة بعد فك
وتركيب ونسيان وأرتباك اعقبه حالة توهان كعادته فى المرحلة األخيرة :هل محمد مرسى يحكم مصر
فعليا أم مكتب األرشاد ؟ لعبت المصادفة دورا عجيبا فى أيقاع الحلقة حين بداالضيف هو األخر يتمتع بنفس
السمات التى أصابت المذيع مؤخرا فظهر بطيئا تائها تخلت عنه مفردات الكالم ؟ .فكان حوارا بائسا
مروعا ..جمل غير مكتملة وأسئلة بصيغة حواديت يتصدى لها الضيف بأجابات يصعب فهمها أو ترتيبها .
وصل منصور وتابعه ،وجد أبوه منتظرا بالقرب من موقع التليفزيون .لمحه عبده من زاويته فترك المذيع
وضيفه ملخومين وسط تخبط ومقاطعة يبحث كل منهماعن أصل السؤال وكأنهما فقدا الذاكرة ..بينما ردد
عبده وهو يمشى :الراجل ده ماكنش كده ..الحول اللـه يارب ! فى طريقه قرأ عبارات ذعر تمأل وجه
أبنه ،وسع خطوته وهو يطوى جلبابه حول وسطه مقتربا من ذلك المذعور .
ــ أيه ياوله عملت أيه ؟ تخطاهما سليم :أنا حأشرب شاى وكرسى معسل .
ــ أسبقنى وأنا جاى وراك .قالها وألتفت ناحية أبوه مضطربا فأستشف األخير فشل المهمة بينما لخص
منصور أحداث الزيارة فى كلمة واحدة :فطشة !! .أصدر بعدها عبده صوتا مكتوما ساخرا قبل أن يفصح
عما توقعه :أنا قلت كده برضه ..الوله سليم ده ماتجيش من وراه مصلحة أبدا .ثم أدلى رأسه لألرض
وهم يوليه ظهره .
336
ــ رايح فين يابا ؟ .
ــ ماشى وبكره لما أشوفك نبقى نتكلم .هز رأسه دون أكتراث .هرش منصور مؤخرة رأسه فى طريقه الى
سليم قبل أن يرسل صوته لجمعه حين مر بالنصبة :هات لى واحد بن تقيل يابنى .لملم سليم رجليه حين
وصل منصور الذى رمقه بنظرة أستخفاف قبل أن يهم بالجلوس :هو ده اللى بناخده منك شاى ومعسل .
أستشعر تمردا فى نبرته :شكلك كده حاطط على .تنويه كان سببا ألنتفاضة غضب حرص منصور على أن
تخرج منه خافتة لضرورات األمان :على الحرام من دينى أنت البلبعة كلت دماغك وخلتك زى عم جزر
بتاع حارة فرهود اللى سارح فى حوارى كرموز باللباس والفانلة ،جايبلى واحد لبش دماغه لسعة تقعدنى
معاه وماقالش كلمة عدلة توحد ربنا تقول أنه فاهم وال فيه قمارةتبين أنه رسيم وبيخطط كل اللى طلعت بيه
من القعدة السودة دى حنجرة أمه الخربانة وهو بيقول تربة حشيش .أستياء صريح أظهره منصور جعل
سليم فى موقف اليحسد عليه فابدى تحفظا :يعنى هو أنا خطفتك وإال أخدتك غصب عنك ،من األول وأنا
مقريك قصة نعيم وأدينا لسه ع البر ياسيدى الدفعنا أبيض وال أسود .سكتا عن السجال المتبادل حين
حضر جمعه محتضنا صينية أنحنى بها أمامهما شارحا كمرشد سياحى :قهوتك يامنصور وشاى وشيشة
لسليم باشا .
ــ الباشا ده تحطه فى ..أفرغ جمعه حمولته بعد ماسمع الوصفة التى تخص مؤخرته ورحل متمتما :شكرا
ياأبو لسان زفر .أستند منصور بظهره وواجه الحارة بعينيه من خالل المدخل ،رجع برأسه للوراء متأمال
الموقف بهدوء ..سرح لدقائق .قطب جبينه حين مرت أمام عينيه سيارة نقل كبيرة تسير بحذر خشية
األصطدام ببيت أو األحتكاك بشرفة ،تحمل أمتعة وأثاث متواضع يتصدره أنتريه مقلم تحاصره غرفة نوم
مفككة ونيش وترابيزة سفرة بدون كراسى يحدها من ناحية الشمال مرتبة عتيقة خرجت أحشاءها وأمامها
" كومودينو " عليه تليفزيون صينى ماركة " شونج بونج " يسنده ماهر الذى بدا وكأن ال دور له فى
الحياة سوى أنه مع العفش .كل متر يقطعه السائق تعقبه جملة ندم يلفظها حين يطل برأسه من نافذة
السيارة صارخا :واللـه العظيم أنا اللى أستاهل ضرب الجزمة اللى حطيت نفسى فى الزنقة السوده دى ..
نقلة منيلة مايعلم بها إال ربنا .بينما فى ذيل الشاحنة " توك توك " يزحف خلفها كنملة تتبع فيل يحمل فى
جوفه " أم ماهر " التى تجلس بشموخ بجوار عبد العاطى كملك وملكة فى جولة تفقدية ألحوال الرعية .
337
أنتاب منصور شعور بالخجل وتملكه القهر كالذى يداهم رجال لحظة فشله بأداء مهمته فى ليلة الدخلة ،
فشن هجوما حادا على رجولته الفاشلة :السكان كلهم مشيوا من البيت ومافضلش غير البت نوسة وأمها .
رمقه سليم حين ألتقطت أذناه صوته المجروح :ربنا يتوالهم بقى .أنتفض أنتفاضة قزم :أزاى بس ياسليم
الناس دى بقت فى رقبتى سمعوا كالمى وقاعدين مستنين منى تصريفة ..أسيبهم كده وأقعد أتفرج عليهم
زى األكتع لغاية ماأمى ترميهم فى الشارع والتهد البيت على دماغهم .مد سليم بوزه وسحب رشفة عنيفة
من كوب الشاى حتى أنكشف قاعها كشفاط البرك :ماهو أنت اللى بتدلع العاجبك نعيم وال مرتاح لكالمه ..
طب عايز أيه بقى ؟! جفت مالمحه وأظلمت أفكاره دفعة واحدة :أنا مابقتش عارف عايز أيه ..كنت
فاكر أنى حأقدر أنفذ اللى فى دماغى ببساطة كده ومن غير وجع قلب .نزل بوجهه بين كفيه المفتوحين
وأردف :لقيت الحكاية صعبة أوى ومش حابة سكة معايا .دس األخير نظرة من عينه الغائمة فوق رأس
صاحبه المدفونة فى كفيه :مش فاهمك ياصاحبى .فتح يديه وسحب رأسه ببطء يرفعها :أنت بالذات
مش حتفهم ..ياريت تقوم تتكل على اللـه وسيبنى مع نفسى شوية .قام يحجل بقدمه بعدما أزاح الشيشة
مصدرا غضبة مكتومة :براحتك .رجع برأسه ثانية يتابع ظهر صديقه المقوس تتالشى من المكان
مرددا :روح ياأخى داهية تحرقك .أستشعر سخونة فى وجهه حين بدأت المشاعر المتضاربة تالحقه ،
تحولت كل ضغينة وجفوة الى شعور عارم بالخجل ،تحاصره مواقف وذكريات طفت فجأة لسطح ذاكرته
فأستقبلها ساهما كالتيس تعلو شفتيه رعشة حين قال :أفرجها يارب ! .
فى طريقه للبيت سار عبده عبر حوارى معلومة كرر السير فيها كما يفعل الحمار .مشى بطاقة متدنية ،
محبطا مهموما ،األمور تزداد تعقيدا وبأسا ..أولج مفتاحه ودخل الشقة ،تلقت أذنيه قبل عينيه صوت
فايزة التى أفترشت الكنبة ،لم تسعفه فراسته على تبين تفاصيل المكالمة التى تجريها .دارى صدمته حين
رآها ..بأبتسامة مترددة أقترب منها يستعيذ فى سره من الشيطان الرجيم .رفعت عينيها تتجول فى وجهه
بمالمح تعج باألرف .أختصرت زمن المكالمة حين جاورها على الكنبة :مش حينفع دلوقتى يامتر بكرة
حأعدى عليك أنا والنونو .وضعت الموبايل فى حجرها وقطبت جبينها حين ألتفت إليه :خير ياسبع أيه
اللى جابك بدرى .دعك جبهته :تعبان ومصدع ماقدرتش أكمل سيبت منصور وجيت .أستقبلت وعكته
بأبتسامة :يامسهل يارب .
ــ ياوليه حرام عليكى أنتى البترحمى والبتسيبى رحمة ربنا .تراجع لحم خديها :بسم اللـه ماشاء اللـه ده
أنت دلوقتى بتعرف ربنا ورحمته.
338
ــ هو أنتى ياستى شفتى منى حاجة وحشة من يوم ماطلعتى من السجن ماأنا فى حالى وسايبك براحتك
والبأقولك وال بأسألك أنتى بتسوى أيه وال بتعملى أيه .ترجرج جسدها على أثر ضحكة أطلقتها فىوجهه :
معلش سامحنى نسيت أقدملك تقرير على اللى بأعمله لكن أن شاء اللـه من بكرة حأبقى أخد األذن منك .
كانت تمضغ الكلمات قبل أن تنطقها " .مافيش فايدة " جملة كانت تتردد داخله وهى تالحقه بنظراتها .هى
بالنسبة له مثل الصقر ،مهما حلق بعيدا عن غريمه ،فهو مداهمه المحالة وماعليها سوى أنتظاراللحظة .
عثر على نبرة تليق بصداعه ،خافتة واهنة :أنا ياستى العايز تقارير والطالب منك حاجة كل غرضى يابت
الناس أنى أنا والوله أبنك نكون سندك فى الدنيا أحنا ناسك وأهلك وأولى بيكى من الغريب يافايزة والصح
بيقول أننا نبقى معاكى وواقفين جنبك ومصلحتك هى مصلحتنا .رفعت رجليها وتربعت على الكنبة وشبكت
أصابعها حول بطنها :بأمارة أيه ياسيد المعلمين .
ــ من غير أمارات أنا جوزك وهو أبنك الوحيد وال أنتى فاكرة محمود المحامى والنونو وخضر وشوية
المقاطيع اللى حواليكى همة ناسك ورجالتك وأحنا مالناش الزمة ..ماتأخذنيش بقى فى دى حتبقى غلطانة
أوى يافايزة راجعى نفسك وأحنا أولى من الغريب .
أبتسامة مائلة :جديدة األسطوانة دى وع العموم من عينيه األتنين حأراجع نفسى .ثم ضيقت عينيها تبحث
فى وجهه عن عالمات تكتيكه الجديد .تابعت :وال على أيه من غير مراجعة والوجع قلب من بكرة حأعدى
على محمود المحامى وأقوله ماعطلكش خالص أنا نويت أخلى جوزى حبيبى راجلى وسندى هو اللى
حيمسكلى حساباتى كلها ويدير بنفسه تجارتى وشغل المقاوالت الجديد ..ياسالم هو أنا أالقى فى الدنيا
أمانة زى أمانتك والحد يخاف على فلوسى غير راجلى وبالمرة كمان أقول للنونو وخضر والصبيان خالص
بح يارجالة جوزى وأبنى همه اللى حيبقوا فى ضهرى ويسندونى ..ده أنت تؤمر ياسيد المعلمين وأنا على
التنفيذ .
صعدت الدماء إلى رأسه التى ألتهبت ،دخل منطقتها المحرمة بعفوية حين قال بخشونة :أنتى بتتمسخرى
على يافايزة الهو أنتى فاكرة نفسك أيه بكرة تندمى وتدفعى التمن ونصيحة لوجه اللـه ألحقى نفسك وفوقى
وماتتغريش الدنيا غدارة والزمن خاين واأليام دول .صرخت فيه صرخة قفزت به حتى كاد ينكفىء :
أيه ..أسمع ياراجل ياناقص .تسمرت مالمحه وتسمرت معه :مش أنا اللى محتاجة أفوق أنا عارفه
كويس بأعمل أيه وفاهمة بأحط رجلى فين قبل كل خطوة وفر ياخويا كالمك وبص لنفسك ياموكوس ياعرة
يافصيلة التعالب أنصح نفسك بدل ماأنت عايش على أفايا وبتمص فى دمى .أنتفض واقفا يغالب ضيقا فى
339
التنفس :أنا مش عايش على أفا حد أنا شقيان ليل ونهار وقاعد مقطوع فى القهوة راضى بقليله حد غيرى
كان سابهالك مخروبة على دماغك ..بس ده مش طبعى .أنتزعته من مكانه بأظافرها المسنونة تدفعه
أمامها :حرقة لماتحرقك يابعيد قهوتى هى اللى عملتلك قيمة وسعر وسط الناس ومش فايزة عبد المقصود
اللى تتهدد ياروح أمك ،لو عندك دم ورجولة روح غور فى داهية بعيد عنى يابارد وأبعد عن قهوتى اللى
أنت عمال تشفط منها ياحرامى ياعديم األمانة .تتعثر خطاه وهى تتبعه كمدرعة حربية تدفعه بيديها وهو
يحاول الصمود :ياست كفاية حرام عليكى أنا تعبان سيبينى أدخل أنام .ظل يمضى بقوة الدفع ،حاول
مرات أن يتوقف ناحيتها ويلتفت اليها ليعلن أعتذاره وتوبته ..خارت قواه تاركا النمرة المفترسة خلفه
تشيع ماشاءت لها ثورة السباب واللعنات واطار من الضوء المنسكب الذى فتح له على مصراعيه :ياله
أتكل على اللـه أطلع بره شوفلك حته تانية أتخمد فيها .لكنه ظل ـ مع هذا ـ يردد :ياوليه أنتى فهمتينى غلط
مش قصدى يافايزة .تدفعه وهو يمضى كالعجل المربوط حتى شيعته بكف على ظهره .أحتوى السلم بدنه
المندفع قبل أن تصم أذنيه صوت أرتطام الباب الذى أوصدته خلفه .تفور فى صدرها أنفعاالت ثورة لم تهدأ
بعد ،تحدث نفسها وهى تدك أرض الصالة بخطواتها وأصابع قدميها المطلة من فتحة الشبشب تشى عن
عصبية التزال مختزنة فى أطرافها :فاكرنى كرودية جاى يسمعنى أسطوانة عشان ينيمنى ويلهف كل
حاجة .حملت أنفعاالتها واتجهت بها لغرفتها .جلست على سريرها صامتة ..واجمة ومتأثرة .أدمعت
عينيها فجأة بال مقدمات على غير العادة ثم تمددت لساعة كاملة دون حراك وكأنها مجمدة ،جافاها النوم ..
راقبت فراغ الغرفة بنصف عين ،تصحو فى داخلها دعوة لم تتبينها .وسرعان ماسحبها النوم إلى أعماقه
التى تزاحمت بتداعيات من الماضى والحاضر ،صنع تشابكها كابوسا ظهرت عالماته على مالمحها
المفزوعة وهى نائمة .
كانت تنتظره داخل الجامعة أمام مبنى الشئون األدارية وسط مشهد مروع من الطلبة ،تراجعت بسمة
للوراء تسحب نفسها من بين سياج األجساد المحيط بها حين خرج عليهم أحد الموظفين بوجه لم يضخ فيه
دم السماحة والبشاشة قطرة واحدة :ياريت تبعدوا شوية عن المكتب مافيش حد حيدخل غير لما زمايلكم
اللى جوه يطلعوا .
ــ أحنا بقالنا ساعة واقفين وماحدش بيطلع من جوه .كان ذلك واحد من شباب مصر المتحمسين .شب
الموظف على أطراف أصابعة يستطلع مكان الصوت :أقف ساكت يابنى ..حرام عليكو أحنا بشر ولنا طاقة
340
مش الزم يعنى كله يستلم شهادته النهاردة ،على خيبة أيه فاكرين الشغل فى البلد مقطع بعضه ومستنى
حضراتكم ؟! كعادة كل خريج يمسك شهادته ويرى فى نفسه أمال ربما يبزغ يوما .فى تلك اللحظة خرج
عليها أمجد رافعا شهادته بيمناه تفاديا لتلفها أو ينالها مكروه السمح اللـه من فرط الزحام القادر بسهولة
على فرمها وفرمه .كان صوته معبئا ومشحونا حين قنصها بنظرته تقف خلف دائرة الزحام تترقب :
بسمة ..يابسمة .كانت خطوته أسرع من صوته حين أنزرع أمامها بفرحته :خالص يابسمة أخيرا
شهادتى فى أيدى آهيه خريج جامعة أد الدنيا .
ــ مبروك ياأمجد ..ألف مبروك ،أنتو السابقون ونحن الالحقون .أنسلتا من مولد الطلبة ..سارت إلى
جواره تميل برأسها فيميل شعرها تتفحص مالمحه ،كان يبدو أنسانا جديدا ،اليكف عن الحركة والضحك .
ــ أخيرا أتخرجت ياأمجد .ألتفت إليها وقد صغرت أبتسامته :الحمد للـه من النهاردة المهنة حتتغير فى
البطاقة من طالب لعاطل ،خالص أسمى حيتحط رسمى فى كشوف العواطليه .وألن أحساسها كان قويا بأن
وراء فرحته جدارا هشا يخفى يأسا ومرارة ،فقد تعاملت معه بحذر كى اليتطرق الى أحالمه المستحيلة
وتفريعاتها :الصبر ياأمجد ده أنت لسه بتقول ياهادى .قالت حكمتها وسارت صامتة ،عزفت عن الكالم
عزوف فأر عن قط شرس .غلبته الفرحة ثانية وتخلص من أحباطه فجأة :أنا ناوى أفسحك النهاردة
فسحة على البحر حأخليكى بعدها تروحى بيتكم مش قادرة تدوسى على األرض ..حأمشيكى مشى .تبادال
أخبارا عادية ثم قفز بها إلى أمنياته القديمة التى يختزنها فى صدره :مش حتنوريلى بقى األشارة الخضرا
عشان أدخل ع الخطوة الجاية .
ــ يابنى أنا قلتلك خلينا عايشين سننا من غير تعقيدات والكالم كبير وكفاية على أنى بحبك .
ــ يابنتى يابسمة فى حكمة كان دايما جدى اللـه يرحمه يقولها ..مافيش حاجة أسمها حب البنت زى
الرصاصة تخرج من بطن أمها عشان تدخل بيت جوزها .فهمت مايعنيه وماينتظره منها ،إال أنها فى
الساعات األخيرة من ليلة أمس كانت الفكرة قد أستقرت فى رأسها حين قررت مكافحة آفة التردد والخوف
وأتخذت قرارا جريئا بمصارحة أمجد بحقيقة أمها .كان قرارا مفاجئا ساهم فى الوصول إليه ماأصاب
يوسف من مأساة فرفعت مجبرة شعار " بيدى البيدى عمرو " لم تفلح مخاوفها أن تثنيها ،سحقت عناد
عقلها ..النت مكرهة على أن يكون اليوم هو نزول كلمة " النهاية " على فيلم " الكدبة الكبرى " .أختارت
بعد تفكير يوم تخرجه لعلى فرحته تمتص فجاجة الحقيقة ..هى تعلم بأنها ستكون لحظة فارقة بالنسبة
لها .أما بداية جديدة أو نهاية متوقعة .سارا بأتجاه بوابة الجامعة ..إال أنها تباطأت فى خطوتها
341
فأستدارإليها :مالك يابسمة أنتى تعبانه وال أيه ؟ قالها وأنتظر ليتأمل وجهها ..كرمش عينيه دهشة حين
رأى جفنيها برتعشان ويرمشان كالذى ينظر لقرص الشمس فى عز الضهر .
ــ عارفها بتحبينى أوى أوى أكتر من األول ..قديمة قولى غيرها .
ــ أمبارح طول الليل وأنا قاعدة أفكر فى اللى حأقوله النهاردة ..بصراحة كنت مترددة وخايفة لكن بعد
تفكير طويل قلت لنفسى مابدهاش وقررت أنى أصارحك بكل حاجة .نمت قرون األستشعار عنده ،وأصبح
أكثر أنصاتا وتحفزا :أنا أول مرة أشوفك متوترة كده ..قولى فى أيه ؟ .ناولته نظرة طويله رشقتها
صريحة فى عينيه فتحيره وتقلقه :ماما ماكانتش فى الخليج وعمرها أصال ماسافرت .تجمدت حدقتيه فى
عينيه كالمتوفى .عالمات أستفهام وتعجب بطعم الريبة هما أول مابدر منه :مش فاهم ؟ أدلت رأسها
لألرض :من عشرسنين تقريبا كانت الظروف كلها متلخبطة وحطت ماما غصب عنها فى وضع مش
عارفة لو أى حد تانى فى مكانها كان حيعمل نفس اللى هى عملته وال أل ؟ .تهدلت شفته السفلى بأنتظار
جملة صاعقة على وشك أن تفجرها فى وجهه .تابعت :بأختصار ياأمجد أمى قضت عشر سنين من
عمرها فى الــ ..سكتت .زاد وجوما :فين ؟ .
ــ فى السجن .أرتفع فيه كل شيىء وأنخفض عشرات المرات ،قلبه وصدره وأنفاسه ثم صوته :السجن ..
أزاى يعنى .نطقها تائها .صارت كمتهم ضاق الخناق عليه فأنهار معترفا :شريك بابا سرق كل اللى حيلتنا
وأتهرب مننا ورفض يدينا حقنا وماما حاولت معاه كتير بس لألسف كان عديم الضمير واألخالق وفى أخر
مرة لما ماما راحت له عشان تطالبه بحقنا أنفعل عليها وحاول يضربها ..دافعت عن نفسها وخبطته بفازة
جت فى دماغه غصب عنها وقع ميت .بهتت عيناه كأنهما مصنوعتان من ثلج :قتلته .قالها وأظهر
أبتسامة مهتزة ثم أغلق عينيه يسترجع كلماتها قبل أن يفتحهما بعدما عثر على فهم مقبول :فى حد
يابسمة لما يهزر يقول عن مامته الكالم األهبل ده .
ــ ده مش هبل وال هزار واللـه دى الحقيقة اللى كنت مخبياهه عنك .هز رأسه وأنتكست نظراته .
لم يكن الكالم الذى يتردد داخله بقادر على أن يتخذ طريقه للسانه ،يقف عند صدره مثل كل هزائمه .
أتسعت عينيه بينما شبكت مرفقيها تحت صدرها تنتظر الحكم .
342
ــ أديك ياسيدى عرفت السر الخطير ..أتفضل بقى قول اللى عندك .أستجمع شتاته وهو يتصدى لها فى
هجمة مزعجة :عايزانى أقول أيه يعنى ؟ .
ــ أى حاجة ..زعالن مصدوم أرفان مش عايز تشوف وشى تانى .
ــ وال حاجة من دول .قالها بمالمح لم ترها فى خريطة وجهه من قبل .كان كالمخدر أو المضروب على
رأسه ،ثم أدارلها ظهره يستكمل طريقه بأتجاه البوابة .هرولت خلفه وشعرها تهزه األرض على كتفيها :
أستنى ياأمجد أقف .تلهث وراءه كما لو أن سى " السيد عبد الجواد " هو الذى يمشى فتتبعه .نادته :
أستنى ياأمجد .ألتفت لها رغم وهن الصوت ،فنالت منه نظرة كانت خليطا من الغضب واليأس والثورة :
عايزة أيه منى ؟ قالها وأشاح بيده حتى أجتاز بوابة الخروج ..لم يتبين تفاصيل المكان وظل أسير ذاته
تأكله األسئلة ..يجرى مراجعة قاسية وكشف حساب لقصة حافلة أصبحت األن فى مهب الريح كأحالمه .
وسع من خطوته حين لمح ميكروباص يهدىء من سرعته مقتربا من كومة بشر أمام البوابة ،فغاص
وسطهم بصدمته وأنحشر مع الصاعدين بينما هى التزال على أسفلت الطريق مع الذين فشلوا فى حسم
صراع الركوب ،تخشبت فى وقفتها أمام الميكروباص .بدت منكمشة وأصبحت شيئا محدودا كأنها نقطة
باهتة فى ورقة بالية .أنطلق به الميكروباص أمام عينيها ولم ترمنه سوى شعارا مكتوب على خلفيته
" اللى باعك بيعه ياجميل " وسارت متعمدة المشى البطيىء ،سير التفكير والتأمل كسحلفاه حكيمة ..
مشت كمن يمضى إلى طريق ال يعرف الى أين ينتهى .اال أنها مالبثت تقول لنفسها بأبتسامة راضية :
مافيش أحسن من الصراحة واللى يحصل يحصل .فى قلبها هدوء بصراط الحقيقة الذى تمشى عليه
منجذبة إلى طريقها ومنصهرة فى عالمها ،ولتحدثها كلماتها أنها قضت لحظة صدق مع نفسها ومع أمجد
كانت مخاضا لصراع دام سنتين .لحظتها هبت ريح محايدة ،الهى باردة والساخنة .أحست بها تالمس
وجهها ،لم تتطاير خصالت شعرها ،كانت منسدلة صامدة على جبينها وكان الصمود بات هو شعار
مرحلتها القادمة .شعرت بوجع فى عضالت ساقيها فأشارت لتاكسى .وكما دخلته ساهمة خرجت منه
واجمة عندما توقف بها بمحاذاة مدخل البيت ..هبطت منه ..كان العصر هو األخر يهبط معها .دخلت
الشقة منحنية بطيئة ..تفحصت المكان فى أستغراب وكأنها أخطأت الشقة ..الصالة أمامها كجثمان مسجى
وسط سكون تام وكأنها قاعة للموتى ،تكاد تسمع همس أنفاسها ،تململت خطواتها وسط أجواء كئيبة
وأبواب موصدة ..مأساة خلف كل باب ! ..يوسف فى غرفته اليبارحها من لحظة أزمته ،هدى مع وحدتها
يرافقها شعور بالغربة والمتاهة ،أيات أختارت الماضى أن يكون حاضرها ومستقبلها .مشهد حزين
343
بأمتياز .فتحت باب غرفتها ..أستقبلتها ظلمة باهتة ثم أوصدت الباب خلفها لينضم لمجموعة األبواب
المغلقة ..تمددت على السرير تنتظر البكاء .
000000000000
يومان وثالث ليال مرت على يوسف وهو على نفس الحال من العزلة والوحدة واألرق ،نسى أن له أعضاء
تتحرك ..اليفعل شيئا ..أى شيىء ،فقط أصبح مجرد رأس مشحون بالذكريات ..صار محدد األقامة وهذا
قرار أتخذه بمحض أرادته .صحيح أن بعض األمور المعقدة يحلها الزمن وبعض الحقوق تسقط بمضى
الوقت ،لكن هذه األزمة ـ كما بدت له ـ من نوع خاص .لم يكن قادرا على أستيعاب ماحدث .لكن هذه
ليست مشكلته وحده .المشكلة صنعتها أمه ،وطلبت منه أن يخرج منها برأى محدد ..هذا الرأى يجب أن
يكون هو الرأى األخير وال رأى غيره حين ألحت عليه بتساؤلها العظيم .
ــ جاوبنى يايوسف وريحنى أنا ظلمتك ؟ أنا اللى ضيعت أحالمك ؟ فهمنى يابنى ؟ أنا لوحدى اللى مسئولة
عن مشكلتك مع هدير ..رد على ؟ .كان كالمومياء فى تابوت ..محنط فى مكانه جاف المالمح .أستحثته:
خليك صريح مع نفسك ومعايا وأعترف أنك غلط من البداية .تحركت عينيه داخل وجهه المتخشب ناحية
الوجه الشاحب المتشبث بأمل النجاة :أيوه يايوسف أنت غلط غلطة كبيرة أوى يابنى ،كان الزم تصارحها
بكل حاجة لما أتأكدت أنها فعال صادقة معاك وبتحبك ،ليه ياحبيبى عايز تشيلنى الذنب الكبير ده لوحدى .
مسحت عينيها ومسحت أنفها وأختارت مدخال أخر لعلها تجد فيه حال يعالج صمته .
ــ تحب أتصل بيها وأكلمها أو حتى أروح لها البيت وأفهمها كل حاجة وأحكيلها ظروفى بكل صراحة ويمكن
كالمى معاها يقنعها ويخليها تراجع نفسها وعشان خاطرك كمان حأقولها أنى أنا اللى طلبت منك
ماتصارحهاش بحكايتى وحأقنعها أن دى غلطتى وأنا متأكدة أنها حتفهم وحتقدر و ..دبت الحياة فجأة فى
الجسد الميت وصرخ بصوته كالذى قام من نومه مفزوعا من كابوس يالحقه .
ــ كفاية ياماما ..مش عايز أسمع حاجة عن الموضوع ده خالص ،أنا خالص نسيته وشيلته من دماغى
وعشان خاطرى ماتفتحيش الموضوع ده تانى ..لو سمحتى .
لم يبق له غير عيون مجهدة ..الغرفة أمامه مخنوقة .التنفرج أبدا وكأنها فتحة كهف منحوت فى جبل ..
مجرد مكان مهجور خال من األحياء ..أقرب شيىء الى نظره يمكن أن يراه ،وجهه الشاحب فى المرآه .
344
لم تنس هدى أن توقظه كما أوصاها فى الليلة الماضية بعد أن رضخ مكرها لوجهة النظر القائلة :شغلك
فى مكتب المهند س ناجى مالوش دعوة بمشكلتك مع هدير ..شق طريقك وأثبت وجودك وخلى الدنيا كلها
تعرف أنك جدير بوظيفتك فى المكتب ..الرجولة يايوسف أنك ماتنكسرش قدام أول صدمة خليك
أد المسئولية .كانت نصيحة فى شكل بيان وقع عليها الجميع تأييدا ومناشدة .
فتح عينيه .على أنه ماكان ينهض حتى جلس ثانية خائر القوى .كأن يشعر بأنه اليتحكم فى أعضائه ،قام
من جديد وشيئا فشيئا تحامل على نفسه وفرد طوله .فتح النافذة ألول مرة منذ ثالثة أيام وهو يغمض
عينيه ويفتتحهما فى ضوء النهار القوى الذى كشف عن هاالت سوداء تحت عينيه .تبع هذا حالة من
التأمل الصامت .لم يكن يرى شيئا فى الخارج .أقترب بحذر من المرآةثم مالبث أن أبتعد عنها سريعا .
الجدوى من الهرب ،فقد كانت صورة هدير وأمها وأبيها بداخله تنعكس مع صورته فى المرأه ،ولو أنه
أستطاع أن يحطم نفسه الى ألف قطعة ألحتفظت كل قطعة منها بصورة كاملة .
اليمكن أن تمسح المحنة العقل ،فيبدو بريئا كالطفل أو أبيض كالحليب ،اليمكن !! .
بدأ يرتدى مالبسه ،بنطلون وقميص بعدما أجرى عملية مونتاج سريعة حذف ذقنه وهذب سوالفه محاوال
األيحاء بتحسن حالته .دخلت أمه غرفته تتصنع أبتسامة مشجعة :صباح الخير يايوسف ..شايف وشك
بقى منور أزاى لما حلقت دقنك .تحاشى أن ينظر إليها ،ولم يرد عليها ،بدا وكأنه مستغرق فى األستعداد
للخروج ثم أدار لها ظهره خارجا من محبسه وكأنما يفر من البيت فى حين بقيت هى فى مكانها كتمثال من
الخشب .بدالها وكأنه خرج إلى غير رجعة .
مرمن الصالة بسرعة ..فتح باب الشقة وهبط درجات السلم كأنسان آلى يتحسس بقدميه درجة درجة
يسمع نبض عروقه النافرة التى أختلطت مع صوت طقطقة الفقرات ومفاصل الركبة .تخطى المدخل
مرتجفا ..بعد خمس دقائق من وقفته المتشنجة أفرغ نظرته فى تاكسى " الدا" قادم يتهادى ،أشار له
فأنصاع ألشارته .فتح الباب ..بدا ناقص الوزن وهو يطوى نفسه داخله .كان فاقدا للنطق ولم ينبس
بكلمة طول الطريق .شرد فى المارة وفى أنعكاس ظالل البيوت على األسفلت الباهت ،حاول " السائق "
أستدراجه لحديث لكنه لم يجد تجاوبا .أنقضت ربع ساعة قبل أن تظهر بشاير العمارة بأدوارها العليا :
لحظات ونزل ثم أتخذ طريقه الى المدخل صاعدا سبع درجات رفعته حتى باب األسانسير ليجد عم "جودة"
البواب واقفا بجوار بابه ففتحه حين أقترب يوسف :عاش من شافك ياباشمهندس .
345
ــ مشاغل ياعم جودة .دخل األسانسير الذى حمله للطابق الثانى ..تباطأت خطوته ،قدم رجال وتلكأ بالثانية
وقف على مدخل المكتب كالواقف أمام ضريح ثابت فى مكانه يتلقى دفعات من الهواء البارد المنبعث من
الداخل حيث التكييف يعمل بنشاط .أهتز فيه كل شيىء حين وطأت قدمه أول بالطة داخل المكتب يغالب
شعورا بالوحدة واحساسا بالضعف بأنه أصبح بال سند ودون دعم .أال أنه أبدى رغبة فى المقاومة فأظهر
أبتسامة متماسكة رسمها حين مر بمكتب المهندسة " أيمان " :صباح الخير ياباشمهندسة .
ــ حمد للـه على السالمة نورت المكتب يايوسف ..أنت من النهاردة بقيت مهندس رسمى فى المكتب..
أستعد بقى يابطل ..شغل التدريب خالص أنتهى وحندخل فى الجد ..أدخل مكتبك وظبط نفسك وأخر النهار
حأقعد معاك عشان نحدد طريقة الشغل حتبقى أزاى .تلقى كلماتها بنفسية راضية ثم أتجه للداخل ناحية
مكتبه ..فتح الباب .مفاجأة مذهلة كانت تنتظره ..هدير تجلس خلف مكتبها ..ولما رأها ،هيستريا هائلة
عصفت برأسه فألهبت وجهه بحمرة .أنقطع حبله الصوتى للحظات وهربت نبراته ..دخل مهتزا ،رأى
دموعا شفافة ووجه أحمر خالى من المكياج وشعر مشدود للخلف .كان باديا أن عيناها خاصمت النوم .
ردد كلمات مبتسرة تكسرت مخارجها حين أقترب من مكتبه المواجــه لمكتبــها .لم يعرف ماذا يقــول
سوى :صباح الخير .عيناها متحجرتان يؤلمان منظره :صباح الخير .
جاهد أن يستجمع شتات ذهنه وأرتباكه ،جلس فى هدوء على كرسيه .مرت لحظة .مر دهر .لم ترتفع
يده لتمسك باألوراق ولم تبدأ أصابعه المرتجفة فى التسلل ألدواته بينما هى تتابع حركاته .ثم لم يلبث أن
دس يده فى جيب قميصه وأخرج تليفونه المحمول ،راح يقلبه بين أصابعه فترة .راحت تقلده وهى تقلب
عينيها وأصابعها بمحتويات المكتب ،حتى لم تعد تحتمل .خرج صوتها من أعماق أنهيار كامل .اذا كان
ألعماق األنهيار صوت :الباشمهندسة أيمان أتفقت معاك على حاجة ؟ أستمر بالعبث فى موبايله وكأن
صوتها لم يصله .كانت تعرف طباعه ،خاصة كبرياءه وعزة نفسه ..تفهمت دوافعه وقدرت حقه فى
تجاهلها .حاولت ثانية :تقريبا المهندسة أيمان حتخليك تمضى على عقد التعيين وحتحدد لك مرتب
وحوافز .لم يبد تجاوبا ولو بسيطا .بقيت على حالها فى مواجهة صنم أدمى تنتظر أن تدب فيه الروح .
تعالت نبرتها نسبيا :بقالك تالت تيام ماجيتش المكتب .
ــ كنت مسافر .قالها بنبرة قاسية متحاشيا النظر اليها .أكاذيبه دائما تعريها عينيه .
346
ــ ع العموم حمد للـه على السالمة .سبقت جملتها أبتسامه ضعيفة .جلسا صامتين مثل جزيرتين منعزلتين
تفصلهما سجادة " موف" بين المكتبين ،أمتد الصمت بينهما كأنه رفيق ثالث بينما ظلت هى داخل حالة
التأمل الذى بدأ يتحول الى شرود وأسترجاع مع مضى الوقت .
ــ أوعى يابنتى تضعفى قدامه أو تخليه يضحك عليكى وأياك تديله فرصة يبرمجلك دماغك مرة تانية ،
كالمى ده مش سببه أنه طلع كداب وغشاش ،أل ده عشان سبب أكبر يخصك ويخص مستقبلك ومستقبل
أبوكى وسمعته وأوعى حد يقنعك ويدخل فى دماغك أن الدنيا دلوقتى أتغيرت وماعدتش زى زمان ومافيش
حد بياخد باله من حاجة وأننا بقينا فى زمن غير الزمن ..أل يابنتى كل ده عبط وكدب والناس هيه الناس
والزمن هو الزمن والدليل على كده أن لما حد بيشوفك فى مكان ويكون عارفك بيشاور عليكى وأول حاجة
بيقولها دى بنت أكبر مقاول فى أسكندرية وهمه برضه نفس الناس اللى حيشاوروا عليكى بعد كده
وحيقولوا بنت أكبر مقاول أرتبطت براجل أمه كانت فى السجن وساعتها حتبدأ األسئلة هيه دخلت السجن
ليه ؟ عشان حادثة عربية وال مخالفة مرور ..الصدمة يابنتى حتبقى كبيرة أوى لما يعرفوا أنها كانت
مجرمة وقاتلة ؟! .هذا هو أبوها ..هى تعرف تماما هذه المقدمة التى أراد أن يدخل من خاللها إلى قلبها
قبل عقلها ،واليبقى بعدها سوى أقناعها ،رسالته كانت تحملها كجنين فى أحشاءها ،كما حملت معه
سؤاال كبيرا يفرض نفسه على المشهد .هل الجنين سيتغذى على عصارة الواقع وحساباته حتى يكتمل
بنيانه ويصير كائن مصنوع بال روح يكبرويكبر حتى يسد مابينها وبينه ،أم أن حبها المشروع سيكمل
دورته الطبيعية المعتادة كافرا بشرعية الواقع وحساباته ؟! .أستمرت عيناها تتمليانه ..وللمفاجأة ظلت
عيناه تنظر فى وجهها مباشرة .لم تخجل أو تخفض نظرها ،أحس أن نظراته قد طالت ،لكنه أصر إال
يخفض بصره إال بعدها .لكنها لم تفعل .وطالت النظرة ،حتى أمتثل وأدار بصره عنها .تسللت يدها
وقبضت على القلم وهو يتأمل مالمحها وهى ترسم خطوطا على الورق ،حاول أن يبحث فى عينيها عما
تفكر فيه ..أى شيىء فى رأسها ؟ . .أنفها الصغير ينبض كالهمس مع حركة أنفاسها ،كانت تركز على
أعصابها فى يدها .بعثت اليه فقط بنظرة وشبح أبتسامة ..هى التملك أكثر من هذا وهو غير قادر على أن
يفهم شيئا .أضطرت هى لآلنتقال الى درجة أخرى أكثر مواجهة محاولة أن تثقب جدار الصمت :أنا مش
عارفة أنت ساكت ليه وشكلك مش طبيعى ..هو مين فينا اللى المفروض يبقى زعالن أنا وال أنت ..مين
السبب فى كل اللى حصل ده ومين اللى عقد األمور وضيع كل حاجة ..أنساب الكالم منها مؤلما ..فضفضة
أو عتاب أو تبرير ! .
347
ــ كده بالبساطة دى أنا اللى عقدت األمور وضيعت كل حاجة وال أنتى وأهلك اللى أصال معقدين ومغمضين
عينيكم وسدين ودانكم ومش عايزين تشوفوا وال تسمعوا غيراللى على مزاجكم وبس وأولهم أنتى بالذات
ماصدقتى ولقيتى حجة خايبة وأتعلقتى فيها وعومتى على عومهم مع أن كان فى أيدك تسألينى وتواجهينى
لما حسيتى أنى مخبى عنك حاجة وكان سهل أوى تعملى كده ده طبعا لو أنتى فعال بتحبينى وكنت ساعتها
حأعذرك وحأتحملك لوزعلتى منى أو حتى بعدتى عنى أو عملتى أى حاجة كنت حأقبلها منك وكان حيبقى
معاكى كل الحق بس بعدما تواجهينى وتسمعينى وتعاتبينى زى ماكنا دايما بنتعاتب ونتحاسب ..أشمعنى
المرة دى ..ليه أشتكيتى ألهلك قبل ماتسألينى وتدينى فرصة أدافع عن نفسى ..ليه عملتى كده ؟ قال
جملته األخيرة ثم دق المكتب بقبضته فأنتفضت ..تابع بنبرة متحشرجة :ولما قلتلهم وأكتشفوا السر
الخطير وعرفتوا حقيقة ماما ليه ماكلمتنيش فى التليفون ونهيتى كل حاجة ..جملة واحده كنتى حتقوليها
ومش حتاخد من وقت حضرتك نص دقيقة أبعد عنى أنت بنى أدم كداب وغشاش ..قولى كل اللى فى نفسك
وكنت ساعتها حأعذرك وحأنسحب بهدوء ..لكن دلوقتى وبعد ماقتلتى القتيل عايزه تعيشى دور
المظلومة ..ماعدش ينفع ألعبى غيرها .بقيت مسمرة فى مكانها تعيش كابوس اللحظة بدت غارقة فى
بحار من الهواجس وأفكارها مشتغلة بالعثور على طريقة ما ألنقاذ نفسها من هذا الشرك .
ــ قبل ماتحاسبنى وتهاجمنى ياريت تحاسب نفسك األول أنا لغاية دلوقتى مصدومة فيك ومش مصدقة أنك
كدبت على كل السنين اللى فاتت دى وماحاولتش ولو لمرة واحدة تقف مع نفسك وتقول كفايه كدب لحد كده
..ماجاش فى دماغك أبدا أن حييجى وقت والكدبه حتنكشف ،أنا مش قادرة أفهم أنت كنت بتفكر أزاى
لدرجة أنى مابقتش عارفة أنت كنت عايز منى أيه بالظبط وال كنت ناوى على أيه ..أكيد كنت عايز تكمل
الكدبة لغاية األخر ..لغاية ماتتجوزنى وتحطنى أنا وأهلى أدام األمر الواقع ..هو ده اللى أنت كنت عايزه .
طرحت تحليلها وتوقفت عن الكالم ،فلم يتبين أن كانت قد أستراحت أم أفرغت مالديها ،لكنه أحس أن
قرارها نهائى وكالم والدها المقتضب الذى وجهه له فى زيارته األخيرة لم يكن سوى القرار الحاسم .قام
من كرسيه يضغط أضراسه ،غير أنه حين تأهب لها ،تقلص وجهها رهبة ،كسى الفزع مالمحها حتى
سرى فى أطرافها المشدودة تحت المكتب ..أقترب منها متحامال على نفسه ليقف أمامها كثائر يرمقها
بنظرة تكاد تقتلها .
ــ من يوم ماعرفتك عمرى مافكرت لحظة أنى ممكن أجرحك أو أضايقك والكانت نيتى أبدا وحشة من
ناحيتك والكنت طمعان فيكى والعايز منك حاجة أصال والحمد للـه دلوقتى كل واحد فينا ظهر على حقيقته ..
348
أنا غشاش وكداب زى ماأنتى وأهلك حكمتو على ،لكن كمان أنتى وأهلك طلعتوا ماعندكمش ضمير
وال أخالق والبتعرفوا تقدروا ظروف الناس والتعذروهم ! .راقبته وكأنها تراقب وجه شخص آخر ،عينان
ناريتان تطالن من وجه محتقن .قامت من مكانها ..أمسكت بذراعه وبعبارات تتوتر باألنفعال :الزم نتكلم
يايوسف .
ــ هو لسه فى كالم ماخالص كل حاجة أتقالت وماعدش فى كالم تانى يتقال ونصيحتى لكى عيب أوى واحدة
زيك وبنت مقاول كبير تعرف واحد زى حاالتى أمه سوابق ربة سجون .واجهته بعينين وكأنما هى حبلى
بدموع البراكين .
أنت خلتنى فقدت الثقة فى كل حاجة حتى فى نفسى وفى اللى حواليه.
ــ أنتى اللى كسرتينى وجرحتينى ودبحتينى بسكينة باردة .أنهى جملته وخلص ذراعه من يدها
التى سقطت إلى جوارها كأنما لفظت النفس األخير فتهدل شعرها على وجهها كقناع تخفى خلفه أرتباكا
وأحباطا .خرج دون أن ينظر إليها وقد قرر إال يعود هنا مرة أخرى ،ليبدأ مرحلة جديدة فى حياته ..
مرحلة األنطواء والمتاعب النفسية .سلك طريقه خارج المكتب ولم يستطع أن يدرك ،بماذا كان يفكر
أو ماهو الشعور الذى طمس عقله حين حدثها .حاول أن يستوعب ماجرى حين تلقى أستفسارا على
لسان المهندسة أيمان :رايح فين ياباشمهندس .أنتزعه السؤال من دائرة السرحان ،لم يرد وتابع
مسيرة الفرار منهيا رحلة عمل سريعة دامت ساعة تقريبا قبل أن يعلن داخله قرارا بالتقاعد .خرجت
هدير تبحث عنه بعينيها فلم تجد له أثرا ،سحبت نفسا بطيئا ثم رجعت لمكتبها تعانى برودة فى كل
جسمها وكأنها وسط عاصفة أتية من القطب الشمالى .
أعتدلت بسمه فى جلستها بركن الصالة حين فتح يوسف باب الشقة ودخل ،كان عابساوبائسا ،قرأت فى
وجهه صدمة جديدة فلوحت له قبل تطلق سراح تليفونها المحمول المعتقل منذ األمس بين يديها أنتظارا
لمكالمة موعودة ستحدد بشكل نهائى مسارعالقتها المحتضرة بأمجد وإن كانت الشواهد حتى اللحظة
المستحيلة . تضع تخيلها فى خانه األمنيات
ــ خيريايوسف رجعت بدرى ليه؟ مسح وجهه حين مرامامها فى طريقه لغرفته :حسيت أنى تعبان شويه.
استقبلت كلماته بتفهم متبنية نظرية " أن هناك خطأ وخطيئة وفاتورة البد من سدادها " تتبعته بنظرة
349
تحمل عنوان ( كلنا فى الهواسوا ) حتى دخل غرفته ..ألقى نظرة مهزومة ثم رمى تليفونه وسلسلة
مفاتيحه .أغمض عينيه بعدما أستلقى على السريرالذى الزال يحمل خريطة جسمه ..تمدد بمالبسه دون
حراك كميت حانت لحظة غسله .أختارت عينيه التى طلقهما النوم أيقاعا بطيئا فى الحركة والدوران
مسترجعا مادارفى المكتب واضعا نفسه فى وضعية المتهم المدان تارة وبين األندماج داخل حالة من
المظلومية الحسينية كمجنى عليه تم اغتياله معنويا ومصادرة أحالمه بال رحمة وفق مخطط جهنمى أداره
وأشرف على تنفيذه فلول التقاليد ومنتحلى الحكمة .أغمض عينيه حتى غرق فى هواجسه تتقاذفه حقائق
وأوهام ،حقيقة واحدة مسلطة عليه ..حياة قادمة بالهديروبين وهم محنة عارضة فى طريقها للزوال .لم
يدر كم مرعليه من وقت فى الدفاع عن نفسه وإظهار براءته وسط يقين مطلق أحتل عقله بأنه ذاهب حتما
لتنفيذ حكمابات نافذا ّ دون أستئناف أوإلتماس .أستمرساكنا حتى العصريتنقل بذهنه بين مواقف وذكريات
صار يحملها وتالزمه كأنفاسه .شعر بالرغبة فى التعبيروالكالم فأستقل فجأة حذائه المركون تحت
السريرخارجا من غرفته إلى الصاله الخالية ومنها لباب الشقه بعدما قرران تكون وجهته هى شقه
الخواجه " كرم " .
لحظات وكان متصدرا ّّباب شقة الخواجه الذى أستقبله بفرحة مرتديا تيشرت أحمرفشل فى أحتواء لحمه
المتهدل ،عانقه بصعوبة يفصلهما صدرمفرطح ينام على كرش مهيب تنوء أردافه بحمله والتى أنحشرت
داخل بنطلون جينز سماوى يحمل عددا كبيراّمن الـ "×××× " حمرة وجهه الزالت سرا ّ مخفيا عن كل من
اقترب منه ،بدا فى هندامه قريب الشبه من الفنان " يحيى الفخرانى " صافحه وأمسك بيده حتى أدخله ثم
رافقه إلى غرفة األستقبال السابحة فى بحرمن ضوء النهارمصدره النافذة الضخمة التى نزع شيشها منذ
سنوات وتركها فى حماية زجاج أبيض يفضح أكثرمما يسترقاصدا ّ أن تعيش الغرفة فى حالة نهارية
متواصلة ..أنحط صامتا على الكنبة الجلدية بعدما جال ببصره فى الغرفة ،لم يلحظ تغييرا ّ بينما
أظهرالخواجه ضعفا شديدا ّ فى اللياقة البدنية حين جلس إلى جواره مرتميا ّ كأنه سقط من جبل .
ــ ياه يايوسف من كام سنه ماجيتش زرتنى هنا .قالها والزالت انفاسه الهثة.
ــ سامحنى ياخواجه أنت عارف ظروف الدراسة خدتنى وأتلهيت فى الدنيا والمشاكل .أستوقفته الجملة
األخيرة وأدار له رقبته قبل أن يتزحزح بجسده :الدنيا والمشاكل حتة واحدة كده ..لسه بدرى أوى
ياحبيبى على الكلمتين دول .تدريجيا بدأت مالمحه تتجه لألنقباض :متهيألك ..أحنا دلوقتى فى
عصرالسرعه مافيش لسه بدرى كله أوام أوام.
350
ــ آه ..أنا كده فهمت ؟! .
ــ فهمت إيه ياخواجه .توجع حين أستند بكفيه على الكنبه رافعا ّ كتلة اللحم تأهبا للنهوض :حأقولك بعد
ما أشربك واحد كابتشينوفريش حيخليك تحلف أنك كنت قاعد مع خواجه بجد ..ماكينة أيطالى محترمة
أخدتها هدية من ماريا ..دى واحدة صاحبتى أتعرفت عليها فى النادى اليونانى .
ــ ياخواجه ياشقى .أبتسامة سحبته ناحية المطبخ :ماريا دى أكبرمن نوح .
ــ خليك مكانك ماتتعبش نفسك الحكايه كلها تالت دقايق .حك جبهته ساهما ّ قبل ان يصله صوت الخواجه
من المطبخ :كام معلقة سكريايوسف.
ــ أتنين تالته أى حاجة .لحظات صمت وتأمل فى الالشيىء ،أستحسن ضوء النهارالهارب الذى يداعب
وجهه بنوره البرونزى وكأنه مرتديا ماسكا ذهبيا أفاق عندما سمع ذلك الصخب القادم من ناحية المطبخ
حين دهس كرم بقدميه باركيه الغرفة التى أصدرت أنينا ّ خشنا ّ ولوال أنه مصنوع فى زمن " الزان"
لتحولت تحت قدميه ترابا .
ــ قولى بقى مالك شكلك مش عاجبنى يايوسف .قالها واقفا ّ بينما أستسلم األخير لتنهيــده طويلة :مخنوق
وزهقان وأرفان وحاسس أن الدنيا كلها واقفه ضدى وكأنى عدوبتكرهنى وتعاندنى .سكت وأحمرت عيناه
حين ألتئمت شفتيه على مرارة .تأمله حتى صارت مالمح يوسف شغله الشاغل وكعادته رقيق النفس
سريع التأثر جاهزالدمع ،أطال النظرفى وجهه قبل أن ينطق مبتسما أبتسامته الهادئة :حأروح المطبخ
كده .قال عبارته أجيب األتنين كابوتشينو وأقعد أسمع منك حكاية الدنيا بنت الكلب دى اللى عامله فيك
وظل واقفا ّ .ثم أردف بعدما أنتظرلحظات :بس لى طلب صغيرعندك .أرخى جفنيه فتابع الخواجه :أنسى
الزهق واألرف خمس دقايق بس وعايزك كده تركزشويه وتراجع فى دماغك شريط حياتى .أتسعت عينيه
أمام الطلب الغامض :حياتك أنت ياخواجة .
ــ أيوه يا يوسف حياتى أنا ..عشان خاطرى شغل الذاكرة وأفتكركل حاجه تعرفها عنى و شفتها بنفسك
أواللى سمعتها عنى ..حاسيبك تسرح شويه وبعد كده لنا كالم تانى .أبتسم يوسف فى صمت حتى رحل
كرم إلى المطبخ تاركا ّ األخير بصحبة سؤال كبير :أيه الطلب الغريب ده .غيرأنه لبى مطلبه بالرغم من
351
دهشته وهويحاول أن يستجمع مشاهد ومواقف فى شكل بانوراما مختصرة عن حياة كرم التى يعتقد من
وجهة نظره وبحكم الجيرة التستحق التأمل أوتنشيط الذاكرة ،له حياة روتينية تخصه ..يعرف أن الخواجه
يتعايش مع الوحدة منذ زمن ،راضيا أو مضطرا ّ اليدرى ،عالمه ضيق فى حدود مجلة أنجليزية يقرأها
أسبوعيا ّ ومجموعه صور قديمة له وألسرته وتليفزيون " توشيبا " نادرا ّ مايتابعه مع بعض الوجبات
البسيطة ليس فى قائمتها طبيخ والظفر بخالف فنجانين قهوه يوميا وبعض الحكايات المكررة والمعادة
كمنولوجات بسيطة يتداولها مع نوح مرتين أسبوعيا وزيارة واحدة كل أسبوعين للنادى اليونانى كى
يستعيد لغته األم مع بقايا جالية كانت يوما تمثل ربع سكان األسكندريه ..فى الفترة األخيرة سقط بند رحلة
الصيد األسبوعية من قائمة روتين حياته بعدما أجبر على األعتزال عقب ثورة يناير بعد أن تحولت
شواطىء األسكندرية إلى وكرللمجرمين والبلطجية.
دقائق ووصل كرم قادما من المطبخ برفقة أتنين كابوتشينو صناعة أيطالى برغوة مبالغ فيها ،وقف مهتزا ّ
عند عتبة الغرفة ثم نادى :يوسف ..لم ينتبه لصوته فكرر :يوسف ..أيه يابنى دى حياتى بسيطة أوى
مش محتاجة أكترمن دقيقتين .سحب نفسا ّ ثم قام ليتسلم منه الصينية التى تحف بكرشه .
ــ بالعكس ده أنا ماخدتش بالى أن حياتك صعبة إال دلوقتى .قالها حين وضع الصينية على المنضدة ثم
جلسا سويا .تابع أكتشافه :عايش لوحدك معظم الوقت وقافل عليك باب شقتك وفى بلد مش بلدك يعنى
ال أهل والصحاب وكمان ظروف مادية مش أد كده .هز رأسه مستعيرا بنبرة ذاهلة :ده غير سنك
ياخواجه .ضيق عينيه مستفهما .فأوضح يوسف :يعنى ..سنك كبير وأكيد محتاج لرعايه وحد يبقى
جنبك ..تخيل بقى ياخواجه كل الظروف دى متجمعه فى وقت واحد مع بنى أدم واحد .قابل الملحوظة
بأبتسامة عريضة تورمت لها خديه .فتابع يوسف تنقيبه :أكيد فى ناس كتير ظروفها شبه ظروفك بس
متهيألى مستحيل يكون لسه فيهم حد بيضحك أومتفاءل وراضى عن عيشته الغريبه دى من غيرحتى
شكوى واحدة ..مستحيل ياخواجة تكون دى حياه بسيطة أبدا ّ .نظرة تواضع :طب أشرب يايوسف .
سحب رشفة طويلة من الكابوتشينو الذى ظهرت بصماته على شفتيه التى لوثتها الرغوه :ياسالم
كابوتشينو ماحصلش ..أبقى أشكرلنا ماريا كتير .أنهى كرم رشفته األولى متجها بوجهه ليوسف :أحكيلى
بقى أيه اللى مضايقك .
ــ لما تقولى أنت األول ليه طلبت منى أفكرفى حياتك وأراجعها فى دماغى .
352
ــ حتعرف لماتحكيلى .حسم أمره وأستغنى عن تحفظه .همس مترددا ّّحين أستهل البداية بضحكة فى
عينيه مجترا ذكريات عمرها خمس سنوات ،شجعته مالمح كرم المنتبهة والمتأهبة لألصغاء .قال :أول
مادخلت الكلية كنت فى حالى وأنطوائى وحذرجدا ّ فى تعامالتى مش عشان ده طبعى ..كان بسبب نصيحة
نورا وعمتى ..ماتحاولش تعمل صحبيه زيادة عن اللزوم ماتخليش حد يعرف عنك أى حاجه خليك حريص
أوى فى كالمك .كان البد للخواجه من مقاطعة :ليه كل ده؟ .
ــ كانوا خايفين على جدا ّ أنى أقرب من حد أوى وأقع بلسانى بكلمه كده والكده يعرف منها ظروف ماما اللى
أنت فاهمها واللى ممكن تسببلى مشكله كبيرة بعد كده زى اللى حصل معايا فى أعدادى وثانوى ..وفعال
عملت بنصيحتهم وأخدت أحتياطاتى ..مافيش كالم كتيرمع حد ماليش دعوه بأى حاجه غيرمحاضراتى
وبس وحتى لماعملت كده ماعرفتش برضه أكون لوحدى بالعكس لقيت نفسى معروف جدا فى الكلية
بحالها بعدما جبت تقديرفى أول سنة وكمان ..صمت ثم أغمض عينيه وأكمل بحرج :كانوابيقولواعلى أنى
وسيم وأنت فاهم بقى شغل بنات الكليات لغاية ماجت اللحظة وشفت هدير ..كانت طباعها غريبه زيى
بالظبط ..بنت أبوها غنى جدا ّ وفى نفس الوقت متواضعة بنت وحيدة لكنها جد أوى ومش متدلعة ماكانتش
محتاجة أبدا ّ أنها تتعب عشان تثبت وجودها لكن عمرها مأتأخرت عن محاضرة وال طلعت بمادة ..وكأننا
كنا أتنين تايهين جوة الكلية لغاية ما لقينا بعض و كل يوم كان بيقربنا أكتر ..ماكناش أتنين عاديين لدرجة
أنى مش عارف كنا أيه ..لكن اللى تأكدت منه أن الرومانسية مش مجرد كلمة بتتقال أنا لمستها فى كالمها
وشفتها فى أفعالها .كان يتكلم ويتابع من خالل النافذه ضوء النهارالهارب بينما يراقب كرم أنتفاضاته حين
كست مالمحه حسرة وهو يسترجع :خلقنا عالم صغير يخصنا أحنا األتنين رتبناه على مزاجنا ..كان يومنا
جميل سهل مافيش فيه ملل ماكناش بنشغل دماغنا بأى حاجة كان عندنا زى ماتقول كده أكتفاء ذاتى
عالقتنا باللى حوالينا كانت تأديه واجب ..جايزتكون الظروف هى اللى ساعدتنا مافيش أى ضغط علينا من
أى نوع ماعندناش مشاكل عويصة زى اللى بتقابل كل الشباب ..هى بتحبنى وأهلها أغنيا ومستقبلى
وشغلى مضمونين عند باباها بعد التخرج يعنى تقدر تقول كده حاجة خيالية زى األحالم ..سكت حين
أصابته رعشة قبل أن يتحول غاضبا ناقما عندما شرح مأساته مختزال لحظة المواجهة الدرامية التى فقد
فيها عذريته البريئة وأحالمه الرومانسية ،لم يقاطعه الخواجه إال حين يبتلع دهشته عند كل فاصل :
وبعدين !! أكمل حتى بلغ لحظة األنفجار :أتهانت وأطردت زى اللى عامل عاملة وحسيت أنى ماليش لزمة
فى الدنيا ومافيش حاجة نفعتنى الشهادة والأخالق والحتى شكل وأتأكدت ساعتها أن كل ده مش مهم
وأن فى حسابات تانية أكبر وأهم منى بكتيروماكنتش واخد بالى منها .هدأ للحظات ألتقط فيها أنفاسه قبل
353
أن يردد مقتطفات أقتبسها من أقوال والدها لتى حسمت أمرعالقته بأبنته .كان ذلك أخرسطر فى روايته
الحزينة أنهاه وشيىء من األهتزازعلق بمالمحه بينما كتلة اللحم المكدسة بجواره باتت هشة كقنطارالقطن
وهو يرصد دموعا فى عينى يوسف بدت كالوميض لها بريق وهو اليكاد يصدق أن هذا الجالس بجواره قد
سحقته الدنيا إلى هذا الحد ..شعر بمأساة الصغير .كان عليه أن يتخذ قرارا ّ أما التماسك أوأن يشاركه
البكاء .عرض عليه بهدوء مشوب بالحذر :أناعايزك تهدى شوية وتاخد نفسك براحه وتسمعنى بعقلك
قبل قلبك .منحه نظرة موافقة وأستسلم منصتا ّ :عايز أسألك سؤال وتردعلى بصراحه ..بعد
األمورماهديت شويه حاسس بأيه دلوقتى من ناحيه هدير؟ .
ــ لغاية دلوقتى مش مصدق أى حاجه من اللى حصلت لدرجة أنى لما بأصحى من النوم بأدعى ربنا أن اللى
حصل ده كله يطلع حلم مش حقيقة .بس لألسف باالقى نفسى عايش جوه كابوس وأن كل حاجة راحت
منى وحأبقى فى الدنيا لوحدى من غيرهديرمن غيرما أكلمها وال أشوفها وال أحلم معاها ..أنا بأموت
ياخواجه .خرجت جملته األخيرة ببطء ثم سكت كى يتيح لنفسه فرصة الصمود والتماسك بعد أن أوشك
على النحيب واألنهيار .وضع كرم يده على كتفه حتى شعر يوسف برعشة تسربت إليه من خالل كف
لما األنسان الخواجه المرتجفة الذى رمقه بنظرة تعاطف ومواساة :حاسس بيك أوى وعارف يعنى إيه
يحس فجأة أن كل حاجة ضاعت منه وعايش فى الدنيا من غير هدف وماعندهوش أى حاجه يبكى عليها
وحياته كلها تبقى طولها زى عرضها ،كل ده يايوسف مرعلي وعايش فيه لغايه دلوقتى وزى ما أنت
شايف كده راجل عجوز قدامك من غيرست والوالد .تنهد ثم تابع :حاجه كده مالهاش معنى ..حياة فاضية
مملة مافيهاش تفاصيل وال لها طعم وفى الغالب حتكون نهايتى تافهة وخايبة زى حياتى كلها ..تقريبا
حتبقى موته بسيطة وأنا واقف فى المطبخ أونايم على السريرأوحتى واقف قدام الشباك ده بأتفرج على
زرقة البحر ..موته مافيهاش أكشن وأحتمال كبير يعدى كام يوم لغاية مانوح يكتشف أنى مت ! .أنهى
جملته بضحكة ثم أطال النظرفى عينى يوسف قبل أن ينتزعه األخيرمن تخيالته عن لحظة الموت القادمة
بسؤال عارض ليس فى السياق رماه فى وجهه :أنت ما أتجوزتش ليه لغاية دلوقتى ؟ سؤاله أصابه بهزة
بدت فى مالمحه ..يجاهد توترا ّ حين نطق بنبرة مقهورة :سؤالك ده يايوسف هواللى خالنى طلبت منك
تراجع شريط حياتى كله فى دماغك كنت قاصد أوصلك معلومة مهمة .بدا متأهبا لسماعه .أردف :فى
أنسان يايوسف لما يتعب و يجيله شويه صداع مثال والمغص والوجع فى ضرس بيبقى مش قادر يتحمل
والدنيا بتسود فى وشه وبيفضل ع الحال ده لغاية مايقابل واحد عنده مرض خطير زى السرطان مثال
وأيامه فى الدنيا معدودة ..تقدرتقولى ساعتها حيحس بأيه؟ عض شفتيه ولم يجب .فتولى كرم :حيحس
354
أنه صغيرأوى و حينكسف من نفسه عشان كده الزم تفهم أن الفشل مش مشكلة كبيرة بالعكس سهل جدا ّ
ترجع تانى وتقف على رجليك وتنجح وتبقى بداية جديدة و كمان يايوسف فى فشل تانى بطعم األعدام زى
حالتى أنا لما أكتشفت من زمان أنى ما أنفعش أتجوز و ال حتى أقدر ألمس أى ست .أدلى باعترافه منكس
الرأس بينما أتسعت حدقتى يوسف قبل أن يسدل عليهما جفنيه قابضا ّ خلفهما على صدمة باهظة أفضت
إلى أزاحة أزمته من موقع الصدارة و أستبدالها بمصيبة الخواجه ،تحرك إليه بجسده ثم مال عليه يقبل
جبهته :أنا مش عارف أقولك أيه ؟ أنا ماكنش قصدى أنى أجرحك .وضع أبتسامة على شفتيه و بثبات
ظاهرى :الحكايه دى أنا نسيتها من زمان أنت اللى أضطرتنى أحكيها عشان أنا يهمنى تعرف أن اللى
حصلك ده مش أخر العالم ودى صدمة يا يوسف والزم تعديها أنت لسه قدامك فرص كتيرة مستنياك و مش
حأناقشك فى موضوع هديروالحأحملك مسئولية الغلط لما خبيت عليها حكاية مامتك و حرمتها من فرصة
األختيار وكمان مش حأغلطها فى معالجتها للموضوع و خلتك تيجى عندهم البيت وسمحت لباباها يتدخل
وينهى الموضوع بطريقته ..مش هو ده اللى عايز أوصله ..ماعدش يفرق مين فيكم الغلطان ..سيب
األيام تعالج كل حاجة بطريقتها عيش شبابك و ركز فى مستقبلك .أنفرجت مالمح يوسف المنقبضة بعدما
زال توتره فجأة وأسترخى بهدوء يتأمل مأساة أعظم من مأساته .شعر بفزع حين رن هاتفه كمن عاد
لتوه من غيبوبة يتلمس بعينيه شاشة الموبايل ليتبين الرقم الظاهر .رفعه ألذنه :أيوه يا نورا .سكت
يتلقى سؤالها .ثم أجاب :أنا عند الخواجه كرم .
ــ طب تعالى بسرعة عشان شريف زمانه جاى .وجم فجأة :شريف أبن عمو خيرى .
ــ حاضر .أزاح الموبايل عن أذنه ثم رسم أبتسامة أستغلها كرم فى طرح سؤاله :هى حاجة غريبه
يعنى أن شريف يزوركم .هز رأسه نافيا ّ و ال زال مبتسما :ألطبعا مش غريبة بس أشمعنى النهارده
بالذات .قالها ووقف ممتنا :أنا قلبت دماغك و صدعتك .قام كرم هو األخر بصعوبة و ناوله خبطة
رقيقة على صدره :ياريت تبقى تيجى كل يوم تصدعنى .لم يجد أفضل من ذراعيه يفتحهما و يعانق
الخواجه بشدة ثم خرج من الغرفة قاطعا ّ الصالة يتبعه كرم حتى أستدار يوسف حين بلغ باب الشقه :لو
حسيت أنى متضايق و ال مخنوق حأبقى اّجى أقعد معاك تانى .نظرة أخيره مع أبتسامة ثم أدار له ظهره
محتضنا السلم .
355
بعد مكالمة قصيرة أجرتها نورا مع شريف ،بدت له غامضة كاللغز .
-أنت فين دلوقتى ؟ .
-يعنى بقالنا شهرين ما بنتكلمش و فجأة تتصلى بى و عايزة تتكلمى معايا و كمان مش فى التليفون
-ماما و بسمة مش حيبقوا موجودين و فرصة نتكلم براحتنا .أنصاع ووافق على طلبها بعدما
تصنع رفضا .
-سالم لبكرة .كانت دعوة غير متوقعة دارت بعدها فى رأسه عدة أحتماالت أحتار فيها كلها ،فأكتفى
باألنتظار للغد قانعا فقط برؤيتها .
وصل فى موعده تماما ّ بكامل وسامته حين أستقبلته نعمة بموشح قصير :كده برضه يا شريف يا بنى
فين و فين لما نشوفك ،ده حتى عيب أحنا اللى بينا و بينكم حيطه .أبتسم و هو الزال على العتبة :طب
356
دخلينى األول يا نعمة و بعد كده نشوف الحكاية دى .أفسحت له ..أخذت عينيه تمشى ببطء فى الصالة
ومن خلفه نعمة تنهج :نورت واللـه يابنى .
كان يستعيد ألفته بالمكان على مهل .ظهرت نورا قادمة من ناحية الطرقة تزفها أبتسامة تضيىء
شفتيها ،عقدت شعرها فى حزمة و أطلقته ذيل حصان ..مستوية على عودها ،لكن شراسة مشيتها
تحذر دائما من األستهانة بها .
دخلت بحضورها العالى الذى أفتقده منذ شهرين ،لم يخطئها ،ما كان له أن يفعل و لو كانت قادمة من
خلفه ..عطرها البسيط و سحرها و بروز شفتيها مكتنزتين دعوة صريحة لشريف الذى أستسلم
ألحباطات القطيعة و تباعد فترات اللقاء .نظرتها أيقظت أحاسيس بداخله كادت تصدأ.
قالت وهى تقترب :واللـه كتر خيرك أن سيادتك أتنازلت و جيت لغاية هنا .
ــ مقبولة منك يا نورا .صافحها و كأنه أول مرة يشعر بملمسها ،تسرى اليه رسائل ملغزة عبر هذا
الكف فنظر فى عينيها التى راحت ترتخى عليها األجفان فى خضوع للموقف العاطفى .ها هما يلتقيان
بعد أيام طويلة ،رأها خاللها تتغير كما رأته يتغير .
ظلت مبتسمة حتى جلست أمامه ..كانا مرتبكان كأنهما فى بداية تعارف .أنتظر كل منهما األخر أن يبدأ
بالكالم .
ــ ال أبدا ّ أنا جيت من ساعه تقريبا .منذ فترة كان شريف قد سلم الراية .لم يعد ذلك الفتى الذى شاهدته
شوارع األسكندرية أيام كان ثوريا متمردا ّ فى يناير ،زمان مضى و أخذ معه حومة األنفعاالت و حدة
الغضب و أنصاع ذليال ّ أمام ماكينة " الكاشير " .أجابها مستظرفا حين سألته عن أوضاعه فى المول :
أهى شغالنه أحسن من اللف فى الشوارع .قالها بأحساس من مل أنتظار الحل الثورى .و حين ساد
الصمت فى الصالون عقب أجابته المستسلمة رأى أناملها وهى تتشابك و تنفرج ،تتالحم فى عنف ثم
تتباعد وهزهزات الساقين ال تتباطأ ..بينما بدا هو قلقا مسكونا بأفكاره و أستفساراته عن سبب منطقى
وراء تلك الدعوة المباغتة ،فكان يتخير الكلمات المناسبة فيطول سكوته قبل أن ينطق .فحرضته على
الكالم :مش عوايدك يعنى تبقى ساكت كده ..أتغيرت أوى يا شريف ! .نشط لسانه وكأنها فتحت له
بعبارتها بابا كان يحسبه مسكوكا :أنا أتكلمت كتير قبل كده وماوصلتش لحاجة و ال فهمت أصالّ أى
357
حاجة و دلوقتى سعادتك أفتكرتينى فجأة و طلبتينى عشان أجى و ده معناه أن فى حاجة مهمة عايزة
تقوليها ..ياريت تجيبى من األخر و تفهمينى أيه الحكاية ؟! طرح سؤاله و ثبت عليها نظرته ..بينما
شعرت أن أمرها صار مكشوفا ّ ..كان محقا تماما ّ فى أستنتاجه .لم تعد نورا تتحمل األوضاع الجديدة
فى البيت و األتيليه ..أجتهدت كى تتحول األفكار و الخطط التى تهيم فى رأسها إلى خطوات متدرجة
حتى تحسم معركتها .تقترح على نفسها أمورا ثم تكتشف عيوبا فتستنكر و ترفض ،يهديها العقل إلى
فكرة جديدة فتفرح بها ،إلى أن وجدتها و رضيت عنها و باتت الليل تزين فيها و تعد لها.أرادت أن
تلحق نفسها قبل أن يأتى يوم تجد فيه عرشها خاويا ..بدأت خطتها بدعوة شريف للبيت .
فى تلك اللحظة سمعا صوت باب الشقة ينغلق ..أبتسامة متقطعة دخل بها يوسف حتى بلغ حجرة
الصالون قبل أن تستقر منفرجة على شفتيه حين رمق شريف الذى ألتفت إليه بغتة فوقف مصافحا ثم
معانقا عناقا شبابيا أعقبه تبادل للقبالت على الخدين لها صوت طرقعة :واللـه أنا لما نورا قالتلى
شريف جاى ما صدقتش .
-أنت عارف يا يوسف نظام الشغل و الورديات .قالها حين جلس بينما أستراح األخيرعلى " بوف "
بين الكرسيين ما مكنت له رؤية متميزة .
ـ أخبار عمو خيرى أيه ؟ كان سؤاال ّ تمهيديا أطلقته نورا كبالونة أختبار .
-كويس أوى وال نص نص .قالتها و غرست نظرتها فى عينيه .حاول أن يستشف ماوراء نظرتها :
يعنى أيه مش فاهم ؟ أدركت توجسه وقالت :يعنى سعيد كده ومبسوط وحاسس أن الدنيا بقى لونها
بمبى .أنفك لسانه عن كلمات تحمل نبرة تأمرية :هى أيه الحكاية بالظبط .بحذر استهلت كالمها :أصل
أنا حاسه كده بحاجة بتحصل بين ماما و عمو خيرى .
358
-أستلطاف أعجاب و يمكن حب .تاهت عينى يوسف بينهما حين سمع الكلمة األخيرة قبل أن يخرج عن
صمته مدهوشا ّ :أيه اللى بتقوليه ده يا نورا .
-عادى يعنى ما قلتش حاجة غلط .دفع يوسف عنه المفاجأة و أستبدلها بحالة من الحرج :أنتى جبتى
الكالم ده منين أصالّ ؟ تأملت فوضى مالمحه فأرادت أن توضح :عمو خيرى أنسان محترم و هو
بالنسبة لنا ما يعتبرش راجل غريب ده كان معانا لحظة بلحظة و صاحب الفضل بعد ربنا فى نجاحنا
فى الدراسة ،وكمان ماما مش صغيرة وفاهمة كويس هى بتعمل أيه .كرمش يوسف عينيه :أنا مش
مصدق اللى أنتى بتقوليه ده .قالها بتحد ،فأحتوته بنظرة يعرفها جيدا ّ أنطلقت من عينيها كأنها طلقة
تحذيرية ..لم يجادل بعدها .بينما أصطنع شريف مالمح مندهشة :أنتى متأكده من اللى بتقوليه ده .
-ما كنتش قلته ..مفاجأة طبعا .أسترخى بظهره للوراء مبديا أبتسامة ثقة :أل مش مفاجأة خالص ،
بابا فاتحنى فى الموضوع ده من أسبوع .أنتابها أستغرابا ّ شديدا قبل أن تمط شفتيها مستنكرة تعتيمه
على األمر :و ما قلتليش ليه ؟! تظاهر بالالمباالة ساخرا ّ :ده على أساس يعنى أن أنا و أنتى بنتكلم كل
يوم مع بعض ساعتين تالتة .تخطت جملته و ركزت فى طرح سؤال جديد :و أنت رأيك أيه ؟ .أغلق
على أحباطاته داخل نفسه حين صدقت شكوكه حول دعوتها المغرضة ،هز رأسه مستنكرا ّ أقصاء كل
توقعاته :هو ده بقى السبب اللى كنتى عايزانى فيه ؟! .شعرت بالقلق حين لمحت تغييرا ّ فى وجهه :
مش بالظبط كده ..فى حاجات تانية كمان .ثم نظرت ليوسف و كأنها تتعلل بوجوده .
-مش باين أن فى حاجة تانية خالص .كنا أتكلمنا أحسن فى التليفون و قلتلك رأيى بدل ما كنتى عطلتى
نفسك النهاردة عن األتيليه .ظن فى البداية أنها ستتكلم معه عن توجساته التى يشقى بها ،لكنها
خذلته .بينما وجد يوسف نفسه داخل مناظرة بين قوتين .لم تسعفه فراسته على أستنتاج ما حصل
بينهما سابقا حتى وصال بهما األمر لتلك الجفوة فى الحديث ،بدا و كأنه أمام مسلسل يتابع حلقته
األخيرة .هكذا كان يشعر .أضطربت نظراته ..لم تخطىء عينيه مالمح أخته التى يعرف جيدا ّ أين
و متى تستعملها حين تحاصر فريسة قبل األجهاز عليها .ثم قام من بينهما :عن أذنك يا شريف لحظة
واحدة و جاى .شعر بنفسه داخل حالة غير طبيعية و أن هناك أمورا ّ تدار فى رأس أخته التى رمقته بال
كلمة و هو ينسحب من الصالون بأتجاه غرفته بينما تحرر شريف عن تحفظه :يعنى أنتى أفتكرتينى
بس لما حسيتى أنك محتاجة تتكلمى معايا عشان موضوع بابا و طنط هدى ..مش غريبة دى !! .
أظهرت له أبتسامة كى تبرىء نفسها :أوال أنا ما نسيتكش عشان أفتكرك و ثانيا أنا كنت فعال ّ نفسى
359
أشوفك ثالثا موضوع ماما و عمو خيرى يخصنا أحنا األتنين مش أنا لوحدى .كان سردا ّ زائفا تخفى
وراءه حقيقة أخرى .تفحصته حين أبدى تذمرا ّ .تابعت :ماتسيبك بقى من الصورة اللى أنت راسمهالى
فى دماغك دى .
-أنى مصلحجية و جبارة و مفترية و أنت ياعينى الشاب الغلبان اللى ال حول له و ال قوة .حك جبينه
مبتسما :أنا مش غلبان و ال ضعيف لكن أنتى فعال جبارة و مفترية و مادام حطيتى حاجة فى دماغك
و خططى لها يبقى خالص نويتى على التنفيذ .
-مش كل حاجة بتفكرى فيها وتخططى لها الزم تبقى صح ..ممكن أوى بعد فوات األوان و بعد التنفيذ
الواحد يكتشف أن كل اللى عمله كان غلط فى غلط و ساعتها الخسارة حتبقى كبيرة و ماتتعوضش .
360
-والنبى من غير فلسفة و ال ألغازالمكسب و الخسارة دول وجهة نظريعنى جايز اللى أنت شايفه
خسارة ممكن أكون أنا شايفاه مكسب .
ـ متهيألى األمور بقت واضحة اللى أنتى شايفاه مكسب أنا شايفه خسارة .قاومت تلميحاته محاولة منها
للسيطرة على أى رد فعل غير متوقع منه بغرض أفساد الجلسة ،فكانت حذرة كما كان هو ..و ظل
األثنان يمضغان الكلمات المترددة التائهة و يتقاعسان عن األجابات الصريحة فباتا كورد النيل يعوق
التيار أكثر مما يزين المجرى .تعمدت تلطيف األجواء فصحبته فى جولة حكايات تخص تفاصيل عملها
باألتيليه وعالقتها بزيزيت مقابل أقوال بائسة لخص بها تفاصيل يومه فى" المول " .ووسط زحام
الكلمات وطوفان التفاصيل عادت مرة ثانية لموضوعها الرئيسى :بصراحة كده يا شريف أنت عندك
أعتراض على أرتباط ماما بعمو خيرى ؟ .
-مش مسألة أعتراض و ال موافقة بابا مش صغير وعارف كويس أزاى ياخد قراراته .توجست من
عبارته ،لكنها أستأنفت :قراره يخصك كمان و الزم يبقى لك رأى فيه .
-و يخصك أنتى كمان .بدت مرتبكة ،مضت تبحث عن أجابة :عشان كده أنا قلت الزم أتكلم معاك .لم
يكن يدرك حساباتها حين سألها :أنا نفسى أعرف أنتى متحمسة أوى ليه للموضوع ده والعايزة
تفهمينى يعنى ..لم يكمل الجملة و تركها معلقة .
-من غير يعنى الحكاية بسيطة ومش محتاجة تحليالت ،عمو خيرى و ماما محتاجين لبعض جدا ّ
وتقريبا ظروفهم اليقة على بعض ..أنت خالص كبرت وأعتمدت على نفسك يعنى مش محتاج لباباك وأنا
وأخواتى متعودين على أن ماما ماتبقاش موجودة معانا وبصراحة أنا شايفة أن ده حقهم علينا وعلى
األقل نسهلهم المواضيع وما نقفش فى طريقهم وأنا عن نفسى حأفاتح ماما و حأبلغها أنى موافقة .ثم
قربت وجهها من وجهه الذى الحظت فيه جمودا ّ وعدم تفاعل .فقالت فى أستغراب :مش حاسة أن
الموضوع يهمك وشكلك كده مكبر دماغك و ال أنت رافض الموضوع من أصله .
-و أنتى بقى موافقة ليه ..عشان خاطر سعادة مامتك .قالها و أكتفى بأبتسامة أستخفاف .
361
ـ ده سبب والسبب التانى واألهم أن الموضوع ده لو تم حيبقى فيه مصلحة لنا كلنا .سقطت جملتها
األخيرة فوق دماغ شريف فطوحته الى مواقف قديمة حين كانت تستعمل تلك الجملة فى تبرير ما تراه
مناسبا لها .ظل صامتا للحظات حين شعر بها تناوره .كحة مصطنعة مصدرها حلق يوسف الواقف عند
عتبة الصالون كى يشعرهما بوجوده إال أنها لم تنتبه أو لعلها تعمدت عدم األنتباه .ما أن دخل حتى قام
شريف بهدوء .
-قمت ليه يا شريف .سألته و هى تواجهه بجسدها .أنسحبت كلماته و أختنقت مالمحه :معلش كفاية
كده محتاج أنام .قالها دون أن يحرك نظرته عنها .ثم أدار وجهه ناحية يوسف الذى ردد جملة تحصيل
حاصل :أنا لسه ما قعدتش معاك يابنى .
-معلش يا يوسف أعذرنى .خرج من الصالون فى حراسة نظراتها حتى بلغا سويا باب الشقة و قبل أن
يجتاز عتبته ألتفت اليها ..تأملها ..طالت نظرته فأبتسمت :فى أيه يا شريف ؟ .
-أنتى لسه بتحبينى يا نورا ؟ .جالت بعينيها فى وجهه ..شاورت نفسها للحظات ،فعاد يسأل
و يضغط على الحروف ألنتزاع فهم يخصه :لسه بتحبينى يا نورا ؟ .
-السؤال هو اللى عبيط وال أنا !! ..أنتهت المقابلة ..خرج مبتسما و أنشغل للحظات يبحث عن سبب
لتلك األبتسامة :هل هى ساخرة و هو يرى فى نفسه مطيةلمخطط تديره نورا ،أم حزينة على قصة حب
شاخت وهى فى مرحلة الشباب ! .الزمه البحث حتى باب شقته قبل أن يدفن مفتاحه فى كالون الباب ،
كان يعتريه شعور غير مريح بأن نورا طوته بسهولة و حركته فى أتجاه أرادتها غير عابئة بأرادته
وبأنه فى يديها عجينة ال صخرة .
برأس محبطة دخل الشقة منوها بسلسلة مفاتيحه التى رماها على المنضدة لتصدر صيحتها المعروفة
معلنة خبر وصوله .
أحتضنت مؤخرته مقعد فى أول الصالة ،تداعت أعضاءه فوق بعضها بتعب لم يتبين موقعه فى جسده .
خرج خيرى من غرفته قاطعا المسافة إلى الصالة مهروال شغوفا كى يتعرف على فحوى اللقاء الذى
سبق و أن أشار له شريف شارحا تفاصيل المكالمة المفاجئة من نورا لعله يجد عنده تفسيرا أو تحليال ّ .
362
جلس أمامه وواجهه بعينين تنتظران أخبارا ّ هامة :خير طمنى يا شريف .مط شفتيه :القعدة كلها من
أولها ألخرها كانت عليك أنت و طنط هدى .تجمد فى مكانه و كأنه فارق الحياة كما تجمدت نظرته
المفزوعة فى عين أبنه :عنى أنا وهدى ..ليه ؟ مسح وجهه بكفيه :نورا مرحبة أوى بحكاية جوازك
من مامتها .تتوالى عالمات الدهشة واألستغراب حتى أستقرتا بكثافة فى وجهه :جوازى أنا من
مامتها ..عرفت الكالم ده منين ! .
-ماعرفش ..يمكن من أمها .حرك رأسه ببطء نافيا :مستحيل ..المفروض أن نورا أصالّ ما تعرفش
حاجة خالص عن الموضوع ده .فرد شريف رجليه و شبك أصابعه خلف رأسه متصنعا عدم األكتراث :
واللـ ه ماعرفش بقى ،المهم أنها ماعندهاش مانع و كمان بتطلب منى أنى أشجعك و تخلص الموضوع
ده بسرعة .بأرتباك و أستغراب سحب سيجارة من علبته ثم أشعلها قبل ان تفلت منه أبتسامة
مدهوشة :حاجة غريبة أوى و مش مفهومة .أستأنف بعد أن سحب نفسا طويالّ :ع العموم مش
مشكلة عرفت أزاى بس اللى أنا مش فاهمه وال مستوعبه حكاية أنها موافقة و مرحبة و كمان عايزاك
تشجعنى عشان أخلص الموضوع بسرعه ؟! .قالها و سحب نظرته كى يتخلص من أرتباكه ،بينما لملم
شريف رجليه المفرودة ملقيا جملة قصد منها زيادة أرتباك والده :نورا بتحرضنى على أقناعك و كأنك
يعنى متردد أو لسه بتفكر و مستنى منى تشجيع ..ماتعرفش أنك خالص خدت قرارك !! .قالها و طالت
النظرة بينهما ،فأستشف منها خيرى تأنيبا وعتابا .
فى تلك اللحظه كانت هدى قد وصلت البيت بصحبة بسمة بعد جولة تسوق أجبارية تنفيذا لحكم
أصدرته نورا يقضى بأرتدائها الحجاب .دخلتا من الباب تحتضن كل منهن كيسا كبيرا يحمل أسم
" بريونى للمحجبات " .
بادرتهما نورا قبل أن تلتقطا أنفاسهما :جبتوا أيه .سحبت هدى كيس بريونى من بسمة :جبت طقم
حلو أوى حيعجبك تايير و طرحة و كام بندانة على سبيل التجربة .
-فرجينى .
-حأدخل أوضتى أغير و ألبس و شوفيه على أحسن .أتجهت لغرفتها بسرعة و بدأت فى أجراءات خلع
مالبسها ..تفحصت الجسد العارى أمام المرآة قبل أن تؤدى مراسم أرتداء الطقم الجديد ..تايير
فضفاض يشوق النفس إلى كشف ما يخفيه متوجة رأسها بطرحة كنارى تنسدل على الكتفين بينما تجلى
363
وجهها فى المرآة بدون ماكياج ،فتفتحت على شفتيها أبتسامة ..راق لها الحجاب الذى ينتزعها إلى
واقع جديد .
خرجت من غرفتها و قد أختفى شعرها تحت الطرحة و أختبأ جسمها داخل التايير الواسع .مرت أمام
عيونهم المتفحصة بوجه يحمل جماال من نوع خاص ،بدت أكثر تعبيرا و وضوحا و كأن حجابها أطارا
نورانيا يسكن داخله وجها أتقن صانعه صنيعته .و كطباع أهل هذا البيت فى ذلك الزمان ،اذا جد جديدا
أو شعروا بحركة أو سمعوا همهمة يخرجون من معاقلهم ،فظهر يوسف يستطلع و من بعده نعمة فى
ذيل أيات كأنهما فى طابور كشافة .هزت هدى رأسها بأبتسامة جديدة فتحركت لها بسمة تهندم حجابها
بينما ظلت نورا ترمقها بال كلمة .فأقتربت هدى منها تتمايل :أيه رأيك كده يا نورا ؟ عاينت الهيئة
الجديدة :جميل !! .مظهرها الجديد كان سببا لحالة نشاط مفاجىء دبت فى مفاصل نعمة التى سارت
دون ترنح تتحسس الطرحة :بسم اللـه ماشاء اللـه وشك زى القمر يا ست هدى .
-كتر خيرك يا نعمة .أبتسامة مجاملة أبداها يوسف الذى أستند بظهره بجوار غرفته حين توجهت إليه
بخطوة عارضة أزياء :أيه رأيك كده يا يوسف ؟ .بدا غير مهتم رغم محاولته أظهار جدية :كده أحلى
من األول .قالها و فى قرارة نفسه لم يلحظ جديدا .فرحت بتعليقه :لو أعرف أن ده رأيك كنت عملتها
من زمان .ألقت نظرة من وراء كتفه وقد أبتل جبينها عرقا تحت وطأة الحجاب الذى أحاط رأسها
و صدغيها :نور الصالون منور ليه كان عندنا ضيوف وال أيه ؟ لم يعلق و كأن السؤال ال يعنيه
فتطوعت نعمة :شريف أبن األستاذ خيرى كان هنا و لسه ماشى .رفعت حاجبيها ثم توجهت بغمزة
ناحية نورا :آه ..عشان كده أنتى زى القمر النهاردة .تصنعت خجال :وال قمر وال حاجة .ثم أشاحت
بوجهها لنعمة :محتاجة كباية شاى ضرورى .شعرت هدى بأنها أدت المطلوب منها كما أمرت أبنتها ،
فأنحرفت ناحيتها قبل أن تتوجه لغرفتها :مبسوطه كده يا نورا .
-آه كده حلو .تصريح مقتضب قابلته هدى بحالة من البحث الدائم عن سبب واحد منطقى يصلح لتبرير
تلك المعاملة الجافة رغم أنصياعها التام لكل شرط أو مالحظة أبدتها أبنتها دون جدال ..لم تجد تفسيرا
وال حتى فهما ،فكان الهم و األحباط هما رفيقاها حتى باب غرفتها محاطة بنظراتهم و كأنهم يكتشفوها
من جديد .أوصدت الباب خلفها بينما أنسحب يوسف الى غرفته يعانى من كل أنواع الفراغات ،
العاطفى والنفسىوالمعنوى بدا كمدمن فى بداية رحلة عالج حين يرافق األضطراب والعصبية وقلة النوم
مرحلة أنسحاب المخدر من الجسم.
364
تفرق الجميع كل لحال سبيله .نعمة فى مهمة رسمية لتحضير كوب شاى لنورا بينما سبقتها أيات
لغرفتها فى حين أدت بسمة المطلوب منها بحياد و كأنها تؤدى دورا وظيفيا بال أنحيازودون أبداء
رأى ..فى حين جلست نورا بمفردها فى الصالة بوضعية األسترخاء تقيم أحداث اليوم من كل جوانبه .
بينما هدى فى غرفتها تحمل رأس تسحقه أفكاروخياالت ..لم تعد قادرة على التنبؤ واألستنتاج ..تاهت
التفسيرات وتداخلت األفكار فى عقلها بعدما الحظت اليوم تغييرا جذريا فى سلوك بسمة التى كانت
ساهمة مرهقة خاصمت الفرحة مالمحها بدت كعجوز بوجه فتاة ..لم تتكلم كثيرا كعادتها ،كانت حذرة
أو ربما متزنة ..أتزان غريب و غير مفهوم ،عبارات جليدية مختصرة هى اجمالى ما نطقته بسمة
طوال ثالث ساعات ..هاجمها شعور متنامى بأن أبنائها الثالثة أصابهم مرضا نادرا أعراضه ال تقبل
التأويل :أحساس بالغربة تجاهها ،أصبحوا فى لحظة بعيدين عنها بالرغم من محاوالتها الحثيثة أن
تلغى هذه المسافة و تقترب منهم ،لكنهم ظلوا يتعاملون معها عن بعد ..شىء ما كانت تلحظه فى
أصواتهم ،و نظراتهم ،شىء جديد ،كأنهم يرونها من خالل ستار يفصلها عنهم ..تذرعت بالصبر ..
أحتملت كالم نورا المتعجرف ثم ثوراتها التى تهب دون مقدمات و دون سبب ,أصبح الصمت ردها
الوحيد عليها .أصبحت تخشاهم ..كل همها أن تحتفظ بهم ..تخشى أن تفقدهم .تحولت للمرآة تنظر
فى عينيها قبل أن تعبث بطرحتها ،سحبت طرفها الملفوف خلف رأسها ثم طرفها الثانى فتحررت
وتركتها مدالة فوق نهديها ثم أعادت لفها ثانية حول رأسها لكن بصياغة قديمة حين جعلتها غير محكمة
حول أستدارة وجهها ،واجهت صورتها فى المرآة ..تراجعت خطوة للوراء عندما شعرت بالخوف
فنزعت طرحتها بعنف حين تجسدت أمام عينيها صورة حجابها أيام سجنها .
مر عليها وقت غير معلوم وهى ممددة ..صعدت بعينيها مرات ومرات ..إلى السقف والنجفة والنافذة
قبل أن تزحف نزوال ناحية السجادة واألرضية وفردة حذاءها المقلوب فتحولت الى كتلة صماء من
الملل ..تقلبت على جنبها األيمن للمرة العاشرة قبل أن يرن هاتفها ،فأهتز جسدها وأنقضت عليه بكل
مافيها من تشوق كأنقضاض موظف حكومة على راتبه أخر الشهر ..أحساس الملهوف المكروب حين
يعثر على طوق نجاة ..هاهو المنقذ سمير الليل قاتل الوحدة ..نفس البداية همسات خافتة ونبرات
متحشرجة :أيوه ياخيرى .حيوية طارئة حين أجابته :أل مش نايمة .
صوته الرتيب يحمل كلمته المعتادة يوميا :وحشتينى .بأبتسامة معتادة تلخص ردها يشعر بها من
خالل أنفاسها .
