You are on page 1of 585

‫إسم الرواية ‪ :‬شظايا قبل األنفجار‬

‫الروائى ‪ :‬أحمد إبراهيم محمد‬


‫إصدارات إبداع للتنمية الثقافية‬
‫مدير عام ‪ /‬عادل أمين‬
‫رقم اإليداع ‪2016 / 9690 :‬‬

‫الترقيم الدولى ‪978-977-6491-32-2‬‬

‫الطبعة األولى مايو ‪2016‬‬

‫العنوان ‪ 16 /‬شارع محطة مترو منشية الصدر القاهرة‬


‫برج زمزم حدائق القبة‬

‫يحظر طبع أو نشر أو ترجمة أو اقتباس أى جزء من هذا الكتاب‬


‫دون إذن كتابى من المؤلف‬

‫‪1‬‬
‫بسم الـلــه الرحمن الرحيـــــم‬

‫الفصل األول‬
‫شتاء األسكندرية ‪2011‬‬

‫وظل الجو السيىء مقيما فى األسكندرية ال يبارحها وأيام الصحو تبدو ذكرى ‪.‬‬

‫وعلى الرغم من ذلك تأتى أيام قليلة كان الريح يهدأ ‪ ،‬وكان الهواء يسكن شيئا بعد شيىء ‪ .‬الجميع‬
‫واثق من أن كل مايحدث فى هذا البلد ‪ ،‬عارض زائف ‪ .‬لكن ‪ ،‬هناك ‪ ،‬ومضات ضوء خافت ‪ ،‬تجتذب‬
‫أناسا آخرين ‪ ،‬معظمهم من الشباب ‪ .‬فى تلك األيام ‪ ..‬لم يتمالك المصريون الذين أتسع لهم الزمن مجاال‬
‫ليشاهدوا اللحظة التاريخية بأنفسهم ‪ ،‬وداسوا نظاما شاخ فى كراسيه ‪.‬‬

‫ضرب زلزال التغيير مصر كلها ‪ ،‬وركب البلد عفريت المظاهـــرات تجتاح كل شبر فيها ‪ .‬وبعد كر وفر‬
‫وصد ورد جاء الختام مقتضبا وبمنطق " سلم وأستلم " تخلى الرئيس وتولى الجيش ‪.‬‬

‫وحين أفاق الجميع أكتشف أبناء الوطن أن خيرات الوطن أبتلعها األب الحكيم وأسرته وحاشيته ‪ ،‬ولم‬
‫يبق سوى ذكريات عن ثروات وطن ‪.‬‬

‫كانت ثورة أو ربما هوجة ‪ ..‬أشتعلت العقول والقلوب بالحماسة ‪ ..‬حماسة التغيير واالشتياق الثبات‬
‫الذات ‪ ..‬الكل تسابق السقاط قاعدة ان المصريين شعب ال يهش وال ينش ‪ ،‬فغاب العقل فى غفلة من‬
‫الزمن ‪ ..‬خرج المارد المصرى من قمقمه ‪ ..‬خرج وخرجت معه كل الشوائب والعيوب ‪ ..‬فى حالة من‬
‫الالوعى الجماعى تسرب من بين المصريين أشكال وسحنات تنازعت عقول المصريين وكسب وعيهم ‪..‬‬
‫خرجت مجموعات قناعها الدين تصول وتجول بلحية وجلبابا قصيرا يفتى ويكفرمهــلال بفتح أسالمى‬
‫جديـــد ‪ ..‬والثانى علمانى ليبرالى ديمقراطى يسارى أشتراكــى سميه ماشئت وهم كغثاء السيل ‪ ،‬الواحد‬
‫منهم له لسانين فوق لسانه ‪ ،‬فمنهم من يطلق ثالثين أو أربعين كلمة فى الدقيقة وبعضهم يقل أو يزيد ‪،‬‬
‫يعشقون النجومية ويحبون الكاميرا وهى تحبهم ‪.‬‬

‫وكأن هذا الشعب يولد من زمن عاقر؟ ‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫كشفت لنا ثورة يناير أن الشهوة لها وجوه كثيرة ‪ .‬الثورة فجرت شهوة الكالم ‪ ،‬وهرع محترفوه الى‬
‫الفضائيات ‪،‬يشبعون نهمهم ‪ .‬أنهم يتصارعون على أمتالك أذنك ‪ ،‬فان لم يستطيعوا فانهم يحتالون‬
‫ألستئجارها ‪ ،‬فى لحظة تكون فيها مسروقا أو مغيبا ‪.‬‬

‫األسكندرية بعد ثورة يناير جرحت جرحا عميقا فى خصائصها وثوابتها ‪ ،‬ولم يخلو المشهد فيها من‬
‫تبعات الثورة ‪ .‬صالت وجالت الفوضى فى كل شبر فيها ‪ ،‬البلطجة هى القانون السائد ‪ ،‬فجأة ضاقت‬
‫الشوارع بالسيارات وعاش أهالى األسكندرية محبوسين فى المواصالت ‪ ،‬فوضى البناء بال ضابط‬
‫والرابط وأصبحت المدينة مهددة بأنهيار نصف عقاراتها ‪ ،‬ناهيك عن القمامة التى نستأنس بها‬
‫وتستأنس بنا خالف السرقات والسطو ‪ ،‬حتى أصبحت الحياة فى األسكندرية زوبعة تجرفنا وندور معها‬
‫فشاخت "عروس البحر" لتتحول لـ " عجوز البحر األبيض المتوسط "‪.‬‬

‫فقط وحصريا ‪ ..‬فلت هذا المبنى المهيب الكئيب بأسواره العالية الغاضبة من سيناريو الفوضى ‪ .‬هنا فقط‬
‫نقطة نظام أستثنائية ‪ .‬كلما أقتربت خطواتك بأتجاه موقعه تحيطك الكآبة وينتابك الحذر ‪ .‬أنه سجن‬
‫النساء ‪ .‬يبدو مشهده من األعلى معقدا ‪ ،‬قابع فى رقعته ساكنا كالصخرة تصعب على العين هضم‬
‫تفاصيله ‪ ،‬األسوار تتخلل كل فراغاته ‪ .‬أشباح كالظالل تتحرك مكفنة بالبياض‪ ..‬حركة حائرة‪ ..‬يحتويك‬
‫أحساس مفاجىء يخبط نقطة ما فى رأسك تنبىء عن حقيقة واضحة مفادها ‪ :‬مهما بلغت أالعيب الحياة‬
‫معك وسحبتك الى ما بين ساقيها وهضمتك بعصارتها وطحنتك ثم لفظتك فضالت تحمل رائحتها ‪ ،‬أهون‬
‫ألف مرة من ساعة تقضيها محصورا مكدسا فيما ال يتجاوز المترين ‪.‬‬

‫عنبر "ج" ‪ ..‬عتيق باللون ‪ ..‬بهتت كل ألوانه ‪ ،‬جدران وأرضيات وأسرة ترجع إلى عصور الجريمــة‬
‫البدائية مرورا بكل مراحل التطور األجرامى نهاية بسرقة "التكاتك " ‪.‬‬

‫الحياة كلها هنا مسجونة بين تلك الجدران ‪ .‬عند آخر ضوء للنهار كما أعلنت تلك النافذة العالية‬
‫الوحيدة والمحبوسة أيضا داخل أطارها التى تقاطعت داخله أسياخ حديدية طوال وعرضا ‪ ،‬يتخلل منها‬
‫الضوء األخير للنهار يفضح مقتنيات العنبر ‪ ..‬سراير حديدية عتيقة من طابقين تمأل نصفه ‪ ،‬كل زوج‬
‫منهما موصول بسلم معدنى صغير ‪ ،‬منضدة خشبية متوسطةمتأكلة تبعثرت فوقها زجاجات المياة ‪،‬‬
‫أطباق يستحيل التوصل الى لونها االصلى ‪ ،‬أكواب ‪ ،‬أعقاب سجائر ‪ ..‬فى الصدارة أنتصب دوالب حديدى‬
‫قديم مطعون فى كرامته الحديدية حيث أعتاله الصدأ حتى بلغ قامته ‪ ،‬يضم داخل جثته ألبسة وغيارات‬
‫داخلية دارت على معظم أجساد من فى العنبر ‪ ،‬تحته أحتجبت مجموعة شباشب متوارثة من السابقون‬
‫‪3‬‬
‫السابقون ‪ ،‬دائما ما يجمع كل ما على األرض ويرمى به فوقه أو يسحلوه تحته درءا ألحتجاجات الصول‬
‫" عفاف " مسئولة األمن والحراسة فى العنبر ‪ ،‬نفس النمط الحجرى التقليدى لمنصب السجانة ‪،‬‬
‫تبدومكونات شخصيتها كما جسدتها الدراما المصرية ‪ ،‬أضافت عينيها الضيقتان فى وجهها الخمرى‬
‫المسحوب المسنود على جسد خشبى خالى من المرونة رسالة تصيب ما تصيب قدرا من الرعب فى‬
‫القلوب ‪ ،‬الوعيد والتهديد هما لغتها المفضلة ‪ ،‬ثالثون عاما من الخدمة فى سجن النساء أنتجت أنطباعا‬
‫ثابتا اليتغير بأنها امرأة بال هوية ‪.‬‬

‫لم ينس ضوء الزوال المتخلل من النافذة أن يودع وجه " هدى " التى تقوست فى مكانها مولية ظهرها‬
‫لباب العنبر تكافح فى سد ثقوب جوربها الصوفى الذى أعلن التمرد أكثر من مرة معترضا على فعل‬
‫الرطوبة ‪ .‬بالرغم من سنوات السجن واألكتئاب وتخطيها سن األربعين بعامين إال أن جسدها مازال‬
‫رشيقا كالرمح مشدودا ووجها له خصوصية ‪ ،‬فيه نعومة ورقة سوليفان ‪ ...‬توشك ان تبلغ أقصى‬
‫ما يمكن أن تبلغه النعومة والرقة فى وجه من الوجوه ‪ ،‬وجها له أستدارة خفيفة ‪ ،‬جبهة عالية بمقدار‬
‫يحرسها أنف بأرتفاع طفيف‪ ،‬تسكنها عينان سوداوين ‪ ،‬تحملها ساقين مشدودتين ومسحوبه بأنسياب‬
‫يحاكى بقية أجزائها ذات التعاريج واألنحناءات واألستدارات ‪ ،‬فبدت مستديرة فى كل شيىء ‪ ،‬وجهها‬
‫وشعرها وعيناها و نهداها ‪ ..‬وحتى حوضها وهى تجلس ‪ .‬بينما فى تلك اللحظة قطعت " فايزة "‬
‫طريقها داخل العنبر باتجاه رفيقة األسر"هدى"بعد نهاية يوم عصيب فى غرفة الغسيل الملحقة بالعنبر ‪،‬‬
‫تقترب بخطى مختالة باليونيفورم التقليدى للسجن ‪ ،‬جلباب أبيض يكسوها من العنق إلى الذيل يرتج‬
‫داخله جسدها المدكوك ‪ ..‬تستأنف بخترتها بعد أن لطشت بيمناها مؤخرة " صباح " التى أنحنت مدلية‬
‫راسها تعاين ما بين فخذيها عن ما تبقى من النقاط األخيرة لدورة شهرية على وشك الرحيل قبل أن‬
‫تبدى فايزة مالحظة واجبة ‪ :‬كفاية أرف ياختى ده مكان بنتخمد فيه ‪ ..‬مصمصت شفتيها قبل ان ترفع‬
‫رأسها ‪ :‬أنا الحمد للـه لسه صغيرة ومواسيرى شغالة وسالكة و الدور والباقى على اللى مواسيره‬
‫مصدية ‪ ..‬ختمت جملتها بصهللة لها رنة كعادتها ‪ ،‬من الثابت هنا أن اللون األحمر هو اللون الرسمى‬
‫الذى يصبغ المالبس و الحمامات مع بدايات كل شهر حسب ما تجود به دورتهن الشهرية ‪ ،‬غير أن‬
‫هناك مالحظة رائعة دائماما تطلقها الصول "عفاف " ‪ :‬تالقيكم بتعوروا نفسكم يانسوان باألسم!!‪.‬‬

‫دارت " فايزة " بعينيها الواسعتين على السجينات فى محيط العنبر وهى تجر خلفها ردفاها السمينتين‬
‫قبل أن يسبقها كفها بلمسة خفيفة على ظهر هدى حين أقتحمت محيطها ‪ ..‬التفتت اليها بعد أن سحبت‬

‫‪4‬‬
‫نفسا عنيفا ‪ :‬بقالى ساعة بأرمم فى المنيل ده ‪ ..‬أنحنت إليها هامسة كأنما تفضى بسر قبل أن تخطف‬
‫من يدها الجورب المريض وأطاحت به بين السريرين ‪ :‬سيبك من المنيل ده وأسمعى حاقولك أيه ‪..‬ثم‬
‫خلعت شبشبها وأراحت مؤخرتها على حافة السرير ‪ .‬فأردفت هدى ‪ :‬خير يافايزة قولى عندك أيه ؟ ‪..‬‬
‫بلهجة بين المرح والجد بعد أن طافت بنظرتها بين وجوه زميالتها الالتى أنشغلن فى أحاديث مكررة‬
‫ومعادة ‪ :‬عندى لكى خبرين زى الناراألوالنى نص نص أما الثانى فبعد أذن المولى حيكسر الدنيا ‪..‬‬
‫أغمضت هدى عينيها نصف أغماضة وأهتزت كفقى فى مأتم ‪ :‬قولى‪ ..‬دست يدها داخل طـوق الجلباب‬
‫الميرى ونبشت بأصابعها داخـــل حنايا الصدر الكبير الباهظ ‪ ،‬سحبت من بين الشوالين " صبع روج "‬
‫رمقته هدى بدهشة بعد أن زال ترقبها ‪ :‬أيه ده يافايزة ؟ ‪ ..‬أهتز رأسها الملفوف بالحجاب على أثر‬
‫ضحكة سأخرة ‪ :‬اللــه يخيبك يافايزة ‪ ..‬عاجلتها وحشرته بين يديها مصحوبا بضحكتها المجلجلة التى‬
‫تقاوم بها دائما أيام سجنها عكس هدى التى التستطيع أن تضحك مثلها وان أرادت ‪ ،‬تخرج ضحكتها‬
‫مبتورة ‪ ،‬مكتومة ‪ ،‬تسبقها يدها الى فمها ‪ ،‬تكاد تخفيه ‪ ،‬تحول دائما بينه وبين الضحك ‪ ،‬ليس هذا هو‬
‫الفارق الوحيد بينهما بل النشأة والتعليم والطباع ‪ ،‬فبالرغم من الحالة المزاجية العنيفة والمندفعة لفايزة‬
‫والعدوانية فى كثير من االحيان وحصولها بجدارة على لقب " فايزة عكننة " المتداول على ألسنة‬
‫ساكنى العنبر‪،‬إال أن هدى أحبتها فألتصقت بها بعد أن عرفتها وفهمت طبيعتها وأن طباعها ماهى إال‬
‫قشرة تغطى شخصيتها وأن داخلها ضعفا وانكسارا ‪ ،‬فأزدادت أقترابا منها حتى لقد أصبح عليها نوع‬
‫من التأثير يشبه السحر وغ يرت فيها شيئا متوحشا لم يروض ولم يستأنس من قبل ‪ ،‬فى حين أشتهرت‬
‫هدى داخل السجن بأنها مطفأة للحرائق التى تندلع كل ساعة داخل العنبر بسبب أو بدون بما تملكه من‬
‫هدوء وحكمة ‪.‬‬

‫أخترقت نظرات " توحة مساج " المنبطحة على بطنها من مكمنها بالسرير العلوى فى الصف المواجه‬
‫بعد أن مطت رقبتها ورفعت رأسها وهى تداعب شعرها تسحبه بأصبعيها فى عصبية تغذيها بعض‬
‫السخ ونة بعد أن لمحت "صبع الروج" يتالعب أمام عينيها على هات وخد المتداولة بين هدى وفايزة‬
‫وما أدراك بما تمثله أدوات المكياج فى تكوين شخصية " توحة " فهى جزءا من حاضرها قبل أن يكون‬
‫ضروريا فى ماضيها خاصة بعدما ألتحقت بالعمل فى أحد مراكز ما يسمى بالعالج الطبيعى والمساج‬
‫بمدينة الغردقة وبعد أن أجتازت دورة تدريبية وتم صقلها تحت أشراف ورقابة المركز حسب المنهج‬
‫العلمى الحديث للمساج ‪ ،‬فكان لها بصمة وأضافات خرجت به من التقليدية إلى األبتكار ويحسب لها‬
‫تخصصها فــ ى فرع واحد ونوعية واحدة " رجالى فقط " برعت فى فنون التدليك وخاصة التصاعدى‬
‫‪5‬‬
‫منه " من تحت لفوق " متحاشية منطقة الظهر والبطن والفخذين بأستثناء ما بينهما فأتقنت التعامل مع‬
‫هذا الجزء مستفيدة من خبرتها الطويلة فى ذلك المجال منذ أن كان لها تواجد دائم ومكثف فى معظم‬
‫الشقق المفروشة بمنطقة المعمورة ‪ ،‬فقدمت خدماتها لكل فئات الوطن وتحمل جسدها كل المقاسات‬
‫واالوزان ‪ .‬غير أن عملها قد توقف فجأة منذ عام تقريبا حين تم ضبطها داخل المركز عارية تماما فى‬
‫واحدة من غارات مكتب األداب فى غفلة من مجموعة المراقبة والتأمين المنوط بها حماية المركز ‪،‬‬
‫فخرجت فى زفة ميرى كالمالئكة ملفوفة فى مالية سرير بيضاء يشاركها الغطاء أخ شقيق من‬
‫الخليج ! ‪ ..‬عاجلتها المحكمة بثالث سنوات مع الشغل والنفاذ لممارسة الدعارة ‪.‬‬

‫أستشاطت " توحة " غضبا ‪ ،‬خرج صوتها عدائيا محتجا بأتجاه فايزة بعد أن سبقتها أقدامها نزوال على‬
‫السلم المعدنى صارخة ‪ :‬يعنى أنتى اللى سرقتى صبع الروج يافايزة ‪ ..‬أنتبهت األخيرة لكلماتها فرمتها‬
‫بنظرة نارية ممتدة تنذر بشر مستحكم ونبرة متوعدة ‪ :‬يعنى أنا حرامية يابت ‪ ..‬قبل أن تؤكد لها توحة‬
‫نفس الصفة وتلصقها بها ‪ ،‬بادرت هدى هامسة لها ‪ :‬كبرى دماغك يافايزة وبالش مشاكل‪ .‬إال أن نداء‬
‫توحه لها كان كافيا ألستدعاء غضبها ‪ :‬أيوه أنتى اللى حرامية يافايزة ‪ .‬نهضت فى قوة من مكانها بعد‬
‫أن أطاحت بهدى على جنبها األيمن وركضت مندفعة بأتجاه توحة كالثور فى حلبة مصارعة وهى‬
‫خافضة الرأس ‪ ،‬تدوس األرض بقدميها حتى بلغتها فتحولت كل العيون نحوهما حين أمسكت بطرفى‬
‫جلباب توحة وهزتها هزأ عنيفا وأشهرت أصبعها وغرزته فى صدرها ‪ :‬فايزة مش حرامية ياتوحة‬
‫مساج ‪ ..‬بنبرة ضعفت حدتها ‪ :‬أل حرامية يافايزة ياعكننة ‪.‬‬

‫ــ طب ورحمة أبويا ألعرفك مين هى فايزة عكننة ‪ ..‬أنقضت عليها فضربتها شلوتا على قفا ساقيها‬
‫فأنثئت ركبتها ونزلت توحة على األرض بتلقائية لتحمى رأسها‪ ،‬لم يعد المشهد حركيا فقط بل كان‬
‫مصاحبا لصخب هادر من حناجر مختلفة النبرات والنغمات تهز أرجاء العنبر وإن أشتركن جميعا فى‬
‫مقاس اللسان الطويل ‪ ..‬اندلعت الصيحات والشتائم وأختلط الحابل بالنابل بينما الزالت توحه جاثمة على‬
‫ركبتيها وفايزة فوقها تدق رأسها وكتفيها وعمودها الفقرىوهى تصرخ بعد أن تشبثت أصابعها فى شعر‬
‫توحة التى ترنحت رأسها ذهابا وعودة ‪ :‬أنا فايزة عكننة يابت أنا الشرف والعفة مش زيك يامرى ياللى‬
‫موزعة جسمك صدقة جارية ‪ :‬أندفعت إليها هدى حين شعرت أن األمور تجرى على غير ما يرام وقبل‬
‫أن تتسع ساحة المعركة للجميع بعدما لمحت " حكمت وعواطف " ومن خلفهما " صباح " وقد شمرن‬
‫عن سيقاهن الالتى بدت مشعرة كسيقان الرجال ‪ ،‬صرخات متنوعة الرنات يتبعها لطم ونواح عندما‬