365
ــ أشتريتى أيه النهاردة .فلتت منها ضحكة :تايير أسود وطرحة كنارى وشوية بندانات .
ــ ده طقم كده على سبيل التجربة وبعد كده زيزيت حتظبطنى .
ــ حجاب من غير حجاب عجبانى واللـه وماتفرقش معايا وكله دلوقتى بقى البس حجاب .
ــ آه .
ــ عارفة أنك مخنوق وجايب أخرك من وضع البلد ومن اللى بيحصل فيها والنهاردة بالذات أخدت
بالى أوى .
ــ وأنا بلف على المحالت مع بسمة لقيت الناس أرفانة وروحهم فى مناخيرهم ومش طايقين بعض وكله
بيشتكى من الحال الواقف والفوضى اللى فى كل حتة وتقريبا كلهم بيقولوا أن مرسى واألخوان حيودوا
البلد فى داهية .تسلم جملتها األخيرة وأنفتحت طاقة من الغضب :مرسى واألخوان خطفوا البلد فى
غمضة عين ومستحيل الناس حتسيبهم يكملوا سنة كمان .
ــ بس الناس بتقول مادام الجماعة دول وصلوا للحكم مش حيسيبوه أبدا .
366
ــ متهيألك الشعب بتاعنا ده أتحمل الفقر والمرض وقلة الشغل والبهدلة سنين طويلة وعايشين
ومتحملين وبيقولوا الصبر مفتاح الفرج وعندهم أمل األحوال تتصلح ومستعدين كمان يصبروا بقيت
عمرهم لكن مستحيل يصبروا أبدا على جماعة طلعتلهم من تحت األرض عايزه تشقلب تفكيرهم وتلغى
شخصيتهم ويزرعولهم عقول غير عقولهم وينصبوا عليهم بأسم الدين ويحشروا البلد كلها فى جالبية
ودقن ..مستحيل .كان أداؤه عصبيا .
ــ أنتى عرفتى أن شريف كان عندكم النهاردة .أحاطت جبينها بكفها :أول مادخلت نعمة قالتلى ده لسه
ماشى .أستعمل نبرة الفوازير :وعرفتى نورا قالتله أيه ؟ .عبثت بخصالت شعرها :بصراحة ماسألتش
ماحبتش أحرجها .
ــ كالمهم كله كان علينا أحنا األتنين .قطبت جبينها مستغربة :على مين ؟ .رفع صوته :على أنا
وأنتى .مشت بظهرها حتى ألصقته بظهر السرير :ليه ياخيرى ؟ .
ــ نورا بنتك متحمسة أوى وموافقة على موضوع جوازنا .همد فجأة جسدها وهمد التليفون على أذنها
وبدا صوتها متوترا :وليه شريف ياخد رأيها فى حاجة زى دى وليه أنت أصال سمحتله يفاتحها فى
الموضوع ده .
ــ ياستى ال أنا والشريف عملنا كده بنتك هى اللى فتحت الموضوع من نفسها ومش كده وبس دى كمان
شجعته أنه يقنعنى أخلص موضوع الجواز ده بسرعه وأبقى أسألى نفسك بنتك عرفت حكايتنا منين ؟!
نبرة عصبية كان يستخدمها ألول مرة مع هدى .أهتزت بها الغرفة حين أنهى تصريحه ..دقيقة كاملة
أنفصلت فيها عن العالم ،كانت قابعة فى ركن ما فى الكون قبل أن تعود بعقل معطل وعيون تدور فى
الغرفة تتبين مكان وجودها ..شعور غريب يتملكها ،بأنها عارية مكشوفة تتطلع اليها عشرات االالف
من العيون وكأنها تنام داخل " صينية " ميدان التحرير فى " مليونيه قندهار " .
ــ هدى ..ياهدى .بدا لها نداءه كصوت ريح يتردد فى خلفية حلم تدور أحداثه حول أنسانة ضاعت فى
أحراش غابة فى ليلة ظلماء .أستعجلها :ماتردى على ياهدى ! .بالكاد خرج صوتها :نورا عرفت
منين ياخيرى ؟! .
367
ــ واللـه ماأعرف لدرجة أن شريف لما سمع الكالم ده منها كانت مفاجأة بالنسبة له ده كان فاكر أنها
عايزاه عشان محتاجة تتكلم معاه فى مواضيع تخصهم همه ،أنا اللى بأسألك ياهدى بنتك عرفت
أزاى ؟!ّ زادت ضربات قلبها مع سؤاله األخير ،حاولت استرجاع وقائع أخر أسبوع لعلها تصل الى
الثغرة التى نفذت منها نورا الى سرها العظيم !! .دار بعقلها عدة احتماالت :أستبعدت شريف بعد نفى
خيرى القاطع لها ،أجتهاد شخصى من أبنتها فرضته واقعة خيرى والموبايل حين أهداه لها أو ربما
سقط منها سهوا عبارة أو كلمة تخص خيرى أستفادت منها نورا وبنت عليها موقفها أو تكون قد
تصنتت عليها أثناء مكالماتها الليلية .مسكت فى رقبة هذا األحتمال ورجحته .
ــ مش قادرة أفهم كالم نورا ده وراه أيه ؟ .أختنق صوته :وراه اللى وراه تفرق أيه يعنى ..خدى
األمور ببساطة من غير تعقيد ..ليه دايما بتنسى أن نورا بنتك وأنتى أمها وأكيد يهمها سعادتك .تعمدت
عدم الرد ..أى تعقيب سيكون جارحا لها وألبنتها ،هى التقدر أن تطرح أمامه ماتوصلت اليه من نتائج
موثقة باألفعال وفى مقدمتها نفسية أبنتها المتأزمة من وجودها فى البيت واالتيليه .جذبها الصمت وقلة
الحيلة إلى عدم التفكير بينما تفهم هو سكوتها ولم يفهم قلقها المفرط .
ــ عارف أنك متضايقة ومرتبكة وفاهم أنك كنتى عايزة األمور تاخد وقتها بينى وبينك ،لكن قدر اللـه
ماشاء فعل ..حنعمل أيه بقى .حاول القفز بها الى مواضيع متفرقة قاصدا التقليل من قيمة الحدث
الذىهز كيان معشوقته التى عاودت اللف من جديد حول نقطة البداية حين فجرت سؤاال جديدا :طب هى
ليه عايزانى أتجوزوبسرعة مع أن جوازى منك ممكن يكون ضد مصلحتها؟! .ربما تعرف لكنها واجهته
به.
ــ من غير شرح وال كالم كتير ياهدى أنتى فاهمة وأنا فاهم أن نورا مش طايقة وجودك فى البيت هى
شايفه أن جوازك حيبقى فيه مصلحة كبيرة بالنسبة لها .هزمتها كلماته ،كان صادما صارما .سكت
للحظات ثم تابع حين سمع صوت أنفاسها المضطربة كالذى يتهيأ لطعنة سكين .
ــ أنا مش قصدى يعنى أنها بتكرهك والمتضايقة من وجودك بالمعنى اللى أنتى فهمتيه ..الحكاية كلها
أنها شايفة من وجهة نظرها أن البيت بأللى فيه ملكية خاصة لها ومش عايزة أى حد يتدخل وال يكون
له دور حتى لو كان الحد ده هو أمها .
368
لم يصله سوى دموعها التى شعر بها من خالل شهقاتها .فتابع متأثرا بعد ما أستعاد رصانته التى
فارقته الليلة :أرجوكى ياهدى أنا مش عايزك تبقى ضعيفة ياريت تفكرى بعقلك مش بقلبك جوازنا
حيبقى حل منطقى لكل المشاكل وخليكى زى نورا فكرى بواقعية زيها هى شايفة ان جوازنا حيكون حل
سحرى بالنسبة لها وأنا متأكد أنك لما تبعدى شوية الكل حيرتاح أنتى وهمه .
ــ عندك حق .قالتها مقهورة ثم نوهت بأقتضاب :أنا حأنام دلوقتى ياخيرى وبكرة نكمل كالمنا .
ــ براحتك ياهدى مع أنى متأكد أن الليلة عينيكى مش حتغفل وال حتشوف النوم بس معلش كله حيعدى.
ــ تصبح على خير ..سقط التليفون من يدها واألحتقان يمأل خريطة وجهها وبدا الليل مثل وحش
اليرحم .شعرت أنها تعيش زمنا عصيبا غير مألوف ال هو بالحاضر ،وال هو بالسالف .
لم تسأل نفسها حين ضمت ركبتيها الى صدرها أن كانت تعبر كابوسا سرعان ماتصحو منه .ثم نظرت
حولها كأنها تلتمس العون .سيكون الليل حتما ضيفا ثقيال عليها .
فى اليوم التالى كانت دعوة غريبة تلقتها " بسمة " حين رن هاتفها وهى تتابع بملل على الكمبيوتر
وصفات الماسكات التى تعالج البشرة على صفحة عالمة متخصصة خريجة معهد سياحة وفنادق !.
أنفصلت عن قرينها الذى ألتصقت به أكثر مما يلزم فى الفترة األخيرة ..نظرت فى شاشة الموبايل قبل
أن تجيب :أيوه يانورا ..مابعملش حاجة قاعدة ع النت .ضيقت عينيها :نخرج نروح فين ؟ .أخترق
صوت نورا نسيج الكآبة الذى يحاصرها :أى حتة نغير جو بدل قعدتك المنيلة دى ،المهم أنا قدامى
نص ساعة جهزى نفسك أنتى ويوسف وخليه ياخد مفاتيح العربية من عمتى .أنتهت المكالمة وفى
أعقابها نفضت رأسها من ماسك الباذنجان بالطحينة وقامت تتبع التعليمات كما تلقتها من اختها تحملها
بال تعبير لغرفة يوسف وهى تحدث نفسها ساخرة :هو فى تغيير أكتر من اللى أحنا فيه ده !!.
نصف ساعة بالتمام وكان يوسف يقود سيارة عمته بأتجاه " كارفور" بعدما وقع عليه األختيار كموقع
مناسب ووحيد فى الوقت الحالى لتغيير حالة الرتابة والذى صار قبلة السكندريين ومتنفسهم الشرعى
بعد أن تراجع الكورنيش وطريق البحر إلى مرتبة متدنية بعد ماأشهرت معظم الكافتيريات المطلة على
البحر أفالسها فى ظل وضع غريب وشاذ بعدما تحول طريق الكورنيش إلى مأساة تدرب النفس على
الصبر والسلوان وأختبارا قاسيا على قدرة التحمل حين تجد نفسك راكدا داخل أطول " جراج "
369
باالسكندرية تحيطك الظلمة من كل جانب اليضيئه سوى كشافات السيارات المستسلمة ووميض السجائر
التى تنشط على شفاه المحبوسين أنتظارا للحظة الفرج .
هبطوا من جوف السيارة بمالمح جادة .كان يبدو عليهم انهم أزاء مهمة ..أقتضاب ووجوم وكأنهم
مدعوون ألجتماع يناقش أزمة ـ أتجهوا للبوابة الرئيسية لـ " كارفور " .دخلوا مع الداخلين قبل أن
ينحرفوا يسارا حيث مربع الكافيتريات وسط افواج الحجيج الذين جاءوا من كل حد وصوب احتفاال
بمولد سيدى " كارفور " العاشرة .
عالم صاخب يديره الجيل الصاعد بأمال وأحالم كبيرة بحجم فتاة ضربها هرمون " الفراخ البيضا "
يتعقبها من الخلف من قنع بحلم صغير فى حدود " فرك " النهدين وأعتالء الردفين بما يمتلكه من
قدرات ال تتعدى فى أحسن األحوال تيشرت ملون بـ " زنط " ومؤخرة تتراقص فى بنطلون " جينز "
ساقط يطوى داخله ثورة وتمرد تتأرجح بين الجد والهزل .أنسلتوا من بين جموع الداخلين ناحية
كافيتريا " كارلوس " على يمين الممرالطويل المؤدى إلى الهيبر وسط جو عام من التفاهم والرضا جمع
بين فتيات األسك ندرية بشباب المحافظة .عند مدخل " كارلوس " لم تعقب بسمة حين سألتها نورا :
نقعد بره والجوه ؟ .بالداخل كانت األضاءة خافتة تسمح بالخصوصية وتفسح مجاال واسعا لأليادى
المتوغلة كى تؤدى وظيفتها ..الجو مهيأ لكل فعل ..أنها ملحمة !! ..نظرة طويلة من يوسف قرأ
خاللها الفاتحة على روح األيام الخوالى ثم تولى األجابة متنهدا :خلينا بره أحسن .بينما تبحث نورا
بعينيها عن مكان يصلح ألدارة جلسة دون ضجيج .دقيقة واحدة كانت كافية ليستوى كل منهم على
مقعده حين هداهم جرسون نشيط صاحب أبتسامة مزيفة لمنضدة فى موقع متميز تطل على الداخل
والخارج ..تحلقوا حولها وفى حوزة كل منهم أوجاعا نفسية ونظرات غير مستقرة ،أستعجلت نورا
الجرسون باشارة من يدها لتنهى مقدمات الجلسة األجرائية قبل أن تشرع فى جدول األعمال .تجول
يوسف بعينيه حين رجع بظهره الى مسند كرسيه وهو يتابع فوج بنات تحت السن يتسابقن بخطوات
مدروسة على أيقاع " الواحدة ونص" تذكر حين حضر العام الماضى بصحبة هدير يوم عيد الحب ،
أشترى لها دبدوب أحمر مقابل زجاجة برفان فرنساوى حصل عليها مع قبلة خاطفة حين دلفا السيارة .
تشكلت على شفتيه أبتسامة عندما داهمته الذكرى قبل أن ترحل على صوت أتاه من خلف رأسه :أؤمر
سعادتك .
370
ــ أخد واحد كابوتشينو .تيمنا بجلسته األخيرة مع الخواجة ثم تلفت لبسمة التى اختارت :أى عصير
فريش .
دقائق بطيئة مرت قبل أن تفتتح نورا الجلسة :مالكو مسهمين كده ليه ..فى أيه ؟!.
كانا فاقدى النطق ..شيئا مابداخلها بدأ يفور ويطلق أبخرة غضب .أردفت :أنا نفسى أسألكوسؤال أنتو
األتنين ..هى أحالمكم كلها كانت واقفة على سى أمجد والست هدير ..هو ده المستقبل اللى كنتو
راسمينه هى دى الرجولة يايوسف ووعدك لى أنك حتبقى راجل البيت وتقف جنبى ودى الثقة بالنفس
اللى قلبتى بيها دماغنا ياست بسمة ..ياه واللـه العظيم أنا مامصدقة نفسى خيبتى فيكم مالهاش حدود .
أدلى يوسف برأسه حين ذكر أسم هدير على لسان نورا بينما شردت بسمة للحظات ..أثار منظرهما
حفيظة نورا التى زاد أنفعالها حين رأت أمامها كيانان غريبان ينخرهما اليأس بال أدنى مقاومة ..
يتابعان عصبيتها بحياد بارد .فأرتفع صوتها :ده مش وقت سرحان والتوهان كل واحد فيكم الزم يفوق
وينتبه لمستقبله ..أيه الوكسة اللى بقيتو فيها دى ..معقولة تبقوا بالضعف ده عاملين زى حته األزاز
أى خبطة وال صدمة تكسركم وتخليكم بالمنظر الكئيب ده وكأن خالص القيامة قامت والدنيا أنتهت .
تابعت حين أرسلت نظرة خصت بها يوسف :هو أنت ذاكرت وتعبت وأتخرجت من كلية الهندسة ليه ..
عشان تقعد فى البيت وتطول دقنك وتعيش على الذكريات ،هى هدير بتاعتك حابسة نفسها زيك كده ليل
ونهار فى أوضتها وموقفة حياتها كلها عشان خاطر سيادتك ،أكيد أل وأنت شفت بعينيك لمارحت مكتب
ناجى كانت هيه موجودة وبتشتغل وعايزة تثبت وجودها مع انها أصال مش محتاجة أى حاجة ..كفاية
بقى يايوسف وفوق شوية وبص لمستقبلك وألحق نفسك وأرجع لمكتب المهندس ناجى قبل ماتخسر
مكانك فيه وتضيع فرصة حتندم عليها كتير .هز رأسه دون أن ينظر اليها :أنا أتصلت أمبارح
بالمهندسة أيمان وقلتلها أن كان عندى ظروف عائلية وحآجى يوم السبت .
ــ طبعا قالتلك شكرا خليك مستريح فى بيتكم .جملة قالتها بسمة بأستخفاف .
ــ بالعكس كانت رقيقة جدا معايا وقالتلى مافيش مشكلة ودى حاجة غريبة أنامش فاهمها لغاية دلوقتى .
ــ وال غريبة وال حاجة دى تالقيها توصية ياباشا .كان ذلك تنويها من نورا .لمعت صورة هدير فى
ذهنه حين جرجرته كلماتها لبقايا أمل بتالعب فى أعماقه .هز رأسه وجسده مسجون فى عجزه عن
371
مقاومة غيابها ..لحظة صمت حين باغتهم الجرسون يفرغ حمولته ..كابوتشينو امام بسمة سحبه
يوسف مذكرا تلك األلة التى تقف فوق رءوسهم :ده بتاعى أنا .ثم نزل بعصير البرتقال امام نورا التى
ازاحته الى منطقة بسمة مرددة :أكيد حضرتك كده فهمت أن القهوة دى بتاعتى .أبتسامة غبية :صح
سيادتك .سندت نورا مرفقيها على المنضدة وبينهما فنجان القهوة وتحولت ناحية أختها التى تنتظر
نصيبها من الهجوم :يعنى أنا ممكن أفهم الحالة اللى أخوكى فيها وأعذره مع أنى أرفانه من حالة
البؤس اللى هو فيها لكن اللى مش فهماه وحيجننى حالتك النيلة دى ..قافلة على نفسك وعايشة دور
المطلقة البتروحى والبتيجى عشان أيه كل ده ..عشان سى أمجد الشاب الهاى كالس أبن األكابر ..
أنتى أكيد حصلك حاجة فى دماغك .تنصت إليها وعيناها التفارقان شوب العصير .فأستأنفت ساخرة :
ونبى مش مكسوفة من نفسك لما يبقى واحد فى مستوى أمجد ده وحالته العدمانة دى يبعد عنك ويهرب
بمجرد ماصارحتيه بحكاية ماما .جملة أطاحت بما تبقى لها من أعذار كانت تلتمسها له فسقطت نظرتها
أرضا حين أجهزت عليها نورا بحقيقة دامغة حاولت مرارا أن تتحاشاها :كده األمور بقت واضحة أوى
ومش محتاجة فتاكة سى أمجد بتاعك ده لما قرر يحبك كان عارف بالظبط هو عايز منك أيه ولما أتمكن
من عقلك وقلبك وعرف أنك فرصة بالنسبة له جهزخطته وكان عايز ييجى يكلم ماما ويتقدملك
ولما سيادتك صارحتيه بالحقيقة وعرف أن الليلة كلها كدبة كبيرة ومافيش خليج والعقود والفلوس خد
بعضه وقال يافكيك عشان اللى زى أمجد ده مايهمهوش غير مصلحته وبس .عضت شفتها فى أسف :
عندك حق .قالتها بضعف وخجل بينما أبدى يوسف تأييدا وهو يداعب شوب الكابتشينو :خالص بقى
يانورااللى حصل حصل وده درس لنا أحنا األتنين أو على األقل لى أنا .لم تتراجع أمام كلمات الندم
وظلت على حدتها :ماقلتش لنفسك الكالم ده ليه من األول كنت مستنى لما تسمع منى كلمتين تأنيب
ع شان تفوق من اللى أنت فيه .ظلت ترمقهما لثوان ثم أشاحت بوجهها مستنكرة وهى تردد جملة دائما
ماتقال فى مثل تلك الحالة :أيه لعب العيال ده !! .
لحظات هدوء وتأمل ..أنشغل كل منهم بمشروبه ومتابعة الوفود الداخلة وكأنهم أمام شاشة عرض
سينمائى يتابعون فيلما شبابيا بأمتياز يتخلله بعض اللقطات لبعض كبار السن كضيوف شرف .أنهت
نورا رشفتها األخيرة من فنجان القهوة قبل أن تستعيد أنتباهما بكحة مصطنعة ثم مالت بصدرها وهى
تضع على وجهها قناعا من الجدية :ركزوا معايا شوية وخلونا نفكر مع بعض حنعمل أيه فى اللى
جاى ؟ .
372
ــ فى أيه يانورا ؟ سأل يوسف قبل أن يفرغ الدفعة األخيرة من الكابتشينو فى جوفه .
ــ فى موضوع ماما .بسذاجة علقت بسمة :هى مش أتحجبت خالص .
ــ حجاب أيه اللى بتتكلمى عنه هو كل اللى أحنا فيه ده وعيشتكم المتكعبلة دى كانت واقفة بس على
حجاب ماما ..ياريت كانت تبقى بسيطة ..مش عايزين نضحك على بعض أنتو فاهمين كويس أن
مشكلتنا كبيرة ومايعلم بيها إال ربنا ظروفنا دلوقتى بقت غير األول ،يعنى الزم نشوف حنعمل أيه وندور
لنا على حل .
ــ أنا شايفه يايوسف أن مشكلتنا كلها بقت فى وجود ماما معانا .قالتها وكانت تنتفض وكأنها تستعيد
كل المعارك التى دخلتها ..ثم تهدأ للحظات كأنها تأبى األستسالم .تابعت فى أصرار :ماعدش ينفع
طبطبة والكالم مزوق الناس دلوقتى مابترحمش والعايزين ينسوا واليغفروا والحتى يسيبونا فى
حالنا ..ليه أحنا أصال ندفع تمن مالناش ذنب فيه وأنت وأختك جربتو بنفسكم وشفتو بعينيكم عند الجد
كله بيهرب مافيش حد بيعذر وال فى حد عنده أستعداد يقرب من ناس أمهم دخلت السجن عشر سنين فى
جريمة قتل ! ..كانت تتحدث بلسان ساخن تلسعه نار الخوف الشديد على مستقبل أصبح تحت سطوة
التهديد .تريد أن تقنعهما بأنهما أمام حالة وقضية ..تتطلبان حال ؟!.
ــ بتفكرى فى أيه يانورا ؟ سكتت للحظات قبل أن تجيب على سؤال بسمة رمقت خاللها يوسف الذى
أدرك أن تلك المقدمة ماهى اال تمهيدا لقرارات صعبة قادمة .
ــ بصراحة أنا مش داخلة دماغى الحكاية دى خالص .بدا متحفظا عند ذكر كلمة " جواز " كان يجد
صعوبة فى تخيلها .
ــ يعنى أنتى متأكدة أن فيه أرتياح بين ماما وعمو خيرى .
373
ــ يابنتى عمو خيرى عرض عليها الجواز فعال بس هى محتارة ومترددة شوية يعنى ممكن تقولى كده
خايفة أو قلقانه عشان كده طلبت منه التأجيل .
ــ نفسى أعرف جبتى الكالم ده منين .قالتها بسمة بدهشة .
ــ قبل مانأخد خطوة يانورا أنا مش فاهم جواز ماما حيفرق معانا فى أيه ،اللى حيتغير فى حياتنا ؟!.
ــ جواز ماما هو اللى حينقذ حياتنا كلها ويأمن مستقبلكم ويكفينا ان ماما حتبقى فى رقبة حد تانى
ويتحمل مسئوليتها والناس ساعتها حيبقى لها الظاهروانتو حتحسو بالفرق الكبيرة لما تكون المشكلة
عايشة معاكوفى مكان واحد ونتحرق بنارها وبين لما تكون المشكلة بعيد عنكو ..ماتنسوش كمان أن
عمو خيرى يعتبر فرصة كبيرة لماما ولنا بوضعه ووجاهته وبرستيجه وده طبعا حيجمل كتير من صورة
ماما وصورتنا وأكيد مع الوقت الناس حتنسى وحيتعاملوا معاها ومعانا على أنها لها حياتها الخاصة
وأحنا لنا حياتنا .نجحت فى سحبهما إلى منطقها .إال أنه نظر لها فى حيرة :يعنى معنى كالمك أن
ماضى ماما حيسبنا فى حالنا ومش حيجرى ورانا فى كل حتة .قالها بنبرة يعزى بها نفسه ثم تاه
بنظراته شاردا فأنتظرته بعينيها حين عاد من سرحته :أنا ماقلتش كده أنا اللى قلته مع الوقت كل حاجة
حتتغير ..أنا متأكده من كده .سحبت بسمة نظرتها من وجه نورا حين أنتهت مبدية وجهة نظر :
وأفرضى ماما رفضت ؟! أبتسامة ثقة سبقت ردها :مش شايفة أى سبب يخليها ترفض ..أوال هى
وعمو خيرى متفاهمين جدا وتقريبا شبه متفقين ومحتاجين لبعض جدا جدا فى المرحلة دى ،هى ممكن
فى األول تحس باألحراج وتحاول تبين لنا أن الموضوع أصال مش فى دماغها وبكتيره يومين تالتة
وحتوافق .
374
ــ أل طبعا ياأستاذ لكن فى خطوة أساسية الزم تتعمل األول قبل أى كالم عن الجواز .حركات أصابعها
المنفعلة أستولت على تركيزهما وتحاصرهما فى خانة الترقب أنتظارا لما ستقوله :ماما الزم تبطل شغل
..قالتها وسكتت تاركة جملتها تتجول فى راسيهما .
ــ وده دخله أيه فى موافقتها على الجواز ؟ سؤال مشروع ألقت به بسمه فى وجه أختها .
ــ األتيليه وزيزيت بالنسبة لماما همه حياتها ووجودها وأنا عارفة أنها حتبقى خطوة صعبة أوى عليها
لكن ماباليد حيلة ،مرتبها من الشغل مقويها ومخليها متمسكة بالوضع اللى هى فيه ده ومش حاسة
خالص بالمصايب اللى كل يوم والتانى بتقابلنا بسببها ده غير زيزيت اللى واقفة جنبها ومشجعاها
ومفهماها أن الدنيا حتتظبط وكل حاجة حتبقى تمام بس هى مسألة وقت واألتنين طبعا مقضينها لت
وعجن طول اليوم روسهم فى روس بعض والدنيا أخر روقان معاهم ،لكن لما يبقى مافيش أتيليه وال
فى زيزيت ساعتها بس ماما حتقف وقفة مع نفسها وحتراجع حساباتها كلها ومش حتالقى قدامها غير
عمو خيرى .تابع يوسف تحليلها بأضطراب وهو يتحاشى أطالة النظر فى عينيها شاعرا بحرج بالغ من
تداول فكرة زواج أمه ..سكن منكمشا داخل كرسيه اليصدق تسارع المشهد بكامله ..أحداث سريعة
تدفعهم بال تردد للمجهول .مد نظره بعفوية لبسمة التى الزالت تتحسس طريقا لتكوين رأى قبل محاولة
نورا تبديد مشاعر ملتبسة سكنت مالمحهما :أنا بأحاول أنقذ مايمكن أنقاذه ! .أشاحت بسمة بوجهها
عنها باحثة عن مبرر تخفف عنها شعور متنامى بالذنب .
ــ يعنى أن تى مش شايفة أننا كده بنضغط على ماما وبنخليها توافق على حاجة غصب عنها .بدلت
لهجتها محاولة أكتساب تأييدهما إال أنها بددته بأنفعالها :غصب عنها أزاى همه األتنين بيحبوا بعض
وكالم فى التليفون طول الليل ده غير مقابالت برة اللى كل يوم والتانى أنا كل اللى حأعمله أنى
حأستعجل األمور شوية عشان خالص ماعدش حد فينا متحمل ترددها ودلعها وال هيه فاكرة أن كل
حاجة عادى وتمام والدنيا وردى وكأننا عايشين لوحدينا ومافيش ناس حوالينا وال تكون لسة فاكرة أننا
قصر ومش حنعرف ندير حياتنا .حاولت بسمة الرد حين تلقت جملة صارمة من نورا :أنا مش
بأغصب حد على حاجة غلط ياست بسمة وال بأعمل كده عشان مصلحة تخصنى أنا كل اللى يهمنى فى
375
الدنيا دى مصلحتكو أنتو األتنين ومش حأسمح لحد أبدا يخليكو تتهانوا أكتر من كده ويخلى اللى
يسوىواللى مايسواش يعايركم .كلمات منفعلة أصابت بسمة بالحرج بينما بات يوسف صديقا للصمت
قبل أن تطالبه نورا بالتعقيب :وأنت كمان مافيش حاجة فى نفسك عايز تقولها .كبرت القضية وصارت
بحجم خوفهما .ثم تردد لحظات قبل أن يسأل :والحكاية دى مش حتسببلك مشاكل مع زيزيت ؟ .
ــ ماتشغلش بالك بالحكاية دى زيزيت محتاجانى أكتر ما أنا محتاجاها .
ــ طب بالنسبة لشريف وضعه حيبقى أيه يانورا ؟ قالت بسمة بفضول بينما دار السؤال حول رأس
األخيرة قبل أن يتوقف أمامها متحديا ينتظر ردا :متهيألى مش حتفرق معاه كتير مادمت أنا موافقة أكيد
مش حيبقى عنده مشكلة .قاطعت :أزاى مش حتفرق معاه ده موضوع يخصه هو وأبوه ومن حقه
يبقى له رأى وأمبارح وهو قاعد معاكى كان شكله مش مرتاح للحكاية دى خالص :ماتشغلش بالك ،
شريف أنا عارفه أزاى أتعامل معاه .
ــ شريف مش أهبل يانورا وأكيد فاهم كويس أنتى بتفكرى فى أيه وماتنسيش أن لو الجوازة دى تمت
يبقى مستقبله راح فى الهوا ..يعنى حكاية الجواز دى حتبقى ضد مصلحته .أتسعت عينيها بقلق :
أزاى يعنى ؟!.
ــ شريف دايما لما كان يتكلم معايا يقولى أنا مشكلتى بسيطة غير أى شاب ..مش ناقصنى غير شغالنة
محترمة والباقى كله حيبقى سهل كان مخطط أنه حيتجوز مع عمو خيرى فى الشقة عشان كده حطى فى
حسابك رد فعله .شعر بثقتها تنسحب من وجهها حين أختصرت ردها :قلتلكم أنا عارفة حأتصرف
أزاى مع شريف .
ــ لو الكالم ده قلتيه من سنة كنت ممكن أصدق ،لكن اللى أنا شايفاه دلوقتى مايشجعش خالص ال هو
شريف بتاع زمان اللى أحنا عارفينه وال أنتى كمان نورا اللى كان شريف بالنسبة لها كل حاجة فى
الدنيا مع أنى مش فاهمة هو أيه اللى حصل بينكم بالظبط ..فيه حاجة بقت واقفة بينكم .كان أستنتاجا
لبسمة أكثر منه رأيا تلقته نورا بتردد وثقة مهزوزة بعدما أرتدت برأسها للوراء تاركة عينيها تدور
فى وجهيهما :الكالم ده مش وقته أنا اللى يهمنى أكمل رسالتى معاكم وأحميكم لغاية ماكل واحد
يقف على رجليه .
376
ــ عشان خاطرى يانورا خدى بالك من رد فعل شريف عشان ماتدفعيش التمن زينا .مدت يدها ناحيته
ومشت بها تتحسس كتفه :ماتقلقش يايوسف .قالت جملتها وتركتهما مع سيناريو كئيب ينبأ عن
خسارة وشبكة لعالقة تاريخية ربطتها بشريف .
ساعة مرت والزمن يضيق بهم قبل أن تعلن نورا أنتهاء الجلسة والتى أختزلتها فى جملة واحدة :يبقى
أحنا كده خالص أتفقنا على كل حاجة .تحذير أقرب منه لتنويه رددته بصرامة فأنصاعا صامتين ..كانت
تلك أشارة بعدم الرفض .
ــ يبقى من بكرة حأفاتح ماما فى حكاية الشغل وحأبلغ زيزيت بالكالم ده .يوسف وبسمة تبادال نظرات
مستسلمة تعادلت فيها مساحات الخطر واألمان .يوسف ال شيىء لديه ليخسره ،حتى بسمة تطاردها
نفس العدوى .لم تشأ نورا أن تزيد كلمة عما قيل ثم فتحت حقيبتها ودست يدها فى جوفها وأخرجت
خمسون جنيها طوتها ثم وارتها تحت الفاتورة .قاموا وعالمات األرهاق النفسى تطل من
العيون وحزمة من األسئلة تنشط فى الرؤوس :هل ستنجح نورا باجالء األم من البيت دون مشاكل أو
صدام ؟ أم لهدى رأى أخر سيفشل الخطة ويعقد األمور؟ موقف شريف الغامض سيكون حاسما فى
النصرأوالهزيمة عندما يعلن عن رأيه صراحة .كانت تساؤالت بال احتماالت وفى أحسن األحوال
باجابات مؤجلة .
أنسحبوا من كافيتريا " كارلوس " بأتجاه بوابة الخروج قبل أن تنحشر نورا بينهما تسأل :عايزين
تروحوا مكان تانى وال على البيت ؟! .
ــ ع البيت طبعا .الجملة الوحيدة التى قيلت على لسانهما فى وقت واحدوبنفس الحماسة منذ لحظة
خروجهم .ساقتهما خلفها إلى حيث " الباركينج " .
نعمة النظر ..هى أخر مافقدته فايزة حين أغمضت عينيها قبل أن ترحل بصحبة سلطان النوم الذى
قادها الى سلطنته لتطالع حلم بدايته توحى بأنه من سلسلة أحالم " األكشن " ..تتر سريع له خلفية
سوداء يظهر فيه أسم فايزة منفردا كبطولة مطلقة تتساقط من حروفه نقاط حمراء ضخمة بلون الدم ثم
أظلمت الشاشة تدريجيا للحظات ،قبل أن يبزغ فى منتصفها أسماء بقية الشخصيات حسب الظهور :
377
عبده الجن وبدرية ونوسة ثم منصور ..موسيقى أفريقية خجولة تتخللها دقات طبول ذات ايقاع منتظم
تصاحب خطوات سريعة الهثة لفايزة تقودها داخل حوارى متشابكة وملتفة ..تتفادى فى طريقها أجسام
بشرية غريبة ذات رؤوس صلعاء ووجوه بال مالمح سوى عين واحدة فى مقدمة الجبهة وجلود عارية
ال يسترعورتها الضخمة المنتفخة سوى مايشبه الكمامة ،يتحركون ببطء حولها فى دوائر تعوق
حركتها ،إال إنها نجحت فى األفالت منهم بأعجوبة ..سارت تائهة بال هدف ..تزداد خطوتها أتساعا
كلما شعرت بوقع أقدام تالحقها بأصرار فأرتفع ايقاع الطبول فجأة معلنا عن نهاية المشى كمرحلة أخيرة
قبل مرحلة الركض ..أندفعت تجرى كالمجنونة ثم ألتفتت مع منحنى عطفة لتتبين صاحب الخطوة ..
كانت بدرية هى من يتبعها تهتز بجسدها كجبل من اللحم رافعة يمناها ملوحة بشعلة تشبه شعلة
األولمبياد تتعارك فيها النيران بعنف .أجتازت فايزة بهلع كل الطرقات الخالية ركضا والتى مهدت
لدخولها عتبة بيت قديم مهجور يتبعها خيال بدرية الضخم ..وثبت للداخل ووثب خلفها الخيال ..خطفت
الساللم خطفا فى قفزات متصلة حتى تعثرت أمام باب شقة مفتوح فدفعت بجسدها للداخل ..تباطأت
خطوتها وسط صالة فارغة تبحث بعينيها عن مالذ أمن وأذنين ترصدان صدى الخطوات الصاعدة
خلفها ..تصلبت فى وقفتها بعدما تجمدت الدماء فى جسدها حين أبصرت نوسة فى نهاية الصالة تستند
بظهرها لجدار أسود وشعرها الثائر يحيط بوجهها الذى أضاءه أنعكاس اللهب المتصاعد من شعلة
تحملها هى األخرى فكشفت عن مالمح مخيفة ..عينان مستديرتان واسعتان أحتلت نصف مساحة
وجهها فبدت كعينى شبح فى وجه ساحرة شريرة ..تراجعت فايزة بقدميها للوراء مبتعدة بأتجاه الباب
حتى بلغته باهتة مرتعشة ثم أستدارت وسلتت نفسها منه تعتلى درجات السلم صاعدة للدور األعلى قبل
أن تصلها شعلة بدرية التى أقتربت منها لحظة خروجها إال أنها سبقتها بمتر واحد صعودا وهى خافضة
الرأس تأكل الدرجات حتى كادت تصطدم عند نهايته بكيان مرعب يسد أمامها طريق الهرب ..رفعت
رأسها ببطء تتمشى بنظراتها المنخفضة على فخذيه ثم لصدره وصوال إلى وجهه الضخم ..تفحصته
بخوف ،أرتعدت وتعالت أنفاسها ..لم تفكر حين أبت نظرتها أن تفارق وجهه ؟ كان يحمل مالمح عبده
الجن ،بدا وجهه كفروة رأسه مليئا بالشعر كأنما وجه غوريلال ،كلما أبتعدت برأسها أقترب منها ويده
قابضة على شعلة من النار ،قربها حتى المس لهيبها خصالت شعرها الذى أنتفض من جذوره من هول
المفاجأة ..تسللت عيناها الى عينيه رغم محاولتها أغماضهما ،كان يشق جفنيه بصعوبة من بين شعر
كثيف أحاطهما ..ظل يتأملها بنهم كأكلى لحوم البشر .تماسكت حين أوشكت بدرية للوصول اليها ،فلم
تجد أمامها اال أن تدفعه دفعة قوية دفاعا عن حق الحياة ،فأنزاح مترنحا للخلف فأنفلتت بخفة لتكمل
378
رحلة الهروب ألعلى بينما هو من خلفها ..كان يتبعها كظلها يهتف ويلعن ..بدت قفزته أسرع من
خطوتها الخائفة بعد أن صارت أنفاسها معلقة فوق صدرها وكأنها تتهيأ لخروج روحها .لم تسعفها
قدميها فنزلت على يديها وصعدت بقية الدرجات كالقردة حتى وصلت بأعياء شديد ألخر درجة فأستقبلها
باب شقة مفتوح أجتازته بصدرها كأنما تنهى سباقا قبل أن توصده خلفها وتلصق به ظهرها بكل ماتبقى
لها من قوة .بدت كصخرة تسد خطرا ..نهيجها يتصاعد فى المكان كقرع الطبول ..أرتج لحم خديها
مع كل نفس تسحبه وتصرفه كلما سمعت صوت أقدام تقترب من خلف الباب ..حدقتيها تدوران فى فزع
وسط لحظة سكون تشبه لحظات الموت .تحسن باذنيها فألتقطت همهمات سرعان ماتحولت لصرخات
تبث الرعب فيها قبل أن تتحول الى طرقات قوية ملحة أرتجفت لها شفتيها وأهتز جسدها بشدة مع كل
طرقة تكاد تنزعها نزعا من مكانها بينما ظهرها الملتصق بالباب صار كدرع يتلقى الضربات ..إال إنها
لم تصمد طويال ،خارت قواها فأرتخت ساقيها وأنزلقتا أمامها حتى أنهارت مرتطمة بمؤخرتها على
األرض وأستقرت على وضعيتها للحظات كمحاولة أخيرة لصد الباب الذى أصدر أنينا ينذر بالتسليم ،
غير أنها فى خضم الخوف واألنهيار نجحت فى العثور على جملة مفيدة كونتها بدافع النجاة :أنتو
عايزين منى أيه ..سيبونى فى حالى حرام عليكو .تكاثرت الطرقات فأزدادت عنفا وكانت من القوة
لتصنع شروخا فى الباب وتزحزح الصخرة عن مكانها حتى أنزاحت تمشى على مؤخرتها دون أرادة
منها كمن تجلس على جبل جليدى .لم تستطع التمسك بموقعها ،فأبتعدت عن الباب تحبو ..دخلوا
الثالثة بوجوه مضاءة بلهيب المشاعل حاصروها وأحاطوا بها فتكورت على نفسها مستسلمة ،طاف
حولها حملة المشاعل فى اللحظة التى كانت فيها فى نهاية العد التنازلى لتقبل فكرة الموت حرقا ،لم
تكن تملك أى ردة فعل اال التسليم بأن حسابها قد حانت لحظته .مر عبده من بينهما رمقها بنظرة تشفى
ثم أنحنى بوجهه المشعر ناحية أذنيها :النهاردة يوم الحساب يافايزة .كانت نبرته كالزئير ..تحسس
شعرها المنكوش :أول حاجة حأحرقها لسانك اللى عامل زى لسان الحية وبعد كده حأتسلى فى وشك
العكر ده حأخلى النار تسيحه وتشويه وبعدها ..قاطعته بدرية حين أقتربت :كفاية عليك دول ياعبده
وسيبلى الجسم المتختخ ده أنا حأخلى النار تأكل وتشبع .قالتها بملء فمها وهى تغرس أصبعها فى كتلة
اللحم المتكورة تحتها .عيون أمتألت بالشماتة أمام وجه يمأل المكان بصرخات األستغاثة وهى عاجزة
بال حيلة الت ملك سوى بدن يهتز يدفع بعشرات الصور فى رأسها عن نهايات محتملة .قرب عبده شعلته
منها فلسعتها سخونتها ،حاولت صدها بأنكماشة حتى تداخلت رأسها بين كتفيها حين تهيأ لتنفيذ
المهمة ،رفع شعلته بطيئا ليتيح للعذاب فرصة األستمتاع بخوفها بينما تتخلل صرخاتها جسده فيزداد
379
نشوة ،كان أحتياجها شديد لنفس أخير قبل أن تغمض عينيها تأهبا لحساب جهنم الذى يحمل فى يده
جزء منها ..ظلت تتمتم بكلمات من يودع الدنيا ..أستقبلت نار عبده ولم تبذل جهدا كى تبعده عنها ..
أدلت رأسها فى أستسالم لمصيرها المحتوم أنتظارا لتنفيذ حكم األعدام حرقا .صوت أقدام فى المكان
تخترق األذان ،كان بمثابة نقطة ضوء سقطت فى نفق مظلم .وقفت الصورة وتجمد المشهد وتسمر
الجميع فى أماكنهم حين دخل رجل مقنع بخوذة يرتدى زى المطافىء يجر خلفه خرطوم مياه ..سار
بخطوات واثقة ثم وقف مشدودا ،بدا فى وقفته كفرسان الحواديت ،تأمل الواقفين بنظرة حادة دار بها
فى السحنات المترقبة قبل أن يصوب خرطومه ناحية الماسكين بالنار ثم نزع عنه السدادة التى كانت
أشارة البدء ألندفاع المياه كشالل هادرمذكرا النائم بمشهد فتح الهويس على يد الفنانة " شادية " فى
فيلم " شيىء من الخوف " .تحرك ناحيتهم بخطوة واسعة يالحقهم بخرطومه وكأنه مدفعا ،لحظات
وأنطفأت النار فى المشاعل وتحولت فى لحظة ‘لى أسلحة بال ذخيرة وتسرب الدخان األسود متصاعدا
فأظلمت وجوههم ..فكوا حصارها وتراجعوا منسحبين برؤس منكسة كأسرى حرب .راقبت فايزة
رحيلهم شاردة تائهة غير مصدقة قبل أن تسحبها نظرتها ناحية الفارس القادم اليها ،أعتصرت عينيها
وهى الزالت مطوية على نفسها حين أقترب منها ،مال نحوها ومد يد آمنة تزيح الخوف المطبوع فى
قسماتها ثم رفعها لتقف فى أعياء ..بدت بين يديه هشة ضعيفة ،ظلت تتابعه فى ذهول وهى تنتفض
حتى خلع خوذته ببطء ـ لحظة فارقة فى سياق الحلم ـ أنبعجت مالمحها حين أضاء وجهه عينيها ..
تحسست خديه بيد مرتعشة .أهتز صوتها :منصور .قالتها بنبرة العائد من الموت .تفجرت منها
دموعا كنافورة مياه تردد بهستيرية :ربنا يخليك لى يامنصور ..ربنا يحميك يابنى .كررتها عدة مرات
بال توقف حتى كادت تفقد الوعى قبل أن تتماسك حين تشبثت بعنقه ثم أخفت وجهها فى صدره تردد
بصوت مكتوم :سامحنى يامنصور .غابت بعجزها وقلة حيلتها حتى نزول كلمة النهاية التى أفضت
لتقلص عضالت وجهها وهى تقاوم أنزالق جفنيها بعدما قررت أن تفتحهما .عادت من الحلم
" األكشن " بأعضاء مرهقة ونظرات تمشى فى جولة خاطفة فى أنحاء الغرفة للتأكد من حقيقة موقعها
فى الكون ..كفان مرتجفان كانا فى أنتظار وجهها الذى دفنته فيهما حين تحاملت على نفسها ورفعت
جسدها قبل أن يهدأ نبضها وتغزوها أعراض رغبة محمومة فى ترد يد جمل ايمانية :أعوذ باللـه من
الشيطان الرجيم ..يارب أرفع غضبك عنا .هدأت أنفاسها وهى تتابع سكون الغرفة بينما لسانها اليزال
يتلو كلمات نادرا ماأفصح عنها :ربنا يخليك لى يامنصور يابنى .تدريجيا خلعت مالمح الفزع
وأستبدلتها بأنفاس هادئة ..أستغرقت تتأمل حلمها ،جالت فى تفاصيله كادت تأكلها الدهشة بعدما أيقنت
380
حجم العداء والكراهية اللذان يحملهما هذا الممدد إلى جوارها ..نظرت لـ " عبده " بمالمح محتدمة
تتابعه بأشمئزاز وهو يخوض معركة شرسة ..تشخير متقطع يتصاعد لعنان السقف ،يعتقد أنه الجيل
الرابع من التشخير ينطلق مدويا من أنفه وفمه وكأنما يخرج من مارد .نظرت له طويال قبل أن تلكزه
فى صدغه المستفز الذى يهتز مع ريح أنفاسه ..لكزة لم تسفر عن نتيجة فناولته أخرى قوية على
صدره أنتفض على أثرها بعدما جذبته من الفانلة " الحماالت" ألزمته بفتح عينيه على الوجه المتربص
الذى يصرخ فوقه :أصحى ياراجل ياشر ياأبن الحرام عايز تحرقنى وتولع فى ياأبن المفضوحة .رمش
بعينيه قبل أن يرفع راسه مذعورا :فى أيه ياوليه ع الصبح .أستقبلت رأسه المرفوعة بكف على جبينه
فهوى ثانية على المخدة :عايز تموتنى محروقة ياأبن المحروقة عايز تخلص منى ياراجل ياناقص .
ــ أيه اللى بتقوليه يافايزة عيب ياوليه ده أنا متلقح جنبك طول الليل ماأتحركتش .واجهته بثورتها
وهو ممدد بال حيلة :أتحركت ياعبده ياجن وجت لى زى الشيطان فى عز الليل أنت والمفضوحة
بدرية وبنتها جيتولى زى العفاريت فى الحلم عاملين عصابة زى قطاعين الطرق عايزين تخلصوا منى
ياراجل ياوسخ .
ــ حلم ..قالها بأبتسامة ساخرة كما لوكانت طعنة .أردف :ياوليه بالش خبل وأصتبحى ع الصبح
بتحاسبينى على حلم .أقتحمته :كل حلم وله أصل زى ماكل نار ولها دخان ..طول عمرك بتكرهنى
ونفسك تخلص منى النهاردة قبل بكرة ..لكن ودين النبى ألعرفك مين فينا حيخلص من التانى .أستسلم
تماما لهياجها قبل أن يخلص نفسه من حصارها ساحبا نفسه مهروال من الغرفة قبل أن يلهف جلبابه
المعلق خلف الباب ويطوى شبشبه تحت أبطه معلنا الفرار وهو يردد :المرى أتجننت خالص .
تربعت فايزة وسط السرير بعد مارحل الحلم وترك الحزن يعاشر المرارة فى نفسها ليفرز قلقا ومشاعر
متناقضة تستقر فوق كل عضلة فى جسدها ..خرجت من حلمها بحقيقة ناصعة كانت غافلة عنها الزالت
تتفاعل داخلها " ..منصور " أصبح يفرض عليها واقعا جديدا ..بدت مالمحها متخمة بضعف نادرا
مايجد له طريقا فى سحنتها حين واجهت نفسها بأفعالها الحادة تجاه أبنها الوحيد ،أدركت فجأة ودون
ضغوط أن المصلحة لها فى مواصلة العناد وأظهار الخصومة بعد ماثبت لديها خطأ رؤيتها التى أدت
لنفور أبنها الذى سلم نفسه طواعية لنوسة وأمها وصار أبوه هو األقرب له .اآلن تعيش لحظة فارقة
فرضت عليها مجموعة تصورات تحيط برأسها الثائر ..لم ترجح أيا منها األصلح ،إال أنها قررت أن
تتوجه لمكتب محمود المحامى صاحب استراتيجية المهادنة ونظرية استمالة منصور بديال عن سياسة
381
المواجهة ،وليرسم لها دورا جديدا فى كيفية التعامل معه فى تلك المرحلة الدرامية الحادة كبداية لثورة
تصحيح ..لملمت نفسها وهبطت السرير مشحونة بعاطفة قوية وهى تردد أسم " منصور" فى جملة
مفيدة تنطقها بنبرة ملهوفة :ياحبيبى يابنى .قالتها بأحساس من وجد ثروة فى ظروف غامضة وهى
تضع قدميها داخل شبشبها .شيىء ما يتحرك داخلها مثل جنين يشق طريقه للحياة ..خرجت من
غرفتها كمولود جديد الزال يتحسس عالقته بالكون .
ذهبت منفردة الى مكتب محمود المحامى بدت كشخصية مهمة تتحرك دون موكب .بقيت للحظات فى
حجرة األنتظار قبل أن يبلغه سكرتيره بوجودها .لم تنتظر أذنا بالدخول ..دخلت عليه بعباية سوداء
وطرحة تغطى جبهتها وصدغيها وغلظة فارقت وجهها ،قابلها واقفا بوجه باهت :خير يامعلمة أيه
الزيارة المفاجئة دى ؟ مرت أمامه حين أفسح لها مكانا للجلوس .لم تجب على سؤاله حتى ركنت
مؤخرتها على مقعد مالصق لمكتبه :مش جاية فى شغل أنا جاية أخد رأيك فى حاجة كده .ألتفت اليها
وهو يتأهب للجلوس :خير ان شاء اللـه .أستهلت كلماتها يحاصرها بعض األرتباك :أنا عايزة ..
عايزة أبدأ صفحة جديدة مع الوله منصور .حين سمع األسم أنفرجت أساريره :واللـه عين العقل .
ــ زى ماأنت فاهم من يوم ماخرجت من السجن والوضع بينى وبينه مش تمام وقلت لنفسى كفاية لحد
كده مش عايزة أخسره وال عايزاه يضيع منى وأنت عارف يامتر ان منصور هو اللى فاضلى فى الدنيا
وماليش غيره .ثم أدلت رأسها وعالمات الحيرة تجوب وجهها .تابعت :وبصراحة أنا مش عارفة
أعمل أيه وأقرب منه أزاى وفى نفس الوقت خايفة منه يضيعنى ويضيع كل شقايا اللى عملته فى سنين
..الوله صغير وعقله مرجرج .لم تجتهد لتوصيل رؤيتها ،كلمات مختصرة أوجزت وجهةنظرها .
فبادرها :فاهمك .
ــ طب أيه المطلوب منى أعمله ؟ .بدت وكأنها تنتزع من داخلها أخر ماتبقى لها من عناد ومكابرة ..
التريد أن تجزىء مشاعرها ،فأختلطت عندها المعانى فال تفرق بين السالم واألستسالم ! .تلقف كلماتها
فهرول يمدها بنصيحته بعدما أشعل سيجارته :المطلوب منك مش كتير يامعلمة فايزة هى شوية حاجات
صغيره الزم تتعمل وبسرعة وأولها ترجعى منصور لحضنك وتكسبيه فى صفك وتصلحى غلطتك
الكبيرة.
ــ غلطة أيه ان شاء اللـه .قالتها حين ضيقت عينيها بأستنكار .
382
ــ غلطتك كانت كبيرة أوى ياست فايزة ..أبنك منصور عاش مع أبوه ليل ونهار أربع سنين كاملين
لماكنتى فى السجن أطبع بطبعه ومشى على نظامه وأنتى ست العارفين بنظام عبده الجن يعنى مصلحته
فوق كل شيىء وأبنك طبعا معذور مالقاش حد يراجعه واليحاسبه وبقى مقضيها سرمحة وصياعةوأبوه
طبعا مكبر دماغه مش فاضيله وبقوا همه األتنين فى الهوا سوا وآخر تفاهم وكل واحد بيفوت للتانى
ومقضينها هلس ..واحد شغال فى العرفى والتانى سلم نفسه لنوسة وأمها وبارك اللـه فيما رزق .قالها
بأبتسامة صغيرة وهو يطفىء سيجارته قبل أن يستأنف :ولما أنتى طلعتى من السجن بقيتى فى نظرهم
زى البعبع وقفتلهم زى اللقمة فى الزور وطبعا المسائل نشفت فى القهوة وعبده لقى اللى واقفله فوق
راسه بيحاسبه بالمليم ومنصور طبعا الدنيا أسودت فى وشه لما فاتحك فى حكاية نوسة .قالها وسكت
للحظات كى يسحب نفسا طويال ثم أردف .بهدوء ..والنتيجة طبعا أن الوله وأبوه بقوا فى جنب وأنتى
فى جنب تانى خالص .أعتدلت فى جلستها حين قاطعت :يعنى لما أحافظ على فلوسى وأخاف على أبنى
أبقى زى البعبع واللقمة فى الزور .
ــ مش ده قصدى ياست فايزة ،أنتى اللى عملتيه كان صح بس المشكلة كانت فى التنفيذ .
ــ ده أنتى أم المفهومية المفروض كانت األمور تتاخد واحدة واحدة وبهداوة ولما تحبى تسدى باب الزم
تفتحى قصاده شباك .
ــ والشباك ده يبقى أيه .قالتها وهى تحكم طرحتها حول راسها .
ــ شغلك يامعلمة ..أسحبى منصور فى ملعبك ألهيه بالشغل حسسيه أنه بقى راجل وله أهميه .
خدى رأيه فى أى مصلحة تعمليها خليه يمسك فلوس فى أيده ودخليه معاكى واحدة واحدة ..ساعتها
حيبقى مكسبك كبير أقلها أبنك جيبقى تحت عينك وطوع أمرك وحيبقى فى صفك ويبعد عن أبوه .رفعت
عينيها للسقف تقلب أقتراحه :والمطلوب منى أيه دلوقتى ..رددتها ساهمة وهى تنتظر حلوال صعبة .
ــ أبدأى معاه بكام خطوة كبداية ،خليه يتابع مع النونو وخضر شغل التاكسى والنص نقل خليه هو اللى
يحاسبهم ويتابعهم وسيبيه يباشر محمد المقاول لما يبدأ هدد حسسيه أن دى فلوسه وحاجته وأديله ريق
383
حلو وشجعيه وأنسى خالص طريقتك القديمة معاه .شعرت بأتهاماته كدائرة تضيق عليها .لم تدافع أو
تتنصل كعادتها .أستسلمت :يعنى أنت شايف كده .
ــ مافيش غير كده .قالها بأصرار ثم أقترح :وعشان تبقى البداية صح فيه خطوة الزم تتعمل .تابعته
بعينيها فأردف :نبعت نجيب بدرية هنا فى المكتب ونراضيها زى بقية السكان وتاخد حقها على داير
مليم ..الخطوة دى حتفرق كتير مع أبنك وحيحس ساعتها أن فيه حاجة صح بتحصل ومع الوقت
حتالقى منصور واحد تانى خالص بيخاف على فلوسك وعلى حاجتك ويمكن أكتر منك كمان وحتالقيه
من نفسه ومن غير ضغط بيتغير وبينضف دماغه من األشكال اللى هو ملموم عليها زى البت اللى
ماشى معاها ..ده رأيى وأسمعى كالمى وأنتى الكسبانة .
هزت راسها :عندك حق .قالتها كأقرار بسالمة رأيه .بينما أضاف محذرا :وده مايمنعش أن عينيكى
تبقى فى وسط رأسك وتفتحى كويس لعبده الجن ..ده راجل مش سهل .
ــ ماتقلقش من الناحية دى أنا أعرف أزاى أصرفه وكل جن وله بخور ..شوف الصح وأعمله .قالتها
وهى تتهيأ للوقوف .لم تكن تملك خيارا أخر سوى تنفيذ ماأقترحه محمود المحامى سعيا وراء واقع
جديد تكون فيه العاطفة فعال وليست شعورا .خرجت من مكتبه وجزء من طباعها تعمدت أن تسقطه كى
التفسد بقية أجزاء حياتها .
00000000000
عدا الرسالة المقتضبة التى وصلتها فى اليوم التالى على لسان سكرتير محمود المحامى الذى وقف
متشنجا عند عتبة باب شقة بدرية يتلو نصا أستمر فى ترديده طوال الطريق حتى حفظه :المتر
مستنيكى النهاردة فى مكتبه الساعة سبعة ! لم تستطع بدرية ومن خلفها أبنتها تحليل فحواها ،ساد جو
من الريبة والقلق .لم تجد نوسة حال لفك شفرة الرسالة إال باألتصال بمنصور الذى تلقى مكالمتها وهو
يجتاز مدخل البيت متجها للقهوة .هز رأسه شاردا وهو ينصت لكلماتها للمرة الثانية بعدما أنذرها فى
المرة األولى :واحدة واحدة وأتكلمى براحة عشان أفهم .حين كررت على أسماعه بتأنى رسالة
محمودالمحامى ،نفض راسه وأستفاق دون أتباع طقوس األصتباحة .ركز فى كلماتها وأعتصر ذهنه
بال فنجان قهوة بن تقيل والسيجارتين متصلتين كعادته ..سار زائع العينين وهو الزال ينصت لها
384
بدهشة قبل أن يتوقف بالقرب من كومة قمامة على وشك أن تصبح جبال :طب ماتعمليش أى حاجة
لغاية ماأنا أتصرف .
ــ يعنى حتتصرف تعمل أيه ؟ .كانت صرخة أقرب منها لتساؤل ..وطى صوتك وأسمعى الكالم ،ساعة
زمن وحأتصل بيكى لغاية ماأفهم أيه الحكاية .غادر كومة القمامة بعدما مأل رئتيه من رائحتها مرددا
بينه وبين نفسه :أكيد محمود المحامى حيعرض عليهم مبلغ ترضية مضروب عشان يستلم الشقة
والعقد .تضامنا مع حالة القلق التى ظهرت فى صوت نوسة كان هو أيضا أشد قلقا :طب أزاى وأمى
راكبة دماغها ومش ناوية تديهم والمليم وحالفة لتطلعهم من البيت مواليا كما خلقتنى .زاد توجسه ولم
يكن لديه بوصلة ألستقبال مابين السطور خلف تلك الرسالة .وطئت نظرته األرض وهو يستعيد حيوية
طارئة نادرا ماتنتابه فى مثل تلك األوقات ..أتسعت خطوته وهو يغادر حارة المناجيلى سالكا حارة
" فضل " حتى نهايتها باحثا عن خطوة البد من أتباعها قبل أن تظهر له عن بعد بوابة المقهى .
أستقبله عبده بنظرة طويلة تابع منها مالمحه حين عبر المدخل ،لمح تغيرا فى سحنته ونبرته :صباح
الخير يابا .
ــ البت نوسة كلمتنى من شوية وبتقولى محمود المحامى مستنيهم النهاردة فى المكتب " .يسقط يسقط
حكم المرشد ..يسقط كل كالب المرشد " كان هتافا مدويا على ساللم نقابة الصحفيين تبثه على الهواء
قناة الـ " . " ontvسحب عبده الريموت كى يكتم الحناجر الصارخة ثم ألتفت ألبنه :ليه ؟ .
ــ أكيد عشان حكاية الشقة .فرجة صغيرة فى شفتيه كى يفسح طريقا لمرور ضحكة ساخرة :خالص
الهانم أمك والمحامى بتاعها قرروا يفرجوا عن بدرية وبتها .تمعن فى وجه أبوه الساخر :مش عارف
يابا ..قالها بحيرة قبل أن يتابع :أنا بأقول أتصل بمحمود المحامى وأفهم الحكاية منه .أطلق نبرة فزع
ال أرادية :بالش أنت ..سيب األمور تمشى بدل ماتعقدها ،أمك لو خدت خبر حتبقى ليلة سودة عليك
وعليهم .وجهة نظر أخذها منصور مأخذ الجد قبل أن يبدى تحفظا :يعنى أسيبهم يروحوا على غماهم
وهمه ونصيبهم ياصابت ال خابت ..ماينفعش الكالم ده يابا .رجع عبده بظهره للوراء مسترخيا فى
مقعده قبل أن يشير له بملل :أنت حر أعمل اللى تعمله أنا قلتلك ع اللى فيها وعقلك فى رأسك بقى !.
أنهى تحذيره وألتقط الريموت ثانية فأستجاب له الصوت بعد ضغطتين على صرخة متصاعدة من أعماق
385
أمرأة صاحبة عينين ضاقتا كرها داخل صدغين هائلين " بره بره ياأبن سنية " .أنسحب منصور الى
ركن القهوة وأختلى بنفسه يبحث بتركيز شديد فى قائمة األسماء المسجلة على هاتفه .
ــ حرف الميم ..الميم ..تمام ..محمود المحامى .تأهب فى جلسته حين أجرى األتصال ..أنتظر
مترقبا .
ــ أنا منصور أبن المعلمة فايزة يامتر .ثوان وسمع ترحيبا أصابه بالذهول :أهال أهال يامنصور ..أزيك
ياحبيبى أيه المكالمة الجميلة دى .
ــ ربنا يكرمك يامتر ..أنا بس كنت عايز أسأل عن حاجة كده .
ــ بخصوص الست بدرية .قاطعه قبل أن يكمل :أنا مستنيها النهاردة فى المكتب وأطمن وطمنها
يامنصور حأتكلم معاها شوية وان شاء اللـه حنريحها فى كل اللى هى عايزاه وماتقلقش خالص من أى
حاجة .
ــ عيب ولو مش مصدقنى ياريت تيجى معاها وتشوف بنفسك .غزت الفرحة وجهه :واللــه أنت متر
مية مية .
ــ يامنصور أنت صاحب مصلحة والمال مالك واللى أنت شايفه صح أعمله وأنا معاك ولما أشوفك
النهاردة حنكمل كالمنا .كلمات أذهلته فشعر بصعوبة فى التواصل .فألح محمود المحامى :أنت
سامعنى وال رحت فين ؟! .
386
ــ أتفقنا يامتر .صعدت كل عالمات األستفهام فجأة الى رأسه حين أنهى المكالمة .حدث نفسه :هى
أيه الحكاية بالظبط ؟ .لم تعد للمعجزات مكانا فى رأسه ،كل شيىء وله ثمن ! كان األحتمال المرجح فى
عقله يتجه لوجود مؤامرة تحاك فى الخفاء وأن محمود المحامى ماهو إال العقل المدبر .أعتقلته األفكار
لربع ساعة فى كرسيه يداورها ويحاورها قبل أن يمتأل وجهه عبوسا الينسجم مع فرحته األولى التى
أنفجرت منه لحظة حديثه مع المحامى .حاول التضييق على مخاوفه فأجرى أتصاال بنوسة يزف اليها
أخباره السارة .أنتابته لحظة رجولة عابرة وبدا منتشيا وهو يخبرها بفحوى المكالمة التى أدارها
بأقتدار وحكمة كما صور لها ،فأتسعت منه العبارات وتضخمت عندما وصف لها موقفه المتشدد مع
محمود المحامى وكيف ضغط عليه حين أنفعل وأجبره طائعا خاضعا بالموافقة على حضوره كمراقب لما
سيتم ،أراد أن يشعرها بقيمته وأنه رقم صعب فى المعادلة اليمكن تجاوزه ..أنصتت له بذهول غير
مصدقة تحاول أبتالع مايقوله ..دقائق من الفشر ولذة البطولة المصطنعة عاشها منصور قبل أن ينهى
مكالمته بنبرة خشنة تنسجم تماما مع أداؤه :عايزة حاجة تانية يابت ..قولى .سمع منها مايرضيه:
ربنا مايحرمنى منك يادكرى !! .
تطلع منصور للشارع من مدخل العقار أسفل مكتب محمود المحامى بنظرات موزعة بين ساعته
والشارع أنتظارا لوصول نوسة وأمها ،أطفأ سيجارته الثالثة بعنف سحقها تحت قدمه حين لمحهما
تتهاديان ،بدرية فى الخلف تجر وراءها ردفين تتركان فى نفسك أنطباعا أن مصر تعيش حالة أكتفاء
ذاتى من اللحمة ،بينما تتقدمها نوسة محشورة فى تيشرت " كمونى" وبنطلون أستريتش أسود
تراقصت داخله عندما أقتربت من موقع منصورالذى عاين بضاعتها بعين ذئب تشاركه مجموعة شبابية
من عابرى السبيل هالهم منظر المقدمة والمؤخرة فتطوع أحدهم معلقا :مزة عايزة شنيور ! .تحرك لها
منصور خطوتين مبديا خشونة المبرر لها :الساعة سبعة وربع الزم يعنى نمشى ندلع ونتأصع .أجابته
بعينيها فتولت أمها الرد حين وصلت بسالمة اللـه :هو ده وقته يامنصور ماتخلينا فى اللى أحنا فيه
لما نشوف الراجل المحامى ده عايز أيه .
ــ ماتقلقيش أنا معاكم .قالها وأفسح لها طريقا للصعود بينما سحب نوسة من رسغها ثم أحاط
وسطها :تعالى أطلعى .كانت بدرية أول الصاعدين للمكتب .وقفت للحظات على عتبته تستكمل نهيجها
وهى تتأمل المكان قبل أن تتدحرج للداخل لتواجه السكرتير المتخشب الذى قام من كرسيه مرحبا :
أتفضلى ياحاجة ..أهال وسهال .
387
ــ أهال بيك ياخويا .ثم أنحطت على كرسى لحظة دخول منصور ونوسة فكرر السكرتير عليهما نفس
التحية دون أبداع .
ــ عن أذنكم لحظة واحدة .قالها ورحل بأتجاه غرفة محمود المحامى فأنتهز منصور فرصة غيابه
ليلقن بدرية النصيحة األخيرة :الترفضى والتوافقى على أى حاجة إال بأشارة من راسى ..ماشى لكالم
ــ واللـه ما أنا عارفة قلبى مقبوض كده ومش مرتاحة .
ــ قدمى الخير ياما وسيبيها على اللـه .جملة مهدئة رددتها نوسة ثم مالت على منصور تهمس :هى
ممكن أمك تكون مدبرة لنا حاجة .مسح وجهه بكفيه :أنتى مش لسه قايلة نقدم الخير .قال جملته
بنبرة تحمل شكوكا وسط لحظة وجوم وترقب بددها صوت السكرتير الذى ظهر لهم بأبتسامة منزوعة
األحساس :أتفضلوا جوه .قاموا دفعة واحدة ..تقدمت بدرية الموكب فكانت أول الداخلين ،إال أنها لم
تستكمل طريقها ..توقفت فى مكانها فجأة وأصبح العثور على نبض فى عروقها أمرا صعبا حين وقعت
عينيها على فايزة التى جلست مستأسدة على كرسى مالصق لمكتب محمود الذى هب واقفا لتأدية
مراسم األستقبال بينما ظلت بدرية أسيرة الصدمة تحمل وجه مرتجف وعينان ترمشان قبل أن تتراجع
خطوة للوراء تبحث بيدها المتسللة خلف ظهرها عن قميص منصور والتى نجحت فى األمساك بطرفه
وشده حتى أقترب منها ثم دفعت به فى المواجهة ..برأس تترنح ولسان مربوط واجه منصور أمه التى
أستقبلته بحاجب مرفوع لحظة ظهوره .غير أنه أستعاد بعض التماسك حين طمأنه محمود بأبتسامة
هادئة :أدخل يامنصور ..أتفضلى ياست بدرية .وكأنها اشارة أمان دفعت بمنصور لشق طريقه للداخل
مارا أمام أمه متصنعا ثباتا :أزيك ياما .قالها دون أن ينظر إليها .
ــ أهال ياحبيبى .جملة أربكته فقابلها بنظرة ركنية قبل أن يبلغ طرف المكتب محاوال أستكشاف
مالمحها ..نظرتها المرتخية كانت تحبسه داخل شعور مختلف ،لم يشعر بالخوف منها ،إال أنه أبدى
توجسا مشروعا حين سمعها ترد على تحية بدرية .
388
ــ أهال ياست بدرية .نظرت ألبنتها بأستغراب حين نزلت مرتطمة على مقعدها وكأنما تتأكد مما سمعته
فأسدلت لها األخيرة جفنيها قبل أن يخرج عليهم محمود المحامى بصوت ينسجم والحالة المزاجية
للموجودين :واللـه أنتو منورين المكتب .
ــ منور بصحابه .ديباجة جاهزة رددتها بدرية التى الزالت تلملم دهشتها بينما ظل منصور واقفا وسط
دهشته ينقل نظراتة فوق الجالسين كأنه يراهم من أعلى .
ــ أقعد يامنصور .قالها محمود وقدم له سيجارة لحظة جلوسه .كان الصمت والقلق هو شعار البداية
قبل أن يبدأ محمود بأجراءات الجلسة :ماتأخذناش ياست بدرية أتأخرنا عليكى شوية فى موضوع
الشقة معلش الظروف جت كده وع العموم المعلمة فايزة جهزتلك خمسة وعشرين ألف جنيه زى كل
ساكن ماأخذ .هزت رأسها بحذر فتابع محمود :وبكره ان شاء اللـه تيجى هنا تنورينى تستلمى فلوسك
وتسلمينا العقد وربنا يوفق إن شاء اللـه .جاهدت فايزة قمع عصبيتها حين رمت بدرية بنظرة حادة :
أحنا مابناكلش حق حد ربنا يكفينا شر الحرام .داعبت الفرحة وجه منصور :اللـه يفتح عليكى ياما
طول عمرك تعرفى األصول .أتجهت اليه حين سمعته وكأنها أكتشفت فى وجوده أمرا غريبا :األستاذ
محمود يبقى المحامى بتاعى واللى بيخلصلى كل شغلى ،بسالمتك بقى جاى معاهم بصفة أيه .سؤالها
بدا كرصاصة أخترقت لسانه فتلعثم :بصفتى ..األستاذ محمود هو اللى طلب منى أجى معاهم .قالها
كمن يبعد عنه تهمة .رشقته نوسة بنظرة وهى تحدث نفسها :آه ياهجاص ! .
ــ مش وقته الكالم ده ياست فايزة أبنك راجل وعارف كويس هو بيعمل أيه ..خلينا دلوقتى فى المهم .
أتجه بعينيه لبدرية :خالص أتفقنا ياست بدرية ميعادنا حيبقى بكره زى دلوقتى .تململت فى جلستها
حين قفزت بنظرتها فى وجه منصور الذى أشار لها بهزة من رأسه .
ــ يبقى على بركة اللــه .ثم وضح بعض األمور المتعلقة بتسليم العقد وأقرار التنازل وصوال ألخالء
الشقة ثم تسليمها .
ربع ساعة متواصلة من وضع النقاط على الحروف ..بدا كآله ذكية تصيغ الكلمات بهدوء .
389
ــ ألف شكر وكترخيرك ياأستاذ محمود .جملة عاطفية رددتها بدرية وقوفا بعدما ألقت:السالم عليكو.
فتحت بعدها نوسة الباب تتبعها أمها ثم منصور فى أخر الطابور قبل أن تستوقفه فايزة:أستنى عايزاك .
تجمد فى مكانه للحظات ثم أستدار إليها ببطء ..ينتظر محاكمة ! .
ــ أنت ماشى خالص عملت اللى عليك ياأبو الرجالة ..أقعد هنا قدامى .تحرك مجبرا وهو الزال يتعقب
بعينيه نوسة التى وقفت خارج الغرفة ترمقه فأشار اليها بعينيه أشارة تعنى الرحيل .أصطحبت أمها
وتركته يواجه مصيره بمفرده ..توجهت آلبنها بعدما راقبت خروجهن من المكتب :مبسوط كده
يامنصور .أرتخت عضالت وجهه :ماهو أنتى قلتى ياما أحنا مابناكلش حق حد .بأبتسامة مائلة :
ماشى ياأبن بطنى .ظل الصمت مقيما بينهم للحظات قبل أن يكسره صوت محمود الرتيب :أنا زعالن
منك يامنصور .
ــ ليه يامتر حصل منى إيه ؟ ناوله سيجارة ثم أشعل سيجارته ..سحب منها نفسا قصيرا وأطلقه
عريضا مع أنفراجة شفتيه بأبتسامة :شايفك كده بايع الليلة ومكبر دماغك من ناحية والدتك .
ــ سايبها لوحدها البتمد أيدك معاها فى شغل والواقف جنبها فى مصلحة والحتى بتسألها الدنيا ماشية
معاها أزاى وال أى حاجة خالص ..ينفع الكالم ده يامنصور ؟! .أنهى جملته مقطبا جبينه تاركا عالمات
الريبة تسرح فى مالمح منصور الذى تحسس ذقنه محاوال أيقاف دهشته :الكالم ده لى أنا يامتر ؟ .
ــ أيوه لك أنت .عبارة قاطعة كالسيف بترت بها فايزة أستغرابه .
ــ أزاى بس ياما وأنا كل يوم والتانى بأبوس أيدك عشان تشركينى معاكى وتدخلينى فى زوارقك .قالها
وكأنه يستغيث .
ــ ع العموم مش دى قضيتنا دلوقتى أنا عايزك من بكرة تبقى بنى أدم تانى وتبدأ صفحة جديدة مع أمك
فلوسها هى فلوسك واللى عندها بتاعك وأنت أولى من الغريب .أكملت الدهشة والذهول طريقهما فى
وجهه قبل أن تتضاعف مساحتهما لتشمل كل خالياه حين أنتقلت به فايزة من مرحلة النصائح الى
الدخول مباشرة فى صلب الموضوع :أنت تقعد مع المتر وتركز معاه عشان يفهمك الليلة ماشية أزاى
ويعرفك حتعمل أيه فى بيت أبن شكر .نقل نظراته هائما لوجه محمود المحامى الذى تسلمه كالمغشى
390
عليه :بعد الست بدرية ماتأخد حقها وتسلمنا العقد والمفتاح حنقعد أنا وأنت مع الحاج محمد المقاول
نتفق معاه على كل التفاصيل عشان يبدأ هدد ونشوف حسابه حيمشى أزاى وأى حاجة تقف معانا أدينا
مع بعض والمعلمة فايزة حتبقى فى ضهرك لغاية ماتقف على رجليك .مسح وجهه بكفيه حين تكاثرت
عليه عالمات األستفهام .الحظت أمه صدمته :مالك يامنصور مش أدها وال أيه ؟ .جاهد لحفظ ماتبقى
له من أعصاب :أدها ياما .أدلت برأسها لألرض حين داهمتها لحظة ضعف قبل أن تعثر على ديباجة
قديمة دائما ماتقال فى مثل تلك المواقف :يابنى أنا ماليش غيرك فى الدنيا وأملى أنك تبقى أحسن واحد
وأنا عارفة أنك جدع وأد المسئولية ومش حتخذلنى ومن ناحيتى الحأبقى خايفة وال قلقانة منك لما تحط
أيدك فى الشغل ..عارف ليه يامنصور؟ تابعها بعينيه ..فواصلت :عشان دى فلوسك وحاجتك أنت
ومافيش حد عاقل فى الدنيا بيضيع فلوسه والمستقبله ..أثبت لى أنك راجل يامنصور وآهى الفرصة
جتلك لغاية عندك أمسك فيها وأثبت للناس كلها أنك أدها وأدود ..خلى كرموز كلها تشاور عليك وتقول
ده أبن المعلمة فايزة بجد .لم يفكر بعدما تأكد من هوية المتحدث فتحامل على نفسه ليستوعب حقيقة
المشهد الملتبس الذى لم يخرج منه سوى بشعور دامغ بأن زمن األستبعاد قد ولى من غير رجعة ..
تفرس فى مالمحها :عندك حق ياما فى كل اللى قلتيه وعداكى العيب والليلة كلها دلوقتى بقت فى
حجرى واأليام بينى وبينك هى اللى حتثبتلك أنك خلفتى راجل .بدا متحمسا ..ضربت الفرحة باطنه
وظاهره قبل أن تهدأ نبرته مبديا ترددا :بس فى حاجة كده يعنى .تابعه محمود بعيون ضيقة :حاجة
أيه يامنصور .
ــ حكاية الهدد وبيت أبن شكر وشغل المقاوالت ..الحكاية دى جديدة على وما أضحكش عليك أنا مش
دايس فى الليلة دى .
ــ ومين فينا فاهم يامنصور ..واحدة واحدة وكلنا حنتعلم مع بعض .تدخلت فايزة حين أطمأنت لحديثه:
ماتقلقش يامنصور أمك وراك ومن بكرة أنت مسئول قدامى عن حساب التاكسى والنص نقل وأنا حأفهم
النونو وخضر أنهم يعدوا عليك النهاردة فى القهوة حاسبهم بقى بطريقتك وشوف الدنيا ماشية أزاى .
كلماتها نزلت على رأسه فأضاءت العالم فى عينيه وكأنه من شهود ليلة القدر .أقتربت بعينيها
تتفصحه :سوى أمورك معاهم زى ماأنت عايز .لم يسمح وعيه المدهوش بفهم ذلك التغير الحاد ..مد
نظره فى وجه محمود المبتسم محاوال اسكات أسئلة تأكل عقله ،لم يجد سوى نظرة طمأنينة أرسلها كى
تهدأه .بينما أقتحمته فايزة حين الحظت وجومه :فى أيه تانى يامنصور ؟! .
391
ــ مش مصدق كل اللى أتقال ده ياما ..أنتى لسه من كام يوم مبهدالنى ومفرجة الدنيا على وشايالنى
خالص من دماغك ..أيه اللى جد ماتفهمينى ؟ طرح سؤاله وشعورا قويا يتملكه بأن تلك العروض
وراءها شروطا تعجيزية ستفجرها فى وجهه بين لحظة وأخرى ..أنتظر منها توضيحا لم يحصل عليه ،
فتطوع محمود المحامى :الحكاية مش مستاهلة أسئلة وأستفسارات ..أم ومحتاجة أبنها يبقى جنبها
عايزاه يبقى راجل ويعتمد على نفسه عشان يقدر يريحها من تعب الشغل ووجع الدماغ ،وبصراحة أنا
شايف قدامى راجل جدع وملو هدومه وحيسد فى المسئولية والزم تفهم يامنصورأن الجدعنة مش كالم
والفشخرة بؤوالفرد عضالت الجدعنةالصح أزاى توسع الشغل وتكبره يعنى بدل البيت يبقى بيتين
والتاكسى والنص نقل والقهوة يبقوا أتنين وتالتة هى دى الشطارة وماتنساش أن تجارة أمك كبيرة فى
البيع والشرا ده غير شغل التقسيط اللى بيأكل الشهد ..أثبت وجودك يامنصور عشان تدخل على
التقيل .أنتفضت أبتساماته كثورة تحتاج وجهه :بكره حتشوفوا منصور حيعمل أيه .نظرة تفاؤل أبداها
محمود المحامى حين دار بكرسيه قبل أن يقف فى مكانه :يبقى على بركة اللـه .
ــ ربنا يصلح األحوال .قالتها فايزة ووقفت كما وقف منصور الذى مد يده مصافحا المحامى :أنا بكره
حأروح من النجمة عند بيت أبن شكر وحأقابل محمد المقاول وأفهم منه كل حاجة وبعدها حأتصل بيك
نشوف حنعمل أيه .
ــ ماشى كالمك .وضعت فايزة يدها على كتفه :تيجى توصلنى ياوله للبيت .
ــ طبعا ياما ومن هنا ورايح مش حأسيبك لوحدك .سبقهم محمود لباب المكتب مودعا بينما سحب
منصور أمه .هبطا الساللم ..أجتازا المدخل ثم ترجال سويا ألول مرة منذ خروجها من السجن .سار
بجانبها واألرض تتراقص تحت قدميه حتى رن موبايله ،فلمح رقم نوسة على شاشته فتباطأ فى مشيته
كى يتمكن من الرد :مش حأعرف أتكلم دلوقتى حأوصل أمى للبيت وحأبقى أتصل عليكى .قالها هامسا
ثم وسع خطوته ليلحق بأمه التى فشلت فى أقتناص أى كلمة .أقترب وصار يحاذيها فأتاح لعينيها
فرصة نظرة ركنية مصحوبة بجملة ماكرة :األمورة بتطمن عليك .
ــ وسليم بتاعك ده ماينفعش الكالم معاه غير بالوشوشة .لم يعقب مكتفيا بضحكة سمجة .فأردفت حين
أدلت رأسها لألرض :خلى بالك يامنصور أنا راهنت نفسى عليك .لم يستوعب الجملة :يعنى أيه ياما .
392
ــ يعنى فى حتة جوايا بتقولى أن أبنك حيبقى راجل ويرفع رأسك وحيكون سندك فى الدنيا .ثم سكتت
لتطلق تنهيدة .أستأنفت وهى تتابع الشارع :وفى حتة تانية بتقوللى منصور مش حيقدر قيمة اللى
عملتيه معاه وحيخذلك .
ــ واللـه ماتخافى ياما سيبى األيام تثبتلك وحتعرفى ساعتها أنك راهنتى على راجل .هزت رأسها
وأتخذا طريقهما بمحاذاة شارع الترام ومنه إلى شارع كرموز ثمإلى الداخل حيث سلسلة الحوارى
المتشابكة ..حاول منصور سحبها لحديث يتيح له فهم األسباب الحقيقية وراء " تسونامى " التغيير
الذى فرض عليه وجوما لم يفلح فى صرفه ..جمل عاطفية فضفاضة دخلت قاموس فايزة حديثا هو كل
ماتحصل عليه وهما يجتازا حارة بعد حارة اليقطع سيمفونية " الحنية " سوى تلويحها شماال ويمينا
ردا على تحية من صاحب محل أو من سيدة فى شرفة وكأنها فى جولة أنتخابية .عند رأس الحارة
تركها بصحبة كلمات أبن بار :ربنا مايحرمنى منك ياست الكل ويقدرنى أطول رقبتك وأشرفك فى
كرموز كلها .أبتسامة أخيرة ثم أوالها ظهره ..شعر الليلة بأنه حصل على أعتراف رسمى بوجوده
ككائن حى ،سار كطفل يهز جسده ينصت لفرحة تتقافز داخله تاركا ظله يزحف وراءه ..جاهد أن
يسابقه كأنما يتخلص من بقعة مظلمة تذكره بسنوات الضياع ولحظات القهر ..لم تسعفه خطوته الفرحة
أن يتخلص من خياله وكأنه رفيق " رذل " يتمدد ويقصر فارضا وجوده بأستماتة ..نسخة مزيفة
تالحق األصل بألحاح ،حركة بحركة ،خطوة بخطوة حتى تداخل بين قدميه ثم أنطلق من بينهما كمارد
مستعرضا طوله حتى تعادال فى الحجم بل زادت مساحته على األرض ..نظر منصور لظله كأنما يرى
شبحا ،بدا مواجها له أقرب منه مصاحبا ،تفحص وجهه المرسوم على األسفلت ،حدق فيه بأضطراب
حين ل مح شفتيه تتحركان تحسس لحمهما فوجدهما ثابتتين فأحكم أغالقهما بضغطة ..ثم وقف ولم
يتحرك ..أدلى رأسه لألرض حتى صارت تحت قدميه ..صوت هامس يتصاعد منها ألعلى حتى بلغ
أذنيه :شفت يامنصور أمك عملت معاك أيه ..ماهانش عليها تسيبك ضايع فى الدنيا مدت أيديها
ووقفت جنبك وأديتك فرصة عمرك عشان تبقى بنى أدم جديد .تضاعف الصوت حين بدل نبرته :
أخييه ..أنا وأنت بقى شكلنا وحش أوى .تمتم منصور بخوف حتى تشكلت كلمة " ليه " على لسانه .
ــ أنت نسيت لما مشينا سوا ورحنا لغاية بيت نعيم عشان تدبر ألمك مصيبة تخلصك منها ..فاكر
والنسيت ..ياه يامنصور شفت أنا وأنت كنا عايزين نعمل أيه فى أمنا وهيه كانت بتفكر لنا فى أيه ؟.
شعر بسخونة األسفلت تحت قدميه ..دعك عينيه كى يستعيد ثباته بعدما أطلق نفسا طويال كنس به هما
393
كان جاثما على صدره مرددا بأرتياح :الحمد للـه أنى ماكملتش فى السكة السودة دى اللى كنت ماشى
فيها ..اللـه يخربيت أمك ياسليم أنت ونعيم .قالها ودموعه تراوح مكانها فاسدل حفنيه فغادرتهما إلى
خديه فمسحها بطرف ابهامه حين أستعاد خطوة نشطة بأتجاه القهوة قبل أن يتفادى بركة مياه بوثبة ..
دار حول نفسه بنظراته ..أختفى ظله وظن بعدها أنه قد لقى مصرعه غرقا !!.
دخل منصور المقهى بصدر يمتلىء نشوة ..تضامنت مالمحه مع حالة معنوية مرتفعة ،يهز كتفيه
مختاال يحبس أبتسامة حين لمح أبوه الذى أزاح رأس" سعيد تشكك " التى تترنح داخل جلسة حوارية
ضمت الحاج " تاج " وعم " كامل " بدوا منصتين له بأستغراب شديد وهو يهتف فى أذانهم مستعينا
بكل األلهة التى تصلح للقسم بأن " مبارك " الذى يحاكم حاليا داخل قفص المحكمة هو " دوبلير " ..
نظر عبده فى وجه أبنه قبل أن ينفض رأسه من تشككات " تشكك " فأنسلت من الجلسة يلملم جلبابه
متجها ناحيته .قابله منصور بوقفة المكلل بالنصر مفسحا ساقيه واضعا يديه فى جيب بنطلونه
كأقطاعى فى زمن الملكية يعاين أطيانه .كانت دعوة صريحة لعبده أن يستقبله أستقباال حذرا وهو
يتفحص هيئته المتشنجة ..رمقه منصور بطرف عينه :فى أيه يابا بتبصلى كده ليه ؟! .
ــ أنت اللى فى أيه ياوله ؟ قالها منكمشا ..لم يتلق ردا بل سأله وهو يوزع نظراته على الموجودين :
الوله نونو وخضر ماظهروش ؟ سأل بأستعالء بينما الزال عبده منتظرا توضيحا حين طرح أستفسارا :
وبتسأل عنهم ليه ؟ .
ــ وأنت مالك ! .تخلص من القناع الخشبى الذى دخل به وألتفت ألبوه تتلبسه قوة خفية لم يعتادها
األخير :مالى أزاى يعنى ..هيه دى مش فلوسى وحاجتى .فور سماعه لتلك العبارة ،لم يكن أمامه
سوى أن يقرب عينيه فى عينى منصور :ورينى عينيك ياوله ؟!
ــ أنت فاكرنى مبلبع وال أيه ..عيب عليك يابا ..اللى قدامك ده واحد تانى خالص ،النهاردة التاريخ
حيتكتب من جديد الليلة حتشوف بعينيك النونو وخضر وهمه قاعدين قدام العبد للــه زى األرانب وأنا
بأحاسبهم بالمليم والسحتوت وحتبقى ليلة أبوهم سودة لو حسيت أن فى حد فيهم بيلعب بديله .تعلق
نظره بأبنه كمن يحاول قراءة طلسم :أنا مش فاهم حاجة .
394
ــ مش فزورة يعنى ده أنت أبو المفهومية يابا ..منصور دلوقتى زى ماتقول كده بقى معلم صغير أو
راجل أعمال فى أول الطريق ،شغل أمى أنا حأمسكه كله وحأبقى مسئول عنه وبكره من بدرى حأكون
مع الحاج محمد المقاول عند بيت أبن شكر عشان أباشر بنفسى الهدد لغاية مامحمود المحامى يجهز
ورق الترخيص من الحى .أخترقت الكلمات جسده كحقنة مخدر ..تيبست مالمحه وتهدل لحم وجهه
وسط لحظة غموض سلبته التركيز :أيه الجنان اللى بتقوله ده .
ــ ده مش جنان ده أتفاق تم بينى وبين أمى فى مكتب محمود المحامى ودى البداية وبعدها حأدخل
معاها فى شغل التجارة اللى على أصوله .ألقى كلماته كقنبلة شديدة األنفجار اصابت عبده بسكتة كالمية
وحدقتان تترنحان ..طال صمته بعدها حتى قطعه منصور :أنت مش مصدقنى وال أيه ؟ رج رأسه كأنما
يقلب ماسمعه :مش عارف .قالها كالمسطول .
ــ أل أعرف وكلها شوية وحتشوف بعينيك لما ييجى النونو وخضر .لم يجد عبده ريقا ليبتلعه فخرج منه
صوتا خشنا :واللى حصل ده سببه أيه ؟ .
ــ من غير سبب ربنا عايز كده .جملة ألقاها بوجه متفاءل بينما تطلع أبوه إليه متماشيا مع خدر
اللحظة :طب أنا فين من الليلة دى .قالها كمقامر اليصدق خسارته .
ــ ماأنت موجود آهوه فى القهوة وربنا يعينك بقى عشان أنا مش حأبقى فاضيلك .
ــ مش حتبقى فاضيلى ..طب تعالى نقعد وفهمنى كده براحة الدنيا ماشية أزاى .
ــ أسبقنى أنت حأعمل مكاملة ع السريع وآجى وراك .قلب منصور عينيه فى المكان والموجودين
كرجل مهم وهو يجرى أتصاال خاطفا بنوسة لم يستغرق سوى دقيقتين ،لم يتطرق للتفاصيل ..عناوين
مختصرة أفصح عنها بثقة متزايدة أصابت الحبيبة بثورة فرح قبل أن تحذره طيلة المكالمة :أوعى
تكون بتشتغلنى والبتهجص .كان حاسما حين شدد عليها بأنه فى الغد سيكون مقاتال على جبهة
" أبن شكر " .تخطت متشككة أخباره المفرحة وأستفسرت منه عن شكل الحياه المنتظرة بالنسبة لها
وألمها بعد تسليم الشقة .
ــ ماتقلقيش يابت الليلة حأعدى على حباجة السمسار حيشوفلكو شقة هنا نواحينا .
395
فى تلك اللحظة بلغ عبده ركنه فى انتظار أبنه لمعرفة الحيثيات التى أدت لتلك القرارات المفاجئة
وماسيترتب عليها من نتائج حتما ستطاله ،وان كان يشعر فى قرارة نفسه بأنه أصبح خارج حركة
التنقالت وباتت نهاية خدمته قرارا ينتظر توقيع فايزة .جلس مهموما تائها يبحث عن نهاية مقبولة
ألحداث بدت ملفقة .دعك جبينه بعنف كالذى ينتظر أن يخرج منه عفريتا تكون أمنيته الوحيدة بعد
سماعه مقدمة :شبيك لبيك عبدك بين أيديك " هى الولية فايزة بتفكر فى أيه بالظبط " .
كان يوما مشهودا أيضا يضاف إلى حصيلة األيام التى شهدت أحداثا صغيرة تتراكم حتى يصبح لها فعلها
المؤثر ..كان الوقت يقترب حثيثا من الحادية عشر ليال حين زحفت نورا ناحية مكتب زيزيت .دخلت
ولم يتبق لها سوى قدمين تحتاجان بشدة لمياه دافئة وملح وأنامل أحتقنت أطرافها بفعل مقص رافقها
طيلة تسع ساعات متواصلة .
ــ آه ..صيحة ألم صاحبتها حتى سقوطها متهالكة على كرسى أمام مكتب زيزيت التى أنهمكت فى
مراجعة ايصاالت تسليم موديالت الصيف وسط فوضى وزحمة غير مبررة على المكتب ..منفضة
متخمة بأعقاب السجاير يجاورها فنجان قهوة على حافته بصمات روج تعود لشفايف زيزيت وعلى
يسارها كومة فلوس هى حصيلة ماتم جمعه كبداية مبشرة لـ " سيزون " الصيف وأمامها كشف طويل
ممدد لطلبات ال تنتهى من محالت كبرى ستتم دراستها الحقا مع نورا لتبدأ فى تنفيذها حسب أولويات
الكمية .لم يكن من الصعب أدراك أن نورا أصبحت فى الفترة األخيرة مصدرا رئيسيا لنجاح األتيليه
خاصة فى العامين األخيرين ،بل أنها الشريان الرئيسى لتدفق األموال لجيب زيزيت وصار شعار األتيليه
بفضل موهبتها لزمة تصاحب أفتتاح أيا من فروع محالت المالبس الكبرى مدعومة بخفوت نجم
المستورد فى ظل حالة الركود القاسية ،فأصبحت نورا أسما له وزنه فى عالم الموضة باالسكندرية
بفضل تصميمات واقعية وتكلفة مناسبة قفزت بها الى صدارة المشهد .
رفعت زيزيت رأسها بتعب تعاين وجه نورا المتألم :أتقتلتى النهارده .دعكت ركبتها بعدما فردت
ساقيها :المهم أننا سلمنا كل الشغل ومافيش حاجة متأخرة بينما أرسلت زيزيت نظراتها الى خارج
المكتب حين سمعت صوت أقدام فضيلة التى مرت أمامهما بخطوات طافحة أستعدادا للرحيل قبل أن
تشير من الخارج :أنا مروحة يامدام ..طفيت األنوار جوه وشيلت فيش المكن ..عايزة منى حاجة .
396
ــ بالسالمة يافضيلة .قالتها وأنسحبت بعينيها لدفتر األيصاالت قبل أن يستوقفها منظر نورا حين لمحت
فى وجهها عالمات تتجاوز األرهاق ،لمست فى مالمحها جمودا وخطوط مقتضبة بين الحاجبين .مدت
رأسها :مالك يانورا فى إيه ؟ .برأس متصلبة وعيون متحجرة ونظرات ثابتة لألمام دون ألتفات لمصدر
الصوت :ماما !! .
ــ كفاية عليها شغل لحدكده فى األتيليه .كلمات كاللكمات نالت من أتزانها :ليه ؟ .
عالمة التعجب التى رسمتها على وجهها كانت كافية لتخفف نورا من نبرتها :الظروف بتحكم يامدام
وأنا وأخواتى قعدنا مع بعض وأتناقشنا كتير لغاية ما أتفقنا على القرار ده .أنشغلت فى قراءة مالمحها
التى تحفظها عنها حين تتشدد فى موقف :والقرار ده سببه أيه ؟ .تجاهلت نورا صدمتها المطبوعة
على وجهها وواصلت بنبرة واثقة :شايفين أن ده حيبقى فى مصلحتنا وأحنا أدرى بظروفنا .قالتها
بضيق .بينما زيزيت قد تعودت على مزاجها الحاد فى الفترة األخيرة وحساسيتها المفرطة تجاه وجود
أمها فى األتيليه .
ــ مافيش غلطة أكبر من الحكم على أنسانة بأنها تكمل حياتها زى لوح الخشب من غير روح وال حركة
وتفضل ليل ونهار محبوسة فى مكانها وكأنها لسه ماخرجتش من السجن .
ــ فيه حاجات تانية أهم ألف مرة من الشغل وأنا ماقلتش تتحبس بالعكس هيه حرة تعيش حياتها زى
ماهى عايزة و بالطريقة اللى تحبها وال هوه يعنى الزم شغل األتيليه بالذات .أنهت جملتها وهى الزالت
على وضعيتها تنظر أمامها وكأنها تتحاشى المواجهة :وماله شغل األتيليه يانورا .
ــ مالهوش ..بس بقى بيشغلها زيادة عن اللزوم وواخد كل وقتها لدرجة أنها بقت مش شايفة
حاجة غيره وبصراحة كده الوضع ده بقى مش فى مصلحتنا والمصلحتها .ظلت واجمة للحظات تتعقب
كلماتها ،أنسحبت للوراء تبحث عن فهم قبل أن تدخل إلى نفق طويل من األسباب الحقيقية المحتملة .
397
ــ مع أنى مش فهماكى لحددلوقتى تقصدى أيه من ورا كالمك ده ،لكن ..سكتت لتستعيد من ذاكرتها
مواقف قديمة كانت كافية لجعل هدى حاضرة بقوة حين أعلنت موقفها :أرجوكى يانورا ماتطلبيش منى
المستحيل بالبساطة دى ،الزم تفهمى كويس أن أمك هيه الوحيدة اللى وقفت معايا وساعدتنى لما الدنيا
كلها اتخلت عنى ورمتنى ..أزاى بس عايزانى أقولها شكرا أنا مش محتاجاكى فى األتيليه .ألتفتت إليها
ألول مرة منذ بداية الحديث :أنا ماطلبتش منك تبلغيها بأى حاجة كل اللى أنا عايزاه أنك تكونى على
الحياد وسيبينى أنا أتصرف بطريقتى .قطبت جبينها حين سمعت عبارتها :ياه ..أتغيرتى يانورا بقيتى
أسية أوى .
ــ لما تطلبى منى أبقى على الحياد وأقف أتفرج على صاحبتى وصاحبة الفضل على يبقى ده أسمه أيه ،
عايزة تحكمى عليها بالسجن من تانى ومش عايزانى أتدخل وال أقف جنبها ..ليه عايزة تحرميها من
أنها تعيش حياتها بالطريقة اللى هيه شايفاها ..واللـه حرام يانورا وكمان مطلوب منى أعمل نفسى
مش واخدة بالى وأبقى على الحياد ..عرفتى أنك أتغيرتى وبقيتى واحدة تانية خالص .أنهت عبارتها
وهى تحمل مرارة كست مالمحها .
ــ يا مدام اللى أ يده فى الميه مش زى اللى ايده فى النار ومن االخر كده ماما خالص مش هتنفع تكمل
فى االتيليه ..حد فينا الزم يفضل يا أنا يا هيه ؟! وقعت الجملة داخل زيزيت موقع الرعب ،أصابها
بهلع عندما أنتبهت إلى خطورة األحتمال وجديته ..لم تتخيل ذلك فكادت تنفجر فى وجهها بغضب
مجنون يقود إلى تعقيد الوضع أكثر مما يسهم فى حله ،لذا سارعت إلى تطويق ثورة غضب ربما تنفلت
منها إنفجارات يصعب حصر خسائرها .سيطرت على لسانها ونطقت بهدوء :ياريت يا نورا تقومى
تروحى دلوقتى وخدى حمام دافى ولما تهدى نبقى نكمل كالمنا بكره .قاطعتها وهى التزال على
حدتها :الموضوع مش محتاج كالم تانى ..أنا أسفه يامدام اللى قلته هو الحل الوحيد .
ــ ليه يانورا بتحاولى تحرجينى مع مامتك وتطلعينى قدامها ماعنديش أصل وناكرة للجميل .كان
صوتها المتقطع دليال واضحا على وجود صراع نشب فجأة داخلها أربك كل حساباتها وهى تحاول
البحث عن معادلة توازن بين عاطفة مستقرة فى قلبها تجاه صديقة عمرها وبين باقة من المخاوف
المشروعة وكلها تدور حول خسارتها لنورا .
398
-الحسبة مش كده يامدام انا ال عايزة أحرجك وال أحرج نفسى الظروف هى اللى بتتحكم فينا ومتهيألى
أن ماما مش بتخبى عنك حاجة وأكيد قالتلك على اللى حصل ليوسف وبسمه فى حياتهم ..أنا مش
هقدر أستنى أكترمن كده لغاية ما كلنا نضيع بسببها مش ممكن هأسكت يا مدام وأنا شايفة أخواتى اللى
أنا تعبت وشقيت عشانهم بقوا ملطشة ومعايرة من اللى يسوى واللى مايسواش ..أسفه يا مدام مش
هسمح بالكالم ده تانى .سحبت زيزيت سيجارة وأشعلتها ونظرت لها نظرة طويلة من خالل دخانها
المتصاعد وكانها تختبىء وراءه ..شعرت بعار لحق بها حين صمتت..أفصحت عن كلمات نحيلة بالكاد
تكفى موقفا ضبابيا :أنا مش عارفة أقولك أيه وال اتصرف أزاى ؟! لم تكن زيزيت على وعى بطبيعه
هذا الصراع الذى تديره نورا برغم ذكائها وقربها الشديد منها .قامت نورا وهى أكثر صرامة :أنا
هأتصرف مع ماما .أشارت بكلماتها قبل ان تلمح فى وجه زيزيت ضعفا وأرتباكا أستوجب منها
توضيحا :ع العموم انا حاسة بيكى ومقدرة الوضع اللى أنتى فيه ..بس مش بأيدى ..تصبحى على خير
خرجت من المكتب تدهس األرض بقدميها بأتجاه الباب الذى وصل صوت أرتطامه ألذنى زيزيت التى
غاصت فى لحظه سكون قاتلة وسط ظالم يحاصرها من كل جانب ال يضيئه سوى بقعة الضوء المنبعثة
من كشاف "نيون" فى سقف مكتبها ..أرخت رأسها للوراء تسندها على حافة مقعدها الجلدى تمشى
بنظراتها صعودا وكأنها تنتظر حال قد ينزل عليها من اعلى بعدما فرضت عليها نورا واقعا جديدا
وتركتها وجها لوجه أمام أختيار وحيد وصعب ،فى كل األحوال سيكون جريمة كاملةاألركان أما فى
حقها أوفى حق صديقة عمرها ! ..ظلت لدقائق شاخصة للسقف الذى هيأ لها بلمعانه فرصة األسترجاع
حين سحبت من ذاكرتها مشهد اول يوم لنورا فى األتيليه حين كان االلتزام والطاعة هما الشعار الرسمى
لشخصيتها ..تنهيدة طويلة بمالمح ساخرة حين عقدت مقارنة بين نورا اليوم و نورا األمس ..مطت
شفتيها بهمهمة بعدما أيقنت أنها فى زمن تتبدل فيه أوراق اللعبة ..وأن للقدر عالمه الخاص . !..
فتحت نورا باب الشقة والزالت تحمل عنادا على مواصلة ما بدأته كما خططت .أتخذت طريقها من
الصاله حتى باب غرفة أمها ..دفعت الباب وهى متيقنة أنها ستجد أمها كامنة فى ظلمة غرفتها ،
واجهتها أول ما خطت الى الداخل وشبح األم فى المواجهة ..أضاءت النور فأستقبلتها وهى ممددة على
السرير بعينين ترمشان ومالمح ضعف أعتادت أن تواجه بها الحياة منذ خروجها من السجن .
خرجت منها فرحة :تعالى يا حبيبتى..مش عوايدك يعنى تيجى من األتيليه وتدخلى تشوفينى .سارت
ناحية السرير بتمهل وهى تشبك اصابعها حول خصرها :عادى يعنى .زحزحت هدى جسدها حتى
399
لصقت ظهرها بظهرالسرير :تعالى أقعدى جنبى .أعلنت عن رغبتها التى حملتها معها إلى الغرفة:
عايزةأتكلم معاكى شويه يا ماما .قالت جملتها و أقتربت منها ببطء ورمقتها من أعالها ..خيريا نورا.
طالت نظرتها فى عيني أمها التى تأهبت لها وتقلص وجهها رهبه ..زيارة غريبة فى توقيت أغرب ،لم
تعتاد منها ذلك الفعل .صعدت نورا رغبتها حتى بدت على شفتيها :أنا أتفقت مع مدام زيزيت على ..
صمتت ..أرخت جفنيها ثم أستأنفت بوتيرةأسرع :من بكره مفيش شغل ليكى فى األتيليه .لفحت كلماتها
وجه هدى كريح عاتية كأنها صفعات متتاليةعلى خد كائن ميت ..مالت بجسدها لألمام كى تكون على
مسافه كافية منها كمحاولة ألبتالع جملتها التى اتحشرت فى حلقها ،حاولت لفظها كى يتزن ادائها :
ما فيش أتيليه ..يعنى ايه؟! .
ــ يعنى زى ما سمعتى يا ماما .قالتها ثم نظرت لها نظرة ترقب كأنها تستعد ألى رد فعل .أرتجفت
على شفتيها أبتسامة تائهة بزغت بعفوية :ليه يا نورا ؟! سألتها وهى تتحامل على نفسها حتى بلغت
طرف السرير :من غير ليه يا ماما .
-من أيه يانورا؟كادت أن تنفعل األخيرة حتى الحظت نظرة التوسل فى عينيها :بصراحة أحنا وضعنا
بقى صعب جدا وأنا ويوسف وبسمة مش عارفين نالحقها منين وال منين ..مافيش حاجة بتستخبى
ياماما وأنتى شوفتى بعينيكى اللى حصل ليوسف وأزاى مستقبله اللى كان رسمه ضاع منه حتى بسمة
هى كمان ماسلمتش من البتاع ده اللى أسمه أمجد واللى أصال مايساويش ربع جنيه سابها وخلع لما
عرف حكاية السجن ..تخيلى ..طبعا هى ماقالتلكيش على الحكاية دى عشان مش عايزه تزعلك وال
تحرجك .كلمات مباشرةألجمتها وسحبتها بقسوة لدائرة صمت رهيبة بينما لم تكتف نورا وظلت تالحقها
:األتيليه زباينه كتيرة ياماما زى ما أنتى عارفة وفيهم كتير من المنطقة هنا وعارفين القصة بتاعتك
كلها من طأطأ لسالموعليكو ولألسف مافيش حد بينسى واللى فيهم نسى لما بيشوفوكى بيفتكروا كل
حاجة ..أرجوكى كفاية لحد كده وماتضيعناش .
-أنا يانورا .قالتها وسقطت جالسة بينما أعتدلت فى وقفتها لترسم تعبيرا صارما على وجهها :أيوه
أنتى يا ماما ..ولو صحيح بتحبينا وخايفة علينا أسمعى الكالم وريحى نفسك وريحينا .
400
-يعنى كمان بتشككى فى خوفى عليكو..ده أنا اللى ..رفعت نورا يدها حتى ظللت بها وجه أمها التى
أنكمشت فى مكانها كالمحكوم عليه باألعدام بأشارة تعنى "كفى" مصحوبة بتحذيرقاسى :ال يا ماما مش
عايزة أسمع مرافعات وال حكايات قديمة أنا دلوقتى مش باناقشك فى اللى عملتيه أن كان صح
والغلط أنا كل اللى بأطلبه منك تنسى حكاية شغل األتيليه مادام حيجيب لنا مشاكل ووجع دماغ وآهو
موبايلك معاكى أبقى أتكلمى براحتك مع زيزيت وحكى معاها زى ماأنتى عايزة ولما تحبى تشوفيها أبقى
خليها تعدى عليكى هنا فى البيت فى أى وقت .
ــ يعنى أنتى شايفة أنى لما أتحبس هنا فى البيت بين أربع حيطان حيبقى ده حل كويس ويريحك .
ــ آه ..أمام أصرارها حاولت أن تفهم :وزيزيت رأيها كده زيك .
ــ مش مستنية رأيها أنا أدرى بمصلحتى ومصلحة أخواتى .شعرت هدى بنبرتها القاسية تفتت داخلها
أشياء متماسكة ..تسحبها الى منطقة خوف التملك لها وصفا ..خوف كثير يهوى داخلها ..أحساس
متنامى بالظلم وجبروت قوة قاهرة تدفعها الى تسليم ويأس .طفحت من عينيها مرارة أنسالت على
خديها وتهيأت على شفتيها :أنا نفسى أعرف اللى بتقوليه ده من قلبك فعال وال أنتى عايزة تفهمينى أنك
خايفة على أخواتك أكترمنى وال دى تمثيلية وراها حاجة تانية أنا مش فهماها وال يمكن تكونى
بتكرهينى ..قولى ماتخبيش .طرحت أستفسارها بعينين أتسعتا حيرة وقلق .
ــ مافيش حد فى الدنيا بيكره أمه .قالتها بمالمح التنسجم مع معنى الجملة :واللى بيحصل منك كل
يوم من ساعة ماطلعت من السجن ..تسميه أيه ؟! .ضيقت عينيها :وهو أيه اللى حصل منى ؟ .
ــ حاجات بسيطة أوى التذكر أقلها أنك مانعة الكالم معايا خالص وكأن فى تار بايت بينى وبينك ،لو
دخلت عليكى األوضه ولقيتك صاحية أول ماتشوفينى تبقى عايزة تنامى لو قربت منك وأنتى قاعدة وسط
أخواتك دقيقتين تالتة بالكتير وتقومى بأى حجة حتى فى األتيليه اللى بنقعد فيه مع بعض ساعات طويلة
مافيش كلمتين بتقوليهم معايا على بعض لغاية ماكل الموجودين معانا خدوا بالهم وبدأوا يسألونى فى
أيه بالظبط ولوال الحرج والكسوف كانوا سألونى هى دى بنتك وال أل ؟! .كانت توجه لها الكلمات وهى
تطوف حولها بينما تابعتها نورا صامتة ولم تعقب حتى بلغت هدى كرسى التسريحة الصغير .جلست
أمام المرآة تواجه أبنتها من خاللها :أيه اللى أنا عملته معاكى بتعاقبينى عليه ..أيه الغلطة الكبيرة اللى
أنا غلطها ومخلياكى تبعدى عنى ومش طايقانى ،حأفترض أنى أذنبت ..حأفترض أنى مليانة ذنوب
401
وخطايا ..مين فى الدنيا خالى من الذنوب ومين اللى المفروض يقف جنبى ويسامحنى ويغفرلى غير
بنتى الكبيرة اللى طول عمرى بأتعامل معاها على أنها صاحبتى وأختى وحبيبتى .رددت جملتها وهى
تنتفض وصوت أنفاسها تجاوز الحد الطبيعى للدخول والخروج حين أقتربت نورا منها بخطوات بطيئة
وهى تعاين وجهها قبل أن تنفض عنها لحظة أرتباك :أنتى اللى حساسة زيادة عن اللزوم ياماما ..
مافيش حاجة من كل اللى قلتيه ده أنا قصدتها ..شيلى األوهام دى من دماغك .الذت بالصمت تخفى
فيه ضعف ها ..سرحت للحظات بدت فيها مالمحها تكتسى بسواد أيامها .لم تعد اال ويد نورا تستقر فوق
كتفها :خالص ياماما أتفقنا .نظرة صامتة أو ربما يائسة من عينيها أو نطق كلمة واحدة التؤدىإال
لمعنى واحد يؤكد على أستسالمها ..بقيت مكانها تزن كلمات أبنتها لعلى قبولها ،يسهل لها الوالدة
الثانية ..التخلى عن الماضى ودخول المستقبل بهوية بيضاء .
ــ لو أنتى شايفة يانورا أن طلبك ده حيخلينا نرجع زى ماكنا ..أنا موافقة .وكأنها لم تسمع ماقالته :
يعنى أتفقنا ياماما .هزت راسها شاردة كأنها فى عالم أخر ..عالم متواصل من المفاجأت والالمعقول .
قامت بتعب تحت عينى أبنتها التى تحرسها فى لحظات سكوتها ..أيقنت هدى أن شمس الماضى أشد
فتكا بالنفس بأكثر مما توقعت ..هى تبزغ فجأة فتعرى الحقائق وتزيل عنها تلك الستائر الواهية .أسئلة
راحت تتمادى داخلها تتخللها مزاوجة بين الهدوء والهياج .سارت بأتجاه الباب ..بادرتها نورا :
رايحة فين ياماما ؟ .
ــ حاسة أنى مخنوقة ..حأقعد برة فى الصالة .لم تعقب وخرجتا سويا من الغرفة ..أتجهت هدى الى
الصالة المظلمة بينما أنحرفت نورا ناحية غرفتها ..وقفت تفتح الباب ،لينهال شريط من الضوء حادا
كالسيف يشرخ صدغها لنصفين حين ألتفتت ألمها :ماتزعليش منى ياماما ..مش بأيدى .دخلت بعدها
وأغلقت الباب خلفها تاركة أمها بنفسية سيئة بعدما كومت نفسها على مقعد الصالة ..مدت نظرها من
خالل الضوء الخافت المتسرب من تحت األبواب المغلقة الى مقاعد األنتريه التى بدت كشواهد القبور ..
المقارنة بين العزلة والسجن التفارق عقلها وكأنها تعيد أكتشاف وجودها من جديد .
داهمها أحساس غريب بأنها فى عالم تسقط فيه كل اللغات ،حين تسقط كل العالقات وتستحيل الرغبات
البشرية الى رغبة واحدة المثيل لشراستها ..رغبة فى البقاء ،وكأن الحياة تزداد جماال كلما أزدادت
بشاعة وقسوة .فى هذا العالم الذى وقفت هدى على حدوده طيلة تسع سنوات متفرجة ذاهلة مروعة ،
كان أهون عليها من لحظة شعرت فيها بأن كل شيىء يفقد معناه .
402
فى تلك اللحظة كانت الظلمة قد غمرت كل شيىء فى الغرفة حين جلست نورا قرفصاء فوق سريرها
بجوار أختها الممددة فى غيبوبة نوم ثقيل ،ركبتاها تالمسان صدرها ويداها معقودتان حول ساقيها
ورأسها يستند الى ظهر السرير البارد خلفها ..بدت فى غاية الدهشة من جلستها هذه ،فأنها لم تتمدد
فى فراشها لتنام كما تفعل كل ليلة أحست ساعتها بالكآبة وبأنها على وشك أن تبكى ..أحست شيئا ثقيال
يركب على صدرها ويكتم أنفاسها .فكرت طويال فيما فعلته ،هل هى رغبة جارفة تجاه وجود أمها التى
بدت أمامها ككائن غريب جاء يستعيد سطوة الماضى المتأكل على حياتهم القادمة .نظرية معقدة
تستفحل داخلها حين رأت فى رفضها لوجود األم بينهم رفض الحياة للموت والمستقبل للماضى واألحالم
لألوهام .
الزالت هدى واجمة فى الصالة ..تقلصت فى مكانها فصارت كنقطة المساحة لها .أستقبلت عينيها
اضاءة متقطعة مصدرها غرفة أيات التى خرجت مدهونة بالروب الزهرى وخرج خلفها متسلال صوت"
عبد الحليم " المسجون معها منذ ساعة يهتف بـ " رسالة تحت الماء " قبل أن تعتقله ثانية حين أغلقت
الباب خلفها وتوجهت تستطلع .توقفت للحظات أمام هدى تحدق فيها ،لم تفتح معها حديثا اال حين رأت
أمامها بؤسا وأحباطا يتكتالن أمام عينيها فبرزت عنها نظرة شفقة لمالمح هدى التى حاولت ضبط
انكسارها ..تفقدتها بقلق :مالك ياهدى .قالتها بهدوء ينسجم مع سكون الليل واألضاءة الخافتة.
ــ ماليش .كلمة متخمة بالمرارة .جلست أمامها حين لمحت سحابة من الدموع تغطى عينيها على
وشك الهطول ،فتطوعت على غير العادة بفضول طارىء :مالكيش أزاى وأنتى قاعدة لوحدك فى
الضلمة وعينيكى مليانة دموع .مسحت أنفها الذى أحتقن :نورا حكمت على أنى ماروحش األتيليه
تانى .
ــ أيه السبب .تنحنحت لتتخلص من حشرجة ألمت بها :هى بتقول أن ده حيبقى كويس وفى مصلحتنا
كلنا .قالتها وأعتدلت ثم أردفت :أنتى أيه رأيك ياأيات ؟ أرتبكت األخيرة ،أرادت أن تخرج نفسها من
حرج الفتوى :ماهو أنا مش عارفة أيه السبب الحقيقى اللى يخلى نورا تطلب منك تسيبى األتيليه .
ــ واللـه ما فى سبب مقنع قالته ولحد دلوقتى أنا مش فاهمة أيه الحكاية بالظبط .خشت أيات أن تبدى
رأيا أو مالحظة تسحبها الى تعاسة مضاعفة فأنحازت لردود عائمة :ع العموم ياهدى المكسب القريب
أحسن من الخسارة البعيدة .ألحت عليها األخيرة للتوضيح :يعنى أيه مش فاهمة .نقلت عينيها تتفحص
الليل الكئيب الخالى من نسمة أمل قبل أن تستقر على وجه هدى :أسمعينى كويس أنا مش حأتقل
403
عليكى وال حأقولك نصايح بس اللى حأقدر أقوله أنى سبقتك فى القعدة دى من سنين طويلة والكرسى
على كل يوم لما كانت دموعى مابتفارقش عينى والدنيا قدامى كانت
ّ اللى أنتى قاعدة عليه ده كان شاهد
أضيق من خرم األبرة ..عشان كده أنا عايزاكى تبصى حواليكى كويس .
ــ بصى على جدران البيت ده وعلى سقفه وأرضياته وببانه وشبابيكه أكيد حتحسى باللى أنا حاسه
بيه دلوقتى .أحتل الصمت كل خالياها حين بدأت كلمات أيات تتألق من خالل الليل ..دورت أسطوانة
البداية :البيت ده ياما جريت فيه ولعبت جواه لما كانت الضحكة مابتفارقش شفايفى لما أبويا وأمى
وأخويا كانوا حواليه ومدفيينى ..فرحتى بالدنيا وحالوتها كانت أد بحر أسكندرية كله وأنا لسه بنت
صغيرة طالعة والعيون كلها بتعاكسنى ،وقتها ياهدى كان الزمن غير الزمن والفرحة لها طعم ولون
الدنيا كانت رايقة وبتضحكلى وتزفنى كل يوم وأنا رايحة الكوتسرفتوار ..الشوارع أياميها كانت جميلة
وهادية ونضيفة أوى مغسولة بالميه والصابون والوشوش بتضحك وفيها تفاؤل ..أيام حلوة وطعمها
مسكر وبسذاجتى كنت فاكرة أن هو ده طعمها الحقيقى لغاية ماأمى ماتت وبعدها بابا وفجأة لقيت البيت
ده قدام عينى زى المدافن ريحة الموت والفراق مالية كل ركن فيه .سكتت بأبتسامة مترددة أتبعتها
بتعليق ساخر :وكأنها دورة وبتاخد وقتها ..ومن غير مقدمات أتغير لون البيت تانى فجأة من األسود
الحزاينى للوردى الفرايحى لما قابلت شاكر فى المعهد ساعتها حسيت أنى أتولدت من جديد حبيته
وحبيت نفسى وحبيت الدنيا كلها وأتجوزته بسرعة ووقفت جنبه وأعتبرته قضيتى وقررت أنى أكسبها
لغاية ماحط رجليه على أول السلم ونجح وأستنيت يشدنى معاه وياخدنى من أيدى لكن لألسف طلع
لوحده ورمانى وسابنى قدام حل واحد مافيش غيره ..أنى أنتقم منه فى نفسى وزى ماهو طلقنى
وطلعنى من دنيته أنا كمان طلقت الدنيا بالتالتة وأتجوزت الوحدة ورجعت للبيت ده تانى وللون األسود
الحزاينى تانى .قالت جملتها األخيرة بأستسالم ثم سكتت بعدها قبل أن تشرع فى نطق مأساة جديدة
تداولت خاللها مع هدى نظرة دامعة ..أردفت :الليل والوحدة والدموع بقوا همه عيلتى الجديدة عايشة
معاهم وعايشين معايا وفى نفس الوقت كانت فيه عين تانية بتشوف نفس البيت ده باللون الوردى
الفرايحى وبتعيش نفس األيام الجميلة اللى أنا عشتها فى البداية ..العين دى كانت أنتى ياهدى ،مش
حأنسى أبدا فرحتك والضحكتك فى أول يوم دخلتى فيه البيت ..فاكرة ياهدى .تراقبها األخيرة بعين
مفتوحة وهى تضغط على ذاكرتها لتواكب معها لحظة األسترجاع :فاكرة ياأيات .
404
ــ فاكرة جرأتك وثقتك بنفسك ..فاكرة نصايحك لى لما كنتى تدخلى على أوضتى وتالقى عينيه حمرا
ودموعى على خدى ..كنتى دايما تقوليلى خليكى قوية وشجاعة ولما الدنيا تبصلك وتبرقلك وتخوفك
ماتنزليش عينك وخليها هى اللى تكش منك وتنزل عينيها .أنهت عبارتها بأبتسامة ثم مالت برأسها
حتى أصبح وجه هدى يحتل نظرتها الطويلة حين تساءلت :تفتكرى ياهدى أياميها وأنتى فى عز فرحتك
كان ممكن ييجى فى بالك ولو للحظة واحدة أن حبيبك اللى أختارتيه وحلمتى معاه وأتجوزتيه حيموت
فى عز شبابه ويسيبك لوحدك مع تالت عيال ويسيب كل ثروته وراس ماله فى أيد شيخ منصر حرامى ،
مستحيل كان خيالك حيوصل بيكى للدرجة دى مستحيل كان حد يصدق أن هدى الرقيقة المسالمة اللى
كانت بتخاف من الضلمة لما النور يقطع تالقى نفسها فجأة بتفقد أعصابها وبتضرب وبتموت وكمان
تدخل السجن وتعيش تسع سنين من عمرها فى زنزانة .تتابعها هدى وكأنها تعيش لحظة فاصلة بين
الحياة والموت ..نظرات ضيقة بحجم عينان منكمشتان هى كل ماأرسلته الى وجه أيات التى أستقرت
على شفتيها أبتسامة بطيئة تتخللها حكمة توصلت اليها حديثا :هى دى الدنيا ياهدى ..تفتح دراعتها
فى اللحظة اللى هى عايزاها عشان تحضنك وتحسسك باألمان وأول ماتطمنى لها وتقربى منها تقفل
دراعت ها وتصدك وتخليكى تحضنى الهوا ..فركت كفيها بعدما أستندت بمرفقيها على ركبتيها وهى
الزالت على حكمتها :نصيحتى لكى ياهدى خلى عقلك كبير وأتحملى نورا ووافقى على طلبها وده مش
معناه ضعف منك بالعكس ده حيبقى عين العقل ومن مصلحتك يبقى قرارك بأيدك أحسن .
ــ أحسن مايبقى غصب عنك وأنتى أدرى الناس بنورا وعارفة أنها لما تحط حاجة فى دماغها يبقى
حتعملها ،خلى األمور تعدى وأحسبيها بالعقل وفكرى كمان فى صاحبتك زيزيت اللى وقفت جنبك كتير
وماتحاوليش تحرجيها أكتر من كده ألنها ببساطة مش حتقدر تخسر نورا .هزت رأسها بعد تنهيدة
طويلة :عندك حق .قالتها وضمت ساقيها ورفعتهما فوق الكرسى تحتويهما فى صدرها ،أصبحت
مطوية طيأ حين وضعت رأسها على ركبتيها وراحت تتأمل الليل وهى تطرف عينيها دون أن ترفع
رأسها ،تقلصت على نفسها كطفلة صغيرة تخاف أن تنال عليها الصفعات ..خوف عجيب ،خواطرها
التعيسة تشق لنفسها طريقا فى خالل الخوف .بينما أيات تستطيع فى تلك اللحظة أن تقرأ الخيبة فوق
مالمحها حين لمحت على خديها خيطين من الدموع أنساال بهدوء فى حماية الضوء الخافت .
405
ــ كفاية عليكى قعدة لوحدك ..قومى ياهدى أدخلى أوضتك وريحى جسمك وأنسى كل حاجة .قالت
جملتها بنبرة تعاطف وبأداء لم تختبره من قبل .نهضت هدى ببطء فى محاولة لتهدئة نفسها ،تماسكت
فى خطوتها مثل عود صبار يواجه الريح رغم الرعشة التى أحتاجتها حتى بلغت باب غرفتها ..تسمرت
أمامه للحظات وهى على وشك التسليم بأن للبداية والنهاية قانونها الذى اليخطىء .دخلت وأغلقت
الباب خلفها كأنما تغلق على روحها كل الشرور التى تعبث بها .
ظلت هدى طوال الليل حذرة التنام والتغفو والتغادرها يقظة مجنونة محمومة أستنزفت كل طاقتها وكامل
قواها .لم تفطن أن الحالة أسوأ ،وان شيئا أنكسر فال سبيل إلى ترميمه .لم تفلح الحياة الجديدة
واألمان الذى سلمت به كثيرا مدة سجنها ،بل أن حالتها راحت تتدهور شيئا فشيئا حين راح الشك
ينشب فيها مخالبه ..هل هى فى حلم التصدقه أم أنها تصحوللواقع الجديد من حلم طويل عاشت فيه
يالزمها سنوات السجن ..فشلت طوال الليل وحتى طلوع النهار فى البحث لنفسها عن مسمى أو
تصنيف داخل البيت قبل أن يصبح قرار حظر العمل ساريا والتى تهيأت معه ألستقبال أيام طويلة
متشابهة خالية من التفاصيل ..األنطواء واليأس ،اليغيبا عن مخيلتها .وقفت بجوار النافذة كالصنم
تتابع الشارع الذى لم يعد شارعا ..تتابعه دون تمييز وبال توقف كمن يبحث عن مخرج أو مأوى ..
شردت تخفى ذنوبا سددت فاتورتها بالكامل وذاكرة تصورت أنها طوحت بها فى زنزانتها قبل لحظة
األفراج " .كفاية لحد كده ياماما ..ماتضيعناش " جملة تحذيرية أطلقتها نورا باألمس فى وجهها ..
العبارة فى ذهنها لم تبرحها ،اليمكن أن تسقط فى بؤرة النسيان .
فتحت بسمة الباب لتجد أمها متخشبة أمام النافذة ..وقفت مكانها تتأملها قبل أن تقرر الدخول .أقتربت
من خلفها ثم همست :الجميل واقف بيعمل أيه فى الشباك .أضطربت وهى تلتفت أليها :أبدا بأتفرج
على الدنيا من فوق .تفحصت وجهها المتهالك بعدما تساوى نومها ويقظتها ..الفارق العينين
مفتوحتين فى الحالتين ! .بأبتسامة مصطنعة تخفى خلفها أنزعاجا :مافيش فرق كبير ياماما بين الدنيا
من فوق وال من تحت كله محصل بعضه .أنسحبت من النافذة تتبعها أبنتها :فيه فرق طبعا ،على
األقل من فوق بتشوفى كل التفاصيل وبتعرفى أنتى واقفة فين بالظبط .أبتسمت بعينيها :ده أنا فى أملة
بقى ومش واخدة بالى ..أمى فيلسوفة .حاولت أن تنتزع منها أبتسامة لكنها لم تجد وجه يصلح لهذا
406
الفعل .أعطتها هدى ظهرها ومشت حتى وسط الغرفة قبل أن تستدير لها وتواجهها بعيون غائرة
متربصة :أمك مش فيلسوفة وبس دى كمان ظالمة ومظلومة وقوية وضعيفة ..وكمان ربة سجون
ومجرمة .أربكتها التعريفات المتناقضة ،شعرت بنفسها تحت طائلة األتهام .فتلعثمت :أيه اللى
بتقوليه ده ياماما .
ــ مش هى دى الحقيقة والحنضحك على بعض .تراجعت بسمة للوراء حتى جلست على حافة السرير
تتابع أمها التى أنكمشت داخل كرسى التسريحة وقد أرخت كفيها فى حجرها تحاول األحتفاظ بما تبقى
لها من دمع تحسبا أليام صعبة قادمة ..دقيقة أو دقيقتين أصبح خاللها الصمت رفيق ثالث قبل أن
تقطعه بسمة :عارفة أنك زعالنة من نورا ويمكن كمان منى أنا ويوسف .لم تمهلها األستطراد :أنا
مش زعالنة من حد ..أنا أرفانة من نفسى ومن حياتى ومن كل حاجة .قالتها دون أن تنظر اليها بينما
وضعت بسمة يديها على ركبتيها وأدلت بينهما رأسها لتخفى تأثرا ..غريب أمرها ،أستقبلت حالة أمها
بكمية ال بأس بها من التأثر وكأن القرار قد صدر فى غيبتها .رفعت رأسها ببطء قبل أن تتسلل عيناها
إلى الجسد المنهك :مش يمكن قعدتك معانا فى البيت تبقى فيها مصلحة ليكى ولينا وأنتى مش واخدة
بالك .عقدت يديها وزفرت ولم تعقب .فتابعت بسمة وهى أكثر ثقة بعدما قامت وأتجهت ناحيتها
بتمهل :مش يمكن ياماما شغلك فى األتيليه كان واخدك مننا ومخليكى مش واخدة بالك من حاجات
أهم .قالتها ودارت حولها قبل أن تقف خلفها تتحسس كتفيها فى حين بادرتها هدى بسؤال دون أن
تلتفت إليها :ده على أساس أنى مقصرة معاكم واألتيليه واخد كل وقتى وأنتو ياعينى محرومين منى
ومش بتشوفونى غير أخر الليل ع النوم .سكتت للحظات قبل أن تطلق مرارتها .أردفت :أنا من ساعة
ماجيت البيت ومش القيه حد أكلمه وال حد أقعد معاه والحد بيسمعنى وال بأسمع لحد .تساءلت
بأشمئزاز وهى تلتفت إليها :تقدرى تقوليلى كام مرة أتغدينا وال أتعشينا كلنا مع بعض ..كام مرة
خرجنا سوا وال حتى قعدنا وأتكلمنا ..كل حاجة بعملها لوحدى بأكل لوحدى وأشرب لوحدى وأتكلم مع
نفسى مالقيتش حد فيكو بيسمعنى واليسألنى ولو مرة واحدة مالك عاملة أيه فرحانة والزعالنة عايشة
والميتة .رمقتها بسمة بفزع وهى تتابع ثورتها التى أزدادت حدة :هو ده حالى يوماتى ودى عيشتى
ومافتحتش بؤى وال أشتكيت ..مافيش غير كلمتين همه بس اللى على لسانى ..حاضر ونعم .تابعت
وهى تنهج :أخوكى يكدب على هدير خمس سنين ويحملنى أنا المسئولية ماأعترضتش والنطقت
وشيلت جوايه وسكت وقلت معلش فى األول واألخر أنا المذنبة .وقفت مكانها متحفزة حين قربت
عيناها من وجه أبنتها الذى تقلص وتراجع وكأنها تصد هجوما :زميلك اللى أسمه أمجد واللى سيادتك
407
مابطلتيش كالم عنه وعن حبه ليكى حتى ده كمان سابك وبعد عنك وبرضه شيلتونى أنا المسئولية
وسكت وقلت مافيش مشكلة ومادافعتش عن نفسى والقلتلكم أن أختياراتكم أصال من البداية غلط ..
لبسك كده ماينفعش والزم تتحجبى قلت حاضر حتى األتيليه الحاجة الوحيدة اللى كان بيحسسنى أنى
عايشة زى البنى أدمين بأشتغل وأتكلم وأتحرك بدل ماأنا مدفونة هنا بالحيا حتى ده أستكترتوه على
وقررتم بكل أسوة أنى أترزع هنا فى البيت وأتحبس بين أربع حيطان .هدأت لتلتقط أنفاسها قبل أن
تنفرج مالمحها وتميل شفتيها بزاوية مائلة عندما أستأنفت ساخرة :وأيه المشكلة يعنى لما أتحبس فى
البيت مش حتفرق ما أنا واخدة على السجن والحبسة ..عادى بالنسبة لى .كلمات بدت كدخان يتصاعد
من حرائق تشتعل فى صدرها حتى علت نبرتها بعصبية :أنا نفسى أعرف أنتو عايزين منى أيه
بالظبط ..عايزين تموتونى والطفشونى ..عادى يعنى ده من حقكم مادمت أنا سبب كل المصايب
والبالوى اللى بتنزل على دماغكو .أنهت كلماتها وراحت تتجول بنظراتها فى فراغ الغرفة تصاحبها
رعشة حتى سكنت فى مكانها ،تاركة بسمة تتخبطها مشاعر كألتى تنتاب مجرم لحظة مواجهته بأداة
الجريمة .خيم عليها صمت وهى تشعر بالذنب ،رمقتها بخجل ثم أغمضت عينيها للحظات بحثا عن
جملة تعزية تخفف بها وطأة المرارة المنبعثة من الوجه المتساقط لألرض ..فتحتهما قبل أن تتحسس
بيدها شعر أمها التى جلست على حافة السرير :أهدى ياماما شوية واللـه كل حاجة حتتحل وحتبقى
أحسن من األول .نظرت لها بنفور :أعملى معروف مش عايزة أسمع حاجة وسبينى لوحدى شوية .
أستعرضت سريعا مالمح أمها المنتفضة التى دفعتها للتخلى عن فكرة التهدئة فأثرت الرحيل بعدما
تأملتها بتعاطف :أنا حاسة بيكى ومش حأضايقك أكتر من كده حاسيبك تهدى شوية وبعد كده نكمل
كالمنا .أحتفظت هدى بثبات حدقتيها المركزتان لألرض حتى سمعت صوت الباب يوصد .
بقيت فى مكانها لدقائق تواجه صداعا يسرى فى رأسها بطيئا ..أستبعدت دمعتين توقفتا تحت جفنيها
قبل أن تتمدد شاخصة للسقف .حاولت أغماض عينيها التى أبت حين جذبها تفكيرها الى عبارة بزغت
فجأة على طرف لسانها :كده برضه يازيزيت من أمبارح لغاية دلوقتى ماتتصليش بيه والحتى تقوليلى
كلمة واحدة .ياخسارة يازمن .رددت عبارتها األخيرة بنفسية سيئة .
ربع ساعة مرت وهى ساكنة بال حراك أدركت فيها عمق مأساتها حتى طمأنها قرأن الجمعة الذى
أنقذهامن أفكارها البائسة وكأنه نداء أمل أتكأت عليه حتى قامت يسحبها ناحية النافذة لتقف مستسلمة ،
تزحف بعينيها خلف الصوت .كانت تلمح مئذنة مسجد القائد ابراهيم من خالل البيوت ..يتعالى فى
408
األفاق ويتردد الصوت الرخيم لقارىء القرأن قبل أن يختم تالوته ويتسلم منه آخر قيادة المنبر أللقاء
خطبة الجمعة ..أصغت هدى فى وقفتها الى الصوت البتار وهو يلقى فى الوجوه الحاضرة والغائبة
سؤاله الرهيب ..مامدى قربنا أو بعدنا عن جوهر الدين ،وهل نحن حقا بفطرة هذا الجوهر عاملون ..
لن نبرح هذا السؤال اليوم حتى نهتك ستره ،نعانق مرارته ! ..شرح وأستفاض بعيدا عن جوهر
السؤال وخرج من سؤاله لسؤاالت قادته ألجابات العالقة لها أصال بالدين الى أن يبح صوته ويتعب من
خطبة الرضى والسخط والفرح والحزن والتأييد والمعارضة قبل أن يهتف بدعائة األخير أن تهدأ البلد
التى ركبها عفريت الفوضى وأن يوفق اللـه والة أمورنا أو والة أمورهم !!.
أنتهت صاله الجمعه كما أنتهت صاله العصر والمغرب والعشاء وهى حبيسة غرفتها تراقب كعالم
كونيات عملية التسليم والتسلم بين أخر النهار وأول الليل .ساعات قضتها بين الجلوس والرقود حتى
تيبست عضالتها قبل ان تدخل عليها نورا مساءا تستطلع نتيجة فعلتها ،أدارت معها حديثا هادئا
اليخلومن تلميحات مبطنة بعد دهانها بكلمات تنادى بحريتها الشخصية وحقها الكامل فى تقرير مصيرها
كيفما تشاء مصحوبة مقدما بموافقة ضمنية منها ومن أخوتها تجاه أى رغبةأو أختيار عدا األقتراب أو
التفكير من موضوع األتيليه مرة أخرى ..تحذير رادع منعت به نورا خط الرجعةأو ما تبقى ألمها من
أ مل ،لتدرك بعدها هدى انها امام خيار وحيد ال يعادله خيار سوى ارجاع الزمن إلى عصر ما قبل
السجن .
انقضى اليوم األول قبل ان تستقر األمور داخل نفسية هدى التى تقبلت العزاء ليال على لسان خيرى من
خالل مكالمة مبكرة قبل موعدها األصلى بساعة ،لم تكن كلماته لتريحها فحسب أنما أستطاع أن يشرح
ويحلل الموقف كامال بعين مراقب وبشكل موضوعى ومباشر فكان بحق المالذ األخيرلها وقت الشدة
وساعة اليأس.
سكت خيرى سكتة طويلة حتى ظنت هدى أن "موبينيل " قطعت عنه الخدمة فجأة بعد ما حكت له عن
يومها العاصف الذى أنتهى بأحالتها للتقاعد على يد " نورا" ..كان سكوته شرودا أو تأمال قبل أن يعود
بغضبة مكتومة :مش حأعيدلك نفس الكالم تانى وال حأقولك أنك السبب فى كل اللى بيحصل كده ..
ضعفك وخوفك من بنتك واللى مش قادر أفهمه وال أستوعبه كانت نتيجته اللى أنتى فيه دلوقتى ،أديتيها
الفرصة أنها تتحكم فيكى وتفرض رأيها عليكى ورهنتى حياتك كلها على كلمة منها .أستقبلت حنقه
بنبرة منهكة :أعمل معروف أنا مش مستحملةأى كلمة وال مستنية نصايح أنا اللى فيى مكفينى .
409
ــ يعز على اللى أنتى فيه ده بس لألسف اللى بينك وبين بنتك ما أقدرش أتدخل فيه ..المشكلة وحلها
فى أيدك انتى لوحدك ..إال إذا سيادتك أتكرمتى ونورتيلى األشارة الخضرا وحتالقينى فى لحظه واقف
جنبك وأخلصك من كل اللى أنتى فيه ده .ضحكة متعبة على وشك األحتضار سبقت ردها :تانى ياخيرى
حتقولى نتجوز ..يعنى أنت مش شايف الظروف المكعبلة اللى أنا فيها دى .
ــ أوال أنتى مش فى ظروف مكعبلة والحاجة أنتى فى ظروف مفتعلة .
ــ مفتعلة ..يعنى أنا مثال بأدور على المشاكل وبأجيبها لغاية عندى .
ــ ماتضحكيش على نفسك أنتى عارفة أكتر منى أن والدك مش محتاجينك وحاسين أن وجودك معاهم
بقى عبء عليهم وعشان أكون صريح معاكى الحل الوحيد اللى قدامك ..تهيأت بعينيها التى تتأرجح
كبندول الساعة لسماع حله العبقرى الذى أقترحه بحماسة منقطعة النظير :أنسى اللى فات كله وأبداى
حياة جديدة النج مع البنى أدم اللى بيزن على دماغك ليالتى فى التليفون واللى بينك وبينه يادوب حيطه
واحدة وتكملى معاه بقية حياتك فى سالم من غير مشاكل وال وجع دماغ ومتهيألى أن ده حيبقى حل
مريح عشان تقدرى تعيشى حياتك بهدوء وده حل حيرضى كل األطراف وكمان والدك حيبقوا قدام
عينيكى وتقريبا حتبقى معاهم لحظة بلحظة مش حتتكلفى غير مشوار صغير مش حيزيد عن مترين من
باب شقتى لباب شقتكم .تخللت كلماته جسدها الذى صار كمبنى قائم على أرض اليملكها فأصبح هدفا
لكل مخالفة وكل أنتقاد بالرغم من أعتراف الجميع بأنه كيان موجود ! .
ــ ده مش حل ياخيرى ..ده أسمه هروب ومش من طبعى أهرب من مسئوليتى مهما كان التمن ،دول
والدى وأنا قاد رة أرجعهم لحضنى تانى ..أنا مش غبية وال عايشة فى البيت ده مش فاهمة أيه اللى
بيحصل حواليه .. ،فاهمة كويس أوى نورا عايزة أيه وليه مش قابلة وجودى وليه بتضايقنى
وبتحاصرنى ..كل ده أنا فهماه كويس ومتأكدة أن ربنا حيقف معايا وحيقدرنى أحل كل المشاكل دى .
كان يصله صوتها مثقال بالحسرة قبل أن يقاطعها مستغربا :لما أنتى فاهمة كل حاجة كده ومتأكدة أن
الحل فى أيدك تقدرى تفهمينى ليه حزينة كده ومقهورة ومستسلمة .
ــ أنا أنسانة وأم ياخيرى ولألسف مشكلتى مش مع حد غريب دول والدى .تلقت منه تنهيدة ونبرة
حائرة :واللـه دى حكاية معقدة ومشكلة غريبة .قالها وصمت .
ــ بنت كارهة وجود أمها وبتحرض أخواتها ضدها وياريت فى سبب واحد منطقى عشان نقدر نالقيلها
عذر ونقول فعال هى عندها حق ..ال أنتى ياهدى ست لكى تصرفات السمح اللـه وحشة بتسيىء لهم وال
أنتى بتعامليهم بشدة وأسوة وكنت ساعتها حأقول أن ده رد فعل طبيعى منهم وال حتى أنتى ست مريضة
القدر اللـه محتاجة رعاية وعايزة اللى يخدمك وهمه مش قادرين يتحملوكى وقرروا يخلصوا منك .كل
ده مش موجود أصال .أستعادت هدى حضورها على السماعة حين طرحت مالحظة :أنت نسيت أنى
كنت مسجونة ويمكن يكون هو ده السبب .
ــ قصدك يعنى بيستعروا منك ..الياهدى مش ده السبب الحقيقى ،أنتى عارفة طبعا عالقة شريف
بنورايعنى بالبلدى كده زيتنا فى دقيقنا ومش فارق معانا حكاية السجن دى أصال عشان أحنا فاهمين
أصل الحكاية يعنى السبب ده مايفرقش مع نورا أما يوسف وبسمة ومهما كان الضرر اللى حصلهم
بسببك مش كارثة كبيرة أوى زى ماأنتى متصورة همه من جواهم مقتنعين أن العيب فيهم همه وفى
أختياراتهم ..المشكلة كلها ياهدى مش فيهم المشكلة فى نورا اللى بتوظف كل مصيبة تحصلهم وتشيلك
أنتى المسئولية وتشحنهم ضدك وتقريبا هى نجحت فى تخويفهم منك وخلتهم قلقانين ومرعوبين على
مستقبلهم وحسستهم أن وجودك خطر على وجودهم ،بأختصار ياهدى الحرب اللى بنتك عمالها دى
كلها هدفها حاجة واحدة ..مين فيكو يلعب دور األم ! .
زارتها رعشة وكأنها الحقيقة القاتلة ..أصاب خيرى مكمن الداء .زحفت عصبية على شفتيها :أنا
أمهم ياخيرى ونورا أختهم وبس ودورها أنتهى أول ما خرجت من السجن ..همه مسئوليتى لوحدى
قدام ربنا وقدام الناس يعنى من حقى أخاف عليهم وأفرح لفرحهم وأشاركهم فى كل كبيرة وصغيرة ..
دول قدرى وحياتى وماليش حد غيرهم فى الدنيا والحكاية كلها شوية وقت ونورا حتفهم أنى أمها مش
ضرتها ! كادت أنفاسها تصم أذانه ..النت نبرته فى محاولة لتهدأتها :كالمك مظبوط و ع العموم أنا
جنبك بأى وضع أنتى عايزاه .
411
ــ كتر خيرك ياخيرى وأنا لى طلب عندك .
ــ ياريت تنصح شريف يقرب أكترمن نورا اليومين دول ويحاول يحتويها ويقلل الفجوة اللى بقت
بينهم ..أكيد ده حيساعدها ويساعدنى .
أنتهت المكالمة وأصرارها على أستعادة كيانها كان شديدا وكأنها ترفض التخلى عن زمن تمدد فى
داخلها .
فى صباح اليوم التالى تلقت النهار متسلال من فتحات الشيش ليرسم سطورا على أرضية الغرفة .دعكت
جفنيها بحثا عن رؤية أفضل مولية وجهها ناحية النافذة .لم يسعفها جسدها المنهك فى النهوض
السريع فقامت على مرحلتين بدأتها بالجلوس ألستعادة وعيها وهى تعبث بخصالت شعرها قبل أن
تغوص فيه بأناملها حتى جذوره تدلكه بعصبية وكأنه يعانى من حالة هياج حتى وقف على أطرافه ثائرا
فبدأ وجهها كأمرأة كهف فى العصر المطير .
ثم قامت تدهس خطوط النهار وهى التدرى لما قامت أصال ..أضاءت نجفة غرفتها وأتجهت للمرأة
بعينين ترمشان كخفاش اليرى فى الضوء .بينما الجو خارج غرفتها كان مختلفا بعدما أنهى يوسف
مراسم حالقة الذقن وأرتداء مالبسه بعد ساعة من التردد والحيرة أمام دوالبه كى ينتقى طقم مناسب ،
حتى أقتنع أخيرا ببنطلون كاكى وقميص أسود وشوز بيج فى محاولة منه ألظهار قدر من الوسامة نجح
فى أستعادة جزء كبير منها .شعر بطاقته تتجدد حين تداعت فى رأسه التصورات وهو يتهيأ للخروج
ليبدأ أول يوم عمل فى مكتب المهندس ناجى منذ خروجه األخير غاضبا ..رحل بخياله للحظات يتوقع أو
ربما يتمنى حصولها حين تراه هدير لحظة دخوله عليها المكتب فتنتفض فى مكانها واقفة تستقبله بوجه
تنوء مالمحه بالضعف متخلية عن ثباتها وكبريائها خافضة الرأس تكسوها الهزيمة واألستسالم قبل أن
تهرول نحوه وتنحنى أمامه تقر وتعترف بالخطأ الفادح من خالل موجة بكاء مصحوبة بكلمات أستجداء
للصفح والمغفرة وعفى اللـه عما سلف ..شعر بنشوة ازاء هذا التصور فسحب نفسا قاسيا مأل به
صدره قبل أن تستوقفه نورا وهو فى طريقه من الصالة إلى الباب ،كان عليه أن يستمع لبعض النصائح
قبل خروجه حين ألحت عليه أن يثبت ويتماسك ويغسل رأسه من قصة هدير وأن يتفرغ فقط ألثبات
وجوده فى المكتب كمهندس ناجح وليس كحبيب يستعيد عرشه .
412
أصطحبته حتى باب الشقة تودعه بجملة أخيرة تحذيرية :لما ترجع عايزة أسمع أنك بقيت راجل فى
شغلك وفى تصرفاتك والزم ت تحمل أى حاجة مهما كانت ..سامعنى يايوسف مهما كانت ..شغلك أوال
وأخيرا .
ــ حاضر يانورا ماتقلقيش أنا خالص أتعلمت الدرس .قالها وشعورا خفيا كان يراوده أن تلك
ا لمرة مختلفة عن سابقتها .أغلق باب الشقة وفى حوزته دعوة تلقاها من أخته :ربنا معاك ويوفقك
ياحبيبى .أتجهت بعدها نورا لغرفتها تستعد هى األخرى للخروج لتبدأ يوما جديدا فى األتيليه ،إال أنها
توقفت لثوان تنظر للباب الموصود التىتتحصن خلفه أمها فتحركت ناحيته ببطء وأمام الباب المسكوك
ترددت قبل أن تتقهقر للوراء متراجعة عن قرار الدخول تجنبا لمواجهة صباحية التحمد عقباها وسيكون
لها أثرا سيئا على بقية يومها .
نصف ساعة فى الطريق حتى وصل يوسف الى المكتب ،ليطالع وجه المهندسة " ايمان " الخمرى
الملفوف بحجاب مودرن يلف رأسها بثالث طبقات من ألوان مختلفة " بندانة " وتيشيرت رمادى حتى
الفخذين يستضيف تحته بنطلون أسود ضيق يستقر داخله جسد لم يستثمر جيدا !! سلطت عينيها بتركيز
على شاشة الكمبيوتر قبل أن تفارقها حين بادر يوسف :صباح الخير ياباشمهندسة
ــ صباح الخير يايوسف ..حمد اللـه على السالمة .قالتها ونظرت له بأبتسامة بعدما سحبت ملف على
يسارها ..مدته :خد الرسومات دى أتفرج عليها وخد فكرة عشان من بكره حتنزل الموقع مع زمايلك .
قلبه بين يديه ثم ألقى عليه نظرة سريعة :ده كومباوند .
ــ ماشى ياباشمهندسة .رسم أبتسامة مضطربة ثم أعطاها ظهره متجها للداخل .تسارع نبضه حين
سار فى الممر المؤدى لمكتبه ،لم يعد لديه أعصاب حين وقف أمام الباب ،أحتار فى أختيار شكل
التعبير الذى سيرسمه على وجهه لحظة دخوله على هدير ..دخل بعدما وقع أختياره على حاجب
مرفوع ونظرات حادة وشفتين مطبقتين فى حزم ..لحظات قليلة وفر عنه التعبير المرسوم فنزل حاجبه
وأنفرجت نظراته وفغرفاه حين صار وجهالوجه أمام مكتب هدير الخالى ..مشى بعينيه فى المكان الذى
بدا باردامهج ورا ..ظل على وقفته يتفحص كرسيها الفارغ ..لم يتخيل عدم وجودها .أستكان لصدمته
وأتجه لمكتبه .جلس واجما وعينيه معلقتان بمكتبها ..أجتهد بتفكيره للوصول إلى سبب منطقى لعدم
413
وجودها ،رجح أن تكون الزالت فى الطريق أو على أقصى تقدير أن يكون اليوم غيابا عارضا .فتح
الملف فى محاولة لشغل نفسه أنتظارا لحدث متوقع بين لحظة وأخرى ..بيد مهزوزة ونظرات غير
مستقرة تصفح أول ورقة فى " الكومباوند " بذهن مشوش وآذان تلتقط أى همسة فى الخارج .أنتصف
النهار وهو اليزال ممسكا بالملف ،لم تتغير نفسيته المحبطة كما لم تتغير الصفحة التى بين يديه .كان
طيفها حاضرا بقوة ،أستعاد كل الذكريات وتقمصت مالمحه كل المواقف التى جمعتهما سويا ،تارة
بمالمح منكسرة وقشعريرة تسرى فوق جلده حين تمر أمام عينيه لقطات الخصام ولحظة المواجهة
وساعة الفراق ،وتارة بعيون ضاحكة حين أستعادت ذاكرته مشهدا مسائيا عقب تناولهما
وجبة " كنتاكى " فى ماكدونالد بفرعه الكائن بطريق الكورنيش بعدها أستقال السيارة فى طريقهما
لمحطة الرمل كفعل يومى معتاد تؤديه هدير لتوصيله حتى باب البيت ،إال أنهما أتحشرا وسط موكب من
سيارات الميكروباص تؤدى واجبا فى زفة عروسين ،لم تنجح محاوالتها فى األفالت من الحصار
المضروب حولها فصارت جزءا أصيال من الزفة يومها داهمت يوسف نوبة ضحك شديدة دمعت لها
عينيه حين شاركت هدير بحماسة فى ثورة الضحك بعدما فقدت األمل فى النجاة من براثن الموكب
فأطلقت زغرودة ذواتى كتحية مجاملة للعروسين قبل أن يتم فك أسرهما أمام مدخل مسرح
" األنفوشى" .تسكع يوسف بنظراته فى المكان ينتابه الملل قبل أن يصل لمسامعه صوت أقدام حريمى
تنقر على أرضية الممر بكعب " 3سم " تقترب بألحاح من المكتب ،أرتبك وأحمر وجهه ودفع بعينيه
لداخل الملف متمليا فى صفحته المفتوحة من طلعة النهار ،تقمص دور مهندس بارع حين سمع
طرقتين رقيقتين على الباب الذى أنفتح على صوت المهندسة أيمان :أيه األخبار ياباشمهندس طمنى .
بصوت محبط ونظرة يا ئسة :تمام .أقتربت منه بحذر حتى أصبحت فى مواجهته اليفصلها عنه سوى
مكتبه :مش شايفة أنه تمام خالص .نظر لها بأبتسامة :ليه ياباشمهندسة ..بالعكس ده المهندس
ناجى مش سايب تفصيلة إال وموضحها .أستندت بكفيا على سطح المكتب وقربت رأسها حتى صار
وجهه فى مرمى عينيها :أنت متأكد يايوسف أنك شفت الرسومات وقريت التفاصيل .تأملها متخبطا
حين أستشعر أنه فى لحظة أختبار فتراجع عن جملته :شفت ورقتين بس .تقلصت مالمحها وهى
تلتفت ناحية كرسى يقع وحيدا فى الركن قبل أن تتجه إليه وتسحبه خلفها كالذبيحة ..جلست أمامه
فى الجهة المقابلة من مكتبه :أسمعنى يايوسف كويس .أستعد لها بخوف متوقعا نهاية درامية على
يديها .تابعت :لو أنت جديد هنا فى المكتب كنت حأقول أنك مش بتاع شغل وجاى تدلع لكن عشان أنا
متأكدة أنك أنت يوسف اللى أستلمته هنا بأيدى من تالت سنين وأتدرب قدام عينى وعرفته عن قرب
414
وشفت مجهوده وألتزامه كان حيبقى لى تصرف تانى ..عشان كده أسمحلى أتكلم معاك بصراحة ..أنت
لما جيت هنا مع هدير كنت جاى بتوصية من باباها وأنت فاهم طبعا نظام المجامالت ،لكن اللى أنت
ماتعرفهوش أنى أنا أول واحدة هنا زكيتك عن المهندس ناجى بعدما أختبرتك كذا مرة وده اللى خالنى
أراهن عليك وقلت بكل ثقة أنك حتبقى مهندس شاطر بس لو خدت فرصتك .طالع وجهها بنظرة
م هزومة بعدما شعر بأنه قد خذلها ،غير أنها فاجأته بأبتسامة رطبت من سخونة مخاوفه حين
صرحت :متهيألى أنت عارف أنى مطلقة .صدمه السؤال ثم هز رأسه باأليجاب .فتابعته :لكن طبعا
ماتعرفش التفاصيل .بنبرة خجولة :الحقيقة أل .بمالمح صارمة أفزعته :والمفروض ال أنت وال غيرك
يعرف ألنه ببساطة دى تفاصيل تخصنى أنا لوحدى وماتخصش أى حد تانى ،لكن ممكن فى ظروف
معينة وفى وقت مناسب بيبقى مسموح فيها بالتدخل فى تفاصيل حياتك وكمان تسمع أراء أيا كانت بقى
صح وال غلط مش مشكلة والكالم ده يايوسف مش بيحصل إال لما يكون اللى قدامك محطم ومش قادر
يتجاوز أزمته لوحده وبقى مضر لنفسه وللحواليه وهنا بس بيحصل التدخل وغالبا بتكون نتيجته خسارة
من كل النواحى وأصعبها أنك بتتعرى قدام الناس وبتكشف ضعفك وفشلك وخيبتك .سكتت وهى تتابع
عينيه العميقتين ،سحبت نفسا طويال وكأنها تبتلع ذكريات أليمة قبل أن تعود بجدية زادتها وقارا :
والحمد للـه يايوسف بأشكر ربنا أنى عديت من أزمتى من غير خسايروتقريبا ماحدش حس بضعفى
وصورتى ماأتهزتش وأخدت عهد على نفسى أنى الزم أنجح فى شغلى عشان أثبت وجودى وأعوض
فشلى .كأنما تنقب عن شيىء ما بعدما أستبدلت نبرتها وبدت أكثر أصرارا حين طرحت فكرة :أنت
كمان محتاج تقلدنى يايوسف وتبدأ من جديد ..وعشان كالمى يبقى له مصداقية عندك حأقولك حكايتى .
أوجزت له قصة زواجها وطالقها فى خمس دقائق ثم أستفاضت فى التوابع وكيفية عبورها ألزمتها
مرورا بمرحلة التأهيل وأستعادة الثقة حتى أصبحت رقم واحد فى مكتب المهندس ناجى ..أقتربت منه
حين أستند بكيعانه على المكتب مدققا فى وجهها الخمرى وهو بالنسبة له لون جديد لم يعتاده من قبل .
فبادرت حين لمحت فى عينيه استغرابا :طبعا أنت بتسأل نفسك أنا ليه حكيتلك عن أزمتى مع أنى لسة
قايلة مش الزم أى حد يعرف خصوصياتى .تحصلت منه على أبتسامة مندهشة دون أن ينطق ،
فأستمرت تنظر له ثم أفصحت :فيه فرق كبير أوى لما تحكى مأساتك بضعف عشان تكسب تعاطف وبين
أنك عايز توصل رسالة لشخص بعينه تقوله فيها أن أى مصيبة تتعرض لها ممكن تهزمها األرادة.
صوتها به رنة شجن تثير أحزانه ..فأتخذ قرارا مفاجئا أن يتعرى أمامها :مش حأخبى عليكى ..أنا
تعبان ومتلخبط ومش عارف أالقى نفسى .فاجأته حين كشفت له عن علمها بعالقته المنتهية بهدير .
415
أرتعدت مالمحه حين راودته شكوك قوية بأنها تعرف أكثر من الالزم ..هل أصبح سره متداوال بمكتب
المهندس ناجى .أختبر معلوماتها :يعنى أنتى عارفة السبب ؟! .
ــ الحكاية مش محتاجة نباهة ألن عمرها ماحتخرج عن بنت غنية بتحب شاب على أده ومن غير شرح
وال تطويل هيه وراها أهل ومش أى أهل ده الحاج أحمد الشهاوى بجاللة قدره وأكيد طبعا هو حاطط
مقاييس معينة وراسم صورة لعريس بنته الوحيدة وده حقه ومش عيب لكن العيب لما حضرتك تتوهم
وتصدق نفسك وتفتكر أن مادام هدير بتحبك تبقى الدنيا سهلة وبمبى وكل حاجة ممكنة وأنها تقدر بكل
بساطة تغير الواقع والمعادلة وخيال سيادتك الرومانسى صورلك بكل سذاجة أن هدير ممكن تقف قصاد
أهلها وتقولهم بعلو صوتها عايزة من ده ياحاموت نفسى .قالت عبارتها األخيرة بنبرة أستنكار ثم
أختلست من وجهه نظرة وهى تتابع :أسمحلى يعنى لو هو ده تفكيرك يبقى عبط منك .
ــ ليه .صرخة أنحبست فى حلقه فأستبدلها :هو فعال عبط منى .أرتاحت مالمحها ألعترافه .مالت
بذرعها ..مدت يدها وضمت الملف المفتوح ورفعته لعينيه :خده معاك البيت وشوف الرسومات على
مهلك ولو فى أى مالحظة أحب أسمعها منك بكره الصبح عشان رأيك يهمنى وأنا متأكدة أنك حتهتم بكل
التفاصيل خصوصا لما تعرف أن الرسومات دى كلها من تصميمى أنا ..عض شفته حين عبث الحرج
بمالمحه فأبتسمت بعدما أزاحت الكرسى وقامت من مكانها لتعلن :وع العموم من بكرة أنا حأبقى
مسئولة عنك ..معلش بقى أستحملنى واللى أكبرمنك بيوم .قام هو األخر يحمل ضحكة :الحكاية كلها
تالت أربع سنين ،ثم بادلها نظرة طويلة وحين أنتهى من قراءة وجهها أدرك بأن وجوده فى المكتب
سيكون تحت حمايتها ..أبتسامة هادئة لخصت بها موقفها قبل أن تتجه ناحية الباب ..فتعقبها بسؤال
سريع باغتها به :هو أنا حأروح الموقع الجديد لوحدى .سألها وهو ينظر لمكتب هدير .تراجعت
شفتيها وهى على عتبة الباب :هدير خالص مشت من المكتب يايوسف شركة أبوها أولى بيها .غامت
الدنيا من حوله ،مرت لحظات شعر فيها أن العالم ينسحب من أمامه ..تخلى عنه األتزان لثوان
فمال لألمام قليال محاوال أحتواء المفاجأة قبل أن تبادره وهى تمسك مقبض الباب :عايز تقول حاجة
يايوسف .قالت جملتها كالقاتل الذى يخفى بصماته بعد أداء مهمته .برأس مهتزوأعصاب منهارة وسط
فوضى تموج داخله :أل أبدا .بدا صوته ضعيفا كأنه أستسلم لنهايته فجأة .فتحت الباب وخرجت ،
جلس مرتطما على كرسيه ..داست بكلماتها على أخر أمل كان يتمسح به ..شعر بخدر فى قدميه ..
أهتز كل مافيه عدا عينيه المتحجرتان على مكتب الراحلة .
416
فى تلك ا ألثناء أستعدت أيات بصحبة الرفيقة نعمة لزيارة صباحية لغرفة هدى التى أنتفضت فى وقفتها
بجانب النافذة على أثر طرقتين مصدرها أصابع أيات التى دخلت عليها ملفوفة باليونيفورم المعتاد
" الروب الزهرى " ومن خلفها تتأرجح نعمة .
ــ صباح الخير عليكو .قالتها حين تركت الخدمة بجوار النافذة وكأنها مكلفة بحراستها .فتحت أيات
الحديث بسؤال لهدى حين دققت فى عينيها وهى فى طريقها ناحية كرسى قابع بجوار الدوالب :
مانمتيش كويس برضه .
ــ نمت الحمد للـه .بينما أستهلت نعمة كالمها بعدما تربعت على األرض :معلش أزمة وتعدى .بدت
هدى قليلة الكالم شاردة أغلب الوقت فى حين لم تكن أيات سوى قنبلة كالمية موقوتة أنفجرت فى
الغرفة بمجرد جلوسها مخلفة فى المكان حكايات وقصص ترويها بشغف اليتوقف ،مواضيع متفرقة
وغير منتظمة راعت فيها استدعاء القديم بنبرة " قول للزمان أرجع يازمان " حين أستدعت سجل
الذكريات من رأسها على أسطوانة قديمة قدم عمرها من أيام الجد ،وقت أن كان الباشا الكبير والذى
يشاع أنه كان مهيبا ،التزال تذكر رغم بعد السنين ومشقة التذكر ،مجالس األسرة حول " فتة " العيد
وضحيتها ،أو فى ليالى السمر حين كان العم الكبير يتصدر مائدة طويلة يجلس رجال األسرة حولها
بترتيب تنازلى حتى أصغرهم ،وكان أبن خالة لها من نفس سنها أو يزيد مقررا لها أن تكون من
نصيبه ،أال أنه فيما بعد أحب راقصة من طنطا وهرب معها الى لبنان منفيا بأمر علوى من قادة األسرة
بعيدا عن موطنه ويقال وقتها ان حبيبته أعلنت التوبة على يديه وفتحت ناديا للقمار فى بيروت !.
فى ذلك الزمان ..تجلس النسوة فى حضرة العمة الكبرى بغطاء رأسها التى أعتمرته بعد زيارة الحجاز
وهى كبرى بنات " السبروتى " الكبير ،وقد ورثت امامة نساء العائلة بعد أمها التى توفيت فجأة حين
كانت تدير جلسة ثرثرة حول مايدور خلف الجدران والسواتر فى زمن كانت تساق األنثى الى نصيبها ،
تقترن برجل تسمع عنه والتراه حتى يغلق عليها بابه وينفرد بها .ثم وثبت دون توقف الى فصل
الستينات وماأدراك ما الستينات ..أستدعاء الذكريات بالنسبة لها متعة لم تحاول يوما التبرأ منها ،
تغرق فى التفاصيل حتى يرضخ لها الزمن طائعا حاضرا أمام عينيها كأنها تراه يمر أمامها ،تعلو بأنفها
تتشمم :هوا الستينات ياهدى كان هوا له ريحة ..لما تقربى من البحر تشمى اليود الطازة وفى وسط
البلد كانت ريحة الفل والريحان طالعة من الجناين تهفهف لما كانت أسكندرية عروسة بجد ولو دخلتى
417
لجوه ناحية األحياء الشعبية فى القبارى والورديان وكوم الدكة تشمى ريحة األكل الجميلة اللى أنقرضت
دلوقتى الكشك والكمونية والفولية والبصارة ،حتى الشمس كانت فى الزمن ده غير شمس دلوقتى
البتحرق والبتلسع كانت بتدفى بس .أنهت حقبة الستينيات بقفزة الى الجديد مصحوبة بكلمات غضب
وسخط ،اليمنعها من التوقف سوى بعض المالحظات التى تبديها نعمة من حين ألخر لتصليح أسماء
بعض األشخاص أو الدخول فى جدل الينتهى حول التواريخ واألماكن بينما سلمت هدى أمرها الى اللـه
تتابعهما بمزاج شارد تستعيده كل دقيقتين على صوت أيات حين تختم تفصيلة فى ذكرى قديمة :أيام
جميلة ماتتعوضش .مصائب قوم عند قوم ..وجدت أيات وتابعتها ضالتهما فى هدى التى أبتلعت
وجودهما كالدواء المر وأصبح حصولها على الهدوء أمرا مستحيال فى ظل صخب كلمات التتوقف .
قاومت لساعة كاملة حتى غطى الصداع رأسها وفاض .لم يعد مكان أمن فى جسدها اال وضربه أعصار
القصص والذكريات .
رن جرس الباب .فأشارت أيات بأستغراب لنعمة :مين حيجيلنا الوقت ده ..قومى شوفى يانعمة .
قامت تحمل نفسها أو ماتبقى لها من حطام رجليها لتبدأ رحلة ثقيله بأتجاه الباب وهى تئن مع كل
خطوة :آه يانى ياما .لحظات ونهضت هدى ..سارت حتى عتبة الغرفة فى محاولة للتعرف على هوية
الفاعل لحظة فتح نعمة للباب .
ــ صباح الخير يانعمة .قالتها بحيوية كعادتها قبل أن تدلف للداخل ،بينما أخترق صوتها النشط المجال
الجوى للصالة متجها للعمق مقتحما كل خاليا هدى كجرعة منشطة .راقبتها أيات بأندهاش متأملة
الوجه الذى تورد فجأة وحالة التوتر التى أجتاحتها حين مسحت وجهها بكفيها لتنشيط دورة دموية
صارت بال عمل منذ يومين ،ضبطت جلبابها وحبست شعرها فى حزمة وتهيأت للخروج عندما تسرب
لها صوت زيزيت القادم من األنتريه :هدى نايمة وال صاحية ؟ أضاعت األخيرة على نعمة فرصة ذهبية
للرد والتطويل حين خرجت من غرفتها تحت رقابة أيات المندهشة ..تصنعت خطوة قوية حين ظهر لها
وجه زيزيت السابح فى كل األلوان :صاحية من بدرى ياحبيبتى .ثم أقتحمتها فى عناق حار مشحونا
بتوقعات متفاءلة ،فى حين أفرغت زيزيت شحنة عاطفية مؤثرة فى بداية الجلسة كمقدمة واجبة بدءا
من :واللـه األتيليه ضلمة من غيرك وحاسة أنى وحيدة وكأنى فيه حاجة رايحة منى .نهاية إلى :وأن
شاء اللـه ربنا يصلح األحوال .قالتها دون التطرق إلى كيفية أصالحها .أستغرق األمر منهما بضع
418
دقائق حتى انحسرت الكلمات العائمة قبل أن تختلس زيزيت نظرة من مالمح هدى :أنتى زعالنة منى.
ترددت فى األجابة :ليه بتقولى كده .
ــ أنا مش عبيطة عنك ياهدى ..شكلك باين .أدلت برأسها مكتفية بالصمت .فتابعت :أنتى عارفة
معزتك عندى ..أنتى أختى وصاحبتى وجمايلك على ماتتنسيش .سكتت ثم عاودت كالمها بحرج :
ونورا كمان لها مكان كبير فى قلبى دى مش مجرد واحدة شغالة معايا دى بنتى ..أنا عارفة أنها
ساعات كتير بتأفش وتركب دماغها بس ده مايمنعش أنها طيبة وبتحبك .نظرت لها وكأنها تستطلع
نواياها :دى بنتى يازيزيت وأنا فاهمها كويس .
ــ مش ده قصدى ياهدى أنا كل اللى عايزاه ماتبقاش فيه مشاكل بينك وبينها واألمور تمشى بينكو
بهدوء وتفاهم .صاغت كلماتها بعناية وحذر ،كأنها وسيط نزيه يتطهر من أية أنحيازات .
ــ أنا ماعملتش حاجة أصال يازيزيت وأنتى عارفة كده كويس ،مشكلة نورا كلها فى تفكيرها وأنا لغاية
دلوقتى مش فاهمة هى عايزة أيه بالظبط ؟! .تمردت على خوفها حين سجلت موقفا :مش يمكن عايزة
مصلحتك والتكون شايفة حاجة أنا وأنتى مش شايفنها .
ــ أى حاجة ياهدى ..ماتقعدوا مع بعض وأتناقشو وصفو سوء التفاهم ده وأنا عن نفسى ممكن أتدخل
بينكو وأقرب المسافات .لم يعجبها ذلك الطرح :نتناقش فى أيه ونحل أيه وأنا شايفة أن مافيش مشكلة
أصال .
ــ فى مشكلة ياهدى .رددتها بمالمح متخبطة بينما أستشعرت األخيرة أشارات غامضة ورسائل ملغزة
حين لخصت لها زيزيت أحداث األمس ومادار بينها وبين نورا من حوارات فى شكل جمل ملغمة تضع
عالمات استفهام أقرب منها للرد :بنتك شايفة أنك مش الزم تشغلى بالك بحكاية األتيليه وال بمشاكل
البيت ..هيه بتقول أن همه بقالهم سنين بيعتمدوا على نفسهم ومش محتاجين حد ينظم لهم حياتهم .
ختمت جمل تها بعبارة :ده طبعا من وجهة نظرها .قالتها وكأنها تتبرأ من المعنى .بينما غرقت هدى فى
ذهولها حين تراجع لحم خديها عن أبتسامة ساخرة :والمطلوب منى أشغل بالى بأيه ،بالمكياج مثال
وال أروح أجرى فى نادى وال أعمل أيه بالظبط ؟ .
419
ــ أل طبعا ..فيه حاجات كتيرة تستاهل ،عيشى حياتك وأتمتعى بوقتك وعوضى السنين اللى فاتت وأنا
لو منك ماأضيعش فرصة خيرى من أيدى أبدا .تأملتها للحظات ثم عادت تتصنع حماسا :أتجوزيه
ياهدى وريحى نفسك من األرف اللى أنت فيه ده ،هو بيحبك وأنتى بتحبيه .
ــ بس أنا بحب والدى وبيتى أكتر ومش حأتنازل عنهم وحأفضل أمهم مهما حصل .كانت فى أشد
األحتياج لهذا الشعور كى تتخلص من ضعفها .تلعثمت زيزيت حين طرحت سؤالها وهى تشعر بأن
وضعها ملتبس يثير الجدل وتحيط به شكوك هدى :والعند ده حيوصلك لحد فين ياهدى ؟! .
ــ ده مش عند ..ده حقى ودى حياتى وأنا حرة فيها أختارها زى ماأنا عايزة بالطريقة اللى أنا شايفاها .
أعلنت موقفها بتشدد أصاب صديقتها بأرتباك ملحوظ رمشت له عيناها بفزع .بدا أن هدى التعرف
ماينتظرها ،ربما لم تكن قطعت من قبل المسافة التى تفصل بين الخضوع والتمرد .
ــ أنتى ليه عصبية كده ياهدى ،اللى يسمعك وأنتى بتتكلمى يفتكر أن فيه حد بيجبرك على حاجة غصب
عنك .
ــ ماحدش يقدر يغصبنى على حاجة أنا مش عايزاها .قالتها بنبرة قاتل الينوى التوبة .
خفضت زيزيت رأسها تعبث بأظافرها ،بدت قليلة الحيلة مغلوبة على أمرها :راجعى نفسك تانى
ياهدى .زحزحت األخيرة نفسها تتقدم بصدرها لألمام ثم مطت رقبتها مقتربة من الوجه المرتبك :هى
نورا قالتلك أيه بالظبط ؟ رفعت اليها عينيها دون أن ترفع رأسها :عن أيه ؟.
ــ عنى أنا .حدقت فيها للحظات بعدما قررت األعتراف :بنتك عارفة كل حاجة بينك وبين خيرى وهى
شايفة أن أنسب وضع لكى أنك تتجوزيه .لم يتبق اال الذهول فى وجهها بينما أستمرت زيزيت تفرغ
مالديها كى تخلص نفسها من ذنب يالحقها :وعشان أكون صريحة معاكى ياهدى هو ده رأيها وهى
مصرة عليه .أرتدت بظهرها للوراء تضغط أضراسها :ولو رفضت أيه اللى حيحصل .هزت رأسها
بالنفى :ماأعرفش .
ــ طب أنتى رأيك أيه ..موافقة على كالم نورا ده .شعرت بانها محشورة فى زاوية وكأنها كلما مددت
يدها لتتعلق بحبل ألتف حول رقبتها :بصراحة أنا مش عارفة أتصرف أزاى .قالتها باحساس متزايد
بالمرارة ،تلعن ضعف مقاومتها أمام ضغوط نورا ..تلعن كل الظروف التى جعلتها هى وصديقتها داخل
420
أزمة حلها خارج أرادتهما ..تعلمت زيزيت بالتجربة أن الشيىء ثابتا والقوى دائما يصنع المواقف كما
يراها .ثم قامت من مكانها ومساحات الخجل قد أتسعت فى وجهها ،فأرادت أن تخفى ضعف مواقفها
حين فتحت حقيبتها وأخرجت مبلغا ومدته لهدى :دول بقية مرتبك ياهدى .تأملت اليد الممدودة ثم
أغمضت عينيها تخفى نظرتها المصدومة خلف جفنيها :خليهم معاكى لما حأحتاجهم حأبقى أقولك .
سحبت يدها ولم تلح عليها ..وقفت صامتة حين أظهرت هدى وجوما واشاحت بوجهها ضيقا وكأنها
أشارة تعنى " أرحلى " أعربت بعدها زيزيت عن رغبتها فى أنهاء الزيارة :معلش ياهدى مش حأقدر
أقعد معاكى أكتر من كده عندى حاجات كتيرة متأخرة فى األتيليه .قالتها وسارعت اليها تعتصرها فى
صدرها ثم سارتا سويا حتى أنفصلتا عند باب الشقة بعد وداع قصير شمل كلمات متواضعة قبل أن
تصرح زيزيت وهى فى لحظة العناق األخير :أنا متفاءلة وان شاء اللـه كل حاجة حتعدى بس أنتى
أهدى كده وراجعى نفسك .أبتسامة متحفظة لم تفلح فى بسط أقتضابها .ثم رحلت بهدوء بعدما سلمت
الرسالة كما تسلمتها من نورا بعد أن قبلت مجبرة اداء دور " عبد المأمور " بعدما قرر المأمور
إال يبقى الوضع على ماهو عليه ..لم تدم وقفتها طويال عند باب الشقة ،فى طريقها من الصالة لغرفتها
سار معها سؤاال كبيرا يتقافز فوق رأسها :هى الناس ممكن تتغير بسهولة كده عند أول أمتحان ؟! .لم
يفارقها السؤال ،ظل يعلو ويعلو ،ويحفر فيها على طريقته ..األجابة عنه صعبة ،وربما مستحيلة .
قبل أن تصل حدود غرفتها برزت عنها أبتسامة أعتادت عليها منذ لحظة خروجها من السجن ،دائما
ماتبديها برفقة جملة تالزمها كتوأم ملتصق " ياخسارة يازمن " رددتها ودخلت لتجد أيات ونعمة كما
تركتهما .أنضمت اليهن لتلتئم جلسة النساء البائسات .
أستقر األمر نسبيا لمنصور بعد مرور عشرة أيام ،أظهر نجاحات متعددة بفضل توجيهات محمود
المحامى الذى أمده بالمعلومات والنصائح فأقتحم من خالله عالم أمه الخفى ،تعرف على خريطة
تجارتها وحجم التعامالت وعلى معظم التجار كما أطلع على كثير من األتفاقات .كان شغوفا ولحوحا
على فك كل الشفرات واألقتراب من كل الخطوط ،الحمراء والخضراء ،بداية من حسابها فى بنك مصر
والقيمة المادية أليصاالت األمانة المحررة لسكان كرموز والتى تقدر قيمتها بمئات األالف من
الجنيهات ،بخالف أرض"أبن شكر" نهاية بحسابات القهوة والتاكسى والنص نقل متقمصا فى تحركاته
شخصية "البسنس مان" كما خبرها على يد الفنان " نور الشريف " متأثرا بدوره فى فيلم
421
" زمن حاتم زهران " حركة دؤوبة بخطوة سريعة تستلزم لياقة عالية ضاعف من وتيرتها كلمات
موجزة يستخدمها رافعا شعار " المختصر المفيد " تحول جذرى رهيب ..سلوك متزن كرجل أربعينى
ينسجم مع مظهرا عمليا أختاره لنفسه ،قمصان ساده على بنطلونات " جبردين " أضفت عليه جدية
رجل أعمال مع بعض األكسسوارات لزوم الوجاهة كموبايل " جاالكسى " موديل السنة وسلسلة ذهبية
حبلها متين طوقت بها فايزة رقبته لتحفظه آية الكرسى المتدلية منها متعمدا فتح قميصه حتى قفصه
الصدرى .بدا مثار أهتمام معظم المراقبين والمتابعين من قاطنى حوارى كرموز ومرتادى المقاهى
وبعض المقربون ..الكل يتساءل ويأكله الفضول عن السبب الحقيقى خلف تلك الصحوة المثيرة للريبة ،
تطل من عيونهم أسئلة وتخمينات لم تفلح واحدة منها فى الوصول إلى السرالعظيم ،وإن كانت هناك
بعض األقاويل التى تنتشر بقوة فى حارتى " المنجى وأبن شكر " عن وجود شخصية مهمة ذات قدر
وتأثير على فايزة دفعتها لتغيير موقفها تجاه أبنها ،بينما فى نفس الوقت أفاد مصدر مطلع قريب الصلة
من " مديحة " بنت عم " كحالوى " المنجد وهى صديقة قديمة لفايزة ،أشارت لوجود صفقة تمت
سرا بين فايزة وأبنها شريطة أن يبتعد األخير عن نوسة بنت بدرية مقابل تمكينه من بعض
األعمال والصالحيات .أيام قليلة وهدأت ضجة األجتهادات وأغلق الملف برمته وتعامل الجميع معه
كوليا للعهد .
أدرك منصور بفطرته أهمية اللحظات ودقتها وإن مصيره يتوقف على أجتهاده ودعم أمه المتنامى التى
أعادت أكتشافه ،ليغادر بأصرار مرحلة التهميش وعصر الصعلكة ..أصبح األن صاحب قضية ..قضية
المستقبل والمصير .أحساس قوى وشعور عام ،بأنه على الطريق الصحيح ألستعادة ثروته التى كانت
لسبب أو ألخر قيد الحراسة أو التأميم .
ــ بقى شايف نفسه أوى وأخره كلمتين من طراطيف لسانه وعلى طول مستعجل ،شكله كده طلع ولد
أرارى وأبن سوق .كانت تلك واحدة من الجمل التى يتداولها همسا مساجين القهوة لحظة دخوله ،
أتجه إلى ركنه مباشرة بجانب النافذة مستدعيا جمعة بفنجان قهوة تزامنا مع نظرة خاطفة وأبتسامة
ضيقة توجه بهما ألبوه ترافقهما ديباجة رجل اليملك وقتا حين أقترب منه األخير :أزى األحوال يابا ..
الشغل تمام .قالها جالسا قبل أن يشرع فى اجراء بعض األتصاالت السريعة يتخللها تسجيل بعض
المالحظات السريعة فى " نوتة " صغيرة تالزمه كنبضه .اليقطع أنشغاله سوى صوت أبوه الذى فشل
422
فى أستيعاب اللحظة وتسارع األحداث وكأنما يتابع فيلما سينمائيا قصد مخرجه أن تكون المسافة بين
لحظة البداية والنهاية التتعدى دقائق ! .الزال عبده واقفا فوق رأسه يتابعه :اللى عطاك بالجزمة
يدينا ..طوى النوتة .ثم رفع له عينيه :معلش يابا شغل والزم أقفله .وضع عبده جثته على كرسى
أمامه والدهشة لم تفارقه :سبحان مغير األحوال ،يعنى أنت من عشر تيام بس كنت متلقح هنا قدامى
مافيش حد بيعبرك غير دبان القهوة ودلوقتى بالصال ع النبى مش مالحق ،ناس داخلة وناس خارجة
وقعدات وأجتماعات فى القهوة لبعد نص الليل وبتجرى شمال ويمين زى الرهوان وعينى عليك باردة
بقيت دايس فى كل حاجة .مالحظات لم يعيرها منصور أهتماما ،تخطاها بهزة من رأسه قابلها عبده
بتنهيده :واللـه براوة عليك يامنصور عملت اللى أنا ماعرفتش أعمله فى خمسة وعشرين سنة ،كلفت
الولية أمك فى كام يوم وكلت دماغها وشكلك كده آزح وداخل بصدرك على الغميق وباين عليك حتبقى
بطل المرحلة .قالها ضاحكا حين وضع جمعة صينية القهوة ..رشفة طويلة من فنجانه قبل أن يرسم
على وجهه قناع الحكمة :عارف يابا أنت لو عشت فوق عمرك كمان عمر مش حتوصل ألى حاجة
مع أمى ..عارف ليه ؟ طرح سؤاله وغرس نظرته فى عينيه مستأنفا :عشان أنت كل اللى يهمك
مزاجك وبس ومش شايف غير تحت رجليك وكل تفكيرك أزاى تخطف وتجرى ،عمرك مافكرت لقدام
وال فكرت مرة واحدة فى حياتك أن فلوس أمى هى فلوسك ومصلحتها تبقى مصلحتك ..عارف أنت
بتفكرنى بأيه ؟ .
ــ بأيه ياباشا .قالها ساخرا .بالظبط زى موظف الحكومة ماتفرقش معاه المصلحة اللى شغال فيها
تخرب تفلس والتروح فى ستين داهية المهم أنه أخر الشهر يلهف مرتبه ..أنا بقى .أشار لنفسه :كنت
متأكد من األول أن كل اللى عند أمى بتاعى وملكى لوحدى ،يعنى ال قدر اللـه لو أمى أتكعبلت فى
تجارتها وال أتاكلت فى السوق كنت حأبقى أول الخسرانين ..وماتاخذنيش يعنى فى الكلمة دى ،أنت
وأمى مش حتعيشوا أكتر ماعشتو .سكت يداعب فنجان القهوة ،ليعود بنبرة حاسمة :اللى جاى كله
بتاعى أنا والحق يتقال أمى طلعت حدأة ولحقت نفسها فى الوقت الصح ودخلتنى معاها فى زوارأها
عشان هى ست أدارجيه وعارفة فين تحط رجليها .أنصت له عبده بأهتمام ثم قام مدلكا أفاه بكفه مكتفيا
بماتلقاه من محاضرة تركت على وجهه أنطباعا مبهرا وطيف أبتسامة حين قال :ع العموم خدها منى
نصيحة وحطها حلقة فى ودنك ..اللى يقرب من فايزة الزم يعمل حسابه كويس ويبقى عارف أنها زى
ماحترفعه لسابع سما ممكن فى لحظة تخسفه لسابع أرض ..خد بالك يامنصور ! .قالها ورحل زاحفا
نحو ركنه كمنفى أختيارى انتظارا لقضاء اللـه وقدره ..جلس فى كرسيه صامتا مستغرقا فيما آل إليه
423
مصيره ،ذل من بعد عز .تأمل يديه اللتان تستريحان على فخذيه بعدما باغته شعورا بأنه ضحية
لمؤامرة كونية .
فى تلك اللحظة كانت عالمات الترقب منقوشة على مالمح سليم الذى أنتظر منكمشا داخل كرسيه حتى
رحل عبده فأنتهز الفرصة السانحة وقام يحجل متجها ناحية صديقه الذى لم يتمكن من األنفراد به سوى
بضع دقائق خالل أسبوع كامل بعدما أصبح سليم بالنسبة له كائنا تخطاه الزمن .سار يتطوح حتى بلغ
طاولته ..وقف أمامه يهز كتفيه كبلطجى يستعيد ذاكرته معلقا سيجارة " كليوباترا " بين شفتيه..
أجرى معاينة على صديقه من أعلى وكأنه سيشتريه بينما طالته نظرة منصور التى أستقرت على وجهه
يقرأ مالمحه .فبادره ساخرا :أنت شغال مصوراتى اليومين دول ،حتاخدنى صورة من فوق وال أيه ؟ .
سحب كرسيا :والحأخدك من فوق والمن تحت أنا كفاية على أبقى جنب منصور بيه الراجل المهم .
قالها وهو يجلس .
ــ والمهم والحاجة ياخويا أنا مش ماسك مصنع وال بأدير شركة ده مالى ياجدع يعنى لو مافتحتش عينى
كويس وبقيت مصحصح أبقى مش راجل وال أدها .عمود دخان اطلقه سليم بعدما أستند بمرفقيه على
الطاولة مقتربا بوجهه األصفر :طب ياعم المهم أنا فين من الليلة دى .مضيقا عينيه بأرف :أنت فين
يعنى أيه ؟ .
ــ هو أنا مش صاحبك برضه وال أنت نسيت ،مش أنا سليم بتاع األيام الناشفة والجيوب الفاضية وقلة
الحيلة وال هو يعنى فى الحزن مدعين وفى الفرح منسين .نافخا فى وجهه معلنا عن ضيق فى صدره :
أنت عبيط يابنى ،فرح أيه وحزن أيه أنت بتتكلم على عزومة والفرح على سطوح ده شغل وفلوس
ناس .قالها بعصبية تلقاها صديقه ببرود :طب وماله شغلنى معاك هو مش أنت ماسك الليلة كلها .
ــ خبل أيه يامنصور هو أنا طلبت أشاركك ،أنا بأقولك شغلنى معاك .
ــ تشتغل أيه ياالسع ..أنت آخرك شمة وبرشامتين وبارك اللـه فيما رزق .قالها وهب واقفا كمن
يتطهر من أوساخ علقت به بينما أصطبغ وجه سليم بتركيبة مريرة ،أمتزجت فيها الغيرة بالحنق ..
كانت تلك ماتحمله نفسية سليم .
424
ــ ماشى يامنصور براحتك ياصاحبى .
ــ فلوس مامعييش ..جدعنة منى بس طلباتك عندى .جملة رددها حين أتاه جمعه مهروال بعد أشارة
من منصور :حساب البنى أدم ده عندى ..خد بالك من القهوة ربع ساعة وجاى .
ــ ماشى يامعلم منصور .قالها بملء فمه وهو يودعه قبل أن يمر بعينيه فى أشمئزاز على سليم الذى
أنكمش يأكل فى نفسه :وأنتبقى مش تتلحلح كده وتشوفلك مصلحة تعملها بدل ماأنت عايش على
التبرعات .لوى رقبته يعاين المتحدث بنظرة ساخرة :حتى أنت ياجمعة .
خرج منصور من القهوة بأتجاه حارة " عويضة " قاصدا بيت " سيد الونش " الموطن الجديد لبدرية
وكريمتها ..فى طريقه توقف أمام دكانة " أبو سامية " فكهانى فاخرـ لديه أحدث موديالت الفاكهة ـ
فأنحاز منصور ألتنين كيلو موز مستورد من طراز الطول المديد ،ثم اشار بيده صانعا عالمة النصر
فوق صندوق تفاح يعانى حمرة شديدة وتعنى أتنين كيلو قبل أن يقتحمه " أبو سامية " بأبتسامة
سمجة :ماتجرب األصفر كمان ياأبوحجاج .أدار له األخير ظهره حين رن هاتفه فهز رأسه موافقاكى
يبعده .
ــ أيوه يانوسة ..حأجيب شوية فاكهة وآجى على طول ،صاحيين وال حتنامو ..طب مسافة السكة .
أغلق تليفونه على صوت أبو سامية :أجيبلك أيه تانى يامنصور .