‫‪6‬‬
‫وطأت أقدام هدى جبهة القتال فى حين ظلت فتحية تطل برأسها من سريرها العلوى وقد فاجأتها الحالة‬
‫المرضية المعتادة التى تنتابها عند رؤية مشاهد الضرب والهياج فتصاب برعشة تطال جسدها كله‬
‫مصحوبة بصراخ ال يهدأ إال بعد أن تسلخ فروة شعرها هرشا فتبدو كالمصابة بالجرب ‪ ،‬تصدت لها هدى‬
‫بعــد أن أفلتت يدها من شعر توحة تحاول لجمها ‪ ،‬رفعت أصبعها على فمها وهى تتجول بعينيها فى‬
‫وجوههن ‪ :‬بس اتكتمو بقى اللــه يخربيتكم ‪ ..‬ثم واجهت فايزة بدفعة بكفها فى صدرها قبل أن ترميها‬
‫بنظرة أقنعتها بالكف والتراجع ‪ ،‬فخضعت وانزاحت تاركة توحة جاثمة على ركبتيها وقد أنتفض شعرها‬
‫من جذوره قبل أن تنهار أرضا ليتراكم حولها ساكنى العنبر حيث تم سحبها من أرض المعركة فى حين‬
‫بدا األمر مرهقا لهدى وهى تحاول جذب فايزة من كتفها وأن أحالت استدارته السمينة على أن تقبض‬
‫عليه بأصابعها ‪ ،‬فشبكت كفيها حوله وسحبتها كخروف العيد باتجاه السرير تصرخ فيها ‪ :‬أمشى معايا‬
‫ولمى نفسك ‪ ..‬أشاحت بنظرها ناحية توحة المهزومة قبل أن ترخى جفنيها متقبلة دفع هدى لها وقد‬
‫أتخذت طريقها راجعة لسريرها بعد أن أحكمت طرفى طرحتها حول رقبتها ‪ ،‬بينما أصبحت توحة كبقايا‬
‫أمرآة مفككة العظام فأستعانت بكتفى "عزيزة ونادية " كعكازين حين حاولت القيام من مكانها ‪ ..‬تحركتا‬
‫بها ببطء قبل أن تميل هامسة فى أذن عزيزة كأنها تتلو وصيتها األخيرة ‪ :‬طلعينى ياختى على السرير‬
‫وغطينى ‪ ..‬تقاسمتا فردتى مؤخرتها لتدفع كل منهن فردة فوق درجات السلم صعودا حنى بلغت حدوده‬
‫ثم زحفت عليه منبطحة وهى تتوجع‪ :‬ربنا يشل أيدك يافايزة ويهد حيلك ياقادر ياكريم ‪ ..‬أنهت الدعاء‬
‫ثم طلبت سيجارة من نادية ‪.‬‬

‫هدأت األمور دفعة واحدة وكأن شيىء لم يكن ‪ ،‬تابع الجميع سيرهن نحوأسرتهن بوجوه موصدة السبيل‬
‫إلى النفاذ اليها وكانهن يستنكرن فى قرارة نفوسهم هذا األضطراب كله ‪ .‬أنقضت دقائق خفتت فيها‬
‫األصوات قبل أن تمد فايزه يدها داخل حفرة فى المرتبة التى أصبح القطن فى أحشاءها ذكرى فى حين‬
‫تابعتها هدى بضيق وهى تسحب من الفتحة علبة سجاير كليوباترا بدت محنطة وكانها أخرجتها من‬
‫تابوت ‪ ..‬جلست أمامها صامتة حين رمقتها بنظرة تحمل آثار فعلة الترضى عنها صديقتها فخرج‬
‫صوتها مكتوما ‪ :‬واللـه ماكنش قصدى فى كل اللى حصل ده ‪ ..‬بأحباط نهضت هدى فواجهتها فايزة ‪:‬‬
‫أقعدى بقى وأهدى وماتكبريش الحكاية‪ ..‬تنفخ فى ملل ‪ :‬أنتى مافيش منك فايدة كل مره تعملى مصيبة‬
‫وتقولى ماكنش قصدى ‪ ..‬هكذا هى دائما فايزة تنقاد سريعا النفعالها ثم تتراجع نادمة ‪ ،‬فقد سجل لها‬
‫التاريخ موقفا عظيما داخل السجن فى أعقاب ثورة يناير حين تواترت األخبار محمومة عن أقتحام معظم‬
‫سجون الرجال وأطالق سراحهم على يد مجموعات مسلحة ومنظمة اليعرف حتى األن من أى جهة‬
‫‪7‬‬
‫قدموا ومن الذى دعم وخطط وال حتى من قام بتوجيه ضربة أستباقية لمعظم اقسام الشرطه واطاحت‬
‫بالجهاز األمنى كله خارج المشهد ‪ ،‬حينها أبت فايزة على نفسها أن تقف مكتوفة األيدى فقادت بنفسها‬
‫مظاهرة حاشدة تصدرتها معظم السجينات الالتى يمتلكن رصيدا البأس به من السوابق امثال‬
‫(ناديه الحربايه وصباح أحتقار وسلمى مافيش مانع) بينما فى الخلفية لفيف ال يستهان به ‪ ،‬وعند‬
‫اكتمال الحشد رددن الجميع خلف فايزة شعار الحرية "الشعب يريد فتح السجون" ‪ ،‬لم تهدأ حناجرهم‬
‫لساعة كاملة بال انقطاع حتى وافق مأمور السجن على مقابلة وفد منهن تزعمته فايزة وبعض من‬
‫السابق ذكرهن ‪ ،‬دام األجتماع ثالثة ساعات فى مكتب المأمور حضره مجموعة من السجينات‬
‫وضابطات السجن وبعض السجانات المكلفين بالحراسة وضبط األمن داخل العنابر ‪ ،‬انفض األجتماع ولم‬
‫يعد الوفد إلى الزنازين بل تم أستضافته بالكامل فى مستشفى السجن حيث كانت آثار األجتماع واضحة‬
‫وضوح الشمس فكانت فايزة تعانى كسورا مختلفة ومتنوعة وسحجات بالجبهة وتورم بالعينين‬
‫والصدغين وأصبح اللون األزرق هو صاحب المساحة األكبر فى جسمها خالف الدوائر الرمادية التى‬
‫طبعت على جلدها نتيجة شحنها هى ورفيقات الكفاح بجرعة مكثفة من الكهرباء تكفى كما اشيع يومها‬
‫ألضاءة شقة مكونة من غرفتين وصالة ‪ ..‬عشرة أيام بالتمام والكمال داخل المستشفى ثم خرجن بعدها‬
‫محملين بكمية وافرة من التهديدات والتحذيرات وبعض األصابات التى رافقت بعضهن حتى اليوم ‪ ،‬حيث‬
‫الزالت تعانى صباح بطنين مستمر باالذن اليسرى مع عرج خفيف أصاب الساق اليمنى لشاديه فى حين‬
‫خرست تماما "سعدية "وفاءالنصيحة من الصول " عفاف " عقب " العلقة " ‪ :‬أياك أسمع صوتك تانى‬
‫وبقك ماينفتحش غير لألكل و بس ‪.‬‬

‫حالة من األنتباه المفاجىء سرت فى األجساد المنهكة والمسترخية فى العنبر حين أقتربت أقدام الصول‬
‫"عفاف" بأتجاه باب العنبر لتمد وجهها الشمعى المتصلب تتلصص بين قواطعه الحديدية ‪ ،‬تفتش‬
‫بنظراتها بين المنزوين داخله ‪ ،‬تتشمم بفتحتى أنفها عن أى رائحة غريبة حيث أن المخدرات داخل‬
‫السجن تتداول بوفرة تكفى وتفيض وأحيانا تصدر خارجه !! ‪ ..‬تململت فى وقفتها قبل أن تصفق بكفيها‬
‫كمسحراتى رمضان بعد أن زجرتهم بنظرة ‪ :‬أطفى النور يابت أنتى وهى وياله أتخمدوا ‪ ..‬قالتها‬
‫وأنصرفت ‪ ،‬أشارت هدى بيدها ‪ :‬أطفى النور ياحكمت ‪ ،‬التى قامت ببطء بعد أن أنهت أقتسام قطعة‬
‫حشيش مع عزيزة ‪ ،‬أنطفأت لمبات النيون األبيض لتحل محلها أضاءة صفراء بلون الكركم كان‬
‫مصدرها لمبتان " سهارى" بحجم البيضة البلدى احالت شكل العنبر إلى سجن من عصر المماليك وجعل‬
‫لون الوجوه وكأنها قد اصيبت بمرض الصفرا ‪..‬‬
‫‪8‬‬
‫بعد أن خطفت بعينيها خطفة من وجه هدى الواجم شدت فايزة جسمها واقفة وبنبرة تهديد ‪ :‬ورحمة‬
‫أبويا ياهدى لوما فردتيش وشك وتعدلتى حأروح أجيب البت توحة من شعرها حأكمل عليها وأخليها ليلة‬
‫سودة ‪ ..‬كان صوتها مجلجال ‪ ،‬فضحكت المنبطحات والجالسات والمثرثرات ‪ ،‬كانت ضحكتهن جميعا‬
‫ضحكة رضا وتواطؤ ‪ .‬أبتسمت هدى ‪ .‬خرج صوتها متعبا ‪ :‬طب تعالى أقعدى جنبى ‪ ..‬ألتصقت‬
‫بها مستسلمة ‪ :‬أنتى قلتى عندك خبرين ‪ ..‬خبر قلتيه وكان حيعمل لنا كارثة فى العنبر ياترى الخبر‬
‫التانى زيه ‪ ..‬سألت هدى ‪ ،‬أقتربت منها فى حماسة ماتنفك تزداد ‪ :‬حتة خبر لو طلع صح السجن كله‬
‫حيتقلب ‪ ..‬لم تتمالك مالمحها تصريحات فايزة ‪ ،‬فتناثرت الدهشة والترقب فيها ‪ :‬خبر أيه ده اللى حيقلب‬
‫السجن ‪ ..‬تمتمت بصوت خفيض ‪ :‬النهاردة قبل ما أدخل وردية الغسيل شميت ريحة قلق ولما نكشت‬
‫وسألت من تحت لتحت ‪ ..‬أردفت قبل أن تتوقف عينيها ناحية سرير " أم السيد" ورفيقتها " بحرية "‬
‫وهما سجينتان تخطاهن الزمن وأصبحتا نسيا منسيا فى السجن ‪ ،‬كل من فى العنبر بدأ محكوميته فى‬
‫ظل وجودهما ‪ ،‬ال تفترقان أبدا وبالكاد تتذكر " أم السيد" فعلتها التى جاءت بها إلى هنا فى حين نسيت‬
‫" بحرية " تماما مدة عقوبتها ‪ .‬صرخت فيهما فايزة ‪ :‬نامى يانانا أنتى وهيه بدل ما أنتو قاعدين‬
‫مبحلقين كده ‪ ..‬تابعت هدى ما ستفسر عنه كلمات فايزة القادمة التى واصلت همسها ‪ :‬عرفت أن مأمور‬
‫السجن بيجهز كشف بأسماء المساجين وحيبعتهم لمصلحة السجون ‪ .‬ضاقت عينيها ‪ :‬يعنى أيه مش‬
‫فاهمة ؟ ‪.‬‬

‫ــ الكالم اللى وصلنى أن فى أوامر جت لمصلحة السجون من فوق أوى عن عفو كبير عن المساجين‬
‫وهمه دلوقتى بيحضروا أسامى اللى حيفرجوا عنهم ‪ ..‬تسمرت حدقتيها على وجه فايزة بنظرة ذاهلة‬
‫دون أن تهتدى لجملة معبرة من بين جمل كثيرة متضاربة ‪ ،‬حبست أنفاسها وسكنت كما اليسكن المرء‬
‫إال حين ينام ومرت بها لحظة رهيبة رثت فيها نفسها ‪ .‬أحست بالدموع تتجمع فى عينيها ‪ ،‬فأحكمت‬
‫حجابها حول رأسها وأنسحبت للوراء مستندة إلىظهر السرير ‪ .‬لم تنجح محاوالتها فى أغماض جفنيها‬
‫لحبس دموعها التى أنهمرت منها حين أشاحت بنظرها فى بطء ناحية نافذة العنبر بوابة العيون التى‬
‫تربطهم بالخارج ‪ ،‬وضعت كفيها على فخذيها بطريقة عابرة ‪ .‬لم تشأ أن تغرق فى تفسير أو تحليل‬
‫كلمات فايزة بل بدأ صوتها كأنه يشق األرض ويخرج من أعماق مجهولة ‪ :‬ياه ‪ ..‬ياه يافايزة بتقولى‬
‫عفو عن المساجين ‪ ..‬بأصرار ‪ :‬أيوه ياهدى البلد فيها ثورة دلوقتى وبينى وبينك المشرحة مش ناقصة‬
‫رمم ‪ ..‬تابعت فى ثقة ‪ :‬يعنى الزم حيخرجونا وأنا كلمتى ماتنزلش األرض أبدا ‪ ..‬واجهت كلمات زميلتها‬
‫وعيناها ال تزاالن مصوبتان ناحية النافذة ‪ ،‬من يراها فى تلك الحالة يحسبها تتأمل الجزء الضيق من‬
‫‪9‬‬
‫السماء بحجم النافذة ‪ ،‬بينما هى فى الحقيقة تتأمل جزءا مضيئا من أيام كاملة عاشتها فى فترة شبابها ‪،‬‬
‫بينما "توحة مساج" من سريرها العلوى تتابع همسهما وقد أختبأ نصفها داخله ‪ ،‬فى حين أنشغلت‬
‫فايزة بأخراج سيجارة من علبتها وراحت بعفوية تعد السجاير القليلة الباقية قبل أن تشعل واحدة منها ‪،‬‬
‫نظراتها النارية ظلت مصوبه نحو" توحة " كما ظل عود الثقاب مضغوطا بين أصبعيها ‪ ،‬ترقبها األخيرة‬
‫بقلق ألن ما تبقى لها من سجائر ‪ ،‬قد ال يكفى ألمتصاص كل غضبها ‪ ،‬تنفث دخانها ببطء وتلذذ قبل أن‬
‫تطرده من أمامها فى تبرم وألقت ببصرها ناحية هدى التى كانت تتنهد فى أسى ‪ ،‬تزفر جراحها‬
‫المكتومة فى األحشاء ‪ ،‬تمتمت ‪ :‬تسع سنين هنا يافايزة وكأنهم تسعين سنة ‪ ..‬تنصت لها بتأثر وقد‬
‫غضت عينيها وما بين حاجبيها ‪.‬‬

‫تحاول هدى أن تستعيد األحداث بتراتبها ‪ ،‬كما تواردت إلى ذهنها وكما تتراءى لها عن بعد ممتد إلى‬
‫اللحظة الراهنة ‪ .‬عادت بها الذاكرة إلى تلك األعوام البعيدة ‪ ،‬يالذاكرتها ‪ ،‬فقد كادت تغيب عنها تلك‬
‫األيام ‪ ،‬لم تتذكرها أبدا إال فى هذه اللحظة ‪ ،‬تذكرت وقائع بأكملها من حياتها ‪ ،‬كانت صور الوقائع‬
‫تتالحق كالشرائح ‪ .‬آجل ‪ ،‬فى ذلك المساء البعيد حين أضطربت وتحرك شيىء ما بداخلها بعد أن‬
‫أبصرت وجه " نديم " ألول مرة ‪ ،‬كان ذلك فى مكتب " الحاج قبارى " لألستيراد والتصدير فى منطقة‬
‫المنشية والتى تعمل فيه منذ عام تقريبا بعد تخرجها مباشرة من المعهد الفنى التجارى وبعد وساطة‬
‫" عم مرتجى " الذى يعمل بالمكتب منذ سنوات طويلة وجارعمتها التى تقيم عندها بمنطقة محرم بك‬
‫بعد وفاة والدها حين كان عمرها ال يتجاوز الثامنة بينما والدتها فقد حجبها عنها جدار أعتلى وأتسع مع‬
‫مرور األيام بعد زواجها من آخر فى أقل من عام قبل أن تتعفن جثة المرحوم وترحل معه إلى طنطا حيث‬
‫موطن الزوج وعمله بمديرية الزراعة ‪ ،‬حينها فضلت هدى األقامة مع عمتها التى تعيش وحيدة بعد‬
‫وفاة الزوج وعدم االنجاب ‪ .‬فى فترة قصيرة أنصرفت هدى بكل كيانها إلى العمل الذى أتاحه لها‬
‫" الحاج قبارى " ‪ ،‬وجدت فيه أشباعا وأكتماال لم تعرفهما من قبل ‪ ،‬فتولت معظم أعمال المكتب بعد أن‬
‫آلت لها ملكية مراجعة دفاتر الحسابات والضرائب والتنسيق مع مستخلصى الجمارك بعد رحيل األستاذ‬
‫" عبد الفتاح " مسئول الحسابات إلى العراق التى فتحت أبوابها وشبابيكها لكافة المصريين فى تلك‬
‫الفترة حتى أكتظت بغداد وما حولها بماليين المصريين و كان يقال وقتها أذا غاب المصرى عن منزله‬
‫فى مصر ألكثر من ثمانية وأربعين ساعة تجده فى العراق ‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫ــ مساء الخير ‪ ..‬الحاج قبارى موجود ؟ كانت تلك أول جملة نطق بها " نديم " فى أول زيارة له‬
‫لمكتب الحاج قبارى ‪ ..‬رفعت عينيها اليه وهى تجلس خلف مكتبها ‪ ،‬لم تستطع الرد وال حتى أن ترخى‬
‫جفنيها أمام نظراته ‪ ،‬حيث أن له نظرة قوية نافذة يحدق إلى الناس وإلى األشياء بعينين صارمتان‬
‫بلونهما العسلى لتضفى عليه شيىء من المهابة ‪ ،‬فكانت لنظرته وقع السحر عليها كما كانت نظرة‬
‫" عمر الشريف " لـ " فاتن حمامة " فى فيلم " نهر الحب" ناهيك عن مالمحه الدقيقة وشعره الناعم‬
‫المسحوب إلى الوراء مضيفا له قدرا من الوسامة ‪ .‬لملمت شتات نظراتها وتماسكت فى ردها ‪ :‬الحاج‬
‫قبارى فى مشوار وأدامه ساعة ‪ ..‬أنحنى بجزعه ودنا بوجهه‪..‬ماقالش حيرجع أمتى ؟ أبدت أستغرابا‬
‫وهـى تسند ذقنها بكفها ‪ :‬قلت لحضرتك كمان ساعـة ‪ ..‬يبحث عن امتداد للحديث ‪ :‬متأكده ساعة‬
‫وال أكتر ! ‪ ..‬أبتلعت جملته بضحكة ‪ :‬بصراحة مش عارفة ‪ ..‬سكت ولم يعقب ‪ ،‬زالت عنه القدرة على‬
‫األقتحام كما كان يفعل كثيرا فى كل مغامراته النسائية ‪.‬‬

‫" نديم " هو سلي ل عائلة " السبروتى " نجل خليل بك السبروتى واحد من أعيان مدينة دمنهور وكان‬
‫من القالئل من بنى جيله الذى تزوج بعد تخطيه سن األربعين وذلك ألنشغاله الشديد بتجارته وزيادة‬
‫مساحة أطيانه كما أنه كان " خلبوصا " كبيرا وهو ما توارثه عنه أبنه ‪ ،‬كان زواجه سريعا من أبنة‬
‫عمه " نادرة " التى سبق لها الزواج من " األستاذ فاضل " المحامى الذى أشتهر فى زمام البحيرة كلها‬
‫بمرافعاته القوية النارية داخل المحاكم بينما كان فاشال فى مرافعته أمام زوجته محاوال أقناعها دون‬
‫جدوى بأنه لم يطرق بابا إالوطرقه ‪ ،‬توجه إلى األطباء والعطارين والدجالين ‪ ،‬ألتهم أجولة من األدوية‬
‫واألعشاب بخالف الوصفات البلدى وركام من المراهم والدهانات لعلى وعسى يفيق الغافل ويطوله‬
‫شيىء من القوة والشدة ‪ ..‬لكن هيهات ‪ .‬طفح بها الكيل بعد أنتظار دام أحد عشر عاما أن يخرج الحاوى‬
‫شيئا من جرابه ‪ ،‬حينها قالت مقولتها الشهيرة فى حضورعمتها و"األستاذ أحسان "زوج خالتها‪ :‬أنا‬
‫خالص تعبت ومش قادرة أصبر أكثر من كده ‪ ..‬أنا نفسى فى حتة عيل ‪ .‬تم طالقها فى هدوء ‪ ،‬رشحت‬
‫لها العائلة أبن عمها " خليل السبروتى " الذى تزوجها فى حفلة عائلية محدودة ‪ ،‬وحين أنطلق‬
‫" نديم " من رحم أمه كان يوما أستثنائيا فى حياة والده ‪ ،‬فاضت منه الفرحة وربطته بالدنيا بعد أنفصال‬
‫قصرى عنها على يد ثورة يوليو قبل أن تسبقه شقيقته أيات للحياة قبل مولده بخمس سنوات ‪.‬‬

‫وحين تنامى إلى سمعه أن أسمه يتردد بقوة داخل لجان التأميم والحراسة المنوط بها حصر أسماء‬
‫األعيان واألقطاعيين والرأسماليين فى مدينة دمنهور وأنه أصبح تحت العين ‪ ،‬فأخذته الحماسة والعزة‬

‫‪11‬‬
‫فهتف ‪ :‬األرض زى العرض واللى حيقرب من أرضى حاقتله‪..‬قالها فى حضور بعض العمد واألعيان‬
‫بالبحيرة أعداء ثورة ناصر‪ ،‬وكان عرضه فى ذلك الزمن ثالثمائة فدان بخالف قصر فخم عند مدخل‬
‫مدينة دمنهور أضافة لشقة فاخرة بالحى الراقى بمنطقة محطة الرمل باالسكندرية وقطعة أرض تتجاوز‬
‫الستمائة متر بوسط المدينة بمنطقة الشاطبى وعقار قديم فى حى سيدى جابر ‪ .‬بعد أستدعاء خاطف من‬
‫اللجنة المشكلة للحصر والتأميم بالبحيرة أدرك بعدها أن الحياة لها أولويات قبل األرض والعرض ‪.‬‬
‫ضاق به الحال بعد أن قص رقيب الثورة معظم أطيانه ولم يتبق له سوى أربعون فدانا بعد أستيالء‬
‫اللجنة على كل ممتلكاته بدمنهور ‪ ،‬فنزح بأسرته إلى األسكندرية حيث باقى ممتلكاته التى لم تصلها‬
‫يد اللجنة ‪ ،‬ظل " عم متولى " ناظر زراعته هو همزة الوصل بينه وبين ما تبقى من أرضه ‪ ،‬يديرها‬
‫ويشرف عليها بأقتدار ‪ ،‬فكان خراب محصول الخضار هو حصاد كل عام ‪.‬‬