ــ كفاية كده .قولى حسابك كام .رحل بعدها متجهما حين أستظرف أبو سامية :ماتقولنا الوجاهة
والشياكة دى جت أزاى عشان نعمل زيك .كافأه مشمئزا :أبقى أسأل سامية لما ترجع البيت ! .أكمل
منصور مسيرته حتى بلغ بيت " سيد الونش " ..بناء حديث أتم عامه الخامس منذ شهرين ،بوابة
حديد وساللم رخام وواجهة متعددة األلوان ،أختار كل ساكن لونه المفضل بحرية تامة وديمقراطية عدا
الدور األول سكن المدعو " فرجانى " الذى زين شرفته بعبارة " اللـه أكبر " يجاورها رسمة كبيرة
للكعبة المشرفة وبينهما بصمة كف لخرق عيون الحاسدين .أستقبلته نوسة عند باب الشقة ببنطلون
ضيق وتيشيرت قبل أن يرمى فى حضنها الموز والتفاح ثم دخل خلفها ..ضرب صرير باب الشقة وهو
425
يدفعه متقدما الى الصالة المستطيلة المضاءة بلمبة عارية فضحت بيوت العناكب التى أخذت لنفسها
وضعا فى السقف تستقبل به الداخل .شقة متواضعة غرفتين وصالة بأيجار شهرى خمسمائة جنيه
حسب األتفاق المبرم بين منصور والونش لمدة عام قابلة للتجديد لحين العودة إلى حارة ابن شكر بعد
أنتهاء البناء كما خطط منصور باألشتراك مع بدرية التى سارعت بايداع مبلغ التعويض التى تحصلت
عليه من ف ايزة فى وديعة بالبنك األهلى .رافقته نوسة حتى ركن الصالة بأتجاه الكنبة العتيقة تزامنا مع
لحظة وصول بدرية من المطبخ التى أنقضت عليه وأبتلعته فى صدرها بحفاوة بالغة مع قبلتين على
خديه كأنا لهما صوتا مؤثرا :أهال ياحبيب قلبى ..نورت بيتك .
ــ منور بصحابه ياست بدرية .جلست كما جلس هامدا بعدما أوشكت طاقته على النفاذ بعد يوم
عمل شاق .
مدد رجليه مسترخيا ومستدفئا بالسخونة المنبعثة من كتلة اللحم التى تجاوره .لم يدم صمته طويال حين
علق متفاخرا على مالحظة وردت على لسان بدرية :بسم اللـه ماشاء اللـه شكلك بقى منور عامل زى
الناس المهمة اللى بيطلعوا فى المسلسالت ويبقوا مشغولين على طول .
ــ حنعمل أيه بقى ياست بدرية مسئولية وأتحطت على كتافى والزم أبقى أدها .تقصعت نوسة فى
مشيتها حتى تخطت رجليه المفرودتين ثم مدت أصابعها لكتفيه مدلكة :طبعا أدها ،ده كفاية عليك أن
نو سة بجاللة قدرها واقفة جنبك .لم تلحظ أى تعبير على وجهه فلكزته فى صدره :أيه ..كالمى مش
جاى سكة معاك .أبتسامة مجهدة :ياعبيطة يعنى لو أنتى مش جاية سكة كنت جيت لغاية هنا فى
الوقت ده وأنا مقتول تعب .دارت حوله ثم أستقرت خلفه وعقدت ذراعيها حول رقبته ونامت بصدرها
الطرى على ظهره المقوص :ماأنا عارفة يامنصور بس بطمن أوى لما بسمع منك الكالم ده .
ــ أطمنى يابت وحطى فى بطنك بطيخة صيفى ،منصور راجل وجدع وبيشيل الناس اللى بيحبوه فى
قلبه وعينيه ومهما كبر مش حيكبر عليكى .كانت جملة أستباقية من بدرية وضعته أمام مسئولية
أخالقية عبر عنها حين سحب نوسة من رسغها ليجعلها أمامه :كالمك كله صح ياست بدرية نوسة دى
حته منى وكل اللى بأعمله دلوقتى واللى حأعمله بعدين كله حيبقى لها ..بس واحدة واحدة أنا مش
عايز قلق خالص اليومين دول أنا ماصدقت أمى رضيت عنى وأطمنتلى وأدينى حطيت رجلى على أول
السلم وربنا يسهل بالباقى والصابرين بخير .
426
أنقباضات أعترت مالمحها عندما ولت وجهها شطر الحائط تخطو لألمام بخطوات قلقة :ياخوفى
يامنصور ..توقفت نظرته فى عينيها حين أستدارت :مالك يابت ..خايفة من أيه ؟ .
ــ تنشغل عنى زيادة عن اللزوم وسكة الفلوس تأخدك لدنيا تانية وتنسى نفسك وتنسانى وتدورلك على
حاجة تليق .أهتم بمخاوفها حين قرر أن يهدأها كى التتمادى فى جو التأنيب والعكننة :آهو ده بقى
اللى بيسموه العبط والجنان الرسمى ..أنتى نسيتى يابت كالمك معايا ..نسيتى لماكنتى بتعايرنى
وتقوليلى أزاى أمك راكناك ع الرف وشايالك من دماغها وأنت أبنها الوحيد وسايباك كده من غير شغلة
وال مشغلة .قام متجها إليها : .ولما ربنا يكرمنا وأمى ترضى عنى وتمسكنى شغلها نتبطر ع النعمة
ونقول الكالم الخايب ده اللى ال يجيب واليودى .خفضت رأسها على وقع كلماته حين تحسس بكفه
خدها ،فخرجت كلماتها مع أنفاسها :ياخبر بفلوس بكره ..أهتزت بدرية فى جلستها وهى تتابع بترقب
الحوار الدائر وكأنها تؤدى دور حكم اللقاء التفوتها كبيرة والصغيرة .فأستشعرت بأن األمر يحتاج منها
تدخال :ماتزودهاش بقى يابت ،منصور بيحبك وأنا مالية أيدى منه وكلها كام شهر وحيظبط نفسه
وحتبقى معاه فى بيت واحد .جذبها منصور لصدره :واللـه ماتقلقى كالم أمك كله صح والصبر جميل
وأنا وعدتك حأرجعك على شقة محترمة فى بيت أبن شكر ودى هديتى لكى بس أتقلى على شوية
وأفرديها بقى .أبتسامة تخفى خلفها قلقا حين أراحت رأسها على صدره :واللـه بحبك أوى يامنصور .
ــ قديمة ..سيبك من الكالم ده وقوليلى ظبطى أوضتك وال لسه .
آه ..حطيت الدوالب ونصبت السرير اللى أنت جبتهولى وفرشت السجادة وبقت أوضة آخر ــ
رومانسيبة .من فوق الكنبة أرسلت بدرية غمزة ألبنتها :خديه فرجيه خليه يشوف التظبيط .تراجعت
خطوة مستعرضة خريطة جسمها :تعالى أفرجك .سحبته خلفها وخطا أول خطوة إلى جوف الشقة
مجتازا الطرقة الطويلة يتعقبها بيده يقيس ويوزن مبديا مالحظة إيجابية :بالصال ع النبى صحتك ردت
أوى فى بيت الونش .
ــ ال ياخويا طول عمرى صحتى حلوة .قالتها وأزاحت يده الداخلة بال أستئذان .لحظات ووجد نفسه
داخل غرفتها وأمام سريرها ،أنقضت دقيقة وهما فى وضعية األلتحام ..أعتصرها فى صدره يعالج
بدفئها رطوبة يومه قبل أن ترتج بهما الغرفة حين باغتهما صوت بدرية :فرجتيه وال لسه يابت .
حاولت الفكاك منه :خالص ياما .قاطعها بصوت الهث وهو يمشى بشفتيه على رقبتها :أللسه !.
سلتت نفسها منه عند سماعها حركة فى الصالة مصدرها الكنبة .أزاحته بصوت خفيض :لم نفسك
427
أمى حتيجى علينا .وثبت الى خارج الغرفة يتبعها محبطا إلى الصالة .جلس مترددا أمام بدرية حين
طرحت عليه سؤالها :حتتعشى معانا يامنصور ؟ .
ــ مش حينفع الزم ألحق أمى قبل ماتنام فى شوية حاجات فى الشغل الزم أخد فيها رأيها .قطبت نوسة
جبينها :أيه رأيك بقى مش حتنزل من هنا إال لما تأكل معانا .تذكرأنه لم يضع لقمة فى فمه منذ
الصباح ،تفحص الجسم الطرى الواقف أمامه :مش حينفع يانوسة مش عايز أعمل مشاكل مع أمى .
قال ها وتمنى لو يفرغ طاقته المستعرة عندها فالذى يدركه األن أن صراخ العاطفة هو أعلى من
صراخ المعدة .
ــ مقبولة منك ياأبيض .صانعا ضحكة قبل أن ينتفض واقفا حين نظر فى ساعة يده :أتأخرت أوى ..
حأكلمك الصبح .قالها وهو يتجه ناحية الباب قبل أن يقف عند عتبته يتأملها للحظات :أبقى أتعشى
تفاح ياتفاح .
ــ أبقى أديه ألمك .لم ينتظر نهاية ضحكتها ورحل مسرعا كالمطارد .وقفت مكانها ولم تتحرك بعدما
تالشت ضحكتها حين حام حولها ذلك الخاطر الذى الزمها فى الفترة األخيرة ..ماذا لو نجح منصور
وأثبت وجوده وتمكن من ثروة أمه وأصبح له كلمة وكيانا قويا ..هل سيقبل وقتها بالزواج من نوسة
بنت بدرية كومبارس ؟!.
دون أن يلتقط أنفاسه ،دخل منصور من باب الشقة بعد أن قطع حوارى كرموز كالسهم اليميل يسارا
واليمينا حتى مدخل البيت ومنه إلى السلم صعودا يخطف كل ثالث درجات فى قفزة ،بخطوات مسرعة
اتجه الى غرفة أمه ..فتح الباب ودخل مستعيرا وجها مرهقا حين طالعته فايزة بنصف عين وهى
ممددة على السرير تنصت بأسترخاء لنداء النوم ،توجه اليها بعدما أستخرج من بين شفتيه ابتسامة
راعى فيها أن تبدو مجهدة :الجميل حينام وال أيه ؟ أشاحت بوجهها :الجميل بقاله ساعتين مستنيك
ياروح أمك ..كنت بتتسرمح فين .ضم شفتيه تأهبا لوضع قبلة على جبينها حين أنحنى :خالص ياما
زمن السرمحة ولى ..دلوقتى شغل وبس .أنزاحت لوسط السرير مفسحة له مكانا ليستقر بجوارها .
عشر دقائق كاملة ،أستعرض فيها منصور تقريره اليومى مع شرح مفصل لخريطة يومه المنصرم منذ
428
خروجه فى الصباح وحتى اللحظة مع مراعاة حذف المشهد األخير الخاص بزيارته لنوسة ..كان منظما
فى سرده وأقنعها بترتيبه لالحداث ..أذهلها بحماسه وألحاحه على الفهم وسعيه خلف التفاصيل
فأطمأنت لجديته قبل أن تستعيد تركيزها حين أستهل برنامجه للغد وماينوى فعله مبديا وجهة نظر :
بكرة حاقابل المهندس اللى أسمه أسامة بتاع رسومات العمارة فى مكتب محمود المحامى واللى وصلنى
أنه مجهز الرسم بتاعه على أربع شقق أرضى وأربع محالت وبينى وبينك ياما النظام ده مش عاجبنى .
ــ ليه يامنصور ..أنت عارف سعر المحل كام وكمان الشقق األرضى لها زبونها عيادات ومكاتب .
ــ أنا بقى عندى تفكيرة تانية أحسن من الكالم ده بأقول يعنى لو أخدنا الدور األرضى كله وكمان الدور
األول ونعمل عليهم مول كبير يتحط فيه كل حاجة من األبرة للصاروخ .
ــ مش أوى كده ياما ..حاجة شبهه بس على شعبى حبتين يمشى مع البشر اللى هنا ويناسب زبونك
وكمان مساحة األرض الكبيرة حتفرق معاكى أوى وتخليكى تتوسعى وتشكلى وتحطى كل األصناف اللى
تخطر على بالك ،أكل وشرب وأقمشة ومالبس وأدوات منزلية وقطع غيار وكمان مايمنعش تطلعى
جزء من بضاعتك بالتقسيط لزباينك وحبايبك وجزء تانى تطلعيه جملة ،ده غير أنه حيبقى المركز
بتاعك اللى تقابلى فيه المعلمين وصحاب المصلحة .قلبت أقتراحه فى رأسها ثم غابت بعينيها ناحية
السقف قبل أن تعود ساهمة مبهورة كمن تنصت لهاتف يصرخ فيها " فكرة بمليون جنيه " .عبرت عن
أعجابها بنبرة ممطوطة بعدما قامت من رقدتها :واللـه براوة عليك ياوله ..أنت كده أبن فايزة بصحيح.
ــ الحق يتقال دماغك نضيفه والفكرة عجبانى وعشان كده أنا حأجى معاك بكرة نقابل المهندس اللى
أسمه أسامة نعرض عليه الموضوع ونشوف رأيه أيه .ترك مكانه بعد مقولة " تصبحى على خير "
رافعا رأسه منتشيا يهز كتفيه يمشى ملكا بعدما أحرز هدفا ذهبيا فى رأس أمه التى فر منها النوم
وراحت تسرح بخيالها خلف المول وهى تتنقل بذهنها فى أقسامه وتدور بعينيها حول رفوفه الممتألة
عن أخرها ببضائع من كل صنف ونوع يحرسها شباب بقمصان سماوى عليها " بادجات " تحمل أسم
فايزة وجموع من البشر التعد والتحصى تفضح أعدادها اضاءة قوية مبهرة وسط حركة نشطة من البيع
والشراء ،وركام من الفلوس كالتالل الصغيرة تنتظر أصابع فايزة الجاهزة للعد والتى تجلس خلف
429
مكتب فخيم تباشر منه سير العمل وتراقب كل التفاصيل من خالل وجه متوهج وجسد يتألأل داخل عباءة
سوداء مشغولة بالترتر واللولى .كان خياال سعيدا وهى تتابع حلم المول ،شاخصة للسقف بوجه
طموح قبل أن يهزمها النوم ويقهر جفنيها ويتسلمها ألول مرة مبتسمة منذ ليلة األفراج عنها .
دخل منصور غرفته بمالمح الفاتحين ..أضاء النور ليطالع " ترينج " النوم الذى مازال ملقى على
السرير كما تركه فى الصباح وشبشب يرقد نصف مقلوب ،جلس على طرف السرير منحنيا بجزعه
ناظرا لألرض بعدما طوح بالعلبة " المارلبورو " والمفاتيح والموبايل قبل أن يسحب نفسه متراجعا
لظهر السرير تعلو وجهه أنفراجة ونظرة أنتصار تطل من عينيه رافقته للحظات حتى سحب علبة
سجائره وسلت منها واحدة وأشعلها ..شبك قدميه كالمقص حين أخرج النوتة من جيب قميصه وسحب
قلمه الصغير وتهيأ لكتابة أول سطر ــ عادة أستهوته فى األيام األخيرة ــ بدأ يرص قائمة ألفكاره
ومالحظاته .
ــ أرض أبن شكر بقت جاهزة ..محمد المقاول دوره خالص أنتهى .كتب منصور ثم ذيل جملته بعالمة
صح قبل أن يضيق عينيه متحاشيا عمود الدخان المتصاعد من سيجارته المعلقة على شفتيه ،ثم رفع
رأسه ماسحا الغرفة بنظرة عاد بعدها ليدون :النونو وخضر بقوا تحت السيطرة وبين أيدى ودول كمان
خالص .جملة أتبعها بعالمة صح ثم تالها :والمهندس أسامة بقى أمره سهل ..مش فاضل غير أبويا
وحساب القهوة ودى شغالنة قدامها شهر بالكتير وتبقى تحت أيدى .أنتزع سيجارته من فمه ساحبا
منها نفسا أخيرا قبل أن يواريها فى مطفأة بجواره على " الكومودينو " .عاد منكفئا على النوتة ..
توقف شاردا عن التدوين ،أمعن فى سكون الليل كمن ينتظر الوحى .دق بسن القلم صفحة النوتة قبل
أن تتنازعه فكرة ترجمها مكتوبة بخط مرتعش :مش فاضل غير محمود المحامى ؟! .كتبها وشعر
برهبة كالذى تجاوز المسموح به .إال أن أصرارا يولد ثقة تأكل تردده الذى تساقط داخله حين رسم
كلماته بهدوء :لومافيش محمود المحامى حتبقى كل حاجة تحت أيدى فلوس أمى اللى فى البنك
وإيصاالت األمانة اللى بالهبل ده غير أنى حأبقى نمرة واحد عندها .بدا كمارد خرج من فانوسه توا .
اليتوقف نهمه إلى كل شيىء ،سيناريوهات عدة الزالت تحبو فى رأسه حين أشتبك مع ذهنه للحظات
فى البحث عن طريقة فعالة ،لم يكن هناك من مفر سوى طى النوتة ودفنها تحت المخدة مرددا :يبقى
الزم محمود المحامى ..كتم بقية المعنى فى صدره وسكت حين تمدد على السرير أخذا فى األعتبار أنه
اليملك سوى مقولة تؤجل طموحه الكاسح " أتقل على الرز" .قرار النوم كان حاسما بينما لم يكن قادرا
430
على حسم األجابة عندما سأل نفسه :هل هو أصبح مصدر ثقة كاملة بالنسبة ألمه ؟ أم الزال موضع
مالحظة منها ؟ .شكوك سقطت مع سقوطه صريعا أمام ألحاح النوم .
00000000
شريف ..يومه يبدأ بالصداع وهو لم يبرح بعد فراشه .قوة أقوى منه كانت تقف فوق رأسه تدعوه
للتحرك بأيجابية تجاه نورا وأحتواءها أو باألحرى أشغالها بعيدا عن أمها التى فاض بها الكيل وأشتكت
لخيرى بمرارة فى مكالمتها األخيرة تطلب دعمه ومعاونته ،فبدا متحمسا حين نقل له تلك الرسالة واقفا
فوق رأسه :حاول تقعد معاها ياشريف ..أتكلموا مع بعض وشوفوا مستقبلكو أنتو األتنين حيمشى
أزاى ..أتناقش معاها يا أخى وأدخل جوه دماغها وأعرف هى عايزة أيه بالظبط والبتفكر فى أيه ،
أطلب منها بصراحة تسيب أمها فى حالها وتخليها هيه فى حياتها وفى مستقبلها .
ــ وال أنت خالص راحت عليك وحكاية الحب األول ماعدش لها تأثير .
ــ حاضر .قالها هذه المرة مشحونا يزفر فى ضيق .فأكتفى خيرى بماقاله وخرج متعجال ليلحق
بأجتماع مصيرى سيعقد فى مقر جريدة " أسكندرية " برفقة صديقه " برسوم " يحضره وألول مرة
بعض النشطاء السياسيين المعروفين باألسكندرية يصطحبون معهم واحدا من الوجوه المعروفة على
نفس الشاكلة الثورية ،جاء خصيصا من القاهرة تلبية لدعوة أحد رجاالت الحركة لتبادل وجهات النظر
والتعرف عن قرب ألفكارهم فى التغيير .
الزال شريف ممددا فى سريره وسط لحظة ركود ..توقف طويال أمام عبارة أبوه " الحب األول ماعدش
له تأثير " ! " ..ليس هناك حب أول وحب أخير ،هناك حب تحكمه المقدرة وحب يسقط من العجز "
كلمات مرت بذهنه قرأها فى أحدى صفحات " النت " رسمت على وجهه تعبيرا ساخرا الزمه حتى طرد
الوخم ،ثم قام وجلس على كرسى بجوار السرير .أسند رأسه على حافته .أدرك اليوم وألول مرة أن
أبوه ينقاد خلف عاطفة قوية تجاه هدى التى باتت هى المحرك الوحيد آلفكاره ،وان ترتيبه فى قلبه
431
تراجع للمرتبة الثانية ..مشاعر محبطة تلك التى نقلته الى صفوف المقهورين حين أيقن أن والده
يؤسس لحياة جديدة على هواه ،فتخلت عنه تلك الطمأنينة الزائفة التى كان يصنعها وجود األب .كان
متيقنا منذ البداية أن دخول هدى إلى شرنقة والده ستنسج حوله عالما من الخيوط سيفصله حتما عن
محيطه وستغزل ساترا متينا يحول بينه وبين شريكه الوحيد فى البيت منذ سنوات ..أعترف أمام نفسه
بأن أحالمه قد تبددت ومعها أنهارت تطلعاته ،وبالرغم من ذلك تجنب المواجهة أو حتى الدخول معه فى
جدل أو نقاش .لكن الفأس لم تقع إال على دماغه هو فقط ،شجت رأسه فأنشطرت جميع الرؤى
واألحالم ،تداعت واجهة األب الذى أعتاده ،لم يملك إال أن يسجل أعتراضاته داخل نفسه بعيدا عن
مظلة الحصانة األبوية كى التأخذه القضية إلى طابور المتهمين بأنهم جيل عاق وقليل التربية ! .الفجوة
الهائلة التى يعانيها بين اآلمال المنهارة والواقع الجديد ،لم تغب نورا فيها عن مجال العقل والمنطق
حين يرد تلك التغيرات الجذرية واألزمات التى يقاسيها األن لشخصها ـ هى ـ لكونها رافدا أصيال لكل
التطورات وخلف كل القرارات الحادة التى أتخذتها تجاه أمها ،ولوالها ماكانت حسمت النتيجة مسبقا :
التفكيربجدية فى الخالص من جحيم أبنتها الى جنة والده على أنقاض طموحة هو!! ..انها تصيغ
األحداث بيد خفية وتتواصل معها كتواصل المعلول بالعلة والنتيجة باألسباب ،وربما هو يحملها كل
المسئولية عن كفره بما أمن به طويال ،واألن هو يحاكمها بلغة العصر ويصنفها كعضو فعال فى خلية
أرهابية تبغى تدميره .
أجرى أتصاال خاطفا بها ..تواعدا على اللقاء وتوافقا على الخامسة مساءا كموعد يناسب ظروف كل
منهما ،حددلها كافيتريا مجهولة على أطراف منطقة " أستانلى " لقربها من محل عمله كى يلحق
بوردية السابعة ..ماالذى يدعوها الى أن تنساق وراء دعوته ،أستعرضت جميع األفكار واألحتماالت
بعد اصراره على اللقاء موضحا ذلك فى نهاية المكالمة :الزم نتكلم مع بعض يانورا .جملة أثارت قلقها
لتلجأ بعدها للتوقعات والتخمينات قبل أن تحوم حول رأسها أسئلة لم تجد لها أجابة :سبب المكالمة
وتوقيتها ؟!.
ترك شريف غرفته وخرج يمضغ انفعاله وهو يحاول أن ينفلت هاربا من تلك األفكار التى تضغط على
أعصابه ويكاد يورثه جنونا ..نورا أصبحت بالنسبة له لغزا محيرا قبل أن يصبح هو ايضا لغزا أكثر
حيرة حين واجه نفسه :هل أعانى ضعفا أمامها ؟ .
ــ ربما ..هل عدم القدرة على مواجهتها وتحديها ،ضعف ؟ .
432
ــ جايز ..حبى لها ،هل هو ضعف ؟ مؤكد .
وقف على الرصيف بجوار مدخل الكافيتريا ينتظر .بحث فى كل الوجوه القادمة عن وجه يشبهها .لم
يعد وجه يبتسم .أنزوى للوراء قليال يترصد الطريق يراقب مقدمها ،ترك وجهه للشمس تلونه قبل أن
يظلل ه بكف يده حين لمحها ،فشد صدره ورفع رأسه ،تلك هى الوقفة التى يحتفظ بها لنفسه ..شعور
متوثب باللذة كان يسيطر عليها وهى تراه ينتظر ،أعتلت الرصيف بخطوة متمهلة بينما بدا شريف ثابتا
لدرجة الصرامة .أستقبلها متقدما لالمام بخطوة أنيقة .أرادت أن تمارس معه لهوا أنثويا .فبادرته :
فى حد يبقى مستنى الجو بتاعه ويقف مكشر كده .الزال صارما حين تقدمها :تعالى ندخل .تبعته
والتصقت بكتفه ودخال فيما أتفق ـ زورا ــ على تسميته كافيتريا التى لم تتوفر فيها سوى مجموعة
طاوالت رصت فى صفين حولها كراسى بالستيك وبينهما ممر يتمشى فيه ذهابا وأيابا شاب نحيف يؤدى
دور الجرسون .أطلقت نفخة تزامنت مع دخولهما :أيه المكان العجيب ده ؟! جلسا ..سأل النحيف وهو
يطل من فوق رأسه :تأخدوا أيه ؟ أختار لنفسه حاجة ساقعة .كاد الجرسون أن يستريب فيها ،من
كثرة ماتلفتت يمينا ويسارا .سألت فى نفور :أنتو بتعملوهنا قهوة .
ــ يبقى فنجان مظبوط .هز رأسه مبتسما وسحب هيكله العظمى ورحل .أنهمك شريف بنظرة طويلة فى
وجهها وكأنه يتقصى أحوالها بمالمح تفصح نيته ،التى تنبىء بما اليسر واليطمئن .أبدت قلقا من
نظرته .فأفصحت :البيه بيشبه على وال حاجة ؟!.
ــ فعال بأشبه عليكى ياريت تجاوبينى وتقوليلى أنتى مين وال أيه وال أزاى ؟ قالها بحرقة جاهل محروم
من المعرفة .
مبتسمة :أنا واحدة بتحبك من زمان لما كنت لسه بضفيرتين وسيادتك كان صوتك بيبدأ يخشن ومن
وقتها وأنا زى ماأنا ماأتغيرتش وأحالمنا القديمة اللى حلمناها سوا معايا كل ليله ومابتفارقنيش .
حاولت بكلماتها سد الباب الذى قد يجىء منه الريح .لم يكن ردا مقنعا بالنسبة له .
433
ــ أنتى كل يوم بتتغيرى عن اللى قبله وكمان لألسوأ وماعدش فيه أحالم بتجمعنا ،ده لو أنتى أصال
لسه فاكرة حاجة منها ..سيادتك مش شايفه غير حلمك أنتى وبس ومش فارق معاكى مين حيدفع التمن
وال على حساب مين ..المهم أنك توصلى للى أنتى عايزاه !! .
لماذا يكيل كل هذه األتهامات لها ،هل هو أنسان فاشل أو مهزوم ؟ وهل هو مهزوم فعال ؟ ربما ال .
ربما يكون فى قمة انتصاره ! .
ــ أنت متأكد أنك بتكلمنى عن حلم ..ده كابوس يابنى ! .كانت تتحاشى الدخول فى دروب نقاش وعـــرة
ــ هو فعال كابوس ..لكن لألسف الخيال المريض بيجمله ويسميه حلم .قالها وسكت ..أحست بخوف
من هذا الصمت ومن تلك النظرات أكثر من خوفها من كالمه المجنون ومن عصبيته .
ــ عشان أسألك .قالها بحدة فأنزعجت من حمرة أنفعاله .أستأنف وبصحبته أحباطات سنين مضت ،
حاول أن يستعيد نفسه :أنتى عايزة منى أيه بالظبط وعايزة أيه من مامتك ومن حياتك كلها ؟ سألها
وتولى الرد :أقولك أنا أنتى عايزة أيه ؟ عايزة تعيشى بقية عمرك فى مرحلة التضحية والبطولة وتبقى
صاحبة األمروالنهى ..ماحدش يتنفس واليتكلم واليعمل أى حاجة إال بموافقتك ورضاكى ..طبعا
برضاكى ماهو أنتى صاحبة المهمة المقدسة اللى مابقتش مقدسة والحاجة ..ممنوع أى حد يعترض
ومين المجنون اللى يقدريعترض وأنتى اللى ربيتى وكبرتى وعلمتى ودلوقتى بسم اللـه ماشاء اللـه
بقيتى صاحبة مال وبتصرفى يعنى كل حاجة بقت تحت أيدك وبتتحكمى فى حياة كل اللى حواليكى زى
ماأنتى عايزة ..ترضى عن ده وتغضبى من ده حتى لو كان المغضوب عليه ده هو مامتك عشان تفكير
حضرتك المكعبل قالك مش حينفع تكونى صاحبة األمر والنهى فى وجودها .يلمع وجهها المراوغ وعلى
زاوية فمها تعبير ثابت الهى أبتسامة والهى أنحراف ،بينما حاصرها يفرغ فى دماغها لعناته :يبقى
الحل الوحيد الزم الست دى تخرج بره البيت ..بس المشكلة هنا تخرج أزاى وبأى طريقة ؟ الخطة
كانت جهنمية ..مامتك تتجوز من أبويا وتخلع من البيت وكده تبقى األمور ماشية تمام التمام وآهى جت
من عند ربنا .
شجبت أتهاماته التى يلقيها بال تدبر على من اليستحق :أنت ليه عايز تحملنى المسئولية ..هو أنا اللى
قلتلهم يحبوا بعض وال خلتهم يفكروا فى حكاية الجوازدى .
434
ــ كالمك صح أنتى فعال ماقلتيش لكن خططتى ودبرتى وقررتى أنك تسودى أيامها وتخلى البيت بالنسبة
لها جحيم وحاصرتيها من كل حتة وضيقتى عليها .
ــ وهيه طبعا ياعينى لما زهقت من الجحيم اللى عايشة فيه قالت مابدهاش بقى أتجوز خيرى ..أيه كالم
العيال اللى أنت بتقوله ده ،ماما وعمو خيرى مش قصر وال مستنين من أى حد موافقة وال رفض
والحد يسود عيشة واليبيضها دول ناس كبيرة وفاهمين أحسن منى ومنك وعارفين همه عايزين أيه
بالظبط ..المشكلة مش فى أنا والفيهم همه المشكلة عندك أنت ياشريف .
ــ بأمارة أنك بتلف وتدور حوالين المشكلة اللى أنت عايشها وماعندكش الجرأة وال الشجاعة أنك
تواجه بيها نفسك ..أنت مش قادر تصدق والعايز تستوعب فكرة أن باباك حيتجوز وأن فى حد
حيشاركك فيه ..أنت أنانى مابتحبش غير نفسك وأنا فهماك كويس جدا وعارفة أن جواز باباك حيبوظ
الرسمة اللى أنت كنت راسمها بخصوص الشقة واللى ياما كلمتنى عنها وال دى كمان نسيتها ..دايما
كنت تقولى لما نتجوز أنا وأنتى حتبقى الشقة كلها بتاعتنا ماعدا أوضة واحدة لبابا ..مش ده كالمك
معايا .تابعها غارقا فى ذهوله :برافو ..واللـه برافو عليكى ،بالبساطة دى عايزة تطلعى نفسك
مظلومة وضحية وأنك مالكيش ذنب فى أى حاجة .قالها بوجه ساخر قبل أن يستعيد جديته مكمال :
ألمعلش الكالم ده مايدخلش على أنا ده تضحكى بى على حد تانى عشان أنا أكتر واحد فى الدنيا دى
فاهمك كويس وعارف أن متعتك الوحيدة لما تتحكمى فى مصير اللى حواليكى وترسمى لهم حياتهم زى
ماأنتى عايزة ..هو ده المرض اللى عندك وبدل ماتفكرى أزاى تعالجى نفسك عايزة تقنعينى أنى انا اللى
مريض ومحتاج عالج .أصبحت المعانى أكثر حدة وأكثر توصيفا .كانت تتعلق عينيها بالقائل الذى
سكت ..بدا عليها األضطراب بعدما سقط عنها قناع الثقة الذى كان يسترها .
ــ كالمك مش مظبوط ياشريف ولو أنا فعال زى ماأنت بتقول مريضة بالسيطرة والتحكم فى اللىحواليه ..
كان من باب أولى سيطرت عليك وأتحكمت فيك ومشيتك بطريقتى زى ماأنا عايزة وده طبعا ماحصلش
..أما بقى عن أخواتى فكالمك كله مايهمنيش واليفرق معايا أنا اللى يهمنى حاجة واحدة وبس أنى الزم
أقف معاهم لغاية ماأطمن عليهم وعلى مستقبلهم وأتأكد أن كل واحد فيهم حط رجله على أول السلم ..
ده طبعا غير عمتى ونعمة اللى حيفضلو برضه فى رقبتى وتحت مسئوليتى طول ماهمه عايشين ..
الح اجة الوحيدة اللى بقت برة مسئوليتى ..هى ماما ألنى متأكدة أنها حتبقى مسئولة من عمو خيرى .
435
أقرت أمامه واقعا قابله بتجاهل ،إال أنها بدلت نبرتها وأستدعت دالال مفقودا كاد أن يطويه النسيان حين
تابعت :وعشان أطمنك وماخليش دماغك تجيب وتودى ..لم يكن فى مقدورها منفردة أن تكمل باقى
خطتها بدونه ،عليها فى هذه اللحظة أن تدفع جزء من الثمن .أردفت :أنا ماعنديش أى مانع أننا
نتجوز مع عمو خيرى و ماما فى الشقة ،لكن لو أنت شايف أن ده حيبقى صعب أنا عندى حل تانى
قالت :طبعا أنت وحيبقى مريح للكل .سكتت للحظات أرسلت خاللها أبتسامة لتلطف اآلجواء ثم
عارف أن ربنا كارمنى بقرشين محترمين ودول ممكن أوى يسهلولنا حاجات كتيرة جدا زى شقة
محترمة مثال وعشان أنا بحبك ياشريف مستعدة أعمل أى حاجة ..بس األول أطمن على أخواتى
ومستقبلهم .يبدو أن المال دمغها بسلوكيات أصحابه ،لم يعد للحب نفس المعنى الذى ربطهما ،كلمة
" بحبك " هنا مطاطة تتسع لكافة الـتأويالت والتفسيرات ..لم تعد بالنسبة له تلك األميرة التى تجتاح
الصور واألحالم .
ــ عارفة أنتى بتفكرينى بأيه ..باألم اللى عايزة تسكت أبنها اللى عاملها وش وصداع فى دماغها تقوم
تطبطب عليه وتقوله لو سكت وسمعت الكالم حأبقى أجيبلك حاجة حلوة .
أبدت تذمرا لكنها لم تفصح حين حضر أخيرا الجرسون النحيف يحمل الساقع وفنجان القهوة
على صينية بالستيك موديل الثمانينات ..وضع المطلوب وأدار لهما ظهره وأتجه إلى " خن " فى أخر
الممر .توجهت إليه نورا وهى الزالت على تذمرها :حيرتنى معاك ..أنت عايز أيه بالظبط ،لو رافض
جواز باباك من ماما قولى وأنا حأتصرف بنفسى حأروح لغاية عنده وحأترجاه يبعد عنها وحأقوله
بصراحة أبنك رافض الفكرة تماما ومحملنى أنا المسئولية .كان تهديدا صريحا أطلقته فى وجهه ثم
راقبت رد الفعل على مالمحه .أكملت :مش هو ده اللى حيريحك؟ .
ــ لو هو ده اللى حيريحنى أبقى أنا بنى أدم جاحد وناكر للجميل للراجل اللى فضل خمستاشر سنة من
عمره عايش لوحده بعد ماما ماتوفت ومارضاش يتجوز عشان خاطرى أنا وأخويا نادر ..وعشان
أطمنك على األخر وماتقلقيش من ناحيتى مستحيل يكون جزاؤه منى أنى أرفض والحتى أجادله وال
أناقشه فى حاجة هو عايزها .
436
ــ طبعا حاوافق ومش حأعمل مشاكل خالص ألنى مش حأبقى موجود ..حأسافر أمريكا عند نادر وأنتى
عارفة كويس هو أد أيه أتحايل على فى حكاية السفر ولما كان هنا آخر مرة قالى مكانك محجوز فى
المطعم .كانت تحبس الكلمات فى نفسها وهى تنصت له .واصل :فكرة السفر كانت مرفوضة عندى
عشان ماكانش ينفع أسيب بابا لوحده ..بس دلوقتى الوضع أختلف و مادام مش حيبقى لوحده يبقى
ماعدش لوجودى لزمة ..أشوف مستقبلى أحسن وأروح أشتغل مع أخويا .
ثقتها التى كان يحلو لها أن تظهرها أمامه فلم تكن لها أثر والحتى تلك النظرة الجريئة والغرور
مالمحها ،الشيىء ،اال األنكسار فى شخصها .قررت أن تبدو أمامه مجردة من األقنعة ،ولتستعيد
أمامه هويتها القديمة .وها هو يتنحى عن الكالم حين قاطعت :وأنا ؟! .رآها تضل أمام عينيه ،فهى
تذوب شيئا فشيئا ،حتى كادت تشبه الفراغ .
ــ أنتى جدولك مليان يانورا وماعندكيش وقت تفكرى فى أى حاجة غير فى نفسك ..ياله بينا نقوم .
راقبته وهو يطوى عشرون جنيها يضعها بين الحاجة الساقعة وفنجان القهوة ،نظرتها تكشف عن
سؤال يتردد فى سرها :مالذى سيجنيه من وراء تلك المخاطرة ،أو المغامرة ..أيا كان مسماها ؟ هل
المخاطرة محسوبة ؟ والمغامرة مع من ؟ ومن أجل من ؟! ال ..لن يستطيع أن يفعلها ،ليس بمقدوره
أن يقضى على مستقبلهما ..خطوة من المستحيل أن يخطوها !!.
خرجا من الكافيتريا دون أن ينطقا بكلمة واحدة .أتخذت يسارها صامتة ،حاملة خيبة األمل ،التى لم
تعد تركب الجمل فى هذا البلد .بينما أنفصل هو عنها متخذا يمينه ليلحق وردية السابعة ورأسه قد
أمتألت بعبارة واحدة " اكرام الحب دفنه " .
0000000000
فى تلك األثناء كان قد وصل خيرى الى موقع جريدة األسكندرية بصحبة " برسوم " حيث األجتماع
المصيرى المرتقب الذى دعا اليه أحد رجال الحركة الكبار بعض المجموعات الثورية المعروفة
باألسكندرية لألطالع على أفكارهم ورؤيتهم للمشهد السياسى المصرى من خالل شعار تم األتفاق عليه
تليفونيا مع أحد الشباب الثوريين " األستراتيجية والتنسيق " .
437
الضجيج كان يقودهما مذهولين حين أقتربا من باب الجريدة بالطابق السابع ،علق خيرى مصدوما :
أيه صوت الفرح اللى جاى من جوه ده ! أجتماع ده والزفة عريس ! .دفعا الباب الموارب ودخال ..
وقف خيرى متجمدا داخل بدلته الرمادى وقميصه األبيض ،بدا فى هيئة سياسى مخضرم ..عيناهما
الترى سوى رؤوس وأجساد تتالصق ..حركة صاخبة وزحام كثيف ،كأنما األرض تنبت بشرا .لحظات
من الصدمة عاشها خيرى متابعا للحشد قبل أن ينطق ذاهال :مين دول يابرسوم ؟ .
ــ دول نشطاء .قالها " كأفييه " فى مسرحية كوميدية ..كانت ثمة مشاعرعارمة تمور فى صدور
الشباب الذين أحتشدوا فى وسط القاعة على هيئة حلقات نقاشية بينما راقب رجال الحركة باشكالهم
وألقابهم العديدة .تطور األمر الذى تحول إلى عصبية ثم إلى ذلك الهتاف بالمطلب الذى ساد وتقدم على
كل المطالب " يسقط يسقط حكم المرشد " .مر خيرى بعينيه يتفقد الوجوه الصارخة قبل أن يقع فى
الخطيئة الكبرى عندما ساقته خطواته للداخل ،سحبه الزحام بقوة الدفع لحظة وقوفه فى المكان الخطأ
والذى أقتاده دون أدنى مقاومة الى عمق دوامة الصخب والصراخ تتقاذفه األكتاف الشبابية وتصم أذنيه
هتافات " الهتيفة " .كاد يتحلل وسط سخونة الشباب حتى عثر عليه وتم أنتشاله بمساعدة األستاذ
" دراز " رئيس الحركة الذى رحب به صارخا كى يسمعه :أهال ياأستاذ خيرى ..أتأخرت ليه ؟ .
ــ أنا موجود من بدرى بس الزحمة بقى .أنهى جملته لحظة وصول " برسوم " الذى أستغل نحافته
وأنزلق من بين األجساد المزروعة فى القاعة حتى نجح فى األفالت بأقل األضرار مستعوضا اللـه فى
تحفته األثرية " البدلة الكحلى " التى أنتهكت ياقتها وأصبحت كجناحى حمامة مع بعض السحجات فى
جيبها األيمن ،إال أنها بشكل عام الزالت متماسكة .ألتصق بخيرى بعدما فرقهما الزحام ..وقف لثوان
ينظم أنفاسه ويربت على صلعته التى أحتقنت وكأنها على وشك األنفجار بينما تفوح منه رائحة عرق
نفاذة ذات نكهة غريبة نتيجة صراعه مع األجسام المعروقة والتى تحتاج لتشخيص محايد لمعرفة
نوعيتها :هل هى رائحة بول مركزة أم أبخرة مجارى طافحة ؟ سحبهما األستاذ " دراز " إلى ركن
خالي مخصصا أصال لماكينة تصوير ومكتب صغير لم تتوفر لهما ميزانية بعد .
ــ هو المفروض أيه اللى حيحصل دلوقتى ؟ سأل خيرى .فأجاب األستاذ :كام شاب من اللى واقفين
دول حيطلعوا على المنصة وكل واحد فيهم حيقول كلمة وبعدها حتقول أنت كلمتك ياخيرى بالنيابة عننا
وبعد كده أجتماع مشترك معاهم نسمع رؤيتهم .
ــ وده أيه اللى جابه كمان .يعتقد أنه حضر بصحبة أحد النشطاء السكندريين " ..تامر " يعتبر من
قادة الحركة الشبابية األحتجاجية فى مصر .جاء تسبقه سيرة ثورية ..
العمل :ناشط احتجاجى ومناضل على النت ،يعمل األن فيما التستطيع أن تحدده ،لكنه ينفق ببذخ .
الهواية :أقتراف التويتات ،أحالمه تنحصر فى وسيلة للظهور والشهرة ،متقلب المزاج ..حاد .قدرته
تتفوق فى مكان واحد ..اللسان الطويل .أصله كان فى سالف العصر واألوان خريج معهد فنى صناعى
من فئة السنتين ،إال أنه تخرج بعد أربع بعدما تم تهديده بالفصل لتجاوزه مرات الرسوب ،فشل فى
الحصول على فرصة عمل فى مصنع للسراميك ،إلتحق بعدها محبطا بكتائب المناضلين على شبكة النت
رافعا سيفا خشبيا بارز به لثالث سنوات متتالية ،يحاول أن يعقد مقارنة عقيمة بما كان يجب ومالم
يحدث ومايجب حدوثه بأعتباره من الجيل الذى حمل الشعلة قبل أن تسقط من أيديهم وكادت تطفئها نعال
األخوان ! هو شاب نضج فى رحم الثورة ،يعاشر السياسة حسب فهمه ومصلحته .كون ائتالفا
من مجموعة نازحين من وسط الدلتا ونصب نفسه زعيما عليهم .أنه واحد من فصيلة هؤالء الذين
يقولون :العسكر اليريدون للكلمة أن تسمع ؟! فما بالك اذا كانت هذه الكلمة نفسها ،تكتب وترص فى
حروف على " الفيس بوك " .هذا الكم من الشباب الذى يقترف العمل المجرم بقوانين العيب وأمن
الوطن ونزوات الشهوة ،ماذا يكون مصيرهم لو أنسحب العسكر من المشهد كما يخططون أو
439
يتآمرون ؟ بالقطع سيكونون لقمة طرية سهلة يمضغها أصحاب اللحى ويلتهمها مجموعات الصارخين :
" تكبير ..اللـه أكبر " .
تقدم المدعو " تامر الجبالى " إلى المنصة الصغيرة ليلقى كلمة بناءا على مناشدة شبابية من داخل
القاعة .قفز ذلك الكائن لموقع الصدارة ..وقف منتصبا ،يداه معقودتان أمامه ،يتجول فى الوجوه
تتلبسه روح الزعيم المخلص ..فك وثاق يديه وأمسك بعدة أوراق مشبوكة بدبوس ،عليها كالم كثير
ليس من بينها عبارات شكر وال ترحيب بالموجودين والحتى مقدمة للموضوع .بدأ ساخنا ..تشنج مع
أول جملة :األخوان بلعو البلد كلها ومصر بقت غنيمة فى أيديهم بيفرقوا خيرها على بعض وكأن مصر
مافيهاش شعب وال فيها حد بيحاسبهم بيضحكو على الغالبة ومستغلين فقرهم ! ماله والفقر وقد أصبح
األن يمتلك سيارة أوتوماتيك فاخرة وألتصق بشقة فى مدينة نصر .
قال فى الواقفون والجالسون الذين ولوا وجوههم شطر سحنته بعدما قرر أن يخفف نبرته ،لكى يعود
إلى القاهرة معاف بحنجرته :أحنا اللى المفروض نحكم البلد دى وندير مؤسساتها بفكرنا الثورى ..
الزم أنتو ..أشار بأصبعه لمجموعة شباب اليزيد سن كبيرهم عن خمسة وعشرون عاما .أردف :تبقو
الطليعة الزم أفكاركم الثورية توصل لكل مؤسسات الدولة بعدما تطهروها من الفساد والمحسوبية حتى
ولو وصل األمر لنسفها وهدها وبعد كده نبنيها أحنا من جديد .أنهى المقطع حين أرتفع صخب الشباب
" ثوار أحرار حنكمل المشوار " .همس األستاذ" دراز" فى أذن برسوم الذى أوشكت عيناه أن تخرجا
ذهوال :ألحق دول عايزين يهدوا البلد وينسفوها .فرفع األخير صوته :دول ثوار وال فرقة أزالة .
بينما أغمض خيرى عينيه يكافح أحباطا أستشرى فى نفسه حين أسترسل الثائر :أحنا عايزين كل حاجة
فى البلد دى تبقى ملك الشعب .ثم صرخ فجأة :قولوا ورايا " العسكر والأخوان ..أحنا شباب مصر
الجدعان " .أرتجت القاعة بالهتاف .مال خيرى ناحية رأس صديقه :مش حأقدر أكمل أكتر من كده ..
ده مولد ياعم .طغى صوت الخطيب على همسهما الذى أستفز برسوم :وبعدين فى الجدع ده اللى عمال
ينعر .لم يعد مجديا أن يسمع شيئا وهذا الثائرموجود كالرضيع ،اليتوقف عن الصراخ .
ــ ياله بينا يابرسوم .لم يبد رأيا ..فجذبه خيرى حتى أستجاب منتهزا فرصة أستغراق األستاذ
" دراز " فى لحظة أندهاش وصدمة مما يحدث ..تسلال بأتجاه باب القاعة ومن خلفهما أنساب صوت
الثائر الذى ودعه برسوم بضحكة محتشمة :ياعم روح غور فى داهية وأنت شبه بوحه الصباحى .
أنفلتا خارج القاعة ومنها إلى الممر الطويل حتى باب الخروج ،أستقبال السلم ،ودون نباطأ أنطلقا
440
نزوال هربا من هوجة الشباب ..ليلة عاصفة خرجا منها برأسين متورمتان بعدما تحولت إلى ليلة
صراخ وعويل ..
دلفا إل ى الشارع كسمكتين فى أشد الحاجة لجرعة أكسجين .سارا ببطء أسوة بمن حولهما ،السيارات
بالكاد تتحرك والمارة كالسائرون نياما وكأنما المشهد كله يعاد بالبطيىء ،فتنكشف التفاصيل وتظهر
العيوب ..وجوه واجمة مستسلمة تسحبها أرجل مرتخية منهكة فى شوارع أعلنت عصيانها على
النظافة واألضاءة بعدما قررت وزارة الكهرباء أظالم المدينة توفيرا للطاقة ،وسار الناس على ضوء
المحالت الخالية من الزبائن التى أصبحت رجس من عمل الشيطان اليقربهما إالصاحب مال أو فضولى .
تأمل خيرى يساره حيث وجه برسوم الذى كان يحبس ضحكا وأستغرابا وربما تذمرا حين سأله :مين
أبن الكلب صاحب الفكرة بتاعة النهاردة ؟ لم يجب مكتفيا بالسير صامتا مستميتا للحفاظ على وجومه
قبل أن تنهار مالمحه على ضحكات متصلة حين أردف خيرى :عمرك سمعت فى الدنيا عن أئتالف
أسمه ياله بينا نغير ..واللى حازز فى نفسى ياأخى ماقالوش حنغير أيه ؟!.
ــ ده لو البسينه أصال .جملة أضفت على وجهه بسمة تمددت لتصبح ضحكة ،تتضخم فتولد قهقهة لها
طعم السخرية المرة .
ــ همه دول شباب اليوم ودى أفكارهم .قالها برسوم مسلما باألمر الواقع واضعا يديه فى جيب بنطلونه
ناظرا لآلرض .
" مازال الخطأ " يتورم مثل سرطان الثدى " .
ــ العينة اللى أحنا شفناها من شوية دى مش ممكن تكون بتمثل كل الشباب وال جيل الثورة وال حتى أى
جيل ..دول بيمثلوا على نفسهم وعلينا ياأما مش فاهمين حاجة ودى تبقى مصيبة كبيرة .
ــ أكيد همه مش فاهمين والدليل أن مافيش حد منهم قال جملة واحدة توضح هى أيه الخطوة الجاية
اللى ناوين يعملوها .
ــ الحمد للـه يابرسوم أنى ماطلعتش قلت كلمتى ماكانتش حتمشى أبدا مع الجو ده .
441
ــ كنت مجهز تقول أيه ياخيرى .سحب األخير ورقة مطوية من جيب " الجاكيت " ناولها لبرسوم الذى
فردها كمنشور ،إال أنه أجل قراءتها حين عبرا الشارع للجهة المقابلة متخطين " ترام " شارع
بورسعيد حيث الجانب األخر المضيىء نظرا لوجود نقطة شرطة األبراهيمية على مسافة مائة متر .قرا
برسوم بصوت عالى :بسم اللـه الرحمن الرحيم .قاطعة خيرى :أبدأ من نص الصفحة من عند كلمة
" األخوان " .مشى بعينيه على الورقة حتى عثر عليها .ثم قرأ " األخوان " ..هذه الفئة الترى
السلطة غيرها ،ضئيلة العدد لكنها قوية التأثير ،وهو عزف نشاذ على وتر مشدود ،فليس معقوال أبدا
أن تفقد كل طبقات الشعب قدرتها وتسلم رقابها وتضع نفسها تحت وصاية تلك الفئة القليلة تشكل لها
تحركاتها ،وتقودها وتسييرها ..اللحظة األن هى تصفية حسابات قديمة ،وأستدعاء لشخوص طواها
النسيان لينسب اليها كل فعل وتحرك أفضى الى ثورة يناير ،ولتسرق بأدعاء "الثورة أرادة الجماهير"
وتقف ضد رغبة القاعدة العريضة .وتوجهاتها التى اليمكن أن تكون حسب التوصيف األخوانى اال مع
" األخوان هو الحل " وهؤالء الذين يجتمعون اليوم ،لتحريك الماء الراكد ،وأحداث فعل ما ،هم حقا
فئة قليلة ،لكنها نشطة ،هم شباب ،تعيب عليهم السلطة ،أنهم يفكرون ويقرنون الفكر بالحركة .وقد
عمدت تلك السلطة األخوانية منذ جاء خليفتهم ليتربع " أن تغسل عقول المصريين " .أنهى برسوم
القراءة وضحك على الجملة األخيرة ،لم يدرك لم ؟ لكنها لم تكن سخرية .
ــ اللـه على كالمك ياخيرى ..كان عندك حق ماكانش ينفع تقول الكلمتين دول فى السيرك اللى كنا
فيه .ثم رفع عينيه إلى وجه صديقه السائر متأمال :سيبك دلوقتى من المصريين اللى األخوان عايزين
يغسلولهم عقولهم وقولى عامل أيه مع اللى غسلت عقلك ولحست دماغك .شعور بالتعاسة مأله حين
هم بالكالم :واللـه يابرسوم مش عامل حاجة ،وال أصال فاهم حاجة والحتى عارف هى هدى عايزة أيه
بالظبط ،كل حاجة بقت غامضة ومعقدة ..بنتها نورا بتتصرف معاها تصرفات غريبة ومش مريحة
وماحدش قادر يوقفها عند حدها .
ــ حتى أبنى شريف كمان مابقتش فاهم هو عايز أيه .أرسل له نظرة أستغراب :يعنى كل دول أنت مش
فاهمهم والعارف همه عايزين أيه ..مش يمكن العكس هو الصحيح وتطلع أنت اللى مش واخد بالك .
ــ أكيد أل يابرسوم عشان أنا على األقل واضح مع نفسى وواخد قرارى من البداية ومقتنع باللى أنا
عايزه ..المشكلة مش عندى المشكلة عندهم همه .
442
ــ تقصد أيه ؟ .
ــ أنا متأكد أن هدى بتحبنى لكن فى نفس الوقت فكرة الجواز مش داخلة دماغها مع أن كل الظروف
اللى حواليها بتقولها أتجوزى النهاردة قبل بكره ..كمان بنتها نورا بقت عاملة زى اللغز ماحدش فاهم
هى بتفكر فى أيه وال ناوية على أيه حتى شريف أبنى كمان مابقتش عارف هو عايز أيه بالظبط ،كالمه
معايا بيقول أنه ماعندهوش مانع فى حكاية جوازى بهدى لكن ..سكت حائرا قبل أن يبادره برسوم :
لكن أيه ؟ .
ــ تحس كده فى نبرته وفى شكله أنه مش راضى وال موافق من أصله .
ــ بصراحة أنا بطلت أفسر وأحلل ..تعبت وأرفت وزهقت .
ــ الصبر ياخيرى .قالها ممدودة .مشى بخطوات متثاقلة يبحث عن كلمة أو مصطلح يلخص بها
أحساسه :هو عاد فى صبر للصبر ..أنا جبت أخرى وبقيت مش قادر ومحتاج هدى أوى فى حياتى .
قالها بلهفة رجل نباتى أرهقه فراق اللحمة .لم يبلغا ناصية شارع شامبليون إال مع بشاير العاشرة
مساءا .لكزه برسوم فى جنبه لينتزعه من حالة السرحان :أنا حأتكل على اللـه وبكره يحلها ألف حالل
.ودعه خيرى بلغة األشارة محتفظا بشروده الذى قاده حتى مدخل البيت .
فى تلك األثناء أحتمت نورا بغرفتها منذ ساعة ،أثار لقاءها العاصف بشريف الزال نابضا يتفاعل بشدة
بالرغم من هدوئها الظاهرى البادى فى مالمحها وعلى جسدها المسجى على السرير .لم تدر أنها ظلت
ساكنة فى مكانها ،شاخصة إلى السقف ،كأنه فيلم تسجيلى تتابع من خالله مشاهد ومواقف من حياتها
بترتيب ممل وكأنها تخشى أن يفلت منها مشهدا ،فتبدو غير مبررة ،لكن مقبض الباب الذى أدارته
بسمة ودخولها بالصخب المعتاد أنتشلها من متابعة المشاهد التى النهاية لها ..نواهى نورا تقضى
بأالضوضاء والتهريج لحظات سكونها ،ومع هذا فهما األمران األكثر شيوعا ـ بحكم المخالفة ـ لدى
بسمة .
ــ مالك يانورا ..مش عوايدك يعنى تيجى من بره وماتغيريش هدومك .
443
ــ مصدعة شوية .قالتها مسلوبة الوعى .همت بسمة أن تستفسر ،نهرتها :بقولك مصدعة يعنى
مش قادرة أتكلم والعايزة اسمع حاجة .تلك العبارة ترتبط فى ذهن بسمة عن وجود أزمة أو حالة من
التركيز لخطوة قادمة .
ــ طب ممكن آجى جنبك على السرير أنام ومش حتسمعيلى صوت .قالتها بمسكنة تماشيا لردة فعل
غير محسوبة من أختها التى أغمضت عينيها بتعب :أطفى النور وتعالى ننام .
مع ظالم الغرفة أستعادت نورا دقائق اللقاء .أنقضت ساعة وعيناها مفتوحتان .كانت مواجع الليل من
اللقاء الصعب تتزايد .كان السؤال لحوحا على رأسها :هل من المفيد تأجيل خطوتها األخيرة من
خطتها ؟ أم التعجيل بها ؟ يبدو الجزء األخير من السؤال هو األقرب للتنفيذ ..كان عليها أن تحسم األمر
قبل أن تنفلت األوضاع وتتعقد .لكنها لم تسمح لهواجس النفس أن تقودها للتراجع عن خطتها .أبت أن
تكون هى ـ األن ـ المفعول بها ،بل أرادت الفعل كما أعتادت فأقنعت عقلها بأن شريف لن يجرؤ على
األقدام على خطوة السفر التى هدد بها ،هى على ثقة تامة بأن حبل الحب الذى تقيد به عنقه الزال
طرفه فى يدها ،وعليه قررت انهاء الصراع مع أمها بالضربة القاضية تلبية لرغبة محمومة تحت
عنوان " قضمه أحسن من نحته " .بدلت تكتيكها من وضعية التمهل وسياسة الخطوة خطوة إلى حسم
الموقف بمواجهة صارمة .لم يعد الوقت فى صالحها .ثم بدأت عدا عكسيا ،لتكون ساعة الصفر ..
عصر الغد .إال أنها لم تنم ،شعرت بها بسمة ..سألتها :أنتى لسه صاحية يانورا ؟ أستدارت ناحيتها
تطوقها بذراعيها ولم تجب .ثم همهمت :إن شاء اللـه بكره كل حاجة حتعدى .
ــ ماتشغليش بالك ونامى .قالتها وأرخت جفنيها على التمنى .
00000000000
فى تمام الرابعة من اليوم التالى كانت نورا قد أنهت فترتها األول فى األتيليه .وصلت الشقة والتزال
أصداء العصر تتردد ..دخلت والنية معقودة وفى كامل جاهزيتها متمنية نهاية سعيدة فى وقت وجيز.
444
أغلقت الباب خلفها وخطت أول متر فى الصالة ثم توقفت حين لمحت أمها فى األنتريه .تبادال نظرات
خاطفة ..بينما شعرت هدى بهاجس قلق لم تعهده من قبل ـ بدأ ـ منذ وهلته األولى كبيرا ،يكبر
ويتصاعد كلما أقتربت منها نورا التى واصلت طريقها إلى كنبة األنتريه حيث تقطن هدى التى خرجت
من محبسها منذ نصف ساعة التماسا لساعة تريض .توقفت أمامها لتفرغ مافى صدرها بعدما قررت
تطبيق نظرية الهجوم الخاطف :أيه الحكاية بقى ياماما حتفضلى على الحال ده كتير وال أيه..من أوضتك
للصالة ومن الصالة لألوضة والحكاية يعنى مش مستاهلة كل الغم ده .رفعت عينيها بنظرة مبتورة لم
يصل مداها للوجه المتحفز .زفرت فى عبوس :هو الكده عاجب والكده عاجب .
ــ أيوه ياماما الحال ده مايعجبش حد .قالتها وجلست بجانبها بينما لم تعلق هدى واكتفت بالنظر فى
أتجاه معاكس متعمدة الالمباالة بينما تأهبت نورا لتوجيه الفكرة التى تستحوذ على شعورها إلى الوجهة
الصحيحة .أ ردفت :ممكن ياماما نتكلم مع بعض بصراحة .أشاحت بوجهها معلنة من وجود شرخ لم
يلتئم .أغمضت عينيها ظنا منها أنها أمام جملة أعتذار أو عبارة ترضية :عايزة منى أيه يانورا ؟
صمتت األخيرة للحظات تتخير مفردات العبارة القادمة وشكل النبرة حين طرحت سؤاال مباشرا :أنتى
وعمو خيرى حتتجوزوا أمتى ؟ لم تصدق نفسها حين أخترق السؤال رأسها ،أعربت مالمحها عن
صدمة فاقت كل توقعاتها :أيه الكالم الفارغ اللى أنتى بتقوليه ده .
ــ اللى أنتى سمعتيه ياماما .أقتربت منها بوجه منزعج :أنتى أكيد أتجننتى ومش عارفة بتقولى أيه .
أستقبلت غضب أمها بنبرة تحد أطلقتها من بين أضراسها مشحونة بأصرار اللحظة :اللى بأقوله ده
مش جنان وال كالم فارغ ومافيش حاجة بتستخبى ياماما أحنا كلنا عارفين اللى بينك وبين عمو خيرى
وماتحاوليش تعيشى فى دور الصدمة وكأنى قلت حاجة غريبة أو أتهمتك بتهمة وحشة .تحولت هدى
لكتلة من الفزع .بهتت حتى صار لونها رماديا مكتفية برفع كتفيها والتطلع ألبنتها بجزع :أنا مش
مصدقة نفسى من اللى بأسمعه ده ..أنتى عايزة منى أيه بالظبط ..ماتسيبينى بقى فى حالى .
ــ مافيش حاجة أسمها أسيبك فى حالك وتسيبينا فى حالنا أحنا كلنا عايشين فى بيت واحد ومربوطين
ببعض يعنى أى حاجة بتحصل لحد فينا بتأثر علينا كلنا .رجعت هدى للوراء بعدما شدت ظهرها فى
مقعدها وبدا فى هيئتها مايوحى أنها تتمسك بالصبر ،إال أن هذا التعبير معرض للزوال بفعل أستفزاز
نورا ،فأنقطعت عنها الكلمات إال من همهمات المعنى لها بينما لم تفقد نورا طاقتها من الغضب :لما
أنتى بتحبيه مش عايزة تتجوزيه ليه ..أدينى سبب واحد .هزها المعنى وأستكانت للذهول الذى أفقدها
445
التوازن فأستغلت نورا حالة التوهان :لو سمحتى ياماما أحنا مش ناقصين فضايح وياريت بقى تنجزى
وتخلصى نفسك وتخلصينا .
ــ أنتى قليلة األدب ومش محترمة والزم تعرفى ان اللى قاعدة قدامك دى تبقى أمك مش واحدة من
الشارع وآلخر مرة بأحذرك خدى بالك من كالمك وأبعدى عنى .قالتها صارخة بجسد يرتعش .
ــ أنا مش قليلة األدب وأنتى عارفة كده كويس وأنا اللى بأقولك ياماما ألخر مرة مش حأسمح لك
تحطمينا مرة تانية ومافيش حل قدامك غير أنك توافقى على الجواز من عمو خيرى وده أخر كالم
عندى .قالتها وتراجعت للخلف لحظة مغادرة هدى مقعدها واقفة ،وبحركة ال أرادية تصفع خد نورا
األيمن صفعة حارة مازال لهيبها مشعا على بشرتها التى أنكمشت تزامنا مع خروج بسمة ويوسف من
غرفتيهما مذعورين ..وقفا صامتين يتابعان بحياد مشهد نورا وهى تضع كفها على خدها تدارى
بصمات األصابع التى حفرت لها مكانا وقضت على أتفاقية سالم غير معلنة .
ــ آخر حاجة حأقولهلك ياأما تتجوزى وتريحى نفسك وتريحينا ياتسيبينا وتبعدى عننا .بدتكمالو كانت
تفرغ شحنة مكبوتة .بينما ماسمعته أمها جعلها تدرك انها بصدد مساومة أو فى وضعية سطو لفرض
أتاوة ..بدت كالرهينة .البد لها من سداد الفدية .كتمت أندهاشها وأشاحت بوجهها ناحية يوسف
تتلمس فى وجهه وقع الكلمات .لم تقرأ أى تعبير فأنتقلت لبسمة التى لم ترفع عينيها .أحساس دفين
يشعرها بالذنب إال أن صوتها خرج مشفقا بهذا السؤال كأنه حصاد بين الخجل والفضول :أيه اللى
وصل األمور للدرجة دى ؟ لم تعلق ..دارت عيناها تعيدان النظر فى وجه نورا وكأنها تتثبت بأن كل
مايحدث ليس لقطة فى حلم .طالت نظرتها وهى تستعيد ماسمعته ..كررته بنبرة هزيلة :يعنى ياأتجوز
خيرى ياأسيبكو فى حالكو .أنهت جملتها وتبدلت مالمحها ونفضت الذهول ،فاتت على أبنتها بنظرة
حادة :حاضر يانورا حأسيبكو فى حالكو ..حأسيبكو خالص .سحبت نفسها ببطء وأتجهت إلى غرفتها.
ساد صمت كئيب فى الصالة .همدت نورا على كنبة األنتريه ولم تهمد مالمحها التى الزالت منفعلة بينما
يوسف وبسمة أظهرا قلة حيلة وسط مشاعر خوف وقلق وأختبأ الجميع خلف الصمت والترقب ولم
يتطوع أحدا منهم فى الرد على أيات التى خرجت بصحبة نعمة تستفسر :فى أيه ياوالد ..صوتكم عالى
ليه ؟ لم تجد منصتا ولم تحصل على رد .
446
دخلت هدى غرفتها بنفسية محطمة وعلى وشك األنهيار ،تداوى جراحا ال تتداوى .تراخت على
السرير هشة األعضاء .تمنت أن تصرخ ..تستغيث ..تنادى .اللسان معقود والصوت أخرس .إذا
صرخت فعلى من تنادى ..ال منقذ لها وال معين .لم تملك سوى األحتجاج بكاءا ! .
تماسكت ..جلست نصف جلسة .لم يكن ذلك وقت التراجع .قامت إلى دوالبها وهى تحمل قرارا .هى
التريد أن تكون ـ من جديد ـ مسمارا فى مركب قد يتسرب اليه الماء فى أية لحظة .فتحت ضلفته ،مدت
يدها إلى قاعه وسحبت حقيبتها السوداء ..أندلعت فى نفسها كل الهواجس والذكريات حين أخرجتها من
مرقدها ..حملتها كمن يحمل أثما بين يديه ،هى رفيقة الكفاح ..جلدها األسود العتيق يحمل تواريخا ..
تاريخ دخولها السجن وتاريخ خروجها .واليوم أيضا ستسجل تاريخا ،لكنها لم تقرر بعد ماسيكتب
بجواره .أرتجفت وهى تنفذ قرارها .بعصبية وتوتر مضت تلبس ..شعرت برهبة تجتاحها .نظرت فى
المرأة بعد أن أتمت لبسها ..تأملت نفسها طويال ..
فى الخارج كان الجو مكتوما ..مرت ربع ساعة بأيقاع بطيىء ،لم تقال خاللها سوى جملتين أو ثالث
على أستحياء كانت كلها من نصيب نورا على سبيل التوضيح ومن يعدها دان صمت حذر لم يقطعه
سوى صوت " أيات " التى أشارت ليوسف :أدخل شوف مامتك وحاول تهدى األمور .هز رأسه
موافقا بعد ماحصل على تصريح من عينى نورا .دخل غرفتها مترددا بعد طرقتين ..كتم أنفاسه
وفضحته الدهشة حين وجدها أمام الدوالب مرتدية مالبس الخروج وبجوارها ترقد الحقيبة مفتوحة على
مصراعيها وقد أمتألت حتى نصفها بمالبس مرصوصة فوق بعضها .
ــ أيه اللى بتعمليه ده ياماما .قالها حين أقترب منها .تابعت سحب مالبسها من رف الدوالب وكأن
السؤال اليخصها .
ــ ماتردى على ياماما .قالها متوسال بينما أشاحت بوجهها متابعة غلق حقيبتها بصرامة .فألح :
ماتفهمينى أيه اللى بتعمليه ده ..أرجوكى ردى على .
447
ــ عشان ..عشان ماينفعش ..ده بيتك ياماما وزى ماأنتى محتاجة لنا أحنا كمان محتاجينلك .قالها
وهو يحتجزها بجسده .
ــ متأكد يايوسف أنكم محتاجينلى .قالتها ساخرة إال أنهاأيضا شعرت براحة لكلماته ،وبدا لها أن
ضمير البراءة يتحدث اليها .تطلعت إلى عينيه :ماتضحكش على نفسك يايوسف ، ،أنا وال حاجة
بالنسبة لكو ..أنتو محتاجين ألم بجد مش أم تقليد ..أم تكون عاشت معاكو لحظة بلحظة ويوم بيوم
وشافتكو قدام عينيها وأنتو بتكبروا ..أكلت معاكو وشربت معاكو وشاركتكم فى فرحكو وحزنكو وتعبت
عشانكم وأشتغلت وصرفت على تعليمكم لغاية ماأنت أتخرجت وبقيت مهندس أد الدنيا وأختك قدامها
سنة وال أتنين وتحصلك .سكتت ..أخمدت أحباطها فى نظرة متأكلة ثم أردفت باكية :كل الحاجات دى
أنا ماعشتهاش معاكم أتحرمت منها ..سمعت بيها لما كنتم بتيجوا تزورونى فى السجن ..أمك الحقيقية
يايوسف مش موجودة هنا فى األوضة ..أمك قاعدة برة فى الصالة ...هى األحق منى .
ــ مافيش حد فى الدنيا يقدر يستغنى عن أمه .أدمعت عينيه وقبلها من جبينها ،غير أنه أدرك أن
تعاطفه معها قد ورطه فى موقف اليحتمل غير األنسحاب .خرج من غرفتها كما خرجت تتبعه وهى
تحمل حقيبتها .سارت خلفه تضغط بحذائها على أصابع قدميها .أنحرف يوسف يسارا حيث يجلس
الجميع بينما هدى قطعت الصالة بأتجاه باب الشقه تتخبط بحقيبتها تتحاشى النظر فى الوجوه التى
أنتفضت وقوفا من هول المفاجأة .أندفعت بسمة خلفها حتى أصبحت تحاذيها قبل أن تسبقها وتسد
الباب بجسدها :رايحة فين ياماما .
ــ سبينى يابسمة وأبعدى عن طريقى .قالتها وهى على وشك األنفجار .
ــ مش حأسيبك ياماما تخرجى .قررت أسكاتها بصرخة :ماحدش له دعوة بيه .لم يعد لديها القدرة
على التراجع بينما تسابقت نورا نحوها وألقت عليها جملة من خلفها :يعنى أيه ماحدش له دعوة بيكى
..تجاوزت مرحلة الصبر حين أنفجرت بهيستيرية :أنا خالص ماليش مكان هنا ،كملو حياتكو مع
بعض أنا رايحة للشبهى الللى عاشرتنى فى السجن وكانت أحن على منكو .أصيبوا بشلل مؤقت منعهم
من الحركة ولم يعلق أحدا منهم بالقبول أو الرفض وكأنهم أتفقوا فيما بينهم على عزلها .أخافها الهياج
فتراجعت خطوة للوراء وأنصاعت بسمة أيضا لنفس المخاوف فأفسحت لها طريقا للخروج بعدما أدركت
حجم المشكلة .لم يكن للكالم قيمة أو للبكاء معنى ..مدت هدى يدها تفتح الباب بسرعة كأنها تنتزعه .
448
كان خروجها ضربة غير منتظرة خرست بعدها كل األسئلة واألجوبة ..بقيت أيات فى مكانها ونعمة
راقدة عند قدميها فى وضع جارية األميرة ..تراقصت أمام أيات أطياف شخوص ،عادت تنبض للحياة
من جديد آتية من زمن بدا أنه موغل فى القدم .فتذكرت أنها عاشت هذه اللحظة من قبل حين خرجت
من بيت الزوجية جريحة تحمل حقيبتها وورقة طالقها .صورة معادة تقدمت فى مخيلتها على كل
المشاهد الحية ،مثل هذا تماما كان يحدث فى زمان تراه اآلن بعيدا .هذه اللحظة الكئيبة اليمكن أن
تمحى من لوح ذاكرتها .ألتصق الجميع فى أماكنهم ساهمين بفعل الصدمة بينما نورا هى الوحيدة التى
تحمل جسدا يتحرك ..ذهابا وأيابا ،وصدى خطواتها الثقيلة يتردد فى الصالة الصامتة .كانت تشعر
شعورا غريزيا أن شيئا أنزاح وأنتهى ظاهريا .إال أنه فى حقيقة األمر قد يبدأ من جديد .
خرجت هدى من باب الشقة تسير بخطى مترنحة مثل سفينة بال قاع .أمام باب المصعد وقفت وسط
فوضاها األنفعالية وفى رأسها ضباب وفوران ،صور من أفكار وكلمات محشورة فوق لسان ملتصق
بسقف حنكها .هى األن بأمس الحاجة لخيرى ..كى يبدد حزنها .قررت فجأة أن تتجه لباب شقته ..
أستدارت وأندفعت دون تخطيط .ظل رنين الباب يلح حتى رضخ خيرى وقام من مكانه تاركا خلفه
الرئيس " مرسى" يصدح على الفضائية المصرية موجها خطابا شامال لآلمة المصرية من دون
مناسبة .أتجه ناحية الباب قبل أن يضع " الروب " على بيجامته ـ تقليد أحتفظ به منذ اليوم األول
لزواجه من سميحة هانم ـ سار يردد اللعنات وهو يقترب من الباب :بقالى ساعة بأسمع مرسى
مافهمتش منه حاجة وأول ما بدأت أفهم الجرس يرن ! عندما رفعت أصبعها من فوق الجرس أنفرج
أمامها الباب ..أستقبلها خيرى بوجه مدهوش وفمه الفاغر محشو باألسئلة .لم تتريث أمام الباب .لم
تسأل نفسها أن كانت تمتلك حق الدخول دون استئذان .وقبل أن تستقر خطواتها المترددة بالداخل
بادرها فى لهجة مندهشة وهو ينظر الى الحقيبة :فى أيه ياهدى ..أيه اللى حصل ؟ لم تجب ..سرح
لحظة فى منظرها بعد أن أغلق الباب بينما كانت قدماها تسبقانه الى الداخل عبر صالة لم تكن تعرف
مكوناتها .كان الضوء خافتا ورائحة الدخان تمأل المكان .نظر لها كأنه يرى وجهها ألول مرة ..أنفلتت
من جواره ورميت جسدها على أول كرسى .لمح فوق وجهها عالمات األنفعال .أدرك أن الشجار
المعهود قد وقع بينها وبين نورا .شغل نفسه للحظات بأنتقاء الكلمات لتوجيه أسئلته حين جلس
أمامها :أحكيلى براحة أيه اللى حصل ؟ سؤال فتح عليه فوهة بركان من بكاء هيستيرى .مد صدره
إليها وتزحزح لحافة كرسيه ،راح يهدىء من روعها بمالمسات رقيقة :أهدى شوية وفهمينى
الحكاية ؟ .أ ختنقت لربع ساعة كاملة ،وهى الفترة التى أستنفزت فيها كل طاقتها ..أفرجت عما فى
449
صدرها وكأنها تردم بركانا يغلى ..كبحت دموعها أكثر من مرة ،لكنها فشلت مرات ..مزق صوتها
المبحوح تماسكه .عرض عليها التدخل والوصول الى حل توافقى مع نورا ،إال أنها رفضت بشدة هذا
العرض كما رفضت التراجع عن فكرة ترك المنزل بالرغم من تحفظه الشديد عن نيتها فى الذهاب
لفايزة .أقترح عليها مشروبا مهدئا كى يجدد محاوالته فى أقناعها ،أبتعد للمطبخ يصنع لها الليمون
بينما بقيت فى مكانها تسند ذقنها الى كفها وحقيبتها بجوار قدمها وكأنها فى محطة مصر تنتظر قطارا .
لحظات وقدم لها الليمون ،رشفت رشفتين ،نزع الكوب الذى تحتضنه بأصابعها .جذبها من يدها .
فوقفت .أصابتها رعشة تكاد تفضحها .حاولت أن تفلتها ،أحس نعومتها فأستنفر ! .تذكر أنه لم يلمس
امرأة منذ وفاة زوجته ..طاوعته ،ضمها الى صدره ،لف ذراعيه حول كتفيها ،أحتواها بحنان ثم فى
عنف .أستكانت ..كان يشعر أنه يروى أرضا أنهكها الجفاف ..نقل اليها احساسا مريحا ،لعلها
تستطيع أن تفض ذلك األشتباك الذى قام بين األيام التى مضت وحاضرها الذى ضاعت منه مالمح
المستقبل .دلكت أنفها فى صدره ..ظلت صامدة ..نظر لها وكأنه ينصت لكل أحزانها .فأنساب الكالم
بينهما بال حوار .رأته ..قرأت فى عينيه نداء أو حست به يعبث بخلقتها دون أن تبدى رفضا أو قبوال ،
كأنها بصمتها تدعوه ليزيد من زحفه الذى بدأه بطيئا .فواصل زحفه ولم يترك حيزا فى وجهها وهوكل
ماأتاحه الحجاب دون أن يضع عليه بصمة شفتيه .وحين شعر بأصابعها تالمس شعر رأسه ..عرف
أن قدميه قد وطأت أرضها وأن رايتها البيضاء قد رفعت ..نعم أعلنت أستسالمها له فى كلمات خجولة :
بالش ياخيرى بالش .وشوشت بها فى أذنه حتى التخطىء طريقها الى أعماقه ..تشبثت بصدره
أختلطت دموعها بقبالته وهو يأكل بشفتيه وجها مستسلما مثل وحش أنفك قيده .أنها البداية ،قال فى
نفسه ،دون أن يكون له تصور لشكل النهاية .أنهار جسدها الذى أكلته سنوات الحرمان فى أول
محاولة حقيقية لألختبار .تناول خصرها بذراعه فألتصقت به أكثر .قادها نحو غرفته ودخل بها ،
فأنسحبت ألول مرة روح" سميحة " الى حيث مكان عظامها ..تأمل صمتها وتحسس عذابه ..سحبها
من يدها فسارت معه بال عقل ..دقق فيها كأنه يقيس المسافة بين الرغبة وبين الرفض ..هربت إليه
بينما تنطلق من جسده كل الوحوش .لم تعد النظرات وحدها هى جواز المرور إلى مملكتها ..تعددت
أختياراته حين طرحها على الفراش ..جند كل أشياءه فى أتجاهها تأملت مالمحه ،تعد نفسها للحظة
التسليم .
شعرت به مثل أسد جائع يبحث عن قطعة لحم اليعرف مكانها وهى التملك غير هذا الجسد الذى أنهكه
الحرمان وهذه النفس المضطربة .أنفاسه تتالحق فوق تفاصيل جسدها كأنه يفتش عن كل شهوة ..لم
450
تقاومه تركته ينزع حجابها ثم بلوزتها ثم ..ثم ..ويعبث بكل األشياء التى ماتت بينما تتحسس ضعفها
أمام نموذج رجولى رائع والتى التملك اال أن تفتح له صدرها وقلبها وساقيها ليحتل أى مسافة يراها
مناسبة ،فأختصر المسافات حين حاصرها بين يديه ومد فيها مايحسبه قد مات ! سار فى طريقه عابرا
الضفتين ..حولها فى لحظة الى كتلة لحم ملتهبة .كان أستسالما غير مشروط ..أنفجر اليأس فى
جسديهما فغاصا فى هوس الحدود له .حصل كل ذلك فى دقائق قليلة ،وكما لو أنها فى حلم ،تجرى
فيه األحداث بال زمان .
ــ بحبك أوى ياهدى .قالها بصوت من يعترف بذنب لم يفطن له اال بعد فوات األوان ! لم ترد .شعرت
بالمكان يضيق بها كأنها فى قبر .بدا أنهيارها الى أخر أطرافها .قررت أن تبقى فى السرير للحظات
حتى تزيل عنها أثار الخطيئة .أرتدت مالبسها فى صمت ..حملت بقيتها الباقية وأنسحبت من الغرفة
طاوية طرحتها على صدرها ،لم يكن أمامها اال أن تحمل حقيبتها وماتبقى منها .أتجهت الى الباب
وصوت خيرى يالحقها :أستنى ياهدى حألبس وآجى معاكى أوصلك .تدافعت خطواتها فى الصالة كأنها
تتدحرج من فوق جبل الى سفحه .رحلت بعدما ترك فيها ماالينسى ..شعرت بنفسها أمرأة مستباحة من
يمد يده يأخذ مايشاء ! .
هى األن األنثى الطريدة .يطاردها الماضى بلعنة السجن ويطاردها الحاضر بلعنة الضعف والتفريط ..لم
يعد من فرق بين الماضى والحاضر فكالهما وجه اخر للعقاب .
فى نفس الوقت لم يتغير المشهد فى شقة هدى ..الزال الجميع محبوسين فى أماكنهم بالصالة ،
اليدركون كم مر من الزمن عليهم وهم فى خرس قبل أن تفارقهم نورا التى دخلت الى حجرتها وأغلقت
على نفسها ..هوت على السرير ..بقيت للحظات ممددة على بطنها تحاول أن تبكى ،لكنها لم تبك رغم
تحفيزها للدمع .
بين ما فى تلك اللحظة أجتازت هدى المدخل بحقيبتها .أستقبلت طريقها بشعور أمرأة مهدمة .قررت
أال تلتفت قبل أن تتخشب فى وقفتها على الرصيف .بعبارة تتوتر باألنفعال قالت حين أقترب منها
تاكسى :كرموز ياأسطى .
451
ــ حأخد عشرين جنيه .قالها مهددا .ركبت مغادرة شارع شامبليون ،خمس دقائق وبدت الناس تتضح
صورهم ويبدو لهم مالمح حين أنزاحت الدموع من عينيها ،بدأت تتسمع لصوت الناس والسيارات
يتصاعد حولها متأنيا حتى أصبح ضجيجا بعد مرور نصف ساعة حين أقتربت من حى العطارين ،تطور
الضجيج الى طنين ،ثم الى أصوات تصرخ بملء حناجرها حين باتت على حدود كرموز .
سحبت شنطتها وهبطت من التاكسى فى شارع كرموز العمومى .الطريق الى بيت فايزة مفتوح األحشاء
عن برك مياه وبالوعات بال أغطية ،عليها أن تستخدم طاقتها القديمة وعضالت المشى .الحوارى
تلتوى وتتشابك أمامها كعالمات أستفهام .كانت تمضى والبيوت التى وصفتها فايزة بالقبح تتضح اكثر .
ظهرت لها عند أول الحارة عتبات بيوت كثيرة ،عتبات عتيقة داست فوقها أقدام أجيال وأجيال ،كل
عتبة تحمل أسم صاحبه ،لذلك فالوصول لفايزة سهل ،يكفى أسم من تريد حتى يضعك أول من تسأله
على العتبة .أرتقت درجات السلم ترفعها الى الطابق الثالث .طرقات خافتة متوجسة على الباب ثم رنت
الجرس ..قامت فايزة مفزوعة من أغماءة العصر ،خرجت من غرفتها يقودها صدر ضخم كمقدمة
مركب تشق الطرقة ومنها للصالة تحجل على قدم واحدة فاألخرى عارية بال شبشب .فتحت لتفاجأ بمن
تسند رأسها على حافة الباب التقوى على الوقوف .طلت برأسها ثم خطت خطوة لألمام تدقق فى
الواقفة أمامها .
ــ نعم ..أنتى مين ؟ عدلت من بوصلة وجهها ،وضعته أمام عينى فايزة مدعوما بنظرة فرح واهنة
وأبتسامة مكسورة ،بعد عملية فحص لم تدم أكثر من نصف دقيقة رفعت فيها فايزة كل المقاسات
وأمعنت فى المالمح حتى نجحت فى كشف هوية المنهارة أمامها ،هيستيريا هائلة عصفت بمالمحها
وألهبت وجهها بعاطفة سرت فى بدنها كله .لم تتماسك حين تخطى صوتها حدود السلم معلنا عن
صيحة فرح عنيفة :هدى ..مش ممكن .
لحظة واحدة كانت كافية لتسجل فايزة رقما جديدا فى زمن الوثبة حين خطفت هدى وحقيبتها فى صدرها
تعتصرها فى لهفة وتطبع على خديها قبالت يصعب حصرها أو عدها ،صارت هدى فى صدرها عجينة
لينة قبل أن تسحب جثتها للداخل :واللــه العظيم أنا ما صدقة عينيه ..هدى حبيبتى وروح قلبى عندى
هنا فى البيت .قالت جملتها وأنقضت ثانية على هدى التى استسلمت وتركت لها خديها تستقبل قبالت
محمومة ،ثم فكت أسرها قبل أن تعاود هزها بعنف :أشتمينى ياهدى وبهدلينى زى زمان عشان أصدق
أنك واقفة قدامى .أنتزعت ضحكة من وسط ركام األحزان :وحشتينى يافايزة ياعكننة .فتحت بجملتها
452
بابا لعناقا مؤثرا صاحبه نوبة بكاء أختلطت فيها نعومته بحدته ..مرارته بفرحه قبل أن يرتفع أنينه
ويطول زمنه ،بينما يتابع عبده بذهول متربعا بجلبابه وطاقيته فوق كنبة الصالةقبل ان يخرج عليهما
بمالمح رجل معتوه غير مصدق مايحدث ..أقترب منهما ودار حولهما حتى أنتبهت هدى وتوقفت عن
البكاء .سحبت نفسها من صدر فايزة :أزيك يامعلم عبده ..أخبارك أيه .قالتها وهى تمسح دموعها .
ــ ربنا يخليكى ياست .تاه فى وجهها متفحصا .أردف :متهيألى الخلقة دى مرت علي قبل كده .
ــ دى مش من الخلق الوسخة اللى أنت تعرفها .قالتها فايزة بأرف قبل أن تعود بأبتسامة :دى هدى
حبيبتى وأختى وصاحبتى كانت أسيرة معايا فى السجن وطلعنا سوا عفو .ناول جبهته كفا أفزع به
هدى :أيوه ..أيوه ماتأخذنيش ياست هدى أنتو فى السجن بتبقوا كلكو شبه بعض البسين أبيض فى
أبيض زى اللى واقفين على جبل عرفات .
ــ عقبال ماتقف كده زينا بس على جبل تكسر فيه حجارة وأنت البس أزرق فى أزرق .ثم أنهت عبارتها
بجملة صارمة :خالص ياخويا روح أتكل على اللـه أعملنا أتنين قهوة .
ــ صح يامعلم .قالتها وأستوت على كرسى فى الصالة بينما تربعت فايزة أمامها على الكنبة وقد أنحسر
ثوبها عن ساقيها حين راقبتها من خالل لهفة السؤال الصامت عندما نظرت لحقيبتها السوداء .إال أن
عتابا متبادال دار بينهما عن سبب البعاد الذى أفردت له هدى دفاعا واهيا :أتلخمت واللـه يافايزة فى
مشاكل كتيرة مع والدى وكمان أشتغلت فى أتيليه زيزيت .قاطعتها بلهفة :الخياطة صاحبتك .
ــ أيوه ..كل تركيزى كان أزاى أعوض السنين اللى فاتت وأبدأ من جديد وألم والدى حواليه ،لكن أدى
اللـه وأدى حكمته ..فشلت فى كل حاجة .تابعتها فايزة بنظرة حزينة قبل أن تبدى األخيرة أسبابها :أنا
كمان زيك أتلخمت فى حالى وأشغالى والوقت سرقنى على ماظبط أمورى وعرفت أولى من أخرى
ولميت فلوسى اللى كانت متبعترة فى السوق وهديت البيت بتاع أبويا ولسه بأقول ياهادى فى شغل
المقاوالت وآهو منصور أبنى معايا بيساعدنى بعد مالحقته وأخدته فى حضنى بعد ما كان حيضيع منى .
ــ وده يمنع يافايزة أنك تخطفى رجلك وتيجى تزورينى .
ــ تصدقى وتؤمنى باللـه ياهدى ماكان فى يوم بيعدى إال وفكرت أزورك ..بس
453
ــ بس أيه ..أهتزت فى جلستها :أنا عارفة وضعك كويس وفاهمة ظروف عيالك عشان كده كنت
بأراجع نفسى وأقول بالش يابت تسببى لها مشاكل .هزت رأسها دون تعليق وكأنها تقول " خير
مافعلتى " مدت فايزة نظرها تتأملها :شكلك مش عاجبنى ياهدى ،ده أنتى كنتى فى السجن زى الوردة
المفتحة .فأبتسمت قبل أن يعود الى وجهها طابع الحزن الذى جاءت به :السجن ببرده وحره وخنقته
وعنبره المليان كان أرحم ألف مرة من العيشة اللى برة .سكتت لتمنع رعشة جرت خلفها دموعا .
ــ أيه اللى حصل ياهدى ؟ سألت ثم أنتظرت أنصراف عبده الذى جاءهما بقهوته مشمرا أكمامه وقدمها
فى زهو مكتوم ونظرته تطرف فى أتجاه هدى :حتشربى دلوقتى واحد بن معتبر وأسمع منك بعدها
تسلم أيدك ياعبده ياجن .رشفت من فنجانها قطرة :تسلم أيدك بجد .وضعت الفنجان على الصينية ثم
تنحى عبده عن مكانه حين أصدرت فايزة بيانا شديد اللهجة :مش تهوينا بقى وتتكل على اللـه تروح
شغلك .خرج يتنحنح بعدما تقمص شخصية " سبع الليل " :ماشى ياست الكل ..مش عايزة حاجة
أجيبها وأنا راجع .
ــ ده من أمتى الكالم ده ياشهم .أختصر الموقف بأبتسامة رافقته حتى باب الشقة .مدت فايزة يدها
لفنجان القهوة وبنظرات ثابتة ناولته لهدى مثل كاهن يستعد ألستقبال األعتراف .
ــ أحكيلى ياحبيبتى مين اللى مزعلك .نظرت لها وأبتسامة ميته تنبت على شفتيها اللتين أصبح لونهما
باهتا :الدنيا كلها مزعالنى .
ــ دى حكايتك باين عليها كبيرة وأكيد بنتك نورا ورا اللى أنتى فيه ده ؟! حلت قهوة عبده عقدة
لسانها .سقطت الكلمات من فمها كثقل لم تحتمل حبسه :والدى مابقوش طايقنى والعايزنى ،نورا
حاربتنى جوه البيت وبراه حرمتنى أعيش يوم واحد مرتاحة من ساعة ماخرجت من السجن وكأن فى
تار بايت بينى وبينها ..فى األول كذبت نفسى وقلت معلش األيام كفيلة تداوى اللى فات .سكتت ..
أغتصبت ريقها قبل أن تستطرد :بس ياخسارة ما أديتنيش فرصة وأستعجلت وماأستحملتش وجودى
وأخرتها ساومتنى ياأما أسمع كالمها وأتجوز ياأبعد عنهم وأسيبهم فى حالهم .
ــ ياخب ر أسود ومنيل هى حصلت لحد كده .قالتها وعقدت أصبعيها تحت ذقنها بينما هدى شاعت فى
فمها مرارة الكلمات قبل أن يبلغ الفنجان شفتيها :ماكانش قدامى حل تانى غير أنى أسيب لهم البيت
وأمشى .
454
ــ طب هى عايزة أيه من ورا اللى بتعمله ده ؟ .
ــ مش عايزة يبقالى وجود فى البيت ،مصممة تبقى هيه األخت واألم وصاحبة األمر والنهى .
ــ ماتأخذنيش ياختى الكالم اللى بتقوليه ده ينفع بين واحدة ومرات أبوها وال واحدة مع ضرتها بس
مايجوزش ابدابين بت وأمها .قالت عبارتها ولم تجد سببا منطقيا مبررا تهدأ به أحزان هدى ،فحاولت
أدراك مااليدرك ،يرفعها الى مقاربة خرجت بها عن النص :يكونش بنتك اللهم ماأحفظنا ملبوسة وال
يكون اللى عليها مشقلب دماغها من ناحيتك .دهشت من كالمها :نورا عقلها يوزن بلد وفاهمة كويس
هى بتعمل أيه .سحبت على الفور نظريتها :أخس عليها أخس فى بت تعمل كده فى أمها ،طب
وأخواتها مالهمش رأى فى اللى بيحصل .
ــ أخوتها وعمتهم معذورين ،بقالهم عشر سنين معتمدين عليها فى كل حاجة ..نورا هى اللى بتصرف
وبتأكل وبتشرب وبتقرر وهمه مايعرفوش يعملو حاجة من غيرها عشان كده أنا عاذراهم ومش زعالنة
منهم وكفاية عليهم اللى أتحملوه ..الناس مارحمتهمش يافايزة وعايروهم أن أمهم ربة سجون .
أستعانت األخيرة بسيجارة ثانية تعينها على أستيعاب فجيعة رفيقتها فى أبنتها .
ــ وعزة جالل اللـه خير ماعملتى ياهدى ومن النهاردة أنتى حتبقى نوارتى وصاحبة البيت ده أنتى نعمة
من عند ربنا بعتهالى .قالتها وقامت تمد يدها لها :ياله قومى معايا عشان تغيرى هدومك وتروقى
كده .أغمضت عينيها وترجتها :محتاجة أخد حمام ضرورى .تحاملت على نفسها تقودها فايزة
كخادمة مطيعة لموقع الحمام .دخلت لتجد نفسها فى مكان أكثر حداثة ال ينسجم مع سلوك الشقة ،حمام
مجهز بـ " قيشانى " مستورد ينام على أرضيته " بانيو " روز متوجابخالط مياه ساخن وبارد .أنتابتها
رعشة حين خلعت مالبسها .أحتلت بصمات " خيرى " كل أرضها الطرية ،جاهدت لحفظ وقفتها تحت
" الدش " ..تتحسس صدرها وخصرها وفخذيها ومابينهما .أدارت وجهها للحائط أستقبلت الماء على
رأسها ثم ظهرها ،خرجت دموعها مع دموع " الدش " كأنها أمام حائط المبكى حين جال فى رأسها
أحداث الساعات األخيرة ..ظل بدنها يقشعر ..رفعت رأسها وهى تدلك وجهها بكفيها قبل أن ترد
بصعوبة على صوت فايزة :معاكى غيار وال أجيبلك من عندى .
ــ معايا .مرت على جسدها بفوطة ثم سترته بـ "سونتيان " و " أندر " عليهما عباية عنابى جديدة
أصرت فايزة على أن تكون هدى أول الداخلين فيها .
455
عند عتبة " الحمام " تلقت هدى وصلة مديح على لسان فايزة حين فتحت الباب :بسم اللـه ماشاء اللـه
بدر ياأخواتى طالع من الحمام .ثم سحبتها نحو بطن البيت ،دخلت بها غرفة نومها التى أثارت
أعجابها :أوضتك حلوة أوى يافايزة .
ــ أيه اللى بتقوليه ده وعبده ؟ تأففت :عبده مكانه فى أى نصيبة تشيله .جلست على حافة السرير
مضاءة بالعباية العنابى تحوط رأسها بـ" فوطة " كعمامة .فتحت حقيبتها حين صرخ موبايلها ..نظرت
لشاشته ..لم ترد وأعادته لمكانه ساهمة ثم أطرقت برأسها لألرض ،وموجات عصبية تسرح فى
صفحة وجهها ،وفى عينيها نظرة غارقة فى دمعة متحجرة ؟ ،وكأنما تنبه فايزة الى أنها يجب أن تقول
شيئا .لم تتطفل األخيرة إال عندما تفككت الدمعة وأنسابت ،فأقتربت منها مستفسرة :حد من والدك ؟.