‫حين أنتقل الجيش المصرى بمعداته الى دولة اليمن الشقيق فى أوائل الستينيات لدعم ثوارها ضد حكم‬
‫األمام ‪ ،‬فى نفس العام أنتقلت " نادرة " على يد عزرائيل إلى جوار ربها تاركة خلفها أيات ونديم وزوج‬
‫محطم بفعل ثورة أطاحت بأحالمه وممتلكاته وحشرته مستجديا األمل فى أبنه الوحيد بعد أن باع كل‬
‫أرضه على يد " عم متولى " ناظر الزراعة ‪.‬‬

‫كبر " نديم " وتخرج من كلية التجارة جامعة األسكندرية بعد معاناة ‪ ،‬توفى بعدها والده بثالث سنوات ‪،‬‬
‫فألت المسئولية كاملة له ‪ ،‬فأصبح مسئوال عن نفسه وعن شقيقته أيات التى كان أحتكاكها محدودا‬
‫بالمجتمع السكندرى فكانت تراقب التطور السريع لما يحدث حولها بنظرية من يأكل طعامه بالشوكة‬
‫والسكين ‪ ،‬أدائها فى الحركة والكالم كان مختوما بختم التحفظ والحذر‪ ،‬لم تكن أيات سوى مقطوعة‬
‫موسيقية حالمة ‪ ،‬حصرها الزمن بين مسيو " الجارد " مدرس البيانو الذى كان حضوره منتظما‬
‫لمنزلهم ثالث مرات أسبوعيا وبين معهد " الكونسرفتوار " التى أدمنت الذهاب اليه يوميا تحلق بين‬
‫أقسامه كالفراشة بين بيانو وآالت وترية والمستحدث منها كالجيتار ‪ ،‬فصنعت حولها جوا رومانسيا‬
‫داخل حدود جغرافية ضيقة ‪.‬‬

‫غــادر " نديم " كرسيه المحاذى لمكتب هدى وغاص فى مقعد جلدى مقابل لها ‪ :‬أنا حاقعـد هنا أستنى‬
‫الحاج قبارى ‪ ..‬أسترخى فى جلسته يتأملها دون أن ترمش له عين ‪ ،‬كان لها حضور مختلف عن كل ما‬
‫عرف من نساء ‪..‬وبالرغم من أفتعالها األنشغال ببعض األوراق التى تفردها وتثنيها فى أرتباك إال أن‬
‫عيناه كانت مبهورتان مما يطل من حدقتيها ‪.‬‬
‫‪12‬‬
‫ــ أنا شايفك مشغولة يا أنسة ‪ ..‬رمته بنظرة ثم أجابت بهزة من رأسها ‪ ..‬قال جملته وأخذ يتلصص‬
‫بنظراته فى ساقيها الرخاميتين من تجويف مكتبها ‪ ،‬لمحته ‪ ،‬فأضطربت وقامت من مكانها ‪ ..‬صاح‬
‫فيها ‪ :‬على فين يا أنسة ؟ ‪ ..‬فلتت منها تنهيدة بعد أن دارت وأستقرت واقفة أمام مكتبها وقد شبكت‬
‫يديها على خصرها ‪ :‬ما ينفعش أقعد على مكتبى وأنت قاعد أدامى كده ‪ ..‬حك جبهته بأصبعه مواربا‬
‫خجله ‪ ،‬ضرب كفيه على فخذيه أستعدادا للنهوض ‪ :‬مافيش مشكلة ‪ ..‬أنا حأمشى وحأبقى أعدى عليه‬
‫فى وقت تانى ‪ ..‬صوبت نظراتها فى أتجاهه وهو يخطو ببطء أمامها بينما هى فى مكانها تحاول أن‬
‫تفلته من ذهنها ‪ ،‬شردت بعدها لثالث دقائق ثم تحركت راجعة لمكتبها تسأل نفسها ‪ :‬الراجل ده حكايته‬
‫أيه بالظبط ؟ نزعت مالمحه ونبرة صوته من رأسها حين رن جرس التليفون اللحوح ‪ :‬أيوه يافندم هنا‬
‫مكتب الحاج قبارى ‪ ..‬فى تلك اللحظة قفزت أبتسامة على وجهها تقاسمتها عينيها وشفتيها ‪ :‬أنت مش‬
‫لسه نازل من عندى دلوقتى مابقالكش تالت دقايق ‪ ..‬أل لسه ماجاش ‪ ..‬أغلقت السماعة بعد أن أنقطع‬
‫صوته ‪ ،‬لكن الزالت نبراته الرتيبة تتسلل اليها يدفعها إلى شرود مفاجىء ‪ ،‬تعبث بأصابعها فى بطء‬
‫بمحتويات مكتبها وهى فى حالة هيام قبل أن تنفض رأسها من غيبوبة اللحظة الرومانسية فى شهقة‬
‫عارضة حين لمحت كارت وكالة األهرام لألعالن ممددا على سطح مكتبها مدون عند أعاله مالحظة‬
‫كانت قد كتبتها باألمس بضرورة األتصال بمكتب العالقات العامة للوكالة للتأكيد على نشر برقية التهنئة‬
‫المقدمة بأسم مكتب الحاج قبارى إلى صاحب الضربة الجوية األولى بمناسبة مرور عشر سنوات على‬
‫أنتصار حرب أكتوبر ‪.‬‬

‫لم تدم تكهناتها طويال عن شخصية " نديم " ‪ ،‬تتسلل اليها معلومات عنه من بين شفتى الحاج قبارى‬
‫حين تفحص بنظارته وهو يجلس على مكتبه كشف طلبيات أعدته له هدى عن أحتياجات بعض التجار‬
‫من االجهزة الكهربائية التى أستقدمها من إيطاليا فى آخر سفرية ‪ .‬تنتزع من لسانه كلمات متناثرة عن‬
‫نديم وسط جمل طويلة عن الحاج يحيى والحاج سيد تاجرى النجف ‪ :‬واللـه لما شفته فى المينا كان‬
‫واقف مع األستاذ فتحى المستخلص وبعدين لقيته جاى نحيتى بيعرفنى بنفسه وفهمت منه أنه بقاله‬
‫سنتين شغال أستيراد على خط إيطاليا ولقيت األستاذ فتحى بيشكرلى فيه وبيقولى أنه راجل كويس‬
‫وعايز يخليه يدخل معايا فى الشغل الجديد اللى حنتفق عليه فى ميالنو ‪ ..‬رفع عينيه اليها بعد أن خلع‬
‫نظارته مكمال ‪ :‬قلت له مايضرش ‪ ..‬رمقته بنظرة تمألها الرضى ‪ :‬مايضرش ‪ ..‬قالتها ساهمة ‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫تقاطيع وجهها ما زالت منقوشة فى ذهن نديم ‪ ،‬أخذت تكبر تدريجيا فتالشى ما عداها وظلت وحدها‬
‫تملىء شاشة ذهنه ‪ ..‬تردد كثيرا على مكتبها وتقرب اليها ‪ ،‬كان يناور بالكلمات ويختار أحسنها ‪ ،‬لمح‬
‫صدرها يعلو ويهبط مع ضحكات طليقة تعقيبا على تشبيه أطلقه على " الست أحالم " صاحبة كشك‬
‫جرايد أسفل المكتب بأن " وشها شبه الشبشب البالستيك " ‪ ،‬كانت ضحكتها تنطلق من أعماق وردية‬
‫مرحة ‪ ،‬شيئا فشيئا أستحوذ على أهتمامها ‪ ،‬راح يقتفى خطاها من بعيد ‪.‬‬

‫فى ذلك المساء الشاتى وقد غادرت مكتبها كان ينتظرها ‪ ،‬أقترب منها بجرأة شاركها مظلتها ‪ ،‬تسمرت‬
‫فى مكانها مثل تمثال قبل أن تتراجع للوراء ‪ :‬ماينفعش كده ياأستاذ نديم ‪ ..‬لم يعقب كانت عيناه تتولى‬
‫الرد ‪ ،‬كثيرا ماكانت تحدث نفسها وفى قليل من األحوال كانت تحدث عمتها التى تصل اليها الكلمات‬
‫بصعوبة حيث أن " الطرش " الزمها منذ خمس سنوات ‪ :‬ماأقدرش أغمض أو أرمش بعينيه أدام‬
‫نظراته يا عمتى ‪ ..‬تناول من يدها مظلتها وأختبأإلى جانبها من زخات المطر ‪ ،‬أطل من مخبئه باحثا عن‬
‫األمان ‪ .‬شيىء ما ال يعيه أرتفع من بقعة مظلمة خفية فى روحه أرتعشت لها موجات فى دمه كأنها‬
‫تشق طريقها وتتراقص فى شرايينه بقعا من الضوء‪ ،‬شيىء ما دفعه دون أن يدرى الى أن يمد أصبعه‬
‫ويمر به بين أصابعها ‪ ..‬أرسلت نعومة األصابع وطراوتها فى بدنه رعشة لذة ‪ .‬رائحتها تسربت الى‬
‫شرايينه وهو فى قمة األنبهار بسواد عينيها وأكتناز شفتيها قبل أن ينزلق ببصره فى منحدر العنق‬
‫الناعم مطل على واد بين هرمين صغيرين ينتفضان فى قفصهما الشفاف ‪.‬‬

‫كان الحب قد أخذ يدق أوتاد مظلتها ‪ ،‬كانت سعادتها قد فاضت دون أرادتها فما كانت تعلم أن الحب‬
‫سيثير كل تلك السعادة ‪ .‬تزحزح من جوارها فى خطوة مفاجئة ليطالعها بجسده ‪ ،‬أصبح مواجها لها‬
‫متتبعا عينيها يرشقها بنظراته القوية العميقة الطويلة بعد أن تراخت قبضته الممسكة على المظلة لترقد‬
‫مقلوبة بجوار قدمه ‪ ،‬عاد الى طريقته القديمة فى جرأة األقتحام ‪ ،‬حاولت أن تتحاشاه وكأنه سلك‬
‫كهربائى عارى ‪ .‬فباغتها بسؤال مباشر ‪ :‬تتجوزينى ياهدى ؟ ‪ ..‬مبدية أقصى درجات الدهشة فى أتساع‬
‫عينيها ‪ :‬أنا ‪ ! ..‬لم يتمهل طويال ‪ :‬أيوه أنتى يا هدى ‪ ..‬أنتابها شعور من ربح مليون جنيه ‪ ..‬أنتظر‬
‫لحظات وهو يحاصرها بنظراته قبل أن تجيب ‪ :‬أنت ما تعرفش أى حاجه عنى ؟ ‪ ..‬أنفرج وجهه عن‬
‫أبتسامة من حصل على نتيجته عن طريق الكنترول ‪ :‬أنا عارف عنك كل حاجة من يوم ما أتوفى األستاذ‬
‫عبد الفتاح والدك وجواز والدتك اللى عايشة دلوقتى فى طنطا ‪ ..‬لغاية عمتك اللى أنتى عايشه معاها فى‬
‫محرم بك ‪ ..‬أستقبلت تحرياته بفم مفتوح وعين ذاهلة ‪ ،‬داهمتها دهشة وأستغراب كان يقطعهما رذاذ‬

‫‪14‬‬
‫المطر المتساقط على رأسيهما الذى ألصق بخديها خصال من شعرها فبدا وجهها مثيرا ‪ .‬أقترب أكثر ‪:‬‬
‫قلتى أيه ؟ ‪ ..‬نظر فى وجهها فطمأنته بهزة من رأسها قبل أن تنوه ‪ :‬أرفع بقى الشمسية غرقنا ‪..‬‬
‫حينها تفككت مالمحه الى ابتسامات متناثرة تقاوم رشح الماء من رأسه الى صدغيه بينما اصاب الخجل‬
‫هدى فسبقته بخطوة واحدة حين لمحته يفتش فى جسمها الذى ألتصق بمالبسها بفعل المطر ‪ ..‬أيقن أنه‬
‫أختار مقاييس منضبطة للجمال ‪.‬‬

‫‪00000000000‬‬

‫رفعت " أيات " أصابعها ببطء عن أصابع البيانو األسود العتيق حين دخل " نديم " مبتسما واضعا يديه‬
‫فى جيب بنطلونه لتقف مقطوعة " عمر خيرت " التى تلعبها بأتقان عند منتصفها ‪ ،‬دارت بكرسيها لفة‬
‫كاملة مولية البيانو ظهرها ‪ ،‬تبادل معها النظرات ‪ ،‬كان جادا على غير العادة قبل أن ينفرج وجهها عن‬
‫أبتسامة مندهشة ‪ :‬مش عوايدك يعنى يبقى شكلك جد كده ! ‪ ..‬سار بخطوات متمهلة متحاشيا سريرها‬
‫الضخم الممدد فى منتصف غرفتها الواسعة والذى يعلوه كشواهد القبور تلك العيون التى ترصدها دائما‬
‫وهى نائمة من داخل إطارها المعلق حيث صورة ألمها بجوار والدها بطربوشه األحمر المائل مسنودا‬
‫على أذنه اليسرى بينما مالت أمها الراحلة برأسها على صدغ المرحوم الذى كان فى حالة تخشب وكأنها‬
‫صورة فى كتاب الموتى والتى تم ألتقاطها داخل أستديو " ريو" بشارع فؤاد وصورة أخرى أليات‬
‫مرفوعة الرأس نافرة الصدر تقف داخل فستان " كاروهات " موضة " راقية أبراهيم " والى جوارها‬
‫مسيو " الجارد " بوجهه النحيف تتلبسه بدلة ظهرت فيها رأسه طافية خارج الياقة ورقبته مربوطة‬
‫بـ " ببيون " كالشراع يضبط حركتها بينما باقى جسده غارقا فيها ‪ ،‬يظهر بيانو فى خلفيتها والى يساره‬
‫بعض الوجوه الصغيرة بالكاد تظهر مالمحها يظللها صورة للعلم الفرنسى حيث أن الحفل مقام فى‬
‫المركز الثقافى الفرنسى تخليدا لذكرى ثورتهم ‪ ،‬أجادت يومها أيات فى العزف تحت أشراف " الجارد" ‪،‬‬
‫فحازت أعجاب رئيس المعهد الذى أشاد ‪ :‬يامدموازيل عزفك كتير هايل ولو كان البيانو فى مصر منتشر‬
‫زى العود كنتى حتبقى بيانيست هايل ‪.‬‬

‫قامت " أيات " تتحرك نحو" نديم " بعد أن أستشفت من نظراته أن هناك أمر يود البوح به ‪ :‬فى أيه‬
‫يا نديم ؟ ‪ ..‬سحب كرسى قرب النافذة وأتجهت هى الى كرسيها الهزاز ‪ ،‬كانت خطوتها تنم عن أنها‬
‫تسكن فى جسد متعادل مفصل ووجه مستدير يحيطه شعر قصير فى قوسين ‪ ،‬تكسو مالمحها لمعان‬
‫الغنى ومهابة الهوانم وكأنها أميرة من زمن األمراء ‪ ..‬لحظة أرتباك مرت بينهما فى صمت حتى قطعها‬
‫‪15‬‬
‫قائال ‪ :‬أنا قررت أتجوز يا أيات ‪ ..‬بعد أن أحتوت دهشتها ‪ .‬سألت ‪ :‬واحدة نعرفها ؟ ‪ ..‬سرد قصته مع‬
‫هدى مختصرا التفاصيل وأنتظر بدوره سماع تعليقا أو تعقيبا ‪ ،‬لم تملك القدرة على التعليق والمجادلة ‪،‬‬
‫لم تستطع أن تقدم مالحظة أو أن تبدى رأيا ‪ ،‬كانت كالموصوم بفعلة ‪.‬‬

‫ــ لو أنت شايف يا نديم أنها تليق بيك يبقى خالص ‪ .‬قالتها من باب الحرص على المشاركة ودون‬
‫أن تنظر فى عينيه ‪ ،‬لم يفصح لها عن تفاصيل ماينوى فعله مكتفيا بنظرة حزينة شملت خريطة‬
‫وجهها قبل أن تسحب نظراتها فى هدوء بأتجاه نافذة الغرفة ‪ ،‬كان عليه أن يقدم بعض النصائح قبل‬
‫خروجه ‪ :‬أنسى بقى يا أيات وأرجعى زى زمان أنتى مش أول وال أخر واحدة تتطلق ‪ ..‬تهز رأسها فى‬
‫بطء دون رد ‪ ،‬لم يخرج من الغرفة حتى أنحسرت مالمحها عن أبتسامة واهنة مصحوبة بما ينتظره ‪:‬‬
‫مبروك يا نديم ‪.‬‬

‫بقيت فى مكانها شاردة كالذى أسلم الروح ‪ ،‬أنتزعت نفسها من كرسيها الهزاز التى ألتصقت به منذ‬
‫ثالث ساعات من لحظة خروج أخيها من غرفتها ‪ ،‬أجهزت فيها على فنجانين قهوة وقرص مهدىء‬
‫تحت رعاية " نجاة الصغيرة " وهى تشدو بصوتها أغنية " نسى " ثم أربع مقطوعات موسيقية‬
‫لـ " عمر خيرت " على شريط كاسيت مدته ساعة ‪ ،‬قامت الى النافذة المسدودة بستارة قطيفة رمادية‬
‫طالعت بعينيها‬ ‫حولت نهار الغرفة إلى ليل ‪ ،‬سحبت نفسا طويال بعد أن ازاحت جزءا منها ‪،‬‬
‫صورة البحر الذى بدا من بعيد وكأنه أعلى من البناية ‪ ،‬منظر البحر دائما يخفف عنها أنقاض الكآبة‬
‫المكدسة فوق رأسها ‪ ،‬تتبعت بنظراتها بقية اللوحة الربانية حيث السماء تمر أمام عينيها منقوش فيها‬
‫دوائر بيضاء متداخلة تبدو مجسمة منفوشة كالقطن تتخللها خطوط باهتة البياض تسقط عند تالقى‬
‫البحر بالسماء ‪.‬‬

‫نشط هذا التابلوه ذاكرتها ‪ ،‬فأستعادت مامرعليها من تابلوهات قاتمة األلوان ‪ .‬تنقاد خلف سنين لم‬
‫تستطع حتى اللحظة ابتالع تفاصيلها ‪ ،‬تعبر فوق جلدها قشعريرة حين أستعادت مشهد دخولها فى ذلك‬
‫اليوم إلى معهد الموسيقى " الكونسرفتوار " بخطواتها المعتادةالواثقة فى الممر المؤدى إلى قسم‬
‫البيانوعشقها األول ‪ .‬أضطرت أيات فى تلك الفترة أن تحافظ على أفكارها المناوئة لألنقالب المجتمعى‬
‫الحاصل وأنهيارمكانة العائالت العريقة فى القطر المصرى ‪ ،‬إال أنه كان محافظا على تواجده داخل‬
‫المعهد حيث شكل أبناء وأحفاد تلك العائالت األغلبية الساحقة‪ ،‬الزمها أنتماء شديد للطبقة االرستقراطية‬
‫المحافظة ‪ ،‬كانت لها نصيحة مكررة دائما ماتقولها بحماسة منقطعة النظير تلقيها فى األذان المنصتة‬
‫‪16‬‬
‫من أفراد طبقتها ‪ ،‬أن يحفظوا وحدتهم وتماسكهم مذكرة بأنهم األصل وأصحاب البالد ‪ ،‬غير أنها رفضت‬
‫األقتران من أبناء طبقتها رافضة التنازل عن رومانسيتها الحالمة ‪.‬‬

‫فى لحظة مفاجئة ومذهلة فى تاريخ ايات أندلعت شرارة الثورة األولى فى قلبها وكيانها كله فى الثامن‬
‫من مايو لعام ‪ 1974‬فى تمام الرابعة عصرا وذلك فى داخل قاعة البيانو بالمعهد حين مالت على أذنى‬
‫صديقتها وزميلتها األنتيم " فوقية " نجلة سفير مصر السابق فى روما ‪ .‬مستفسرة ‪ :‬مين الشاب ده‬
‫يافوقية اللى بيلعب على البيانو ‪ ..‬دون أكتراث ‪ :‬ده األستاذ شاكر مدرس البيانو الجديد اللى أتعاقد معه‬
‫المعهد والنهاردة أول يوم له ‪ ..‬معزوفة " إال أنت " لـ " نجاة الصغيرة " هى أول ما وصل لمسامعها‬
‫من عزف األستاذ شاكر ‪ ،‬فكانت كافية للفت أنتباهها قبل أن يستحوذ على نظراتها ‪.‬‬

‫األستاذ " شاكر " كان وسيم يدير الحديث بلباقة وأنسياب يعجز معه أى نوع من المقاومة ‪ ..‬كان بالغ‬
‫الرقة ‪ .‬وكعادة النازحين من الطبقات الفقيرة والتى ينتمى اليها بجدارة األستاذ شاكر ‪ ،‬حين تتيح لهم‬
‫الظروف التواجد بين طبقة األرستقراطية المصرية يكون الطموح هو جوهر العالقة يحرسه شعار‬
‫" من جاور السعيد يسعد " ‪ ،‬سأل وأستفسر وفهم الكثير عن شخصيتها القوية بدءا من أنحيازها التام‬
‫إلى طبقة باتت على شفا األنقراض نهاية برومانسية تفيض منها كمد البحر ‪ .‬تربص بها ‪ ،‬أقتحم حياتها‬
‫بال دعوة ‪ ،‬ال تفارق عينيه ‪ ..‬يتابع حركاتها داخل المعهد ‪ ..‬كان شيىء فى عينيه أضاف عليها أرتباك‬
‫لم تفهمه ‪ ،‬يقتنص جائزته حين يفوز بنظرة أو أبتسامة منها ‪ ،‬غير أنه يعرف جيدا ما يمتلكه هو نفسه‬
‫كرجل من أمكانيات يجذب بها النساء وقد أختبر هذا كثيرا ‪ ،‬هى أيضا أمتلكته بقوة األنثى وبجمالها‪..‬‬
‫بالرغم من كثرة التناقضات بينهما إال أنه ذاب وتالشى بعد أن أذهلها وشدها اليها ‪ .‬باتت قنبلة الحب‬
‫الموقوتة على وشك األنفجار داخلها تحت وطأة كلماته ونظراته التى أستهدفت كل جزء فيها ‪ ..‬ثالث‬
‫شهور كاملة كانت كافية كى يفك حصاره من حولها بعد أن أيقن بوادر األستسالم ‪ ..‬حين أعلن بيانه‬
‫األول ليعلنها بنبرة تطفح منها مذلة الفقر والمسكنة ‪ :‬ممكن أيات تتنازل وتقبل أنها تتجوز من واحد‬
‫فقير ماحلتهوش أى حاجة يملكها فى الدنيا غير قلب بيحبك ‪ ..‬قالها وتراجع خطوتين للخلف حين أدرك‬
‫سريعا أن هناك مسافة البد من حسابها ‪ ..‬سكتت تنصت لصوت أنفجار قوى يأتى من أعماقها ينسف كل‬
‫ماتجذر فى كيانها ‪ ،‬أحست بأن جلدها يسقط منها وعقلها يعاد تدويره من جديد وأن تاريخا خلفها ينخلع‬
‫من مكانه كضرس العقل ‪ .‬بيانه الموجز عاد بها إلى لحظة صراع داخلى شهدت معركة قاسية بين‬
‫الثابت والمتغير ‪ ،‬كان ذلك حين خاطبها الزعيم الراحل " جمال عبد الناصر " وخاطب معها المصريين‬

‫‪17‬‬
‫والعالم كله بعبارات التنحى بعد هزيمة ‪ ، 67‬فالرجل هو عدوها األول وعدو طبقتها ‪ ،‬هو سارق األطيان‬
‫واألمالك تحت مسمى " التأميم " ‪ ،‬هو المسئول األول فى نظرها عن تسليم أمها جثة محسورة‬
‫لعزرائيل وقبل أن يدفع بوالدها الى أحضان " قهوة التجاريين " بمنطقة المنشية قعيدا ذليال بين نخبة‬
‫من أصحاب المعاشات المرضى ومجموعة الموظفين من دفعة " نكمل عشانا نوم " كانت فرحتها‬
‫طاغية فى مواجهة حزن ودموع ماليين المصريين ‪ ،‬وقبل أن ينهى "جمال" خطابه كانت قد أنضمت‬
‫دون أن تدرى الى حشود المصريين تبكى وتهتف ببقاء الزعيم ؟ ! أنتهت اللحظة وكان السؤال ‪ :‬على‬
‫ماذا فرحت وعلى من بكت؟‪..‬انتهى صراعها الداخلى امام بيان "شاكر" بالضربة القاضية بعد أن سقط‬
‫عنها زمن األسماء واأللقاب‪ ..‬انتظر اجابتها على عرضه ‪ ،‬فما كان منها إال أن غرزت نظرتها القوية‬
‫فى عينيه قبل أن يسترخى على حدقتيها‪ ..‬نطقت فى تحد ضد كل مادافعت عنه ‪:‬موافقة ياشاكر‪.‬قالتها‬
‫وهى تتلفت ‪ ،‬ثم مالت نحوه حين أنحنى يختطف يدها يغمرها بقبالت مبتلة محمومة ‪ ،‬فكان الحب هو‬
‫الناطق الرسمى عن كيانه كله ‪.‬‬

‫صالت وجالت وطافت معه فى شــوارع األسكنــــدرية ‪ ،‬ذاقت معه طعم " الصعلكة " تاهت فى أفكـــاره‬
‫وأعجبها طموحه حين حدثها عن أفكار تراوده عن التوزيع الموسيقى كما أخبرها بانه فى أنتظار القدر‬
‫أن يتيح له الفرصة لتحقيق ذلك‪ .‬أرادت يومها أن تتخذ خطوة مهمة ‪.‬‬

‫دعكت أيات عينيها بتوتر وهى منزوية فى ركن الصالة فى انتظار عودة شقيقها من الخارج بعد أن‬
‫قررت مفاتحته فى حكايتها مع "شاكر"‪ .‬تنازعتها التخمينات حول ردوده المتوقعة قبل ان تداهمها‬
‫حوارات سابقة دارت بينهما ‪ ،‬دائما ماكان يحاول استدراجها الى واقع الحياة ‪ ،‬لم تنس نبرته المستجدية‬
‫حين حدثها ‪ :‬يا أيات يا حبيبتى الزم تفهمى أن الدنيا دلوقتى أتغيرت وماعدش ينفع تقضى كل أيامك بين‬
‫البيانو والمعهد ‪ ..‬الدنيا فيها حاجات أهم ‪ ..‬إال أن ما يحصل عليه دائما كانت أجابات غير مقنعة ‪ :‬أنا‬
‫أختك الكبيرة يا نديم وعارفة مصلحتى كويس ‪ ..‬ياريت تفهم أن المشكلة فيك أنت وفى تصرفاتك اللى‬
‫خلتك تنسى أصلك وتنسى أنت مين وأبن مين وكفايه عليك سرمحتك ليل ونهار ‪..‬أرتفع صوتها قبل أن‬
‫تسحبه من معصمه باتجاه المرآة ‪ :‬قوم شوف شكلك بقى عامل أزاى شعرك مغطى ودانك وقميص‬
‫مشجر مفتوح منه زرارين وبنطلون شارلستون ‪ ..‬فى ملل سحب نفسا طويال ‪ ،‬بدا األمر مرهقا له بعد‬
‫أن مل نمطها ‪ :‬ياأيات أنا بحب حياتى كده وعايش جوه الزمن بأخد وأدى مع الدنيا ‪ ..‬قالها بعد أن أفلت‬
‫معصمه من يدها ثم أستدار ليواجهها ‪ :‬مش الزم أتجمد فى الماضى وأبقى عبد لذكرياته وأفضل عايش‬

‫‪18‬‬
‫فيها ليل ونهار واللى أصال مافيش حد فاكر منها حاجة ‪ ..‬عال صوتها صوته ‪ :‬ما فيش حاجة بتتنسى ده‬
‫ماضينا وتاريخنا هو ده أصلنا والناس كلها عارفة يعنى أيه عائالت كبيرة ومحترمة ‪ ..‬سبقته ضحكة‬
‫ساخرة كانت المرارة عنوانها ‪ :‬يا أيات مافيش حد فاكر حاجة من العائالت دى ويادوب اللى فاضل مننا‬
‫أسامى وشوية صور مركونة على الحيطان مالها التراب ‪ ..‬ياريت تفوقى وتشوفى أحنا عايشين فين ‪..‬‬
‫أحنا ياحبيبتى دلوقتى فى زمن تانى والناس بقت غير الناس والشعار اللى مرفوع اليومين دول فتح‬
‫عينك تأكل ملبن ‪ ..‬السادات عمل أنفتاح والمليونيرات اللى موجودين دلوقتى كانوا سباكين وحدادين‬
‫وسوابق همه دول اللى بقوا أسياد البلد ‪ ..‬مسح بيده كتفها ثم أردف ‪ :‬بابا اللــه يرحمه هو اللى علمنا‬
‫وفهمنا أزاى نحافظ على عاداتنا وعلى أسم عيلتنا و فى آخر سنتين قبل مايموت سلم أمره للزمن وغير‬
‫حياته عشان يقدر يعيش ‪ ..‬فيه حد يصدق أن بابا اللـه يرحمه " خليل بك السبروتى " يقعد فى قهوة‬
‫درجة تانية وكمان يبقى له فيها صحاب ‪ ..‬فتحت شفتيها عن تنهيدة أسى ‪ :‬عشان كده ما أتحملش‬
‫ومات من القهرة ‪ ..‬لوت رقبتها بأتجاه صورته وقد سقط على رأسها آخر مشهد له فى الحياة حين عاد‬
‫من سهرته المعتادة فى قهوة التجاريين بعد أن أرهقه حديث طويل جادل فيه بقوة األستاذ " فتحى"‬
‫واألسطى " عثمان " وعم " فرحات " عن فائدة شرب الينسون صباحا فى حين أعترض أصدقاءه‬
‫بقوة وأكدوا أن فائدته تكون مساءا ‪ ،‬جلس وحيدا فى غرفته بعد أن أستخرج ألبوم صوره العتيق من‬
‫مقبرته فى درج خزانته ‪ ،‬قلب فيه ببطء يقرأ وجوها أختفت عن الوجود وكانت طعاما لدود األرض ‪،‬‬
‫توالت منه ضحكات متدرجة حتى دمعت عيناه حين ثبت حدقتيه فى وجه " متولى " ناظر زراعته الذى‬
‫أنحنى على يده يقبلها وهو واقف كاألسد وسط أرضه الممتدة أمام عينيه يتابع حصاد محصول‬
‫" البسلة " داهمته كل الذكريات ‪ ،‬وفى لحظة مباغتة تالشت كل الصور تباعا لتحل مكانها صورة واحدة‬
‫كبيرة تجسدت فى فراغ الغرفة لم يستطع جمع تفاصيلها قبل أن يدوى فى أذنه ذلك النداء األخير ‪..‬‬
‫أستدعاء فورى على يد عزرائيل ‪ ،‬فأسلم الروح فى هدوء تاركا وجه " متولى " مكفيا على يده ‪ .‬بعد‬
‫وفاة األب سقطت المسئولية كاملة على رأس " نديم " ‪ ،‬وأصبح مسئوال عن نفسه وعن شقيقته ‪،‬‬
‫كانت مسئولية ثقيلة لم يعتادها بعد أن أنطوى لفترة على نفسه قبل أن يستمتع بغرائزه وفتوته وشبابه‬
‫مكتفيا بما يتحصل عليه من ايجار شهرى عن عمارة سيدى جابر قبل أن يتم بيعها لمواجهة النفقات ‪.‬‬

‫تتداعى فى رأسه التصورات حول قطعة األرض الفضاء ‪ ،‬كان ألحاح " عم سيد" سمسار منطقة‬
‫الشاطبى مربكا حين قدم له عروضا مغرية من شركات مقاوالت وأفراد لشراء األرض أو حتى بالحد‬
‫األدنى فى شراكة لبناءها والتى تنبأ مساحتها عن أنها كافية النجاب برجين كاملين ‪ ،‬اال أنه كان دائم‬
‫‪19‬‬
‫التراجع ويعاود التفكير مرات ومرات خصوصا وأن أخته دائما ما تكون على الحياد ال تبدى رأيا وال‬
‫حكما إال ما تنطق به من عبارات تحذيرية ‪ :‬خلى بالك يا نديم وراجع نفسك قبل ما تأخد قرار فى أرض‬
‫الشاطبى عشان دى الحاجة الوحيدة اللى بقت فاضلة لينا ‪ ..‬قالتها وربتت على كتفه قبل أن تنثر عليه‬
‫بعض الكلمات المشجعة ‪ :‬وأنا متأكدة أنك حتفكر صح وحتأخذ القرار السليم ‪ ..‬كان يدرك مخاوفها من‬
‫المجهول أو من أى " لطشة " تؤدى الى اتخاذ قرار قد يهدر ما تبقى من ثروة فتهوى بهما الى هاوية‬
‫فقر سحيقة ‪.‬‬

‫يتجه " نديم " الى بنايته عقب لقاء طويل جمعه بثالثة أداريين موفدين من أدارة السيرك القومى فى‬
‫القاهرة الستطالع رأيه حول موافقته على تأجير األرض لمدة ثالث سنوات القامة عروض صيفية‬
‫للسيرك ‪ ،‬كان البد له من قرار حاسم أما البيع أو المشاركة أو التأجير ‪ .‬تاه فى الوصول الى أختيار‬
‫محدد ‪ ،‬فما كان منه كالعادة إال أن يلجأ للمشورة ‪ ،‬فأنتفض يجهز ألجتماع طارىء ألهل مشورته الذى‬
‫يثق فى صحبتهم وهما " نوح" البواب والخواجة " كرم سباستيان " جاره الذى يسكن الطابق الرابع ‪.‬‬

‫أخترق نديم شارعا صغيرا عند ناصية القنصلية االيطالية لتطالع عينيه ظل بنايته ذات الطراز األيطالى‬
‫القديم بنوافذها الطويلة وشرفاتها المستطيلة التى ترتكز أسوارها على أعمدة حجرية دائرية ‪ ،‬تسارعت‬
‫خطواته بأتجاه المدخل الذى يجمله بوابة على شكل قبة هائلة تنام على أعمدة تشبه أعمدة المعابد‬
‫يتوسطها باب حديدى ضخم مزخرفا عليه أشكال زهرة اللوتس وأرضية من رخام الكرارة األبيض عند‬
‫نهايتها ستة درجات رخامية المعة وقف عند أخرها عم " نوح " منتصبا بقامته الطويلة بالرغم من كبر‬
‫سنه اال أنه كان مستقيم الظهر من غير أنحناء بينما تداخل األلوان فى مالمحه يميزه ‪ ،‬بشرة سوداء‬
‫حيث أنه من أنتاج الجنوب وشعر أبيض كثيف يتوج رأسه وعينان ضيقتان يميل بياضهما إلى الحمرة‬
‫داخل خضم السواد وتحمل شفته الزرقاء شارب أبيض ‪ ،‬للوهلة األولى تدرك من هيئته وكأنه من‬
‫زعماء أفريقيا أبان فترة التحرر ‪.‬‬

‫أصطحب " نديم " عم " نوح " فاردا ذراعه حول كتفه ناحية المصعد ‪ ،‬حاول نوح الشهير بحكيم‬
‫العمارة كما لقبه الخواجة كرم أستدراجه كى يفهم سببا لالجتماع الطارىء ‪ :‬وقعت نفسك فى مشكلة‬
‫وال حاجة ‪ .‬تساءل نوح ‪ ..‬أبتسامة خفيفة قبل أن تصعد عينيه إلى سقف المصعد ‪ :‬أبدا ياعم نوح ده‬
‫أجتماع للمشورة بس ‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫ــ اللــه المستعان يابنى ‪ ..‬كانا قد وصال الى الطابق الرابع واألخير ‪ ،‬أبطأ أمام شقة الخواجة قبل أن‬
‫يغرز نوح أصبعه فى جرس الباب ‪ ،‬ثم نظر فى ساعته أعقبها بألتفاتة إلى نديم ‪ :‬تالقى الخواجة دلوقتى‬
‫مشغل مزيكة وتايه فى ملكوته ‪ ..‬بينما كانت خطوته من الداخل تقترب من باب الشقة حتى بلغه ‪،‬‬
‫ليطالعهما الخواجة متصدرا الباب وقد أختلج وراء النظارة جفناه ووجهه المنتفخ وقد زينته لحية‬
‫كالقطن بياضا وقامة متوسطة تحمل جسد ممتلىء خاصة عند البطن ‪ ،‬الشقة سابحة فى نهار نفذ إليها‬
‫من كل ركن ‪ .‬تجاوز " نوح " الباب ومن خلفه نديم الذى لم يسلم من نظرات الخواجة فى محاولة‬
‫منه لقراءة سببا للزيارة المفاجئة ‪ :‬زيارتك فى الوقت ده بتقول أن فى حاجه مهمه ‪ ..‬لم يتلق ردا‬
‫وواصل نديم تقدمه منفردا إلى غرفة األستقبـــال بعد أن أنحرف نوح بأتجاه المطبخ بموجب أشارة من‬
‫الخواجة ‪ :‬أعملنا قهوة يانوح ‪ ..‬غرفة أستقبال هادئة شحيحة األثاث إال من صالون جلدى تناثر فى‬
‫أركانها وأن كانت الشقة فى معظمها على نفس الحال فهو عاشق للبراح ‪ ،‬تطل كل نوافذها على‬
‫كورنيش األسكندرية ‪ ،‬أنكمش نديم داخل الكرسى الجلدى فى مواجهة لوحة تتصدر الحائط رسمت‬
‫بألوان زاهية لساحة عتيقة فى أثبنا تشبه ساحات القصور الملكية المزروعة بالخضرة وبالتماثيل بينما‬
‫تدور فى أذنيه موسيقى يونانية ذات نمط واحد أولها كأخرها تخرج من كاسيت أعياه الزمن وبجواره‬
‫تكدست مجموعة من الكتب بعناوين أنجليزية وآخرى يونانية ينحشر بينهما ثالثية نجيب محفوظ ‪.‬‬

‫الدكتور " كرم أندرياس سباستيان " هو نفسه الخواجة " كرم " مصرى بالفطرة حتى النخاع برغم‬
‫أنتمائه ألبوين من أصل يونانى ‪ ،‬تربى مع شقيقته " ألفى " التى تسبقه بعامين ‪ ،‬فهو من مواليد حقبة‬
‫األربعينيات بحى العطارين حين كان األجانب لهم بصمات محفورة فى كل مدن مصر وخاصة فى‬
‫االسكندرية ‪ ،‬كان من المستحيل هناأن تعبر طريقا أو ميدان دون أن تنظر فى مالمح أجنبى أو دون أن‬
‫تسمع لغة أجنبية ‪ .‬كانت األسكندرية تبدو وكأنها تنتمى الى ما وراء البحر أكثر مما تتنتمى الى ماوراء‬
‫النهر ‪ .‬قبل أن يترك والده " أندرياس " محل بقالته الصغير بحى العطاريين وينتقل الى منطقة المنشية‬
‫حيث أنشأ مصنعا للبسطرمة ذاع صيته فى غضون سنوات قليلة وتربع على عرش " البسطرمة "‬
‫منفردا ‪ ،‬كان ساعده األيمن فى كل نجاحاته من بداياته المتواضعة إلى أن أصبح رجل صناعة ملء‬
‫السمع والبصر وهو العامل السكندرى " كرم حجازى " كان يحترم فيه أمانته وأخالصه ‪ ،‬فكان الخواجة‬
‫جريئا ولم يتردد حين أطلق أسم " كرم " على مولوده الثانى مما سبب له حرج وأستهجان معظم‬
‫الجالية اليونانية باالسكندرية ‪ ،‬أنتقل الخواجة وأسرته إلى تلك البناية بمحطة الرمل فى أواخر‬
‫األربعينيات ‪ ..‬مع أنتهاء تلك الحقبه حتى شاعت سنوات الهياج واألنفعال مصاحبة لثورة يوليو ‪ 52‬التى‬
‫‪21‬‬
‫راحت تضرب بكل أدواتها ممتلكات األجانب ‪ ،‬فكان الخواجة " أندرياس " هدفا ثابتا ال ينقلب وال يتبدل‬
‫بعد أن فطنوا لمصنع البسطرمة والمخازن التابعة له فتم تأميمها ‪ ،‬حينها أدرك " كرم " أن للحياة‬
‫وجوها آخرى ‪ .‬لم يتساءل وقتها لكنه تساءل فيما بعد ‪ ،‬أدرك " أندرياس" بأن أى تردد فى العودة إلى‬
‫اليونان سيكونون عرضة لما هو أسوأ ‪ ..‬سافروا ‪ ،‬مضوا دون أمتعتهم فقط ما خف حمله مما تتسع له‬
‫حقيبة اليد ‪ .‬تركوا كل شيىء بأستثناء هذه الشقة فى تلك البناية ‪ .‬كان الرحيل القصرى يضفى على‬
‫" كرم " مرارة مشوبة بأفتقاد شيىء جميل عاشه والفه وشيىء غامض مرتقب يحاول عبثا أن يصنع‬
‫به رسما لما ستكون عليه حياته ‪ .‬غاب " كرم " سنوات أختفى فيها فى اليونان ‪ ،‬لكنه لم ينقطع عن‬
‫زيارة األسكندرية ‪ ،‬بعد وفاة والديه تخرج طبيبا فاشال من جامعة أثينا فعوض فشله فى مجال الطب‬
‫بفشل جديد فى مجال األدوية أخذت من عمره عدد من السنين بينما كان " نوح " فى فترة غيابه سفيرا‬
‫مفوضا لدى " كرم " على األرض السكندرية ‪ ،‬كان يباشر رعاية الشقة من تنظيف وتهوية وسداد‬
‫أيجار ‪ ،‬فكان بحق مخلصا وأمينا فأستحق عن جدارة لقب الصديق الحميم للخواجة وأصبح األنسجام‬
‫والتناغم هو شعار تلك الصداقة بالرغم من تلك األختالفات الجوهرية الصارخة ‪ ،‬لكن تميز شخصية‬
‫نوح وتفرده بخصوصية دون سواه من مجتمع البوابين السابقين والالحقين فيما يملكه من حكمة‬
‫وخبرة طويلة فى كافة األمور الحياتية بجانب تبحره فى األمور السياسية ‪ ،‬ودائما ما يذهب بتحليالت‬
‫موفقة فى أى دائرة حوار مهما كان شأن المتحاورين فيها فضال عن ذاكرة فوالذية ال تصدأ تسعفه فى‬
‫حاالت المقارنة بين حكام مصر وحتى اللحظة ‪ ،‬و كما ورث الخواجة عن أبوه الكثير من المالمح غير‬
‫أنه ورث أيضا "جين" خفى عن أبوه لم يتم تحديد مكان وجوده فى جسديهما ‪ ،‬فالخواجة الكبير أحترم‬
‫وأحب عامال فى حين وثق أبنه وصادق بوابا ! صيد السمك كانت والزالت هوايتهما المفضلة ‪،‬‬
‫يمارسانها أسبوعيا على شاطىء جليم ‪.‬‬