ــ أيوه .قالتها وتحسست صدرها الذى الزال يحمل بصمات الرضيع ! .تنازعتها األحاسيس ..شيئا
ما بداخلها بدا محطما بفعل أوالدها وأخر منهارا بفعلتها .أجابتها المختصرة دفعت فايزة لممارسة
عشمها القديم :وخيرى ده نظامه أيه ؟ صمتت مرتجفة .ظلت فايزة ترمقها حين جلست بجوارها تقرأ
مزاجها الذى حفظته .فألحت :حتخبى على أختك .همت بالتحدث عن خطيئتها مع خيرى ،لكن شيئا
منعها ،فضلت األحتفاظ بسرها .تأملت الوجه الذابل :الزم تفضفضى ياحبيبتى ماتشليش فى نفسك ..
كده مش كويس .ضغطت على كرامتها العنيدة أن تلين ،فأفرجت عن كل ماتكتمه .أدلت هدى
بأعترافات مختصرة التفاصيل ،تنتزع فايزة من على لسانها الكلمات ..كلمات خجولة نادمة تتوج بها
هزيمة كانت صنيعتها .وقعت على أعترافها بنوبة بكاء قاسية أستغرقت منها لحظات ..لم تفلح بعدها
فى تجاوز وجه فايزة بكلمة أو حتى بنظرة بينما شعرت األخيرة بعمق مأساتها وبالغ حرجها فبادرت
بأنتشالها من وضعية الندم بصياغة جملة على طريقتها :خالص بقى ياهدى اللى حصل حصل وأنتى
بأيدك أيه ..ماهوماينفعش الزيت ييجى جنب النار وماتقومش حريقة .قالت بمرارة :اللى حصل بينى
وبينه مخلينى مش طايقة نفسى ..مش حأقدر أوريه وشى تانى .رددت جملتها األخيرة متحسرة ..
تحولت مأساتها إلى وجع التملك نسيانه ،بدت وكأنها لن يواسيها كالم أو يرضيها عزاء .رنين
456
موبايلها كان لحوحا ومتواصال يذكرها دائما بأنها لم تبتعد عن مسرح األحداث بالقدر الذى يسمح لها
باألنسحاب كليا ،أربع مكالمات فائتة من بسمة ومثلها من يوسف وضعفها من خيرى ..كان لها رغبة
فى األنفصال عن األحداث واألبتعاد عن المأساة .
قضت هدى نهارها األول ملتصقة برفيقتها .عثرت على روحها الهائمة فى صحبة فايزة .أزاحت مؤقتا
هموم حاضرها .مر الوقت عليهما سهال رغم ماتتجرعه من أحزان ،لم تفارقهما الضحكات حين بدأت
الحكايات تتوالد والقصص تتناسل .كان تاريخهما فى عنبر النساء حاضرا بقوة حين جرفتهما الذكريات
تتنازعهما المقارنات بين ماكان وماأصبح .تهبط المواقف فوقهما مثل أوراق الخريف .تذكرتا الوجوه
واألسماء .تمسحا فى ذكريات السجن أستدعاءا للضحك الذى حضر بوفرة عندما طاردتها فايزة
بمواقف التحتمل إال التسليم بضحكات تاهت فى تضاريس وجهها الحزين ،فسكن األلم وأختبات األوجاع
بعدما حضرت كل التفاصيل التى عاشت بينهما .
دخل الليل من لحظات إلى شقة " هدى " بدا المكان ساكنا وكأن الزمن عاجز عن أن يحرك ايقاع
الساعات البطيئة .الزالت نورا تعيش أجواء مكهربة ،لم تحصل بعد على الراحة المنشودة وسط
أستياء صريح ونقد على أستحياء .تلك هى المشاعر التى تحصلت عليها من سكان المنزل وخاصة
بسمة التى أستحوذت على النصيب األكبر من عدم الرضا لما آلت إليه األمور ،ترمى بجملة أو أثنتين
ثم تختفى فى غرفتهابصحبة قلق وتوتر يزداد ايقاعهما حين تصرخ نورا فى الصالة عقب عودتها من
األتيليه :أنا مش فاهمة أنتى حكايتك أيه بالظبط ..مش عاجبك تصرفاتى ياست بسمة ..لو شايفة أنى
مسئولة عن اللى حصل أخرجى من أوضتك وواجهينى وقوليلى فى وشى أنى ظالمة وماعنديش قلب
بس الزم تعرفى ياهانم أن ماما كانت بتتلكك عشان تمشى من البيت .لم تخرج للمواجهة ولم تعلق
وأكتفت بتنهيدة لم تكتمل حين رن موبايلها .تسارع نبضها عندما ظهر لها رقما غريبا ..رددت فى
لهفة :ماما ..رفعته ألذنها فى ثانية واحدة :أيوه .
457
ــ أزيك يابسمة .تاهت فى النبرة الذكورية بينما يطاردها الصوت :عاملة نفسك مش عارفانى .
تصدعت أفكارها ..بدت نبرتها الخافتة تنسج من الكالم لونا وشكال :مين معايا .سألت ثم سكتت تتلقى
األجابة :أنا أمجد يابسمة .كتمت أنفاسها .أجتهدت للتماسك :أهال .
ــ عارف أن شكلى وحش وعارف أنك مش طايقة تسمعى صوتى .تعمدت أن تسمعه تنهيدة من نفذ
صبره :خير ياأمجد ..عايز أيه ؟.
ــ عايز حاجات كتيرة .نبرة ساخرة كانت تنتظره :أنا مش قلتلك على اللى فيها وصارحتك بالحقيقة ..
ماعنديش حاجة تنفعك .لم يخدعها برأيه :من تالت شهور بالظبط ومن يوم ماصارحتينى بالحقيقة
كنت حأقولك فعال كالمك صح ..كان كل اللى يهمنى أالقى حد يساعدنى وبأى طريقة بالفلوس ماشى
بالسفر ماشى المهم أن حلمى يتحقق ..لكن بعد ماأخدت وقتى وراجعت تفكيرى أكتشفت حاجات مهمة
اوى ماكنتش واخد بالى منها .قاطعته بتذمر بعدما استنفرت كل حواسها :أنا بقى كنت واخدة بالى
كويس وعارفة أنك بنى أدم وصولى وطماع وبتتعامل مع بنات الناس على أنهم صيدة واللى ييجى من
وراهم يبقى غنيمة هو ده اللى يهمك ..نفس منطق البلطجية .
ــ مش حأدافع عن نفسى وال حأقولك كالمك صح والغلط بس الزم تعرفى أنى من يوم مابعدت عنك
وكل حاجة فى دماغى أتغيرت ..كل يوم بيعدى على كنت بحارب فيه ..
ــ واللـه ده خبر كويس أنت أطوعت فى الجيش .قالتها وتراجعت ببطء لظهر السرير مستفزة .
ــ ال يابسمة أنا أطوعت فى الدنيا ..من يوم ماتخرجت وأنا فعال بحارب فى كل مكان لغاية ما خدت
تأجيل من الجيش وحاربت لغاية مالقيت شغالنه فى شركة دهانات بمرتب معقول بعدما أشتغلت شوية
مندوب مبيعات وشوية فى مطعم باليومية وده كله كان سهل ..الصعب يابسمة أنى حاربت نفسى
ووقفت قصادها وفكرت كتير فى السؤال اللى كان محيرنى ومافارقنيش لحظة واحدة غير أمبارح بس ..
هو أنا فعال كنت بحب بسمة بجد والكنت بحب نفسى وشايف أنها فرصة ماتتسابش ..حلوة وغنية
وبنت ناس وأمها فى الخليج زى ماكنتى بتقوليلى .كانت نبرته تدل على أنه خاض مواجهة شرسة مع
أوجاعه النفسية :تفتكرى وصلت أليه يابسمة ؟ هوى بسؤاله كالمطرقة على رأسها ..تدرك طبعه
وأفكاره ..صرحت دون مواربة :اللى زيك يابنى بيحسب كل حاجة بميزان المكسب والخسارة
ولماسيادتك مالقيتش تحت القبة شيخ قلت بناقصها وخيرها فى غيرها .
458
ــ لألسف كالمك برضه صح بس نسيتى حاجة مهمة تاهت منك زى ماكانت تايهة عنى ..عارفة هى
أيه ؟ أكلت الدهشة رأسها من سرعته فى حرق مراحل المكالمة حين أقتحم كل المشاكل بوضوح وكأنه
يعتمد أسلوب الصدمة ونظرية ماقل و دل .تصنعت الالمباالة :قول .
ــ هو انا مين أساسا وأيه هو وضعى أصال فى الدنيا اللى يدينى الحق أحكم على الناس وأقول ده ينفع
وده ماينفعش ..بأمارة أيه ؟ سألها وسأل نفسه ..بدا متحمسا حين أجاب :عشان انا من عيلة كبيرة
بيكملو بقية الشهر بستر ربنا وال بأمارة البرد اللى أكل عضمنا من سكنة السطح وال بخيبتنا وبضعفنا
وأحنا بنتحايل ع الدنيا عشان ماتبهدلناش وتأسى علينا أكثر من كده ..سكت للحظات ثم أستأنف
بهدوء :وبحسبة المكسب والخسارة اللى أنتى قلتيها تفتكرى يبقى مين فينا اللى كسبان ؟! .كانت فى
حالة سرحان حين طرح سؤاله ،كانت صور أخر لقاء تتالحق أمام عينيها حين أدار لها ظهره هاربا
وهى تستجديه بنبرة تسول :أستنى ياأمجد ..أستنى عايزة أتكلم معاك .
هى تعلم جيدا أنه مدرب على أخفاء نواياه الحقيقية فى قالب من النقد الالذع بحيث اليعرف احد مقصده
الحقيقى ،كل مايسعى إليه أن يحتفظ لقدميه بمكان على األرض ؟ شعرت بنفسها تقاد لفخ التمهل
واللين .غريزة الفضول كان تدفعها للفهم .
ــ وليه يعنى مافكرتش من بدرى وراجعت نفسك ..أشمعنى دلوقتى .
ــ كان الزم أخد وقتى عشان أعرف قيمة الحاجة اللى كانت فى أيدى وفرطت فيها .راحت تقتفى أثر
كلماته :مالذى يقصده ..ماذا يريد ؟ .لم تجد فى صوته رغبته القديمة أن يطفوعلى السطح والتمسح
فى الكبرياء .خيل اليها أنه صادق حين تابع :ألول مرة أبقى صريح مع نفسى ومعاكى لدرجة أنى مش
مكسوف والخجالن وكأن اللى حصل بينى وبينك كان الزم يحصل عشان يفوقنى ويخلينى أبدأ صح .
حبست أنفاسها وهى تنصت .ثم مرت فترة صمت بدت طويلة الى أن عاد هو :مش عايزة تردى وال
مش مصدقانى .لم يعد لديها القدرة على التفكير لتحدد موقفا :األتنين .
ــ الزم تعرفى أنى مش حأقدر أحقق حاجة لوحدى أنا محتاجلك معايا وعندى أمل كبير أننا ننجح سوا .
بقيت صامتة .ألح :مافيش كالم عايزة تقوليه ؟ أنصتت فى حيرة .هل تتكلم ؟ وان تكلمت ..فبأى
لغة ؟ لغة الماضى أم الحاضر ؟ تسأل نفسها قبل أن تتوصل لحقيقة .أنه األن منهزم .نبرته تفضحه ،
المسئولية تقتضى منها بعض الكرامة والحزم وإال ..
459
ــ زى ماأنت أخدت وقتك فى التفكير أنا كمان محتاجة أخد وقتى .
ــ ع العموم مش حأضايقك أكتر من كده وحأسيبك براحتك وحأكلمك تانى يابسمة ..سالم .أنهى
كالمه ،لتجد نفسها تجيبه بنبرة ناعمة :سالم .
توقفت عند زمن المكالمة التى لم تتعد الثالث دقائق ..هل أراد أن يقى نفسه من شر أغالق الخط فى
وجهه أم أن صدق المشاعر اليحتاج وقتا كثيرا للشرح ـ أحست بأن رأسها مهددة باألنفجار .كانت على
وشك التسليم بأن وراءه شيىء غامض مرتقب يحاول بأالعيبه أن يسحبها إلى منطقة ما التعرف لها
أبعاد والحدود .باتت أفكارها مشوشة حين طوقها أحساس من يدرك أنه أمام لغز محير .بالرغم من
ذلك إال أن سعادتها قد فاضت ،شعرت بانها قد أستعادت جزءا كبيرا من كرامتها المهدرة .دارت
بعينيها فى الغرفة بعدما تمددت على السرير تستعيد نشوة غابت عنها منذ شهور .أغمضت عينيها
بهدوء قبل أن تفتحهما سريعا حين هاجمها الخجل عندما تراجع مشهد أمها إلى خلفية األحداث بعدما
تجاوزه مشهد أمجد ومكالمته التى قلبت موازينها .
بعد مرور ثالث ساعات من وجودها لم يتبق فى جوف هدى من مأسى اال وأقرت بها أمام فايزة التى
أنتفضت بعدها من فوق الكنبة لتعلن متحمسة عن برنامجا ترفيهيا عرضته على هدى المكومة فوق
مقعدها يالحقها الهم كما يالحق الصياد فريسته :قومى بينا نخرج نغير جو .
ــ ماليش نفس ألى حاجة .رددتها ببطء ثم أسندت خدها على كفها بينما كررت فايزة وألحت :ممكن
تفكى تكشيرة وشك دى وترمى كل حاجة وراضهرك وخلينا بقى نعيش لنا يومين بدل الغم ده .هزت
رأسها دون تعقيب فأستأنفت فايزة بأصرار :الزم تعرفى ياحبيبتى أنك من النهاردة بقيتى عهدتى
وحتعيشى معايا هنا ..ده أنتى ربنا بعتك لى فى الوقت المظبوط واللـه كانت روحى تايهة منى وأنتى
رجعتيها .
ــ هو مين فينا اللى محتاج للتانى يافايزة .أمتزجت كلماتها بأبتسامة جريحة .
ــ أحنا األتنين محتاجين لبعض ياهدى ،أنتى عايشة غريبة وسط والدك اللى شايفين أن ضررك أكتر
من نفعك ومالكيش لزمة فى حياتهم .ثم عقدت يديها على بطنها المرتفعة لتظهر ضعفا طارئا حين
صرحت :واللى واقفة قدامك دى وعمالة تهديكى من ساعة ماجيتى ماشفتش يوم حلو من ساعة
ماخرجت من السجن .أنتبهت لكلماتها .أستفسرت بدهشة :أنتى يافايزة ..طب ازاى وأنتى ربنا
460
موسع عليكى بالمال وكل اللى حواليكى بيعملولك ألف حساب وبيترعبوا منك .سحبت نفسا أتبعته
بنظرة مقهورة ثم جلست :كل اللى حواليه عاملين زى الناموس مصاصين دم بيدوروا على مصلحتهم
وبس وكل اللى يهمهم حيطلعو منى بأيه .حبست دمعة كادت تنفلت منها حين أردفت :عمرى ماحسيت
أنى وحيدة ومحتاجة لحاجة فى الدنيا أد ماكان فى نفسى يبقالى بنت والأخت تبقى قريبة منى تسمعنى
وأسمعها أشكيلها وأحكيلها على وجيعتى ..تحبنى وتخاف على من غير طمع والمصلحة .قالتها
وتجلت لها بعينيها ،اللتين تحمل نظراتهما ايماء متواصل باألستغاثة ،من وحدة وعزلة قاتلتين
مدفوعة بشعور مزمن بأنها وسط جماعة تركبهم المصلحة واألنانية ..ثم رمشت قبل أن تستقر تظرتها
فى وجه هدى تزامنا مع تغير نبرتها التى شاع فيها رنة تفاؤل :آهو ربنا ماخذلنيش بعتلى اللى أقرب
من بنتى وأكتر من أختى ..خليكى معايا ياهدى وماتعترضيش على حكمة ربنا .قالت جملتها األخيرة
بأستجداء :أنا عمرى ماأعترضت على حكمته .
ــ يبقى خالص من دلوقتى نظبط حالنا ونعيش أيامنا وكفاية اللى راح من عمرنا وأن شاء اللـه بفلوسى
نعوض كل اللى فاتنا .لم تمهلها وقتا للتفكير .تمادت فيها الحماسة لتنسج أحالما قبل أن توثقها بخطط
مستقبلية :أنتى من النهاردة بقيتى فى بيتك وأى خطوة حأمشيها حتبقى معايا فيها ..حنسكن سوا فى
شقتى الجديدة فى عمارتى اللى بتتبنى وحنبقى مع بعض فى المول اللى حأفتحه ..بس انتى أسمعى
كال مى وخليكى معايا .أنهت كالمها وصمتت مترقبة .بدت مالمحهما منكسرة ..امرأتان تقفان
على حافة الجرح معلقتان بين انكسار الحلم ومواجهة الواقع ..عاجزتان عن اللحاق بزمن رحل بكل
وعوده .ألتفتت إليها هدى .رمقتها طويال ،بدت وكأنها فى حالة مراجعة ،تحسب حسبتها بعد
خسارتها الفادحة وفقدانها األمل فى أستعادة حياتها مع أبنائها ومحاولتها المضنية فى الهروب من
خيرى الذى أصبح معادلة صعبة فى حياتها .شردت للحظات ثم عادت متحفظة :أنتى بتتكلمى يافايزة
وكأننا لسه مع بعض فى السجن وعايشين بطولنا .
ــ بالش نضحك على بعض والدك أكيد مرتاحين من غيرك وأنا لو ماعنديش قرشين كان زمانى مرمية
لكالب السكك تنهشنى ..كبرى دماغك ياحبيبتى وفكرى فى نفسك .تحركت شفتى هدى عن أبتسامة
مترنحة :باين علينا كده حنكمل بقية المدة مع بعض .لم تستطع فايزة مقاومة رغبتها المحمومة
بالفرحة ،عددت لها بحماس مميزات بقاءها لجوارها بكلمات تتقافز فى رأسها تأبى األستقرار :أحلى
461
فسح وأحسن أكل وبعون اللـه حنقضيها خروج وصياعة وملعون أبو الدنيا .ثم قامت وسحبتها من
رسغها :قومى معايا حأعشيكى برة .
خرجت هدى بالعباية العنابى .ساقتها فايزة الى حوارى كرموز فى رحلة ليلية ..أمسكت بيدها كطفلة
تتعرف على ماحولها ،تتفحص شخوص يائسة تتحرك بآلية قدرية بينما لم تتوقف فايزة عن الكالم
بالرغم من أعياء هدى التى تركت لها أذنيها تحشر فيهما حكايات تتشعب وتتفرع ،تتالقى وتفترق عن
حارة " المنجى " كما سمعتها عن األولين عن أنفاق وسراديب بال خرائط تصل األسكندرية طولها
بعرضها وعن بيوت كانت مقابر وخرابات أصبحت قصور ،مع نبذة عن كل بيت أو محل يقابلهما فى
الطريق ..تستحضر فى لحظة تاريخ سكانه وأحوال أفراده كأنه تاريخ محفوظ ،اليقطع شرحها سوى
تحيات متفرقة تحصل عليها عند مدخل كل حارة .
ــ طبعا ده أنا بنت المعلم عبد المقصود .قالتها مرفوعة الرأس ثم أشارت لها على بيت من دورين نخر
الزمن واجهته أكل محارته وتركه مفضوحا عاريا بال غطاء .حكت لها بأبتسامة وهى تندحرج
بخطواتها عن أخر شاب عرفه وجودها قبل أن يتسلمها " عبده " وكيف أنتهت حياته القصيرة فى زقاق
" حالوة " بساطور فى " نافوخه " من يد جزار عاشق لـ " فوزية " التى تصارعا على حبها .
نصف ساعة داخل حوارى كرموز وكانت فى حوزة هدى تاريخ معظم العائالت والذى رهنته فايزة
بأنحيازاتها الشخصية قبل أن تخرجا من المنطقة بعدما أصرت األخيرة على تتويج برنامجها بزيارة
462
لمطعم " أبو أشرف " لألسماك بمنطقة بحرى .لم تتشبث هدى بالرفض كانت جائعة .ألقى بهما
التاكسى بالقرب من المطعم حيث أقتادهما جرسونا يقف كالقرصان قبل مدخله بعشرين مترا ..سلوكا
أصبح معتادا فى كل مطاعم بحرى بسبب حالة الركود والجفاف اللتين طالتا الجميع .وسط رعاية
وحفاوة مفرطة دخلتا قاعة الطعام التى أسترخت فى هدوء وقد أخلدت الموائد الخالية الى النعاس .
تصدى لها جرسون أخر بهيكل صارم تلقى طلبات فايزة التى أملتها عليه بترحاب اليخلو من حذر ،
هيئتها وأداءها كانتا مبعثا للريبة فى نفسه حيث أنهما الينسجمان مع قيمة الفاتورة المرتقبة التى ربما
تقترب من الخمسمائة جنيه ثم تركهما وديعة فى يد زميله الذى جاء حامال ستة أطباق " سلطة "
كبهلوان فى سيرك قبل أن يفرشهم فى لحظات على المائدة ،مفسحا مكانا للجمبرى والصبيط وعدد
أتنين أرز " صيادية " وسمكة بياض شابه أقتيدت غدرا من البحر يحاصرها الليمون والكرفس وعلى
رأس المائدة زجاجتين مياه معدنية ..لم تزر تلك النوعية من الطعام فم هدى منذ وفاة زوجها ،وبرغم
الجوع إال أنها تعاملت برفق مع األكل عكس فايزة التى أظهرت عدائية غير مبررة الى كل ماطالته يدها
فى حين أبدت هدى تملمال فى كرسيها ،الزالت محاطة بأجواء يومها الحزين الذىبدأ مع نورا وأنتهى
فى أحضان خيرى ..أسترجعت معظم المقاطع بالصوت والصورة قبل أن تنقل نظرها بين األكل ووجه
فايزة التى بادرتها حين شعرت بها تتلوى بالحزن .
ــ تعدمينى ياهدى وتمشى فى جنازتى لو ماخلصتيش على األكل اللى قدامك ده كله .ثم نظرت لها
وأنتظرت منها أبتسامة لم تتأخر :بعد الشر عليكى يافايزة .
فى طريق العودة قررتا السير فى محاولة جادة منهما لهضم محصول البحر الذى مازال جاثما فوق
بطونهما .حكت لها فايزة عن خططها وأحالمها المستقبلية وعن النقلة النوعية التى تنتظرها حين يرى
" المول " النور .لم تخف هدى أعجابها :عارفة يافايزة أنت فيكى حاجات كتيرة بتفكرنى بزيزيت
صاحبتى .
ــ أيوه ..أنتو األتنين عندكم طموح ودماغكو نضيفة فى الشغل .قالتها بهدوء اليتناسب وثورة هواء
بحرى الذى رسم كل األشكال على العباية العنابى ،مرة منتفخة من الخلف حين يضرب ضربته من
تحتها ومرة ملتصقة من األمام راسما تجويفا مثيرا بين الفخذين بينما عبث بعباية فايزة السوداء التى
جعل منها جسدا داخل " براشوت " قبل أن تخمدها بيديها مفرغة الهواء منها تزامنا مع سؤالها :
463
والدك ما اتصلوش بيكى خالص من ساعة ماجيتى عندى .تنهدت وهى تضبط طرحتها :أنا قافلة
الموبايل .
ــ من رأيى تفتحيه ومش الزم تردى عشان ماتزوديش قلقهم .أنصاعت لرأيها .سحبته من حقيبة
يدها وهى تردد :أزود قلق مين يافايزة دول زى ماأنتى قلتى ماصدقو خلصو منى .فتحته ثم عبرتا
الشارع بأتجاه طريق موازى للكورنيش هربا من سيارة " سوزوكى " تطاردهما بها شابان أغرتهما
العبايتان فأبديا أعجابا منقطع النظير ترجماه لفعل على األرض حين توقفت السيارة بجوارهما :أموت
فى األبيض اللى متعاص صلصة .بينما مط زميله رأسه من شباك السيارة :وأنا نفسى فى المدملج
اللى جوه الشوال األسود .
ــ شوال ياأبن الـ ..صادرت هدى بقية العبارة :خالص يافايزة عيب.
لم تمر خمس دقائق اال وأرتعشت يد هدى برنات موبايلها .لمحت الرقم ..سرحت ولم تعقب حين
سألتها :حد من والدك .هزت رأسها نافية .
ــ أيوه .سكتت الرنات لتعاود من جديد وهى أكثر صخبا وألحاحا .فبادرت فايزة :يعنى مش ناوية
تردى ع الراجل اللى متشحتف عليكى ده .لم تجيبها .رغبت فى جعل السؤال معلقا .
لحظات من المشى الصامت والخطوات المتلكئة نفثت خاللها تنهيدة طويلة قبل أن يصفعها الهواء
فينتعش فيها زمن قديم :مش حتصدقى يا فايزة لوقلتلك أنا محتاجة أليه دلوقتى .
464
ــ ياريت كان بأيد حد ،أنا محتاجة أوى لنديم ،محتاجة أتكلم معاه ..وحشنى أوى يافايزة .تجاهلت
األخيرة مطلبها :نديم اللـه يرحمه بين أيادى رب كريم ..خلينا فى اللى عايشين وسطينا ..خليكى فى
خيرى .سحبت نفسا وأنكمشت مالمحها حين قالت بخجل :مش حأكدب عليكىأنا كمان محتاجاه .
بدت وكأنها تغازل المستحيل قبل أن تفطن فايزة لكلماتها :من حقك ياحبيبتى تجمعى بين األتنين
القانون والشرع فى صفك مادام فيهم واحد ميت .نكست رأسها حين تساءلت :لما هو ميت أبقى
أنا أيه ؟!.
سحبتها فايزة من معصمها :تعالى ياختى نركب تاكسى ونروح باين عليه الجمبرى والصبيط شقلبو
دماغك .
نصف ساعة وكأنتا أمام باب الشقة ..دخلتا بأسترخاء .تقدمتها فايزة بروح معنوية عالية ضاعفت من
حجم صوتها :أول مرة أتفسح فسحة زى دى من سنين طويلة .أفصحت عن مشاعرها ثم جلست على
الكنبة بينما لحقت بها هدى وأستقرت بجوارها بنفسية هادئة .أنتابتها حالة من السلمية حين شعرت
وألول مرة بأنها تقضى يوما بال شروط والتعقيدات .تقاسمتا الضحك لدقائق عندما أستعادت فايزة
مشهد الشابين :شفتى العيلين اللى كانوا أطرنا بالعربية ..أبن الوسخة بيقولى سالم ياحاجة .زرعت
تفاصيل المشهد الضحك فى وجهيهما كطفلين بوجود ضئيل تنازعا ضراوة ريح عاتية .تجاوزت هدى
الضحك بسؤال :أنتى بتسهرى والبتنامى بدرى .
ــ قبل النهاردة كنت بأتخمد بدرى عشان مش القيه حاجة أعملها ،لكن من هنا ورايح أنام وقت ماتنامى
وأصحى معاكى .
ــ طب قومى أعملى لنا أتنين شاى نحبس بيهم أكله السمك .
ــ كالمك صح ..وانتى قومى غيرى هدومك وأنا حأجهز الشاى وأحصلك ونكمل سهرتنا فى األوضة .
قالتها بسعادة قد فاضت دون حساب ..بعثت هدى الحياة فى منزل فايزة برغم أحزانها وبدا وجودها
فارقا بالنسبة لها .
465
أعدت فايزة الشاى فى عجالة وكأنها التقدر على فراقها ،دخلت عليها الغرفة بصينية الشاى تحمل
مالمح جديدة لم تكتشفها من قبل .وضعت هدى جسدها بهدوء على السرير بعدما قدمت لها فايزة
فنجانها وتربعت بجوارها .
ــ ربنا يخليكى كنت محتاجة أوى للشاى .قالتها بعد أول رشفة .أمتدت سخونة الكالم ودفء المشاعر
بين الرفيقتين حتى منتصف الليل قبل أن تتوقف فايزة عن الكالم لتجرى أتصاال بأبنها منصور أوصته
بتشكيلة فاكهة وعلبة جاتوه ،أطاع األمر متمنيا عليها مهلة نصف ساعة ويكون أمرها نافذا .
أنهى منصور المكالمة وأستعاد مالمحه الصارمة فى مواجهة ذلك الكائن الجالس أمامه فى ركن المقهى
ليحسم معه صراعا دام لربع ساعة كاملة حول تعريف معنى الصداقة ،مختتما الجدل بعبارة حاسمة :
كل وقت وله أدان ياسليم ..كنا صحاب أه وبينا عيش وملح مابنكرش و سهرنا وهلسنا وعملنا كل
حاجة ده صحيح ..لكن دلوقتى خالص بح ..الوقت مابقاش وقتك ياسليم يعنى بالبلدى كده كان فرح
وأنفض وأخلع بقى من دماغى ودورلك على دماغ تانية أشتغل عليها .قالها ونظر له بحدة ..بدا
بالنسبة له كالموصوم .ملعون من يقترب منه .أردف بنبرة عصبية صدرت عنه حين قام يشير لجمعه
الذى أتاه مطيعا :أبقى حاسبه على الطلبات اللى شربها ومن هنا ورايح مافيش مشاريب تنزل على
النوتة .تلقى جمعه األمر بنشوة الشماتة :سمعت ياخويا .قالها وهو ينظر لسليم الذى أرخى جفنيه
كالمضروب على رأسه قبل أن يرفعهما فى وجه منصور جازا على أضراسه بعدما تقلصت قسماته
غيظا :براحتك يامنصور باشا أعمل مابدالك بس ماتنساش ياصاحبى الدنيا دوارة .شكل تظرته
وتكوينها تنطوى على تهديد ووعيد .لم يكترث منصور ،فأزدادت نظرته صالبة وظلت مصوبة فى
وجه األخير الذى أدار له ظهره قاطعا القهوة بخطوات سريعة حتى أجتاز مدخلها بينما قام سليم فى
حراسة جمعه الذى حاصره حتى دفع الحساب ثم خرج بعدها مدليا رأسه ككلب هده الجوع .
أدار منصور المفتاح فى كالون الباب بطرف أصبعيه ألنشغال يديه التى تنوء بماتحمله من فاكهة
وجاتوه .أستقبلته هدى بأبتسامة وقبلتين على خديه حين دخل عليهما الغرفة :شكلك أتغير أوى
يامنصور عن أخر مرة شفتك فيها .
ــ أدعيلى ياأبن الكلب خلتك بنى أدم .قالتها فايزة بغرور .
466
ــ ربنا مايحرمنى منك ياما واليحرمك منى حبايبك ..ثم غمز لها بطرف عينه مبديا رغبة فى األنفراد
بها ،فأبدت تذمرا وصدمته :قول ياوله كل حاجة هنا ،اللى قاعدة جنبى دى أغلى حاجة عندى فى
الدنيا ومابخبيش عنها حاجة .أنصاع لرغبتها وسرد تقريره اليومى كالعادة مدعوما برسومات العمارة
التى تم تعديلها على يد المهندس " أسامة " الذى أنهى دراسة مستفيضة عن الشكل المتوقع " للمول"
على أن تبدأ أعمال البناء مع بداية الشهر .تفحصت فايزة الرسومات بعين مهندسة خبيرة :مش فاهمة
حاجة ياوله من الشخبطة دى .عدل لها منصور وضعية الورقة التى كانت تنظر فيها بالمقلوب .شجعته
ثم أظهرت له أبتسامة تأييد طمأنته على مستقبله .
خرج حامال أوراقه فى زهو ..لم يتجاوز باب غرفته إال بعدما ألقى بنظرة ركنية أطمأن بها على وجود
أبوه المسجى على كنبة الطرقة بعد أن حسم خالفا نشب بينهما عندما تذمر عبده وتمسك باألقامة مع
منصور فى غرفته .
ــ يمين باللـه ماحأنام ع الكنبة دى لو أطبقت السما على األرض ..حأنام معاك فى أوضتك .
ــ ماشى يابا براحتك بس من بكره مش حيبقى ورايا شغالنة غير مراجعة دفاتر الحسابات وأفهم أيه
اللى داخل وأيه اللى طالع وماتبقاش تزعل منى بقى .كلمة السر التى حولت عبده لفأر فى مصيدة
فأعتلى الكنبة خاضعا راسما أبتسامة ذليلة :تصدق أنت عندك حق ياوله النومة فى الطرقة طراوة
وأحسن من األوض المقفولة .
دخل منصور غرفته كالعادة مزودا بالنوتة والقلم ليدون أنجازات يومه ويرقم نجاحاته مع ابداء بعض
المالحظات التى تستدعى منه حذرا وتمهال .
بينما ظلت فايزة وهدى تصارعا الليل بالحكايات وسط هدوء طارىء لسكان الحارة الذين همدوا ،فقل
صراخهم وتوقف عراكهم لتتسلم الكالب التى تحولت إلى وحوش وردية الصخب تزأر بكل متر فى
الحارة دفاعا عن حرمة أراضيها .فطار النوم وحل مكانه حديث الينقطع ..قرب الفجر تراجع الكالم
وخفت صوت فايزة الذى أتاح لهدى فرصة التأمل حين تنبهت حاستها البصرية بشكل مفاجىء لتفاصيل
المكان الذىوجدت نفسها دون ترتيب مسبق تعيش فيه .غرفة متواضعة فى شقة قديمة تطل نوافذها
على حارة ضيقة .واقع جديد يتشكل ،فال مفر أن تبقى مركونة فى الزاوية ،رهينة النسيان .
467
خاطر ضرب رأسها قبل أن تواجهه بسؤال حائر :اذن ماالمطلوب ؟ الماضى البعيد والقريب ،يتوجب
األنسالخ منه ،بكل مافيه ،تماما مثلما يفعل الثعبان ،وهو يتخلص من جلده .أمنت من خالل تجربتها
فى الشهور الماضية بأن السجينات فئة من الناس البد أن يطولهم العذاب ! جملة ظلت تسبح فى رأسها
حتى قررت أن تطفىء النور بعدما لمحت فايزة تصارع سكرات النوم التقطع أستسالمها سوى موبايل
هدى الذى أصبح مصاب بداء الرنات ،لم ينقطع صوته طول الليل بل تمادى فى أستفزازه حتى صار
رنينه عذابا أرهق أعصاب فايزة التى لم تتمالك نفسها :كان لسانى أتقطع والأتشليت فى صوتى لما
قلتلك أفتحيه ..أقفليه ياختى والأقتليه .قالت جملتها وهى فى النزع األخير قبل أن تسلم نفسها للنوم .
أغلقته هدى وهى تنتفض بالضحك قبل أن تقرأ على شاشته عدد المكالمات الفائتة التى كان معظمها من
نصيب خيرى .كانت تتحاشى طيفه قدر المستطاع ..معركة مؤجلة بينها وبين نفسها .الزال خيرى
داخلها بلمساته وأمتداداته كالجنين يأبى أن ينفلت من دفء الرحم .الحب بالنسبة لها كما قال عنه
صوفى عاشق :الحب ليس أخضر ،ليس أحمر ،ليس أصفر .الحب كالماء الزالل .اذا ماتغير لونه
اليجوز للوضوء .أغمضت عينيهاولم تدر أن عليها أن تخوض معركة داخلية ..لم تكن أول مرة تواجه
فيها الفشل ،غير أنه أحاط بها كما يحيطها ظالم الغرفة حين يستوى ظالم بقعة صغيرة بظالم الكون فى
ليلة غائمة ،وفى الظالم يختفى المكان والزمان ،ويختفى كل شيىء ،عدا شعور األنسان بنفسه ،أنه
وحده يتضخم الى الحد الذى يصبح فيه الشخص الواحد أثنين .ضاقت بالظالم ..أضاءت " أباجورة "
نحاس تسكن فوق الـ " كومودينو " نورها أصفر مرتعش ،فضاعف من حجم شعورها بأنها الزالت
مقيمة فى عنبر " ج " بسجن النساء منسجمة تماما مع نغمات صادرة عن فايزة التى شوه وجهها
النوم ،أنتفخ خديها مع كل زفرة يتبعها شخير .أغمضت عينيها لتنام .أنتظرت حضوره الذى لم يأت ..
كانت األفكار والهواجس هى التى أتت .اال أنها حبست أنفاسها حين طالعها شبح " عبد المقصود "
والد فايزة من داخل بروازه يطل عليها مبتسما بأبتسامة أنتهت موضتها منذ عصر الفنان
" بشارة واكيم " .
لم يشجعها شخير فايزة على الغوص فى كتلة الزمن الكبيس ..باتت ليلتها وبها حسرة التموت ،وغصة
فى الحلق ،التخرج والتدخل .
00000000000000
468
صباح اليوم التالى خرج يوسف من غرفته مبكرا متوجها لمكتب المهندس " ناجى " تفوح منه رائحة
الــ " وان مان شو " أعلن عن دهشته حين ظهرت له بسمة ملفوفة على نفسها داخل كرسى األنتريه
فى الصالة ،تضم ركبتيها لصدرها .
ــ أنا مانمتش أصال .قالتها بوهن .نقب فى وجهها حين أقترب منها :قلقانة على ماما .هزت رأسها
دون أن ترفع عينيها .فأضاف :ماتقلقيش أكيد النهاردة حترد علينا ولما حأكلمها أن شاء اللـه حأقنعها
ترجع البيت .
ــ أنا عارفة يايوسف أن الحكاية دى أخرها يومين تالتة وتخلص .بدت نبرتها مشحونة بالقلق .
ــ أمجد كلمنى أمبارح وحاسه من كالمه أنه أتغير وبقى بنى أدم تانى ..المشكلة أنى مش قادرة أخد
قرار فى أى حاجة .نفخ فى ضيق :أمجد تانى يابسمة ..ثم نظر فى ساعته :وهو ده اللى مقعدك لغاية
دلوقتى صاحية ..على العموم لما أرجع نبقى نتكلم سوا ونشوف الدنيا ماشية أزاى .أتجه ناحية الباب
وخرج تاركا أخته فريسة للتفكير والحيرة .لم تكن لتستطيع تحديد موقفا والقياس مدى القبول أو
الرفض .أى قرار ستنحاز اليه كالمضى فى طريق التعرف الى أين ينتهى .خيل اليها بأن رأسها يزن
أكثر من جسمها ،وبأنها لن تقدر على حملها طويال .قامت كالمساطيل تترنح حتى باب غرفتها ،دخلت
بخطوات أرنب حذر كى التشعر بها نورا ،زحفت ببطء على السرير قبل أن يهمد وعيها وتنام .
حديث صباحى صار ألزاميا يبدأ عادة بتقرير مفصل اليترك فيه يوسف تفصيلة اال ويذكرها والتفوته
شاردة والواردة إال ويستعرضها أمام المهندسة " إيمان " آخذا فى أعتباره كل توجيهاتها ومالحظاتها
مأخذ الجد كتلميذ مطيع .اليقطع أنصاتها سوى انشغالها بتجهيز األفطار على مكتب يوسف الذى يتحول
كل صباح إلى مائدة عامرة ..عادة يومية روضته إيمان عليها منذ أسبوعين تقريبا ..لفة سندوتشات
تمثل فيها الجبنة الـ " ريكفورد " دور البطولة منذ أن صرح يوسف أمامها بأنها المفضلة لديه ،بجانب
حضور منتظم لـ " تورمس " شاى أخضر حرصت على أن يتقبل يوسف وجوده مع تطعيمه يوميا
469
بفنجان صغير حتى أستسلم أخيرا لمذاقه وكأنها تهيأه لما سيكون عليه !! .كالعادة ينهى أخر رشفة
واقفا قبل أن يتوجه للموقع مصحوبا بجملة معتادة :لو فيه أى حاجة يايوسف كلمنى فى التليفون .إال
أنه ودون أى حاجة تتعدد مكالماتهما طوال اليوم ،يتحجج بأتفه األسباب لسماع صوتها قبل أن تكشف
ـ هى ـ عن نواياه بضحكة :بتتصل يايوسف عشان تقولى أن الشمس حامية فى الموقع ..طب أقف
ياأخى فى أى حتة ضل .أجابة منطقية أجبرته على أنهاء المكالمة بأبتسامة عريضة قبل أن يحين
دورها فى األتصال :كلمت المهندس ناجى من شويه ولمحت له أنك طول النهار بتتنقل من الموقع
لشركة الحديد ومخازن األسمنت وبعد كده بترجع المكتب تانى ..سكت شوية وبعدها قالى اللى أنتى
شايفاه صح أعمليه .أستقبل كلماتها المبهمة :مش فاهم حاجة .
ــ حأطلع العربية القديمة من الجراج وحتبقى معاك تحت أيدك تخلص بيها شغل المكتب ،ماينفعش
يايوسف نص وقتك تضيعه فى المواصالت .شهدت نهاية المكالمة حضور لفظ " واو " على لسان
يوسف مضيفا فى فرحة :مش عارف أقولك أيه على المفاجاة الجامدة دى .
ــ ماتقولش حاجة ده مش وقت كالم خالص ،المهم عندى أنك تثبت نفسك وماتخليش الفرصة تضيع
من أيدك .أعتدل فى وقفته وسط سياخ الحديد وشكاير األسمنت وتالل الرمل :تمام يافندم .
عند المغرب ينتهى يومه فى الموقع عائدا للمكتب بجبين أحمر لفحته الشمس وقميص وبنطلون صبغا
بتراب الموقع .نظام يومى معتاد ،لم يقر فى اللوائح .بدعة توافقا عليها سويا ،اليعرف لها سببا
ظاهريا ،فالمكتب ليس فى طريق عودته للبيت والحتى مجبرا على التوقيع فى كشف األنصراف ..ربما
أراد أستدعاء حالة قديمة حرم منها قصرا أو ربما لشيىء ماالزال يتشكل داخله دون أن ينتبه لمسماه
أو حتى يسعى لتعريفه .تلك الحالة التى تالزمه هى نتيجة مباشرة لألهتمام الشديد التى تبديه المهندسة
إيمان تجاهه ..أهتمام رصين عاقل مدعوما بشخصية قوية وخبرة سابقة عن تجربة فاشلة مهدت لها
الطريق لفرض نفوذها وبسط هيمنتها على تفكيره وأراءه بعدما مارست عليه ضغوطا أنثوية خالل
الفترة القصيرة الماضية حين أحتوت أحباطاته بالنصيحة والتشجيع عندما لعبت أمامه كل األدوار
النسائية ،جسدت األم بعطفها وخوفها على مستقبله ودور الصديقة الواعية حين سمعت منه وسمع
منها والمديرة الخبيرة التى تقود وتوجه ،فصارت فى وقت قياسى الوكيل الحصرى والراعى الرسمى
لكل تحركاته وتصرفاته مسلما لها عقله ونفسه عن طيب خاطر كجنديا مخلصا تحت قيادتها بعدما تخطى
على يديها هزيمته النفسية .
470
جلسة هادئة بعد يوم عمل شاق ،أسترخى يوسف خلف مكتبه فاردا ساقيه مدليا رأسه على صدره بفعل
األرهاق بينما بات كل جزء فيه تحت الفحص والتمحيص من عينى ايمان التى تجلس بجواره كموقع
مفضل لها ،اليفصلها عنه سوى شبر واحد وكأن الحدود والحواجز بينهما فى طريقها للزوال .
أعلنته بخبر تأجيل أستالمه للسيارة الفيات ليوم السبت القادم بعدما نبهت على " حسين " سائق
المهندس ناجى بعالج بعض الجروح والكدمات التى يعانى منها رفرف العربية الشمال مع تغيير
" العفشة " باألضافة إلى " رشة الفنش " األخيرة ،وجارى فى تلك اللحظة تنفيذ األمر فى ورشة
" سوستة " بمنطقة العصافرة على أن يتسلمها عروسة " مزة " كما صرح عم حسين فى اخر مكالمة
للمهندسة منذ ساعة .
نظرة أعجاب وتقدير أستدعت منه أن يلوى رقبته ليواجهها بأبتسامة عريضة كادت تالمس شحمتى
أذنيه ،وهى كل مايملكه يوسف من أمكانيات لتقديمها أليمان التى لم تنقطع مفاجأتها المذهلة
المدروسة :المهندس أحمد والمهندس هانى حيخلصو شغلهم فى أبراج العجمى األسبوع الجاى وبينى
وبينك مارضتش أخليهم يرجعو على موقع الكومباوند وبلغتهم يروحو على أبراج سموحة يتابعو
التشطيبات وفضلت أنك تبقى موجود لوحدك فى الموقع .دار بجسده مستغربا حتى المست ركبتيه جانب
فخذها :وده معناه أيه ؟ .
ــ لما تبقى لوحدك حتكون فى الصورة وده اللى أنا عايزة أوصله عنك للمهندس ناجى عشان ناوية
أجيبلك زيادة محترمة على مرتبك وان شاء اللـه حتوصل لـ . %100زال أرهاقه فجأة وتبددت أوجاع
قدميه وأختلطت حمرة الفرح بحمرة الشمس التى الزالت تلهب وجهه ..يود لو أستطاع أن يحملها بين
يديه ويرفعها كطفلة ويدور بها فى حجرة المكتب ..قرأت فى عينيه فرحته الطفولية فنقرت بأناملها
المنبسطة على سطح المكتب نقرا ملحنا وكأن ايقاعه يقول " أنت لسه شفت حاجة " .تأهبت حواسهما
فجأة حين ألتقطت أذانهما صوت أقدام تقترب فى الطرقة المؤدية إلى باب المكتب ..سحبت يدها إلى
حجرها وتماسكت فى جلستها أنتظارا لظهور القادم .نقرة واحدة خافتة وأنفتح الباب وطل القادم برأسه
مستطلعا .كانت هدير! .
مفاجأة مذهلة ..شعر يوسف بأرتباك يزعزع قلبه ويخلخل ركبته ويجعل الدنيا تتأرجح حين تلقى صدمة
ظهورها واقفا .بدا وكأنه مصاب بداء الذعر قبل أن تصيبه المفاجأة بالخرس بينما بقيت هدير فى
471
مكانها للحظات وقد كسى وجهها لمعانا بدا منسجما مع مكياجها الخفيف وقصة شعرها الجديدة
المقتبسة عن الفنانة " غادة عادل " تعطلت أبتسامتها على وضعية ثابته حين فاجأها مشهد الجلسة
المريبة ..نقلت نظرتها بينهما تستشعر أرتباكهما .لم تستطع أخفاء دهشتها فى حين غمر المكان توتر
بمجرد دخولها ،حاولت ايمان أن تبدو طبيعية فبادرتها حين قامت من مكانها :أيه المفاجأة الحلوة
دى .تصنعت أبتسامة مترددة ثم بادلتها القبالت .
ــ وحشتينى أوى ياباشمهندسة .قالت هديرقبل أن تميل برأسها موجهة كالمها ليوسف :أزيك
يايوسف .مط رقبته وهو يحرك حدقتيه شماال ويمينا وكأنه يبحث عن رد :أنا ..الحمد اللـه كويس .
ــ خلصت شغلى بدرى فى الشركة وقلت أجى أشوف المهندس ناجى أسلم عليه وبالمرة أخد رأيه فى
شوية حاجات .قالت بنبرة دفاعية وكأنها تبرر سبب وجودها .أنصتت لها ايمان بغير أكتراث ثم عادت
لنفس جلستها ملتصقة بمكتب يوسف وكأنها تريد ايصال رسالة " المكان محجوز " بينما ظلت هدير
تحاصرهما بنظرات فضولية :هو أنتو بتكملو شغل هنا .
ــ أيوه .أجابة مقتضبة رددتها ايمان وهى تعبث ببعض األوراق المطوية على المكتب .أقتربت هدير
من مكتبها القديم ،تحسست سطحه وعالمات التأثر تزحف على مالمحها ورعشة داخلية طالت جسدها
التى أحتوته داخل بلوزة كنارى ،ربما تعمدت أن ترتديها حيث أن لها ذكرى سعيدة فى قلبها حين
أرتدتها ألول مرة فى بداية الصيف الماضى فى لقاء رومانسى بحدائق المنتزة جمعها مع يوسف الذى
أثنى عليها مبهورا :البلوزة دى مخلية جسمك زى ملكات الجمال .قالها وكان ينظر لصدرها المحبوس
داخل قفص الكناريا .
ظل يوسف واقفا مكانه يراقب وقفتها قبل أن تنهى حالة التأمل وتستدير ببطء وتواجهه بنظرة طويلة لم
يفلح فى الهرب منها حين قرأ فيها ندما وشوقا ..نظرات متبادلة أطاحت بهما خارج حدود الزمان
والمكان .تأملت مالمحه بتركيز ..نظراته سحبتها لعشق الزال مقيما فيها ..هاهما العينان العميقتان
اللتان سلبتا عقلها ولم ينفع معهما توسال والعنادا .لم يطرف لها رمش حتى غابت فيهما ،ثم عادت
بعد لحظات تحمل صوتا متيما :عامل أيه يايوسف .أرخى جفنيه :كويس .ميز نبرتها المنكسرة حين
أنصت :واضح أنك مبسوط هنا فى المكتب .التنتظر عن سؤالها جوابا .أستطردت وهى تعبث فى
مالمحه :أنت أجازتك أمتى ؟ ظلت ايمان تتابعهما من مكانها وهى حبيسة غيرة مفاجئة حين سمعت
سؤالها بينما أشاح يوسف بوجهه متجنبا لقاء األعين :مابناخدش أجازات اليومين دول .كانت تحاول
472
فتح ثغرة فى قلبه الموصود .لم تكن تسمع بقدر ماكانت تبحث فى عينيه عن عرشها المفقود الذى لم
تجد له أثرا .
" إ يمان " بدالها المشهد غير محتمل تململت فى كرسيها قبل أن تبدى أستياءا أنعكس فى لهجتها :هو
أنتو حتفضلو واقفين متخشبين كده .تلقت أذنى يوسف النبرة المستهجنة فأبتعد بعينيه مستشعرا
الحرج :أكيد المهندسة هدير ماعندهاش وقت تقعد .
ــ ال أبدا بالعكس .قالتها بحماسة لم تجد لها صدى بل أنها وجدت وضعا ملتبسا حين لمحت إيمان
ترمق يوسف بغيظ ،بينما لم تتراجع هدير عن هدفها الخفى التى جاءت من أجله .علقت نظرتها
بوجهه :عندك وقت نخرج نتكلم سوا .ألتزم الصمت أحتراما للمهندسة التى شعرت بنفسها تجتاز
أختبارا صعبا فى وجود هدير ..تملكتها مخاوف مشروعة ،حاولت أن تخفى ذلك النفور الذى أعتراها
حين سمعت جملة هدير األخيرة فبدت فى جلستها كأنها تتلوى .عضت شفتها وهى تتابع مشهد
النظرات الصامت فألقت بجملة مقتضبة :جاى معايا أوصلك وال لسه قاعد ؟! تنبه لوجودها حين قامت
من مكانها تكتم أنفعالها .نظر لها بضعف ..سلم أمره لصاحب األمر .من هو صاحب األمر هنا ؟ لم
يهتم بالجواب ،هو بكل األحوال رهينة اليملك موقفا سوى األلتزام بحقائق الواقع ،فالتجربة خير
معلم ،البد من العودة الى حجمك وحقيقتك .قال لنفسه ..أدرك أن الموقف اليحتمل خطأ وال ميوعة .
أخلت ايمان أخر مواقعها األنفعالية حين أقتربت من هدير :معلش مش حأقدر أقعد معاكى أكتر من كده
الزم أروح .أنهت جملتها وتراجعت حتى الباب وتركت ليوسف هامشا من الوقت ليفكر ويقرر .فتحت
الباب بعنف ومالمح ناطقة بأقصى درجات التوتر بينما ألحت هدير بعينيها :جاى معايا .تخلى عن
تردده مستعينا بنظرة كبرياء قد فارقته منذ شهور :المهندسة ايمان طريقها قريب من طريقى .جملة
ساحقة كانت كافية لتدرك فداحة خسارتها .قال جملته بنبرة متحدية وبقايا جريمتها الزالت عالقة
بمالمحه .ثم ادار لها ظهره وأنصرف بهدوء وصفع الباب خلفه بينما ظلت تتعقبه بالنظرات وجسدها
كله ينتفض وعلى وجهها عالمات من يودع شيئاعزيزا على نفسه .لم تتحرك من مكانها تنتظر قرارا ،
بشأن كرامة ذبحت منذ لحظات .فما كان منها إال أن بصقت داخلها على كل شيىء ،وأى شيىء ،حيث
لم تستطع أن تبصق علنا فى وجه من رفع شعارا زائفا :األصول والعادات هى اللى بتحكمنا وأياك تنسى
أنتى بنت مين .فى تلك اللحظة وصلت ايمان الخر الطرقة المؤدية لباب الخروج قبل أن تسحب فى
طريقها حقيبة يدها وهى تنصت بأرتياح لصوت أقدام يوسف التى تالحقها ..أبتسامة النصر هى
473
ماقدمته ليوسف حين خرجا سويا من باب المكتب .نجحت بأمتياز فى أزاحة عقبة هدير عن قلعتها التى
تحصنت بها فى قلبه بالرغم من أدراكها بأنه الزال لها وجود فى مكان أخر داخله .غير انها على يقين
بأنه على وشك انتزاعها ولفظها غير مأسوفا عليها .
00000000000
اليوم الثانى ..الزمت هدى السرير حتى الظهر تجاورها فايزة جثة هامدة على غير عادتها .أرهقهما
السهر والكالم ،فتحت عينيها على صوت جيران فايزة يتداولون أخبار األمس عبر النوافذ والشرفات
التى اليفصلها عن بعضها سوى ثالثة أمتار ،سمعت وهى الزالت تستعيد وعيها حكاية الزوج الذى أتم
باألمس شهره السادس على أعتزاله مهام الزوجية بعد أن حققت " الفياجرا " فشال ذريعا فى حالته ،
كما أطلعت على سر " حنان " زوجة " عزت فيروس " صاحب أصغر عربية كبدة فى زمام كرموز
كلها بناءا على تصنيف أطلقه " أشرف العسال " وهو واحد من كبار أكلى الكبدة بالمنطقة ،والتى
تعيش حالة حب سرية مع " صبحى " عامل محارة حيث تم رصدها باألمس بصحبته فى جنينة محطة
مصر .أنتهت النشرة بخبر أخير يتناول بالتحليل قضية الخالف المتصاعد على دور " جمعية " بخمسه
جنيه يوميا بين فاطمة وسلفتها وجارى حتى اللحظة تقريب وجهات النظر .ال أسرار فى هذه الحارة .
أستدارت هدى على جنبها األيمن فأصبحت وجها لوجه أمام فايزة ..تأملت مالمحها مبتسمة ،كل ملمح
فيها أعادها لعنبر " ج " نفس النومة ،صوت األنفاس ،حتى ايقاع تشخيرها لم يتغير .لكزتها فى
خدها :أصحى يافايزة أحنا بقينا الضهر بنصف عين وبشفة مدالة أنحرف منها الكالم :سبينى عشرة
دقايق بس ياهدى ..المؤذى عبده قلقنى من نومى .كان عبده قد غادر فى هدوء منذ ساعة بعدما باءت
محاولته لتبديل جلبابه بالفشل على أثر غضبة تلقاها من فايزة بعد ألحاحه بالطرق على الباب :ياوليه
ناولينى أى جالبية من عندك عايز أروح القهوة .
ــ روح باللى عليك وأصتبح على الصبح .قالتها صارخة متوعدة .
ــ ورحمة أبويا لو ماغورتش فى داهية حأطلع أفرج عليك الحارة .راجع نفسه وفضل الخروج بجلباب
كان مكوما على أرضية الحمام ينتظر دوره فى الغسيل .
474
عند العصر كان شاى العصارى حاضرا أمامهما فى الصالة .تناولت هدى فنجانها وهى الزالت تتحفظ
على األندماج فى البيئة الجديدة بينما تلهث فايزة خلفها بالنصائح والترغيب ،تستعجل الفوز بها ،
كررت عليها وجهة نظرها :وهللا مالناش غير بعض ياهدى ،أيدى فى أيدك يابت ونعيش حياتنا .
أغمضت األخيرة عينيها مع أول رشفة متقبلة الفكرة فالوجع واحد والشكوى عامة .أظهرت هدى
أستغرابا ودهشة كما أبدت أعجابا بتفكير فايزة فى ادارتها لشئون حياتها حين طرحت عليها حلوال
مستقبلية تنفعها عند أتخاذ القرار الصعب .
ــ مش حأقولك بصريح العبارة أن والدك مش عايزينك والحتى بيستعروا منك ..أنسى الكالم ده كله
وخلينا نحسبها بالعقل ،بس األول الزم أسألك ..والدك أصال عايزين منك أيه وأنتى عايزة منهم أيه ؟
سندت خدها على كفها :معناه أيه السؤال ده ..األم حتعوز أيه من عيالها ؟ .
ــ أى أم فى الدنيا فرحتها ماتتوصفش لما تالقى عيالها حواليها وقدام عينيها وفرحتها تكبر وتزيد لما
تطمن على مستقبلهم وتوصل كل واحد فيهم لبيته وهمه كمان مايقدروش يبعدوا عنها عشان هى بتبقى
الحضن والسند ليهم بعد ربنا .ضاقت عينيها تبحث غن فهم :عايزة توصلى أليه ؟ .
ــ غيابك تسع سنين فى السجن شقلب الحال وغير النفسية وخلى البعيد عن العين بعيد عن القلب .
الجملة األخيرة كانت كافية ألنفعال نبرتها :مهما كان الغياب أنا أمهم .
ــ أم باألسم من غير فعل و ماتأخنيش يعنى فى دى الكلمة وجودك زى عدمه بالنسبة لهم وده مش
معناته أن همه وحشين والقلبهم جاحد والأنتى لسمح اللـه غبية عليهم ومش شايفين منك ريق حلو .
ــ عشان بنتك نورا ماسابتش حاجة إال وعملتها لهم ..عوضتهم حنية األم كأنهم والدها بالظبط علمت
وكبرت وصرفت وأكلت ..سدت مكانك وزيادة ياهدى ،ولما أنتى طلعتى من السجن كان عيالك أستكفوا
وشبعوا وماعدش ناقصهم حاجة والفارق حتى معاهم خروجك من عدمه وأنتى ياحبة عينى معذورة
مالقتيش فتفوتة تقدميها لهم عشان يحسو بوجودك ويعرفوا أن أمهم رجعتلهم .سكتت للحظات كى
تتهيأ لكشف أسباب الخلل .أستطردت :أنتى ماحلتكيش حاجة زيادة عن نورا عشان تزغللى بيها
عينيهم ،ال أنتى صاحبة مال والعارفة حاجة عن خصوصياتهم والفاهمة مشاكلهم عشان تقربى منهم
475
وتدخلى فى زوارقهم وهمه كمان مش قادرين يتعاملو معاكى على انك أمهم اللى كانت عايشة معاهم من
تسع سنين .
بدا األمر مرهقا بالنسبة لها وهى تسلم برؤيتها .بصعوبة أستخرجت عذاباتها وأحباطاتها ووضعتهما
أمام فايزة التى تابعتها بأسى ومالمحها ترتج مع كل دمعة من عينى صديقتها .
ــ عندك حق فى كل اللى قلتيه ،وجودى معاهم كان زى عدمه والفرق الوحيد اللى كان بينى وبين نورا
أنى سودت عيشتهم وضيعت أحالمهم وخلتهم تحت رحمة الناس يعايروهم بأمهم ..هو ده اللى أنا
قدرت أعمله معاهم من ساعة ماخرجت من السجن .
ــ يعنى أنتى شايفة أيه ؟ طرحت سؤالها بعد أن ألتحقت الصدمة بمالمحها قبل أن تقضى فايزة بكلماتها
على ماتبقى لها من أمل .
ــ الست مننا ياهدى لما تعجز وتكبر فى السن وصحتها تتدهور ..فى أول األمر والدها بيتلمو حواليها
ويتخانقو مع بعض كل واحد فيهم عايز ياخدها عنده ويراعيها ،أسبوع أتنين شهر بالكتير وبعدها كل
واحد يبقى عايز يرميها ع التانى ويخلص منها ..هزت رأسها بأشارة مفاجئة :فهمتك ..يعنى كفاية
لحد كده وألم نفسى وأبقى خفيفة أحسن ما ..أبتلعت بقية الجملة وأحتفظت بمرارتها ،فأختصرت فايزة
المعنى :بالظبط كده .تقبلت النظرية وتجاوزتها بنبرة تسليم :برنامجنا أيه النهاردة .تأملتها فايزة قبل
أن تنفرج عقدة مالمحها بأبتسامة :أى حاجة تبسطك أنا معاكى فيها .قامت متكاسلة أو ربما محبطة :
حأدخل أريح جسمى شوية على ماتفكرى حنعمل أيه .توجهت الى الغرفة ..بدت كصاحبة البيت !! .
0000000000
فتح يوسف باب الشقة ..الصالة خالية إال من رائحة البخور التى هاجمت أنفه .تلفت متشمما وهو
يتساءل :دول عاملين زار وال أيه ؟!.
تخلى عن طقوسه اليومية .لم يدخل الحمام ليأخذ " دشه " المعتاد .أتجه مباشرة لغرفته بصحبة
مشاعر متناقضة وفى مخيلته صورتان ،أحداهما لهدير واألخرى أليمان .الزالت أصداء زيارة هدير لم
تبرح خياله .أكتفى بخلع قميصه وبنطلونه وركن حذاءه بجوار السرير ثم جلس على حافته بصدر
476
عارى و " بوكسر " .بدا ساهما مشوشا قبل أن يستعيد تركيزه حين وضع رأسه بين كفيه خافضا
بصره متأمال أرضية الغرفة وكأنه يتابع المشهد من نافذة .لم يكن موهوبا فى األستنتاج أو التحليل
ولكنه كان مصرا على فهم الحالة .ماحدث اليوم أعتبره زلزاال مدويا وتطورا مذهال .قفزت أبتسامة
على وجهه تقاسمتها عينيه وشفتيه ..تملكه شعور من أستعاد كرامته عندما أستحضر اللقطة األخيرة
قبل خروجه من حجرة مكتبه حين أدار ظهره لهدير تاركا لها حسرة وكرامة مشروخة .تذكر نظرة
عينيها وهو يسحب نفسا منتشيا ..نظرة كانت تحمل أستغاثات مكتومة وأعتذار بال تحفظ الينقصه
سوى الركوع عند قدميه طلبا للمغفرة .كما لم يغب عنه موقف ايمان ،صوتها المنفعل وحركاتها
العصبية فى وجود هدير يدفعه الى شرود مفاجىء ..قلقها وتوترها الشديدين وهو بجوارها فى السيارة
كان يثير داخله عالمات التعجب ..التجهم والصمت كانا شعارها .لم تنبس بكلمة طول الطريق حتى
سلمته لمدخل العمارة الذى اجتازه مع عالمة أستفهام كبيرة على سؤال أكبر :هل هى تحبه ؟ ولماذا
أختارته هو بالذات ؟ جر السؤال خلفه أوجاعا حين ابدى قلقا :هل يكون مصيره مع ايمان مثل مصيره
مع هدير ؟ فكر طويال فى أجابة للسؤال .اليمكن الوصول الى أجابة قاطعة .مادام داخل المشهد .إال
أنه حاكم السؤال ببرود شديد مستعينا بنظرية " ال أملك ماأخسره " .خاطرا أخر أستدعى ايمان حين
قام بـ " البوكسر " وواجه جهاز الكمبيوتر تزامنا مع لحظة فتحه ؟ لم يشأ أن يتخذ موقفا مندهشا وال
حتى فضوليا ،فالحالة أكثر تعقيدا مما يبدو .زاد حضورها كلما فتش فى مواقعه وقلب صفحاته ،
الجهاز اليسترجع شيئا بدون أمر! كيف ظهرت ايمان ولم يضغط على زر ؟ ربما ألنها مثله فى شرنقة
المعاناة ،ربما المشهد به رائحة من مشاهد أخرى ،مايتراكم فيك ال تستطيع حصره ،يكون بعيدا
وفجأة يقترب مع حدث ،مع صورة ،مع صوت ،ذكرى تنفلت من مخزون الذاكرة .اذا ماذا يفيد
السؤال ؟ فاألجابة التجدى .فجأة غادر بعينه الشاشة وغاب ،كان يفتش عن سبب يصلح تفسيرا .لم
يجد مايشبع فضوله ،فغادر الفضول إلى مايشغله دون أن يدرك بأن شيئا أستقر فى الالوعيه وأن
للحكاية مايحركها .حالته تلك لها تعريف منطقى " أن الحب عند الناس هو حيلة ألشباع رغبة ،ولكنه
عند يوسف غاية يريدها .وهو هدف بعيد ".
لم تمر تلك الليلة إال وصدر األمر بحملة مكبرة قادتها نورا فى غرفة هدى .عملية بحث وتفتيش
الغرض منه العثور على طرف خيط يساعد فى الوصول لمكان أمها بعد أن سأمت من حالة المط
والتطويل والالسلم والالحرب .تلقت دعما ومساعدة من بسمة ويوسف ،وعلى أستحياء من أيات التى
تابعت عملية البحث كمراقب محايد سعيا وراء أى دليل يفضى لمعلومة تقودهم لعنوان فايزة وسط
477
تشجيع ودعوات نعمة التى وقفت على عتبة الغرفة :ربنا ينور بصيرتكو وتالقو حاجة وياريت كل واحد
فيكو وهو بيدور يقول فى سره يارب رد على ضالتى وإن شاء اللـه تالقو اللى يهدى سركو .
فى نفس الوقت الزال خيرى يعانى ..سكون الغرفة ومكان فعلته الماثل أمام عينيه سهل عليه محاكمة
قاسية ل نفسه .مفرش السرير الزال يحمل رائحتها التى حركت فيه أنفعاالت حزينة وشعور هائل من
الغضب كلما تعايش مع تفاصيل الواقعة .مازال صوتها يتسلل اليه من كل ركن يدفعه إلى األرتباك
والخجل .عبارتها األخيرة التى سبقت لحظة تسليمها تطرق رأسه بشدة :بالش ياخيرى ..بالش أنا
محتاجة أتكلم معاك .لم يبحث عن مبرر ولم يحاول الدفاع عن نفسه .لم يتعلل بالمفارقة العجيبة أو
الحبكة الشيطانية التى سحبتهما الى لحظة ضعف دون أرادة وبال عقل .كم يدرك ،االن ،أنه يعشق
بجنون تلك التى لعق شفتيها وداعب خريطة جسدها ،عشقا مبرحا وحنينا موجعا .
أدار فى رأسه نقاشا يصل به فى كل مرة الى طريق مسدود .لو لم يحدث بينهما ماحدث لكان بمقدوره
أقناعها وردها لمنزلها حتى لو أقتضى األمر منه تدخال شخصيا لرأب الصدع بينها وبين أبنتها .سرح
الشك فى عقله كشرخ يزداد طوال وأتساعا .داهمته الظنون :هى فعال راحت عند صاحبتها زى
ماقالتلى وال أل ؟ ! حترجع تانى بعد مافقدت األمل فى كل حاجة ..فى عيالها اللى مش عايزينها وفى أنا
كمان اللى أستغليت ضعفها ؟ بلغ الشرخ مداه حين طرح على نفسه سؤاال محبطا :ياترى هى شايفانى
أزاى دلوقتى ؟ تلك هى التساؤالت التى دارت فى رأسه وشغلته طوال يومه .اليرى أجابة شافية .إال
أن المقادير قد قررت معاقبته على فعلته .وها هى ساعة العقاب قد حلت .
توقف عن نشاطه اليومى ،الصمت والحديث يضايقانه ،صار اليحلم .حتى تلك المنطقة الهادئة التى
كان يستطيع ان يصطاد منها بعض الشوارد قد نضبت وهرب روادها .أصبح فكره فيها يتردد بين
عالمى الحقائق واألحالم فال يبقى فى أيهما الفترة الكافية ألكسابه بعض المعنى .تقلصت أمنياته كلها
وتضاءلت فى رغبة واحدة :هدى .لم يعد يبالى بشيىء ،لم يعد لديه مايخسره .عند هذه النقطة من
القناعة قال لنفسه :لم يعد األنتظار حال .فأستنفر شجاعته حين قرر فجأة مداهمة شقة هدى فى زيارة
جريئة بحثا عن حل .
بينما فى تلك اللحظة الزال البحث جاريا فى غرفة هدى على قدم وساق .ساعة كاملةمن البحث
والتحرى وأصبح كل شيىء فيها تحت سيطرتهم .الشيىء فى الغرفة يدل على أن الراحلة كان لها أى
خصوصية أو تملك أية أسرار ،اللهم اال بعض الصور القديمة تجمعها بأمها وبعض األوراق الخاصة
478
بالمرحوم " نديم "ليس لها منفعة والجدوى ومظروف أصفر بداخله صحيفة الحالة الجنائية ومعه كارت
خاص باألخصائية األجتماعية كأجراء روتينى تتحصل عليه كل سجينة عند خروجها من السجن ان
أحتاجت مستقبال لدعم أو مساعدة ..نظرة أخيرة محبطة جالت بها نورا فى الغرفة قبل أن يرن جرس
الباب الذى أصبح مصدر أمل .أنسحب يوسف خارجا تدب فى مالمحه عالمات تفاؤل .غير أنها
سرعان ماتبددت حين فتح الباب وأستبدلها بأستغراب ودهشة :أهال عمو خيرى .قالها ببطء قبل أن
يتماسك :أيه المفاجأة الجميلة دى .ثم أفسح له طريقا .
ــ أخبارك أيه يايوسف .رددها حين تخطى العتبة للصالة .
ــ الحمد للـه ياعمو .نظرة تفقدية للمكان الذى لم يدخله منذ زيارته األخيرة .تقدمه يوسف حتى
الصالون بترحيب حذر .وصل صوت خيرى ألسماع نورا التى أنتابها خوف وقلق شديدين .توجست
من زيارته ،ربما وراءه أمور غير طيبة أو ربما يحمل معه حلوال سحرية .خرجت له تخفى شكوك
وظنون وداخلها يقين مسبق أن محاكمة غير عادلة تنتظرها فى الصالون .تابعت خطوتها حتى الح لها
وجهه المقتضب فتهيأت بأبتسامة ونثرت عليه جمل ترحيب مبالغ فيها ..تسعى ألستمالته :عمو خيرى
بنفسه عندنا ..أنامش مصدقة نفسى .
ــ ازيك ياحبيبتى .جلست إلى جواره صامتة تتحسس نبرة صوته وشكل نظرته كمرحلة جس نبض قبل
أن تنضم إليهم أيات وبسمة يسحبهما الفضول حول سبب الزيارة الغريبة ..بدوا جميعا على قناعة بأنه
يحمل معه أخبارا مهمة ..بعد األستفسارعن أحوال العافية رأى أمامه وجوها ذابلة ومهمومة ،فأرهقت
نفسيته وزادته أرتباكا .جاء محمال بكل المتناقضات ..بذنوب الشياطين وحسنات المالئكة ،بسيف
الظالم ودعاء المظلوم مدفوعا بأوجاع الجرح وآالم الجريح حين أيقن متأخرا بأنه اليملك حدودا بين
طيبته وشره ،بين جنونه وتعقله .
أرتخت مالمحهم المشدودة حين بدأ حديثه :مامتكو ماأتصلتش بحد فيكم ؟ نظرات مهزومة تبادلوها
فيما بينهم قبل أن تكشف نورا عن خيبة أملها :كنت فاكرة حضرتك جاى ومعاك أخبار .
ـــ لألسف أتصلت بيها كتير جدا ..فى األول كان جرس وبعد كده قفلته .
ــ أحنا كمان من أمبارح لغاية النهاردة مابطلناش أتصاالت وبرضه مقفول .قال يوسف .
479
ــ وناويين تعملو أيه ؟ سأل خيرى ولم يحصل على رد فأستفسر كموفد عن لجنة تقصى حقائق :أنا
عايز أفهم هو أيه اللى كبر الموضوع كده وخالها تسيب البيت ؟ شعرت نورا أن األتهام موجه لها حين
لمحته يغزوها بنظراته .تعاملت مع سؤاله بخطة التعميمات :ماحدش فينا زعلها والحد ضايقها هى
اللى بقت حساسة أوى اليومين دول ..من أقل كلمة بتتضايق وتعملها زعلة .لم يتعمد األلحاح وأنساق
مع نهج التعميم :مامتكم مابقتش حساسة من فراغ متهيألى هى أتحملت كتير وشالت جواها كتير
وماحدش فيكو قدر يحتويها ويعذرها .ثم نقل نظره ليوسف .أردف :وأنت ماحاولتش تمنعها يايوسف
ده أنت راجل البيت .رفع األخير عينيه ينظر ألخته التى أنابت عنه :كلنا حاولنا نمنعها عشان
ماتخرجش ..هى اللى كانت مصرة مع أن الموضوع ماكانش يستاهل كل ده .سقطت من ذاكرة خيرى
القاعدة المعروفة " أمام حصولك على المعلومة ينبغى أال تثرثر كثيرا وال أن تغضب " فبدا عصبيا :
يعنى الحصار اللى أنتو عاملينه حواليها شيىء عادى وبسيط ..شغل مافيش يعنى محبوسة فى أوضتها
ليل ونهار زى كأنها فى زنزانة انفرادى الحد بيكلمها وال حد بيخرج معاها وكمان حياتها الخاصة
عايزين تتحكمو فيها وتجبروها على حاجة هى مش عايزاها والبتفكر فيها دلوقتى ..يبقى كل ده
مايستاهلش يانورا أنها تنفد بجلدها من الجحيم ده ..صمدت فى وجهه كالصخرة :حضرتك فاهم غلط
ياعمو األمور مش بالشكل ده خالص ،ماما عايشة معانا معززة مكرمة وخالفنا معاها عادى زى أى
خالف فى أى بيت ..المعلومات اللى وصلتلك مش مظبوطة ياعمو .لم تكن مقنعة ..لم يشأ أن يجهز
على ماتحاول أن تتشبث به من دفاع ،فأحجم عن هجومه مكتفيا بهزة من كتفه :المهم دلوقتى أزاى
نوصل لمامتك ونرجعها تانى البيت .
بعد نصف ساعة أنتهى الجزء األكبر من حديثه المنفعل الذى صب معظمه فى وجه نورا التى تهاوت
دفاعائها تحت وطأة األحترام والخجل ..أجتمع عليه كل شيىء وتآمرت كل الظروف ،المكان والزمان
والحب .تراجع أرتفاع الغضب فيه وعاد الى حكمته :وأحنا حنفضل قاعدين ساكتين كده مابنعملش
حاجة ..ال أحنا عارفين مكانها والقاعدة مع مين والبتقضى يومها أزاى .كانت تلك أسئلة مغرم عاشق .
ألول مرة يتخلى عن حذر أعتاده بينما لم يعلق أحد ولم تبد عليهم اللهفة وكأن األمر ال يعنيهم ،أو أنهم
خارجه ! .شرد للحظات مستغربا تبلدهم حتى عال صوت نعمة القادمة من ناحية المطبخ تحمل صينية
عليها فنجان قهوة :هى أكيد عند واحدة صاحبتها أسمها فايزة ..وكانت قالتلى مرة ..سكتت لثوان .
تركت ذاكرتها تنقب ثم فركت يديها بعدما تسلمت منها بسمة الصينية .قالت بلهفة :أنها ساكنة فى
كرموز .معلومة ظلت حبيسة ذاكراتها ولم تفصح عنها اال فى هذه اللحظة .توقف خيرى بعينيه
480
للحظات ،تملى هذا الشبح األسمر وهى تناوله فنجان القهوة قبل أن ينحرف ببصره :ماتعرفيش يانورا
أى حته فى كرموز .
ــ أل طبعا ..بس أنا لقيت كارت بتاع األخصائية األجتماعية الموجودة فى السجن ومتهيألى ممكن تفيدنا
بعنوان اللى أسمها فايزة دى .قالت جملتها ببرود ومن باب " عملت اللى على " .أستفزته نبرتها .
وبالرغم من أنه اليملك مايناور به سوى حرمانها من متعة أوشكت على قطافها .
ــ أنا عن نفسى مش حأسكت وال حأرتاح لغاية ماأمكم ترجع البيت تانى ومش حأكون لوحدى شريف
كمان حيبقى معايا مادام أنتومش عايزين تتصرفو وقاعدين تتفرجوا .تعمد أقحام أسم أبنه فى المناورة
كورقة ضغط .لكن المتربعة على عرش المنزل لم يعجبها كالم خيرى .إال أنها التريد أن تذهب بعيدا فى
ظنونها وال أن تعلن غضبا أو تذمرا ،هى تعلم أن خيرى البد أن يكون جزءا من اجراءات الحل .تصدت
له بمرونة وبقايا كالمه الزالت عالقة فى مالمحها :أحنا عملنا كل اللى نقدر عليه ومش ساكتين ..أيه
اللى حضرتك حتعمله زيادة أنت وشريف وأحنا ماعملنهوش .تدخلت أيات لتبسيط األمر فأعلنت بما
يليق بها :أحنا كلنا بنكمل بعض واللى يقدر على حاجة يعملها .أنصت لكالمها بأقتضاب ثم توجه إليها
معاتبا :ماتزعليش منى ياأيات هانم أنا بأحملك المسئولية األكبر فى كل اللى حصل .أختفت البشاشة
من وجهها :ليه ياأستاذ خيرى هو أنا السبب فى سوء التفاهم اللى حصل بينهم وال أنا اللى قلتلهم
قعدوها من الشغل ..أنا واحدة ست فى حالى مابتدخلش فى أى حاجة .كان محددا حين قاطعها :هو ده
اللى أنا بأقصده يا أيات هانم أنك ماتدخلتيش وكنت فى حالك وأتنازلتى عن دورك اللى كان المفروض
تقومى بيه ..كان الزم تكونى الحكم بينهم أو حتى على األقل تقدمى نصيحة والتقولى رأى ..ماتنسيش
أنك عمتهم ولكى كلمتك برضه فى البيت لكن لألسف وقفتى تتفرجى ياأيات هانم .أصرت األخيرة فى
عناد يح فظ لها ماتبقى من كرامة :أسمحلى ياأستاذ خيرى أنت بتتكلم عن مشكلة بين أم ووالدها مش
بين جيران والقرايب وساعات كتيرة التدخل مابيحلش ..بيعقد األمور أكتر .قالتها وكأنها توجه له
أتهام .بينما لمحت نورا فى وجهه غضبا فبادرته بجملة أستباقية قبل أن ينفثه :لو حضرتك بتحملنا
المسئولية فى كل اللى حصل فأنت كمان مسئول معانا .
ــ ياعمو مافيش حاجة بتستخبى وأحنا كلنا عارفين أن حضرتك وماما يعنى ..لم تصرح ببقية الجملة
ألعتبارات الحرج .فتجاوزت المعنى الى المضمون :كان الزم من البداية تحتويها وتقنعها أن الجواز
481
مش عيب والحرام .حاول أن يتخلص من ضغطها ويستعيد المبادرة :مامتك ماكانتش محتاجة حد
يقنعها واليفهمها الحرام من الحالل ..مامتك كانت محتاجة تحس باألمان فى بيتها وانها وسط عيالها
ولها وجود ودور مش كمالة عدد ومالهاش لزمة .أنهى جملته ورفع عينيه وأستقرت على شفتيه
أبتسامة ساخرة قبل أن يستأنف :أحساس صعب أوى أن األنسان يبقى موجود فى بيته وحاسس
بالغربة والوحدة
ــ وحضرتك ليه ماعوضتهاش .كانت جريئة ومباشرة ،لم يعد األمر بينهما مخفيا وراء مصطلحات
عائمة .ثم أرسلت له نظرات مشجعة بينما حركت األجابة فى نفسه حرجا فأطرق غاضا بصره :مش
وقت الكالم ده يانورا فيه حاجات أهم .الحالة التسمح بالفلسفة وال البحث عن العلل واألسباب .خرجت
بسمة عن صمتها :متهيألىالزم كلنا نراجع نفسنا ولما ماما ترجع حنحط النقط على الحروف عشان اللى
حصل ده مايتكررش تانى .
ــ مش لما نعرف مكانها األول .أفصح يوسف بعد فترة غياب بدا فيها كضيف شرف بينما أدرك خيرى
أن الحوار فى مثل تلك المواقف ،يستدعى حكمة وربما يقتضى حدة :ده دورك يايوسف أنت
راجل البيت المفروض التهدى والترتاح لغاية ماتعرف مكانها .قال نصيحته ثم هم واقفا :ع العموم
ربنا يصلح األحوال .ثم قدم أعتذارا عن زيارته المفاجئة دون سابق أنذار وعن فنجان القهوة الذى لم
ينهيه .خرج من الصالون ولحقت به بسمة التى أختصرت قلقها :خليك جنبنا ياعمو لغاية ما ماما
ترجع .أنحشرت نورا بينهما :عمو قال أنه مش حيسكت وأنتى مش نونو ياست بسمة .قالتها ساخرة
وبصوت بدا لها غير محتمل .أبتسم خيرى وهو يكشف عن مشاعره ونواياه :ماتقلقيش ياحبيبتى أنا
طول عمرى كنت جنبكم وان شاء اللـه لما هدى ترجع حأبقى جنبكم على طول والفيه حد عنده مانع .
بادلته نورا األبتسامة وهى تصحبه للباب .تماشى كالمه مع هوى نفسها .ألتفت اليها موصيا :لو
عرفتى أى حاجة أوردت عليكى بلغينى على طول حتى لو فى عز الليل .رحل تاركا لها األجر والثواب
ان فعلت .تأملته بدهشة وهو يتجه لشقته .رأت رجال تخلى عن ثباته ورصانته ..كانت أمام عاشق
يبحث عن ليلى ! .
لم تسفر زيارته عن أية نتائج ..األسئلة واألستجوابات لم تفيده فى التوصل لمعلومة وأصبحت قضية
أختفاء هدى فى طريقها للحفظ أنتظارا ألى جديد .
482
0000000000
رنين موبايل فايزة داهمها فى المسافة الفاصلة بين الطرقة والصالة بعد أن أنهت لتوها أرتداء مالبسها
أستعدادا لخروجة ليلية بصحبة هدى التى الزالت فى الغرفة تضع اللمسات األخيرة .نظرت فى الرقم ثم
قالت فى نفسها :عايز أيه زفت الطين ده .رفعته فى ملل آلذنها :خير يانونو فى أيه ؟ بدا صوته
مرتبكا حين أجابها :معايا واحد واقف جنبى وعايز ييجى يتكلم معاكى فى حاجة كده .كشرت وجهها :
واحد مين ياوله اللى أكلم معاه .
ــ أنا ماعرفهوش يامعلمة بس الوله جمعه بيقولى أن بقاله ساعتين مستنينى فى القهوة عشان آخده
وأخليه يقابلك .زادت دهشتها وتهكمها :يعنى أنت ماتعرفهوش وعايز تجيبه البيت عندى ..طب أسأله
ياحمار هو عايز أيه ؟! .
ــ اللى سمعته منه ماقدرش أقوله ،أسمعيه أنتى بنفسك .
لم يستغرق وصول " النونو " البيت سوى عشر دقائق ..تراجعت فايزة خطوتين من أمام الباب كى
تسمح بمرور النونو ومن خلفه ذلك الكائن الذى عاينته بنظرة حذرة وجملة مقنضبة :خير يانونو
فى أيه ؟ .
ــ دلوقتى تسمعى بنفسك .قالها وهو يجلس على الكنبة .
ــ أقعد ياخويا واقف ليه .جملة تلقاها الضيف الذى جلس مدليا رأسه لألرض وهو يهمس بكلمات
خجولة :كتر خيرك يامعلمة ..محسوبك وخدامك نعيم .رمته بنظرة ضيق :خير ياسيدى قول .قالتها
بالتزامن مع وصول هدى من الداخل .أبدى النونو أعتراضا على وجود الضيفة حين مط شفتيه :األخ
عايز يكلمك فى حاجة شخصية ..طمأنته :دى زى أختى ياوله مش بأخبى عنها حاجة .بينما أستشعر
نعيم فى نظرتها قلقا فمنحها مقدمة مهدئة :اللى سمعته عنك يامعلمة من جدعنه وكرم أخالق هو اللى
شجعنى آجى لغاية عندك وأعمل األصول .أنهى المقدمة الواجبة حين تلقت أذنيه تنهيدة من نفذ صبره
عندما جلست أمامه متململة :قصره أيه المطلوب .أربكته بمالمحها فدخل فى صلب الموضوع :من
حوالى شهرين جانى أبنك منصور ومعاه واحد أسمه سليم وطلب منى حاجة كده ولح على فيها ..أصل
لمؤاخذه العبد للـه خدوم ومايحبش الرغى الكتير .بالرغم من تلك المالحظة أسهب نعيم فى سرد روايته
مضيفا لها كل عناصر التشويق والمفاجأة مع تكرار عبارات التمجيد واألشادة بنفسه مع نهاية كل جملة
483
متقمصا دور الناصح األمين حين قاربت روايته على األنتهاء بينما فايزة تنصت له بعين مفتوحة وشفة
مرتعشة الزال يتابع :وكنت أخد منه الكالم يامعلمة وأسكت شوية وأقرب لمؤاخذة عينى من عينه
وأقوله راجع نفسك يامنصور الحكاية مش سهلة دى برضه أمك وأتذكرت فى القرأن ،الحق يتقال
يامعلمة كان يسكت ويتوه منى وكأنه المؤاخذه بيدور على لسانه ويعدها قالى لو مالكش غرض تخدم
فيه غيرك يسد .سيطر عليها الذهول وأنتابها الدوار .صفعتها روايته وتلجلج صوتها :أيه ياجدع أنت
اللى بتقوله ده ؟! قالتها وبحثت بعينيها عن وجه النونو :أنت جايبلى واحد مش فى وعيه ..أيه
الهجص اللى بيقوله ده .لم يعلق وكأنه يؤكد كالمه فأحتقن وجهها كموخرة قرد وأردفت بصوت
يحتضر :أنت مين اللى بعتك عشان تقولى الكلمتين دول والحكايتك أيه بالظبط ؟! أيدتها هدى التى
واجهته بنبرة عدائية :أكيد الراجل ده مزقوق عليكى ،شكله باين يافايزة ! قطب وجهه المسحوب
مدافعا بحماسة :كتر خيرك ياست ..حاجتين بأكرهم فى حياتى الكدب والمؤاخذة أتبلى على حد .لم
تستطع اخفاء صدمتها .كلماته كجمر النار تأبى الدخول لعقلها وتقف عند تجويف أذنيها فبدا لها عذابا
اليحتمل حتى فاض بها الكيل :يعنى أنت جاى تقولى أن أبنى الوحيد كان عايز يدبر لى مصيبة ويحطنى
فيها ويدخلنى السجن عشان يخلص منى ويلهف القرشين وعايزنى أصدقك ..طب أزاى ياأبو عقل
ضارب ياقليل الذمة والدين .أنتفض فى مكانه واراد أن يظهر غضبا اال أنها سبقته وخرجت عن السياق
وتحولت الى نمرة شرسة :لو مش حتقولى حكايتك أيه ومين اللى وراك لتكون نازل من هنا على
ضهرك ورجليك عمرها ماحتلمس أسفلت الشارع تانى .أرتعشت مالمحه وطمس الخوف صوته وهو
يدلى بكلمات مهزوزة :عيب يامعلمة أنا فى بيتك والمؤاخذة يعنى أنا مش راجل مجنون عشان آجى
لغاية هنا وأقول كالم ماحصلش وال أتبلى على أبنك وع العموم اللى يفصل بينى وبينك أبنك منصور
هاتيه دلوقتى قدامى وواجهينى بيه ولو طلع كالمى غلط رقبتى تحت أمرك .قالها ونكس رأسه راسما
عالمات التأثر ثم تابع :اللى قلته هو اللى حصل يامعلمة وأنا عاذرك وعارف أن كالمى وجعك بس هى
دى الحقيقة .أرتعشت شفتها السفلى داللة صدمتها التى غابت فيها وكأن المأساة أبتلعتها حتى أنها لم
تشعر بمن حولها اال حين أحتدت هدى بصوت عصبى :من األخر كده أنت عايز أيه من ورا الكالم ده ؟
أرتبك للحظات قبل أن يتماسك ويراوغ :أنا عن نفسى مش عايز حاجة ياست ،الحكاية كلها أنى
صرفت من جيبى قرشين لما أتفقت مع منصور لكن الحمد للـه ربنا نورلى طريقى لما سألت ودعبست
وعرفت أن المعلمة فايزة ست جدعة وتعرف األصول وقلت لنفسى لو جت ع الفلوس تبقى سهلة آهى
بتروح وتيجى بس المهم أن الواحد مايخسرش نفسه .أراد أستمالتها بجملته األخيرة وهو يراقب
484
نظرتها المستسلمة التى تفيض مرارة حين ألتفت لـ " نونو " قالت بنفس مقطوع ومالمح مرتخية :
أديله اللى صرفه .قفز نعيم من مكانه خافضا رأسه مصوبا شفتيه ناحية يدها محاوال تقبيلها :ربنا
مايحرمنا منك يامعلمة .سحبت يدها فى أستنكار :روح غور فى داهية بعيد عنى .
قاده النونو الذى بدا محايدا الى خارج الشقة بينما أستولى عليها شعورا جارفا بالقهر .تابعت هدى
حالتها التى تسوء ،عيناها تضيق وتتسع ،شفتاها تتحركان وكأنها تتمتم مع نفسها .حاولت التواصل
معها لسحبها للحظة هدوء قبل فوات األوان .لم تعثر على كلمات تناسب فجيعتها ،فأستحلفتها أن
تهدأ :عشان خاطرى يافايزة ماتكبريش الحكاية الموضوع كله مايستاهلش .ضربت األخيرة كفيها
غيظا وأحباطا :ليه كل ده ..عايزة حد يفهمنى ..عمرك سمعتى ياختى عن أبن عايز يخلص من أمه
ويدخلها السجن ..جاوبينى سمعتى عن حاجة زى دى ياهدى .بقدر ماتحمله األخيرة من هموم وأحزان
إ ال أنها تضاءلت أمام فجيعة فايزة وفداحة مصابها .بدت أن الرجفة داخلها على وشك أن تنتقض ثم
أجتاحتها نوبة بكاء شديدة قامت على اثرها هدى تحتويها فى صدرها :أهدى باللـه ماتعمليش فى نفسك
كده .تطلعت اليها بوجه غارق فى الدموع :شفتى منصور أبنى الوحيد كان عايز يدخلنى السجن ..
حاولت هدى أن تنفض عن نفسها أحساسا بقلة الحيلة :ياستى لو فرضنا أن الكالم اللى قاله الراجل ده
صح أكيد ابنك ساعتها كان مضايق والشايل منك وحب يعمل حركة تهويش خايبة مالهاش لزمة والدليل
على كده أنه ماقابلش الراجل ده تانى وال حتى عمل أى حاجة تضايقك .بدا كالمها بال معنى وال تأثير .
أنصتت لها بمالمح التماثيل دون رد أو تعقيب وكأنها فى عالم أخر .بينما أدركت هدى أن المرأة القوية
التى عاشرتها سنوات أصبحت آيلة للسقوط .فأختارت نبرة خافتة مستجدية :لو بتعزينى صحيح كبرى
دماغك وكأن مافيش أى حاجة حصلت .ثم أخذتها فى حضنها للحظات حتى هدأت وتماسكت ثم أنكمشت
على نفسها فى كنبة الصالة ،الشيىء يتحرك فيها سوى جفنيها وكأنها تسترد وعيها ببطء .ظلت
صامتة متصلبة لدقائق قبل أن تدب فيها الحركة من جديد حين سحبت موبايلها من جوارها وضغطت
بأصبعها على أخر رقم أتصل بها .من وسط الصدمة والمعاناة لمعت فكرة .تابعت هدى حركاتها
بأهتمام :بتتصلى بمين ؟ لم ترد عليها ورفعت الموبايل ألذنها :أيوه يانونو ..الحكاية اللى حصلت دى
مش عايزة منصور ياخد بيها خبر .
ــ قبل ماتراضيه خليه يتصل قدامك بالوله سليم عايزاك تتأكد من كل كلمة قالها وأبقى بلغنى .
ــ حاضر .أحست هدى فى نبرتها بشيىء غريب ومريب :أنتى بتفكرى فى أيه يافايزة .
ــ لسه مافكرتش .قالتها ثم غابت مرة أخرى فى الصمت والتأمل .ظلت هدى بعدها لساعة كاملة تلهث
خلف أذنيها بعبارات التهدئة والمواساة اال أنها لم تحصل على أى رد فعل ولم تلمس فيها أنفعاالت ولم
ترصد غضبا فزادت حيرتها وأشتد قلقها حين أجابت فايزة عن سؤال لم تطرحه عليها هدى :عايزة
تعرفى أيه اللى منع منصور مايكملش خطته .
ــ أكيد راجع نفسه وعرف أن مافيش حد فى الدنيا ممكن يأذى أمه .قالتها بسذاجة .
ــ أنا ياهدى اللى منعت خطته وبوظتله الرسمة اللى كان راسمها وطبعا ده كان من غير قصد .
بدت ساهمة وكأنها ترتب األحداث :ربنا ألهمنى بمنام شفت فيه منصور وبعدها قلت لنفسى الزم أكسبه
وأرجعه لحضنى ووقفت جنبه وعملته بنى أدم ومن كرم ربنا على أنه الهمنى أعمل كده فى الوقت
المناسب ،لو كنت أستنيت شوية كان زمانى البسة تهمة ومرمية فى السجن .