‫بعد أن أتم مهمته فى أعداد ثالث فناجين قهوة خرج نوح من المطبخ بأتجاه غرفة األستقبال محتضنا‬
‫الصينية بعدما أزاح الستارة الفاصلة بين الممر والصالة برأسه قبل أن يتخلص منها على المنضدة ثم‬
‫أراح مؤخرته الى جوار الخواجة ثم أصدر تنبيها ‪ :‬المظبوطة دى بتاعة الخواجة والسكر زيادة بتاعة‬
‫نديم بيه ‪ ..‬سحب فنجانه معرفا بنفسه ‪ :‬ودى بتاعة الراجل األسود الغلبان ‪ ..‬أعاد نديم على أذان‬
‫الخواجة نفس السؤال الذى قطع اجابته دخول نوح ‪ :‬أنا دلوقتى حيبقى اختيارى أيه أبيع وال أجر‬
‫وال أشارك ؟ ! ‪ ..‬ربت على كرشه كعادته يستدعى حكمة وخبرة حان وقتها ‪ :‬طب أنت ميال أليه يانديم‪:‬‬

‫‪22‬‬
‫ــ هو أنا لو قادر أحدد كنت طلبت رأيكم ‪ ..‬رشفة طويلة من فنجاله وكعادته عندما يبدى رأيا يطرح‬
‫سلبياته وايجابياته فى بانوراما متكاملة أفضى بعدها نوح ‪ :‬أنا شايف أن األصلح واألضمن هو تأجير‬
‫األرض لبتوع السيرك وأنت بتقول أنهم حيدوك أيجار سنة مقدم ومتهيالى ده حيساعدك فى موضوع‬
‫تجارتك ‪ .‬رفع نديم حاجبيه متقبال رأى األخير متعجال فى سماع تعقيب الخواجة الذى رجع بظهره الى‬
‫الوراء تاركا " كرشه " يرتج أمامه ‪ :‬أنا متفق مع نوح عشان األستفادة حتكون من كل النواحى‬
‫حتضمن أيجار محترم لألرض وكمان سعر األرض حيزيد كل يوم ‪ ..‬تبخرت الحيرة عن رأس نديم‬
‫بعد ان كان لرأيهما صدى كبير داخله فى حين ضاقت عينى نوح فى أنتظار سماع قرار نديم الذى‬
‫خرجت نبرته كمن وجد الماء فى الصحراء ‪ :‬كالم معقول وتمام ‪ .‬قالها وقد أنفرجت شفتيه عن أبتسامة‬
‫عثر عليها أخيرا قابلها الخواجة بمالمح الرضا ‪ ،‬ثم نهض بعدها من مكانه حيث ألحت على رأسه‬
‫موسيقى المكان بأن يخطف األقتراح ويرحل تاركا الخواجة ونوح يحلالن خطاب السيد الرئيس المؤمن‬
‫محمد أنورالسادات فى أصراره على الذهاب ألى مكان فى العالم لتحقيق السالم حتى ولو جلس مع‬
‫الشيطان نفسه فى عقر داره ‪.‬‬

‫أصبح " نديم " بارعا فى أستثمار قطعة األرض بعد نصيحة الحكيم " نوح " ورأى الخواجة ‪ ،‬أتم‬
‫التعاقد مع أدارة السيرك ولكنه فسخه بعد عام بعد أن دفع الشرط الجزائى فى سبيل أنجاز تعاقد جديد مع‬
‫مجموعة من الشركات الصناعية والزراعية والغذائية لعرض منتجاتها فى مساحة األرض كلها بعدما تم‬
‫تقسيمها لمربعات يتم تأجيرها حسب ما تطلبه كل شركة من مساحة ‪ ،‬جنى أرباحا كبيرة كما عزز‬
‫عالقاته بشخصيات مهمة سكندرية مما أغراه بالزحف مع الزاحفين بأتجاه األنفتاح األقتصادى ‪ ،‬بدأ‬
‫صغيرا وسافر كثيرا يستجلب بضائع من هنا وهناك ‪ .‬شهور قليلة كانت كافية ليزيد من حجم ونوعية‬
‫بضاعته المستوردة ‪ ،‬أزكاه أسم عائلته ووسامته ولباقته فكسب المزيد والمزيد ‪.‬‬

‫على غير العادة جلست أيات ككومة داخل كرسيها جامدة فى مكانها اليتحرك منها إال رأسها كبندول‬
‫ساعة نافية كل أجتهاد خرج على لسان نديم الذى راح يتلوعليها أسماء من يعرفهم ‪ .‬أردف يخمن ‪:‬‬
‫شوكت أبن األستاذ وهبى ‪ ..‬طب صبرى ابن جليله هانم ‪ ..‬يبقى األستاذ سيف اللى شغال فى الخارجية ‪.‬‬
‫رمته بنظرة أقنعته بأن الزوج المنتظر ليس من بين تلك األسماء ‪ ،‬نطقت بكلمات مقتضبة توضيحية‪:‬‬
‫هو أنسان فقير مايملكش أى حاجة وال من عيله معروفة وال فى منصب مهم ‪ ..‬قالت ذلك دون أن ترفع‬
‫عينيها ‪ .‬ألتحقت به صدمة تمددت على أثرها كل مالمحه فى ذهول قبل أن يتماسك ويطرق أسماعها‬

‫‪23‬‬
‫بكلماته محاوال أسترجـاع ما تبقى لها من ذاكرة ‪ :‬أيه اللى بتقوليه ده يا أيات أنا مش مصدق نفسى ‪،‬‬
‫فين كالمك عن النسب والعائالت الكبيرة وأننا الزم نحافظ على أسم عيلتنا ‪ ..‬مش قادر أفهمك ‪ ..‬تحرك‬
‫يدور حولها وكأنه يكتشفها من جديد ‪ .‬بنبرة أزدادت حدتها ‪ :‬مش أنتى اللى قلتى أن الزم العائالت‬
‫الكبيرة تحط أيدها فى أيد بعض عشان يحافظوا على اللى باقى منهم ومش أنتى دايما اللى كنتى بتأنبينى‬
‫وتتريقى على لما كنت أصاحب وال أتعرف على حد مش من طبقتنا أو أقل مننا مش ده كالمك يا أيات ‪..‬‬
‫قالها كمن يتخلص من أرث غير محتمل ‪ .‬أردف ‪ :‬أنا عمرى ما حأغير رأى وال حأتراجع عـن أى مبدأ‬
‫أتربيت عليه ‪ ..‬مش ده كان كالمـك ياأيات ‪ .‬بحثت عن حبل من أحبالها الصوتيةيصلح للدفاع عن‬
‫موقفها ‪ :‬مين قالك أنى حأتنازل عن مبادئى ‪ ..‬الحكاية كلها أنى حأتنازل عن مسألة هو أبن مين وعنده‬
‫أيه قصاد أنه بيحبنى ورومنسى ده غير أنه كمان بيعشق البيانو والموسيقى أكتر منى ‪ ..‬يعنى حاجة‬
‫قصاد حاجة ‪ .‬قامت حين دبت فيها حماسة مفاجئة وتوارت داخلها حالة الضعف لتحل مكانها نظرية‬
‫جديدة الزالت فى بداية التكوين تعلن عنها ‪ :‬هو فعال شاكر من طبقة غير طبقتنا ومن بيئة مختلفة عننا‬
‫لكن تكوينه وتفكيره زينا بالظبط ‪ .‬شردت للحظات ثم عادت ‪ :‬هو جنتلمان جدا وفاهم كويس فى األصول‬
‫وراقى أوى فى تعامالته ‪ ..‬أستشعر " نديم " الهيام فى كالمها فسحب نفسا عميقا ‪ :‬ع العموم أنا مش‬
‫جاقولك رأيى دلوقتى الزم أسأل عليه األول ‪ ..‬أستدار خارجا من الغرفة بعد أن ربت على كتفها محذرا ‪:‬‬
‫راجعى نفسك تانى يا أيات ‪ ..‬نكست رأسها ثم رفعتها فى قناعة ‪ :‬راجعت وفكرت ‪ ..‬حين بلغ باب‬
‫الغرفة ألتفت إليها بأبتسامة عارضة ‪ :‬أنا حطيت لك النهاردة ألفين جنيه فى حسابك نصيبك عن التالت‬
‫شهور اللى فاتوا ‪.‬‬

‫أنطلقت " أيات " دون خبرة أو تجربة يجرفها شالل هادر من الحب يجمعها بـ "شاكر" وحدثته‬
‫بلهفة عن ترتيبات وخطوات مالية ستقدمها ألتمام الزواج فى فترة وجيزة ‪ .‬حاولت أن تقيم له معبرا‬
‫للمستقبل ‪ ،‬وكان لها ما أرادت ‪ ،‬تزوجت سريعا بالرغم من قلق نديم وأعتراضه ‪ ،‬أنفقت كل ماتملكه‬
‫مما تحصلت عليه من نصيبها فى تجارة أخيها ‪ ،‬وفرت سكن الئق فى منطقة " أستانلى " مع أثاث فاخر‬
‫يليق ‪ ..‬أرتاح فى حضنها وأستبدلت به كل شيىء كانت حورية غضة لها خبرة المتمرسات رغم أنه كان‬
‫أول من يطأها ‪ ،‬تركت كل شيىء خلفها حتى الخروج على هيبتها وطبقتها ‪ ،‬لم يعد يشغلها ذلك ‪،‬‬
‫ما يشغلها هو أن تحافظ على معشوقها ‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫" شاكر" لم يقنع بما آل إليه حاله من راحة فى العيش ‪ ،‬بل راح طموحه ينمو ويكبر فتفرغ لموسيقاه‬
‫وأجتهد وطور من أداءه فأنجز خطوات مهمة فى التأليف الموسيقى جعلته واحدا من أشهر‬
‫ملحنى األسكندرية غير أن أيات سبقته بخطوة متقدمة كعادتها معه حين فاتحت صديقتها الحميمة‬
‫" سناء الدمرانى " حفيدة الدمرانى باشا وزوجة الدبلوماسى " عبد الجليل نور الدين" والتى تعمل‬
‫حاليا بمبنى األذاعة والتليفزيون عندما ألحت عليها فى مساعدة زوجها بما تملكه من عالقات فى الوسط‬
‫الفنى بحكم الوظيفة لعلى الفرصة تساعده فى الخروج من المحلية السكندريـة إلى القاهــرية األوسع‬
‫واألرحب ‪ ،‬لم تبخل " سناء " فى دعم شاكر ودفعت به الى الوسط الغنائى يعرض ألحانه التى نالت‬
‫أعجاب شريحة كبيرة منهم ‪ ،‬لم تفارقه " أيات " فى رحلته القاهرية الصعبة كانت كظله تسنده وتدفعه‬
‫إلى األمام وراحت تحصى نجاحاته المتوالية السريعة قبل أن يطلب منها العودة إلى األسكندرية كى‬
‫يتمكن من تجهيز شقة مناسبة بالقاهرة بدال من المفروش المؤقت بمنطقة الدقى ‪ ،‬أخبرها بذلك فى أطار‬
‫كلمات مؤثرة ‪:‬أنا مش عايز أتعبك أكتر من كده أرجعى لبيتنا فى أسكندرية لغاية ما ربنا يفرجها وأجهز‬
‫شقة تليق بينا ‪.‬‬

‫مر صيف وخريف وشتاء ولم يأت الفرج مكتفيا بزيارات خاطفة متقطعة من باب الواجب يتخللها بعض‬
‫األتصاالت التليفونية كدواء مسكن ‪ .‬طال األنتظار وطالت األيام قبل أن يطالعها وجه كئيب المالمح برتبة‬
‫" صول " تابع لقسم شرطة سيدى جابر يسلمها ورقة طالق رسمية ثم أتبعها برسالة دامعة بعد يومين‬
‫تحمل كلمات شكر وتقدير عن المرحلة الماضية مع بعض الجمل " الفيشنك " من طراز الظروف‬
‫أتغيرت وفى أمور كتيرة أستجدت ‪ ،‬كان بالــغ الرقة واألنسانية كعشماوى حين يخاطب ضحيته بهدوء‬
‫قبل لحظة التنفيذ " نفسك فى حاجة قبل ما تموت " حين تمنى لها التوفيق وحياة أفضل وأوقات‬
‫سعيدة ‪ ..‬تركها وحدها تتجرع مرارة الفشل كما لم يتجرعه أحد من قبل ‪ ..‬شعرت بشيىء بـداخلها بدأ‬
‫يهوى إلى القاع ‪ .‬أيقنت بعد فترة من الذهول أن رحلة زواجها القصيرة كانت مرتجلة ال أفق لها ‪،‬‬
‫عادت كما كانت الى بيت محطة الرمل تحمل لقب مطلقة بعد أن باعت شقة الزوجية بما فيها األثاث‬
‫وكل كبيرة وصغيرة ‪ ،‬أرادت أن تقتل تلك المرحلة من دون ذكرى ‪ ،‬سكنت غرفتها بعد طالقها أختيارا‬
‫وكرها لعلها تصلح لتسوية العالقة النفسية داخلها بعد أن مألها خوف وظالمية مرعبة ‪ ،‬سترت عرى‬
‫جسدها فى غرفتها لم يعد لها أحد تستطيع أن تعرى أمامه فشلها أو حاجاتها وكأن الجنس فى حياتها‬
‫والرجال ذكرى قديمة ‪ ،‬أغلقت كل األبواب والنوافذ ‪ .‬عادت عذراء ‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫‪000000000000000‬‬

‫كانا نديم وهدى وسط دائرة من المحتفلين أمام مدخل كازينو " الشاطبى" يتلقيان التهانى والتبريكات‬
‫بزواج سعيد بعد أنتهاء مراسم ليلة العمر التى أحيتها بأقتدار مطربة أسكندرية األولى " بدرية السيد"‬
‫بصحبة الفنانة " سماح " ومطربها األول " عزت عوض اللـه " ‪ ،‬تحرك الموكب يغص باألهل‬
‫واألصدقاء بأتجاه سيارة "نديم" البيجو ‪ 504‬لتقلهما الى عش الزوجية ‪ ،‬بينما الحاج قبارى ولفيف‬
‫من تجاراألنفتاح فى وداع العروسين عند باب السيارة ‪ ..‬أرسلت هدى أبتسامة تشمل جميع المودعين‬
‫قبل أن تعانق أمها بفتور والتى جاءت خصيصا من طنطا لحضور المناسبة ‪ ،‬عند باب السيارة وقبل‬
‫دخولها أدلت بتوصية أخيرة همست بها لـ " عم مرتجى" ‪ :‬خد عمتى فى أيدك وما تسيبهاش اال وهيه‬
‫فى شقتها ‪.‬‬

‫خطوة مرتبكة داست بها هدى مدخل البناية الضخم حين أجتازته بصحبة زوجها قبل أن تتماسك على‬
‫أثر زغرودة مجلجلة جرحت وقار البناية وهيبتها كان مصدرها حنجرة " أم نور" زوجة " نوح"‬
‫البواب ‪ ،‬أمراة قصيرة سمارها داكن خربة الفم إال من نابين فى الفك العلوى ظهرا حين أبتسمت وهى‬
‫تفتح لهما باب المصعد ‪ .‬حاولت " أيات" مع قدوم هدى أن تكون مجاملة ومرنة ورغم ودها الظاهر‬
‫إال أن شيئا مخيفا كان يتسرب منها إلى من تحادثه ‪ ،‬ربما تجربتها الفاشلة أوحت لها بذلك التوجس‬
‫وربما كلماتها الرتيبة وصوتها الحزين أخرجاها من دائرة األعتيادية إلى دائرة األرتياب ‪ ،‬حقيقتها‬
‫تبدو دائما لهدى غامضة ومستحيلة ورغم ادراكها بأنها فارغة ال رأى عندها وال حكمة وتعلم تماما‬
‫كم هى مسكينة وتشعر بها حاضرة غائبة مسجونة فى غرفتها التى أبتلعتها مكتفية بما حولها من‬
‫ممتلكاتها األنسانية ‪ ..‬بيانو وكتب وأسطوانات قديمة وشرائط كاسيت باألضافة إلى ظلها الذى يرافقها‬
‫فى كل مكان ‪ ..‬خادمتها نعمة التى ال تفارقها إال عند النوم ‪.‬‬

‫مرت الحياة بهدى خفيفة طرية ‪ ،‬رقة نديم المفرطة كبلتها تماما وباتت تتمنى رضاه عنها ‪ ،‬كانت تعرف‬
‫كيف تتقدم وكيف تتأخر ‪ ،‬كيف تظهر فى يومه وكيف تختفى ‪ ،‬يحسدها على وجودها المكتمل الذى‬
‫رضى بها ورضيت به ‪ ،‬تعامل معها بحس الزوج الناضج وصاحب التجارب يحترم شطحاتها فى بعض‬
‫األحيان وال يكاد يعاندها إال على سبيل الممازحة والتغيير ‪ ،‬غير أن ألتصاقه الوطيد بالعائالت العريقة‬
‫حسب نشأته ومراعاته المجامالت العائلية جعاله يضعها فى قرارة نفسه فى رتبة ناقصة لم يكشف لها‬
‫عنها أبدا ‪ .‬تبلورت شخصية هدى القوية فى أمساكها بكل خيوط تجارته وأعماله ‪ ..‬وثق فى أفكارها‬
‫‪26‬‬
‫فخططت له سيناريو معظم صفقاته الناجحة مدعومة بخبرتها السابقة بمكتب " الحاج قبارى " ‪ ،‬كان‬
‫يحس فيها بالذكاء وحسن التوقع ‪ ،‬فأمن بها وأقتنع بأال يأخذ قرارا منفردا دون الرجوع إليها ‪.‬‬

‫مرت الشهور فى سرعة فاذا معهما مخلوق ثالث صغير يحبو ويلهو ويضحك فتتسع دائرة السعادة ‪ ،‬ثم‬
‫ثان وثالث وجماعة أنسانية حقيقية فى المنزل ‪ ،‬أنها أسرة نديم وهدى وأبناءهما الثالث نورا ويوسف‬
‫وبسمة ‪.‬‬

‫فى معظم أوقات النهار يتحول المنزل إلى فوضى وهياج بفعل يوسف وبسمة فى حين تحولت نورا إلى‬
‫مشاكسة أبيها بطريقتها المفضلة عندما تلف جسمها فى حركة دائرية سريعة قاصدة صفعه بضفيرتيها‬
‫الطويلتين التى أشرفت عليهما " نعمة " فما كان منه إال أن يضمها إلى صدره بقوة حتى تضحك وتبكى‬
‫بينما " يوسف " يسير متخبطا ومترنحا كسكير السيما فمازال يستكشف خطواته األولى يتلمس الجدران‬
‫حتى يصل بعد عناء إلى باب غرفة عمته التى تنهض من جمودها بعدما تستقبل أذنيها خربشة أصابعه ‪،‬‬
‫تفتح فرجة صغيرة ‪ ..‬تأملته بعد أن تفككت مالمحها لتسفر عن أبتسامة واهنة حين جثمت على ركبتيها‬
‫لتحازيه ‪ ،‬تتسع عينيها لتحتوى مالمحه ‪ :‬أنت شبه نديم الخالق الناطق بس الفرق الوحيد أنك من غير‬
‫شنب ‪ ..‬كان مزاجها يسمح بذلك التعليق ‪ ،‬جذبته وأحتوته فى حضنها فبدا له بطنها الساخن وصدرها‬
‫النافر كأنهما وسادة حشيت قطنا ‪ ،‬دائما ما يشعر بالراحة نحوها ‪ .‬كانت أيات بالنسبة ألبناء أخيها‬
‫صاحبة عينين يختلط فيهما الهدوء بالصرامة بخشونها وال يجرؤن على أساءة معاملتها بل يخفضون‬
‫أصواتهم إذا أقتربوا من غرفتها يتحفظون فى البكاء أو التعلق بها حين تستعد خارجة للقيام برحلتها‬
‫المعتادة والمحدد لها يوم الخميس من كل أسبوع حيث تنطلق من كورنيش محطة الرمل سيرا حتى‬
‫تستقر بوجهها الحزين أمام شاطىء سان أستفانو تنفث خاللها ما فى داخلها من دخان الذكريات تناجى‬
‫البحر وتشكو له ظلم البشر لعلها تجد بين أمواجه أجابة شافية تقطع بها األسئلة التى تنمو داخلها‬
‫كنبات اللبالب يرسم بأوراقه المتداخلة سؤاال كبيرا ‪ :‬هل تستحق من هذه الحياة تلك النهاية ؟ ‪..‬‬