تلقت أتصاال من النونو الذى أبلغها فى مكالمة مختصرة أن سليم وراء زيارة نعيم الذى أستدعاه وقام
بتوجيهه لفضح منصور أمامها مستهدفا األنتقام منه بعدما تخلى عنه األخير وباع صداقته .هزت
رأسها فى أشارة مفاجئة عندما أنتهت المكالمة :الزم أخليك تدفع التمن يامنصور .لم تتمهل حين أعلنت
جملتها ولم تفصح عن قيمة الثمن الذى سيدفعه أبنها مكتفية بسحب عينيها فى هدوء بأتجاه عينى هدى
التى أقتربت منها بحذر :ناوية على أيه يافايزة .لم تكشف عن نيتها فبدا األمر مرهقا بالنسبة لهدى
التى حاصرتها بكلمات المواساة قبل أن تباغتها فايزة بالنتيجة النهائية التى توصلت اليها بعد فجيعتها
الهائلة :عرفتى وأتأكدتى أن اللى يشوف بلوة الناس تهون عليه بلوته .نبتت أبتسامة ساخرة على
وجه هدى وكأن الحكمة تخرج من بطن المعاناة :متهيألك :أنا وأنتى بلوتنا واحدة ..كلهم عايزين
يخلصوا مننا بقينا عقبة فى طريقهم وعايزين يزيحونا بأى طريقة ..أنا عن طريق جوازة وأنتى ترجعى
السجن تانى ..المهم عندهم أننا نختفى من حياتهم .أحستا بأنهما منبوذتين من الحياة .أمعنتا فى
تعذيب نفسيهما بالبكاء .لم يستغرق األمر طويال قبل أن تنفض فايزة عن نفسها لحظة الضعف
486
وتستبدلها بكم هائل من الكبت والغضب حين صرخت :مابقاش فايزة بنت عبد المقصود أن ماخلتكش
تندم يامنصور أنت وأبوك .ألتصقت بها هدى ثم دفنت كل منهما رأسها فى صدر األخرى .
القلق الزال مقيما فى رأس نورا يخنق جنبات غرفتها تاركا هواجس ومخاوف عالقة فى وجهها ..
توقعات غير مشجعة هى كل ماتوصلت اليه عن النهاية المتوقعة لقصة أمها المختفية .مرت ثالث
ساعات كاملة على انتهاء زيارة خيرى المفاجئة ..بقيت ممددة على سريرها فى النور الخافت دون
حراك كمومياء محنطة .حاولت أن تبحث عن النوم ،كما يحاول جمل أن يدخل من ثقب أبرة .أحست
أنها فى منزلة بين المنزلتين .زارتها كل األحتماالت ..اال أنها لم تتشبث بأيامنها ،مايشغلها األن هو
العثور على أمها ووضع نهاية سريعة وحاسمة قبل أن تتفاعل األزمة ويصعب أخمادها .أنتهزت فرصة
أنفرادها بنفسها لتراجع أفكارها ومخططاتها حيث غابت بسمة التى تشارك يوسف فى تلك اللحظة سهرة
كالمية فى غرفته تتناول معه أحداث يومه الساخن ومايتطلبه من مناقشات مفتوحة وتقييم موضوعى
حول زيارة هدير للمكتب وماخلفته من توابع وفى مقدمتها ذلك الفعل العصبى التى أظهرته ايمان ولم
تستطع أخفاءه .
زيارة خيرى اليوم كانت نقطة تحول هامة فى مسار مخططها برغم تحوطاتها التى بذلت فيها كل حيلة
وذكاء ،لكن ماكان مخططا اليقود الى صواب ،فقررت مرغمة أن تجمد بنود خطتها لحين عودة أمها .
لم يكن ثمة قرار معين قد استقر عليه رايها ويشغلها االن طريقة تنفيذه ،بل مجرد حيرة اليعرف لها
حال ..لم تر امامها من سبيل سوى التراضى معها للوصول الى حل يحفظ لها أنفرادها بزعامة البيت.
أيقنت األن بأن طريق المفاوضات هو األسلم واألنجح ..أستراحت لفكرة المفاوضات .كان قرارا نهائيا
بعدما أستعرضت بتمعن مابدر عن خيرى من غضب وأنفعال جعلها تحت ضغط متنامى وزاد من
شعورها بأنها أصبحت فى مرمى األتهام وباتت تخشى من تفكك جبهتها الداخلية وأنهيارها بعدما
أستوقفتها تلك النظرات المحتقنة التى لمحتها فى عينى يوسف وبسمة .أستبد بها الخوف ولعبت
برأسها شياطين القلق ..كل شيىء ،أى شيىء ،جائز وممكن حدوثه أو حتى تقبله ،اال ذلك الشيىء
487
الذى بنته على مدار سنوات طويلة ورسمت له حدوداوأسست أركان دولته ووضعت أول مادة فى
دستوره التى تنص " يوسف وبسمة خط أحمر " ثم نصبت نفسها زعيمة عليها ،وكان شأنها ـ شأن
كل ديكتاتور عادل ـ يرضى حاجة خاصة فى الوقت الذى يرضى حاجة عامة .الزال هبوط الليل يملؤها
كآبة ،يشيع فى نفسها غربة ومتاهة ..حاولت الهروب من أفكارها ومضت بعينيها تبحث عن وسيلة
بها تقتل ساعات الليل البطيىء الطويل الممل ،وكانت تخشى ماتخشاه أن تجد نفسها أمام نفسها زمنا
التعرف متى ينتهى ،حيث تنبعث أمامها الرؤى واألشخاص والعالم المعقد كما تظن .أستدارت على
جنبها وتكورت على نفسها كالجنين وأصبح وجهها للحائط الذى بدا فى عينيها مظلما كقاع بئر..ظلمة
راكدة اليظهر فيها سوى خيال رأسها وطرفات جفنيها ..تنبهت لظلها وتأملته وكأنها تتشاغل عن
هواجسها لعلها تنسى ماهى فيه من أرتباك وحيرة .أفلتت يدها التى كانت تحبسها بين فخذيها ..قربت
رأسها وعيناها مركزتان إلى الحائط ،مشت بأناملها على الخيال تتحسسه ،إال أنها رفعت يدها حين
شعرت بهاتين العينين تراقبها ،تنظر اليها من زاوية واحدة وكأنها تتفحصها خلسة .أذهلها المنظر ..
تشككت فى قوة بصرها ،فأعتصرت عينيها ثم فتحتهما على نفس النظرات .تماسكت ثم أشهرت
أصبعها ووجهته صوب العين اليسرى فى تردد لتتأكد .أرتعشت مالمحها وشعرت بدوار حين غاص
أصبعها داخل العين ..كاد أصبعها أن يشل قبل أن تسحبه فى سرعة البرق وكأنما المس قدر يغلى .
رفعت رأسها المترنحة وهى تردد بصوت مخدر :بسم اللـه الرحمن الرحيم .قالتها ولم ترحل بعينيها
عن الخيال وكأن شيئا يشدها إليه بخيوط لزجة ..ظلت تتابعه وصوت أنفاسها يكلل المشهد ويسرع
وتيرته ..لم تلحظ فيه مايخيف .غير أنها ثبتت حدقتيها اللتان زادتا أتساعا وهى تقارن بين الرأس
المرسومة على الحائط وبين رأسها المرفوع .
ــ ياربى ده مش وشى أنا .بدا الفرق واضحا بين األصل والخيال وهى تتابع بأنتفاضة ذلك الوجه
الشاكى المعذب ..جالت فى قسماته التى تصرخ فيها كل العذابات .تدنو بوجهها للحائط حتى كادت
تالمسه ..تملكتها فى أول األمر لحظة من الشرود كأنما نسيت شيئا ال تستطيع أن تتذكره ،بدت
كالمجذوبة وهى تنقل نظراتها بين الخيال وفراغ الغرفة قبل أن تمد بصرها ثانية إلى الحائط ..نطقت
شفتيها قبل أن ينطق لسانها حين تعرفت على صاحب الخيال :ماما ..رددت أسمها برعشة وهى
ساهمة مكتفية بمراقبة بقعتان سوداتان بزغتا فجأة أسفل العينين ،وكأن شيئا محبوسا داخلهما ثم خرج
طافحا وتسرب فى خطين طويلين ينزالن ببطء وتمهل يعبران دائرة الخيال حتى تواريا داخل الفرجة
الفاصلة بين السرير والحائط .أختنق صوتها وهى تنهج :أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم .ثم حدثت
488
نفسها حين ألتفتت للحائط ولم تجد شيئا :أيه الحلم الغريب ده .اال أنها رفعت كفيها وضغطت على
رأسها بعنف :هو أنا نمت أصال عشان أحلم .سألت نفسها بنبرة تائهة .لم تستطع أن تحدد موقع
اللحظة على خريطة الزمن .أنزاحت بجسدها مبتعدة عن الحائط كأنما تحمى نفسها من خطر قادم ..
طافت برأسها كل األسئلة بدا وجهها كعالمة أستفهام كبيرة حين طرحت على نفسها تساوال :هو الخيال
اللى كان على الحيطة بتاعى أنا وال بتاع ماما ؟ خافت من صيغة السؤال .حركت عينيها بأتجاه الباب
حين شعرت بشبح أمها يطاردها فى الغرفة ويطوف حولها ..صرخت تنادى وكأنها تستغيث :بسمة ..
بسمة .لحظات وهلت عليها مهرولة تقترب منها بخطوات سريعة ومالمح مفزوعة :مالك يانورا فى
أيه ؟ تأملتها األخيرة لثوان .بدت وكأنها التملك أختيار أجابتها .تماسكت وهى الزالت على وضعيتها
ممددة :ماليش ..كنت عايزة أسألك ..سكتت حاولت أخفاء أرتباكها قبل أن تستطرد :بتعملى أيه كل
ده عند يوسف ! نفخت بسمة كأنما تنزح عن صدرها خوفا طارئا ثم أحتلت مكانها على حافة السرير :
حرام عليكى يانورا أنا قلت فى حاجة حصلت .
ــ حاجة زى أيه يعنى ؟ سألت وأثار ذلك المشهد باديا على صوتها .
ــ زى حلم يعنى وال كابوس وال تكونى أفتكرتى حاجة ضايقتك .تعمدت أن تضغط على حروف الكلمة
األخيرة .
ــ ليه بتقولى كده ؟ نظرة طويلة مصحوبة بأبتسامة ذاهلة :عشان من سنين طويلة ماشفتكيش بتبكى
يانورا .
ــ أنا .قالتها بتجهم وأستغراب قبل أن ترفع جسدها وتسنده إلى ظهر السرير مستهجنة ذلك التصريح .
ودون أرادة منها مدت أناملها تتحسس أسفل عينيها ..دارت بحدقيتها وتساقطت شفتها رغما عنها
بفعل الصدمة حين بللت الدموع أطراف أناملها ،لوت رقبتها ناحية الحائط كأنما تستجديه وتطلب
شهادته .
ــ مش أنا اللى كنت بأبكى دى ..صمتت ولم تفصح بينما لمحت بسمة على شفتيها سؤاال حائرا فبادرت
تستفسر :أنتى بتسألى مين يانورا ؟! .لم ترد وأستولى عليها ذهول ،لكن سرعان ما أنتظمت كلماتها :
أنا بأسألك أنتى يابسمة .قالت أجابتها وأشاحت بوجهها شطر الباب تدارى تلك الهزة التى علقت
489
بمالمحها بينما الحظت اختها أنها بدأت تفطن إلى ماأرتكبته من خطأ ؟ .أستجمعت نفسها ،بدا وجهها
ناطقا بالسام حين أردفت :أنتى مش حتنامى .سألتها وكأنما تلوذ بها من الخوف .
ــ قاعدة شوية مع يوسف ..نصاية بالكتير .قالتها وخرجت بينما نورا تسند ظهرها للسرير غير
مصدقة ماحصل لها .ثبتت رأسها لألمام تتحاشى النظر للحائط .لم تستطع أن تقدم أى أيضاح منطقى ،
إال أنها لم تستسلم لتلك الحالة فأزاحت الخوف والدهشة ،أقنعت نفسها بمهارة بأن مارأته يتحرك على
الحائط ربما تهيؤات ليلية ،فال يعدم الليل أن يفرز لها شخصا من هذه الزاوية أو تلك .ومع ذلك فقد
أضطرت أخيرا أن تنام عندما توقف تفكيرها وأدركت الحقيقة التى حاولت تأجيل أدراكها " أمها رقما
صعب فى المعادلة اليمكن شطبها بالسهولة التى كانت تعتقدها حتى وان نجحت فى أزاحتها عن البيت .
ربما تختفى بجسدها ،لكنها حتما ستعود فى الليل شبحا يمشى على الجدران !.
ما أن دخلت بسمة حتى أدار " يوسف " رأسه مبتعدا عن شاشة الكمبيوتر ..تأمل مالمحها التى لم تعد
نفس المالمح التى خرجت بها :نورا بتنادى عليكى ليه ؟ مرت بجواره واجمة وجلست على حافة
السرير .فأثار صمتها فضوله :فى أيه يابنتى .قالها وهو ينتقل بعينيه بين شاشة الكمبيوتر وبين
وجهها المرفوع للسقف قبل أن تغمض عينيها :حأقولك على حاجة مش حتصدقها .سحبته الجملة
فأنتبه .أردفت :لما دخلت على نورا لقيتها بتبكى وحالتها مش طبيعية خالص .
ــ ليه أيه اللى حصل ؟ قالها حين فارقه األسترخاء .
ــ هو أنت يابنى مش عايش معانا وال أيه ..كل اللى أحنا عايشين فيه ده عايزه يعدى كده بالساهل من
غير قلق وال وجع دماغ .شبك أصابعه خلف مؤخرة رأسه تزامنا مع تنهيدة طويلة أتاحت له الفرصة
كى يبدى رأيا :واللـه نورا صعبانه على أوى وحاسس كده أن المشكلة بقت اكبرمنها بكتير.
ــ يابنى المشكلة الكبيرة وال صغيرة ..أصال مافيش مشكلة .
ثم قامت متمهلة حتى وصلت لمكتبه .أستندت بمرفقيها .أستأنفت بجدية التنسجم مع شخصيتها :لو
تابعت تسلسل األمور بين نورا وماما حتقول فعال المشكلة كبيرة وعويصة ومالهاش حل .قاطعها
مستغربا :أنتى مش لسه قايلة مافيش مشكلة أصال ..أيه الجنان ده .
490
ــ ده مش جنان ولوحضرتك عاقل وفاهم ياريت تقولى هى أيه أصل المشكلة اللى أحنا فيها .أرتبك :
يعنى ..نورا خايفة علينا و ..انتصبت واقفة وهجمت عليه بعينيها :خايفة علينا من مين ..من أمنا ..
طب ليه ؟ سألته ثم أجابت :عشان دخلت السجن والناس بتعايرنا بيها وببيهربوا مننا كأننا جربة .بدا
صوتها عاليا وغير محتمل بالنسبة له :أنتى نسيتى مستقبلنا اللى عمال يضيع مننا وأحالمنا كلها اللى
بقت على كف عفريت .
ــ بذمتك أنت مصدق أن ماما هيه السبب ورا كل اللى بيحصلنا ده .أنهت جملتها بضحكة ساخرة مبتعدة
إلى وسط الغرفة قبل أن يالحقها بأستفساره :مش فاهم ـ وال أنا كمان فاهمة عشان كده بأسألك وبأسأل
نفسى ..هى الخناقة الحقيقية اللى بين نورا وماما على أيه بالظبط ؟ سؤال مباشر له أكثر من أجابة فى
عقل يوسف .أختار أوضحها :نورا شايفة أن وضع ماما فى وسطينا حيكون ضرره كبير علينا عشان
كده ..رؤية مكررة قاطعتها بأنفعال :عشان كده أيه ..نخليها تتجوز عشان تمشى من البيت ..تمشى
من بيتها يايوسف عشان أحنا نرتاح ؟! .فقد النطق بعدما تسلم مهام منصبه سميعا .فرفعت عنه الحرج
حين علقت ساخرة بضحكة مطولة تخللتها مرارة لم تشعر بها من قبل :الحاجة الغربية اللى حتجننى أن
كل اللى نورا بتعمله ده عشان خاطرنا أحنا النها بتخاف علينا وبتحبنا زيادة عن اللزوم واألغرب من
كده أن ماما كمان دخلت السجن وقعدت فيه سنين برضه عشان بتحبنا وبتخاف علينا .أنهت جملتها مع
ضحكتها وعادت تقترب ثانية من يوسف الذى تحول إلى صنم .تابعت :يبقى كده يا أستاذ الخناقة بقت
معروفة ..رددت جملتها ويديها خلف ظهرها ثم ترجلت بخطوات هادئة .حدثت نفسها كما حدثت الصنم
الذى دبت فيه الروح وظل يتابعها :المشكلة الكبيرة دلوقتى ان كل واحدة فيهم عايزة تملكنا ..كل
واحدة عايزة تثبت أنها ضحت اكتر من التانية ..ولو عايز الحق المشكلة مش فيهم همه األتنين
المشكلة الكبيرة فينا أحنا ..فكت وثاق يديها المشبوكة وأتسعت عينيها فى عينى أخوها متساءلة :أحنا
بنحب مين أكتر ..اللى شالت همنا من صغرنا وأتحملت مسئوليتنا لغاية ماوقفنا على رجلينا وال اللى
خلفتنا وضحت بأحلى سنين عمرها فى السجن عشان خاطر حقنا مايرحش .سألت السؤال الصعب الذى
جر خلفه نقاشا وفتح بابا للجدل الداخل الذى يحمل معه مقارنات ومشاهدات تدور كلها حول مزايا األم
وفوائد األخت !! .
حوارات وحكايات أكلها الليل وأنتهت على أعتاب الفجر مع جملة أخيرة حسمت بها بسمة السهرة :أنا
وأنت يايوسف عاملين زى الحمار مطرح مايحطه صاحبه أدينا عايشين والمثل بيقول من خاف سلم
491
خلينا يابنى مداريين وجنب الحيطة .قالتها وفقدت الكثير من طاقتها ..لم يعرفا بعد طعم الحرية التى
التحيا إال فى الضرورة .قامت مرهقة حتى وصلت للباب :تصبح على خير يايوسف .
بالرغم من فوات موعد نومه ،إال أن يوسف أصر على أكمال سهرته محتفال بنشوة هذا األنتصار
الساحق الذى حققه اليوم فى مكتب المهندس " ناجى " .بدا واثقا أن التهمة التى طالما وجهها الى
نفسه بأنه دائما غير قادر على الفعل ،قد أنتهت منذ ذلك اليوم .
يبدو أن الحب ليس سلعة يمكن أن تفقدها ثم تعود تستردها .أيقن اآلن ودون تردد :أن من شوهت
األحقاد حبه اليمكن أبدا أن يستعيده من جديد .نجح اليوم فى أسترداد كرامته .أدرك األن أن هدير
لم تكن قد دخلت معركة اليوم لكى تهزم ،وإال لظلت بعيدة ،كانت تريد أن تظفر هى أيضا بأنتصار
جديد .غير أنه واجه نفسه متساءال عن سر أهتمامه الشديد بالرغم من أنحسار حبها فى قلبه ..أبتسم
أبتسامة من تعافى من مرض عضال حين أعتلى سريره مستدعيا تلك النظرية التى تقول :نقيض الحب
هو الكره ،بل هو عدم األكتراث .الفرق ليس كبيرا بين الحب والكره ،فالكره ..مثل الحب ..ليس
سوى درجة من درجات األهتمام باألخر !! .وبناء عليه بات على قناعة تامة أن عالقته بأيمان قد
أستوعبت عالقته بهدير ،وهذا يعنى أن حاضره األن قد شمل ماضيه ،وهذا هو طريق الخالص الوحيد
من تجربته القاسية .
وصلت نورا األتيليه متأخرة عن موعدها بساعة كاملة .بخطوات مرهقة ومزاج عكر توجهت الى مكتب
زيزيت التى كانت تتجرع أخر نقطة من فنجان القهوة .بوجه شوهه السهر واألرق :صباح الخير
يامدام .رافقتها نظرات قلقة من عينى زيزيت حتى جلست :صباح الخير يانورا ..مالك ياحبيبتى شكلك
باين عليه التعب.
ــ قلة نوم يامدام .ثم عبثت بجفنيها دعكا وفركا متجاوزة الرد على سؤال زيزيت :لو تعبانة يانورا
أطلعى أرتاحى شوية .بأحساس متوتر ،مستمد من أعماق ضغط عصبى هائل .مدت يدها داخل
ح قيبتها وسحبت كارت لوحت به فى وجه زيزيت التى عاينته بنظرة مستفهمة :بتاع مين الكارت ده ؟
ــ ده اللى حيخلصنى من األرف ووجع الدماغ اللى أنا فيه ..ده كارت األخصائية بتاعة السجن لقيته فى
حاجات ماما .
492
ــ وحتعملى بيه أيه ده .قالتها بتلقائية ساخرة فى حين أبدت نورا تفاؤال :أكيد األخصائية دى تحت
أيديها كل عناوين اللى خرجوا من السجن يعنى أكيد حتبقى عارفه عنوان الست اللى أسمها فايزة أو
على األقل رقم تليفونها .رفعت حاجبيها مبدية دهشة :كالمك ممكن يكون صح بس ..لم تكمل جملتها
وتراجعت بظهرها لظهرالكرسى ،بينما أستعلمت نورا بتجهم :بس أيه ؟
ــ متهيألى يعنى مش بالبساطة دى تديكى عنوان سجينة والرقم تليفونها ..ده غير أنها أصال
ماتعرفكيش .هوت يدها بالكارت المرفوع على سطح المكتب وأنتكست نظرتها وصمتت محبطة بحثا
عن مخرج قبل أن تنتزعها من متاهة الشرود :ع العموم جربى وأتصلى مش حتخسرى حاجة .
أنصاعت لوجهة نظرها وهى تدرك مدى خسارتها كلما طالت فترة غياب أمها .مشت بعيناها على الرقم
المدون أسفل الكارت واصبعها على زناد الموبايل تضغط األرقام تباعا ..علقت أماال على تلك المكالمة
وهى تنصت لرنين الجرس .بكلمات محددة بدات كالمها حين تلقت :الو ..مين معايا ؟
ــ أنا نورا نديم السبروتى .لم تتلق أى أجابة إال بعد ثوان .
ــ كانت سجينة عندكو وخرجت فى عفو .قالت جملتها وأتجهت ببصرها لزيزيت التى تراقب اجواء
المكالمة .بدت خجولة حين استطردت بنبرة خافتة :لقيت كارت بأسم حضرتك موجود مع ماما وده
اللى شجعنى وخالنى أتصل وأطلب منك خدمة .أنتظرت تعقيبا على جملتها األخيرة والذى جاءها بعد
لحظات يحمل نبرة منعشة :أهال أهال ..أنتى نورا بنت هدى اللى كانت محبوسة فى قضية القتل الخطأ
قالت كالمها كمن أستعادت ذاكرتها .
ــ تحت أمرك ياحبيبتى .لم تتردد فى الطلب :بصراحة ياأستاذة فى شوية مشاكل كده حصلت مع ماما
وكانت نتيجتها أنها سابت البيت ومشت وبقالها دلوقتى تالت تيام مانعرفش عنها حاجة ..لم تمهلها :
ليه كده بس ..أنا قربت من مامتك فى الفترة األخيرة ولقيتها أنسانة رقيقة جدا ومش بتاعة مشاكل .
493
ــ اللى حصل بقى .رددتها بملل ثم أردفت :هى حضرتك قبل ماتسيب البيت عرفنا أنها راحت عند
واحدة كانت معاها فى السجن أسمها فايزة وساكنة فى كرموز لكن لألسف مش عارفين العنوان بالظبط.
أنساب اليها صوت األخصائيةفى هدوء :فايزة دى كانت معاها فى نفس الدفعة اللى خرجت فى العفو .
ــ أكيد حضرتك عندك عناوين اللى خرجوا .عند تلك الكلمات همهمت األخصائية مع نفسها بصوت
مسموع ثم قالت :اللى بتكلمينى منها دى نمرتك يانورا .
ــ طب أدينى كمان نمرة مامتك وسيبينى أنا حأتصرف وحأكلمك تانى .
ــ ماتشغليش بالك أنا حأتأكد بنفسى من كل حاجة والنهاردة بالكتير حأرد عليكى .عند هذا الحد أنتهت
المكالمة ولم تحصل نورا على رفض أو قبول ،فركبها القلق واألحباط وسط نظرات زيزيت التى بدت
على غير العادة التحمل رأى وال تقدم وجهة نظر .
00000000000
بدا صباحا مختلفا بالنسبة لفايزة التى واجهت الليل بغفوات متقطعة دون أن تحسب الساعات الباقية
لرحيله .حاولت أن تدفع عن احالمها كل الوجوه التى عذبتها وتأمرت عليها دون جدوى .جاءها
منصور فى الحلم بصحبة أبوه عبده الجن ومن خلفهما بدرية ونوسة ،حتى السجانة والسجن .الكل
زارها ..بدوا فى هيئة وحوش ،تفرست فيهم تتفحصهم بمالمح شرسة .الزالت حتى اللحظة تتحسس
مصيبتها ..فجيعتها فى ابنها الوحيد تفوق قدرتها على األحتمال .بدت كمن سلبت ذاكرته وعندما
أستردها فجأة أكتشفت أنه محكوم بما اليصدق ،وكانها محبوسة داخل كيان بشرى النسان اخر ،تطل
من خالل عينيه على ماحولها .
494
كلما رفعت رأسها من على الوسادة يسحبها الصداع والضغط المرتفع ،فيعيدها هامدة بآهات مكتومة .
حركت عينيها ببطء كجمرتى نار تلسع جفنيها حين نظرت لوجه هدى الذى يشاركها نفس الوسادة بعد
ان صرعها النوم مع طلوع النهار بعد معاناة طويلة ومحاوالت مضنية لتهدأة فايزة .
لملمت ماتبقى لها من قدرة .حاولت سحب نفسها من على السرير ..فشلت مرتين ونجحت فى الثالثة .
قامت بهدوء كى التشعر بها هدى .فتحت باب الغرفة وخرجت تترنح فى الطرقة كالحامل فى شهرها
األخير ..توجهت للصالة مكانها المفضل .أعتلت الكنبة بتوجع وتربعت فوقها متأملة ..ترى المشهد
األن من زاوية أوسع وكأنما تراه من فوق برج مراقبة ..أتاح لها الهدوء كشف المساحة كلها وتعرية
الوجوه وقراءة كل المعطيات بتأنى ..هى األن تسترجع وتعيد ،تفكك وتركب ،تفكروالتفكر !!.
أنفتح باب غرفة منصور الذى ظهر بمالبس الخروج .خطوتين وتفاجأ بكومة اللحم المتربعة فوق
الكنبة ،فظهرت أمامه بوجه اليعرفه ..وجه بال مالمح .تفحصها بعينيه حين أقترب .وجد فيها شيئا
مخالفا للمألوف .مسح على شعره ثم على وجهه وهو يقف أمامها برأس طافحة بالشكوك والريبة .
وضع أبتسامة :صباح الخير ياما ..صاحية بدرى ليه ..رفعت له رأسها ونظراتها تتفشى فى وحشية
مكتومة الى وجهه .لم تبد أى أهتمام .كأنها التسمعه والتريد رؤيته .بينما اليعرف سببا لذلك النفور :
هو أنا زعلتك ياما ومش واخد بالى ؟! .أرتفع صوت أنفاسها :ليه بتقول الكالم ده .قالتها بنبرة خشنة
مخيفة .
ــ أمبارح خبط عليكى باب األوضة والست هدى قالتلى انكى نايمة ..وبينى وبينك أستغربت وقلت مش
عوايدك يعنى .باألمس سمعت صوت باب الشقة وهو يغلق وصوت قدميه تتجه لغرفتها ،فأغلقت
أجفانها ،وشدت على وجهها الغطاء قبل أن يصل صوتها المرتعش من تحت البطانية إلى هدى :خليه
يمشى مش عايزة أشوفه وال أسمع صوته .فتطوعت وصرفته .
فى تلك اللحظة كانت فايزة قد وصلت هى ونفسها إلى قمة المأساة .تسترت من جديد على أنفعالها :
كنت مصدعة وأتخمدت .مالمحها ونبرة الصوت الجافة والمزاج الصارم البادى فى وجهها ،أعاده
فجأة الى زمن الضياع واألقصاء ..شريط حياته وتجاربه التى تنتهى الى الشيىء حضرت أمام عينيه
بدعوة مجهولة .تذكره بفساد كل النهايات ! .جلس إلى جوارها :ماتقوليلى ياما فى أيه ؟ طرح سؤاله
وأشاح بوجهه ناحية الطرقة حين سمع خطوات هدى التى أقتربت من الصالة تزامنا مع نهاية جملته .
فتأملها بينما أخفت قلقها خلف أبتسامة مترددة :مافيش حاجة يامنصور هى بس تعبانة شوية .
495
ــ أمى تعبانة ..أزاى يعنى ؟! قالها غير مصدق وكأنها كائن اليمرض .ثم قام متنهدا ومشى بخطوات
متثاقلة حتى باب الشقة بعد أن فرغ لتوه من نظرة فاحصة فى وجهها الذى صار أكثر تعقيدا ..فتح
الباب وخرج هارشا رأسه بعنف محدثا نفسه :الحكاية كده ماطمنش .تنهد ونفخ ثم أوصد الباب خلفه .
ما أن خرج حتى جلست هدى الى جوارها .أرادت أن تجدد محاوالت التهدأة ،غير أن لسانها
كان يخذلها ويتراجع الى حلقها عندماتنظر الى عينيها اللتان تورمتا بفعل البكاء .أرغمت نفسها على
الكالم :عشان خاطرى يافايزة أرحمى نفسك بقى ده أنا بأقول عليكى جدعة وأقوى منى .
ــ هى دى فيها جدعنة ياهدى ده أنا أم ..أم قلبها أنكسر وحيلها أتهد وهى شايفة قدام عينيها أبنها
الوحيد بيدبر لها داهية عشان يخلص منها ويأخد فلوسها وتقوليلى أهدى .ألتهب وجهها وهى تقاوم
مصيبتها بأهات مكتومة وحفنات من دموع .صمتت قبل أن تتخذ هدى هى األخرى قرارا بالصمت لعلى
قلة الكالم أو تأجيله يكون دواء لألوجاع .
طال الصمت لعشر دقائق قبل أن تجنى فايزة بعض ثماره ..بدا أنها تستعيد جزءا من هدؤها .هدوء
الحكمة ،الهدوء الذى يقتضيه المأزق .أصبحت أكثر شرودا أو أكثر تأمال كأنما هى على وشك قرار
خطير ..دارت بعينيها ألكثر من مرة .ثم توقفت عن الدوران كما توقفت يدها فوق موبايلها الذى
سحبته من حجرها ، ،قربته لعينيها تبحث فى قائمة األسماء ثم أجرت أتصاال .
ــ صباح الفل ..صاحية بدرى ليه ؟ تجاوزت نبرته الباسمة إلى نبرتها الصارمة :عايزاك تسمعنى
كويس وتعمل اللى حأقولك عليه .
ــ وقف الشغل كله فى أرض أبن شكر ..خلى المقاول يلم رجالته ويمشى ومن النهاردة ماتتعاملش مع
منصور فى أى حاجة والتكلمه فى أى حاجة تخص شغلنا .تأمل نبرة الصوت العصبية محاوال أستيعاب
ماسمع :ليه كل ده يامعلمة أيه اللى حصل ؟ .
بعدين حأفهمك .أتاها صوته بنبرة مسترخية :طب أهدى يامعلمة وأنا مستنيكى ..ياريت تعدى ــ
على األول نتكلم وبعد كده نبقى نشوف حنعمل أيه .تلقت أذنه صرخة :اللى بأقولك عليه أعمله .
496
أنسحب لسانه راجعا الى حلقه بعدما نطق بكلمة :حاضر .ثم حذرته :ولو منصور جالك المكتب وسألك
عن اى حاجة قله ماعرفش .سكت للحظات وعقله يقاوم التعليمات :هو أحنا مش ربنا هدانا يامعلمة
وقلنا حنبدأ صفحة جديدة وأى مشكلة مع منصور قلنا حنحلها بالعقل والتفاهم .أنهت المكالمة ولم تهتم
بالنصيحة وظلت على وضعية األنفعال للحظات قبل أن تعود لهدوءها رافعة رأسها ونظرتها فى تحد
عجيب .فقد أعتادت على أن تعيش الحياة مثل الطاووس التعرف الهزيمة أو األنكسار .كان عليها أن
تحسم أمرها وتتخذ موقفا .
ــ ماعدش ينفع .جرح تحول الى وحش ثائر كما تحولت قرارتها الى رغبة فى الثأر وطالتها روح
األنتقام
00000000000
فى تلك الساعة ..ساعة القلق واألنتظار .أرتبك ذهن نورا وتوترت أعصابها عندما نزف موبايلها
بشدة ،تسيل منه رنات مفرحة حين الح رقم األستاذة " هناء " أمام عينيها التى جاء صوتها قويا واثقا
حين أجابت نورا :أيوه ياأستاذة .كان يكفى ذكر اجابة واحدة ليصبح عنوان فايزة متاحا :معاكى ورقة
وقلم يانورا ؟ .
ــ طبعا حضرتك .أملتها العنوان تفصيليا كأنه خريطة لكنز ثم ترجتها :عايزاكى توعدينى لما مامتك
ترجع البيت خليها تكلمنى ضرورى .
أنتهى زمن المكالمة وسرحت نورا .البد أن يكون التفكير بطيئا وهادئا ،هى تتحرك بحساب ،والتريد
أن تخسر كل شيىء ،ألن الضمانات غير موجودة .قررت بعد نصف ساعة من التركيز والتفكير أن
497
تحشد ألمها كل ما تثق بهم كى يؤثروا عليها .غادرت حجرة التفصييل باألتيليه بعد أن شددت على
زيزيت بوجوب حضورها ضمن كوكبة ستذهب لجلب أمها من مخبأها .عقدت مجموعة لقاءات سريعة
فور صعودها إلى الشقة .أجتمعت مع عمتها وبسمة وأستدعت يوسف لتنسيق المواقف ،ثم أجرت
أتصاال بخيرى أخبرته بما تم وماتوصلت إليه ،موجهة له الدعوة فى نهاية المكالمة أن يكون من ضمن
وفد سيتحرك فى تمام الخامسة مساء بأتجاه كرموز حيث تتحصن أمها .
صنع خيرى من الموعد أحتفاال وأرتدى بدلة المناسبات .شعر بسعادة مفرطة ،إال أن شيخوخته
الزاحفة ببطء علمته أن يحاذر فى األفراط فى السعادة .تحرك الموكب من أمام مدخل البيت فى ثالث
سيارات دفعة واحدة وكأنهم فريق أمنى فى مهمة رسمية لضبط سجين هارب .فى المقدمة قادت زيزيت
سيارتها والى جوارها نورا وفى ذيلها سيارة خيرى بصحبة أبنه شريف الذى أجبر على الحضور بأمر
من والده آليهام هدى بأن األمور هادئة ومستقرة كما أوحت له نورا .بينما فى المؤخرة جاءت سيارة
أيات التى تحبو خلفهما تحت قيادة يوسف وبتوجيهات من عمته فى حين أنشغلت بسمة المختبأة فى
المقعد الخلفى تراجع فى عقلها بعض العبارات التى ستفتتح بها لقاء أمها .
تألقت شفتى خيرى على أبتسامة وهو يقود سيارته ،كانت عيناه تشقان الطريق فى حماسة ،تسبقان
الزمن والمسافة .تفرقت سياراتهم على الطريق قبل أن تلتئم بعد ساعة عند أطراف كرموز .تمهلوا
وأبطأوا من سرعتهم حين دخلوها فاتحين قبل أن تتحول سياراتهم الى مجموعة سالحف تزحف ببطء
حين دخل الموكب الى قلب كرموز الذى يتمسك أهله بكل الشعارات وأدعاءات الحداثة ،بينما فى نظرهم
مكان شديد البؤس حيث القلب كان يعانى من أرتفاع فى منسوب مياه الصرف الصحى .تطوع أحد
المواطنين الشرفاء بلعب دور الدليل ..تقدمهم بخطوات سريعة رافعا أنفه ورأسه فى زهو وشموخ
تتلبسه روح الزعامة وهو يسحب خلفه الثالث سيارات قبل أن يستدير لهم بجسمه رافعا كفيه مشيرا
لهم بالتوقف .خضع الجميع لتعليمات القائد متبعين حركة أصبعه الذى أشار به لكومة " زبالة " معلنا
أنها أول حدود حارة " المنجى " .خرج الجميع من سياراتهم بعد " ركنة " متعسرة وسط ذهول
األهالى وتربص األطفال الذين داروا حول كل سيارة وكأنهم فى حفلة " زار " أال أنهم ألتزموا الهدوء
وبدت جمهرتهم سلمية حين سأل خيرى زعيمهم عن بيت " فايزة " ،تلقى المعلومة وأشار للباقيين بأن
البيت المستهدف على يمينهم .مروا جميعا بأتجاه المدخل وسط عيون أحتشدت بالفضولية .أما
الجغرافيا التى خطت على ترابها قدمى أيات أذهلتها بشاعتها .تتلفت حولها تلملم صور البيوت
498
والسحنات ،لترى وجها أخر لألسكندرية ،ربما وجها غائرا فى القدم يعود إلى العصور الوسطى .لم
تتخيل مشهد الحارة الدامى ..بالوعات تنزف مجارى تتصاعد منها أبخرة " نتنة " تزكم األنوف وبيوت
متأكلة تسكنها وجوه تحمل بقايا بشر .فأبدت تذمرا وسجلت موقفا :الناس اللى موجودين هنا أحياء
وال أموات ؟! .حوطوا البيت متأملين ،ثم خطو محاذرين حتى ألتقوا أمام السلم .كان خيرى فى مقدمة
الصاعدين ينقل قدميه درجة بعد درجة وقد أستبدت به نشوة حيوان أطلق سراحه ثم تبعه الباقين بمالمح
متناقضة بين متفاءلة ومتجهمة ومتوترة ،بينما شريف الذى تحاشى نظرات نورا التى ظلت ترمقه بدا
متملمال ،فالزيارة التعنى له شيئا .تقدم يوسف خلف خيرى ثم شريف ومن بعده نورا ثم زيزيت التى
تتحسس السلم بينما أيات التى تسندها بسمة فى المرتبة األخيرة وقد تقطعت أنفاسها وهى تحمل أقدامها
تعتلى السلم وصوت بسمة يتبعها :ركزى ياعمتى لحسن تقعى ماعنديش حيل أشيل .طوتهم ظلمة
السلم .لحظات وأصطفوا أمام باب الشقة فى طابور يترأسه خيرى مبتسما حين رن جرس الباب ..
ضغطة واحدة وتراجع للخلف مصطدما بيوسف المتخشب خلفه .فتحت فايزة الباب ..تلقت عينيها
مجموعة الوجوه المكدسة بفزع ..قوست حاجبيها وترفع أجفانها المتورمة ..أهتز جسدها بشدة حين
تعرفت على نورا ويوسف الواقفين فى وسط الصف الذى ينتهى مع دوران السلم .وقفت صامتة مذهولة
حتى أتاها صوت خيرى :حضرتك الست فايزة .لم تقو على الكالم .كان األمر أشبه بزيارة عزرائيل .
ترنحت رأسها وكأنها تلقت لكمة ثم تقهقرت متراجعة حين تقدموا ..وقفت فى حذا الباب المفتوح ..
تخشبت يدها الممدودة لتتلقى مصافحة الداخلين تباعا كأنما تتلقى عزاءا ..تتأمل الوجوه المارة أمامها
قبل أن تفيق من صدمتها وتتبعهم الى الصالة التى أحتشدوا فى وسطها .أنسابت نظراتهم لكل شبر فى
المكان ثم بادرتهم بصوت ساهم :أتفضلو أستريحو .هذه هى اللحظة التى كانت تخشاها ..أنتعشت فيها
كل المخاوف .تلكأ يوسف فى دخول الصالة مقتربا منها :كنت بأشوف حضرتك كتير مع ماما لما كنت
بأزورها فى الـ ..خجل من الكلمة فأبتلعها قبل أن يلفظها وأبتسم .بينما أنتاب فايزة حالة من الضياع
وهى فى طريقها لهدى .طائر الفراق يغرد ..فتحت باب الغرفة بمالمح متوترة وأتجهت لهدى الممددة
على السرير والتى لمحت فيها أضطرابا :فى حاجة يافايزة .لم تتحمل ..ضاق صدرها ..حبست
دموعها .فأنتفضت هدى بجسدها وجلست وسط السرير :مالك يافايزة ..مين اللى كان ع الباب ؟ دققت
فيها :جايين ياخدوكى .تصلب كل مافيها :مين دول ؟ .
ــ والدك وعمتهم ومعاهم كام نفر .تحولت فجأة الى كيان يهتز التكاد تنتصب لتنحنى :عرفوا
هنا أزاى ؟.
499
ــ ماعرفش .قالتها وهى على وشك البكاء .ثهم أردفهت :مهش حتخرجهى لههم؟ .سهألتها وكأنهها تختبهر
مشهاعرها .لهم تجههب وضهغطت علهى جبينههها بكفهها كأنمها ترتههب أفكارهها .هبطهت السههرير ومشهت ناحيههة
الدوالب ..فتحته وسهحبت منهه نفهس المالبهس التهى جهاءت بهها ،بينمها أنزاحهت فهايزة إلهى ركهن الغرفهة
تراقب عن كثهب مالمهح صهديقتها .لهم تفلهح فهى الوصهول لفههم أو تحليهل .لهم يكهن صهوتها طبيعيها حهين
سألت :حتعملى أيه معاهم ياهدى ؟ .
ــ مش عارفة .قالتها حين أنتهت من أرتداء مالبسها ثم خرجت من الغرفة بينما ظلت فايزة فى ركنها.
األمل يلفهظ أنفاسهه األخيهرة ،علهى وشهك أن تفقهد ههدى .شهعور يحهرك داخلهها صهوت يهائس :خهالص
حتسبينى لوحدى ؟!.
سمعت أصهواتهم المتداخلهة حهين خطهت أول خطهوة فهى الطرقهة المؤديهة للصهالة ،فهى حهين يحتهل القلهق
والترقب وجوه الجالسين التى أزدحمت بهم الصالة أنتظارا لقدومها .كان خيهرى أكثهرهم تهوترا ..هكهذا
هو يتقلقل فى جلسته .لهدى سطوة مختلفة المذاق ،سطوة تشهبه الحبهال المفتولهة تجهره بهها حتهى الهى
حارة " المنجى " !! .
أبتلعتههها الدهشههة حههين الح لههها منظههر الوجههوه .أبطههأت خطوتههها حتههى الحظههو قههدومها .لمحههها خيههرى
فأضطرب لثوان قبل أن تبرز أبتسامته ،فى حين هللت وجوه وأقتضبت أخرى وصخب الكلمات يتصهاعد
دون تنظيم حين هلت عليهم بمالمح مندهشة ونظرات حهائرة .كيهف أسهتدلوا علهى مكهانى ،مهن صهاحب
هذا الترتيب ؟ ولماذا كل هؤالء ؟ .ضمت أسئلتها الى صدرها وفتحهت عينيهها تهتفحص الجالسهين الهذين
انتفضههوا وقوفهها .مههرت علههيهم بحههدقتي ها وكأنمهها تسههتعرض مجموعههة مههن المشههتبه بهههم كههى تتعههرف
على الجانى وتشير اليه .تهافتت عليها بسهمة بأندفاعهة :وحشهتينى أوى يامامها ..كهده برضهه تسهيبينا
وتمشى .لم تت مكن مهن األجابهة بعهدما أسهتولت بسهمة علهى رأسهها وحشهرتها فهى صهدرها قبهل أن يتقهدم
يوسف الذى بدا متوترالمالمح وتقلص جلد وجهه متخذا شهكل الحهرج :لهو حتروحهى أخهر الهدنيا برضهه
حنجيبك ..مافيش حد يقدر يستغنى عن أمه .ثم عانقها .
ــ أنا كويس طول ماأنتى كويسة .تخطته لتواجهها نورا بعيون ثابتة .كشفت النظرة الباردة ،التى خلت
من المشاعر و عن تصميمها على تكملة مابدأته .
500
ــ يعنى أنتى يرضيكى القلق اللى أنتى عيشتينا فيه ده ..كل البيوت فيها مشاكل ياماما ولو كل واحد خد
علههى خههاطره وزعههل وسههاب بيتههه يبقههى كههل مشههكلة صههغيرة حتكبههر وكههل سههوء تفههاهم عمههره ماحيتحههل .
قاطعهههت بسهههمة للحيلولهههة دون أحيهههاء شهههبح األزمهههات :خهههالص يهههانورا األمهههور عهههدت .عهههادت األخيهههرة
لهدوءها :ع العموم أدينا كلنا جينا لغاية عندك عشان تعرفى قيمتك عنهدنا وعشهان تعرفهى كمهان أن كهل
مشكلة ولها حل بس ياريت تبطلى عصبية وماتاخديش كل حاجة بعناد .
ــ أنا يانورا .تراجعت األخيرة عن تعبير " العناد " حهين قطبهت أمهها وجههها :يعنهى قصهدى يامامها كهل
حاجهة بالتفهاهم تتحههل .نظهرت هههدى لهها نظههرة تشهاؤمية .كلماتههها تعنهى بقههاء الحهال علههى مهاهو عليههه .
كلمات تعلن أنتحار المستقبل !! ثم تسلمتها أيات التى ضاع من ذاكرتها نص الكلمات :كده كتيهر ياههدى
..ليه بقى عشان أيه ..حد يعمل كده حد يسيب بيته من غير مايقول رايح فين .
ــ معلش ياأيات اللى حصل بقى .ثم أرسلت نظرة واهنة :ليه تعبتى نفسك يازيزيت .أبتسمت األخيرة
التى كان على وجهها قناع الترحيب واألعتذار البارد ،مدت ذراعيها تريد أن تحتويها بمشاعر محيرة :
كده برضه ياهدى تمشى من غير ماتقولى وال كلمة ..هانت عليكى العشرة .ثم ضمتها فى صدرها مع
فاصل عتاب ...فض المجالس :ماجتيش عندى ليه مش بيتى هو بيتك ..ده أحنا أكتر من األخوات .هزت
رأس ها وتجاوزتها ..نظرة هادئة خالية من أى توتر أستعملتها هدى حين مرت على شريف وصافحته :
أنا فرحانة أوى أنى شفتك ياحبيبى .
ــ ربنا يخليكى ياطنط .قالها بنفسية مكسورة ثم أنزاح ليتقدم والده .صافحته بكرامة مهدرة وجرحا
اليطيب .كان عليه أن يختار من أين يبدأ .بداية صعبة :تعبنا أوى على ماعرفنا مكانك .جرت عيناها
بسرعة على عينيه .لم تستطع أن تقرأ مالمحه وسط زحام الوجوه وتدافع النظرات :ماكانش له لزمة
التعب ده .
ــ اى تعب يهون قصاد انك ترجعى بيتك .
ــ بيتك مش هنا ياهدى ..بيتك وسط والدك ووسط الناس اللى بيحبوكى .الشيىء يخرج منها ومنه .
501
فى تلقائية .الكلمات محسوبة والمعانى تمر تحت رقابة مشددة .نظراته تجدد فى نفسها المواجع
والعواطف .لم تصدق انها أمام الرجل الذى تقول عيناه أكثر من لسانه .
بعد أن فرغ الجميع من معاينة المكان ،وتملوا فى الوجه المضطرب الذى يلح ويسأل :عرفتوا مكانى
هنا أزاى ؟ سألت بشغف كضابط يبحث عن أعتراف سريع .لم تهدأ حتى أدلت بسمة بأعتراف تفصيلى
قابلته هدى بفرحة عابرة حين سمعت أسم األخصائية يتردد على األلسنة .
لم تمر خمس دقائق قبل أن يضع خيرى بروتوكوال للجلسة موضحا بعض المحاذير :مش عايزين نتكلم
فى اللى فات أحنا والد النهاردة ..عايزين نخرج من هنا وقلوبنا صافية ..والدك كلهم جايين لغاية
عندك ..يعنى عفا اللـه عما سلف .أنهى عبارته األخيرة وهتف الجميع ببعض العبارات هدفها
حلحلة الوضع .
ــ الجميل أصله بيدلع وعايز يعرف غالوته عندكو .مقولة لزيزيت عقبت عليها بسمة :ده مش دلع
ياطنط ..دى زى ماتقولى كده رحلة أستجمام ..يعنى تغيير ! ثم توالت جمل المجاملة والتضليل وبعض
من سوء النية على لسان نورا وكأنها فقدت البصر والشعور حين قالت :واللى يحب يدلع ويستجم
ييجى هنا برضه ؟! .وحدها هدى تتأمل الكلمات المصنوعة مكتفية بصمتها .بينما تزحف كلماتهم مثل
جراد مسعور يلتهم أنسانيتها ..تتخبط فى فراغ الكلمات الرنانة ،عن البيت الذى اليسمى بيتا بدونها .
فى حين أدارت نورا حديثا متشابكا ،تاه الجميع فى توصيفه ..الهو هجومى حاد والدفاعى بحت .
أرتدت أمام الجميع كل األقنعة ..تمسك بزمام المبادرة وتقود القطيع وتغزل أوهاما عن الواقع بال
أستحياء ..تبالغ فى حجم تضحياتها ومسئولياتها ،فتشيع جوا من الحماسة الزائفة واألمان اللحظى .
تابعتها هدى مصدومة ومحسورة وقد تجسدت أمامها ،كدابة مغرورة ،بال صدق وال مشاعر ..كالم
خالى المضمون وبال أفق .صارت ترى األمر كله كبضاعة تالفة غير صالحة تحاول نورا تسويقها بعد
تحديث تاريخ األنتاج ،مع األحتفاظ بكل الشروط والمواقف المسبقة :ال عمل ،السلطة ،ال رأى ثم
كالما كثيرا يتخلله بعض الطلبات من باقى الجالدين .
كان على كل األصوات أن تخفت ليعلو صوت هدى :خلصتى كالمك يانورا ..خلصتو كلكو كالمكم ..
أنصت الجميع وأنتبهوا لنظراتها القوية حين تابعت :أنا الزم أفضل هنا كام يوم وياريت ماحدش
يعترض وسيبونى على راحتى .
502
ــ يعنى أيه نسيبك على راحتك .كان ذلك أول رد فعل على لسان نورا أنفتحت بعده التعليقات .
ــ ماينفعش ياماما نيجى لغاية هنا ونرجع من غيرك .قال يوسف بينما خيرى :الحكاية مش مستاهلة
ياهدى األمور أبسط من كده ..أرجوكى قومى معانا عشان نمشى .بينما أيات التى جلست صامتة تعاين
الساكتون والمتكلمون بنظرات حبلى بحكمة السنين قبل أن يفتح اللـه عليها بجملة مفيدة :قومى ياهدى
بيتك أولى بيكى .
خارج كدر الصالة ..كانت عيون فايزة تراقب من الركن المظلم فى الطرقة ،تستمع لكل مايدور
فى الصالة بعينين غائمتين وعقل ماتت فيه األفكار ..ماعادت تتساءل عن مصير مستقبلها بدون هدى .
بدا طيف الرحيل ضيفا ثقيال على قلبها ،فبدد أحالمها وغير لون بشرتها ..طاف اللون الباهت فى
مالمحها .أنسحبت لغرفتها بعدما شعرت بضياع صديقتها منها التى بات من الصعب العثور عليها وسط
هذا الحشد .أصبح الطريق األن ممهدا فى الصالة حين همد عقل هدى من األرهاق وسط صخب الوجوه
باألصوات التى تتسابق لحثها على الرحيل ..فى حين أبت هدى األنصياع نافية برأسها الخضوع
لمطلبهم :مش حأقدر أمشى معاكم ..فيه شوية مشاكل عند فايزة والزم أستنى جنبها كام يوم .
503
ــ وأنتى مالك ومال مشاكلها ماتخلينا فى حالنا ياماما .كان رأى نورا الذى أعلنته بعصبية ثم تبعها
الباقيين متضامنين معها ومدهوشين من موقف هدى المتعنت والتى زاد أصرارها وجسدها مسجون فى
عجزها عن مقاومة ذلك الشعور تجاه رفيقتها حين صرحت بنبرة وفاء :الست اللى أنا موجودة عندها
دى وقفت جنبى وفتحتلى بيتها ولوالها كان زمانى دلوقتى مرمية فى الشارع .
ــ وتترمى فى الشارع ليه ..ماعندكيش بيت ..أنتى ليه مصرة ياماما تكبرى الحكاية ..ماتقومى معانا
خلينا نمشى .
ــ مافيش حد أصال قالك أمشى من البيت .تطوعت أيات وقطع صوتها الجدال :خالص مالوش لزمة
الكالم ده ..خلونا فى دلوقتى .ثم نظرت لهدى واستطردت :أنا متفقة معاكى أن اللى عملته الست فايزة
حاجة عظيمة خالص والزم كلنا نشكرها عليه لكن ده مايخلكيش تنسى أن وراك بيت ووالد .
ــ أنا عمرى مانسيت ياأيات وأنتى أكتر واحدة عارفة التمن الكبير اللى دفعته عشان خاطر والدى وبيتى .
ــ خالص مش وقته قصة التمن دى ..لما ترجعى البيت نبقى نحكى فى الكالم ده براحتنا .قالت نورا
بملل وهى تنفخ بينما نأت هدى بنفسها من أستفزاز أبنتها وأشاحت بوجهها صامتة .فى حين أستغلوا
سكوتها وبدأوا بطرح الترتيبات التى كانت تجرى أمام عينيها ..هل سيقتادونها مباشرة الى المنزل أم الى
نزهة ليلية كنوع من الترضية كما أقترحت زيزيت .بينما هى قاومت أن تصرخ فيهم :ياجماعة أفهمو
واللـه ماحأقدر أمشى وأسيب فايزة فى الوقت ده ..مستحيل .قالتها منفعلة فى حين النت نورا أمام
غضبتها :وان شاء اللـه مشاكل صاحبتك دى تخلص فى أد أيه ؟.
504
ــ مستعجلة على أيه يابسمة آهو على األقل ترتاحو منى ومن مشاكلى .
ــ ياماما كبرى دماغك من الكالم ده ..كانت ساعة شيطان ونورا ماكانتش تقصد
ــ والتقصد هى ماقالتش غير الحقيقة وكفاية اللى أنا عملته فيكى أنتى وأخوكى .
ــ أيه اللى بتقوليه ده ياماما ..أنتى ماعملتيش حاجة خالص .قال يوسف .
ــ وهدير اللى ضاعت منك وأمجد اللى خد ديله فى سنانه وهرب يابسمة ..معلش ياحبايبى ..مش حأقدر
أقولكم حاجة غير سامحونى .منذ أن خرجت من السجن وأصابها داء األعتذار ،وأدمنته ،ظلت تمارسه
وهى تحت ضغط الظلم الفادح .
ــ ياه ده أنتى قديمة أوى ياماما ..قالتها بجدية وشيىء من الثقة ثم تابعت :أمجد أتصل بى أكتر من مرة
وأعتذرلى بدل المرة عشرين مرة ..بس أنا ياماما لسه ماخدتش قرار .ثم ألتفتت ناحية يوسف :أما
الباشمهندس فخدى عندك أخر األخبار ،الست هدير بجاللة قدرها جت لحد عنده فى المكتب راكعة
وطلبت تقابله بره بس المهندس يوسف نديم خليل السبروتى رفض وقالها فى وشها ماعطلكيش .رفعت
هدى حاجبيها وأبتسمت بعينيها بينما ظلت بسمة تتابع بقية النشرة :يوسف دلوقتى بقى محجوز ..
عارفة مين ياماما ؟ تساءلت بمالمحها :فأردفت :المهندسة ايمان مديرة مكتب المهندس ناجى على سن
ورمح .توجهت اليه أمه بأبتسامة خفيفة تاهب لها منتظرا نصيبه من الكالم :والمهندسة ايمان دى حلوة
ومن عيلة يايوسف .
505
ــ وقلتلها برضه أنى كنت مسافرة فى الخليج ؟! حاول أبتالع كلماتها دون مراوغة بالرغم من المرارة
التى تطفح فى وجهه مكتفيا بعبارات دفاعية :ماقلتش حاجة خالص ياماما ؟ .
كلمــا مرت الدقائق وجــد خيرى فرصة األنفراج تتضاءل .كان عاجزا من أن يحرك ايقاع الجلسة كما
خطط ،كان يريدها سريعة حاسمة .أستسلم لرغبتها :ع العموم مافيش مشكلة يانورا لما مامتك تقعد كام
يوم مش حيجرى حاجة .
ــ يعنى أنت شايف كده ياعمو .بدا األخير وكأنما يغرد خارج السرب أما الباقون فكانوا تحت السيطرة ،
تطوقهم نورا بسلسلة مشدودة حول رقابهم ،تكاد تخنقهم .قفز خيرى منفردا على جو الجلسة والنقاش
الدائر واضعا حدا للجدل العقيم معتمدا على نظرية أنتهاز الفرصة عندما أعلن فى جرأة منقطعة النظير:
أنا عارف طبعا أن الظرف مش مناسب وال حتى المكان لكن أسمحولى أطلب طلب مادامت األمور ماشية
تمام وسوء التفاهم راح لحاله ..أنا بأطلب أيد هدى قدامكو كلكم ومتهيألى يعنى مافيش حد فيكو عنده
مانع .لم يكن أعالنه مفاجئا حين تجول فى مالمحهم .قبلت أذانهم الفكرة وعبرت عنها أبتساماتهم .
فأستأنف بحماسة أكبر وسط غياب تام لهدى التى شردت .هى التدرى مايدور بينهم ..هل تجاوز كل
منهم لحظة الوهم وصنعوا قواعد جديدة للعبة ؟!.
506
ــ طبعا أنتو عارفين ظروفى كويس وجو الوحدة اللى أنا عايشه بعد المرحومة سميحة وده اللى خالنى
أنتهز الفرصة وأنتو متجمعين دلوقتى وزى أنا مامحتاجها جنبى هى كمان محتاجانى وأنا بأوعدها قدامكو
أنى مش حيبقى ورايا أى حاجة فى الدنيا غير أنى أسعدها وأكون عند حسن ظنها وأنا متأكد أنها حترتاح
معايا و حأرتاح معاها وأنتو كمان بالتأكيد حترتاحو .قالها بثقة وسهولة من أصبح من حقه أن يقولها .
تابعته حتى أنتهى ،وعيونه التى تغلى بالعاطفة ،تنتهك جسدها ووجودها ،وتمتد الى ماتحت جلدها !
ــ مش المفروض قبل ماتطلب أيدى قدامهم وتتكلم عن السعادة والراحة كنت على األقل أخدت رأيى .
أحتقن وجهه وأرتبكت مالمحه :لو أنا مش عارف رأيك ماكنتش طلبتك قدامهم .كانت كاألنثى الطريدة
والرجل الصياد والفرصة للفكاك من المطاردة !
نظر فى وجهها طويال ليتأكد من خلو عينيها من العتاب أو اللوم ..أرخت جفنيها خجال قبل أن
يستدعيها ثانية بصوت متراجع :الموضوع ده يخصك لوحدك ياهدى وطبعا أنتى صاحبة الرأى األول
واألخيرفيه بدت مالمحها متناثرة حولها ،تجمعها بنظرة وشعور بالظلم يلفها :طبعا كلكم موافقين
ومرحبين .
ــ أى حاجة تسعدك ياماما أحنا كلنا موافقين عليها .
ــ مافيش حاجة بتستخبى ياماما وعمو خيرى يعنى مش غريب عننا تدخلت زيزيت بنبرة تشيع جوا من
الفرح :حتبقى عروسة زى القمر ياهدى وأنتى كده أيدك فى أيد األستاذ خيرى ..حيبقى شكلكم جنان .
ــ الجنان يازيزيت لما واحدة تتجوز وهى عندها عروستين على وش جواز وأبنها راجل ملو هدومه .
ــ دى وجهة نظر غلط .رد فعل حماسى من خيرى دافع به عن عرضه .ثم وضح شارحا :الجواز
مافيهوش سن كبير وسن صغير ..الجواز مشاركة وحياة جديدة وفى حالتى أنا وأنتى تقدرى تسميه
أحتياج وضرورة وحل لكل المشاكل ده غير أنه حيقربك أكتر من والدك ..ألنك أصال مش حتبعدى عنهم
أنتى يادوب حتبقى فى الشقة اللى جنبهم .أنحشرت صورهم فى عينيها حين تجولت فى مالمحهم .
507
توقفت أمام وجه شريف الذى كان كالغائب الحاضر ..أبطأت فى نظرتها حين تفحصته ..حاولت كسر
صمته :وأنت ياشريف مالكش رأى وال أيه ؟ .
ــ مش األول تفكر فى سعادتك أنت وبعد كده تفكر فى سعادة باباك.
ــ سعادتى أنا ..قالها بائسا ثم سكت ولم يعقب حين أقحمت نورا نفسها :ماتخليش دماغك تروح لبعيد
ياماما ..شريف خالص أتغير ومابقاش زى األول ؟ .رددت عبارتها بأداء بارد كمجرم يعيد تمثيل
جريمته .أرادت وضع المصيدة فى المكان المناسب حين تابعت :شريف سعادته مابقتش هنا ..األستاذ
قرر يبيع الدنيا واللى فيها ويسافر أمريكا .أطلقت الخبر وهى على أمل أن تخلق رأى عام معارض
يكافح تلك الفكرة .تأملها شريف صامتا مستغال أنشغال الجميع فى صدمة الخبر ..تأمل أحالمه وأيامه
التى تحولت الى هزائم ثقيلة فى كفته ،وميزان العدل ثابت على خسارته كأنه هو الذىباع والذى
خان ! .
تسابق الجميع فى أظهار الدهشة واألستنكار .حدثوه عن المستقبل وعن أيام وردية قادمة حين تستقر
أوضاع البلد ،حدثوه عن أبوه والبعد عنه فى تلك المرحلة خيانة عظمى ،وعن نورا وحبه األسطورى
الذى ورد على لسان زيزيت :مافيش حد عاقل فى الدنيا يسيب قلبه وروحه ويقول أسافر .بدا أن
الكالم كله يسقط قبل أن يصل اليه .أحرجه ذلك الحصار حين سألته أيات :طول عمرك رافض فكرة
السفر أشمعنى األيام دى ..أيه اللى جد ياشريف ؟ لم يجبها مكتفيا بأرسال نظرات بائسة الى أرضية
الصالة ،أحست بها هدى تلسع عينيها .هى تدرك أنها الجديد الذى جد فى حياته ..هى الزلزال الذى
هد حياته .بينما نورا صامتة تراقبه وعيناها معلقة بأية أشارة منه .
ــ حتسافر ياشريف وتسيب نورا ؟ سألت هدى وعقدة الذنب تطاردها .تنهد وقال بصوت هادىء اليخلو
من نبرة أحتجاج :نورا دلوقتى بقى لها حياتها وشغلها وخططها وزى ماحضرتك سمعتى بابا كمان
بقى له حياته الخاصة ومن حقه يعيشها زى ماهو عايز ..متهيألى أنا كمان من حقى أدور على حياتى
ومستقبلى .أنهى جملته بنبرة غريب الينتمى للموجودين .أنهالت عليه النظرات حين أنتهى بينما أعلنت
508
نورا الحرب :أنت بتدور على حجج خايبة تدارى بها فشلك.عندما وجد لنفسه ثغرة قال :أنا عمرى
ماكنت فاشل ..الفاشل هو اللى يخسر كل اللى حواليه عشان يكسب شوية فلوس ويضحك على نفسه
ويسميها نجاح .
ـــ الحمد للـه أنا ماخسرتش حد بالعكس أنا كسبت كل اللى حواليه ..كسبتهم بتعبى وشقايا مش بأحالم
فاشلة وبكالم اليودى واليجيب .
ــ فرق كبير أوى لما تكسبى اللى حواليكى وفى أيدك مصيرهم وبين أنك تكسبيهم وفى أيديهم حرية
األختيار .تصاعد الجدال ..حرب أستنزاف يحترق فيها الطرفان ،والنصر محتمل والهزيمة .
أعلنت أيات فض األشتباك قبل أن يتطور الجدال الى أزمة تضاف الى بقية األزمات حين قامت فجأة
معلنة عن نهاية الزيارة :أخر كالم عندك ياهدى ..حتقعدى كام يوم .
ــ أيوه ياأيات .ثم عانقتها األخيرة وهمست فى أذنها :الزمن علمنى كل ماتتنازلى تقللى خسارتك .
أبتسمت ولم تبدى موافقة والرفض ،أو ربما لم يصلها المعنى .مدت بسمة رأسها بينهما :مش وقت
وشوشة ياعمتى لما ماما ترجع أبقوا كملو رغى فى البيت .ثم أنزاحت ليوسف الذى وقف أمامها
مضطربا :ماتزعليش ياماما واللـه أحنا كلنا بنحبك ومانقدرش نستغنى عنك ..بس هى الظروف ..
ــ مالها الظروف يايوسف ؟ .
ــ مالهاش ياماما .ثم نظر اليها نظرة يطلب بها العفو .قبلها ورحل لتتسلمها زيزيت بعناق وفرحة
مفتعله :مبروك ياهدى ألف مبروك .
ــ مبروك على أيه يازيزيت .قالتهاغاضبة .فتراجعت األخيرة :على أى حاجة .قامت نورا من مكانها
ببطء مثل وحش أنهكه الصراع مع الفريسة :لغاية ماترجعى البيت أنا حأظبط األمور مع عمو خيرى .
شبكت هدى مرفقيها فوق صدرها ..أقتربت منها بعينيها وكأنها تراها ألول مرة من هذا القرب :فتحى
ودانك وأسمعينى كويس ..سيبك منى أنا خالص وأنتبهى لنفسك ولمستقبلك وألحقى شريف قبل مايضيع
منك .أضطربت ثم أرسلت نظرتها ناحية شريف كأنها تخاطبه :والمطلوب منى أيه ؟ قالتها بصوت
خافت .
509
ــ المطلوب تعيشى حياتك وبس وفكرى فى مستقبلك ..شريف مايستاهلش منك أبدا المعاملة دى .
تماسكت قبل أن تهتز ثقتها :لما تتجوزى أنتى وعمو خيرى كل حاجة حتتحل .ثم رحلت دون عناق .
وقفت هدى مستسلمة إلى حد يصعب توصيفه ،إال أنها لم تفقد القدرة على التعلق بنورا ،بل أن فكرة
التخلى عنها لم تكن واردة رغم عطب عالقتهما .فور خروج نورا تقدم شريف بصحبة أبوه :مع
السالمة ياطنط .
ــ قبل ماتمشى ياحبيبى الزم تعرف أنى عمرى ما حأعمل حاجة تضايقك والتأذى مشاعرك .
ــ إن شاء اللـه .قالها كتحصيل حاصل وأجتاز الباب بينما أستعمل خيرى أخر ماله من نفوذ حين ثبت
نظرته العميقة ورشقها الى داخل العينين :أنا من النهاردة حأرتب أمورى عشان أول ماترجعى نتجوز
على طول .
ــ ياريت األول تقنع شريف يشيل فكرة السفر دى من دماغه .
ــ ياستى هو حر فى مستقبله وبصراحة بقى أنا ماعدش يفرق معايا أى حاجة أنا اللى يهمنى هو أنتى .
ثم مد يده مصافحا وضغط باألخرى فحبس كفها بينهما ..نظر اليها طويال بعينين تثقب البلوزة
وتعريها ،وكأنما يسترجع مشهد اللحم العارى :أنا محتاجلك أوى .حاولت أن تجيبه وهى تبحث داخلها
عن بقايا طهارة قديمة :ربنا يسهل .ثم سحبت يدها بينما نظراته الطويلة لها سجنت نظرتها التى لم
تكن تصل إ لى وجهه ،بل تستقر عند صدره فى حين أصابعها وكفاها ،التعرف ماذا تفعل بهما ؟! طوى
يديه الخاليتين وأستدار فى هدوء ليلحق بالركب النازل .أغلقت الباب ساهمة ولم تبرح مكانها ..ظلت
واقفة أمامه وكأنها ترى من خالله مالم تراه وهو مفتوح ! قضت لحظات وهى على نفس الوضعية ثم
سحبت نفسا ممتدا قبل أن تتحرك ببطء بأتجاه الطرقة .سارت برأس منكسة حتى أصطدمت عيناها
بأقدام فايزة التى ألصقت جسدها للحائط فى أنتظار روحها التى كانت على وشك أن تنتزع منها .سارتا
سويا إلى الغرفة ..نظرات هدى الساهمة تصنع فيها الذهول حين راجعت بسرعة أسباب الزيارة
ونتائجها .لم تكن زيارة أعتراف وصلح والبحث فى وقائع وربطها بين جميع األطراف .لم تكن أى
شيىء سوى أدراكها الشديد بأنها قد أصبحت عبئا ثقيال على أوالدها والبد من التخلص منه .
كما جاءوا رحلوا ..خرجت الثالث سيارات دفعة واحدة من كرموز كما دخلت .بدا الجميع محملين
ب أشياء كثيرة .أيات كل ماتبقى منها فى نهاية الزيارة مجرد أنطباع .بينما زيزيت ليس فى ذهنها
شيىء ،والفى ذاكرتها إال أثار تلك النظرة المستهجنة من عين هدى التى خاب أملها فى أنسانة كانت
تظن لوقت قريب أنها أوفى األصدقاء بينما نورا وشريف أثار مابينهما مازالت ،تتفاعل كنار فى
510
الحطب ..العالقة بينهما بدت وكأنها التهدأ والتستقر ..حكم األعدام على حبهما مازال معلقا لم يصدر
بعد ! أما خيرى فلم تقنعه مالمح هدى والكلماتها .حين أستعاد نفسه وأفاق من أجواء الزيارة ،وجد
كل شيىء مؤجال ،حتى رغبته فى التفاؤل .بسمة هى الوحيدة التى لم تحصد مكسبا والخسارة ..كانت
محايدة التميل لكفة على حساب أخرى .فى حين بدا يوسف قلقا محبطا بعدما أعادته أمه الى مربع
الخوف األول حين المست عقدته النفسية وأثارت قضية المصارحة فى عالقته مع المهندسة ايمان .
كلما أستعاد رغبته فى الحب ،تملكه الخوف واشفق على نفسه من التجربة .اعتاد الحذر ..أستعذب
األلم بعد أعتياده ومعاشرته منذ فجيعته األولى .إال أنه كلما أقترب أكثر من أيمان كان يراوغه الحب ،
لكنه لم يقدر عليه .فى طريق عودته قاد يوسف سيارة عمته واجما ساهما .يتجدد اليوم الجرح ،
يستدعى كأبة قديمة تطل بثقلها عليه شيئا فشيئا .بالرغم من صخب بسمة التى تثيره فى المقعد الخلفى
وكالمها الذى الينقطع عن أمها وعن كرموز وعن حواريها ،وبالرغم من أزدحام الطريق أمام عينيه
ومالحظات أيات المملة على أداؤه فى القيادة ،أنتحى بأفكاره جانبا مكتفيا بمشاهدة الطريق وهو يمر
أمامه ..بعد شد وجذب وأخذ ورد بينه وبين نفسه ،عقد العزم على أن يكون البادىء بمصارحة ايمان
بسره العظيم قبل أن تتحرى هى بنفسها وتفاجأه ويدفع ثمنا أخر من كرامته .توصل لهذا القرار مع
وصول السيارة الى الحدود الدولية لشارع " شامبليون " .أيقن أن هذا القرار هو األسلم ،بل هو
المتاح بعدما أقنع نفسه بأن هذا الزمن أرخص األزمنة ،وان كل شيىء فيه بال ثمن لكن دوام الحال
من المحال .قالها فى نفسه حين قرر أن تكون لكرامته ثمنا ..
فى تلك اللحظة ..الزالت هدى تحت تأثير مفعول الزيارة .نصف حاضرة ،نصف غائبة ،تساوى نصف
كائن حى !! .
الضوء فى غرفة فايزة كان حادا ،اليبقى فى المكان ظالال والغموضا .مددت هدى جسدها على السرير
كالمومياء ،عيناها التطرفان ،شاردة فى أصداء الزيارة .لف الغرفة وجوم غريب .أرادت فايزة أن
تبدده بعد أن أعتلت السرير عند قدميها ،فازاحتهما وأنسحبت للوراء :مالك ياهدى ؟ تنهدت وفكت لحام
ظهرها الملتصق بظهر السرير :ماليش .الزمها شعور بالحرج وهى تردد بصوت مخنوق :مش
عايزاكى تقلقى على ياهدى ..أنا خالص هديت وبقيت كويسة ومن بكرة أرجعى لبيتك ووالدك .ضمت
األخيرة ركبتيها لصدرها :أنتى شايفة كده يافايزة ؟ .
511
ــ أنا شايفة أنك مش حتقدرى تستغنى عنهم والهمه حيستغنو عنك .
ــ بتضحكى على وال على نفسك ..الحكاية أكبر من كده ومعقدة أوى يافايزة .طوت األخيرة رجليها
تحتها وتربعت أمامها ،لتضمهما أصغر مساحة ممكنة فى السرير .
ــ معقدة أزاى يعنى ؟ سألت ولم تتلق أجابة سريعة إال بعد لحظات .تكلمت ببطء :النهاردة بالذات أنا
شفتهم كلهم بعقلى مش بعينيه ..شفت القلق اللى فى عينين نورا وحسيت بحيرتها وهى بتبصلى وكأنها
بتسأل نفسها هى اللى عملته معايا صح وال غلط .
ــ طبعا غلط ..هو أنتى غريبة عنهم والجاية من الشارع ده أنتى أمهم .
ــ لوفكرتى بهدوء ونسيتى حكاية انى افهم دى حتالقى كل اللى نورا عملته صح .سحبت نفسا وكانما
توصلت لحقيقة ما ..أستأنفت :نورا عملت زى التاجر اللى حط كل راس ماله فى مشروع وقعد جنبه
يراعيه ويكبره وأول ما بدأ يطرح ويكسب منه لقى اللى طلعله فجأة من غير مناسبة وضرب كرسى فى
الكلوب ووقف كل حاجة وسود حياتهم ومش كده وبس ده كمان بيتبجح وبيقول أن فكرة المشروع أصال
بتاعتى ..مع أنه الساهم وال تعب وال حتى بنى فيه طوبة ..يادوب كل اللى عمله أنه ساب حتة أرض
كانت محتاجة للى يرويها ويزرعها ويعتنى بها ..نورا هى اللى عملت كل ده لوحدها ولوالها كانت
األرض بارت والزرعة ماتت واللـه أعلم كانت األمور حتوصل لفين ؟ رمشت فايزة بعينيها حتى فهمت
التشبيه :يعنى أنتى عايزة تقولى أن المشروع بتاع نورا هو يوسف وبسمة وأنتى بقى اللى طلعتلهم
من تحت األرض وقلتلهم فيها الخفيها .
ــ صح عشان كده من حق نورا اللى شقت وتعبت على أخواتها أنها تحميهم بأيديها وسنانها ..تحميهم
من أى حد حتى منى أنا ..الناس مارحمتهمش يافايزة ..أنا بقيت نقطة سودة فى حياتهم ..نقطة لزقة
فى جبينهم أول الناس مابتشوفها بتبعد عنهم كأنهم مشبوهين .
ــ ماتقوليش كده ياختى صوابعك مش زى بعضها والناس معادن برضه .
ــ حتى لو كالمك صح وقابلو المعدن النضيف اللى يرحم ويعذر برضه حأفضل بالنسبة لهم نقطة الضعف
اللى يتعايروا بيها وقت اللزوم .
512
ــ لزمته أيه الكالم ده ياهدى ..هو فى حد جرحك النهاردة بكلمة ؟ .
ــ النهاردة أنجرحت جرح كبير أوى ..جرح فوقنى من األوهام واألنانية اللى كنت عايشة فيها ..
أتجرحت لما شفت وش يوسف بيتلون أصفر وأحمر لما سألته عن المهندسة ايمان وقلتله صارحتها
وال أل وكأنى ياعينى فكرته بيوم الحساب ..قلبى كان بيتقطع من جوه وأنا متأكدة أن ايمان حتحصل
هدير وحترفضه لما تعرف الحقيقة ..كان نفسى تكونى موجودة فى القعدة يافايزة وتشوفى الفرحة اللى
كانت مالية عينين بسمة وهى بتحكيلى عن أمجد لما أتصل بيها عشان يعتذر لها ..كانت بتتكلم وكأنها
مش مصدقة نفسها .
أتسعت عينى فايزة تسألها وتسأل نفسها :طب ماهمه عرضوا عليكى الحل ياهدى ..ماتتجوزى خيرى
وكل واحد يبقى فى حاله ويدور على مصلحته .أختبأت بوجهها بين ركبتيها وكأنها تتحاشى األجابة
إال أنها أستجابت تحت ضغط نظرات فايزة :واللـه لو هو ده الحل كنت وافقت على طول ..بذمتك ودينك
عمرك سمعتى عن بنت وأمها أتجوزوا من أبن وأبوه وفى شقة واحدة ،لو فرضنا سمعتى ..أزاى أنا
حأقبل على نفسى .
ــ ماقلتش كده مع أنى متأكدة أن شريف أصال مش حيقبل بالوضع ده وأكيد حيسافر .
ــ بالعكس دى تبقى أتعقدت أكتر وبقت مستحيلة ..نورا مع كل جبروتها وشخصيتها القوية لكن بتحب
شريف جدا يعنى لو سابها وسافر بنتى حتتحطم وحتى لو خيرى ماأعترضش على سفر أبنه مع مرور
الوقت حيندم أكبر ندم وحيتعب نفسيا ومش حيرحم نفسه أنه أتجوزنى وفرط فى أبنه ..عرفتى أن
جوازى حينيل الدنيا ويعقدها أكتر ماهى متعقدة .
ــ أنا الزودت والسودت هى دى الحقيقة ..كل مصيبة بتحصل لوالدى من تحت راسى مابيقدروش
ياعينى يعملو أى حاجة غير أنهم بيشيلو فى قلبهم ويسكتو ..ولحد دلوقتى همه صابرين وراضيين
بنصيبهم لكن بعد كده ماتضمنيش أيه اللى حيحصل والحيتصرفوا أزاى .
513
ــ حيعملو أيه يعنى .
ــ كل واحد وله ظروفه ..أقل مافيها حيكرهونى ويكرهو نفسهم ويلعنو الدنيا اللى خلتنى أمهم .
صمتت هدى وخرست فايزة ،بينما تغلى العروق ويفور الدم مختلطا بالذكريات والصور ،كلها تلدغ فى
جسديهما ..تتهدم األحالم التى صنعتاها سويا فى زنزانة السجن .شعرتا بأنهما جسد بال شكل ووجه
بال مالمح ..تسقط فيهما األفكار كأجنة مجهضة قبل أن تمسك فايزة بواحدة حية :طب أيه رأيك
ماتأخدى شقة صغيرة على أدك أنتى وخيرى وأتجوزوا فيها ويسيب شقة محطة الرمل ألبنه شريف .
ــ وتفتكرى كده حيستحمل أد أيه فى شقة تانية وهو عقله وقلبه وروحه فى شقة محطة الرمل ..ده
مجنون بالشقة يافايزة ..ده مهووس بالعمارة كلها .قالت جملتها األخيرة بمأل الفم وبثقة التهتز ثم
تابعت :أنتى بتتكلمى عن راجل عدى الخمسين يعنى له عادات وطباع مستحيل يغيرها ..خيرى مش
شاب صغير عشان لسه حيبدأ حياة جديدة ويتنطط من مكان لمكان .بان الرفض فى مالمحها قبل لسانها
حين أعلنت :ماقدرش أخد خطوة زى دى واالقيه بعد شهرين تالتة مش قادر يتحمل العيشة وساعتها
المشكلة حتبقى أكبر وأصعب .أصبحت األن أمام معادلة ..بين حقها كأم ،وحق أوالدها فى الحياة ..
سلمتها تلك الزيارة إلى شيطان الحيرة الذى عصف برأسها وبأفكارها ..السؤال الغبى الصامت الذى
ظلتا تسأاله لنفسيهما كل لحظة :هل هذه حياة ؟ أين العيلة والعزوة ؟ أين الرحمة والعاطفة ؟ أسئلة
تجر خلفها عذابا نفسيا وجسديا التقدرا عليه .يغيب عنهما المبرر أو الدافع ألحتماله .
ــ طب والحل أيه ياهدى ؟ تململت عينيها أمام أتساع عينى فايزة :الحل أن ربنا ياخدنى عشان أستريح
وأريح اللى حواليه .
514
ــ تعملى كتير يافايزة ..أنتى مستورة بالفلوس وصاحبة كلمة يعنى حتعرفى تعيشى برضه .
ــ عيشة أيه بس ياهدى وكل اللى حواليه طماعين وبيكرهونى وعايزين يخلصو منى وأولهم أبنى .
فجأة ودون ترتيب أبتسمت هدى ثم ضحكت قبل أن تتحول ضحكتها إلى قهقهة أرتابت لها فايزة :أنا
قلت أيه خالكى مسخسخة على روحك من الضحك .توقفت عن القهقهة ثم خفتت الضحكة ومن بعدها
تالشت األبتسامة ثم أستعادت حالة اليأس :عارفة يافايزة ..أنا وأنتى عاملين زى اللى بنطلع فى الروح
ومش القيين حد ينجدنا .
شعرتا بأنهما مثل أكياس " الزبالة " تشوه ناصية طريق ،يحملها أى عابر سبيل ويلقيها حيث يشاء .
مسحت فايزة وجهها بكفيها وكأنما تستحضر قوة غابت عنها :طلعت روح اللى عايز يطلع روحنا ..
أسمعى ياهدى أحنا مش هفية ..مش أحنا اللى الدنيا تدينا بالكف على وشنا نسكت ونديها أفانا ..ال
ياهدى ورحمة أبويا من النهاردة العين بالعين والسن بالسن والبادى أظلم .قالتها بشدة كانت مفقودة
وكأنما يولد داخلها شيء غريب ..مجهول األسم والوصف ،إال أنه يحمل فى طياته مرحلة جديدة فى
طور الت كوين ،وان هناك قرارات يجب أن تتخذ ،ومعانى جديدة ،تكتشف وتعاش! كل مايحدث حولهما
من تغيرات كان يدفع إلى التفكير .
" أن كل مأساة تحمل معها عنصر خالصها " حكمة لفيلسوف عبقرى .
ــ أسمعينى ياهدى كويس ..أحنا بقينا عاملين ياختى زى الرمم ال حد عايزنا والحد بيخاف علينا والكل
مش طايقنا ..ماتخليها تيجى مننا وتعالى نهج من هنا خالص ونسيبلهم أسكندرية بحالها يشبعو بيها
نريحهم ونمشى بكرامتنا بدل ما واحدة فينا تترمى فى السجن والتانية تتحط فى جوازة ضررها أكتر من
نفعها .
ــ أيه اللى بتقوليه ده يافايزة ؟ كمن تزن كمية الجد فى كالمها .
ــ اللى بأقوله هو عين العقل وماتكابريش وماتضحكيش على نفسك ..مافيش حد عايزنا والحد حيبكى
علينا .أدلت برأسها وتأملت كلماتها بينما أهتزت فايزة فى جلستها بعدما ألقت مفاجأتها .
515
ــ زى أى حد بتضيق بى الدنيا وبتظلمه الناس ..أرض اللـه واسعة ..قولى أه وأنا من بكره أبيع كل
اللى حيلتى ع القرشين اللى عندى فى البنك ونأخد بعضنا ونطفش من الجحيم ده ونعيش اللى فاضلنا
بقى بدل عيشة المشبوهين دى اللى أحنا عايشنها .هنا توقفت عيناها عن الحركة كما توقف
لسانها عن النطق .لم تكن هدى تتوقع هذا الكالم الذى يالمس الحكمة أو الجنون .أستردتها فايزة من
شرودها :أيه رأيك فى كالمى ياهدى ؟ حاولت ترويض دهشتها :أنتى بتتكلمى جد يافايزة ؟ .
ــ مش قصدى ..بس والدى يافايزة وأبنك منصور ..حننساهم كده ببساطة .
ــ ماأنتى لسه قايلة يابنت الناس ..والدك لوأتحملوكى النهاردة مش حيتحملوكى بكرة ..أما منصور ..
رددت أسمه بحسرة بعد ماقررت أن تثأر لنفسها ،فهى ،قد دفعت كل فواتيرها ،وسددت ديونها وأكثر
للحياة والناس جميعا ،التخشى شيئا ،والتريد شيئا ،التحمل له فى قلبها شرا ،لكنها التحمل له أيضا
شيئا أخر ! .
تابعت :أنا حأبيع كل حاجة وحاخلى قهوة ابويا يسترزق منها هو وأبوه زكة عنى ويعيشوا زى ماكانوا
عايشين مبسوطين ومرتاحين وماعندهمش أى مشاكل .قالت العبارة بصوت مرتفع مخنوق .كلماتها
المنفعلة حامت حول هدى التى أختبرتها فى رأسها .أظلم وجه فايزة أمام هدى حين أغمضت عينيها ،
تتخيل شكل المستقبل من خالل ظلمة الجفون ..مشت مع خيالها وعالمات األجهاد تطارد مالمحها حين
رأت نفسها ورفيقتها التى الزالت عند قدميها ككلب وفى ينتظر أية أشارة من صاحبه ..وجدت نفسها
وصاحبتها فى منفى أختيارى على هيئة شقة فى مكان ما عامرة بكل وسائل الراحة والعيشة المحترمة ،
عيشة متحررة من كل ضغوط الماضى وعبء سنوات السجن التى أثقلت كاهلها واكلت من هامات
اوالدها بفعل نظرات مجتمع اليرحم ..ساقها خيالها إلى حياة بدت مألوفة ..الفارق ليس بالكبير ..
مسجونة فى كل األحوال ،وكأن السجن بالنسبة لها قدر محتوم ..أبتلعت شكل المجهول وأنهارت
مقاومة الرفض حين عصفت بها كلمات فايزة .
تقدمت خطوة حين سألت :وأيه اللى المفروض نعمله رفعت لها فايزة حاجبيها وتزحزحت حتى المس
صدرها ركبتى هدى ثم تحدثت ببطء شديد وكأنها ترتجل أفكارا لم يسبق أن راودتها من قبل :حأروح
516
بكرة أنا وأنتى لمحمود المحامى أظبط معاه األمور ونشوف أيه اللى ممكن يتباع بسرعة واراجع
حساباتى كلها معاه وبعد كده نلم نفسينا أنا وأنتى فى السر وفى الخباثة ونتكل على اللـه .
ــ ولما أبنك ووالدى يدوروا علينا ..مش حيرتاحوا يافايزة والحيسكتو .ضغطت األخيرة بأصبعيها على
شفتها السفلى وكأنما تستخرج منها حال :أحنا مش حنختفى فجأة ياهدى ..بالهداوة وواحدة واحدة
وأول حاجة الزم تعمليها خلى والدك يقبلوا بوجودك هنا ومايفضلوش يزنو على ودانك ..حسسيهم انك
عايشة مرتاحة ومش محتاجة حاجة من حد وأنا كمان حأفضل ورا الوله منصور لغاية مايرضى بشغل
القهوة ويشكر ربنا ألف مرة بدل مايطلع من المولد بال حمص .
نهاية لم تتخيلها ..تبادال نظرات طويلة ..نظرات مذعورة أو مترددة وكأنهما تقفان على حافة الجرح
معلقتان بين أنكسار الحلم ورفض األستسالم للواقع .حل الصمت ضيفا ثقيال لدقائق قبل أن تستعيدهدى
لسانها :أنا موافقة يافايزة ..وادينا قاعدين مع بعض لغاية ماندبرامورنا وبعد كده ربنا يحلها ..خلينا
نرتاح وهمه كمان يرتاحوا ..جايز لما نبعد ربنا يكرمهم ويسهلهم االحوال .
أدلت بتصريحها ثم داهمها ذلك الشعور المركب الذى يمتزج فيه لذة التضحية واستعذاب الصبر ..ولما
كانت تدرك فى قرارتها أن تلك المشاعر يمكنها ان تشكل نوعا من حالة الرضا .
لمحت فايزة دموعا فى عين رفيقتها .أشفقت عليها :لو مش عايزة نمشى فى الموضوع ده بالش .
ــ ال يافايزة ..حابعد معاكى عشان خاطر والدى .قالتها وكأنما تحمل ثقال يساوى أضعاف وزنها .كان
البد من تنحى العاطفة ،شيىء غريب يسرى بينهما ..شيىء يزحف ببطء جاعال مايستعصى تصديقه
سهل التصديق وجعل المستحيل ممكنا أفضل من أن يجعل الممكن مستحيال !! .
عشر دقائق بعد أنتصاف الليل حسب التوقيت المحلى لشقة " خيرى " التى بدت على غير عادتها .
فارقها الهدوء وخيم عليها الصوت العالى وتحديدا فى منطقة الصالة عندما أعترض خيرى طريق أبنه
العائد لتوه من وردية ليلية .
ــ فهمتى بقى أيه اللى أنت عملته النهاردة ده ؟ سؤال ماقبل العاصفة .
517
ــ عملت أيه يابابا .قالها مفزوعا حين لمح فيه تحفزا وغضبا .
ــ تخلينى قاعد قدام هدى ووالدها النهاردة فى نص هدومى عامل زى الطيشة اللى مش عارف أى
حاجة .
ــ أيوه أنت .رددها وهو يهتز بكتفيه مستعمال نبرة لم تطأ أذنى أبنه منذ وفاة أمه .تابع محافظا على
نفس الوتيرة :لما تقولهم قدامى أنك قررت تسافر أمريكا عشان تشوف حياتك وتدور على مستقبلك..
يفهمو أيه من كالمك ده ومن أمتى أصال أنت بتاخد قرارات كده مع نفسك ومن غير ماتاخد رأيى وال
أنت خالص كبرت ورايى مابقاش يهمك ..طب ع األقل قولى بدل ماتخلينى وسطهم عامل زى األطرش
فى الزفة .قال عبارته وأعطاه ظهره يخفى غضبا متصاعدا بينما تجرع شريف ريقه بصعوبة :أنا
عايز أفهم يابابا هو حضرتك زعالن عشان همه حيفهمو كالمى أزاى والعشان أنا ماقلتلكش .أستدار
له ثانية مبديا أمتعاضه :هى مش ناقصة فلسفة واللف والدوران ...أشمعنى دلوقتى بالذات حكاية
السفر دى ظهرت .حدق فيه بصرامة :أردف منفعال :بسبب نورا ..ما أنت طول عمرك فى مشاكل
معاها .ثبت فيه عيناه كأنما ينتزع منه أعترافا :وال عشان أنا حتجوز هدى ؟ طب ما أنا أخدت رأيك
وأنت وافقت .شدد على كلمته األخيرة وكأنما يبرىء ذمته .سكت بعدها وصوت أنفاسه الغاضبة تالحق
وجه أبنه حين أقترب منه :ليه أحرجتنى وأحرجت نفسك .لم تعد لديه القدرة على تحمل األتهامات :
يابابا أنا ماأحرجتكش والكان قصدى أضايقك ..نورا هى اللى فتحت الموضوع وقالتلهم وماتسألنيش
هى ليه عملت كده ..أنا كل اللى قلته ليه حأسافر لمالقيتهم كلهم بيهاجمونى وبيغلطونى.
ــ مافيش حد يابنى هاجمك والغلطك دول كانوا بينصحوك .قالها متخليا عن حدته فأشاح أبنه بوجهه
لينهى سيجاال عقيما ،فأضطر خيرى ألستخدام سطوة األب عندما شعر به يتململ فى وقفته :مالك
واقف مش طايق نفسك ليه ..كالمى مش عاجبك .ضم ساقيه وعدل من سحنته ثم تقدم منه خطوة
شابكا يديه على بطنه :حضرتك عارف أن ده مش طبعى ..أنا بقالى تسع ساعات واقف على رجليه .
تبريره كان بردا وسالما على مالمح أبوه التى هدأت وتراجعت أنفعاالته ،ثم توجه إليه متمهال .وضع
يده على كتفه :تعالى نقعد ياشريف .رافقه حتى المدفأة ..أتخذا مكانهما فى كرسيين متقابلين .أشعل
سيجارته وعاد لرشده :من يوم أخوك نادر ماسافر وأنا وأنت مالناش غير بعض وطول عمرى بأتعامل
معاك على أنك راجل وتفكيرك عاقل وده اللى خالنى ..سكت مطلقا دخان سيجارته الذى طال رأس
518
شريف المنكسة :ده اللى خالنى لما فاتحتك فى موضوع هدى ماكنتش متردد والقلقان ..كنت متأكد
أنك حتفهمنى وحتقدر ظروفى ..بعدها حسيت أن الموضوع ده مضايقك وتقريبا رافضه .أغمض عينيه
وفتحهما حين رفع رأسه :أنا ماقلتش أنى رافض ــ من غير ماتقول كفاية أنى أشوفها فى عينيك وفى
طريقة معاملتك معايا ..كل ده أنا حاسه وفاهمه بس اللى مش قادر أفهمه ومش قادر أالقيله أجابة ..
أيه هو سبب رفضك ؟ طرح سؤاله وحدق فيه .ثم عاد يستجوبه :أنت رافض فكرة الجواز أصال ؟ وال
رافض هدى بالذات عشان ظروفها وال هو دور عناد بينك وبين نورا وأتاخدت أنا فى الرجلين ..
واليمكن السبب الشقة ؟ ظل شريف يتابعه فى ذهول حتى أنتهى ..كان من الصعب العثور على دفاع
مقبول .بدأ كالمه :أنت ليه أصال متخيل أنى رافض .قالها بنبرة ضعيفة وخجولة فأبتسم أبوه أبتسامة
الفاهم :يعنى بتهرب من األجابة ..طب أجاوب أنا .لم يبد أعتراضا :متهيألى أنت مش رافض هدى
بالذات والفارق معاك ظروفها اللى كانت فيها والدليل أنك بتحب بنتها وأنا عارف كويس أن ده مش
أسلوب تفكيرك ..يبقى نروح للسبب التانى وهو أنك رافض الموضوع غالسة ودور عند عشان نورا
موافقة ..يعنى رفض والسالم حاجة كده زى أثبات الذات يعنى خدوا بالكم منى أنا موجود .غمس
سيجارته فى المطفأة متأففا وهيبته المعهودة ترافقه حتى فرك يديه كالمنتشى بأنتصار فى دور شطرنج
حين أجهز على منافسه بعبارة " كش ملك " مستبدال المقطع :مش فاضل كده غير الشقة يابطل .حين
سمع تلك الجملة رفع شريف رأسه بطيئا وأخفى توتره مستعيدا بعض الثقة :حضرتك الزم تعرف أن
نورا عرضت على أنها تشترى شقة ونتجوز فيها وأنا رفضت .حك جبهته بأبهامه وعالمات الحزن
تسبق صوته :واضح أنك بطلت تحكيلى حاجات كتير ياشريف .
ــ ع العموم معلش دى حاجة ترجعلك ..لكن اللى عايز أقوله ماتقلقش خالص من حكاية الشقة عشان
ببساطة يابنى حأبقى أنا وأنت عندنا بدل الشقة أتنين ..لما تتجوز نورا وأنا أتجوز هدى زى ماحيبقى
لهم مكان فى شقتنا أحنا كمان حيبقى لنا مكان فى شقتهم ..ثم سكت مستطلعاأثار كلماته على وجه أبنه
الذى ظل نافرا .فأستكمل :ولو مش عاجبك الوضع ده أقبل بعرض نورا الهو عيب والحرام وأنا يابنى
سبقتك لما أتجوزت مامتك فى شقتها .تأمله شريف بنظرة شفقة حين رأه يتخلى عن منطقه :ماما اللـه
يرحمها كا نت ظروفها مختلفة وحضرتك كمان كان لك وضعك وكيانك ..أما أنا فمشكلتى أكبر بكتير من
519
مسألة الشقة ..أنا لغاية دلوقتى يابابا تايه مش عارف أالقى نفسى .كررها بحرقة حين تساءل أبوه :
تايه ؟! .
ــ أيوه يابابا تايه ..أنا حاجة كده ماشية فى الدنيا مالهاش معالم والطعم وال أى حاجة ..أقنعت نفسى
بشغالنة على ماتفرج ال لها مستقبل والطموح وفى أى وقت ممكن يقولولى شكرا مع السالمة وحضرتك
قلتلى الشغل مش عيب وأصبر على ماتفرج .صاحبته حشرجة لم يستسلم لها وتابع :حتى نورا اللى
حضرتك بتقول عليها بتحبنى هى كمان شيالنى ع الرف برضه على ماتفرج بعد ماتخلص من
أمها وتزيحها من البيت وبعد ماتطمن على أخواتها ومستقبلهم وكمان تكون زودت شوية من محصول
الغلة ..إن شاء اللـه بعد ماتنتهى من كل ده حتبقى تبت فى أمرى .نفرت عروقه وأرتعش جفنه حين
أنتهى من عرض مأساته ..شعر بالوحدة واليتم .توجه إليه أبوه بنظرات صامتة .اليملك اجابة محددة
ملتمسا منه بعض الفهم حين مال بجذعه متخليا عن وضعية الشموخ :حاسس بيك ياشريف وعارف أن
كالمك كله صح .أدلى بأعترافه ثم أنكسرت نظرته ناحية األرض .تنهد ولم يرفع عينيه .أستطرد :
كان نفسى ظروفك تبقى أحسن من كده ..ياريت كان فى أيدى حاجة وأنا كنت عملتهالك ..لكن انت
فاهم وعارف الظروف كويس صمت بعد أن جمعتهما نفس النظرة ناحية األرض قبل أن يسبقه خيرى
رافعا رأسه متجوال بنظرته فى الوجه المدلى :اللى أملكه دلوقتى ياشريف وأقدر عليه هى النصيحة ..
أسمعها منى ياحبيبى .تتبع األخير نهاية جملته متخليا عن نظرته األرضية صاعدا بها ببطء لوجه أبيه
الذى قال متأثرا :عايزك تكون متفاءل وواثق من نفسك وتحمد ربنا ألف مرة أن مشاكلك كلها مادية
يعنى أن ماتحلتش النهاردة واللـه حتفرج بكرة ..تخيل ياشريف لو مشكلتك زى حاالتى أنا ..مشكلة مع
الزمن اللى عمال يجرى سنة ورا سنة لغاية ماعديت الخمسين وبقى وشى فى وش الوحدة ..الملل
هدنى والخوف من بكرة لما الصحة تتعب والعقل يبقى على أده ولما كرامة البنى أدم تتهان بأيدين
مرض وتهزمه ..أنا كبرت ياشريف ..عشان كده .أغتصب ريقه ولم يكمل .فحثه أبنه :عشان كده
أيه يابابا ؟ .
ــ عشان كده لما ظهرتلى هدى حسيت أنها طوق النجاه اللى حتأخد بأيدى وحتكمل معايا اللى فاضل من
عمرى ..أشاح بوجهه خجال ثم أردف :جايز أكون من فرحتى بيها نسيتك وجايز اكون قصرت
وماشرحتلكش ظروفى بشكل كويس وده من غير قصد منى ..بالعكس ياشريف انا طول عمرى بأتعامل
معاك على أنك صاحبى وعقلك كبير وحتقدر ظروفى من غير شرح كتير ..أعذرنى يابنى ..الحاجة اللى
520
ممكن تشفع لى عندك أنك أنت اللى فاضلى فى الدنيا بحالها .خلع األخير مأساته المطبوعة على
مالمحه واضعا يده على يد أبوه المرتخية فوق ركبته :أنسى كل اللى قلناه يابابا وماتحملش نفسك ذنبى
والتشغل بالك بأى حاجة ..حضرتك ربتنى ع الرجولة وتحمل المسئولية وأنا أدها وحضرتك حتتجوز
من طنط هدى عشان فعال أنت محتاج لها وهى كمان محتاجالك ..وأنا كمان يابابا بعد أذنك محتاج أوى
أالقى نفسى ..سيبنى على راحتى وزى ماحضرتك كبرت أنا كمان كبرت والسنين بتجرى وماعملتش
حاجة لغاية دلوقتى ..عشان خاطرى سيبنى أشوف مستقبلى .قال كالمه ولم تسعفه حدقتيه من تبين
مالمح أبوه بعدما أمتألت عيناه دموعا .
ــ أل يابابا .أعتصر جفنيه كى يتخلص من دموعه ثم نظر فى عينى أبوه التى فاضت هى األخرى
بجرعة من الدموع فشل فى حبسها .لحظة مزلزلة ..ترجرجا فى مكانهما وكأن مس أصابهما ..تزحزح
خيرى حتى حافة كرسيه فاتحا ذراعيه مستدعيا أبنه الذى لم يتأخر وصوله .سلم نفسه لحضن أبوه
يكتم فيه صوت بكاؤه بينما فشل خيرى فى لجم أنينه ..أهتز كل مافيهما تحت ضربات األنين والبكاء ..
رجالن يضيق جلدهما بروحهما المكسورة .عاجزان عن مواجهة زمن رحل بكل أحالمه ! .
000000000000
وبين ليل الينتهى ونهار اليبزغ .الزالت تلك الليلة تتفاعل ..الثانية صباحا تدق فى شقة فايزة تزامنا
مع دخول منصور من باب الشقة ..أوصده خلفه بعنف قاصدا أحداث ضجة متمنيا ظهور أمه فى
أعقابها ..كان فى أشد األحتياج لتوضيحات واجابات .لم يكن منصور يكف عن مطاردة األفكار
والظنون .أحتار فى األمر .الساعات األخيرة تطرح دائما سؤالها القاسى والمؤلم :أمى ليه وقفت
الشغل فى أرض أبن شكر ؟ طلبت من المهندس أسامة يصرف نظر عن رسومات المول ومايكملش بقية
رسومات العمارة ..وليه محمود المحامى ماعندهوش أجابة على أى سؤال ؟ أسئلة كلها تصب فى
حاضر غامض بال مستقبل .
وقف وسط الصالة " شخشخ " مفاتيحه والمجيب .مد رأسه من وراء حدود الطرقة وعيناه مفتوحتان
نا حية غرفتها ككلب حراسة .ثم تجرأ ونادى بخشونة :ياما ..ياما ..لحظات وسمع همسا خلف بابها
حين أجتاز عتبة الطرقة .فقال :أنا قاعد برة مستنيكى ياما .
521
خرجت بعد خمس دقائق معصوبة الرأس مرغمة بعد نصيحة من هدى .أستقبلها واقفا حين تقدمت :
الجميل مش عايز يشوفنى وال أيه واليعنى من لقى أحبابه نسى أصحابه .كلماته كالسكين البارد يعبث
بالجرح النازف .على غير عادتها ،أمتلكت األن فضيلة الصبر .ليس ذلك الصبر الطيب الذى يتحدثون
عنه ،ويوصى به المؤمنون .صبر محسوب ومخطط وهادىء ! .
جلست على كنبتها دون أن تنظر اليه :عايز أيه عامل دوشة وداخل بزعابيبك .
ــ ياما أنا عايش معاكى فى بيت واحد ومش عارف أوصلك وال أتكلم معاكى ..ياقافلة عليكى األوضة
مع زميلتك وموبايلك يا أما مقفول يامابترديش ..ماتقوليلى أيه الحكاية بالظبط ..يكونش شايفالك
شوفة ياما .قالها وداعبها بعينيه ضاحكا .
ــ الشوفة دى تقولها لنفسك وللوسخ أبوك ..خلصنى قول عايز أيه دلوقتى ؟ قالتها قبل أن تأمره
باألختصار .جلس الى جوارها .تأمل سحنتها الصارمة ثم أطلق تنهيدة ساخنة أوحت بأمتالء صاحبها
بالحيرة :مالك ياما فى أيه ؟ .
ــ مافيش أزاى وشكلك مقلوب ومش طيقانى ..ده أنتى حتى مش عايزة تبصى فى خلقتى .النظر إليه
يضغط على أعصابها ..تراه فى عينيها كنبات شيطانى ظهر فجأة بال أصل أو أمتداد ..النظر إليه
يجعلها راغبة فى البحث عن مكان جديد أو ربما عن بداية جديدة.
ــ فهمينى أيه اللى بيحصل ياما ..الوله النونو وخضر مش عارف أتلم عليهم من أمبارح ..أتصل بيهم
مابيردوش والليلة ظهروا فى القهوة وبسألهم عن األيراد قالولى المعلمة هى اللى حتحاسب ..أيه اللى
حصل ياما .
ــ حقك ياما ..اللى أنتى شايفاه صح أعمليه ..أنا بسأل بس .
ــ حاضر ياما حأتخمد بس عايز أقولك أنى ماعملتش حاجة تغضبك والتزعلك وماسك شغلك بما يرضى
اللـه ..ولو حد قالك حاجة غير كده واجهينى ياما .تلقت كالمه بهدوء ،حتى أنها لم تسأل .لم تثر
جدال أو هجوما .فهمت اللحظة على نحو نادر .تحرك ناحية غرفته قبل أن يلتفت إليها وهى فى طريقها
لغرفتها :تصبحى على خير ياما .لم ترد .فعزف على وتر أخر :ماشى ياأم منصور براحتك ..أنا
برضه مش حأزعل منك ياجميل .قالها بصوت مرتفع كى تصل ألذانها حين أقتربت من بابها .بينما كل
ماتتمناه فى تلك اللحظة أن تمتلك ذاكرة ،تعرف الصفح ،والنسيان ..ذاكرة تقبل العزاء .
قبع منصور فى غرفته ..كان مشهده اليختلف عن مشهد فأر سقط داخل الفخ .ضاقت نفسه ،بدا
ضعيفا الحول له والقوة ،فقد السيطرة على عقله تماما ،وخانه ذكاؤه ،بل تالشى ذلك الذكاء الذى
كان يساعده على الفهم وتحليل مايدور حوله .لم يعترف أنه سقط فى فخ محكم .الزال يفكر ويبحث
ويفتش ..يتأمل دخان سيجارته وهو ممدد على السرير يتعقبه فى فراغ الغرفة مستعيدا أحداث الــ 48
ساعة األخيرة .يفصل كل ساعة على حدا ويفتش فيها ،عله يصل الى حدث أو سقطة أو فعل ما قلب
موازين أمه وشقلب حالها .طارد الساعات الماضية وقبض على دقائقها وتعقب ثوانيها .لم يصل
لشيىء .
أرهقه البحث الذى جره الى األحساس بالظلم ..يدرك أن لكل عالم حدودا ولكل كون أفقا ،لماذا عالمه
هودائما ضيق ؟! .
523
تنبه على صوت باب الشقة الذى دوى صريره معلنا بأستحياء عن وصول عبده الجن بصحبة نوبة
سعال معتادة ،تالزمه كلما دخل البيت وكان جهازه المناعى ينهار فجأة ! .هرش جبهته ثم دفن
سيجارته فى المطفأة قبل أن يدفن النفس األخير فى صدره وقام ببطء ..تحرك ناحية الباب وفتحه بحذر
تزامنا مع خلع عبده لجلبابه ..ألتفت اليه األخير حين شعر به :مالك واقف ورا الباب كده ليه زى اللى
عامل عاملة .
ــ حقك ياسيدى ..دماغك مليانة مشاغل ..راجل أعمال بقى .
ــ يابنى الكالم معايا زى عدمه ..أنا خالص أمك طلعتنى معاش .قالها حين تجرد من جلبابه وخلع
حذائه وشرابه وجلس باللباس الطويل وفانلة نص كم بيضاء .أرسل منصورنظرة أستكشافية ناحية
الطرقة ثم عاد ألبوه :أخلص يابا وتعالى أدخل .تدلل فى خطوته قبل ان يجره منصور للداخل .
جلسا متجاورين على حافة السرير ..حدق منصور لألرض بينما عبده حشد اذنيه منتظرا كلمات
أبنه التى لم تأت بعد .فبادره بعد دقيقتين :هوأنت مقعدنى معاك تسمعنى سكوتك .أتجه إليه بنظرة
مهزومة .ثم سحب سيجارة من علبته أشعلها ورمى بوالعته وعاد ثانية يتأمل األرض .حيرته البادية
على وجهه كعالمات أستفهام .أستدعت تدخال :
ــ واللـه ما أنا عارف فى أيه يابا ..الدنيا كلها أتلخبطت وأتشقلبت فجأة ..فى حاجة مش مظبوطة
بتحصل من وراضهرى .رددها بيقين وثقة .
ــ حاجة أيه قلقتنى .دعك منصور فخذيه بكفيه :على يدك يابا أنت شفت أمى كانت راضية عنى أزاى
ومطلعانى السما والدنيا بدأت تضحكلى وحطيت رجلى فى كل زوارقها وكانت بتشورنى فى كل كبيرة
524
وصغيرة ..ماتفهمش أيه اللى حصل ..رفع كفيه وخبط بهما فخذيه واحتضرت بقية الجملة فى حلقه .
فحثه أبوه :أيه اللى حصل ؟ .
ــ ماعرفش ..وشها أتقلب من ناحيتى ومابقتش طيقانى وبتكلمنى من تحت ضرسها وكل الشغل اللى
حطيت أيدى فيه جابت ببانه ووقفته ..سألت محمود المحامى عن السبب قالى ماعرفش .
ــ سألتها وماخدش منها عقاد نافع كله كالم ع العايم من نظام أصل فى دماغى تفكيرة تانية ..تحسس
عبده لحم وجهه كمفكر :مش يمكن كالمها صح .
ــ أل يابا الليلة مش كده خالص ..دى أمى وأنا فاهمها .قالها وأستسلم ليأسه .بينما مال عبده بوجهه
مستنتجا :أنا بقول المرى اللى أسمها هدى هى اللى ورا القلق ده كله .
ــ أيه اللى بتقوله ده بس يابا .ردد جملته وهو ينفخ .
ــ ماهو مافيش حاجة جدت على أمك غير وجود الولية دى .
ــ الست دى مالهاش مصلحة ..أكيد فى حاجة تانية حصلت أنا مش فاهمها .
ــ طب مادعبس وراها كده يمكن توصل لحاجة .مل منصور من كلماته التى التقدم وال تؤخر :باقولك
ايه ..قوم أتكل على اللـه روح نام .قام من مكانه معترضا :تصدق أنت عيل أبن كلب مجنون ..من
شوية تعالى عايزك أتكلم معاك ودلوقتى روح أتكل على اللـه نام ..هو أنا على مزاج أمك .ضاق
منصور ذرعا :ماهو أنت كالمك كله اليجيب واليودى .
ــ أنا برضه يامنصور ..أنا مش حذرتك من األول وقلتلك خلى بالك ..أمك زى ماحترفعك لسابع سما
ممكن نخسفك لسابع أرض وآهى عملتها فيك بنت عبد المقصود .هز رأسه ولم يعقب بينما أتجه عبده
ناحية الباب رافعا كفيه بدعاء األنتقام :ربنا يولع فيكى يافايزة وتموتى محروقة عشان نخلص منك
ونرتاح .ثم فتح الباب وخرج الى ظالم الصالة ..تحسس بيده الكنبة ثم وضع جسمه عليها بتعب متجها
ببصره للسقف .محدثا نفسه :باين عليك يابنى حظك من حظ أبوك ..
525
أنفرد منصور بنفسه ..ظل ينقب فى األحداث ويسترجع الحوارات ..لم يجد فيها مايصلح سببا منطقيا
لهذا األنقالب ..راجع الوجوه بوجه اجتاحه الصدأ .تتبع الشخصيات ذات العالقة المشتركة فى المشهد
المباشر بأمه ..حاول أستحضارها أمامه على هيئة صور ..فتح األلبوم فى ذهنه مستهال أولى الصور
بوجه محمود المحامى ثم خضر والنونو الذى توقف أمامهما للحظات .يدرك بأنه اليحوز قبولهما .مط
شفتيه محدثا نفسه :مافيش فى ايديهم حاجة يقدروا عليها وأمى كمان مش تلميذة عشان جوز زى دول
يخلوها تقلب على .عاد يفرز الصور بعد ماأستبعد تورطهما .
مرت بقية الصور كتحصيل حاصل ،محمد المقاول والمهندس أسامة حتى بدرية ونوسة .فجأة ظهرت
صورة سليم بالمجموعة الخاصة بوجوه القهوة .يعلم أنه وغد يملك كل األساليب لقتلك دون أن تنزف
قطرة دم ..لم يحدث نفسه بكلمة واحدة وكأن حبل الكالم أنقطع داخله فجأة .قام من رقدته عابسا
مضطربا ..أحتل السواد وجهه .سحب من ذاكرته كل األسماء والصور ..تتزاحم صورة سليم فى
رأسه ..كلمات سليم األخيرة ترن فى رأسه :ماتتغرش ياصاحبى ..األيام دول !!
عيونه الفاحصة المدربة ،قادرة على أكتشاف أصغر مافى واقعه من متناقضات أو ربما مؤامرات !.
تشبث ذهنه بالصورة واقنع نفسه بالتحليل ..قام واقفا يدور فى الغرفة كالمجنون بينما رعشة ذقنه
زادت سرعتها حين حرك فكه قائال :مصيبة سودة لتكون عملتها ياأبن الحرام وضربتنى فى ضهرى ؟
أنقضت الساعة األخيرة من الليل طويلة وكئيبة .تعب من التفكير والخوض فى األحتماالت ،والبحث
عن حلول ان صح وقوع الفاحشة ..فاحشة خيانة الصديق .
عاد لسريره كعجوز أنهكه المرض ..أستسلم مرهقا حتى يقضى الـله أمرا كان مفعوال .أرخى جفنيه .
متمنيا طلوع النهار لألمساك بسليم :لو أن ثقافته كانت تصلح لمثل هذه المناسبة لقال فيها :
" الكل خانوك ياريتشارد " .
00000000000
526
خرج يوسف فى الثامنة صباحا قاصدا مكتب المهندس ناجى ..أستقل تاكسيا من أمام مدخل العمارة
بمالمح طالب وضعته الظروف أمام أمتحان المصير ،والذى يكرم فيه المرء أو يهان .
جلس بجوار السائق محافظا على تركيزه يسترجع عبارته الملغومة التى سيفجرها الحقا فى وجه إيمان
لحظة وصوله ..راجعها فى ذهنه عدة مرات بصيغ مختلفة متحاشيا تشويش الطريق الذى يأكله السائق
بنهم وكأنه يسوقه لحتفه .
ــ ماما كانت فى السجن تسع سنين ظلم فى قضية قتل خطأ و ..هز رأسه معترضا ثم صاغها من
جديد :ماما دفعت من عمرها تسع سنين فى السجن غصب عنها و ..تنهد ونفخ ثم قال مستغفرا :
أستغفر اللـه العظيم يارب .
ــ مافيش حاجة يابنى تستاهل النفخ ..سلمها للـه وهى تفرج .عبارة دحرجها اليه السائق حين شعر
به يتلوى فى جلسته .واصل تهيأة العبارة فى ذهنه ،بدل وأضاف وحذف ،وكلما أستقر على جملة كان
يتراجع وتخونه شجاعته كلما داهمه مشهد خروجه المهين من فيال هدير ..يغزوه ذلك الخاطر الذى
ترتعد له أطرافه .أنتبه على صوت السائق الذى هنأه على سالمة الوصول حين توقف أمام العقار .
شعر بخوف حين أجتاز المدخل ورافقه حتى المصعد الذى سلمه للدور الثانى مرتبكا ..دخل المكتب
يحمل على كتفيه تاريخا مؤلما للحظة مشابهة ..بأعصاب متوترة مسح المكان حوله ،تسبقه نظراته
ناحية الطرقة المؤدي ة لمكتبه حين لم يجد ايمان على مكتبها ..شعر بحركتها فى الداخل حين أقترب من
الباب .فتحه على أبتسامتها الصباحية عندما ألتفتت اليه ،تنفض يديها من تجهيز مائدة األفطار
المعتادة على مكتبه ..اتجهت ناحية الباب تشاغبه بعينيها :عندك تأخير عشر دقايق ياباشمهندس .
ــ معلش سامحينى .قالها وهرب من عينيها .فتعقبته :مسمحاك ..تعالى أقعد عشان تفطر .كلماتها
صعبت عليه األمر .هز رأسه مطيعا ومر من جوارها ثم جلس خلف مكتبه وجلست أمامه وبينهما
سندوتشات الجبنة الـ " ريكفورد " افطاره المفضل ،والنشون الفراخ عشقها األول ومعهما ثالث
خيارات ،بينما الشاى األخضر فى ترمسه يعيش أزهى أيامه ! .
ــ أيه الحكاية يايوسف زهقت من الريكفورد وال أيه ؟ .قالتها حين لم تر لهفته المعتادة على الطعام .
أبتسم ولم يرد .مد يده وتناول واحدا ببطء .لفت أنتباهها مزاجه القلق .قامت من كرسيها تتوعده
بمفاجأة :حأجيبلك حاجة دلوقتى حتفتح نفسك وتخليك تخلص ع الفطار ده كله لوحدك .مدت خطوتها
527
الى مكتب الراحلة هدير وسحبت من عليه حقيبة يدها ،فتحتها حين عادت لكرسيها بينما يتابعها
بنظرات فضولية منتظرا خروج يدها من جوف الحقيبة ..لحظات وسلتت يدها القابضة على مفتاحين ،
هزتهما أمام وجهه ..أضطربت أنفاسه حين قرب عينيه بينما ظلت ضحكتها تضيىء وجهها :مفاتيح
عربيتك ياباشمهندس ..من النهاردة مافيش مواصالت ..يعنى البهدلة وال مصاريف .ثم مدت له
المفتاحين المحبوسين فى ميدالية فضية تحرسهما أيه الكرسى .تسلمها بفرحة مصطنعة ..قلبها بين
يديه للحظات ثم وضعها أمامه .راقبت مالمحه المتحفظة :العربية مش أد المقام وال أيه ؟
ــ شكلك مش عاجيبنى يايوسف ..الفطار زى ماهوه ومش شايفة أى فرحة فى عينيك بالعربية .لم
يكن أمامه فرصة للتراجع .
دفع بصدره لألمام ،يحيطها بنظراته الطويلة :فى حاجة مهمة عايز أقولهالك .
ــ عايز عربية فور باى فور بدل الـ . 128قالتها حين وضعت كفها تحت ذقنها .تماسك وهو يطل
عليها بنبرة جادة ونظرة مستسلمة :أنتى قبل كده قولتيلى أن البنى أدم ظروفه وتصرفاته همه اللى
بتسمح للحواليه أنهم يتدخلوا فى حياته لما يحسو أنه مش قادر يعدى من أزمته لوحده .نكس عيناه
متحاشيا النظر إليها حين أجابته :مظبوط .أزاح ميدالية المفاتيح بأبهامه ناحيتها .كانت واجمة
ومستنفرة حين رفع عينيه نحوها وقد أستجمع كلماته كأنه يفجر عذابا جديدا :والدتى دخلت السجن
تسع سنين فى قضية قتل خطأ ..يعنى من غير قصد .قال العبارة بسرعة كأنما يتخلص من ثقل يزن
أضعاف وزنه .لم يكن قادرا على التنبوء برد فعلها ،إال أن صورة هدير كانت تلح فى ذهنه .سحبت
كفها من تحت ذقنها راسمة أبتسامة حين هبت عليه بوجهها :والمطلوب ؟! أربكه السؤال كما أربكته
مالمحها الهادئة .حاول العثور على رد مناسب وسط فوضى الخجل والحرج :مش مطلوب حاجة
خالص .أراد أن يحررها من أى ألتزامات .ثم صمت أمام صمتها وراح يقلب عينيه فى مالمحها .كان
على أتم األستعداد لتلقى ضربة أخرى .
528
ــ أنا بقى عارفة .قالتها وثبتت نظرتها ..لم ترمش حين سألها :عارفة أيه ؟
ــ عارفة أن مامتك كانت فى السجن .سرت رعشة فى جسده ..حولته فى لحظة الى كائن مكهرب ..
كان بحاجة الى من يدعمه قبل أن تنهار البقية الباقية من تماسكه ..أغمض عينيه للحظات .كان
وجهها قريب منه عندما فتحهما :عايز تقول حاجة يايوسف ؟! حاول تحريك لسانه الراقد فى فمه وسط
الذهول :عارفة ؟! تراجعت للوراء مبتعدة عن دهشته :أيوه يايوسف ..هدير أتصلت بى فى نفس
اليوم اللى جت زارتنا هنا فى المكتب ..أنا ماعرفش هى كانت عايزة أيه بالظبط ..كانت بتلف وتدور
فى الكالم عايزة تعرف أن كان فى حاجة بينى وبينك وال أل ..ولما سألتها بعدتى عنه ليه مادمتى لسه
بتحبيه ..صارحتنى وحكتلى كل حاجة بالتفصيل .أشاح بوجهه كأنما يحاول أن ينهى مشهدا دراميا
اليريد المشاركة فيه .إال أن نظرتها التى فضحت عاطفتها شجعته على طرح السؤال الكبير :وأنتى
رأيك أيه فى الكالم ده ؟ .
ــ فى كل حاجة ..فى اللى أنا قلته واللى أنتى سمعتيه من هدير ؟ سحبت سندونش ومدته له :كل
وأسمعنى كويس .قالتها بنبرة أم تامر أبنها الذى أنصاع وقضم أول قضمة ..أردفت وهى تصب
الشاى :لو عايز تسمع نصيحة مملة حأسمعك ولو عايز تاخد منى الخالصة فخد عندك ..وضعت أمامه
كوب الشاى األخضر ..وسحبت بشفتيها رشفة من كوبها .ثم أستأنفت :واحدة زى حاالتى مرت
بتجربة جواز فاشلة وأتطلقت بعد سنة ..تفتكر يايوسف الناس ممكن حيقيموها أزاى ..أنتظرت منه
أجابة لم تأت .فواصلت :أحتمال جزء منهم يغلطها وجزء تانى يبقى فى صفها ..لكن بالتأكيد كلهم
حيحمولها مسئولية أختيارها الفاشل .لم يفهم القصد من وراء كالمها .
فوضحت :أما فى حالتك أنت يايوسف ماحدش يقدر يغلطك وال كمان يبقى فى صفك ..عشان ببساطة
أنت ماأختارتش الظروف اللى بسببها مامتك دخلت السجن والحتى كان لك يد فيها ال من قريب وال من
بعيد ..موضوع والدتك ده بقى شيىء من الماضى ماتشغلش بالك بيه ..أنساه يايوسف وبص لقدام .
كانت تتكلم وعين الشفقة تسبقها ..تحدثت وكأنها أكتشفت حقائق األشياء ..فتش فى كلماتها عن
السبب الحقيقى التى لم تكشف عنه حتى األن ..
529
ــ األنسان الذكى يايوسف هو اللى يتحكم فى الظروف ويبقى عنده ثقة فى نفسه ومن جواه يبقى رافض
لعب دور الضحية ..هىدى صفات اللى عايز ينجح ..وأنا شايفاك بطل مش كومبارس .
ــ البطل عشان يبقى بطل الزم يكون جنبه بطلة تقف جنبه وتساعده .قالها والزالت اللقمة تدور فى فمه
ولم تصل لجوفه .
ــ لما البطل يسأل سؤال زى ده يبقى تقريبا البيشوف والبيحس ! .لم يملك اال أن يبتسم رغم كل
الحرج .
ــ مش يمكن ياايمان عايز يتأكد أكتر .رغم أندفاعها مع يوسف ورفع شعارات األنسانية ورغم قناعتها
بالنظرية القائله " يجب تقييم األنسان بأفعاله وليس بأفعال األخرين " إال انها كانت تقيس كل الخطوات
حتى التبتعد عن حساباتها التى خاطرت من أجلها ..تريد أن تؤسس لعالقة ناجحة تعوضها عن تجربة
زواج فاشلة ،وأن تترك مسافة كافية للتراجع كى اليتكرر الفشل .
ــ أصبر يايوسف لسه األيام جاية كتير وأنا عن نفسى متفاءلة باللى جاى .سرحت فيه كما سرح
فيها ..تداركت لحظة السرحان واستسالم مالمحها امام وسامته فى الوقت المناسب ،فنفضت
عن نفسها الضعف وعادت مرتبكة متلعثمة وهى تنظر فى ساعتها :قوم يا أستاذ كفاية عليك كده أنت
حتقضيها تسبيل وال أيه ..خد مفاتيح عربيتك وقوم أتكل على اللـه روح موقعك .ثم وقفت كما وقف ..
أقتربت منه فى المسافة الفاصلة بين المكتبين وكأنهما توأمان ينمو فى جسد واحد ،اليكتمل إال بهما .
0000000000000
أنقضت النصف ساعة األخيرة من الفترة األولى فى األتيليه ،الزالت نورا ساهمة ..كانت عالمات
األجهاد والقلق تطل من وجهها منذ الصباح ..خيم عليها صمت غريب ..صمت المراجعة والتقييم ..
صمت التأمل والحساب .لم يكن يومها عاديا ..تشابكت فيه كل أحداث الفترة الماضية لتنسج حولها
جوا كئيبا أضفى على حجرة التفصيل التى لم تغادرها منذ الصباح شعورا بأنها غرفة فى دار مسنين ..
الصوت فيها وال حركة ..كل ماحولها عاجز وواهن .
530
حاولت زيزيت أقتحام صومعتها الصامتة ثالث مرات فى ثالث زيارات متقطعة ..أرادت جرها فى المرة
األخيرة لحديث واقعى كى تنال منها معلومة أو لتفهم سببا بعد أن فاض بها الكيل من منظر ركام الشغل
المعطل الذى لم ينال حتى اللحظة نظرة رضا من عين نورا .
ــ أيه الحكاية يانورا ..أنتى عليكى ندر ماتقوميش من مكانك النهاردة ..ده أنتى ماأتحركتيش من على
كرسيكى من ساعة الصبح ..فى أيه ياحبيبتى ؟ .
ــ مافيش ..قالتها بتكاسل يليق بجو الحجرة الهادى التى لم يسمع فيها دندنة ماكينة والرنة مقص .
ساقتها مالمح نورا الى أستفسار حين جلست أمامها تعاين حالة الكمون :بصراحة أنا مش القية سبب
للتكشيرة دى ..كل اللى كان نفسك فيه بدأ يحصل واألمور بقت ماشية تمام .
ــ أمور أيه اللى بقت تمام .قالتها بصوت محبط .
ــ هدى قدامها يوم وال أتنين وحترجع البيت وخيرى مستنيها بفارغ الصبر عشان يتم الجوازة ومامتك
تقريبا ماعندهاش أى أعتراض ..يبقى معناها أيه قعدتك الحزاينى دى ومزاجك اللى مش رايق ده .
أستقبلت كلماتها بمالمح تصرخ ونبرة أستغاثة :وأنا فين فى كل ده يامدام ؟ بدت نبرتها غير المألوفة
تثير أندهاش زيزيت :أنتى فين يعنى أيه ؟ قامت من كرسيها فى محاولة ألنهاء الكالم .سحبت
حقيبتها :أنا حأطلع أرتاح شوية وع الساعة ستة حأبقى أجى أشوف الشغل المتأخر ده ،ثم أعطتها
ظهرها خارجة بينما تعقبتها زيزيت بنظراتها وأطراف شعرها األصفر يهتز على جبينها مع هزات
رأسها المعترضة :هى عايزة أيه بالظبط ..كل اللى طلبته أتعمل ..ده أيه األرف ده .قالتها بقلة حيلة
وعينيها تجرى على أكوام الشغل المعطل والذى لم ترض عنه نورا حتى اللحظة ولم تمتد له يدها
بضربة مقص ! .
منذ يوم الزيارة مرت ثالثة أسابيع على وجود هدى بمنزل فايزة ..استعادت كل مخزون عالقتها
االنسانية برفيقتها التى الزمتها كأنفاسها ،لم يكن بمقدورها الحصول على فرصة حقيقية لالنفراد
بنفسها وكلما ضاق صدرها واشتدت اوجاعها فرت اليها ،فحوطتها بالتشجيع والدعم وشغلتها عن
قضاياها النفسية بمعاركها الحياتية وتدبير الخطط المستقبلية بعد هزيمتها القاسية على يد ابنها ،فهدأت
هدى وغاب عقلها لساعات طويلة عن التفكير فى مأساتها قبل ان تستعيد وعى األلم مع كل مكالمة من
خيرى الذى الزال رافعا مطلبه الوحيد :مش كفاية عليكى لحد كده ياهدى ..كل الحجج خلصتيها ..
531
وأخرتها .لم يكن لديها جوابا شافيا السكات ذلك المنفعل .باتت تعتمد على نظرية المماطلة :هانت
ياخيرى يومين بالكتير .
ــ بقالك تالت أسابيع بتقولى يومين ..مش حينفع كده .ثم يهدأ مجبرا أحتراما لدموعها :أعمل معروف
ماتضغطش على ..هكذا كانت تنتهى المكالمة .
بخالف أوالدها الذين اليكفون عن اطالق عبارات التذمر والضيق من فرط المماطلة وخاصة نورا التى
استنفذت كل جمل التشجيع التى دائما تستهل بها مكالماتها قبل أن يضيق صدرها وتتحول فى نهاية
حديثها إلى الوعيد والتهديد بينما أكتفت هدى باالصغاء متبنية وجهة نظر فايزة :أسمعى منها
وماترديش عليها ..كبرى دماغك .أرتاحت لهذا الحل المؤقت رغم صعوبة الكلمات وبجاحة االلفاظ التى
تصلها دون حياء وبال رحمة .
دخلت نورا الشقة التى أستقبلتها بنسمات العصر الحزينة .فتشت بعينيها وهى التزال على عتبة الباب ،
تمشط المكان بحثا عن أحياء ..أوصدت الباب خلفها ..وقفت فى الصالة ولم تنحرف الى غرفتها .
رمت بحقيبتها على كنبة األنتريه ثم رمت بجسدها إلى جوارها ..أنسحبت إلى ركن الكنبة وأنزوت
متأملة ..كانت فى حاجة لألنفراد بنفسها كى ترمم أنقاضها ..تبحث عن روحها التائهة من خالل ساعة
العصر الخرساء .شجعها خلو المكان من الحركة فى األستغراق فى التأمل بعد أن همد صوتى أيات
ونعمة اللتان سلمتا نفسيهما لغفوة أجبارية بعدما أرهقهما الكالم عن الفنان " أنوروجدى " والتغزل فى
شعره الناعم وبذخه فى الصرف على افالمه مرورا بفترة زواجه من الراحلة " ليلى مراد " وأنتهاءا
بوفاته التى أثارت جدال حادا فيما بينهما حول حالته األجتماعية لحظة أن وافته المنية ..هل ليلى كانت
على ذمته أم فى ذمة غيره ؟ تناقرتا طويال قبل أن ترتاح نعمة لتصريح أيات :ع العموم األتنين دلوقتى
فى ذمة اللـه .ثم نامتا فى مكانهما ..بينما بسمة فى تلك اللحظة تكتب تاريخا جديدا فى عالقتها مع
أمجد ..تاريخ الهوية والمستقبل .هى األن فى لقاء تعارف بجمعها بأم أمجد وأخته وفى حضوره
شخصيا فى كافيتريا " تريانون " كخطوة جادة منه ألضفاء الشرعية على عالقته بها وتمهيدا لخطوة
قادمة بعد أن نجح فى أستمالتها عقب معاناة أستمرت لثالثة أيام متتالية من أخذ ورد فى التليفون ،
كلفته ثالثون مكالمة بمئات الدقائق ،كان يقرويعترف فى كل مكالمة بذنبه الفادح مبديا الندم وسط كم
هائل من األعتذارات بكل الصيغ وبشتى التوسالت مستعمال كل النبرات التى يلين لها قلب الحجر .
أعطت له موافقتها المبدئية بعد الرجوع لنورا التى قبلت على مضض من باب درء المفاسد .كما أخذت
532
رأى يوسف الذى دعمها معتبرا أمجد مكسبا لها بعد أن أقر بخطأه فى شجاعة ونجاحه فى الحصوله
على عقد عمل بالسعودية .
تأملت نورا من بعيد كل الذكريات التى سحبها اليها سكون العصر ،والسؤال الكبير الذى يشدها ويهوى
بها إ لى قاع الحيرة :أنتى فين من كل ده يانورا ؟ تضخم السؤال داخلها حتى أمتألت به ،طافحا من
عينيها متسلال عبر نظراتها إلى كيان الصالة الصامت ..السؤال الذى جر خلفه أسئلة تتدفق عليها من
كل حد وصوب .كان عليها أن تختار أجابة واحدة ..أجابة النجاة أو الغرق ! .
أشياء كثيرة أرغمت عليها حتى تحافظ على خط سير الحياة ،وكل األشياء التى راهنت عليها أصبحت
األن بين قوسين ،تحتمل النجاح أو الفشل !! .
األن تبحث عن حكم البراءة فى قضية حياتها الحافلة باألحداث والعجائب ..شريف كان وجوده طاغيا
فى ملف القضية وفى كل الذكريات ،الزال هو فتاها األول ونجمها المفضل .مازالت مواقفه البطولية
ترتع فى خيالها ،بالرغم من العالقة الباردة التى مر عليها شهور .بقايا أشياء دفنتها تستعيد األن
أشباحها ..لم تنس أنه صاحب أول نظرة علمتها لغة النظرات ،وصاحب أول قبلة أصابتها بالدوار ،هو
األول واألخير التى خلعت أمامه كل مالبسها حين كان ضيفا عليها فى كل األحالم .
ظلت تتصفح أوراق قضيتها ببطء من خالل األحداث والمحطات المهمة حتى هلت عليها عالمات الحيرة
مع نهاية أخر سطر فى أخر ورقة ..أدركت أن المتغيرات المتسارعة تمهد لنهاية المهرب منها .
علمتها التجربة أن تشم رائحة الخطر قبل وقوعه .دقت طبول الخوف فى رأسها ..طاف بها القلق فى
دهاليزه الملتوية ،يسحبها الى أعماق مجهولة ،ينهشها مشهد شريف حين أعلن أمام الجميع عن نيته
السفر ألمريكا .كان خوفها يتجاوز حدود كبرياءها ،متخطيا كل حساباتها .أشتبكت مع نفسها فى
حوار الفرصة األخيرة :أزاى يامجنونة تسيبى شريف يضيع من أيديكى ؟ بالبساطة دى تفرطى فيه ؟
لم تدافع عن نفسها أمام النفس اللوامة ،بل تمادت فى التعذيب :فى حد عاقل يجرح قلبه بأيده ..مش
ده شريف اللى بينك وبينه حاجة أكبر من الحب ..حاجة ماحدش عرف يسميها والحتى فهم معانيها .
مالت برأسها حتى المست سور الكنبة وهى تنصت لحديث النفس :كلهم أحتاروا فى اللى بينى وبينه
بعد ماخاب ظنهم لما قالوا ده حب مراهقة حياخد وقته ويروح لحاله واللى قال ده حب جيرة وأول
ماحيخرجوا للدنيا حيقابلوا بجد الحب الحقيقى .أغمضت عينيها للحظات قبل أن تفتحهما على الصوت
المتمادى دون أستحياء :وعدى سن المراهقة وخرجنا للدنيا واللى بينى وبينه ماتغيرش ..بالعكس
533
كانت حالوته بتزيد وكان كل يوم له طعم أحلى من اللى قبله .رفعت رأسها وأعتدلت فى جلستها وأرخت
يديها فى حجرها :أتحداكى يانورا لو تعرفى تكملى حياتك من غير شريف ..حتتباهى بنجاحك قدام
مين ..الدنيا لما بتسود فى وشك حتروحى تشكى لمين ..حلمك القديم اللى نفسك تحققيه وأنتى حاطه
الشال على كتافك وقاعدة أنتى وشريف قدام الدفاية فى ليلة شتا باردة وبتشربوا فنجانين قهوة ووالدكو
بيلعبو تحت رجليكم ..مش دى اللحظة اللى نفسك تعيشيها وده حلم عمرك اللى كنتى دايما تحلميه
معاه ..حتحققى كل ده مع مين ؟! تصلبت مالمحها ،ونظرتها القاسية ثابتة تغزو عمق الصالة .
أصبحت محاصرة بضرورة الدفاع عن حبها ..اذن األن الصوت إال صوت المراجعة وانقاذ مايمكن
انقاذه ..اسدلت جفنيها هربا من مالحقة األسئلة واألحتماالت ..مرت ربع ساعة وهى على نفس
الحال .كانت الهواجس تشن هجومها األخير حين خدش سكون العصر دوى باب المصعد وهو
يوصد ،وصوت أقدام متجهة ناحية شقة خيرى .أنصتت لبرهة قبل أن يجتاحها طوفان الفضول الذى
جرفها من على الكنبة حتى باب الشقة التى تسمرت أمامه وألصقت فيه وجهها قبل أن تضيق عينها
اليمنى وتضعها على عين الباب السحرية .لمحت صدغ شريف وهو يدنو من باب شقته وصوت مفتاحه
التى تحفظ رنته يدور فى كالون الباب .
ظهوره المفاجىء فى تلك اللحظة أذهلها وقلب كيانها كله ..رأت فيه بشارة من السماء .
تمنت فى تلك اللحظة حضنا دافئا تخلع عليه كل ذنوبها ..الحضن القديم الذى أحتمل خذالتها له بصبر
عجيب ! أنتزعت جسدها المتخشب من خشب الباب ..أنتزعته وخلصت نفسها من الهيبة المزيفة
والكبرياء المفتعل بالزعامة المزعومة .شيىء ماجعلها تشعر بضرورة الخروج إليه .
لم تأخذ قرارا .بل أخذها القرار الى خارج الشقة دون تفكير أوحتى تمهيد .وسط سكون الطرقة
الفاصلة بين الشقتين ،سارت بمحاذاة كل األخطاء التى أرتكبتها ..لمست بأصبعها جرس الباب فى
اللحظة التى سألت فيها نفسها حين واجهت الالفتة التى تحمل أسم خيرى والتى هزمها الزمن :ياه ده
انا بقالى كتير أوى ماوقفتش قدام باب شريف .
أنفتح الباب ..تقلصت عضالت وجه شريف حين رأها وكأنه يأبى التصديق .
ــ ممكن أدخل ؟ عقد الذهول لسانه .أنفلتت من جواره وأتجهت للداخل غير مبالية بوقفته المتساءلة أو
لنظرته المدهوشة .مشت ببطء داخل الصالة مدفوعة برغبة الحدود لها ..أوصد الباب بينما تشده من
534
كل أطرافه خلفها ..تتبعها مستندا على ماتبقى له من تماسك .وقفت وسط الصالة التى شهدت المراهقة
والشباب ..وتحسست المقاعد الصامدة فلمست دفء الزمن الذى كان ..بحثت بملء بصرها عن عالمة
تعرفها ..أبتسمت لصورته وهو طفل مع أخوه نادر وحولهما سميحة وخيرى .بينما القلق مايزال عالقا
بوجهه وصوتها يرن فى الصالة :مافيش حاجة أتغيرت خالص ..كل حاجة فى مكانها .قالتها ولفت لفة
كاملة كأنما تدور فى دوامة تغوص بها أليام حفرت فيها ماالينسى أبدا .
جلس على حافة كرسى يراقب مالمحها التى لم يبق منها سوى مواقف فى طريقها للتراجع ! جلست
أمامه على كرسى مقابل تبحث عن كلمات تليق بحالتها :عمو فين ؟
ــ فى المناسبات بس .بين كل سؤال وأخر كانت تستعيد كل حبها وكل الذكريات التى طفت فجأة .مالت
بوجهها وأعتدلت فى جلستها تحاول فك عقدة حاجبيه :ماسألتنيش يعنى عن سبب الزيارة ؟ تنهد
محافظا على عبوس وجهه :أيه السبب ؟
ــ مافيش سبب ..لقيت نفسى زهقانة ومخنوقة قلت آجى أتكلم معاك شوية .كان فى أنتظارها ضحكة
ساخرة قبل أن يبتعد بظهره للوراء :ده من أمتى ان شاء اللـه .
ــ من زمان أوى ياشريف بس أنت اللى مش واخد بالك .قالتها وبحثت فى عينيه عن هذا الحبل السرى
الذى يمتد بينهما حتى فى أشد مواقف الخصام ..أعتاد كل منهما تبادل أدوار القوة والضعف حسب
مجريات األمور ..لم تكن لعبة األقتراب واألبتعاد عن بعضهما هى اللعبة الوحيدة ؟! .
ــ أكيد طبعا الخنقة دى سببها أن مامتك مش موجودة فى البيت ؟! قالها وأظهر ضحكة محتشمة .
تجاوزت تعليقه الساخر بمالمح تتحرك تحت أنفعال جديد لم يعهده فيها وهى تحدثه بشفافية عن الضغط
العصبى المتولد من هموم الشغل ومسئولية البيت التى أرهقت نفسيتها وعن هذا الكم الهائل من الملل
535
الذى حكت عنه بمرارة :اللى أبات فيه أصبح فيه والسبت بقى شبه الحد والصيف زى الشتا وكله بقى
شبه بعضه ..زهقت وأرفت وأعصابى ماعدتش تستحمل ..تعبت أوى من المسئولية بقيت حاسة أنى
مسئولة عن الكون كله ..تقدم الى حافة كرسيه ،قرب وجهه منها كأنما يقيس كلماتها ..كان يحاول أن
يعرف المسافة بين ما تبقى داخلها من صدق وبين ماتجيده من مناورات :فأختبرها :الكون له صاحب
وماحدش طلب منك تبقى رئيسة الكون .ترددت لحظة ثم أبتسمت :أى حد الظروف بتفرض عليه
مسئولية ..ممكن فى األول يبقى فرحان بيها ويحس أنه فوق الكل ومهم وكلمته مسموعة وكل اللى
حواليه ماشين وراه ..لكن مع الوقت ومرور السنين بتبقى المسئولية دمها تقيل وحملها بيزيد وبتخليك
ماشى فى الدنيا بحساب وكل خطوة ولها تمن من أعصابك ومن حياتك خصوصا لما تالقى الكل
خالع أيده ومكبر دماغه ..ومش حأخبى عليك ..سكتت وكأنها غابت عن الوعى قبل أن يعيدها شريف
للحياة :سكتى ليه ماتكملى ؟ .
ــ على أد مابتفرح بنجاحك وشايف نتيجته فى عيون اللى حواليك وبتحس بقيمتك أنك عديت بيهم من
مرحلة الخطر وحطتهم على أول الطريق ..كل ده بيفرح ويسعد أنك عملت حاجة كبيرة ..لكن كل ده
مش ببالش فى تمن بيدفع ..فى حاجات بتقع منك وأنت ماشى فى طريق المسئولية ولألسف
ما بتاخدش بالك هى وقعت منك فين بالظبط ..عشان ببساطة مش مسموح لك تبص فى أى أتجاه غير
قدامك بس .صار شريف محدد األقامة على كرسيه وهو ينصت لها .كانت تتحاشى أثارة الجدل
وعزوفها عن كل مايستفزه ،جعلتها مقبولة حين أنهت كالمها .تذكر األن الوجه الذى يعرفه والصوت
الذى غاب عندما لمعت عيناها كنجمتين وبدا وجهها شفافا بريئا حين أجابت على سؤاله :وأيه اللى وقع
منك يانورا ومش القياه ؟! .
ــ البنى أدم لما يموت روح واحدة هى اللى بتطلع .
ــ ده البنى أدم الطبيعى ..لكن المغرور واللى عايز يسيطر على كل اللى حواليه وينظم حياتهم على
مزاجه ويرضى عن ده ويغضب على ده ..ده يبقى زى القطط بسبع ترواح .وجعتها جملته ..رحلت
536
بنظراتها إلى أرضية الصالة بينما تأهبت حواسه لسماع دفاعها الذى تأخر للحظات حين زحفت بعينيها
إلى وجهه ..تأملته صامتة .فأبتسم :األنسة بتشبه على وال أيه ؟
أعطاها ضعفها قوة :هو أنت غريب عشان أشبه عليك ..أنت منى ياشريف ..لما بأشوفك كأنى شفت
نفسى .الغضب الساكن فى صدره بدأ يخلى أخر مواقعه حين سمع جملتها األخيرة .
ــ ليه أتغيرتى ..ليه كل الحاجات الحلوة اللى كانت فيكى خبتيها ..ليه كل تضحية عملتيها عايزة تأخدى
تمنها ..ليه لغيتى وجودى فى حياتك ؟ .
ــ قبل ماتسألنى ليه أتغيرت ياريت تقولى أيه اللى حواليه ماأتغيرش ..البيت ماعدش هو البيت ..أب
مات وأم فى السجن وعمة فى أزمة نفسية وتالت أطفال الحول لهم والقوة ،يعنى لو ماكنتش أتغيرت
وكبرت قبل األوان وحكمت عقلى قبل عواطفى تفتكر كان أيه اللى ممكن يحصل ..من غير تفكير
وال فلسفة كنا كلنا حنضيع ياشريف أنا ويوسف وبسمة وعمتى ..هو ده المصير الوحيد اللى كان
مستنينا ..مع أنى مش حأنكر مساعدة عمو خيرى ومدام زيزيت والخواجة كرم وعم نوح ..بس الزم
تعرف كمان أن اللى بيساعد نفسه الناس بتقف معاه وتساعده ..وأنا بدأت بأول خطوة .كانت تتكلم
بحماسة وهى تنهج وعلى وشك البكاء ..شعر بروحها البريئة عندما كانت تلوذ به بضعفها .تابعت
بنفس الوتيرة وبنفس الحماس كأنها تدفع أى شك قد ينتابه :أنا ماأختارتش التضحية بمزاجى والكنت
فرحانة بدور البطولة والوفاء واألمل ..الياشريف كل حاجة أتفرضت على ..الظروف هى اللى
أختارتنى ولوال مساعدة ربنا ووقفته معايا كانت النتيجة حتبقى مأساة كبيرة و ساعتها ماكانش فى حد
حيرحمنى والدنيا كلها كانت حتحملنى مسئولية أى فشل ..ماتظلمنيش ياشريف وحط نفسك مكانى ،لو
أخوك نادر كان فى ورطة كنت حتفكر قبل ماتقف جنبه والحتجرى عليه وتنجده .
ذاكرته األن مثل صلب مصهور ،ينسال ،فيعيده تدريجيا الى ماقبل عصر الخصام والجفاء .لم يعقب
على كلماتها مكتفيا بالفرجة على وجهها الذى حرم من النظر اليه والتملى فيه عن قرب .أستطاعت
ببراعة أن تسيطر على كل خالياه وجعلت جمالها المتجدد سيفا مسلطا عليه لتضمن والءه ..قامت من
مكانها ..تحركت اليه وصدرها يهتز مع خطوتها البطيئة ..سحبته بعينيها كالمغناطيس ،فأتجه إليها
واقفا ..أقترب حين أيقن أنها تريده بشدة ..تراجعت خطوة حين تقدم ..تأملته من زاوية أكبر فى حين
يعيد ـ هو ـ تقييم صدرها وخصرها والفخذين ..سرحت فى عينيه :حمد اللـه ع السالمة .أستغرب
537
العبارة ! تقدمت اليه ومدت يديها ..تشابكت أصابعهما :أنت رجعت ياحبيبى ومش حتسافر .قلب
كلماتها فى رأسه ثم أنفرجت شفتيه عن األبتسامة المحببة لها :أنتى شايفة كده .
ــ أل يانورا ماعنديش .ضحكت بعينيها :سؤال وعايزة عليه جواب مختصر ..تحب تتغدا مع أبوك وال
معايا ؟! .
ــ يبقى خالص حأعزمك بره على بيتزا زيادة جبنة .كانت تداعبه بصوت خشن .
ــ أنا قلتلك فيه حاجات وقعت منى وأنا ماشية ..ومن دلوقتى الزم ألم كل اللى وقع منى .
قالتها وكأنها الترى غير هدف واحد تتجه إليه ..أستعادته .
0000000000000
منذ لحظات هرب منصور من غرفته ..تنطلق فى جسده كل الشياطين ..لم يعد يحتمل الحياة مع جحيم
الشكوك .
دخل المقهى يضغط على عينيه ،يتفرس فى الوجوه مثل وحش جائع ..مالمحه المحتقنة تنبض بكل
الغضب ..سار وسط الموائد صامتا .أنفجر حين لمح جمعه :ياجمعه ..أتاه األخير مذعورا ..كاد يتعثر
فى " جنش " الجزمجى المكوم فوق " جزمة " عم شفيق .
ــ خير يامنصور باشا .ساله حين جلس األخير بجوار النافذة المطلة على الحارة .
ــ ماشفتش الوله سليم ؟ قالها وأعاد مسح المكان بعينيه .
ــ بقاله كام يوم مختفى .فكر فى الجملة وهو يشعل سيجارته :يعنى ماظهرش خالص .كانت كلماته
تطير مع دخان سيجارته :بأقولك ماشفتش وش أمه من كام يوم ..تالقيه أتاخد تحرى فى حملة
538
ومستضيفينه فى نقطة كرموز ياأما عكش قرشين من واحد نمرة والغشيم حيتلهى فيهم لغاية
مايتصرفوا وبعدها يظهر ويرمى باله علينا .أنهى جمعه أستنتاجه بينما سقطت شفة منصور السفلى
مثقلة بالحسرة :روح هاتلى واحد قهوة .ظل واجما يتابع الحارة من خالل الشباك .أرهقه التفكير ..
غاص فى نفسه متمردا يائسا وعاد لسيرته األولى ،كائن بال حيلة يمشى مع األيام بال هدف .عاد من
شروده على صوت موبايله الذى يئن فى جيب بنطلونه ..سحبه بصعوبة وملل ..أجاب بمزاج عكر
حين ظهر له أسم " نوسة " على شاشته :أنتفين يابنى ..مافيش أتصال طول اليوم والحتى رنة .
جملتها لم ترق له ،فقابلها بنبرة متشنجة :مش فايق لك يانوسة ..كفاية اللى أنا فيه .
ــ وأيه اللى فيك ياأبو الرجالة ..قول ماتكسفش .ثم ذيلتها بصهلولة زادت الضغط على أعصابه التى
أصبحت التتحمل " زنة " ناموسة :هو ده اللى أنا واخده منك تريقة وصهللة وأيدك فى ميه باردة ..
يابت أنا نفسيتى زى الزفت ومش طايق نفسى .رأعت الحالة وتفاعلت معه :طب ماتضايقش نفسك
يامنصور ولو فاضى دلوقتى أنا مستنياك ..تعالى ياحبيبى فضفض وكل عقدة ولها حالل .
بعد ربع ساعة ..قطبت نوسة وجهها فى أستفهام حين أستقبلت منصور عند باب الشقة :مخنوق بجد
وال أشتغالة ؟ مط شفتيه ودخل :وحياة أمك الحكاية مش ناقصة .
جلس على الكنبة وعالمات األرف تمتد من وجهه شبرين ..أنتابها القلق حين لم يلحظ " الجيبة "
الجينز التى تبعد عن ركبتها عدة سنتيمترات ،كما لم تلمح فى عينيه تلك النظرة الفاحصة التى أعتاد أن
يدسها فى كل جزء فيها :مالك فى أيه ؟ سحب سيجارة من علبته وسألها :أمك فين ؟
ــ جوه بتعمل شاى .جلست الى جانبه تنتظر توضيحا .أشعل سيجارته وحكى لها ماألت اليه اموره مع
أمه ..وضع بين يديها تقريرا مفصال عن األنقالب الدرامى التى قادته أمه وأطاح به قبل أن يفرض
سلطته على مقاليد األمور ،منهيا تقريره بذكر بعض األسباب التى أعادته الى زمن الصعلكة وعلى
رأسها " سليم " ذلك الكائن التأمرى الخائن متوعدا أياه بعذاب أليم وأنتقام شديد ..عندما يصل اليه !..
ــ أيه العبط اللى بتقوله ده يامنصور .جملة أعتراضية قادمة من الطرقة إلى الصالة على لسان بدرية
التى ظهرت بصينية الشاى ..شقت طريقها تجر خلفها لحمها حتى أعتلت الكنبة ،فأنزاح لها ملتصقا
بنوسة التى تسلمت منها الصينية :ماحدش بيفكر كده يابنى
539
ــ محروق ياست بدرية ..كل حاجة ضاعت منى بسبب واحد مالوش لزمة أصال فى الدنيا .
ــ ماحدش ضربك على أيدك ..فى حد عاقل يدخل شمام فى زوارقه ..أنت اللى عملت كده فى نفسك ..
أشرب بقى .ضغط بشفتيه على سيجارته ساحبا منها أنفاسا متالحقة كى تشغله عن أحساس الندم
الطافح فى وجهه .ناولته نوسة كوب الشاى كما ناولت أمها واحدا فى اللحظة التى قالت :سيبك من
سليم بتاعك ده وشوف حتعمل أيه ؟ قالتها بتأنيب .
ــ أمى كالمها صح يامنصور شيل الوله ده من دماغك وفكر بالراحة .رددتها بحماسة أنثوية أمام فتور
ذكورى :بصراحة أنا مش قادر أفكر وال عارف حتى حأعمل أيه ..دماغى وقفت خالص .أندهشت
نوسة من ضعفه وعيونها على أمها التى رجعت برأسها للوراء موجهة كالمها الى المستسلم المحصور
بينهما :أسمعنى كويس يامنصور وأفهم اللى حأقوله .أنصت بأهتمام بعد رشفة .تابعت :من يوم
ماشفتك يابنى وأنت عمال تفكر وتخطط وتدبر ..مافيش مرة عملت حاجة وجابت نتيجة صح وفلحت
حتى لما أمك رضت عنك وبدأت تمسكك شغلها كان قضاء وقدر مش ذكاوة منك والشطارة ..نفحة كده
من عند ربنا .أعترض مستنكرا :عايزة تقولى أيه يعنى ؟ .
ــ أنا والبت دى مالناش حد فى الدنيا وقاعدين فى كرموز لحد دلوقتى عشان خاطرك أنت ..يعنى أحنا
الجوز متعلقين فى رقبتك وبقى اللى يضرك يضرنا واللى يفرحك يفرحنا ماعدش لنا حد يامنصور غيرك
بعد ربنا .نظرت اليها نوسة من فوق كتفه بأستغراب :ماتنورينى ياما ..ورا كالمك ده أيه ؟ .
ــ وراه يابت بطنى أن قطمه أحسن من نحته وياصابت ياخابت .
ــ ماتفهمينى أيه اللى فى دماغك ؟ أهتزت فى جلستها كما أهتزت الكنبة :اللى فى دماغى يانور عينى
أنك خدت فرصتك كاملة والنتيجة أهيه باينة التسر عدو والحبيب ولو لسه يامنصور عايز نوسة سيبنى
أنا المرة دى أتصرف ..أنتفض فى كرسيه :تصرفى حتعملى أيه يعنى ؟ .
ــ ماتسألنيش ..سيبنى أنا أمشيها بدماغى ..مش حتخسر يابنى أكتر من اللى خسرته .حشرته
جملتها ف ى زاوية الصمت بينما شعرت نوسة بالحيرة من كالم أمها التى فوجئت به دون أدنى تنسيق
مسبق .زحزحت بدرية نفسها من على الكنبة حتى وقفت أمامه :عندك أعتراض على أنا قلته ؟ نبرتها
كانت أقرب للتهديد ،بينما لم يملك سوى التسليم بوجهة نظرها .ثم زحفت بشبشبها خارجة من الصالة
إلى المطبخ تاركة شعور بالتوهان يموج فى فراغ الصالة قبل أن تبدده نوسه :ماتيجى جنبى هناياأبو
540
حجاج .قام ككهل فى أيامه األخيرة ..مكث بجوارها دون أن ينبس بكلمة واحدة ..ارادت ان تعيد له
النطق ،لفت ذراعها حول كتفه :ماتفك سحنتك دى بقى ..امى خالص حتتصرف .تنهد :ربنا يستر
ــ حيستر .قالتها بدلع وهى تدغدغ كتفه بصدرها ..أنتظرت منه أن يعبث فيها ،إال أنه لم يستطع
تجاوز هواجسه ،فتخلى عن صدرها عندما أرخى كتفيه !!
00000000000
عادت نورا الى البيت ..دخلت بوجه وردى وأبتسامة ثابتة التفارق شفتيها ،وفى رقبتها سلسلة فضة
فى نهايتها حرفان " "S.Nوعلى كتفها " دبدوب " أبيض ..أرتبكت وهى توصد الباب خلفها حين
لمحت حجرة األنتريه مضاءة ،وعلى كنبتها الكبيرة تربعت نعمة بجلبابها األسود المعتاد كضاربى الودع
وعلى يمينها أيات التى عدلت من وضعية رأسها وصوبت بوصلتها ناحية الباب تستطلع الوجه
المبتسم ،بينما قامت إليها بسمة مهرولة ..حبست نورا األبتسامة وشعور بعدم األرتياح يالزمها من
مشهد الثالثى ..قابلتها فى منتصف الصالة تسأل :كنتى فين لحد دلوقتى يانورا وموبايلك مقفول ؟ .
ــ مع شريف .كررته بأستغراب وعدم تصديق ..فى حين مالت أيات برأسها على كتف قرينتها عند
سماعها األسم ،وشيح أبتسامة مائلة بجانب الفم :واللى يخرج مع شريف مش يقول وال يسيب الدنيا
كده سايحة على بعضها .ثم رمتها بنظرة أشعرتها بالحرج قبل أن تزيدها أختها من الشعربيتا :مدام
زيزيت قلبت عليكى الدنيا ..كانت أخر قلق وتوتر وفاضلها همسة وتنزل أسمك فى كشوف المفقودين .
جملتها كان لها أثر أيجابى على نعمة التى أهتز هيكلها العظمى على أثر ضحكة متقطعة التخلو من مكر
العجائز :وهو اللى يخرج مع شريف يبقى مفقود برضه ..ده يبقى مولود وأمه داعياله ..
صدقت نعمة فى مقولتها ..أستردت نورا اليوم وعيها ،كما أستعادت ذاكرة الحب بكل تفاصيلها ..
نشطت على لسانها كلمات كانت تحسبها فى عداد الراحلين ..شريف هو كلمة السر ..على يديه تخلى
عنها التوتر والشد العصبى ..أحتواها اليوم كما أحتوتها الثالث ساعات التى فقدت فيهم األحساس
541
بالزمن وتخلت طواعية عن كل المهام والمسئوليات رافعة شعار " طز " الذى رددته مرتين متناسية
حساب الكلمات واألفعال حين نبهها شريف فى المرة األولى :حتتأخرى على شغل األتيليه ؟ ..طز ! .
ــ طز ! نست معه الرصانة والتكلف كما نسى على يديها فكرة السفر ألمريكا حين أطلقت تهديدها
بصوت عالى دون مراعاة لبروتوكول كافتيريا " ديليت " الهادئة بقلب " سموحة " التى أستضافت
جلستهما ..وعلى مرأى ومسمع من طبقين " بيتزا " كان يفصالن بينهما .قالت بعصبية :ورحمة بابا
ما أنا واكلة والشاربة والحاطة حاجة فى بؤى إال لما تشيل حكاية السفر دى من دماغك .أحمر وجهه
حين أتجهت اليه رؤوس الزبائن ..نظر إليها كما نظر الجميع وهى الزالت على أنفعالها ..وضع كفا
على وجهه وأخذ نفسا عميقا وسط حالة من الترقب شارك فيها كل المتطفلين :ماشى يانورا ..مافيش
سفر .
ــ من غير ماأحلف ..ده أنا لو جالى أوباما بنفسه وقالى أمريكا كلها مستنياك حأقوله أل ..ماأقدرش
أبعد عن نورا .أبتسمت كما أبتسم كل من شاركهم اللحظة ..إلتهما الـ " بيتزا " وخرجا .
أخيرا أسدل الستار عن فترة مشحونة بالتحفظ والتوتر ..دار بها فى منطقة سموحة ودار معهما
الوقت ..أراد أن يلفت أنتباهها :أنتى عارفة الساعة بقت كام دلوقتى ؟.
ــ مش عايزةأعرف .قالتها وهى تتشبث فى ذراعه امام فاترينة لعب أطفال ،وعينيها مشدودة
إلى " دبدوب " أبيض تعلقت به كطفلة بريئة .غادرها العقل الى فوضى مجنونة حين أصرت على
الدخول ..طوق ظهرها بذراعه وقادها للداخل ..عاشت لحظة رومانسية خاصة وهى تداعب الدبدوب
بينما شريف الى جوارها اليملك سوى أبتسامة مندهشة وعينين مسبلتين ..أستفز منظرهما البائعة
" العانس " التى أنهت اجراءات البيع والشراء فى ثوان .خرجا كعصفورين بصحبة ثالث الذى أعتلى
كتفه ا ..فى طريقهما لزيارة محل جيالتى " صابر " بمنطقة األبراهيمية تصادف وجود محل للفضيات
أثار حفيظتها وسحبها ألمنية قديمة حان األن وقت تحقيقها ..دفعته للداخل ولم تجبه :حندخل نعمل أيه
جوه ؟ مكثا لربع ساعة قبل أن يخرجا منه وفى رقبتها السلسلة والحرفين ،بينما شريف أصبعه مطوق
بدبلة محفورعليها أسمها .
542
تحاشت " نورا " نظراتهم التى تخفى وراءها سرا وأتجهت ناحية غرفتها قبل أن تستوقفها بسمة التى
تسير خلفها :من نص ساعة فيه واحد جه هنا وسأل عن ماما وكان عايزها ضرورى .أستدارت
نحوها تحرسها الدهشة :واحد ..واحد مين ؟! .
ــ مش عارفة ..مارضيش يقول على أسمه والعايزها فى أيه ..حاولت كتير معاه أنا ويوسف عشان
نفهم منه أى حاجة مارضاش أبدا .تلفتت مولية وجهها شطر غرفته :يوسف فين ؟ .
ــ خد الراجل ده وراح عند ماما .قالتها ببساطة منقطعة النظير فى حين بدت نورا التى أتسعت عينيها
غير مصدقة ماسمعته فأنقلب هدوءها هياجا :ليه ..راجل غريب وماحدش يعرفه ..بالسذاجة دى
أخوكى يخرج معاه وكمان ياخده لغاية مكان ماما ..أيه الهبل ده .حاولت كبت ماتجمع داخل رأسها
حين نادتها عمتها بصوت اليتناسب مع هيجان اللحظة :الموضوع مش كده يانورا ..مشت إليها عاقدة
وجهها بعالمة استفهام :فهمينى ياعمتى .
ــ أوال اللى جه هنا شاب صغير وباين على مالمحه انه أبن ناس وطريقة كالمه بتقول أنه فى أزمة
ومحتاج يتكلم مع مامتك .أنتزعت من سخطها أبتسامة :تفرق أيه يعنى صغير والكبير ..ماكانش ينفع
يوسف يخرج معاه ..أحنا عارفين ده مين وال وراه أيه ؟! .
ــ أحنا أتصلنا بيكى كتير يانورا عشان نسألك ..موبايلك مقفول وبعدين يوسف ماتصرفش من دماغه
غير لما أتصل بهدى وخلى الشاب ده يكلمها .قاطعتها بلهفة :وهى عرفته ؟ تولت بسمة األجابة :
ماعرفتهوش بس هو ياعينى أتحايل عليها كتير وبقى يقولها أرجوكى أنا عايز أقابلك ضرورى فيه
موضوع مهم جدا ويخصك .بهت اللون الوردى كأنما جفت الدماء فى بشرتها ..أنتظرت للحظات قبل
أن تسأل :وماما ماجتش تقابله هنا ليه وسطينا ؟ .
ــ ده اللى كان حيحصل ووافقت وقالتله قدامى ساعة وأكون عندك .سكتت ثم عادت ترفع كتفيها
بأستغراب :ماعرفش أيه اللى حصل رجعت فى كالمها ..تقريبا الست اللى أسمها فايزة أقنعتها تبقى
المقابلة عندها .
543
ــ ماما سابته على التليفون بتاع دقيقتين تالتة ..أكيد أتشاورت معاها .أجابة مختصرة .لم تكن كافية
لسد باب األستجوابات ! تغلغل فيها الشك ..مضت مالمح السعادة التى دخلت بها إلى حال سبيلها ..
سكنها القلق وشغلها التفكير ..مارست عادتها العفوية حين قطعت الصالة ذهابا وايابا عدة مرات قبل
أن تتوقف أمامهم تطرح على نفسها سؤاال بصوت مسموع :مين الراجل ده ..ويعرف ماما منين أصال
وهى بقالها سنين مش موجودة ؟ .
ــ مش يمكن يكون واحد من قرايبها اللى فى طنطا .كان أحتماال رددته نعمة بنفس مقطوع قبل أن
تستبعده أيات بنبرة حاسمة :قرايبها أيه وطنطة أيه أنتى كمان ..هدى طول عمرها مقطوعة من شجرة
من ساعة ماعمتها ومامتها ماتوفوا .
لم تشأ نورا أن تقحم نفسها فى جدل عقيم ..مدت يدها داخل حقيبتها وسحبت الموبايل .داهمها سيل
من الرسائل بمجرد أن فتحته ...مكالمات الحصر لها من زيزيت ومن يوسف وبسمة وأيات ،كلها
أنطلقت فى وجهها ..أستندت على سور الكنبة حين أجرت أتصاال وسط رقابة مشددة من الثالثى
المتأهب لقنص أى شاردة أو واردة ..بدت متوترة وهى تنصت لرنين موبايل يوسف الذى تأخر فى الرد
قبل أن تباغته بفزع :أنت فين يايوسف ؟ .
ــ طب ماتسأله ياأخى .قالتها بعصبية وأستغراب .اال أنه بدا متحفظا فى ردوده حيث المسافة بينه
وبين الرجل التسمح بالتوضيح :ع العموم أحنا قربنا خالص على البيت ودقايق وحنفهم كل حاجة ..
هدأت نبرتها وأستسلمت :ماشى يايوسف بس خلينى معاك فى الصورة أول ماتفهم الحكاية ..سالم .
شردت ببصرها ..بدت ساهمة حين مالت برأسها على رأس الـ " دبدوب " الذى لم يبرح كتفها ..
تنتزعها األسئلة من حضن اللحظة السعيدة التى نالتها اليوم على يد شريف .قامت ببطء ومرت أمامهم
قبل أن تمتد لها يد نعمة التى جذبتها من طرف التيشرت :هاتى ياختى اللى أنتى شاياله على قلبك ده .
التفتت اليها بدهشة وكأنما فؤجئت بوجوده على كتفها ..شعرت بالخجل ثم ناولته لنعمة التى تسلمته
544
منها بحرص مبالغ فيه كأنه طفل رضيع :بسم اللـه الرحمن الرحيم ..ياختى جميلة ياختى ! مشهد
أستفز أيات التى رفعت حاجبيها :أنتى خيبتى يانعمه ..هى ناولتك أبنها وال أيه؟!
بوجه مكتوم كرغيف مدعم ،ورأس يكاد ينفجر ،أنضمت نورا للثالثى منشغلة بالبحث فى قضية
الضيف المجهول الذى جاء فجأة ورحل فجأة بصحبة أخوها دون أبداء أسباب ..الوساوس تكاد تذبحها.
00000000000000
فى تلك األثناء كانت هدى تهب بصدرها من سور الشرفة المطلة على حارة " المنجى " تزاحمها فايزة
برأسها ،تتابعان بلهفة وصول السيارة الـ " " 128التى تحمل فى بطنها يوسف والضيف المجهول ..
تسللت بنظراتها من خالل بيوت الحارة الضيقة التى حجبت الرؤية عن القادم من أول الناصية ..
أنتفضت فى وقفتها وباعدت حبال الغسيل التى تزاولها حين لمحت جانب من السيارة التى تهادت ببطء
قبل أن تقف بجوار المنزل ..هبطا األثنان ..تعرفت على يوسف من ظهره بينما لم تتعرف على
األخر ..ترجال حتى أجتازا المدخل ..تسربت هدى للداخل وفى ذيلها فايزة كظلها ..فتحت باب الشقة
وانتظرت على رأس السلم ..بدت غير مستقرة فى وقفتها ..أجتاحها التوتر كلما أقترب صوت أقدامهما
ظهر لها رأس يوسف مع دوران السلم ..لحظات قليلة وكان يفصله عنها ست درجات ..رفع لها عينيه
قبل درجتين بينما نظراتها تجاوزته الى الطالع خلفه ،ذلك الكائن الذى يعب نفسه فى جلباب أبيض من
فوق سروال من نفس اللون ،يحمل سحنة تنسبه لألخوان أو ربما للسلفيين .فى مقدمة رأسه صلعة
خفيفة زادت لمعانا تحت أضاءة السلم ،كما منحته لحيته الكثيفة شيئا من الجدية .وصل يوسف
فأستقبلته أمه بقبلتين سريعتين ومالمح ملخومة فى الذى يهتف خلفه :السالم عليكو ورحمة اللـه .
ــ وعليكو السالم .قالتها بنبرة أكلتها الحيرة عندما عاينت مالمحه .لم يصافحها ودخل كما يقول
الشرع فى حين سبقه يوسف الى الصالة بصحبة فايزة .أوصدت هدى الباب خلفها تقودها نظرات
545
فضولية اليه ..جلس الجميع فى توقيت واحد بينما أنسحب الضيف بنظراته لالرض مبتسما كأنما يعد
نفسه لبداية مقبولة ..لم تصبر عليه فايزة :أهال وسهال ..خير ياأستاذ ؟ .
ــ أهال بيكى ياست .قالها وعينيه فى األرض قبل أن يقرر رفعهما فى وجه هدى :حضرتك طبعا مش
عارفانى ؟ ضاقت عبينيها تدقق فى وجهه وقد أبتلعتها أحاسيس طارئة من الوجوم والحيرة :مش
واخدة بالى واللـه .أهتزت لحيته حين نطق :أنا شهاب ..بهتت للحظات ،فقدت خاللها بوصلة
التفكير :شهاب مين ؟ مال بصدره لألمام :شهاب نسيم الشرقاوى .كانت لحظة كأنها ساعة أو يوم ،
لكنها لحظة مشحونة بمئات األنفعاالت المتناقضة .أعتقل لسانها ثقل .لم تستطع النطق ،حاولت ،
فشلت .أرتعدت كل خالياها ودارت فى رأسها الظنون .كان حوارا صامتا يدور بينها وبينه .تحققت
فيه بعينيها المندهشة ،كان يحمل الكثير من مالمح والده بعيونه وذقنه المدببة .أرتجت أعضاء يوسف
على كرسيه حين سمع األسم فى حين أخذت مالمح فايزة وضعية األستعداد لصد أى هجوم محتمل ..
هبطت عليها عدوانية وشراسة تنتظر ضغطة زر ! .
هدى علت الدهشة وجهها ..كانت دهشة ممزوجة بالتوجس ،تملكها شعورا بأن شيئا ما سيحدث
ويستوجب الحذر .صمت شهاب يراقب األرتباك بعد أن كشف عن هويته وكأنه يستعيد ذكرى شيىء
هام .بدا قلقا كما لو كان يريد أن يفعل شيئا .لم يكن من السهل أستمرار الصمت الذى قطعته هدى
بخوف :أى خدمة ؟ .
ــ لما شفت حضرتك دلوقتى بدأت الذاكرة تسعفنى ..زرتينا كذا مرة مع زوجك اللـه يرحمه ..عمو
نديم ..بابا اللـه يرحمه كان بيحبه أوى .أحست من نظرته أنه يريد أن يستحضر الماضى ..
حتما سيصرخ فى وجهها ..سيهاجمها ويقذف بكلمات كالحجارة ..أحست بعينيه فوهات بنادق مسددة
إلى رأسها .تابع حديثه محاوال لملمة كلماته :حضرتك طبعا بتسألى نفسك أيه سبب الزيارة دى ؟
حاول يوسف أظهار خشونة لردع أى عدوان يداعب رأس الضيف :أكيد طبعا فيه سبب وسبب مهم
كمان اللى يخليك تظهر فجأة وتبقى مصر على مقابلة والدتى ..يبقى أكيد فى حاجة ؟! قالها وأراد أن
يصدر للمستمع أحساسا ،بأن أى فعل أحمق سيتم التصدى له بحسم .
ــ كالمك صح .ألقت عليه هدى نظرة فاحصة وسريعة ..حاولت أن تخمن مايدور فى رأسه :أسمع
يابنى ..لو جاى تقلب الماضى وتنكش فيه فنصيحتى لك أنساه وشيله من دماغك عشان أحنا كلنا دفعنا
فيه تمن غالى .رددتها بقوة دفاعا عن نفسها وبشحنة هائلة من مشاعر القوة والضعف وهى تنظر إليه
546
كأنما تدعوه لعدم الخوض فى تفاصيل الماضى الصعب .تأملها وهو الزال على طبيعته المتخشبة :
بصراحة أنا جاى أتكلم فى الماضى ..سكت كى يبتلع ريقه ثم دار بنظراته فى الوجوه المتحفزة .تابع
بهدوء :بس مش عشان أنكش فيه وال أقلب المواجع ..أنا جاى عشان أدفنه خالص وأريح ضميرى ؟!
حاولت أن تستشف مايقصده :وأيه المطلوب منى ؟ لم تكن عيناه منتبهتين .ظنته يفكر .كررت
سؤالها :مطلوب منى أيه بالظبط ؟ طرحت السؤال وكادت تفقد أعصابها .بينما ظل هادئا .رتب بعض
العبارات وتدافع صوته :مافيش حاجة مطلوبة منك ..المطلوب منى انا .بدات الوساوس تداعب صدر
فايزة ،فلم تكن تنصت إلى لغته الهادئة بقدر ماكانت تفكر فى الخطوة القادمة وقت اللزوم .أستغرب
يوسف كالمه :أنا لغاية دلوقتى مش فاهم أنت عايز أيه بالظبط ؟ .
ــ حنعوز منك أيه أن شاء اللـه .قالها يوسف متذمرا ..أجاب شهاب وهويخفى المرارة داخله :المرحوم
نديم له حق عند بابا اللـه يرحمه وأنا عارف أن حضرتك ماخدتيش منه والجنيه واحد ..أمى اللـه
يرحمها فهمتنى كل حاجة..وأنا النهاردة جاى عشان أبرىء ذمتى قدام ربنا وقدامكم وأرجعلكم كل فلوس
المرحوم ..ماقدرش أقبل جنيه واحد حرام !! .
عالمات األندهاش واألستغراب تسرح كالعدوى فى الوجوه التى تتابع بقية كالمه بعيون مفتوحة وأفواه
فاغرة ،وكأن على رأسهم الطير :ماتستغربوش ..عمر الفلوس ماريحت حد والسعدت حد إال بأمر
اللـه ..ال تمد فى أعمار الناس والبتشفع لهم فى يوم الينفع فيه مال وال بنون ..أبويا مات وكان عنده
فلوس تسد عين الشمس ..الحمته والدافعت عنه لما جه قضاء اللـه ..أمى كمان دخل السرطان
جسمها وماطلعش منها إال مع روحها ..الفلوس ماخففتهاش والحتى رحمتها من األلم اللى ماكانش
بيفارقها لحظة ..الفلوس ربنا بيبعتها عشان تبقى وسيلة تقربنا للخير .أشتعلت مالمح يوسف بالفرحة
حين سمع أقواله ..لم يجد أفضل من تلك الجملة :اللـه يفتح عليك ياشهاب .قالها برعشة .بينما
أغمضت فايزة عينيها وجرى الكالم على لسانها :سبحان اللـه ..سبحان اللـه ..صحيح يخلق من
ضهر الفاسد عالم .سمعها وأشاح بعينيه مستنكرا ..فى حين ماتت الكلمات فوق لسان هدى قبل
ميالدها ..جف حلقها ثم أنسالت دموعها حتى بللت شفتيها قبل أن تزيحها بأناملها المهتزة .عاشت
لحظات بين مايجرى ،حولها ،دون أن تملك ذلك الوعى لتفسير األشياء .عاود تفجير مفاجأته حين
أخرج من جيب جلبابه ورقة صغيرة ..نظر فيها ثم نظر لها :حضرتك لكى عندى تالتة مليون
547
وسبعماية وتمانين ألف جنيه ..دول حقك وحق والدك .توقفت ساهمة عند جملة " حقك وحق والدك"
شعرت وكأن ماحدث لها خطأ عابر لم يدمر شيئا فى حياتها أو فى نفسها .نطقه المتأنى لقيمة الرقم
أصاب يوسف بالدوار ..ترنح فى كرسيه وطالت حاجبيه رعشة كان لها صدى على شفتيه التى خرج
من بينهما الكالم متقطعا :أنت فعال بتتكلم جد ؟! .
ــ متهيألى يعنى مافيش حد أجبرنى أجى لغاية هنا وأقول الكالم ده ..أنا مش جاى لحد هنا ياأستاذ
يوسف عشان أوزع صدقات ..ده حقكم والزم تاخدوه .قالها زاهدا وأنصت لفايزة التى فجرت فيها
اللحظة حماسة مفاجئة :واللـه يابنى أنت تتوزن بالدهب ..أنت الولد الصالح اللى دعاؤه مقبول عند
ربنا ..ياريت كان أبنى ربعك .أخجلته الكلمات :ربنا يكرمك ياحاجة ..ثم ألتفت لهدى :تحبى تستلمى
فلوس المرحوم أزاى ؟ نظرت فى عينيه طويال قبل أن تتماسك :مش عارفة ؟
ــ يعنى حضرتك عايزانى أجيبهم هنا والعندك حساب فى البنك .طرح أختياراته وأنتظر ردا لم يحصل
عليه ال من هدى وال من يوسف المصدومان .فتطوعت فايزة :أنت عارف يابنى اليومين دول مافيش
أمان فى البلد ..بكره من النجمة حنفتح لها حساب فى بنك أسكندرية .
ــ صح ياطنط .قالها يوسف حين أسترد وعيه وسط غياب تام لهدى التى ظلت تردد بعفوية :اللـه
يرحمك يانديم .
حاول شهاب جذبها بعيدا عن سيرة الماضى :اللـه يرحم الجميع ويسامحهم ..المهم عندى أن كل حاجة
تخلص بكرة عشان أنا مسافر بعد بكرة .سرحت بفكرها بعيدا حين سألته :هوأنت دلوقتى ماسك
تجارة والدك ؟ .
ــ ده مش سفر شغل ..ثم ألتفت ليوسف بوجه مبتسم :عقبالك يايوسف .ألتقطت فايزة نهاية الجملة
رافعة كفيها ناحية السقف :ونبى يارب أوعدنا وأكتبهالنا ..ثم مسحت بكفيها وجهها ونزلت بهما على
صدرها فى لقطة ايمانية أستحسنها الضيف الذى توجهت اليه :ياريت تبقى تدعيلنا ياشيخ
وأنت بتحسس بايدك على الكعبة الشريفة .نبرة ثلجية :ياست أنا مش رايح السعودية ..أنا رايح
سوريا .طبعت الصدمة بصماتها فوق وجهها :سورية أيه يابنى ..دى الحرب دايرة هناك ومقطعين
بعض ؟! .
548
ــ عشان كده أنا رايح أنضم الخواتى المجاهدين ضد الطاغوت والرافضة .قالها وجسده كله ينتفض ..
بينما السؤال الحائر فى عينيها :هى مين يابنى اللى رافضة ؟! تدخل يوسف محاوال أنهاء الموقف :
ياست فايزة الرافضة يعنى الشيعة .
لم تلحظ هدى أثرا للماضى فى حديثه بينما ـ هى ـ كان ذهنها مشدودا الى الماضى ..كان صورة مناقضة
لصورة والده .منذ ثالث سنوات بدأت الفجوات تبرز فى أنحاء نفسه ،تعلقت حياة شهاب بوجود أمه
التى رحلت منذ ذلك التاريخ .شعر بكيانه يتداعى متالشيا مع كل ماكان يربطه بالحياة ،والناس ،
واألشياء ..وكلما أستعاد رغباته ليعود من جديد ،أشفق على نفسه من التجربة بعد أن أحس بأستحالة
الحياة مع األحياء .نسى طقوس أيامه ،وقرراألستكانة داخل ذاته .أستعذب األلم بعد أعتياده .ظل
وحيدا لفترة لم يقدر على أحصائها .قررفجأة الركض داخل دائرة الدين من خالل زاوية صغيرة على
أطراف منطقة " كوم الدكة " بعد أن فك له شيخ الزاوية الكثير من الرموز التى جعلته مغيبا عن واقعه
هائما فى ملكوت التشدد تظلله فتوى الجهاد ورفع راية األسالم التى دائما ما يتطلب رفعها رفع أسم
صاحبها من سجالت الدنيا !! .
عدل شهاب من وضعية جلبابه حين وقف مشددا على هدى كأنما يخلى مسئوليته :بكرة ان شاء اللـه
عند بنك أسكندرية الساعة عشرة .
ــ ان شاء اللـه ياشهاب .رددت أسمه وهى تشعر فى قرارة نفسها أنها مذنبة ،على يدها أصبح يتيم
األب منذ طفولته .مشت بجواره حتى باب الشقة ،همست بصوت خافت دون أن تنظر اليه :ماكانش
قصدى يابنى أحرمك من أبوك ..سامحنى .تحركت عضالت األلم فوق وجهه حين نظر لها طويال ..
أبتسامة ساخرة لخصت مايدور فى ذهنه وكأنه يقول لها :لن يتغير الماضى آلنه أصبح ماضيا ،ومن
صنعوه مات منهم من مات ..الماضى لم يعد ملكا لنا ،لقد أنتقلت تبعاته إلى آخرين يصنعون األن
ماضيا آخر .
أستعادت نفسها من خالل نظرته مع آخر كلماته :سامحى أبويا وأدعيله بالرحمة .أعطاها ظهره
مجتازا العتبة قبل أن تنادى فيه :أستنى ياشهاب ..يوسف حيوصلك .لبى األخير النداء مدفوعا بشحنة
شهامة منقطعة النظير مصطحبا مفجر الفرحة الى حيث يشاء .
549
ما أن رحال حتى قفزت هدى للداخل تسبقها فرحة عارمة تضاعفت وتيرتها حين شاركتها فايزة ..فرح
هيستيرى شهدته الصالة ..أرهقهما البكاء والضحك ..لم يكن " شهاب نسيم الشرقاوى " بالنسبة
لهدى سوى طوق النجاة من قبضة حياة خانقة بين ماضيها وحاضرها .زالت عنها كل الكوابيس
والمواجع وتفجرت فى البدن كل طاقة الحياة بكل عنادها وقدرتها على الصمود .
بعد مرور ساعة ..أستوعبت هدى المفاجأة وفكرت فى الخطوة التالية ..تمهلت وهى تسير بعقلها
بمحازاة كل األخطاء التى أرتكبتها ،تبحث عن أفكار جديدة حين سألتها فايزة :بعد ماحتوزعى على
والدك نصيبهم حتعملى أيه فى نصيبك ؟ .
ــ حنفكر سوا يافايزة أيه الصح اللى ممكن نعمله .
00000000000000
فى شقة هدى بدت األجواء ضبابية مشحونة بالوجوم والحذر ..األنباء األولية التى وصلتهم عن هوية
الضيف وماينوى فعله ،أصاب الجميع بصدمة عنيفة أفقدتهم الهدوء ..كان ذلك فوق أحتمالهم .
تسارعت نبضات الفرح حين أـدلى يوسف بأقواله أمام لفيف ضم كل من نورا وبسمة وأيات فى وجود
نعمة بصفة مراقب ..حدقوا فيه بذهول ..لم ينبس أى منهم بكلمة واحدة ..حاولوا أن يستوعبوا األمر
بال نقاش مكتفيين باألنصات ليوسف الذى أهتز مع كل قسم :واللـه العظيم هو ده اللى حصل بالتفصيل
وأنا عن نفسى مصدق كل كلمة قالها شهاب ده ..وع العموم كلها كام ساعة والحقيقة حتبان .بعد
لحظات من الشرود ومراجعة بنود الحكاية الغريبة ؟ ،حاولت نورا فتح تحقيقا متواضعا لفهم الدوافع
والمالبسات :أشمعنى يعنى ماظهرش شهاب ده غير النهاردة .يعنى مثال ضميره صحى فجأة ؟ لم تتلق
أى أجابات .كل ماتحصلت عليه نظرات زائغة .فعادت تسـأل :حد يصدق أن فيه بنى أدم فى الدنيا دى
يرجع فلوس لواحدة قتلت أبوه ؟! طرحت سؤالها األخير ثم رفعت رأسها تحدق فى السقف الذى شعرت
به ينخفض فوق رأسها ..تنهدت طاردة كل أنفاسها وبها رغبة واحدة تحتل عينيها :فى حد فيكو يقدر
يريحنى ويجاوبنى ؟ لم تسعفهم فراستهم فى تبين موقع الخلل فى نسيج الحكاية ..أجتاحهم الوجوم ،
فأكتفت بتعليق حائر :مش عارفة ..حاسة كده أن فيه حاجة غامضة فى الموضوع ده ..الحكاية كلها
من أولها ألخرها ماتدخلش دماغ عيل صغير .دفعت بسمة أيضا فى نفس األتجاه :أنا معاكى يانورا ..
550
مافيش حد عاقل فى الزمن ده بيرجع ماليين لحد اال اذا كان مجنون أو ..مش عارفة !! تصاعدت
التنهيدات وبدت نظراتهم عشوائية ..تقمص كل منهم دور المفتش " كولومبو " فى محاولة حثيثة لفك
رموز اللغز .أستهجنت نعمة الجالسة على أرض األنتريه حالة التشكك التى ضربت فرحتهم مبدية
نشاطا أستثنائيا :هو أنتو متحرم عليكو تفرحو ..حرام يعنى حقكم يرجعلكم ..ده ربنا أسمه الحق
ياوالد ودى حكمته أن الجدع ده يظهر دلوقتى ..ماتعترضوش بقى وتفضلو تعيدوا وتزيدوا ..سلموها
للـ ه وصلو ع النبى كده وكل واحد فيكو يقوم يتوضا ويصلى ركعتين شكر هلل .كلماتها البسيطة أراحت
النفوس الحائرة .أنفعل معها يوسف الذى حاول أبعاد جو الظنون والمؤامرات بذكر بعض المعلومات :
لو شهاب ده وراه حاجة غامضة ماكانش عطانى نمرته والخالنى أوصله لغاية بيته فى جليم .ده أنا
بعينيه دول شفت البواب وهو جاى عليه وبيقوله السالم عليكو ياشيخ شهاب .أستمعوا له دون مقاطعة
فى محاولة منهم لخلق توازن بين الممكن والمستحيل ،كى يتقبلوا ذلك العرض المنافى لسلوكيات هذا
الزمن !
لم تهدأ التنبؤات حين تفرقوا لغرفهم فى ساعة متأخرة ..بالرغم من الشكوك والتخمينات اال أن طائفة
من األرقام مألت رؤوسهم ،أنفجرت فى العقول عمليات حسابية مكثفة مابين طرح وقسمة ،الكل
يحسب حسبته فى حدود األية الشريفة " وللذكر مثل حظ األنثيين " .
عند التاسعة والنصف وعلى بعد أمتار من مدخل بنك األسكندرية بشارع صالح سالم كان النونو قد أنهى
سيجارته الثالثة وهومحبوس داخل التاكسى المتوقف من نصف ساعة على ناصية شارع يطل على
واجهة البنك ..بينما هدى وفايزة فى المقعد الخلفى تراقبان من خالل الشباك وصول شهاب .
ــ أنتى متأكدة يامعلمة أنه البس جالبية وبدقن .قالها وعيناه معلقتان على الطريق .
551
مرت الدقائق على هدى بطيئة وقاسية ..ألتهبت رأسها من كثرة التخمينات ..جف حلقها من تالوة
قصار السور ،فى حين لم ينقطع لسان فايزة عن ذكر دعاء عودة الغائب :ربنا يسوقك ياشهاب
ياأبن ..ألتفتت اليها تسأل :طبعا ماتعرفيش أسم أمه ..لم تنصت لها وأستمرت فى التمتمة والهمهمة
وسط فضول اليهدأ من النونو الذى يتلصص عليهما من خالل المرأة ..يكاد ينفجر ..أستنفذ كل
محاوالته لفهم مايدور حوله قبل أن تردعه فايزة مع كل محاولة .