‫شاركت " هدى " زوجها فى كل تفصيلة تخص حياتهما حتى أنها تدخلت فى أفكاره ‪ ..‬ناقشت وأقتنعت‬
‫وعارضت ‪ .‬إال إنها لم تأت مطلقا على ذكر قطعة األرض منتظرة حضورها على لسانه ‪ ،‬كانت‬
‫على يقين بأن هناك فكرة تشع فى ذهنه ال تفارق تفكيره مع كل كلمة يقولها عن المستقبل حين أردف‬
‫بنبرات متقطعة الهثة بعد انجازه بحرفية تمرين الضغط الليلى التى أستقبلت فيه زوجته كل ضغطة‬
‫بتأوه ولحمها األسفنجى تحته يمتص كل ثقله فى لياقة وليونة ‪ " :‬فللينى " صاحب مصنع النجف‬
‫‪27‬‬
‫واألستراس اللى فى نابولى عرض على أشترى كل أنتاجه لمدة تالت سنين وحيدينى خصم حوالى‬
‫عشرين فى الميه ‪ ..‬تباطأت أصابعها التى تعبث فى شعر صدره قبل أن تزحف بجسدها مستندة الى ظهر‬
‫السرير ‪ :‬هو عرض ممتاز والسوق محتاجه ومكسبه تقريبا مضمون وماحدش حيقدر ينافسك ‪ ..‬قالت‬
‫جملتها وأعتدلت جالسة بعد أن أرتدت الروب طوت فيه نهديها بينما حاجبيها على حالهما مرفوعين‬
‫تترقب الجملة المنتظرة منه التى باتت على حافة لسانه وستنزلق المحالة ليفرد لها حيزا فضفاضا من‬
‫الوقت والحديث ‪ ،‬فأحست فى داخلها بقوة وجرأة تدفعها لفك عقدة لسانه ‪ ،‬حثته على أستجالء فكرة‬
‫تجاهل الحديث عنها ‪ ،‬وبدون مقدمات وجدت نفسها تصارحه ‪ :‬الخطوة دى يا نديم حتحتاج لراس مال‬
‫كبير قوى وكل ما تكون السيولة تحت أيدك حتعرف تاخد اللى أنت عايزه ولوفتشت فى أيطاليا كويس‬
‫حتالقى عروض أحسن من عرض فللينى بس المهم أن فلوسك تكون حاضرة ‪ ..‬الفرصة لما بتيجى‬
‫ما بتستناش كتير ‪ ..‬أهتزت سيجارته المعلقة بين شفتيه قبل أن تشعلها له ‪ :‬والحل أيه ؟ بعد أن تحاشت‬
‫خيط الدخان المنبعث من فمه ‪ .‬أقتربت منه ‪ :‬نبيع حتة األرض وساعتها حيكون رأس مالك كبير‬
‫ومحترم ‪ ..‬تأمل وجهها كأنه يحاول قراءة ما يموج فى خاطرها وبينما الح فى وجهه تجهم جعلها على‬
‫وشك األقتناع بأنها فاهت بشيىء محرم ‪ .‬تنهد كثيرا ‪ ،‬طال صمته ممزوجا بحيرة حين جلس عند حافة‬
‫السرير منحنى الرأس مشتت الذهن ‪ ،‬حاول أن يوفر لنفسه فسحة من الوقت لترتيب أفكاره ‪ ،‬لكنه لم‬
‫يحظ بفرصة التفكير حين شدت هدى جسمها فى حماسة وبحركة أكروباتية كانت على األرض جاثمة‬
‫على ركبتيها بين ساقيه تتحدث بلهفة عن فكرتها التى أستفاضت فيها فى محاولة ألقناعه وهو منصت‬
‫كالمذهول يتابع تحليلها المنطقى عن جدوى بيع األرض والنقلة النوعية التى تنتظره ‪ ..‬رحل ببصره‬
‫نحو نافذة غرفة النوم شاردا يتخيل أنطالقته الكبرى وموقعه المتقدم وسط رجال األعمال باألسكندرية‬
‫وخيال يداعب رأسه فى أستحياء أن يعيد لعائلة " السبروتى " عزها ومجدها القديم ‪ ..‬لم ينطق بعدها‬
‫سوى بكلمة واحدة ممتدة تحمل شجن وتأثر ‪ :‬موافق ‪ .‬بعد موافقة " أيات " الشكلية وبموجب توكيل‬
‫رسمى عام منها باع األرض ‪ ،‬فأمتلك وفرة من المال ساعدته على أتساع تجارته ‪ ..‬زادت صفقاته التى‬
‫أدارها منفردا وفى بعض األحيان بمشاركة الحاج قبارى بتوصيه من هدى والذى أصبح مكتبه محطة‬
‫يومية لنديم ‪ ..‬وفى أحدى تلك الزيارات وحين دخوله حجرة المكتب كان " نسيم الشرقاوى " جالسا‬
‫يملء الكرسى الجلدى يتـداول ببطء حديثــا مريــرا عن الوضع األقتصــادى المتأزم ‪ :‬وده ياسيــدى‬
‫" نديم السبروتى " صاحبى وحبيبى وكمان مراته زى بنتى بالظبط ‪ ..‬قالها " قبارى " مقاطعا فور‬
‫دخول نديم من الباب الذى أسرع بأتجاه الضيف ‪ .‬صافحه ‪ :‬هو فى حد فى أسكندرية ما يعرفش نسيم‬

‫‪28‬‬
‫بيه الشرقاوى ملك العربيات ‪ .‬بعد عناء فى النهوض وأرتجاج فى األرداف لملم نسيم لحمه الذى تجاوز‬
‫حد السمنة بمراحل وأظهر أبتسامة سمجة فرد لها مساحة فى وجهه قبل أن يستقر فى وقفته مرحبا‬
‫بتواضع اليتناسب مع سحنته غير المريحة حيث الرأس مسطحة يعلوها فروة مصبوغة بالسواد أفرط‬
‫فى دكها فأضفت على مالمحه قدرا من البرود المستفز تزيد من فجاجته جبهته الضيقة التى تتكاثف‬
‫خطوطها كلما رفع حاجبيه بينما يختزن فى عقله دهاء ومكر كما يختزن سمنة مبالغا فيها تحيط‬
‫بكرشه وبمؤخرته التى دائما ما تمثل له عقبة حين يدخل أو يخرج من سيارته فيضطر أن يخرجها‬
‫أوال ثم يتبعها ‪.‬‬

‫دقائق مرت لم يحاول فيها " نديم " أن يرمش بعينه منصتا فى أهتمام مستقبال تحليالت‬
‫" نسيم الشرقاوى " حول المتغيرات فى األقتصاد وبرنامج الحكومة الفاشل فبدى كمحاضر متمكن وهو‬
‫يبدى مالحظاته ‪ :‬شغل السبعينات والتمانينات خالص أنتهى ماعدش فيه تجار شنطة الزمن ده ولى‬
‫وكسب من كسب واللى خسر خسر واللى فاضل من التجار دلوقتى يا أما مسنود من فوق أو فاهم‬
‫المرحلة صح وبيلعب على أساسها ويادوب بيعرف يطلع مكسبه بالعافية بعد التضييق على المستوردين‬
‫بين ضرايب وجمارك دوبل ‪ ..‬كانت كلماته األخيرة كافية بأن تخرج أنفعالة عفوية تشكلت سريعا فى‬
‫نبرة الحاج قبارى ‪ :‬واللـه عندك حق يانسيم بيه الشغالنة دى بقت كلها وجع قلب تدخل المينا‬
‫عشان تسلك كونتينر واحد تالقى مية سكينة أترفعت فى وشك اللى يدبحك فى الرسوم واللى يدفعك‬
‫أرضية وفوقها غرامة ده غير الرش طول ماأنتى ماشى على المقاطيع ‪ .‬أغمض " نديم " عينيه قبل أن‬
‫يمربكفه ماسحا وجهه لعله يخفف من حدة المخاوف التى تجتاحه ‪ :‬والحل أيه يانسيم بيه فى الحال‬
‫المنيل ده ؟ ‪ ..‬أستند بظهره للوراء فاردا ذراعه على مسند كرسيه يطرح أحد حلوله المجربة ‪ :‬واللـه‬
‫ياجماعة التاجر الشاطر لما يالقى باب رزق أتسد يدق ببان تانيه ‪..‬‬

‫ــ نورنا ؟ ‪ ..‬تساءل الحاج قبارى‪.‬‬

‫ــ في سوق جديد أتفتح مليان من خيرات ربنا من أكل وشرب وأجهزة وعربيات وأكسسوارات وكل اللى‬
‫يخطر على بالكم وكمان أرخص بكتير من أسواق أوروبا كلها ‪ .‬ترقب قبارى وضاقت عينى نديم ‪ .‬بينما‬
‫أستأنف بصوت مسرحى ‪ :‬الصين وتايوان همه المستقبل ‪ ..‬سوق كبير وجديد ورخيص ولسه‬
‫ماأنتشرش واللى يعرف سكته مش كتير واللى عايز يعمل شغل صح ويكسب صح هو اللى يلحق‬

‫‪29‬‬
‫أول قطفة ‪ ..‬ببالهة كرر نديم ‪ :‬الصين وتايوان !! بعد أن هرش جبهته قال قبارى ‪ :‬أنا سمعت أن‬
‫البلدين دول بالذات أتقدموا أوى وبقوا بيصنعوا كل حاجة ‪.‬‬

‫مرت ساعة وبضع دقائق ظهرت خاللها نتائج مبشرة جاءت على رأسها تعلق نديم وأعجابه الشديد‬
‫بأفكار " نسيم الشرقاوى " وفى قدرته على أستيعاب مرحلة األزمات وهضمها ‪ ،‬فكانت سببا مباشرا فى‬
‫أنتاج صداقة أستفاد منها نديم كتيرا حين دعمه بعالقاته الواسعة فى حل مشكالته المعقدة مع الجمارك‬
‫والبنوك والضرائب ‪ ،‬كما أشار له فى أحيان أخرى إلى حلول مستقبلية تنفعه فى اللحظات الحرجة ‪..‬‬
‫تقارب أثمر فى نهاية المطاف عن شراكة قوية جمعتهما فى صفقات عديدة بعد أنسحاب نديم التدريجى‬
‫من معظم أعماله مع الحاج قبارى وتحوله إلى مكتب نسيم الذى شاركه فى كل غزواته إلى السوق‬
‫الصينى ‪.‬‬

‫تراقب " هدى" بتململ هذا التقارب الشديد واألندماج غير المحسوب وتتعجب من القوة التى طرأت على‬
‫زوجها فى أتخاذ القرارات منفردا دون الرجوع إليها ‪ ،‬لم تملك سوى نصائح مكررة ومملة ‪ ،‬دائما‬
‫ما كان يواجهها فى أغلب األحيان بأستهتار ‪ :‬أنتى ليه واخدة فكرة وحشة عن الراجل ده ‪ ..‬حرام عليكى‬
‫الظلم ياهدى ‪ ..‬الراجل كويس ومحترم وأهو على يدك تالت سفريات طلعتها معاه شفتى كان مكسبنا‬
‫فيها كام ده غير األتنين كونتينر بتوع قطع الغيار اللى جبناهم من تايوان واللى بعناهم بأربع أضعاف‬
‫تمنهم ‪ .‬أبتلعت كلماته على مضض ‪ :‬أنت مش قادر تفهم أنا قصدى أيه يانديم ‪ ..‬قاطعها محاوال لجم‬
‫عصبيته ‪ :‬اللى أنا فاهمه حاجة واحدة أن مكسبى مضمون مع الراجل ده والزم تفهمى ياهانم أن البلد‬
‫دلوقتى مش زى زمان الدنيا بقت مقفولة ‪ ..‬أحمدى ربنا وبالش بطر ‪ .‬كتمت غيظها تلملم عراها‬
‫منسحبة من جواره على السرير قبل أن تنتصب واقفة أمامه وهو ممدد بعدما رمقته بنظرة مستنكرة‬
‫بينما هرب من عينيها يراقب دخان سيجارته ‪ :‬بصراحة أنا مش مرتاحة للراجل ده وال طيقاه وحاسه أن‬
‫الخراب المستعجل حيكون من تحت راسه ‪ .‬سرح الغضب فى مالمحها ومأل أنفعالها الغرفة ‪ :‬ومش ده‬
‫السبب الوحيد ‪ ..‬تقدر تقولى فى حد عاقل فى الدنيا يحط كل راس ماله فى مكان واحد ‪ ..‬طب أزاى‪..‬هو‬
‫نسيم ده أحسن منك فى أيه ‪ ..‬أشمعنى هو ياخد كل فلوسك ويشغلهالك هو أنت لسه جديد فى الشغالنه‬
‫دى وال صغير ماتقدرش تعتمد على نفسك ‪ ..‬مش ممكن اللى أنت بتعمله ده يانديم فلوسك كلها بقت فى‬
‫بطن الراجل ده ‪ ..‬أدينى عقلك بقى وفهمنى ‪ .‬بنفاذ صبر قبل أن يسحب النفس األخير من سيجارته ‪ :‬أنا‬
‫عارف بأعمل أيه كويس وزى ما أنتى قلتى ال أنا صغير وال جديد فى السوق وأنتى عارفة كده‬

‫‪30‬‬
‫كويس ‪ ،‬وكفايه رغى كتير وأهدى وتعالى نامى عشان بكرة نسيم عازمنا عنده فى البيت على العشا ‪..‬‬
‫رعشة غيظ أنتابتها لخصتها فى نظرة نارية قبل أن تستدير تدب األرض بقدميها خارجة من الغرفة تردد‬
‫بـ " نرفزة " ‪ :‬أنت أكيد عايز تجننى ‪ ..‬أنهت جملتها ثم سحبت الباب خلفها الذى أخذ نصيبه من‬
‫غضبها سمع أنينه كل من فى المنزل ‪.‬‬

‫‪00000000000‬‬

‫كانت ردودها مبتورة وأبتسامتها مصنوعة وعينيها ثابتتان تتحاشيان النظر فى وجه " نسيم " وفى‬
‫مالمح زوجته المتراجعة الهزيلة صاحبة مرض " اللى مايتسماش " والتى فاضت أثاره على جسدها‬
‫النحيل ورعشة أصابعها التى أرهقت أبنها " شهاب " صاحب العشر سنوات وهى تحاول أن تجعل فمه‬
‫هدفا لقطعة لحم " نيفا " فى طرف شوكة مرتعشة يلهث وراءها بفمه لعله يقتنصها ‪ .‬هكذا كان حال‬
‫" هدى " فى عزومة العشاء ‪ ،‬بدت كالتمثال الخشبيى تراقب بحدقيتها ثالثتهم " نسيم" بسحنته العجيبة‬
‫والمريضة المرتعشة واألبن الالهث بفمه المفتوح ‪.‬‬

‫أخيرا رفع " نسيم " رأسه ثم يديه فى أستراحة محارب قصيرة بعد معركة دامية مع سرفيس‬
‫" لحمة وكفتة " كان متصدرا المائدة قبل أن يجهز عليه وعلى طبق مكرونة بالبشاميل كان على‬
‫يمينه ‪ .‬أبتسم رافعا يده الممدودة بـ " صبع كفتة " متجاوزا وجه نديم الجالس إلى جواره ملوحا به‬
‫بأتجاه هدى ‪ :‬هى المدام مش عاجبها أكلنا وال أيه‪ ..‬سارع نديم يتولى الرد ‪ :‬هى أكلتها خفيفة ‪ .‬قالها ثم‬
‫رماها بنظرة لعلها تكون كافية لفك طالسم وجهها بينما شاركت زوجة نسيم ببعض الكلمات التى تخرج‬
‫منها بصعوبة كالروح الخبيث من الجسد الخبيث ثم تعقبها بنظرة ميتة أوأبتسامة بائسة تاركة التعليق‬
‫والتعقيب لزوجها الذى سبقته ضحكة تمهد لجملة قادمة خرجت منه مع بقايا كفتة من بين زاويتى‬
‫شفتيه حرص نديم على تفاديها قبل أن تصدم وجهه ‪ :‬حكاية أكلتك الخفيفة دى يا مدام بتفكرنى بأول‬
‫سفرية أنا وجوزك كنا بنتغدى فى مطعم فى بكين والجرسونة جابت لنا طبقين خضار ما يشبعوش‬
‫شهاب ومعاهم عصايتين خشب رفيعين شبه السالية قعدنا أنا وجوزك ساعة نصطاد بيهم الخضار اللى‬
‫فى الطبق ‪ .‬قالها وأنتابته دفعة متواصلة من السعال يتخللها ضحكات متقطعة ‪ ..‬مالمحه كانت‬
‫تستفزحاسة بصرها ‪ ،‬كل ملمح فيه أحست به هدى أفعى تلسعها ‪ ،‬دبت فى بدنها رعشة مصحوبة‬
‫بخوف غريب ‪ ،‬كانت تخاف عينيه ال من أتساعهما وأنما من شكل النظرة وتكوينها وما تنطوى عليه‬

‫‪31‬‬
‫من قلق والتواء وحدة وضعف وخبث ومكر ‪ ،‬فاكتشفت فيه شيىء يمس كيانها ‪ ،‬أرتبك ذهنها ‪ ،‬كان‬
‫عليها أن تراجع وتراقب وتتخذ موقفا ‪.‬‬

‫حاول " نديم " مرارا وتكرارا أن يهدأها ويقنعها باللين مرة وبالحزم مرة لعله يتمكن من وأد شكوكها‬
‫المتنامية ومن كبح جماح قلقها ‪ ،‬لكن دون جدوى فثار ثورته الكبرى معلنا غضبته فى بيانه األول‬
‫الذى أكد فيه بأنه لم يصل بعد إلى حد السفه حتى تنصب نفسها قيمة عليه تتصرف فى أموره وتحدد‬
‫عالقاته ‪ .‬هدأت مرغمة فى حين تمادى هو فى شراكته الصورية مع نسيم ‪ ،‬كان قانعا بكل ربح يأتيه من‬
‫وراء كل صفقة مكتفيا بالمتابعة وحصر عدد الصفقات والسفريات التى ينجزها شريكه ‪ .‬رجته وتوسلت‬
‫إليه وقلبت األمور على كل وجه ‪ ،‬فلم تجد لها صالحا إال بأبتعاد زوجها عن هذا الرجل ‪ ،‬وأمام أصرارها‬
‫يحتد نديم كالعادة ‪ ،‬صمدت فى وجهه كالصخرة ‪ ،‬حينها تراجع خطوة وأبدى موافقة مبدئية مع منحه‬
‫مهلة يتدبر فيها األمر من كافة الوجوه ‪.‬‬

‫لم تكن " زيزيت " سوى جارة بالطابق األول فى بناية محطة الرمل ‪ ..‬عندما بدأت هدى رحلة زواجها‬
‫كانت زيزيت على أول طريق المجهول بعد أن هجرها زوجها بسبب تمسكها الشديد بالبقاء بجانب أمها‬
‫المريضة والتى تحمل الجنسية المجرية وزوجة البحار الراحل " عاصم الدرينى " والد زيزيت‬
‫والذى يقال أنه كان من ضمن طاقم " لنش المحروسة " الذى غادر به الملك " فاروق " األسكندرية‬
‫بال عودة ‪ ،‬لم ترضخ أبدا لضغوط زوجها لألقامة معه بجوارمطعمه الذى يمتلكه فى أحد ضواحى‬
‫باريس ‪ ،‬وبالرغم من عرضه األخير أن يسهل ألمها أقامة فى دور رعاية بفرنسا إال أنها رفضت عرضه‬
‫ووهبت نفسها خادمة وممرضة ألمها حتى لحظة وفاتها وقبل أن تستوعب حياة الوحدة بدون أمها كان‬
‫قد أنقضى على طالقها ساعات ‪ .‬أستغاثات مكتومة ووحدة قاتلة هو ما تبقى لها من حطام الدنيا بعد‬
‫فقدان األم والزوج كما تبقى لها تقاطيع متناسقة وجسد رشيق مفصل باحكام ‪ ،‬هى أمرأة جميلة مثيرة‬
‫لألنتباه بفضل عملية تهجين ناجحة بين أم أوربية وأب مصرى ‪ ..‬أيامها األولى كانت شديدة القسوة ‪..‬‬
‫تأملت وحدتها ووضعها الملتبس ‪ ،‬فأيقنت أنها فى مأزق والحياة أمامها أضيق من " خرم أبرة "‬
‫فركبها خوف وقلق شديدين ولم تجد أجابة شافية على سؤال كبير ‪ :‬كيف ستواجه الحياه بمفردها ؟! ‪..‬‬

‫أجتازت " هدى " المدخل بأتجاه المصعد بعد عودتها من زيارة سريعة لعمتها التى تحاول األفالت من‬
‫قبضة عزرائل ‪ ..‬تراوغه داخل غرفة األنعاش بمستشفى المواساة منذ ثالثة أيام ‪ ،‬قبل أن تبطء خطوتها‬

‫‪32‬‬
‫خلف زيزيت التى يأست من نزول المصعد المعلق بالطابق الرابع ‪ ،‬مشيا سويا حتى أول درجة للسلم‬
‫بعد أن تلقيا عبارة توضيحية من أم نور ‪ :‬األسانسير عطالن والمهندس جاى بكره يشوفه ‪.‬‬

‫ــ على العموم طلوع السلم رياضة ‪ ..‬هذا ما أعلنته هدى قبل أن تنال زيزيت معلومتها األولى ‪ :‬أنتى‬
‫مرات نديم ؟ ‪ ..‬وبعد سين وجيم تم التعارف سريعا فى رحلة صعود قصيرة تعمدتا فيها البطء والتمهل‬
‫وعند حدود باب شقتها بالطابق األول لم تجد هدى صعوبة فى أن تميز النبرة الحزينة فى أجابة زيزيت‬
‫على سؤالها ‪ :‬أنا عايشة لوحدى بعد وفاة بابا وماما وأنفصالى عن جوزى ‪ .‬قالتها ومدت خطوتها‬
‫بأتجاه شقتها متجنبة لقاء األعين بعد أن أنفلتت منها دمعة لم تستطع مسكها ونظرة من عينيها كانت‬
‫كافية لتدرك هدى فداحة ما تعانيه جارتها من هم وحزن ‪ ،‬تعمدت مالحقة عينيها بعد أن تخطفتها‬
‫مالمح األسى ‪ :‬الزم تكونى جامدة يازيزت وعندك أرادة وإياك تستسلمى للوحدة أو تضعفى ‪.‬‬
‫تلقت النصيحة دون تعليق وأن زادت كمية الدموع التى تحبسها فى عينيها فأضافت هدى ما يخفف‬
‫عنها ‪..‬عايزة أقولك انى أنا كمان ظروفى شبه ظروفك والدى مات وأنا صغيرة وماما أتجوزت بسرعة‬
‫وكملت حياتى مع عمتى العجوزة يعنى تقريبا كنت عايشة لوحدى ‪ ،‬لكن لما أشتغلت وأعتمدت على‬
‫نفسى الدنيا كلها أتغيرت من حواليه ‪ ..‬صوتها الهادىء وتعاطفها الشديد كان سببا قويا لتعلق زيزيت‬
‫بها ‪ ،‬حاولت بحماس أستضافتها ‪ ..‬أعتذرت هدى قبل أن تقطع لها وعدا بزيارتها فى الغد ‪.‬‬