لم يكن التوتر قاصرا على الموجودين داخل التاكسى ،بل أمتد الى يوسف المرابض داخل السيارة الـ :
" "128التى شغلت موقعا متقدما أمام البنك مباشرة ..لم ينقطع األتصال عن تليفونه منذ لحظة خروجه
من البيت تاركا خلفه غرفة عمليات مشتركة تترأسها نورا التى تتابعه لحظة بلحظة ..الجميع أستيقظ
مبكرا ،أو ربما لم يناموا أصال ..الكل يحبس أنفاسه ..الجميع على أطراف أصابعه .
مرت العاشرة من حوالى عشر دقائق تزامنا مع انتفاضة هدى على رنين موبايلها :أيوه يايوسف ..
قالتها بلهفة قبل أن يأكلها األحباط حين سألها :وبعدين ياماما ..الساعة بقت عشرة وعشرة ..أنتى
شايفة أية ؟ .
ــ أتصلت بيه ست مرات لغاية دلوقتى ..جرس وماحدش بيرد .لم تعلق وتنهدت ..أغلق الخط ..دعكت
عينيها ثم ألتفتت بنبرة يائسة :تفتكرى حييجى يافايزة ؟هربت من السؤال الصعب دون أن تنظر إليها :
ربنا يسهل ..أدينا مستنيين .
ــ الغايب حجته معاه ..ماتقلقوش .جملة أراد بها النونو جرهما لحديث قبل أن تصرخ فيه فايزة :خليك
فى حالك ياخويا ..مش ناقصاك .نفذ األمر وأشعل السيجارة السابعة .
غرقت هدى داخل احزانها محتجة على مايحدث حولها ..شعرت بأنها أصبحت لعبة فى يد آثمة ..حرب
جديدة من نوع جديد تشن عليها ..حرب تصيب والتقتل ..عدتها وعتادها األمل الكاذب والفرحة
المزيفة ووهم األنتصار ! .
بعد خمس دقائق تلقى يوسف اتصاال مقتضبا من شهاب الذى ابلغه أنه على أسفلت شارع " فؤاد "
متجها لشارع صالح سالم منهيا المكالمة :أسف جدا على التأخير ..رفع بعدها يوسف رأسه ألعلى
552
ملتقطا أنفاسه كأنما نجا من موت محقق وظل يردد :أشهد أن ال اله اال اللـه ..قالها ثالثا ثم أجرى
مكالمتين فى غضون ثالثين ثانية بأمه ونورا ،طمأنهما وصوته يكاد يبكى ..عادت الحياة مرة أخرى
لآلبدان التى كادت أن تفقد األمل ..الزالت لعبة القدر لم تنتهى .
من موقعه ظل يوسف يراقب الطريق قبل أن تنتفض حواسه وتتهيأ نظراته ألستقبال شيىء ما ،لمح
من المرأة الجانبية سيارة " شيروكى " سوداء تنحاز لليمين ،أبطأ قائدها وهو يتهادى فى حذا
السيارات الواقفة ..أنفرجت أساريره حين توقفت السيارة بجواره على خط واحد ..أنفتح زجاج الشباك
أتوماتيكيا ،لتظهر صلعة شهاب مشيرا ليوسف الذى أبتسم له وهز رأسه فى تحية صامتة ..تحرك
بعدها ببطء يتبع سيارته ولسانه يكرر :ياماأنت كريم يارب ..توقف خلفه بعدما قطع الشارع عرضيا ثم
هبطا تباعا فى اللحظة التى تعالت فيها صرخات النونو الذى يلعب دور " الناضورجى " آهوه
يامعلمة ..واحد بدقن وجالبية .دارت عينيها بدعم من هدى التى لمحت شهاب يترجل بحقيبة سوداء
يتبعه يوسف الذى يتلفت خلفه بحثا عن أمه التى تحرك بها النونو قاطعا المسافة فى سرعة البرق حتى
بلغهما وتوقف .هبطت فايزة تلتها هدى التىأستقبلها شهاب بوجه بشوش قبل أن يدنو منها يوسف
معلقا ذراعه فى ذراعها ..تحرك الرباعى يتصدرهم شهاب بحقيبته التى التنسجم مع جلبابه القصير
الذى جرح وقار البنك حين اجتاز المدخل ومن خلفه الباقين يتأملون المكان ..أستقبلتهم البوابة
اآللكترونية التى مروا منها قبل أن يستوقفه موظف االستعالمات :سحب وال ايداع ؟
ــ ايداع ان شاء اللـه ..أبتسم ومرر له ورقةصغيرةعليها رقم " " 11وهو ترتيبه بين المودعين ،فى
حين أستفسر يوسف حين انزاح شهاب :واللى عايز يفتح حساب حضرتك ؟ .
ــ تالت شباك على يمينك .عاجلته فايزة حين تشكك فيها :أنا معاهم ! .
دخلوملتفين حول بعضهم ..أبتلعهم زحام البنك ..حرص يوسف على أن يكون شهاب تحت السيطرة
والحصار ..الزمه كتف بكتف كأنما يخشى هروبه .الدقائق تمر والكل يبحث عن نهاية سعيدة وسريعة
لمشهد انفعالى أصاب األعصاب بالتلف منذ األمس .
بدت هدى كالعصفورة تطير بين شبابيك البنك قبل ان تحط امام كل موظف لبضع دقائق وإلى جوارها
يوسف كمتحدث رسمى نيابة عنها ومن خلفهما فايزة كعنصر تأمين تحوط شهاب الذى أنتظر أشارة من
553
يوسف أتته بعد عشر دقائق وتعنى " تقدم " ..أطاع األمرودخل من بينهما حين انزاحا ..رفع الحقيبة
على الـ " كونتر " ثم فتحها على مصراعيها وبدأ فى أخراج " الرزم " تباعا حتى اصطفت الماليين
صفوفا صغيرة ،يشد منها موظف االيداع الواحدة تلو االخرى ويسوقها الى ماكينة العد التى لم تألوا
جهدا فى أثبات قيمة المبلغ " ثالثة ماليين وسبعمائة وثمانون الف جنيه " ..تمام ..مظبوط .قالها
الموظف وتغنت بها القلوب ..كلمتان شافيتان للصدور .
أختلف مشهد الخروج عنه فى الدخول ..وجوه المعة بالفرحة وأبتسامات التنقطع ،وشعور مفعم
بالنجاح ونظرة متحدية سددتها هدى للنهار الذى باغتها حين خرجت من باب البنك الكبير ..رافقها ذلك
الشعور بأنها اليوم أستعادت كرامتها المهدرة ..وسام التضحية من الطبقة االولى نالته اليوم على يد
الزمن الذى لم يخذلها كعادته ..تعويض مناسب فى الوقت المناسب جادت به األقدار .
أنحرف شهاب بعيدا عنهم بضع أمتار بعد أن كسر الحصار المضروب حوله منذ لحظة وصوله ..لمحته
هدى بنظرة ركنية وهو يتجه لسيارته .نادته ثم هرولت إليه حين ألتفت ..أنتظرها وهو يطرف عينيه
التى تغزوها الشمس ..تحررت من كل الضغوط والمخاوف حين وقفت أمامه :كتر خيرك ياشهاب ..
اللى أنت عملته النهاردة صعب أوى حد يعمله فى الزمن ده .
ــ الحمد للـ ه أنا وفيت الدين اللى فى رقبتى قدام ربنا وقدامك .تأملته طويال ولم تنطق ..شعر بالقلق
من نظرتها :ناقص حاجة تانية أقدر أعملها ؟! ضاقت عينيها ثم سحبته من رسغه ومشت به خطوات
حتى انتحت به خلف كشك الحراسة المجاور للبنك وسط اندهاشه واستغراب فايزة ويوسف اللذان
يتابعان مايحدث عن كثب :يعلم ربنا انى من ساعة ماشفتك امبارح وقلبى أتفتحلك ..عارفة أد أيه
األنسان بيعانى فى الدنيا لما فجأة بيالقى نفسه لوحده ..مافيش أب وال أم وال حتى عزوة ..أحساس
فظيع أنا جربته وعشته كتير ..مش حأقدر أقولك أعتبرنى زى والدتك عشان عارفة أنها حتكون صعبة
عليك ..مع أنى واللـه بأعتبرك زى يوسف وده اللى حيخلينى أتجرأ وأحشر نفسى فى ظروفك وأسألك
سؤال واحد .أنصت متوجسا .فأستأنفت :تفتكر لو كان والدك ووالدتك موجودين كانوا حيسمحولك
بحكاية السفر لسوريا .سألته وأنتظرت ردا :أكيد أل .قالها بصوت خجول .
ــ مش حأقولك اللى أنت ناوى عليه ده صح وال غلط بس اللى أقدر أقوله ..خليك راجل وماتهربش ..
بلدك أولى بيك جاهد هنا ..هو مش ربنا قال الجهاد بالمال والنفس ..طب انت ربنا رزقك بالمال جاهد
بيه كبره وزوده وأصرفه فى الخير ..ساعد بيه الغالبة أفتح لهم شغل وخليهم يرزقوا عشان ياكلوا
554
ويشربوا ويدعولك ويدعو البوك والمك وساعتها جهادك حيبقى له فايدة وكمان حتبقى أحسن صدقة
جارية عملتها ألهلك تنفعهم فى أخرتهم ..حملت مالمحه تضاريس غريبة لم تستطع قراءتها ..بنظرات
غير مستقرة صدرت عنه تنهيدة .فبادرته :خليك فى المضمون يابنى ! ثم ربتت على صدره قبل أن
تجذبه من كتفه حتى طالته ثم قبلته من خديه وهو الزال على وقفته مذهوال ! .
أقتربت منها فايزة حين تركته :فى أيه تانى ياهدى ؟ .
ــ فاتتنى دى ياماما ..قالها يوسف وهو يضغط على يدها :ياله بينا عشان أوصلك ع البيت .
ــ أل مش حينفع دلوقتى .جملة تدخلت بها فايزة أثارت حنقه فأشاح بوجهه معترضا :خالص ياماما
كل حاجة انتهت وربنا كرمنا من وسع .جاهدت معه حتى أقتنع بوجهة نظرها :فيه كام حاجة
حأخلصها مع فايزة وبالليل حأكون عندكو عشان نحط النقط على الحروف وكل واحد فيكو يعرف حقه .
تعللت بتلك الحجة لكسب الوقت لمراجعة الوضع من كل الزوايا بعدما أنقلب المشهد رأسا على عقب.
احترم رغبتهما ورحل ولم يشأ أفتعال أزمة .غادرهما متجها نحو سيارته يخطو بخطوات تليق بصاحب
مال ،بينما أصطحبت فايزة رفيقتها ناحية التاكسى ..أستقبلهما النونوالذى أستند بمؤخرته على
الرفرف الشمال :حمد للـه على السالمة .
ــ أحنا طالعين من المطار ياروح أمك .أبتسامة سمجة وزعها عليهما قبل أن يدلفوا جميعا إلى الداخل .
أنحشرت هدى فى ركن المقعد وهى تحاول مدارة الفرح الذى انفجر داخلها بأبتسامة ظلت معلقة على
شفتيها ،وفى حوزتها ورقة عليها رقم حساب متخم بالماليين أنشغلت بها وظلت تقلبها بين يديها وتعيد
قراءتها اكثر من مرة فى سرها بنبرات مختلفة وكأنها " عدية ياسين " ..أستهواها شكل الرقم
وضخامته ..لحظة فارقة ،بل لحظة تاريخية ..هى ماتمر به األن ..عليها أن تجتاز المسافة الشاسعة
بين ماكان وماسيكون ؟! .
تحرك النونو بالتاكسى راجعا من نفس الطريق الذى سلكه فى الذهاب ،تقاطيعه األرنبية تكاد تنفصل
عن عظام وجهه حين تمددت من خالل المرأة يتابع المرأتين ..أعيته التخمينات ووصلت به إلى طريق
555
مسدود ..أحتار فى وجه هدى الذى يتبدل كل فترة ..تضربها الفرحة فيستقر داخله برهانا أكيدا أنها
نالت من البنك مايستحق سعادتها قبل أن تخذله الحقا بمالمح تعصف بها الحيرة ،مثلما هى فيه األن ..
بين لحظة وأخرى تنتظر هدى البت بمصير وعيها ..هل مازالت نائمة فى حلم ؟ كاد يشغلها السؤال قبل
أن تحسمه بعينيها حين جرت بنظراتها لـ " أفا " النونو الذى يدندن مع المطرب" عبد الباسط حمودة "
سألت فايزة حين ألتفتت اليها :أنتى مصدقة كل اللى بيحصل ده ؟ وكأنما تختبر واقعها .ظل السؤال
معلقا حتى أجابت بصوت هامس على غير العادة :أشمعنى يعنى صدقتى أن أقرب الناس لكى باعوكى
وعايروكى وعايزين يخلصو منك بجوازة ..ياحبيبتى صدقى أى حاجة تحصل فى الزمن ده زى ماأنا
صدقت أن أبنى الوحيد كان عايز يخلص منى ويلبسنى جناية ..قالتها وهزت رأسها فى مرارة ثم مالت
برأسها ناحية أذنها وأودعت فيها ماالتريد أن يسمعه النونو :ربنا أنعم عليكى بخيره وعوضك عن اللى
ضاع من عمرك فى السجن .أستغرقتها الكلمات ،غير أنها لم تخرجها من قلب السؤال :أنا صاحية
وال نايمة ؟ قبل أن يستغرقها العبث ويأخذ مداه فيخلط الواقع بالسراب ،ويتداخل فى ذهنها ماكانت عليه
وماأصبحت فيه ..جاءها الجواب برنين موبايلها اللحوح الذى لم تنقطع صرخاته ،أستهلت نورا اول
المكالمات ثم بسمة وأيات وزيزيت ..كلها تنطق بديباجة واحدة تدور فى مساحة ضيقة التزيد عن
التبريكات والتهانى وعبارات كالسيكية قديمة من نوعية :المال الحالل عمره مايضيع أبدا ..الحمد للـه
حقنا رجعلنا لغاية عندنا ..بابا دلوقتى حينام فى قبره مرتاح ..اخيرا بقيتى ياهدى صاحبة الكلمة األولى
واالخيرة فى البيت .مالحظة ابدتها زيزيت قابلتها هدى بوجوم وبنبرة متحفظة تحمل فى طياتها خيبة
أمل من أنسانة تخلت عنها فى أشد اوقاتها ضعفا ..ثم أختتمت نعمة سيل المكالمات معلنة بكل جرأة
عن مطلبها الوحيد :ماتنسنيش فى عمرة ياست هدى .قبل أن تبلغها األخيرة بموافقتها كانت أيات قد
خطفت منها الموبايل وصوت خناقة حامية تدور بينهما ،طالت شظاياها آذان هدى :هو أنتى فيكى حيل
تروحى لغاية المطبخ لما عايزة تطلعى عمرة .بينما صوت نعمة المتشبث بالمطلب :خالص أطلعى
معايا ياست أيات ونتعكز على بعض أنا وأنتى ..لو عندى صحة كنت طلعت من زمان .أستمر الجدال
بينهما لدقائق ولم ينصتا لصوت هدى التى نادت فيهما :خالص يانعمة ..أهدى شوية ياأيات ..عشان
خاطرى ماتزعلهاش وريحيها لغاية ماأجيلها بالليل .
ــ أريحها ازاى ولما تموت هناك يبقى كويس يعنى .
556
ــ ده يبقى كرم من عند ربنا .كانت صرخة أستغاثة من نعمة .أبتسمت هدى وأغلقت الموبايل :األتنين
دول مالهومش حل .ثم تابعت الطريق منوهة :قربنا على كرموز يافايزة .لم تتلق ردا أو تعقيبا
فرمقتها ..وجدتها ساهمة ووجهها يحمل هموما ! ..كانت فى تلك اللحظة تخطو فى منطقة حائرة ..
يالزمها الفكر الذى قبض على مالمحها ..أستقر بها أحباط رهيب وهى تنقب داخلها عن اجابة تصلح
للسؤال الكبير :هدى حتكمل معايا وحنفضل مع بعض والخالص كل حاجة أتغيرت ؟ كل األحتماالت
مفتوحة ..التملك شيئا سوى األنتظار ..انتظار يضعها تحت ضغط عصبى شديد ..عادتا للمنزل بعد أن
القى بهما النونو على ناصية الحارة .مرت ربع ساعة على دخولهما قبل ان يمكثا فى الصالة وأمامهما
كوبان من الشاى بناء على رغبة ملحة من هدى ..رشفات سريعة بايقاع منتظم مصحوبة بنظرات
متأملة ناحية األرض وسط صمت متبادل ،لم تشأ فايزة أن تقطعه تاركة لهدى الوقت الكافى لترتيب
أفكار ها وتدبير أمورها ..راقبت شرودها دون ان تتدخل أو تبدى رأيا ..أول مابدر منها حين أنهت أخر
قطرة فى قاع الكوب :وشك حلو أوى على يافايزة .ضحكة عفوية صدرت عنها لم تكن فى حسبانها :
أول حد فى الدنيا يقولى وشك حلو.
ــ مش وشك وبس ده قلبك وروحك ..أنتى نعمة من نعم ربنا بعتها لى فى الوقت المناسب .تعثرت
مالمحها وأحمر بياض عينيها :ده انتى أختى ياهدى وسندى فى الدنيا .ثم بكت قبل ان تمنعها
االخيرة :مش وقت عياط دلوقتى خالص ..خلينا نفكر حنعمل أيه ؟ رمشت بعينيها تتأكد :نعمل
أيه فى أيه ؟ .
ــ أيه اللى جرالك يافايزة أنتى نسيتى اللى أحنا أتفقنا عليه .تفتحت داخلها كل طاقات األمل :بينى
وبينك أنا قلت فى نفسى أكيد الفلوس حتغير كل حاجة وحتشقلب حالك وحتنسى اللى أتفقنا عليه .هزت
رأسها نافية .لم تترك لنفسها هامشا للتفكير ..أستقرت على نفس الرأى :مافيش حاجة أتغيرت كل
اللى أتفقنا عليه زى ماهوه ..مش حأنكر أن الفلوس جت فى وقتها وحتسهل حاجات كتير وأكيد حتفرق
معايا أوى و مع والدى وحتخلى كل واحد فيهم يفكر فى مستقبله من غير مايحط رقبته تحت رحمة حد ..
قالت جملتها بارتياح فى حين لم تفارق المرارة مالمحها حين تابعت :لكن الفلوس يافايزة عمرها
ماحتغير اللى فى دماغهم وال حتى حتغير نظرة الناس ..حأفضل برضه أمهم اللى دخلت السجن ..
حأفضل طول عمرى عار الزق فيهم يمشى وراهم فى كل حتة ..ال ينفع معاه هروب وال تجمله فلوس .
557
ضاق حاجبيها حين قاطعتها :ايه السواد ده ..الناس لها الظاهر ياهدى ..والفلوس حتخلى لعيالك منظر
وقيمة ..ماحدش دلوقتى فاضى يدور على الماضى ..كله بيجرى ورا مصلحته .
ــ متهيألك ..ساعة الجد الكل بيحسبها من تانى وانا بصراحة ماعنديش أستعداد والدى يتجرحوا تانى
بسببى وال أنا مستعدة أتهان مرة تانية ..أنا اللى يهمنى دلوقتى أن كل واحد فيهم ياخد حقه من غير
مساومة وال أستعطاف ..مش عايزاهم ياخدوا فلوسهم وياخدونى معاها فوق البيعة .مطت شفتيها :
كالمك معقول ..بس تفتكرى والدك مش حيعترضوا على وجودك معايا ؟ واجهتها بشدة قبل أن تكمل :
ما أنا موجودة معاكى بقالى أكتر من شهر ..كانوا عملوا أيه يعنى ..صدعوا دماغى بشوية مكالمات
وزيارة يتيمة وبعدها خالص األمور هديت .صاغت جملة تحذيرية وهى ترخى جفنيها :كل وقت وله
أدان والنهاردة غير أمبارح ..نتى دلوقتى صاحبة مال وهمه كمان بقى تحت أيديهم فلوس يعنى الوضع
أختلف .
ــ بالعكس ..الفلوس اللى رجعت النهاردة خلتنى أقوى من األول مليون مرة ..الفلوس دى معناها أنى
كنت صح وماأتنازلتش عن حق جوزى ...الفلوس دى معناها أنى دخلت السجن مظلومة مش ظالمة ..
النهاردة لما حأقابلهم بالليل حأثبت لهم أنى ست قوية مش ضعيفة ..أنا خرجت من بيتى يافايزة متهانة
ومجروحة وكلهم باعونى ..النهاردة حأرجع لهم وراسى مرفوعة ومعايا حق ابوهم .قالتها بلهجة
متشددة ومالمح تفيض قسوة حين علت نبرتها :مستحيل أعيش تانى فى وسطيهم وأنا شايفة الخوف
فى عينيهم من الناس ..مش عايزة وجودى يقلقهم ويتعبهم أكتر من كده ..مش عايزاهم يحسو أنهم
أقل من أى حد .سكتت تلتقط أنفاسها وفايزة أمامها ال تملك سوى اآلنصات ..أستطردت بعد لحظة
هدوء :خالص أنا قررت أكمل معاكى ..أنا وأنتى شبه بعض يافايزة حنعرف نعيش سوا ..طريقنا
واحد حنمشيه مع بعض من غير مانضايق حد والحد يضايقنا ومن النهاردة حأبقى ضيفة خفيفة على
والدى اليشيلوا همى والهم الناس أنا وأنتى اولى ببعض احنا صحاب سوابق وماحدش عايزنا .
أنتفضت فايزة مستنكرة :وكمان صحاب مال وجوز نسوان زى القمر ..بس أحنا ياختى اللى مش
واخدين بالنا من نفسنا .لم تنل أى تعبير على مقولتها ..بدت هدى هائمة فى عالم أخر ،عالم حدوده
ضيقة إال أنها أجابت بنظرة تعنى " الرحيل ولكن !! " ترجمت المعنى على لسانها :أيه رأيك بعدما
أرجع بالليل من عند والدى نشوفلنا أى مكان نروح فيه ..ناخد كام يوم هدنة نبعد عن وجع الدماغ
ونقعد نفكر بهدوء فى اللى جاى .
558
ــ أنا معاكى ..شوفى عايزة تروحى فين ؟ همهمت وهرشت رأسها :مش عارفة يافايزة .
ــ متهيألى حتبقى زحمة الوقت ده .ثم أطالت النظر فى وجه فايزة الذى شكلته روح المغامرة ..تابعت
وكأنها تذكرت شيئا مهما :أنا نصيبى من الفلوس حيطلع مبلغ محترم وأنتى معلمة أد الدنيا وربنا
موسعها عليكى ..أيه رأيك نطلع شرم الشيخ نعيش لنا يومين زى الهوانم اللى بنسمع عنهم يمكن
ينسونا األيام السودة اللى شفناها .لم تعتقد للحظة أنها عثرت على حل سحرى ،لكن أستقبالهما للحل
أشعل فيهما الحماسة وكأنهما وجدا ضالتهما .
ــ دول بيقولوا على شرم دى أنها حتة من الجنة .قالتها هدى كمعلومة قبل أن تضيف عليها فايزة :
أنتى نسيتى البت توحة مساج وحكاياتها عن شرم وجمال شرم وفلوس شرم .
ــ يخربيت سنينك يافايزة ..هى توحة برضه كانت بتروح شرم عشان تغير جو ؟ .
ــ آه صحيح ..دى كانت بتغير هدومها الوسخة ..ترنحت هدى فى مكانها بفعل ضحكة مباغتة لم
تزرها منذ فترة طويلة قبل أن تبارزها فايزة بصهللة أعادت الحمرة لوجهها ..تدريجيا حشرت هدى
بقية الضحك فى حلقها قبل أن تعود الى جديتها :سيبك بقى من قلة األدب دى وركزى معايا ..ع
المغربية حأروح البيت عندى عشان أحط النقط على الحروف وعشان كل واحد فيهم يعرف أوله من
أخره وبالمرة أجيبلى شوية هدوم وغيارات ..ساعتين تالتة بالكتير وحأكون عندك وبكره من النجمة
نتكل على اللـه نخلع من هنا .طالعتها فايزة بنظرة تنم عن وجود اقتراح :أيه رأيك أنا أجهز الشنط
على ماترجعى ونسافر النهاردة بالليل .
ــ أصل أنا هدفى أن جوز المقاطيع اللى هنا مايحسوش بحاجة ..عايزاهم يتفاجأوا أنى أنا وأنتى مش
وجودين ..عشان يفضلو متلبشين وقلقانين لغاية مانرجع ونظبط األمور .أبدت موافقة ثم لمحت :
يافايزة أنا ميتة من الجوع ..فكرى لنا فى أكلة .
559
ــ أيه رأيك تاكلى ..قطع جرس الباب بقية الجملة .قامت من مكانها تتبادل مع هدى
أشارات األستغراب :مين اللى حييجى دلوقتى .أتجهت ناحية الباب قبل أن تصرخ غاضبة :أصبر ياللى
ع الباب .قالتها بغيظ حين صدر عن الباب رنة ثانية .
فتحت متحفزة ..قطبت حاجبيها ..ماتت النظرة فى عينيها كأنما رأت شبحا .اسدلت جفنيها محاولة
طرد صورة الكائن الواقف أمامها الذى بادرها :مش حتقوليلى أتفضلى ؟ لم تنطق وكأنها أبتلعت
لسانها ..طالت وقفتها وهى تسد بجسدها فراغ الباب .كرر الكائن :دا أنتى صاحبة واجب ومايصحش
تسيبى ضيوفك واقفين كده ع الباب .بعيون منقبضة ونبرة عدائية :أنتى عايزة أيه يامرى؟ حضرت
هدى مع نهاية الجملة ..وقفت خلفها تتخطفها عالمات االستفهام :فى أيه يافايزة ..عايزة منك أيه
الست دى ؟ .
ــ عازها المرض والموت ..دى بدرية كومبارس أس المصايب كلها .
ــ اللـه يسامحك يامعلمة .أنزاحت األخيرة من صدارة الباب على أثر دفعة من كتف هدى :
خير ياست ؟! .
ــ خير أن شاء اللـه ياست الستات ..أنا جاية فى كلمتين حأقولهم وأخلص بيهم ضميرى واللى ربنا
يعمله هو اللى يكون .
ــ تتفضل أزاى ..مش ناقص كمان غير األشكال الوسخة دى .قالتها من خلف كتفى هدى التى رمتها
بنظرة ركنية :عيب يافايزة مايصحش .ثم أفسحت لها مكانا للمرور ..مرت بحذر ثم أسرعت للصالة
بعدما تلقت نظرة حادة أبقتها فى حذا هدى حتى أعتلت الكنبة التى شغلت نصف مساحتها ،بينما الزالت
فايزة تزفها بكل أنواع اآلوصاف قبل أن تردعها هدى :أهمدى شوية واقعدى وشوفى الست حتقول
أيه .لم تحتج وجلست امامها تحاصرها بتكشيرة دبت الرعب فى قلب الضيفة وأعادتها لذكريات
موجعة ..حبست انفاسها للحظات ونظرات جس النبض تدور فى الصالة قبل أن تمنحها هدى أحساس
األمان :أتفضلى ياست بدرية قولى عايزة أيه ؟ أبتل جبينها عرقا تحت وطأة الخوف وعبء الطرحة
التى حاصرت رأسها وصدغيها .بحثت فى ذهنها عن بداية ال تثير حفيظة النمرة الشرسة التى تتمتم :
أستغفر اللــه العظيم يارب .قالتها فى الفراغ وهى تنفخ .أستهلت البداية موجهة كالمها
560
لهدى :بأختصار كده انا الدنيا بهدلتنى ومرمطتنى وماشفتش فيها يوم حلو ..الحسنة الوحيدة اللى
طلعت بيها بنتى نوسة .
ــ يعنى طلعتى بهند رستم ياختى ..تحولت اليها هدى بنظرة صارمة فهمتها ولزمت الصمت .تابعت
بدرية :هو أنتى أسمك أيه ياختى ؟ طرحت عليها السؤال حين لمست فيها السطوة والحزم .
ــ ربنا يجعل أسمك من قسمتك ..المشكلة ياست هدى أن المعلمة فايزة حاطة فى دماغها أن بنتى
نوسة بتلف وتدور على أبنها عشان يتجوزها وتلهف اللى وراه واللى قدامه وكان أبنها ده عيل صغير
بيمص فى صباعه والشاب خايب غشيم مش فاهم حاجة فى الدنيا .ثم لفت بلحمها وواجهتها مضيفة:
منصور ده ياست هدى تربية المعلمة فايزة وعبده الجن يعنى فاهم الصغيرة قبل الكبيرة ويعرف يفرق
بين اللى شاريه وبين اللى بيشتغله وماتأخذنيش ياختى فى الكلمتين دول ..منصور أبنها مايحتكمش
أصال على جنيه واحد عشان حد يلهفه منه .وجهت جملتها األخيرة لفايزة التى نظرت للسقف بوجه
قابل لآلشتعال فى أية لحظة .أستأنفت :ومين دى اللى أتجننت فى عقلها والمستغنية عن عمرها
عشان تشتغل ابنك وال ترسم عليه وأمه تبقى المعلمة فايزة اللى سمعتها مغطية كرموز كلها وأجدعها
شنب بيعملها ألف حساب ..ياختى اللى بيتكلم مجنون والمستمع عاقل .ثم لكزت هدى فى فخذها تأكيدا
للمعنى فى حين طاردت فايزة كلماتها بمالمح معطوبة :وأنتى جاية لغاية هنا تهزى شحمك عشان
تسمعينا الكلمتين دول ..سددت لها نظرة نارية حين تابعت وهى تضغط على الحروف :الطماعين اللى
زيك وزى بنتك بيتمسكنوا لغاية مايتمكنو ..الصنف ده أنا فهماه كويس
ــ ياستى أحيينى النهاردة وموتينى بكرة ولو الحكاية فلوس وطمع يبقى مش حنغلب أنا وبنتى ..
بأشارة واحدة حاجات كتيرة تبقى تحت أيدينا بس أحنا مش كده ..أحنا عايزين الستر واألمان وقدام
الست هدى أنا بقولك يامعلمة فايزة أحنا مش أدك والحمل بهدلة وأهانة أحنا أخرنا شوية جعجعة وحبة
همبكة والحيلتنا أبيض وال أسود والعندنا عزوة والتحت أيدينا رجالة بشنبات عشان يحمونا عند اللزوم
.سكتت لثوان تستطلع أثر الكالم على فايزة التى تصنعت عدم المباالة بينما أرتخت مالمح هدى التى
أظهرت تفهما وتعاطفا أستثمرته بدرية التى زادت ثقتها فى الدفاع عن وجهة نظرها :ولو مصممة على
أذية أبنك بسبب بنتى فأنا جاية أقولك الكالم ده مايرضنيش ومن النهاردة حأبعد نوسة عنه ولو وصل
األمر أننا نمشى من كرموز كلها .أعلنت موقفها بصوت عالى ثم مشت بمؤخرتها حتى طرف الكنبة
561
أستعدادا للنهوض .أرهقتها الحركة وأرتفع نهيجها حين قامت تضبط طرحتها :أرضى عن أبنك
يامعلمة فايزة وأقفى جنبه وأنتى أولى بيه من أى حد .
ــ ماتقعدى واقفة ليه .قالتها هدى حين رفعت لها عينيها .
ــ معلش ياست هدى أنا قلت اللى عندى وخلصت ضميرى .أبتسمت األخيرة :بس فايزة لسه ماقالتش
اللى عندها .نوهت بجملتها حين رأت جدية وموضوعية ال تقبل التأويل والمزايدة .التفتت إلى الساكنة
تترجم أنطباعها إلى اللغة التى تفهمها :الست بدرية كالمها معقول ويدخل الدماغ ..من عندك شوية
يافايزة وسيبى منصور يختار اللى هو عايزه من غير تدخل وال مشاكل .
ــ أنتى برضه بتاكلى من الكلمتين دول ..دى مرى تلعب بالبيضة والحجر .
ــ ليه شايفة حاوى قاعد قدامك .قالتها بجراة فى حماية هدى قبل أن يأتيها الرد سريعا :أكتر من
الحاوى ياحبيبتى ..دى شغلتها بيع الكالم واآلونطة ..دى كومبارس .ذيلت كلمتها األخيرة بضحكة
ساخرة أثارت حنق بدرية :طلعت والنزلت آهى أسمها شغالنة ومكتوبة فى البطاقة الهى عيب والحرام
والدخلتنى السجن والخلتنى من أرباب السوابق ..والنبى التعايرينى وال أعايرك .أنصتت لها فايزة
وشياطين الغضب تطوف حولها وهى التملك ماتهينه بها .تدخلت هدى بالرغم من جرح الكلمة التى
طالتها ..وقفت بينهما :أقعدى منك لها ..لمى الدور يافايزة ..العيال بيحبو بعض والحكاية مش
ناقصة .أطلقت زفرة ضيق وهى تجلس :يعنى أنتى مش شايفة كالمها اللى يحرق الدم .
ــ يعنى أنتى عايزانى أعمل أيه ياهدى .بدت عصبية ومنفعلة فى حين سحبتها األخيرة لمنطقة هدوء :
وافقى على الجوازة خلى ربنا يسهلهم عشان يسهلنا أحنا كمان .نبرتها وطريقة نطقها أدخلت فايزة فى
دائرة الصمت التى جرتها لمراجعة موقفها المتشدد ..شيىء من الحكمة بدأ يدب فى رأسها .لم تنتظر
هدى صمتها ..حذرتها بعينيها كى تفهم :ماتسبيش حاجة متعلقة وراكى ..خلصى نفسك .ثمة توازن
يفرض ايقاعه احيانا .النت نبرة العناد :ماشى ياهدى ..أنا موافقة .قالتها على مضض ،فى حين
أستقبلت بدرية تصريحها بوجه تفشت فيه الفرحة :ربنا يجعل أيامك كلها فرح زى مابتفرحى الناس .
تطلعت اليها بأسترخاء :هى كده عملت اللى عليها الباقى عليكى أنت وبنتك ..حافظوا على منصور
562
وحطوه جوه عينيكو .أنتفضت :من غير ماتقولى ده أحنا مالناش حد فى الدنيا ..منصور حيبقى
راجلنا وسندنا وبرضه نفسك معانا يامعلمة .
ــ أنا نفسى مقطوع ياختى .قالتها بميوعة بعدما تخلى عنها الغضب فى حين واصلت هدى مهمة
وسيط الخير :فايزة قلبها أبيض وحيبقى نفسها معاكو فى كل كبيرة وصغيرة ..ده أبنها الوحيد مش
معقولة حتسيبه .
ــ اللى عنده يكفيه ويخليه يفتح بدل البيت بيتين .لم تفهم هدى ماتعنيه كما لم تستوعب بدرية الجملة .
فأستكملت للتوضيح :ايراد القهوة على ايراد التاكسى ونص النقل يخلوه يعيش ملك.
ــ روحى ياشيخة ربنا يكرمك يامعلمة فايزة ويستر عرضك .كان دعاء يشبه الهتاف جادت به بدرية
الذى أهتز لحم وجهها كما أهتز له خشب الكنبة .قامت بخفة عصفورة تحملها الفرحة التى قادتها حتى
بلغت مقعد فايزة ،لتنقض عليها بكل ثقلها وتشبعها قبالت قبل أن تعتصرها فى صدرها ..كادت فايزة
تلفظ أنفاسها ،وصوتها المكتوم يستغيث :خالص ياوليه حتموتينى .أنتزعت نفسها من فوقها :بعد
الشر عليكى .رددتها وهى فى منتصف الصالة بصحبة هدى متجهة ناحية الباب قبل ان تبطىء خطوتها
ملتفتة بصوت هامس :المعلمة بتقول ان األيراد اللى حيطلع لمنصور يخليه يعيش ملك ..بس هى
ماقالتش ياختى الملك ده حيعيش فين وهو ماعندهوش شقة اصال ؟! تعقبتها األخيرة من مكانها بنظرات
مدهوشة :شوفى المرى ولؤمها .
ــ كالمها صح يافايزة حيتجوز البنت فين ؟ ضغطت على اضراسها :يبقى يدور له على شقة وأنا
سدادة .عند ذلك األعالن ،أرادت بدرية أشعال ثورة فرح جديدة ،اال أن هدى تصدت لها :خالص
ياست بدرية يادوب تلحقى تفرحى بنتك وتبلغى منصور باألخبار الحلوة دى .
ــ حاضر ياختى ..فتحت بعدها الباب ،وما أن تخطت العتبة حتى توجت زيارتها الناجحة بزغرودة
أطلقتها بكل ماتملك من عزم قاصدة أن تضع كل سكان البيت داخل المشهد .ثم نزلت تدب بشبشبها
على درجات السلم وسط وقفة ذاهلة من هدى التى تابعتها من على رأس السلم وهى تقف عند كل باب
أنفتح أمامها لتعلن :منصور أبن المعلمة خطب بنتى نوسة .كررتها ثالث مرات فى وجه كل من خرج
مستطلعا !! .
563
جرى بهما الوقت سريعا ..قصفا عمره فى تداول بعض األفكار المتعلقة بعبده الجن ومنصور .طرحت
فايزة بعض األفكار من منطلق رؤية متحفظة ثأرية عرضتها بعصبية فى وجه هدى التى تصدت لها
بمنطق أطفاء الحرائق مع ألزامها ببعض التعديالت الجوهرية من باب :ريحيهم وريحى نفسك ..كبرى
دماغك وأرمى ورا ضهرك .أظهرت مرونة وتفهما بعد سيجال محدود متخطية حالة التعنت الفطرى
الضارب فى أعماق شخصيتها مع قفزة نوعية فى لغة الخطاب حين قالت بحسن نية :بينى وبينك الولية
بدرية صعبت على أوى النهاردة ..كانت عايزة ترضينى بأى شكل ..نفسها برضه تستر بنتها وتطمن
عليها .أرتاحت لكلماتها ولم تعلق .كان نداء الجوع أقوى من أى تعليق ..أنشغلتا فى التهام رغيفين
" حواوشى " من أعداد وأنتاج محل " حمامة " الذى أرسلهما على وجه السرعة بناء على أتصال
أجرته فايزة " .الحواوشى " هو أول ضيف يدخل معدتهما منذ الصباح ..تسابقتا فى القضم والمضغ
والبلع تحت راية " الجوع كافر " .لم يفلح الشاى بالليمون فى أحباط التفجيرات التى ضربت معدة
هدى التى أنتفخت وتقطعت أنفاسها :أنتى متأكدة يافايزة اللى أكلنا ده حواوشى .أجابتها وهى تنهج :
هو المرة دى تقيل شوية ..يكونش المفضوح حمامة حط جواه الحمامة وهيه اللى عاملة فينا كده .
أنصتت لها بأبتسامة ثم أنسحبت متكاسلة الى غرفة النوم .كانت بحاجة لألنفراد بنفسها فى محاولة
لتهيأة ذهنها وحشد حواسها للزيارة المرتقبة .شحنت عقلها ودربت لسانها على خطاب جديد يالئم وقع
المناسبة ..توقعات وتخمينات دارت بخلدها حول شكل األستقبال وحالة العاطفة ..صنفت ردود األفعال
المنتظرة حسب تركيبة كل منهم وطباعه .أستغرقتها التخيالت والتمنيات قبل أن تنتزعها فايزة التى
دخلت عليها بفوضويتها المعتادة :أحنا بقينا المغرب مش حتقومى تجهزى نفسك .طردت مايتفاعل فى
عقلها وقامت ..أتجهت الى الدوالب مباشرة وسحبت منه طقمها اليتيم التى جاءت به وما أن بدأت فى
أرتداءه حتى باغتتها حماسة مفاجئة أذهلت فايزة التى جلست تتابعها وهى تتجه للمرأة التى وقفت
أمامها تعتمرطرحتها ..تفحصت وجهها عن قرب ..عاينته من كل الزوايا .أستاءت من بعض العيوب
التى ظهرت تحت العينين من قلة النوم والضغط العصبى الذى تسلمها من لحظة زيارة شهاب ولم
يفارقها اال من ساعات .تحسست وجهها بأسى قبل أن تدهنه بكريم بشرة من مقتنيات فايزة ،فظهرت
كراماته على مالمحها التى أصبحت كالوتر المشدود مستعيدة سحرها الفريد بعدما لعب المكياج الخفيف
لعبته الخطرة قاصفا من عمرها عشر سنوات على أقل تقدير .أخيرا أبتسمت لوجهها فى المرأة ..
أبتسامة لم تدم سوى لحظات قبل أن تحذفها من فوق شفتيها حين أنحرفت بعينيها ناحية فايزة التى
قبعت فى الركن شاردة .تأملتها ثم أعطت ظهرها للمرآة :مالك مسهمة ليه ؟ رغم محاولتها أظهار
564
الهدوء :قلقانة شوية .قالتها بصوت مترهل أثار حفيظة هدى :قلقانة من أيه تانى ؟ تساقطت نظراتها
بفعل األضطراب الذى أعتراها :خايفة والدك يضغطوا عليكى ومايرضوش يرجعوكى تانى على هنا .
مالت عليها ورائحة " البارفان " تفوح منها كما فاحت نبرة األدراك والفهم :والدى حيمنعونى ليه
ان شاء اللـه .تساءلت ساخرة ثم تابعت :مش قادرين يستغنوا عنى وال عشان مش عارفين يعيشوا
من غيرى ..أنتى بتضحكى على نفسك وال على ..ده أحنا دافنينه سوا وأنتى فاهمه زى ما أنا فاهمه ان
والدى دلوقتى مايهمهمش أى حاجة غير الفلوس اللى فى البنك ..أمتى حأسحبها وكل واحد حيطلعله
كام هو ده المهم عندهم ..فوقى يافايزة وماتقلبيش على المواجع وقومى جهزى الشنط لغاية ماأروح
وآجى .مشت معها بنفسية هادئة حتى باب الشقة قبل أن تعلن هدى عن رفضها الشديد للعرض المقدم
منها :حأوصلك لغاية أول الشارع حأركبك وأطمن عليكى .
ــ ياستى أنا خالص حفظت الحوارى هنا وعارفة ازاى أطلع منها .حجزتها فايزة ولم تمنحها تأشيرة
الخروج إال بعد أن طرحت عليها سؤاال :أنتى ليه بقيتى زى القمر ياهدى ..فرق كبير أوى بين
النهاردة وأمبارح ؟ .أسعدتها الجملة األخيرة وتجاوزتها بضحكة :أمبارح كنت أشالنة وعلى فيض
الكريم والنهاردة عندى شيىء وشويات ..يعنى الزم أبقى زى القمر .أستفزها التبرير ووضعت يديها
فى وسطها :ياختى أنا بقالى سنين عندى شيىء وشويات الحصلت قمر وال نجوم .فتحت الباب تسبقها
ضحكتها قبل أن تحسها وهى تهبط أول درجة وصوت فايزة من فوقها محذرا :أوعى تتأخرى .
أستقبلت الحارة بخطوة واثقة ومالمح زادت فيها درجة الجدية كلما نجحت فى الخروج من حارة إلى
حارة ..أستعادت اآلن ذاكرة القوة .
قضت هدى ساعة كاملة فى التاكسى الذى تسلمها من أول الشارع متجها بها إلى خارج كرموز فى
سهولة ويسر قبل أن ينزلق بها إلى وسط المدينة ..حيث جحيم الزحام وعذاب الدنيا حتى حط بها أمام
البناية .تنفست الصعداء حين هبطت .ترجلت حتى المدخل الذى وقفت ببهوه تتلفت ،تبحث بعينيها عن
565
نوح .لم تجد له أثرا قبل أن تخرج عليها " أم نور " حين شعرت بصوت أقدام :حمد للـه ع السالمة
ياست هدى .
ــ كتر خيرك ..كان نفسى أشوفه بس .سجلت أمنيتها وأتجهت ناحية المصعد ،تدوس األرض بكل
عزمها قبل أن تدلف داخله راحال بها ألعلى ..هيأت نفسها أثناء رحلة الصعود ..الكالم فى ذهنها كان
معدا سلفا .إال أنها أشتبكت مع ذاتها عندما توقف بها عند طابقها ..كل ماتطمح إليه اآلن أعترافا
صريحا بأنها صاحبة التضحية األكبر ..هى من دفعت الثمن الفادح ..هى من تحملت الظلم واألهانة ..
هى التى تناولتها األلسنة دون رحمة .تمتمت وهى تضغط على فكيها :أنا هدى عبد الفتاح اللى كلكم
هاجمتونى وعايرتونى بالسجن ماحدش وقف جنبى وال رحمنى .الزم كل واحد فيكم يعرف أنى كنت
صح مش غلط ..من النهاردة كل واحد الزم يعرف حدوده كويس ..مش حأقبل أقل من دموع الندم على
ظلمكم لى .رفعت ذقنها كى تبدو فى قمة كبريائها حين خرجت من المصعد ..بدت كما ينبغى لها أن
تبدو .الخطوة القاسية تسحبها ناحية الشقة .وقفت أمام الباب للحظات .تلفتت يمينا ويسارا .إال أنها
أندهشت من وقفتها الغير مبررة .نظرت للباب نظرة ضعيفة وكأنها أمام باب حصن منيع .شيىء
ماجعلها مترددة ..ماذا تفعل أمام هذا الشعور الطاغى بالتفاخر ؟ حاولت الحفاظ على قوتها .فتحت
حقيبة يدها بعنف وسحبت منها المفتاح .أدلت رأسها لآلرض فجأة وكأن هاتفا يهتف فيها من عند
قدميها .لم تتبين كلمات الهاتف والمصدرها وكأنما مايقصده ان يلفت انتباهها كى تخفض رأسها
لألرض ! تفكرت فى األمر ..فهمت الرسالة .أستحضرت موروثها الضارب فى عمق أعماقها .أرتدت
إلى تواضع الصابرين .أبت أن تركب اللحظة ..تضاءل فيها التفاخر الذى أصبح أعجاب ثم الى أمر
مفرح ردته الى تدابير الخالق ومعجزاته .هزت رأسها بقناعة سحبتها إلى أقصى تجليات الزهد .كبلت
غرور النفس بالتواضع .أدارت المفتاح فى كالون الباب وهى راضية كل الرضا بعدما لجمت شهوتها
قبل الدخول .أنسكب ضوء الصالة على رهبة جمالها الحزين حين فتحت الباب ..أصبحت األن فى
مرمى الرؤية ..كانت الصالة مزدحمة .ظهورها أثار فوضى مفرحة علت الوجوه التى سبقتها شهقات
566
عشوائية توحى بأن أصحابها قد طال أنتظارهم .وقف الجميع أجالال لحظة دخولها وكأنما يؤدون تحية
عسكرية لقائد منتصر عاد لتوهمن أرض المعركة .كانت نورا أول المندفعين نحوها تاركة خلفها يوسف
وبسمة اللذان تحركا بعدها ومن خلفهما أيات ونعمة فى وضعية األستعداد بينما الزال خيرى وشريف
وزيزيت فى أماكنهم كضيوف شرف يرصدون وقائع الفرح بقشعريرة مشت على جلودهم .تنظيم محكم
أعدته نورا سيتضح الحقا القصد منه .أخيرا وصلت نورا لحضن أمها دون قيد أو شرط ..عاطفة بريئة
لم تصادفها هدى منذ زمن ..أحست برعشتها القديمة وأنفاسها النقية التى تثير فيها ذكريات البراءة ..
ضمتها بقوة فى اللحظة التى شعرت فيها نورا وألول مرة أنها أخطأت الوسيلة بعد أن أخطأت التقدير ..
رددت كلمات عشوائية على غير عادتها :ماتزعليش منى ياماما ..أحنا مالناش غير بعض .كانت
مدهشة وقادرة على خلق منطق يصعد بها فوق المسافات المفتعلة التى صنعتها .دام العناق بينهما
طويال ،فأستعجلتهما بسمة التى تنتظر دورها الذى لم يتطلب سوى ايماءة من أمها التى انتهت من
نورا لتتعلق برقبتها فى قفزة خاطفة أستسلمت لها هدى التى أصبحت كالعجينة فى يديها :وحشتينى
أوى ياماما .لم تستطع الرد تحاشيا لنوبة بكاء على وشك األنفجار مكتفية بتحسس األجساد المتدافعة
لصدرها وجو من التفاؤل يخيم على الدائرة التى صنعوها من حولها ..عبارات الترحيب والتبريكات
تتسابق وتتداخل حين أنضمت أيات ونعمة لقائمة المرحبين ..فعلت الفرحة فعلها ! قالت حين خف
الضجيج حولها :واللـه كلكم وحشتونى والبيت كمان وحشنى .قالتها تزامنا مع خطوتين لألمام بعدما
أنزاحت بسمة من طريقها متجهة الى نعمة التى قاربت على الوصول :وحشتينى ياست ياعجوزة .
ــ ماتشوفيش وحش ياست هدى ياأم قلب أبيض ياست الستات ياوش الخير .سحبتها لصدرها تكتم
ضحكتها :بطلى اونطة يامكارة .ثم همست فى أذنها :أنا حأقنع أيات تطلعلك باسبور وتجيبلك تأشيرة
وتاخدوا بعض أنتو الجوز وتعملوا عمرة على حسابى .أنتفضت عظامها الواهنة :ربنا يزيدك كمان
وكمان ويهديلك العاصى ياقادر ياكريم .أثارت الوشوشة ريبة أيات :قلتى أيه للولية المخلولة دى
خلتيها تتنطط كده .
ــ بقولها لولفوا الدنيا بحالها مش حيالقو حد يخاف عليكى واليحبك أكتر من أيات .
ــ أيه ياماما أنتى حتقضيها كالم فى الصالة ..تعالى أدخلى جوه .كانت دعوة على لسان يوسف قبلتها
هدى وهى تردد فى نفسها :سبحان مغير األحوال .شقت طريقها وسط نفس الوجوه التى خرجت
567
أمامهم منذ أيام شبه مطرودة .ظهر لها خيرى عند كنبة األنترية وبجواره أبنه ومن بعدهما زيزيت .
طل عليها من فوق الموكب المصاحب لها ..فاجأتها نظرته الصريحة التى جرحت طهارة المشهد
بالرغم من التصويت الجماعى الذى ظهر فى العيون معلنا وبكل صراحة " عادت الملكة لعرشها "
تحركوا ثالثتهم لحدود حجرة األنترية الستقبالها قبل أن تنفلت زيزيت من بينهما وبادرت بعناقها ثم
أحاطت رقبتها بذراعيها دون أن تنطق بكلمة واحدة ،بينما ربتت هدى على كتفها :أزيك يازيزيت .
ــ زى ماأنتى شايفة .قالتها حين أخلت سبيل رقبتها وتراجعت قبل أن تنتقل هدى لشريف الذى بدا
متحمسا ونشطا :مبروك ياطنط ..أنتى ست جدعة عشان كده ربنا وقف معاكى وماخذلكيش .
ــ كالمك صح ياشريف ربنا دايما بيقف مع الجدعان مش مع اللى عايزين يهربوا ويسافروا أمريكا .
أحمرت بشرته وهز رأسه مبتسما :خالص ياطنط مافيش أمريكا ..دلوقتى حضرتك حتفهمى كل
حاجة .قالها حين ألتفت لنورا التى أنزرعت بينهما وسحبته جانبا مفسحة الطريق لليد الممدودة
لمصافحة خيرى الذى سنحت له فرصة التقدم حين همد الجميع على مقاعدهم .
عانت الجملة على لسانها عندما وقف امامها ..ماذا تقول لصاحب القامة العنيدة التى التقبل تنازال :
أزيك ياخيرى ؟
ــ مش كويس .قالها هامسا .تجاوزت عيناه بابتسامة مرتبكة :كل الموجودين حوالينه بقوا كويسين
والفرحة حتنط من عينيهم ..الزم أحنا كمان نبقى زيهم عشان مايبقاش دمنا تقيل .سحبت يدها من يده
كى اليطول الكالم بينهما .أتجهت الى مقعد منفرد ..أنشغلت فى تصفح الوجوه عندما جلست ،لم يكن
ليستطيع أحد تحديد ماتنوى قوله ،وال قياس مدى فرحتها والحقيقة أنفعاالتها .إال أنهم توقعوا منها
خطبة أنفعالية تلخص فيها رحلة الماضى الكئيب التى لم يبلغها الخيال فى المالحم واألساطير .
بادرت أيات لحثها على الكالم :أنتى النهاردة صاحبة الفرح وكل الموجودين هنا بيباركولك
قبل مايباركوا لنفسهم ..أنتى تستحقى وسام من كل واحد فينا ..ماحدش فينا يقدر ينسى التمن
اللى أنتى دفعتيه ومتهيالى مافيش كالم يقدر يوفيكى حقك وع العموم قدر اللـه وماشاء فعل .تحولت
إليها الرؤوس المتأهبة أنتظارا لكلمتها ..قطعا كلمة استثنائية فى ظرف أستثنائى .أحتشدت األذان
لسماعها ،بينما ـ هى ـ فى تلك اللحظة كانت تسأل نفسها :ماذا يفيد الكالم ؟ مافائدة أستدعاء القهر
والمعاناة ؟ العبث داخل مخزون الذاكرة اليفيد ! ..صمتت للحظات ،طال صمتها دون أن تدرى ،منحها
568
الصمت سحرا عجيبا ،كان خيرى أول ضحاياه الذى لم يهدأ عقله عن ترديد السؤال :لماذا الصمت
فتبدو مثل لغز غامض ؟! .
عندما عادت من صمتها .نطقت بعفوية :أنا فعال تعبت أوى ودفعت تمن غالى زى ماأيات قالت ..لكن
برضه أنتو كمان دفعتوا التمن زيى ويمكن أكتر ..أتحرمتوا من حاجات كتيرة وماعاشتوش سنكم وال
حسيتو باالمان وناس كتير مارحمتكمش ..سكتت للحظات كى تنظم أنفاسها ،لتعود بصوت قوى جلى
النبرات :النهاردة حقكم رجع ..النهاردة كل واحد فينا عوض خسارته .تراجعت عن الجملة األخيرة
بعد سكتة قصيرة .موضحة :مع أن الفلوس عمرها ماحتعوض خسارة السنين والحترجع اللى مات .
ــ كالمك صح واللـه ياست هدى .عبارة تأييد سجلت بها نعمة موقفها قبل أن تستأنف هدى بوتيرة
أبطأ :حدوتة الماضى وحق أبوكم اللى أتاخد منه خالص خلصت وراحت لحالها ..أنسو اللى فات كله
وماحدش يبص ورا ضهره ..كل واحد فيكم يفكر فى مستقبله ويشوف حيعمل أيه وحيبدأ حياته ازاى ..
بس ياريت قبل ماتنسوا الماضى وتفكروا فى اللى جاى أبقو أترحموا على نديم .ثم تنهدت وراقبت
أنعكاس الكالم على الوجوه التى زارها الحزن فجأة وعيناها على أيات التى أدمعت وأختنق صوتها :
الفاتحة على روحه .قراءة الفاتحة التى رددتها األلسنة الخاشعة ظللت المكان برائحة الموت وصورة
" نديم " حاضرة فى األذهان ..لحظات وصارت كلمة " أمين " تقفز فوق الشفاه تباعا ونزلت معها
الكفوف التى مسحت الوجوه مع دعاء المغفرة والرحمة للفقيد .
لم تقترف هدى خطيئة الكالم الكثير ومنحت نفسها فضيلة األنصات حين سألت :قولولى بقى كل واحد
فيكو حيعمل أيه بنصيبه ؟ طرحت سؤالها وهى تقصد به نورا التى كانت تنشد فرصة لترتيب أفكارها .
إال أنها أرغمت على الكالم تحت الحاح من أمها :ماتقولى يانورا فكرتى فى أيه ؟ .
ــ فكرت أشارك مدام زيزيت فى األتيليه ..أذهلتها الجملة التى جعلت حاجبيها مشدودين ألعلى
تفضحهما الدهشة :أزاى يعنى ؟! سألت وهى تنظر لزيزيت قبل أن تستعيدها نورا :حندور على محل
كبير فى مكان محترم نعرض فيه شغلنا وإن شاء اللـه حيبقى مكسبنا كبير ..بنتك دلوقتى لها أسم فى
السوق .قالتها منتشية حين ألتفتت لشريف الذى أظهر تفاعال :أنا صاحب الفكرة دى ياطنط ومكانى
محجوز فى المشروع .تسلم يوسف طرف الكالم :كل واحد فينا حيبقى له دور ..مدام زيزيت ونورا
متخصصين فى األنتاج والعرض وشريف متفرغ الدارة المحل بمساعدة بسمة وأنا حيكون لى األشراف
569
بعدما أخلص شغل المكتب .أدهشها جو التفاهم .قالت بعد أن تحرر لسانها من وقع المفاجأة :أيه
األخبار الجميلة دى .
ــ ولسه ده فيه خبر كمان أحلى وأجمد خديه بالمرة ..ع الشهر الجاى حنحدد ميعاد الخطوبة عشان
نخلص من الجوز دول .جاء الخبر على لسان خيرى ليضاف الى بقية األخبار التى ضاعفت من حجم
ذهولها ،ثم دار بينهما حوار النظرات الذى شق المسافة بين مقعده غرب األنتريه ومقعدها فى الشرق .
أرتفع المشهد اآلن ،أصبح أكثر أثارة حين كشفت نورا النقاب عن تفاصيل مشروعها الكبير ..لم
تستطع هدى أستيعاب أى شيىء وال فهم مايحدث حولها ..سيل من األسئلة يجرفها دون توقف ..
أسئلة العاجز عن الفهم والجاهل ببواطن األمور :أمتى فكروا فى المشروع ده ؟ وأمتى درسوه وأزاى
كلهم أتفقوا عليه بالسرعة دى ..حاجة غريبة أوى ؟! دقت طبول األحزان فى رأسها حين دارت عليهم
بنظرة أسى لم تثر أهتمام أيا منهم ..الكل منشغل ومتحمس بشهوة الكالم ،الكل يقول ويقترح ويناقش
حول تفاصيل المشروع .لم ينتبه أحد لمالمحها التى ظهرت عليها عالمات األحتجاج وهى تحدث نفسها
وسط صخب األراء وضوضاء األقتراحات :ياه ياهدى ..للدرجة دى مابقاش لكى لزمة فى حياتهم ..ده
ماحدش فيهم فكر ياخد رأيك فى المشروع اللى حيعملوه والحتى كلفوا خاطرهم يسألونى تحبى تشاركينا
وال أل ...ياه ع الزمن .قالت الكلمة األخيرة وأستمر صداها يتردد داخلها للحظات .مشروع نورا
المنتظر ر سخ قناعتها ..المكان لها بينهم .بنظرة جانبية تأملت خيرى الذى كان شاردا فى نجفة
األنتريه العتيقة .أستعادت مقولته األخيرة :الشهر الجاى حيحددوا ميعاد الخطوبة .تنهدت ثم تابعت :
مين اللى حدد ومين اللى أتفق ..هو أنا مش لسه أمها برضه والهمه نسيوا الحكاية دى .توقفت عن
طرح األسئلة حين باغتها يوسف :أيه ياماما هو ده وقت سرحان برضه ..مش تسمعينا رأيك فى
مشروع نورا ؟ أكتفت بهزة رأس ونبرة واهنة :أن شاء اللـه يبقى مشروع ناجح وفتحة خير عليكو .
ــ من الناحية دى أطمنى أوى المشروع اللى يبقى موجود فيه نورا وزيزيت أحط فيه فلوسى وأنا
مغمضة .كان رأيا حماسيا أليات تفاجأت به هدى ليزيد رصيدها من الدهشات والمفاجأت التى نالتها منذ
لحظة وصولها :وأنتى كمان معاهم فى المشروع ده ؟ .
ــ طبعا ياهدى ..ده أنا أصال اللى شجعتهم .قبل أن تعود لمتاهتها لحقها خيرى بسؤال :وأنتى
مشروعك حيبقى أيه ياهدى ؟ .
570
ــ أنا ..قالتها بأستهزاء ثم تابعت بأسترخاء :أنا طالعة رحلة شرم الشيخ مع فايزة ..تغيير جو ولما
أرجع يبقى يحلها الحالل .قالتها متصنعة الالمباالة وبأداء أستفزازى كرد فعل ثأرى على أقصائها .
توقعت هجوما كاسحا ومعارضة قوية أعدت نفسها لرد قاسى ستواجههم به ..خاب ظنها ولم تتلق
سوى تعليق واحد من نورا التى قطعت حوارها الجانبى مع زيزيت :حتقعدى أد أيه ياماما ؟ قالتها
وعلى شفتيها أبتسامة مترددة .
ــ لو أخرك عشر تيام يبقى مافيش مشكلة عشان أحنا وقتنا ضيق أوى ياماما ..المفروض من بكره كلنا
حنبدأ ندور على محل ودى حاجة مش سهلة يعنى لولقينا محل كويس فى مكان شيك الزم تبقى فلوسنا
حاضرة ..الفرصة مابتستناش .أرتخت مالمحها كمدا :ماتقلقيش يانورا ..لو ظهرت حاجة كويسة
أتصلى بى على طول وأنا حآجى أسحب الفلوس .قالتها بأداء من يدرك أن األمر قد حسم .قامت من
مقعدها متثاقلة وكأنها تحمل ضعف وزنها هما :أنا حأدخل أوضتى أخد شوية حاجات عشان السفر .لم
ينصت إليها أحد سوى خيرى الذى راقبها بعين فاحصة وهى تتجه لغرفتها بخطوات أمرأة حبلى فى
شهرها األخير .قطعت المسافة الى الباب بكتفين ساقطين ونظرات منكسة وكأنما تغوص بأقدامها فى
رمال متحركة ،وأصواتهم المستفزة القادمة من األنتريه تالحقها وكأنها تذكرها بأنها أصبحت األن على
هامش حياتهم أو ربما خارج حياتهم !! وصلت الى الباب تزامنا مع مقولة زيزيت :لو عرفنا نجيب
محل دورين متهيألى حيفرق معانا كتير .
ــ صح ياشريف ..الدور األول للمحجبات والتانى لفساتين السهرة والعرايس .
ــ ياريت بس تالقو محل حوالينه هنا فى محطة الرمل عشان كل يوم اعدى عليكم .
ــ واللـه تنورينا ياعمتى ويمكن كمان نسميه أيات هانم للموضة .فتحت الباب وصوت ضحكاتهم
يتدحرج اليها فيجرح ماتبقى لها من كرامة .أوصدته خلفها بعد أن أضاءت النور ..وقفت مكانها ولم
تتحرك خطوة واحدة ،لحظات من الوقوف المتأمل التكاد تصدق تلك األعراض التى أجتاحتها ..أحساس
طاغى بالغربة حين جالت بعينيها فى أرجاء الغرفة التى بدت أمامها كبؤرة معتمة فى مكان بارد .بدات
تشعر ألول مرة أن جسدها اليمثل أمتدادا لشخصها ،وان عقلها قد هجر رأسها وأنفصل عنها .توجهت
571
الى دوالبها وسط سكون تام لم يقطعه سوى صوت ضلفتيه التى فتحتهما عنوة وكأنما فتحت باب ثالجة
موتى فى مشرحة ..مالبسها مسجاة كأنما تخص أنسانة رحلت عن الدنيا منذ زمن ..سحبت مايلزمها
من مالبس وغيارات ثم كومتهم فى كيسين .أبت الخروج من الغرفة قبل أن تأخذ فرصتها فى محاولة
أخيرة منها للم الشمل بينها وبين الغرفة .سارت بالكيسين حتى سريرها التى وقفت أمامه
تتذكروتسترجع كى تستعيد أنتمائها .لم يزرها موقف ما والحتى طيف ذكرى ..جلست على طرفه
تحاول ..قضت دقائق صامتة كالتمثال .قالت داخلها أو ربما بصوت مسموع .لم تعرف :ماتكابريش
ياهدى ..مابقاش ده مكانك وال ده زمنك ..ماعدش حد أصال يهمه وجودك من عدمه ..قومى بقى
أمشى وخلى عندك دم .قامت بعد فشل المحاولة .عند هذا الخاطر جن جنونها .نقبت فى داخلها عن
معدنها الصلب ثم تحركت ناحية الباب وهى تردد :زى ماهمه بيخططوا لمستقبلهم وبيفكروا فى
مصلحتهم من غيرى ..أنا كمان حأفكر فى مستقبلى من غيرهم .فى اللحظات الفارقة التى يكون فيها
البقاء والرحيل على خط واحد ،يصبح كل شيىء ممكنا .
خرجت من الغرفة تحمل متاعها ،وكما لم ينتبه أحد لدخولها ،لم يشعروا بخروجها ماعدا خيرى الذى
كان يحرس باب غرفتها بعينيه .تشنجت فى مشيتها عندما ألتفتوا اليها بعد أن سمعوا صوت الكيسين
اللذان يحتكان فى ساقيها .توقفوا عن الكالم حول المشروع الحلم ..وقفت عند حدود حجرة االنتريه
ولم تدخل :عايزين منى حاجة ياوالد .من مكانها قالت بسمة من باب المجاملة :أيوه ياعم المهم ..
رايح شرم اللـه يسهلك .
ــ حنتابعك بالتليفون ياماما .قالت نورا بلهفة قبل أن يقاطع يوسف :أستنى ياماما حأجى أوصلك
الوقت متأخر .
572
ــ مش حأنسى يانعمة ..أشوف وشكم بخير ،ثم أولتهم ظهرها وأتجهت الى الصالة قبل أن يتخذ
خيرى قرارا باللحاق بها حين قاربت على الوصول لباب الشقة ..لحقها عند المتر األخير :مش
عايزانى أوصلك ياهدى ؟ .
ــ كتر خيرك مالوش لزمة .تعلق بها بنظرة تطل فيها دعوة رجاء :ماتتأخريش فى شرم ..حأستناكى .
هزت رأسها دون أن تقطع وعدا أو تحدد موعدا .همس لها :أنا حأعد األيام لغاية ماترجعى .أغمضت
عينيها ثم فتحتهما مبتسمة :أنت حتبقى فاضى تعد األيام ؟! .
ــ أنا ..أنا عندى مشروع أكبر وأهم ..أنتى مشروعى ياهدى ..أنتى معايا بالليل والنهار ..معايا فى
كل وقت .لم تكن عارية تلك التى تنام فى الذاكرة .
ــ الخير حييجى لما تفكرى بقلبك .تحدثت اليه فى سرها :ليه عايزنى أفكر بقلبى وكل اللى حواليه
بيفكروا بعقولهم ؟ لم يتسع أفق السؤال حين حسمت أمرها :ربنا يسهل ..أشوفك على خير ياخيرى .
كما جاءت فى هدوء رحلت بهدوء .أستقلت المصعد الذى هبط بها ..خرجت منه دون أن تلتفت .كانت
خطوتها سريعة .كل ماتريده فى تلك اللحظة الخروج من البناية ! .
أبطأت خطوتها ونظمت أنفاسها حين أصبح المدخل خلفها ..ألتفتت يمينا بحثا عن تاكسى قادم قبل أن
يناديها رنين موبايلها من داخل الحقيبة ،فأضطرت للوقوف وطرحت الكيسين أرضا ثم فتحت الحقيبة
وسحبت الموبايل الذى قربت شاشته لعينيها :أيوه يافايزة .
573
ــ بتتكلمى جد ياهدى .
ــ واللـه أنتى جدعة ..عرفتى أزاى تفلتى منهم يابنت الذين ..طبعا كانوا عاملين عليكى حصار مايعلم
بيه إال ربنا .بدت الفرحة طاغية فى صوتها .
ــ دول كانوا حيموتوا نفسهم علي ..كانوا عايزين يحبسونى فى األوضة عشان ماخرجش .أنهت
جملتها وتحولت أبتسامتها الساخرة الى ضحكة ثم الى قهقهة عالية لم تراع فيها حرمة الطريق ..
ضحك لم تفلح فى كتمه أو ترويضه ..ضحك أنفعالى اليمت للضحك بصلة ,.أستعادت توازنها عندما
أنتبهت لصوت فايزة الذى يناديها :فى أيه ياهدى ..أيه اللى موتك من الضحك كده .
ــ بأضحك على نفسى يافايزة ..أقفلى دلوقتى أنا جاية .أنهت المكالمة بسرعة قبل أن يغلبها البكاء .
أغلقت موبايلها وهى فى أعلى مراتب الخجل حين شعرت بأنها قد أصبحت هدفا لكل النظرات المارة
بجوارها .
فى تلك اللحظات بدأت رايات الرحيل تعلن عن نفسها .المشهد فى غرفة فايزة وصل لذروته انتظارا
للحظة وصول هدى لتضع نهاية لفيلم " الرحيل " حقيبتان ممددتان على أرضية الغرفة حشرت فيهما
فايزة مايزيد عن حاجة أسرة مكونة من ستة أفراد ،مالبس وغيارات وكل مايلزم لالستعمال الشخصى
وكأنها بصدد رحلة ذهاب بال عودة ،لم تترك شيىء من أشيائها اال واخذت منه عينة ..تذكرت كل
المنسيات ودفنتها داخل الحقيبة الكبيرة التى أنتفخ جلدها .لم تستقر فى مكان لخمس دقائق ،كلما
تذكرت شيئا قامت اليه وأتت به .
األن أصبح كل شيىء معدا وجاهزا للسفر بعد أن تممت على صدرها الذى ينام أسفل فردته الشمال"
باكو " من فئة الـ " "200جنيه ..أطمأنت على وضعيته بعد أن أحكمت سيطرتها عليه بـ "سونتيانة "
أصغر من مقاس صدرها بنمرتين ..ثم أنفرطت بجسدها على السرير بال حيلة أنتظارا لعودة الغائب .
بعد ساعة من األنتظار أستقبلتها عند رأس السلم بموشح :ده أنتى لو جاية مشى كان زمانك وصلتى
من بدرى .قطع النهيج كلماتها :ماسورة مية ضربت والطريق كله واقف .سحبتها كالمخطوفة
للداخل :أنا جهزت كل حاجة وقفلت الشنط .ثم أضافت حين نظرت للكيسين :الشنطة الصغيرة فيها
574
مكان ..ثم اتجهتا للغرفة .عاينت هدى الحقيبة الصغيرة عندما فتحتها مدهوشة :أيه الشباشب
دى كلها ؟
ــ نغير أيه بس يافايزة ..أنتى فاكرة نفسك رايحة األرياف .ثم رمت بأربع أزواج خارج الحقيبة
ووضعت الكيسين تزامنا مع استفسار من فايزة التى وقفت فوق رأسها :أيه حكاية الصهللة والضحك
اللى كانوا راكبينك وأنا بأكلمك ؟ أكملت قبل أن تجيبها :ماتقوليش دلوقتى لما نركب أبقى أحكيلى فى
الطريق .جرت فايزة الحقيبتين حتى الصالة ثم وقفت لتلتقط أنفاسها قبل أن ترفع عينيها لساعة الحائط
التى أعلنت دقاتها الثانية عشرة .حثت هدى التى تترنح بالحقيبة الصغيرة قادمة من الطرقة :شدى
حيلك شوية قبل ماحد يطب علينا .
الفصل األخــير
هوت الحارة فى قبضة الظالم ..سارتا جنبا إلى جنب تزحفا بثقل الحقائب ..تمشى فايزة وسط العتمة ،
تحفظ تضاريس األرض ومطباتها ،تمشى كأنما لقدميها عيون ..بينما تسير هدى بالحقيبة الصغيرة
بحذر خشية الوقوع .خرجتا من الحارة تحتضن كل منهما حقيبة ..أجتازتا حارة بعد حارة يسترهما
الليل كالهاربتين من معتقل .كومت فايزة الحقيبتين فوق بعضهما ووقفت الى جوارهما عندما وصلتا
للشارع العمومى بينما أنسابت نظرات هدى إلى السيارات القادمة من أول الطريق .نصف ساعة
بعد منتصف الليل قبل أن يظهر تاكسي قادما من عند دوران الترام ..تهادى أمامهما حين أقترب .
أشارت له :الموقف ..تفحصهما بعناية وكأنه سيشترى واحدة منهما :تعالوا ..سحبت هدى الحقيبة
الصغيرة ودخلت بها إلى ركن المقعد بينما أنقضت فايزة على األخرى ومارست معها هواية رفع
األثقال ..رفعة خطف ناجحة من األرض الى شبكة السيارة ثم دلفت إلى داخل التاكسى بعدما أفسحت لها
هدى مكانا ..حدق فيهما السائق بنظرات صريحة قبل أن يمد ذراعه الطويلة إلى الكاسيت :تحبو
تسمعوا أيه ؟ قالها بنبرة حشاش أو مبرشم .
ــ كتر خيرك ياخويا ..لو عندك شريط قرأن يكون أحسن عشان أحنا عندنا حالة وفاة .
ــ وفاة ..البركة فيكى ياختى .ساءت مالمحه وقاد صامتا .
575
ألتصقتا ببعضهما كبقايا أمراتان .وازدحما داخلهما بالخوف ،والظلمة تحاصرهما حين غابت السيارة
فى ظلمة الليل حتى أبتلعهما الطريق الذى يمتد أمامهما بال معنى تقطعه عالمات المرور الباهتة
واألشارات المطفأة .مرالسائق بسحنته المريبة بكل الشوارع التى عالها االصمت يبنما تتعرف هدى
بنظراتها المضطربة على من بيده عجلة القيادة والمسئول عن كل الطرق التى يسلكها فى العتمة ..
قرأت الصمد ثالث وهى تتشبث بذراع فايزة بينما عيونهما ملتصقة بارض الطريق الذى يرقد ويمتد
حتى انقطاعه بعد نصف ساعة أمام بوابة الموقف الذى أجتازها ..كان الليل باردا عندما هبطتا فوق
أسفلت الموقف بعد أن ودعهما السائق بنظرة أرف ..تجران الحقيبتان اللتان زاد وزنهما بفعل التعب ..
بدا المكان هادئا يتخلله أصوات السائقين الخشنة ومرارة وقف الحال التخطأها العين ..سيارات
الميكروباص تقف متراصة خاوية فى مربعات عليها الفتات تشير إلى أسماء المحافظات .توجه إليهما
شاب التختلف سحنته عن سحنة السائق :شيال يامدام .
ــ هو فين موقف السوبرجيت ؟ .أقتحم الحقيبتان دون استئذان :عنك ياست .رفعهما وهو يضغط
على الكالم بفعل الثقل :رايحين الكاهرة .
ــ تعالــواورايا .سارتا خلفه يتبعانه فى خط متعرج وهويتطوح امامهما ..سبع دقائق قضاهـــا الموكب
الجنائزى حتى الح لهم موقف األتوبيس الذى كان ينبض بالحياة حيث بعض الزحام والجمهرة .أنزل
حمولته ثم وقف يلتقط أنفاسه قبل أن يستدير :تمام كده ياست .
ــ اللـه ينورياخويا .قالتها مشفوعة بعشرة جنيهات دستها فى يده فأبتسم :طلعى التذاكر بتاعتك عشان
السواق يحطلك الشنط فى مخزن األتوبيس .سألته هدى بوجه يحمل دهشة :أحنا لسه حنجيب تذاكر .
القاها بوجه مقتضب :هوأنتومش حاجزين .
ــ الونبى أعمل معروف .تسلل القلق الى هدى التىصرخت :طب والحل ايه؟ .
576
ــ ماتقلقيش يامدام ..تعالوامعاياوانا حاتصرف بس التسعيرة حتزيد شوية .
ــ ماتشغلش بالك ياخويا .طمانته فايزة بجملتها ونظرت لهدى :خليكى أنتى هنا جنب الشنط وأنا
حأروح معاه .أنصاعت األخيرة والتزمت بحراسة الشنط تزامنا مع تفحص الوجوه المسافرة على الرغم
من قلة عددهم فى تلك الساعة ..أستغرق األمرمنها عشردقائق قبل أن تلتقطها عينى هدى التى دققت
فيها كلما أقتربت ..هدأت مالمحها حين الحت لها يدها المطبقة على تذكرتين ،لوحت بهما حين ضاقت
المسافة بينهما .
عند الثانية إال الثلث أختلف المشهد أمام األتوبيس ..تكدس الركاب عند باب الصعود وامام مخزن
الحقائب الذى أمتأل عن أخره ..صعدت هدى وفايزة مع الصاعدين ..أتخذتا موقعيهما فى الوسط
حسب أرشادات منظم الرحلة .
انطلق االتوبيس فى الثانية إالربع وسط سكون تام وهدوءمريب بدا منسجما مع الليل الكئيب ..من
شباك االتوبيس ،كانت هدى تطل على الظالم ،تتأهب للمجهول كعادتها وتطمئن من خالل الضوء
الخافت المنبعث من كشافات صغيرة فى السقف على مالمح فايزة التى تمدها بالثقة بينما تحول الطريق
فى عينيها إلى كتلة من الظالم ،والصمت يلفهما مثل نعش يطوف بالذكريات قبل الرحيل .
تخطت هدى وفايزة الساعة االولى داخل االتوبيس فى هدوء تام وعبارات قصيرة التزيد عن :السوبر
جيت ده مريح أوى .
ــ مش االتوبيس اللى مريح دول الركاب همه اللى محترمين ..مافيش دوشة والصوت عالى .
ــ دوشة أيه بس ياهدى ده كل اللى فى االتوبيس نايمين .كان ردها منطقى ..معظم الركاب نائمين
والبقية شبه مخدرين .االضاءة الخافتة وسواد الليل فى الخارج جعل الجميع يسترخى فى سكون ماعدا
هدى التى كانت تصدر عنها انات مكتومة على فترات متقطعة تنبىء عن بدايات مغص الزال فى مرحلة
التشكل ،حرصت على احتواءه كى التقلق فايزة .
مع نهايات الساعة الثانية الزالت الصحراء مشهدا ثابتا يأبى االنتهاء ..
بدأت هدى تحس بمرارة فى لسانها ،واعراض تقبؤ فى الحلق تزاولها مع النصف االخير من الساعة
الثالثة حين عبر االتوبيس مشارف القاهرة ..التريد االستسالم للمغص المتنامى ،الزالت تمتلك قدرة
577
المقاومة ..بزغ الفجر فجأة متفلتا من قيد الظالم فاردا نوره فى استحياء على أسفلت الطريق مع دقات
الخامسة وتزامنا مع انحراف السائق ناحية اليمين ماسكا الطريق الدائرى من بدايته مستقبال ضوء
النهار بعينين متشنجتين .
أستقرت هدى برأسها على كتف فايزة تتلوى تحت وطأة الوجع وااللم بينما االخيرة بدت بال حيلة
والتملك من مفردات الكالم سوى سؤالين غلبا عليهما التوتر :ياجماعة مافيش حد معاه حاجة
للمغص ؟ أكتفى الجميع بالصمت وبنظرات موروبة ،فأعادت صياغة السؤال :طب فاضل أد أيه
على االستراحة ؟ سألت بصوت منفعل ومرت على الوجوه بعيون متوعدة ..تطوع شاب فى الصف
المجاور :هانت ..بعد ما حنعدى مدخل مدينة السالم حنبدأ فى طريق السويس وان شاء اللـه قبل
النفق حنرتاح فى الريست ..هى المدام تعبانة أوى ؟ قالها حين أنحنى برأسه يطالع وجه هدى الملتصق
بكتف فايزة .
ــ أيوه ياخويا تعبانة أوى المغص عمال ياكل فيها .هز راسه مبديا بعض التأثر قبل أن يعود لشاشة
موبايله التى يعبث بها.
بال رحمة أكمل االتوبيس طريقه مندفعا نحو هدفه غير آبه بأالم هدى التى اخترقت دفاعاتها وباتت على
وشك التسليم وأقتربت بشدة من الجهر بصرخات االلم ،فى حين جمعت فايزة فزعها وتماسكت :معلش
ياحبيبتى أتحملى شوية الجدع اللى جنبينا بيقول خالص هانت .
بعد ساعة وربع أدارت هدى وجهها الشاحب للنافذة تاركة لحم فايزة ..أضطربت أنفاسها وهى تبحث
بعينيها المجهدة عن أى مظهر للحياة وسط الصحراء ..سبقت نظرتها سرعة االتوبيس بحثا عن لقطة
تلهيها قبل أن تسحبها ثانية حين ذكرها المغص بوجوده ..أخذت تئن ..دفنت وجهها فى كفيها وهى
تطحن الكلمات :يارب قوينى ..لم يكن صوتها من القوة ليصل الى فايزة التى أنشغلت بمتابعة تلك
البقعة التى أقترب منها االتوبيس متمهال ..أستجاب االلم لكلمات فايزة حين بشرتها :آهو داخلين
ع الريست .
تحركت العيون كما تحركت االبدان التى تيبست فى مقاعدها استعدادا للنهوض حين يكف السائق
وينتهى ..لحظات ورفع السائق يديه وقدميه ..توقف االتوبيس اخيرا وترنح الركاب فى الممر
متجهين الى ال باب فى طابور غير مستقر فى وقفته ..خذلتهم عضالت الظهر والساقين ! ..كتمت هدى
578
انفاسها وضغطت بكفها على بطنها حين جاء دورها فى النزول متعمدة تأجيل اجابتها عن سؤال حائر
طرحته فايزة التى تسندها من ظهرها :مش ممكن تكون اكلة حواوشى هى اللى عملت فيكى كل ده ..
ما أنا طافحة معاكى .طرحت استغرابها حين وطأت قدميهما أرض الريست الموعودة ..خطوات قليلة
ثم تلقت فايزة اشارة من النادل الذى يقف عند مدخل الكافيتريا مشيرا لها لمكان التواليت حين سألته ..
بينما هدى تسيربأنحناءة منوهة عن سبب محتمل الوجاعها :تقريبا الدورة هى اللى مبهدالنى كده ..
أتأخرت أسبوعين عن ميعادها .بدا سببا وجيها لفايزة التى فتحت باب التواليت :اللـه يرحم أيام السجن
عمرك ماشتكيتى من الدورة دى أبدا والفى مرة سمعتك قلتى آه ياضهرى وال آه يابطنى وكانت تجيلك
فى ميعادها زى الجزمة .
لعب الشاى بالنعناع دورا مؤثرا بمساعدة برشامتين فى تسكين آالمها كما اوصى بهما الجرسون
ممتدحا مفعولهما السريع وقد كان ..أربعون دقيقة فى الريست تزود خاللها الركاب بالزادو والزواد
بينما أكتفت فايزة بالشاى وزجاجة مياه معدنية ..صعد الجميع االتوبيس وهم أحسن حاال .
بعد مرور ساعة تالشى النشاط وأختبأ داخل االبدان المتكاسلة التى التحرك ساكنا اال من بعض الرقاب
المدالة على الصدور التى تترنح مع تعاريج الطريق قبل أن تعاود فقرات العنق شدهاماتها والعيون
الناعسة تستعيد فجأة نشاطها رويدا رويدا وبدأت االلسنة تمارس وظيفتها حين أقتحم االتوبيس الطريق
الوسطانى المؤدى لنويبع ..قاومت هدى مزاجها الموجوع حين طالعت منظر الجبال المهيب وقممه
الالمعة التى ظلت تتابعها وتصعد اليها بعينى مرهقة وبأفكار مشتتة تجرفها الى حجم الكون وضخامته
وعن قدرات صاحب تلك العجائب ومدى سيطرته على ملكه ..ماهذه القوة القاهرة الجبارة التى تتحكم
فى كل هذا وال تأخذه سنة والنوم واليفوته من أمر ملكه شيىء حتى لو كان ذلك المغص الذى يتالعب
فى بطنها ..سحبت نفسا ممتدا بطول أنبهارها ثم أخرجته حين أبتعدت عن أفكارها وأسئلتها ممزوجة
ببعض الكلمات :سبحان اللـه العظيم ..كررتها عدة مرات بينما تخاذل المغص وتراجع عن موقفه
العنيد أمام سطوة المشاهد الجبارة ،فى حين سجلت فايزة موقفا ناقما وهى تطارد صور الطبيعة
عبر النافذة ينم عن أحساسها بمدى عمق اللحظة :يخربيت أم اللى معاه فلوس ومايمتعش نفسه
بالجمال ده ..
579
مر األتوبيس على كمين الجيش قبل الدخول إلى منطقة ( عيون موسى ) وسط دعوات متفرقة :ربنا
يحميهم ويثبتهم فى مكانهم .
مضى الوقت كما مضى الطريق الذى بدا وكأنه بال نهاية ..شعور جارف يغمرك أن مدينة شرم الشيخ
تقع فى أخر العالم .أحساس يصيبك لو كانت هى الزيارة األولى ..ترجمت فايزة تلك المشاعر حسب
مقاس عقلها :دى مصر كبيرة آوى يابت ياهدى ..ده الطريق مالوش نهايه ياختى ..كان أنطباعها
نابعا من طول المسافات التى تفصل بين المناطق التى بها شبه حياة مثل رأس سدر ثم حمامات فرعون
التى تحيطها منحنيات شديدة وقاسية وخطرة ثم منطقة أبو زنيمة ومنها الى مفرق سانت كاترين التى
يليها مدينة الطور ثم آخيرا الجائزة الكبرى ..نهاية العالم ( شرم الشيخ ) .
عندما تهادى األتوبيس إلى داخل الموقف متجها إلى مثواه األخير حيث البقعة المخصصة
لـ " سوبر جيت " ..جمل التهنئة على الشفاه حين جثم األتوبيس فى مكانه :حمد اللـه ع السالمة ..
نورتو شرم .نظرات شاردة وصمت مطبق ،هما كل ما أبدته هدى بينما فايزة تراقب الركاب الذين
اصطفوا أمام باب األتوبيس منتظرين دورهم فى الخروج ..لم تبرحا مكانهما إال مع نزول أخر راكب ..
كانت هدى قد وصل بها االلم إلى ذروته ..تتأوه وهى تتشبث بذراع فايزة ..نزلت من األتوبيس بعذاب
مضاف يغذيه لحم فايزة الذى يرتج ويحرك داخلها المغص حين تسندها لتهبط الدرجتين إلى األسفلت ..
بضع خطوات ولم تستطع هدى بعدها الحركة ،تسمرت مكانها وبجانبها الحقيبتين بينما فايزة كان
حزنها طاغيا إلى حد أنها لم تكن تعرف ماذا تفعل حين مر بها رجل متوتر تحيط به أمرأتان :المدام
تعبانة والحاجة ؟ .
ــ مش عارفة أيه اللى حصلها بقالها كام ساعة بتشتكى من مغص ومش قادرة تفرد طولها .لم يكن
لديه أجابة محددة حين تفحص هدى بعينيه شأنه شأن المرأتان ..لم تصبر عليهم فايزة تحت ضغط أنين
رفيقتها التى تقلصت عينيها المشحونة بالوجع تراقب المشهد :لو معاك عربية ياخويا ياريت توصلنا
أقرب مستشفى والعيادة وال أى حاجة تغيتنا .
ــ طب أستنونى لحظة أنا راكن العربية هنا .بدا شهما حين فر من أمامهما ناحية سيارة " " B.M.W
تاركا المرأتان برفقة فايزة وهدى التى تقوست على نفسها ضاغطة بيدها على بطنها عندما انحنت
580
تدخل السيارة حين توقف بها الرجل أمامها ..ركبت فايزة فى المقعد الخلفى قبل ان تضع الحقيبتين فى
شنطة السيارة بمجهود فردى بينما تجاوز الرجل سحنتها مشيرا للمرأتان :أستنونى هنا فى عيادة
قريبة فى أول الطريق .أنصاعتا ورحل الرجل بالمريضة وفايزة التى لم ينقطع لسانها عن ترديد الدعاء
له والثناء على شهامته ..تأملها للحظات عبر المرأة قبل ان تنفلت منه نظرة تحمل ريبة من هيئة
فايزة :ياستى خالص ..الشكر على واجب الحكاية مش مستاهلة .لم تستغرق الرحلة سوى سبع
دقائق ..أمام بيت من دورين توقف بالسيارة واشار لهما الى تلك الالفتة المعلقة على الشرفة فى الدور
االول " دكتور يونان عبد المسيح ..أخصائى أمراض باطنة " .
ــ أى خدمة تانية ياهوانم .قالها حين هبطتا من السيارة .فبادرت فايزة :معلش كمل جميلك وساعدنى
بس أنزل الشنطتين .ساعدها بضيق ثم انطلق قبل ان ينصت الى طقطوقة المديح والشكر .
تركت فايزة الحقيبتين فى حماية رجل سبعينى يقطن الدور االرضى بعد أن أخبرها بوجود الطبيب فى
عيادته التى التبعد سوى سبع درجات اضافية صعدتها هدى بصعوبة وهى تتحامل على نفسها قبل أن
تسبقها فايزة الى داخل العيادة التى التحمل أى دليال عن وجود عالقة من اى نوع بمهنة الطب ..
بصوت جهورى نادت :مافيش حد هنا وال أيه ؟ لحظات وخرج رجل قصير القامة يرتدى قميص ابيض
ومالمح مهدمة ،يبدو مصابا بمرض السكر ..تفحصها عاقدا حاجبيه قبل أن تنفرج أساريره حين دخلت
هدى بأوجاعها :أى خدمه يا مدام ؟ .
ــ أشارت فايزى بيدها إلى هدى دون أن تنطق ..تحرك إليها :أتفضلو جوه فى أوضة الكشف .
سحبتها فايزة ودخلت بها قبل أن توجهها ناحية " البرفان " الذى يختفى خلفه سرير جلدى .أغمضت
عينيها متألمة حين صعدت عليه ..تمددت وهى تمسك بيد فايزة .شعرت بخوف شديد قبل أن يتضاعف
حين دخل الطبيب ..تأمل الوجه المتألم قبل أن يسأل :خير يامدام ؟ أنابت فايزة :بقالها كام ساعة
بتتلوى من المغص ورجعت مرتين ..مش بيده فوق بطنها العارية بعد ان اصدره اوامره لفايزة برفع
البلوزة ألعلى ..ضغط بأصبعيه تحت الـ " صرة " وعلى الجانبين :فى وجع هنا .
ــ أل ..سحب قفازا كان موجودا بجانب السرير ..حشر يده داخله ..سكتت فايزة فى تلك اللحظة عن
سرد االعراض التى ظهرت على صديقتها حين اصدر الطبيب فرمان أخر :نزلى االندر لو سمحتى .
581
أكتفت فايزة بالتنفيذ ..سحبته من تحت الغطاء التى دثرت به هدى ..يبدو أن الطبيب يعمل منفردا بدون
ممرضة .
عبث بأصبعيه داخلها ،لم يتوقف اال حين صرخت :آه ..سحبهما ..يتابع مالمحها التى تألمت :ألبسى
هدومك .قالها بهدوء بينما تابعته فايزة :خير يادكتور ؟ .
ــ كل خير ان شاء اللـه .جلس على مكتبه وسط حصار من نظرات فايزة التى تنتظر فهما .رفع رأسه
تزامنا مع وصول هدى الى الكرسى المواجه لمكتبه .
ــ أنتى عندك كام سنة .زاد شحوب بشرتها وهى تستطلع تقاطيع وجهه المنقبضة ..تبعثر صوتها :
يعنى عديت الخمسة وأربعين .هز رأسه ثم سأل :أنتى جاية منين بالظبط ؟ .
ــ ياه ..مسافة طويلة جدا .أرتعدت من شكل األسئلة ومن نبرة تعليقه :فى حاجة عندى يادكتور ؟ .
ــ أل أبدا أنتى زى الفل ..بس المشكلة دايما أن الحمل فى السن الكبير بيبقى محتاج راحة وحرص
زيادة عن اللزوم .توقفت الدماء عن الجريان فى الجسد المذهول الذى غاب عن الوعى كما توقفت
عينى فايزة فى وجه الطبيب :أيه اللى بتقوله ده يادكتور ؟ بأعصاب باردة :اللى سمعتيه ..الست
حامل ..أيه الغريب فى كده ؟! .أغمضت هدى عينيها ببطء وكأنها تحت تأثير مخدر ..طعنها الطبيب
بكلماته ،فسقط فيها ماسقط ..جنحت برأسها ناحية كتفها وكأنما تهوى ..تحولت إلى كائن محنط ..
لكنه يتنفس ! نظرت لها فايزة تبحث عن وجهها تحت مالمحها المصدومة ..رمشت هدى قبل أن تغلق
جفنيها اللتان مرا من بينهما طابور فى أوله يوسف ونورا وبسمة وأيات ومن خلفهم بمسافة يتهادى
خيرى بخطوات خجولة ..أطبقت عينيها على الطابور ،فأعتصرته دموعا وندما ..فتحت عينيها على
أصابع الطبيب التى تلدغها فى خدها :أنتى رحتى لغاية فين يامدام ..الفرحة حتخليكى تتوهى وال أيه ؟
ــ الفرحة ..ونبى أنت دكتور طيب .قالتها فايزة وهى تتابعه وهو يكتب الروشتة وسط صمت تام
وكأنه يكتب شهادة وفاة ..ثم مدها لهدى التى لم تكن موجودة سوى بجسدها ..تسلمتها فايزة نيابة
عنها وهى تهز رأسها بااليجاب حين تلقت منه مجموعة من التحذيرات التى يجب على المرأة الحامل
أتباعها.
582
قامت فايزة بعد أن تركت بين يدى الطبيب ورقة بمائة جنيه ثم تبعتها هدى وقوفا بعد أن لكزتها ..جرت
قدميها إلى خارج حجرة الكشف وهى تتحسس بطنها قبل أن تنزلق بعينيها تتأمل مكان الكارثة ..نظرة
غريبة ذاهلة ،بل نظرة حادة تأنيبية ..تعاملت مع ذلك الجزء من جسدها على أنه وغد خائن ..لم
يحفظ سرها ؟ ..تآمر عليها ولم يرحم ضعفها وأحتفظ لها بدليل أدانتها والذى سيعلن عن نفسه خالل
عدة أسابيع ..ما العمل ؟ سؤال كالسيف ..أجابته متعددة ومعقدة ،إال أنه فى كل األحوال سيقلب
حياتها رأسا على عقب ..األن عليها األختيار ..األن عليها تحديد فى أى أتجاه ستسير ؟ .
لم تشعر هدى بنفسها إال وهى خارج المبنى وعينى فايزة تدور فى وجهها والتى تحاول لجم سؤال
يتصاعد فى عقلها :حتعملى أيه ياهدى ؟ .
احمد ابراهيم
××××××××
583
584