‫أعتادت " زيزيت " على حياة الوحدة اليزورها أحد ‪ ،‬تقوقعت داخل شقتها شاغلة نفسها بالتنظيف‬
‫والترتيب وفى بعض األحيان تمارس هوايتها المفضلة فى أقتباس موديل فستان أو جيب من مجلة‬
‫" بوردا " لألزياء تقوم بتفصيله بنفسها ليخرج من بين يديها مطابقا تماما لصورة " الكتالوج " ‪.‬‬
‫أستمرت معها تلك الهواية من بين مجموعة هوايات أنقرضت كلها ‪ ..‬وحين فتحت فرجة صغيرة من‬
‫باب شقتها وطالعها وجه " هدى " المبتسم أضاعت حشرجة صوتها التى صدأت أحباله من قلة الكالم‬
‫فرحتها الطاغية ‪ ،‬فأختطفتها إلى الداخل بعد أن تلقت منها هدى قبلتين ودفعة مركزة من عبارات‬
‫الترحيب أعادت الحيوية الى بشرتها‪ ..‬تنقلت هدى داخل الشقة بداية من الهول الكبير ومن غرفة إلى‬
‫غرفة بعد أن تخلت عن خجل أول زيارة تحت ضغط وألحاح من زيزيت التى تسبقها بخطوة وكأنها‬
‫مرشدة سياحية تستفيض فى التعريف بتاريخ كل قطعة أثاث ولوحة وتحفة مع توضيح ذكرى شراءها ‪..‬‬
‫تزداد حماستها وهى تقرأ فى عينى هدى نظرات األعجاب ‪ .‬إال أنها توقفت عن الشرح حين وقفت عند‬
‫مدخل غرفة نوم أمها بينما جذب الفضول ضيفتها فمطت رقبتها ومسحت المكان بنظرة سريعة تتفحص‬

‫‪33‬‬
‫محتويات غرفة الراحلة قبل أن تتعلق عينيها بتمثال صغير معلق على الحائط للسيدة العذراء "مريم "‪،‬‬
‫ضاق حاجبيها فى دهشة حينما لمحت برواز مستطيل بأطار مدهب وبطانة سوداء كتب عليها بحروف‬
‫نحاسية اللون " سورة الفلق " حركت رأسها ببطء فى اتجاه زيزيت التى قابلت أستغرابها بتوضيح ‪:‬‬
‫ما تنسيش أن ماما اللـه يرحمها كانت كاثوليكية وبابا مسلم ‪ ..‬علقت بتنهيدة ‪ :‬سبحان اللـه ‪ ..‬أخيرا‬
‫سحبتها إلى غرفة نومها الغارقة فى هدوء قاتل وترتيب مبالغ فيه وكأنها غرفة محنطة ‪ ،‬عاينتها دون‬
‫تعليق كى ال تجرح السكون ‪ ،‬أرادت زيزيت أن تكون مالبسها هى آخر مشهد تراه هدى فى جولتها‬
‫داخل الغرفة حين فتحت دوالبها وزحزحت مجموعة الفساتين المعلقة فأشارت لها باألقتراب فمدت‬
‫نظرتها قبل أن تمد خطوتها رافعة شعار األعجاب واألنبهار وهى تتجول بعينيها تتفحص كل فستان على‬
‫حدا ‪ :‬ذوقك هايل يازيزيت أكيد فساتينك كلها مستوردة ‪ .‬سبقت ضحكتها أجابتها ‪ :‬أنا بقالى سنين‬
‫ما أشتريتش هدوم أصال كل اللى شايفاه ده تفصيلى أنا ‪ ..‬حركت عينيها يمينا ويسارا ثم كررت معاينتها‬
‫وهى تتلمس بأصابعها الفساتين والبلوزات تفركها وتفتش فيها عن الفتة أوشعار يشير إلى أسم مصنع‬
‫أو موطن أنتاجها ‪ ،‬إال أن الدهشة كانت حاضرة فى قسماتها تبحث عن كلمات جديدة فى قاموس األشادة‬
‫واألعجاب ‪ :‬أنت ماحصلتيش يازيزيت ‪.‬‬

‫ـ ـ أنا أشتغلت ست سنين فى أتيليه مدام " مارى " اللى فى األبراهيمية قبل ما أتجوز ‪ .‬كان ذلك تنويها‬
‫الزما حين قادتها ناحية األنتريه القابع فى ركن الهول منهية أخر بند فى برنامج الزيارة بجلسة حزينة‬
‫مؤثرة عندما أصاب أعترافها عن الوحدة القاتلة وشح الفلوس على نفسية هدى التى تنصت لها بتأثر‬
‫لفداحة شكواها بعد أن تخلى عنها القريب قبل الغريب ‪ ..‬أجتاحها الهم والغم مما أستلزم األمر منها أن‬
‫تطلب كوب شاى كعادتها حين تواجه مشكلة وتبحث لها عن حل ‪ ..‬أعدت كوبين شاى ثم قدمت واحــدا‬
‫لهدى التى بــدت شاردة تتعقب فكرة دارت فى رأسها حتى أعتقلتها مع وصول أخر رشفة لجوفها ‪ :‬أنتى‬
‫لسه صغيرة وأدامك فرص كتيرة ليه ماتحاوليش تدورى على شغل وتبدأى من جديد لغاية ما تقفى‬
‫على رجليكى ‪.‬‬

‫ــ هو ده اللى أنا بأعمله دلوقتى و الحمد للـه بأتكلم أنجليزى كويس وشكلى مقبول ورحت قدمت فى كام‬
‫شركة سياحة وأدينى قاعدة مستنية الرد ‪ ..‬لم تكن تسمع بقدر ماكانت تبحث عن شيىء ما يتحرك‬
‫فى مؤخرة رأسها حتى تكونت جملة مفيدة خرجت منها بعفوية ‪ :‬وتدورى على شغل ليه وأنتى عندك‬
‫صنعة تكسبك دهب ده أنتى خياطة ماحصلتيش ‪ ..‬ذوقك عالى وأفكارك حلوة ‪ ..‬ليه مافكرتيش فى‬

‫‪34‬‬
‫الموضوع ده ؟ ‪ ..‬ترددت فى األجابة ‪ :‬كالمك صح بس الموضوع مش بالبساطة دى ‪ ..‬محتاج راس‬
‫مال كبير ‪.‬‬

‫ــ راس مال أليه يازيزيت ؟ ‪..‬‬

‫ــ محتاجة مكان وماكينات وقرشين أصرف منهم لغاية ما الناس يعرفونى ‪ .‬أتجهت إليها بضحكة‬
‫ساخرة ‪ :‬كل اللى بتقوليه ده كالم فارغ المهم صنعتك ‪.‬‬

‫ساعة من التداول وتبادل األفكار واألقتراحات قبل أن تنتفض هدى واقفة معلنة الرحيل بعد نظرة سريعة‬
‫فــى ساعتها قبل أن تترك فى حوزة زيزيت حلوال عملية تتضمن حال لمشكلة المكان بتخلى األخيرة عن‬
‫الريسبشن كنواة تؤسس عليه " األتيليه " بينما تتكفل هدى بالماديات الالزمة لشراء ماكينات الخياطة‬
‫ومايلزم من أدوات مع توفير دعاية مكثفة بين المعارف واألصدقاء ‪ .‬قابلت زيزيت عرضها بعناق حار‬
‫مصحوبا بنوبة بكاء ساخنة أنكمشت لها أبتسامة هدى لتبدو فرجة ضيقة حزينة ‪ :‬أنا طول عمرى‬
‫وحيدة ماليش أخوات وال عندى حد وربنا يعلم أنا أرتحتلك أد أيه ومن النهاردة حنكون أنا وأنتى أكتر‬
‫من األخوات وحأبقى جنبك لغاية ما تقفى على رجليكى وما تشغليش بالك بأى مصاريف ‪ ..‬قبل أن‬
‫توليها ظهرها منصرفة أردفت ‪ :‬وكله سلف ودين ‪ ..‬النهاردة أنتى محتاجانى ياعالم بكره ايه اللى‬
‫حيحصل ؟! ‪.‬‬

‫‪000000000‬‬

‫كان قميص النوم األسود هو أختيار هدى المفضل ليكون شاهدا على ليلة ساخنة ‪ ،‬رجعت برأسها للخلف‬
‫متجاوزة ضلفة الدوالب المفتوح تتمايل بشعرها األسود تشد به نظرات نديم المتحفزة يقتنص منها‬
‫ما يظهر من خلف الضلفة قبل أن تعلن عن نفسها وتواجهه بصدرها بينما الفرحة تضيىء وجهها ‪:‬‬
‫عشان خاطر الكالم الحلو اللى سمعته ده حأخليك النهاردة عريس ‪ ..‬قالتها بحيوية ردا على خبر سار‬
‫فاجأها به عقب عودته قبل ساعة من الخارج ‪ :‬بكرة نسيم الشرقاوى راجع من الصين وأنا قررت‬
‫أسحب نص فلوسى من عنده ‪ ..‬أنا ما قدرش على زعلك ‪.‬سحبت العروس نفسها من بين الضلفتين‬
‫مستعرضه أمامه جسدها األبيض اللميع داخل القميص األسود الذى ال يزيد طوله عن" نص متر "‬
‫يتعارك فيه أعالها مع أسفلها عن جزء يستره قبل أن يحسم نديم الصراع بينهما بأشارة من أصبعه‬
‫‪35‬‬
‫وهو مسترخى على سريره وهى تعنى أن تستدير فهو يعشق معاينة مؤخرتها ‪ ،‬فكانت لها وقفة تتقن‬
‫فيها تكويرهما ‪.‬‬

‫غير أن القدر المنحاز للنوائب كان يقف بالمرصاد فكان قاسيا حين قام نديم من فراشه ليشحن بطاريته‬
‫بلمسة من بين الكورتين ‪ ،‬وما ان لمسهما حتى ألتفتت فى فزع على صوت أرتطام جسده على أرضية‬
‫الغرفة ‪ ..‬أنفاسه كانت الهثة وقطرات عرق مفاجئة نبتت فوق جبهته وأصطبغت بشرته بالصفرة ‪ ،‬بعد‬
‫صدمة وذهول تاله صراخ أستفاق نديم من غيبوبته العارضة بينما لم تهدأ هدى أو تستكين إال بعد‬
‫أقراره بالموافقة واألستجابة على أن يكون الغد هو يوم الكشف والفحص فى عيادة الدكتور‬
‫" عبد العزيز التونى " بعد أن أخبرها نديم بأن حالة عدم األتزان تصاحبه منذ أسبوع ‪.‬‬

‫لم تمهله "هدى " فرصة للتراجع أو العدول فكانت تدفعه لعيادة الدكتور الذى مشى بسماعته فوق صدر‬
‫نديم العارى حتى منتصف بطنه ثم ضغط بأصبعيه على الجانب األيسر مرة ثم األيمن متساءال ‪ :‬فى هنا‬
‫وجع يا أستاذ نديم ؟ ‪ ..‬بنبرة ألم ‪ :‬حاسس بشكة ‪ ..‬رفع عينيه متجاوزا نظارته المنفلتة حتى أرنبة أنفه‬
‫موجها كلماته الصارمة بأتجاه هدى المترقبة يطلب منها بعض التحاليل الضرورية وبأقصى سرعة ‪،‬‬
‫فكان له ما أراد وأنهت أجراءات التحاليل المطلوبة بحماسة وهى تجر زوجها جرا ينهى تحليل دم‬
‫فتقحمه فى تحليل بول وبراز ثم عمل مزرعة لعينة من الكبد حتى نجح الدكتور " عبد العزيز " من‬
‫االمساك بتالبيب المرض العربيد حين بدأ يسرد نتائج التحاليل التى أستقبلها نديم بمالمح ال تختلف كثيرا‬
‫عن مالمح زوجته‪ ،‬فالخوف والذعر عدوى تنتشر بينهما ‪ :‬حالة الكبد عندك متأخرة أوى‪ ..‬واضح أن‬
‫عندك التهاب كبدى حاد ‪ ..‬قالها بصيغة أتهام ‪ ،‬وكلما زاد سرده زاد فم هدى أنبعاجا ودهشة فخرج‬
‫صوتها قبل أن تصيبها الصدمة بالخرس ‪ :‬والعالج أيه يادكتور ‪ .‬رفع نظارته بسبابته فى تأفف لتستقر‬
‫أمام عينيه ‪ :‬األول فى شوية أحتياطات البد منها أهمها أن حاجته الشخصية ما حدش يستعملها ال فوط‬
‫وال غيارات وال ماكينات حالقة بخالف العالج اللى أنا حأكتبه دلوقتى وتكون المتابعة كل أسبوعين ‪.‬‬

‫خرج من العيادة زائغ النظرات ‪ :‬يعنى أيه التهاب كبدى ‪ .‬سأل نديم ولم تجد هدى أجابة شافية غير‬
‫كلمات مهدئة حاولت أن تخفف بها عنه ‪.‬‬

‫قلب المرض حياته ‪ ..‬كان ايذانا لألحداث أن تنشط فى سرعة محمومة أفقدت كل من فى البيت بما فيهم‬
‫شقيقته " أيات " وصغاره الثالث ومن قبلهم زوجته المصدومة والساخطة على مشاركة زوجها بكل‬
‫ثروته مع " نسيم الشرقاوى" بعد تراجعه عن سحب نصف ماله كما أخبرها سابقا ‪ ..‬رأى تأجيل‬
‫‪36‬‬
‫الخطوة لما بعد الشفاء ‪ ،‬فقد الجميع القدرة على التفكير والتدبر ‪ ،‬لتجد هدى نفسها أخر األمر صاغرة‬
‫فى طابور القدر ‪.‬‬

‫‪0000000000‬‬

‫ربما يكون القدر الذى ال يفهم أحد بعد كل حكمته يدخر لزيزيت ما لم يخطر ببالها يوما ‪ ،‬فبعد دعم هدى‬
‫المادى والمعنوى لها ‪ ،‬أجتهدت وأجادت واذا بها يأتيها اليوم الذى تنسى فيه كل ايقاع ‪ ،‬و يصبح ايقاع‬
‫الحياة هو نفسه إيقاع ماكينات الخياطة التى ال تبارحها ليل نهار ‪ .‬أصبح " أتيليه زيزيت " بعد مرور‬
‫ستة أشهر يمتلك سمعة متميزة فى األسكندرية ويحظى بأهتمام سيدات الطبقة الراقية ‪ ،‬وبالرغم من‬
‫تكالب وتزاحم الزباين على األتيليه إال أنها كانت تختفى وتتركه فى ذمة " أنصاف " مساعدتها ‪ ،‬كانت‬
‫إ لى جوار هدى ونديم فى زياراتها المتكررة لمعظم عيادات أمراض الكبد ‪ ،‬كانت لها زيارة ثابتة فى‬
‫الصباح قبل بداية يومها ومثلها أخر الليل تطمأن على أحوال المريض وتدعم هدى المهزومة معنويا‬
‫وهى تراقب الزوج والحبيب وقد أحكم المرض قبضته على جسده فبدا هزيال نحيفا ‪ ،‬سكن فراشه‬
‫ال يبارحه ‪ ،‬أحس أن مرضه أسقطه فى قاع الكون وأن جسمه كله مهدد بالتفكك والتحلل ‪ ،‬فقد شهوة‬
‫المقاومة ولم تعد به رغبة أن يطفو على السطح من جديد بينما زيارات الخواجة كرم ونوح البواب لم‬
‫تنقطع ‪ ،‬الحوارات المطولة وسرد الحكايات كانت تسرى عنه وتخفف ثقل رقدته ‪ ،‬قفشات الخواجة‬
‫وتعمد نوح أستدعاء أغانى النوبة القديمة التى يؤديها بحركات راقصة برأسه وكتفيه كانت سببا فى‬
‫تهافت نورا ويوسف وبسمة والتفافهما حول الضيفين تسبقهم ضحكاتهم وخاصة نورا التى ترى فى‬
‫الخواجة قاموسا للمعرفة ‪ ،‬فى حين كانت تنسى أيات الحزن الكامن فيها وتتسرب من غرفتها ‪ .‬سجنها‬
‫األختيارى ‪ .‬فى محاولة يائسة ألستعادة دور الشقيقة الكبرى ‪ ،‬راحت تستحث فى أخيها ما تبقى له من‬
‫أرادة وتذكره قبل أن تذكر نفسها بأنه أخر األحياء فى قائمة أسرتها ‪ ،‬كانت تستجديه أن يفيق من غفوة‬
‫المرض ‪ ..‬أستدعت له أحداثا قديمة وتواريخ سابقة ‪ :‬فاكر يا نديم لما رجعت من رحلة رشيد وأنت فى‬
‫الثانوى وجالك تسمم وحالتك كانت بؤس خالص والدكتور يومها قال الزم تفضل فى السرير أسبوع‬
‫وبابا اللـه يرحمه قالك عيب مافيش راجل ينام فى السرير أسبوع هو أنت قايم من والدة وال أيه ‪ ..‬هز‬
‫رأسه وأشاح بعينيه هربا من نظراتها إال أنها توالت فى حثه ‪ :‬طول عمرك عندك أرادة وما بتحبش‬
‫الضعف ‪ ،‬أيه اللى جرى لكل ده ‪ .‬كان الطبع غالب ‪ ،‬فأسترجعت بعض العبارات من تراثها القديم التى‬
‫تخلت عنها بعد نكبتها ترددها يوميا على أسماعه فى نمطية مكررة ‪ :‬والد األصول يانديم الزم يبقوا زى‬

‫‪37‬‬
‫الفرسان لما يقعوا يقوموا بسرعة ويبقوا أقوى من األول ‪.‬تعلقت عيناه بمالمحها خرجت منه نظرة ذات‬
‫مغزى فأستوقفتها دهشته ‪ ،‬أدلت رأسها إلى األرض ‪ .‬زفرت " أيات " ‪ :‬عارفة أيه اللى بيدور فى‬
‫رأسك ‪ ..‬عايز تقوللى من باب أولى أنصح نفسى ‪ ..‬مش كده ‪ .‬هزت رأسها قبل أن ينتشر الضعف يكسو‬
‫مالمحها ‪ .‬أردفت ‪ ..‬أنت عندك حق ‪ ..‬بس أنا مش مهمة ‪ ..‬أنا وال حاجة المهم عندى هو أنت ‪ ..‬أنت‬
‫أخويا وأبنى وكل اللى فاضلى فى الدنيا وعندك تالت والد زى القمر محتاجينلك وكمان وراك هدى ‪ ،‬لكن‬
‫أنا ماليش لزمة ال أدامى حد وال ورايا حد ‪ .‬ثم أنحنت عند مستوى رأسه تقبله فى جبينه فربت على‬
‫كتفها ‪ :‬ما تقلقيش ياأيات عمر الشقى بقى وكل حاجة حترجع زى زمان ‪.‬‬

‫أستمر المشهد فى بيت " نديم " لفترة مكررا ومعادا بكل تفاصيله كمسلسل تركى ال يقطع روتينه سوى‬
‫زيارة " سميحة هانم الغريانى " التى تجاورهم فى نفس الطابق وهى من بقايا نفس الطبقة‪ .‬زيارتها‬
‫كانت بمثابة أنتعاش لحظى بالنسبة أليات وهى تنقاد معها خلف تاريخ من األحداث والذكريات عن‬
‫طبقة ولت وأن أحتفظت فى قرارة نفسها بغيرةشخصية من تجربتها الناجحة فى زواج مشابه لزيجتها‬
‫الفاشلة ‪ ،‬فزوجها " خيرى علم الدين " صاحب نفس الخلفية والتفاصيل التى جاء منها طليقها‬
‫" شاكر " كان دائما بصحبة زوجته فى كل زيارة حريص على واجب الجيرة ‪ ،‬له نظرة حادة حاسمة‬
‫مالمحه تكتسى رجولة وخشونة ‪ ..‬فى منتصف الحلقة الثالثة من العمر بينما تكبره " سميحة هانم "‬
‫كما يطلق عليها ساكنى البناية بعشر سنوات ‪ ،‬وبالرغم من هيئته العاديةإال أنه يحدق إلى الناس وإلى‬
‫األشياء بنظرة شهباء صارمة يتمتع بقدر كبير من الوسامة لم تعد موجودة فى زوجته التى غزاها‬
‫مرض السكر والضغط فنحل جسمها وترك لها مالمح وقسمات مهدمة فقدت معها كل ماللصبا من‬
‫نضارة الصحة ‪ ،‬قبل ان يغلبها فمها ويلتوى رغما عنها وأصبح الكالم يأخذ حركة بطيئة على لسانها ‪.‬‬

‫يعمل " خيرى " بهيئة األثار أطلق عليه زمالؤه الفرس الرهوان فهو يجتاز جميع السدود بتفوق‬
‫وأصرار أهلته ألن يتولى رئاسة لجنة حصر البنايات ذات الطابع األثرى والتاريخى بمدينة األسكندرية‬
‫وكان لها أثر مباشر فى زواجة من " سميحة هانم " حين كانت تلك البناية التى يسكنها حاليا فى مقدمة‬
‫عمل اللجنة وكأنما يدبر له القدر الفرصة ‪ ،‬ها هى الرياح تقذف فى طريقه بأمرأة جاهزة بطوق النجاة ‪،‬‬
‫كان ذلك حين أستأذنها لدخول شقتها لمعاينة شرخا على يسار سور شرفتها ليرفع به تقريرا الى‬
‫الهيئة ‪ ،‬الزمه " نوح البواب " حتى مكان المعاينة فال يصح دخول غريب منفردا عليها فهى أرملة منذ‬
‫عامين وحيدة بال أوالد ‪ ،‬كانت هى من ذلك النوع الرقيق الهادىء ‪ .‬أنبهرت به وأنبهر بها ‪ .‬كان حالما‬

‫‪38‬‬
‫رقيقا أكثر مما تتطلبه ظروف المعيشة ‪ ..‬هى احالمها لم تذهب بعيدا عن حدود هذا األنسان الذى أرهق‬
‫" نوح " وأجهده فى زيارات ملحة ومتكررة بسبب وبدون وبأى حجة ‪ ،‬لذلك عندما عرض نفسه وحبه‬
‫عليها ‪ ،‬لم ترفض ‪ ،‬وشرح لها فى أسهاب عيوب أن تتزوج ما هو أقل منها فى معظم األشياء ‪ .‬نسيت‬
‫أو تناست واقعا يحيط بها فطوقت عنقه بذراعيها حين أبلغته بموافقتها ‪ .‬لم يعترض أحدا من أسرتها بل‬
‫تركوا األمور تمضى لعل ذلك تسرية عنها وعونا فى وحدتها ‪ .‬أخيرا حققت له أيامه حلم يقظة على هذا‬
‫النحو الرائع العجيب ؟ كان حبه لـ " سميحة " له خصوصية متصلة بعشقه للتاريخ والتراث فهو غارق‬
‫ألذنيه لكل ما هو قديم ‪ ،‬أنجذابه الشديد لطراز البناية وهيئتها سهل له الطريق ألنجذابه لـ " سميحة "‬
‫إال أنه بعد زواجه وجدفيها لذة المرأة المكتملة جسديا وروحيا ‪ ،‬فأشبعته منهما ‪ ،‬ولم تكن شهوته‬
‫الصريحة التى عاش عليها بنهم قد أتت بعد على مالحة وجهه ومتانة بنيانه وفتنة شبابه ‪ ،‬لم تمهله‬
‫ألتقاط أنفاسه كانت تسابق الزمن قبل أن تجف دورتها الشهرية ويغادرها األمل ‪ ،‬فصادفها النجاح‬
‫مرتين فأنجبت له " نادر" تاله " شريف " بعامين ‪ " ..‬خيرى " ال يخفى تأثره الشديد وحزنه العميق‬
‫على جارته هدى فى مرض زوجها كان يحس بمأساتها فهى أبنة طبقته وخريجة نفس البيئة كما أنها‬
‫وافدة مثله على السكان األصليين للبناية ‪.‬‬

‫زادت وتيرة زيارات " نسيم " لنديم فى بدايات مرضه قبل أن تقل جرعتها مع مرور األيام حتى تقلصت‬
‫إلى مكالمات تليفونية متقطعة ‪ ،‬إال أن ألحاح هدى الشديد كان ضاغطا على زوجها ألجباره على‬
‫أستدعاء شريكه لزيارة عاجلة كى يستجلى منه مصير أخر ثآلث عمليات أستيراد تمت خالل الشهرين‬
‫السابقين لعله يفهم ما له وما عليه ‪.‬‬

‫ماطله " نسيم " كثيرا وعدل موعد الزيارة أكثر من مرة ‪ ..‬توجس نديم وزادت ريبته وحاول أسكات‬
‫جرس األنذار الذى يرن فى أصرار ومثابرة فى مؤخرة رأسه ‪ ،‬بعد حصار وألحاح أستسلم " نسيم "‬
‫لزيارة خاطفة سريعة ‪ ..‬حضر ليال مرتجا فى بدلة رمادية ‪ ،‬أستقبلته هدى ورافقته من باب الشقة حتى‬
‫غرفة زوجها سجين الفراش ‪ .‬أشاع متعمدا حالة أستعراضية بجسده المترهل يمأل المكان بجمل كثيرة‬
‫كضربة أستباقية لتحاشى أى لوم أو عتاب عن تهربه فى الفترة الماضية ‪ :‬بسم اللـه ماشاء اللـه ده أنت‬
‫بقيت زى الفل ياعم نديم ‪ ،‬ده أحنا اللى عيانين مش أنت ‪ .‬قالها وألتفت لهدى يرميها بضحكته السمجة‬
‫بينما لم يجد " نديم " سوى أبتسامة محتضرة قابل بها " همبكة " شريكه ‪ .‬فبادره بعتاب قبل أن يجلس‬
‫على الكرسى المقابل للسرير ‪ :‬شهر بحاله يا نسيم عشان تتعطف وتيجى تزورنى ‪ .‬تصنع الحماسة ‪:‬‬

‫‪39‬‬
‫أوعى تقول الكالم ده عيب عليك ده أنت أخويا وحبيبى ويعلم ربنا أن اللى منعنى عنك الشديد القوى ‪،‬‬
‫من يوم ما رجعت من الصين أم شهاب حالتها ما تسرش حد حجزت لها فى المستشفى األلمانى وفضلت‬
‫جنبها يوماتى سايب الدنيا تضرب تقلب وبقيت أخطف نفسى أطل على الشغل اللى راقد فى المينا ‪ ..‬أنت‬
‫عارف يانديم أنا ماقدرش أتأخر عنك ‪ ..‬قالها بأداء تعلب وبحركات وأشارات غير مريحة كما لو كان‬
‫يقدم برنامجا أستعراضيا مزيفا ‪ .‬فأعتدل " نديم " بصعوبة تحضيرا لسؤاله القادم قبل أن تتراجع‬
‫" هدى " للوراء تاركة نظرتها تأخذ طريقها إلى عيبنى زوجها الذى فهم ما تقصده فأنهى فى عجالة‬
‫حديثه المفرط عن مرضه وتبعاته و مايعانيه من ضعف و أنتقل سريعا على رأس سؤال مباشر ‪ :‬أنا‬
‫بقالى دلوقتى شهرين يانسيم مش فاهم أى حاجة عن الشغل و العارف الدنيا رايحة فين ‪ ..‬ياريت‬
‫تفهمنى ‪ .‬أستند بظهره الى كرسيه قبل أن يرمقه بنظرة مبديا مالحظة خبيثة ‪ :‬مش ممكن نتعب المدام‬
‫شوية فى واحد قهوة مظبوط ‪ .‬أغلق جملته بلفتة تجاهها فهمت منها رغبته فى عدم وجودها ‪ ،‬حررت‬
‫يديها المشبوكتين قبل أن تتجه عابسة إلى خارج الغرفة ‪ :‬حاضر ‪.‬‬

‫أنتشل " نسيم " جسمه من كرسيه فور خروجها وجرجره خلفه مقتربا من حافة السرير ‪ :‬أحنا مش‬
‫أتفقنا يانديم أن الكالم فى الشغل ما يتقالش أدام الحريم ‪.‬سكت ولم يعلق و أستأنف بنبرة خافتة ضمانا‬
‫لحبس كلماته عند محيط رأسيهما ‪ :‬الشغل ماشى زى الفل و مافيش أى مشاكل المهم أنت ما تشغلش‬
‫بالك بأى حاجة غير صحتك ‪.‬‬

‫ــ أنا عايز أعرف يانسيم أولى من أخرى ‪ .‬لم تفارق عيناه عينى نديم ‪ :‬حتعرف كل حاجة ياسيدى بس‬
‫المهم دلوقتى صحتك والزيارة الجاية إن شاء اللـه حأقولك رصيدك بقى كام بالمليم بس بعدما أراجع‬
‫الحسابات مع األستاذ " منصور" ‪ .‬لم يقتنع بردوده ولم تكن لديه القدرة على المجادلة والمحاورة‬
‫مكتفيا بنظرة غابت فيها القوة بينما حضرت النبرة المتشككة ‪ :‬ماشى يا نسيم ‪..‬‬

‫ــ دلوقتى حأسيبك ترتاح ولنا قعدة تانية إن شاء اللــه ‪ .‬قالها واقفا حين دخلت هدى مع نهاية جملته‬
‫تحتضن صينية بها فنجان قهوة ‪ :‬معقول يا نسيم بيه والقهوة ‪.‬‬

‫ــ معلش سا محينى الزم أروح البيت أطمن على أم شهاب ‪ .‬لم ينتظر منها ردا وفر خارجا من الغرفة‬
‫ومن خلفه تتبعه وهى تشيعه إلى باب الشقة تتعقبه بعينيها مبدية أقصى درجات األرف وهى تعاين‬
‫مشيته التى أقتبسها عن الفنان الراحل " عبد الفتاح القصرى " أنفلت من باب الشقة دون أن يلتفت‬
‫إليها ‪ ،‬فودعته فى سرها ‪ :‬غور كتك داهية فيك وفى اليوم اللى شفنا فيه خلقتك ‪.‬‬
‫‪40‬‬
‫" وكما جاء رحل " جملة تصلح عنوانا لزيارة نسيم ‪ ،‬لم تهدأ مخاوف نديم بل زادت حدة ‪ ..‬أنتهت‬
‫الزيارة ولم يحصل على أى معلومة ولم يصل إلى أى نتيجة ‪ ..‬توقف عن التفكير حين راى أنه سيدخل‬
‫فى سلسلة أحتماالت " لو " التى ستزيده أرتباكا ‪ .‬أيقن أنه تصرف بحمق من البداية فى لحظات تكون‬
‫فيها األمور أوضح ما تكون ‪.‬‬

‫عادت " هدى " بطوفان من الغضب إلى زوجها المتجمد على سريره كانت حاضرة بكل ما تحمله من‬
‫شكوك بدت تتجلى الى حقائق غير أن مالمحه الباهتة وأحمرار عينيه كانتا كافيتين ألسكات كل أسئلتها‬
‫حول ما دار بينه وبين نسيم ‪ ،‬أدركت من نظرته أنه يحتاج لدعمها ‪ ،‬لم تتأخر عنه فأحتوته بين ذراعيها‬
‫حين نامت على صدره ‪ ..‬همست تردد حيثيات منطقها ‪ :‬ما تقلقش يا حبيبى كل حاجة حتتصلح ومش‬
‫حأتقل عليك وال حأسألك الراجل ده قالك أيه وخلى شكلك بالمنظر ده بس اللى أنا عارفاه و متأكدة منه‬
‫أن الغمة دى حتنزاح عن قريب وأيدى فى أيدك لغاية ما نخلص نفسنا من الراجل الزفت ده ونعرف أولنا‬
‫من أخرنا ونرجع فلوسنا تانى ‪ .‬رفعت رأسها وتداولت معه نظرات طويلة ‪ .‬ثم أردفت ‪ :‬المهم أنك تشد‬
‫حيلك وكل حاجة حتبقى تمام ‪ .‬هز رأسه متصنعا مالمح متفاءلة ‪ ،‬إال أن ذهنه ظل مشتتا وأنتابته‬
‫سوداوية زادت من أوجاع رأسه فطلب منها فنجان قهوة يطفىء به صداعه من عيار سكر قليل بن‬
‫زيادة ‪ ..‬بدا فى قمة انهياره العالى وهو يحاكم نفسه بقسوة ‪ .‬لحقها بصوت متحشرج قبل أن تخرج من‬
‫الغرفة ‪ :‬تعالى جنبى ياهدى ماتسيبنيش ‪.‬تحركت إليه فى فزع ‪ ،‬تأملته ثم جثمت على ركبتيها ومالت‬
‫نحوه ‪ ،‬تسللت أصابعها إلى شعره ‪ ،‬تركها توغل فيه حتى غرقت أطرافها فى تموجاته ‪ ،‬حاول أن يرفع‬
‫يده إلى شفتيها لكن يده سقطت منه فجأة بجانبه ‪ .‬أفزعتها اليد التى هوت ‪ :‬حاسس بأيه يانديم ‪ ..‬أطلب‬
‫الدكتور ‪ .‬وبرغم أنه أشار لها برأسه عالمة النفى فقد مألت فمه جرعة من اللعاب المالح بدت له كأنها‬
‫جرعة من الدم بينما تراقبه فى ذهول وضعف وهى على حالها راقدة بجواره وكأنها تحرسه وتحرس‬
‫كيانها كله ‪ ،‬أستنفرت كل قوتها لتمنعه من األنهيار حين لمحت نظرته تدور فى الغرفة قبل أن تستقر فى‬
‫السقف وكأنه يتلقى أمرا من قوى عليا فصرخت فيه ‪ :‬قوم يا نديم أقعد ‪ ..‬قوم ياحبيبى أنا عارفة أنك‬
‫بطل ومافيش حاجة بتهزك ‪ .‬ضغطت بكفها على خده تحثه ‪ :‬مش أنت اللى فهمتنى كده ‪ .‬غلبتها‬
‫دموعها ‪ :‬مش أنت اللى قلتلى أنا بأكره األستسالم والضعف ‪ ،‬كلماتها المرتعشة لم تمنع عالمات الموت‬
‫التى تنمو داخله وتقبض أحشاءه وتخنق قلبه ‪ ،‬فقد القدرة على مقاومة النهاية ‪ ..‬أرتعش صوته بأمنية‬
‫أخيرة ‪ :‬بصى فى عينيه ياهدى ‪ .‬ألتقت أعينهما فى لحظة خاطفة قبل الموت ‪ ،‬تذكر فيها كالغرقى الذين‬
‫يهوون إلى األعماق ‪ ..‬كل بهجة حياته ‪ ،‬البهجة الوحيدة التى جاءت كلها من حبها ‪ ،‬من نظرتها‬
‫‪41‬‬
‫األولى ‪ ،‬ومن قبلتها األولى ‪ .‬ثم صدرت منه آهة تشبه آهات الوداع ‪ .‬مات نديم فى مفاجأة مذهلة ‪.‬‬
‫فتحت عينيها عن آخرهما وأطلقت صرخة ذعر عالية كان لها صدى مرعبا فى أرجاء الشقة معلنة عن‬
‫بداية سباق محموم بأتجاه الغرفة تتصدره أيات بخطوات واسعة يزاحمها األطفال الثالثة وبخطوات أبطأ‬
‫تأتى نعمة فى المؤخرة ‪ ،‬أصابتهم المفاجأة بالشلل قبل أن يسود الصراخ بكل أنواعه المعروفة ‪..‬‬
‫الطويل والقصير والمتوسط ‪ ،‬شارك الجميع فى عزفه هدى وأيات ونعمة بينما تعلق األطفال بجثة‬
‫أبيهم يفعلون كما تفعل أمهم وعمتهم يهزون جسده ويشدونه لعله يصحو ‪ .‬أنتشر الصراخ والنحيب‬
‫كالعدوى ‪ ،‬النظرات الذاهلة وأثار الصدمة فى الوجوه كأنها وشم ‪ ..‬يلفون حول بعضهم وكأنهم فى‬
‫دوامة تدور فى الغرفة ‪ ..‬حدقت هدى فى وجه نديم الذى جف وعتم بياض عينيه فتأكد ت أنه رحل دون‬
‫أن يستأذنها فأجتاحتها رغبة فى شد شعرها من جذوره ‪.‬‬

‫ركعت هدى عند قبره وتأملته فى أستيعاب وهم يحفرون فى األرض فجوة يضعون نديم داخلها ثم‬
‫يهيلون عليه التراب ببساطة مذهلة ‪ ..‬أشفقت عليه وكانت كعادتها على أستعداد ألنتشاله من شعوره‬
‫الكامن بالعجز ‪ .‬خيل إليها أن التراب يبكى واألرض تهتز من تحتها ‪ ..‬بينما أذان العصر يتردد صداه فى‬
‫سماء مقابر المنارة ‪ ( ..‬أى سر إلهى أو دنيوى ربط العصر بالموت ) كانت لحظة خواء رهيبة أمتزجت‬
‫فيها سمات العصر الجنائزية بسمات الموت المنبعثة من األرض والحيطان واألحجار فتبشر بقرب‬
‫النهاية وتوحى بتشابه المصير‪.‬‬

‫جلست "أيات" مطرقة فى ركن الصالة خدها على كفها وعينيها ساهمتان ‪ ..‬لم تعد تسمع بكاء من‬
‫حولها ‪ ،‬لم تعد ترى السواد الذى يمأل الصالة الواسعة ‪ ..‬بدت ساكنة فى مكانها متصلبة المالمح إال من‬
‫رمشات بطيئة تتحرك بأنتظام على أيقاع الشيخ "عبد الباسط " الذى يجلجل من خالل أذاعة القرأن‬
‫الكريم ‪ ،‬وكلما سكت تحولت بنظرها فيمن حولها ‪ ،‬تتأمل وجوه المعزيات ممن تبقى من أقارب وجيران‬
‫قبل أن تعود الى جمودها حين يعود الشيخ عبد الباسط زاعقا بأعلى صوته دون أن يسمعه أحد ‪ ،‬لغط‬
‫النسوان وهمسهن يعلو عليه ويطمسه ‪ ،‬وبقيت أيات مكلومة فى الصالة دون حراك بعد أن غيب وجه‬
‫أخيها التراب ‪ ،‬مضى على رحيله أسبوع ‪ .‬كانت "هدى" ال تملك إال عينان تبكيان ‪ ،‬وكل ما حولها‬
‫أصبح خواء كأنه خال حتى من الهواء و ما بين ضلوعها فراغ تصفر فيه ريح حزينة ‪.‬وعندما‬
‫أستوحدت فى غرفتها بعد أن أنحسرت عنها موجات المعزين الثقيلة الوطأة على من ال يحسن الخوض‬
‫فى طقوسها ‪ ،‬أستولى عليها فى سكون الليل حالة من الرعب ال معنى لها ‪ ،‬اذ تصورت " نديم " وهو‬

‫‪42‬‬
‫يصحو فى قبره من غيبوبة طويلة خدعتهم بقناع الموت المهول ‪ ،‬فيجد نفسه فى ظلمة المحبس‬
‫العجيب ‪ ،‬تخيلت حالته وعاشت معه تسمع زئيره المسترحم وهو ينبش سر القبر المفزع الرهيب‬
‫بأظافره وينادى الناس " أنا حى طلعونى من هنا " ‪ .‬ينتفض كل ما فيها فزعا وترتجف شفتاها وهى‬
‫تقرأ قصار السور لتبعد بها وساوس الشيطان الرجيم ‪ ،‬لكنها دائما فى النهاية تجد نفسها داخل قبر‬
‫" نديم " تراقبه وهو ينبش سقفه ‪.‬‬

‫آلت المسئولية إلى األرملة الشابة ‪ ،‬سقطت عليها جميع أنواع الشقاء ‪ ،‬تنظر ألبناءها المتحلقين حولها‬
‫يتشبثون بها كطوق نجاة أحاطتهم بين ذراعيها وهى تنهج حين رددت داخلها قسما أهتز له بدنها كله‬
‫عندما قطعت على نفسها عهدا أن تحقق لهم ما لم يحققه زوجها الراحل ‪.‬‬

‫كانت قطرات المطر الثقيلة تدق نافذة العنبر ‪ .‬أدركت فايزة أن هدى منصرفة الى مطاردة ذكريات‬
‫" نديم " بين تالفيف الظالم المنتشر فى العنبر ‪ ،‬فلم تقطعها بالحركة أو الكالم ‪ ،‬وأنما قدرت حرمة‬
‫الكأبة التى شردت فيها رفيقتها فكتمت أنفاسها وتركتها تنعم بشجى األسترجاع ‪ ..‬إال أن حركة‬
‫"سامية " الكثيفة فى السرير المواجه تسرق نظرات فايزة التى تتابع ما أرتسم الى جانبى كتفيها فى‬
‫الضوء الخافت ظل وجهها الذى بدا كشبح يتحرك على الحائط ال يكاد يبدو من تفصيالته شيىء ‪ ،‬فأن‬
‫لوجهها سواد عينيها و مايبدو من تلك الكتلة الضخمة المظلمة سوى بعض الثنايا وبريق شعلة‬
‫السيجارة فى يدها ‪.‬‬

‫يمر شريط الذكريات سريعا فى رأس هدى ‪ ،‬ليصل بها إلى المشهد األخير بعدما حشرها القدر بين‬
‫عوامل تتسابق كلها إلى شقائها وكان أشدها وطأة على نفسها ما تركه " نديم " من أمور لم تحسم ‪،‬‬
‫كل ما تدركه من حقائق أن ثروة زوجها كلها بين يدى "نسيم " والتى تقدر قيمتها بأكثر من ثالثة‬
‫ماليين جنيه حسب أخر أحصاء ورد على لسان " نسيم " للمرحوم نديم قبل أن يقعده المرض ‪ ..‬حكمها‬
‫المسبق على أخالقيات " نسيم الشرقاوى " وقلقها الشديد منه وأحساسها الكامن بأنه رجل تغلب‬
‫مساونه على حسناته سبب لها ضغطا عصبيا بالغ القسوة عليها ‪.‬‬

‫لم يتصل بها سوى ثالث مرات متقطعة منذ وفاة زوجها وأن كان أتصاله األخير يحمل وعدا بتحديد‬
‫موعد للقاءها غايته يومين أو تالتة على األكثر‪ ..‬مر شهر كامل ولم يأتيها صوته ‪ .‬أتصلت به عدة‬
‫مرات متتالية ‪ ،‬راوغها وتهرب منها وضاق بها ‪ ،‬كما حذر سكرتيرته الخاصة بعصبية ‪ :‬لما مرات نديم‬
‫تتصل أبقى وزعيها قولى لها أى حاجة ‪ ..‬سافر عيان مش موجود ‪.‬‬
‫‪43‬‬
‫أصبحت فريسة لشك يتنامى كل ثانية وكل لحظة وهى تلعن الظروف وتعتب على حبيبها الراحل ‪،‬‬
‫أندفاعه بكل ما يملك لمشاركة رجل بمواصفات " نسيم " دون أن يحفظ حقوقه بعقد أو أثبات ‪ .‬تملكتها‬
‫حيرة وتوقعات متشائمة لمصير غامض يخبأه القدر ونسيم ؟! لكنها طردت هذه الخياالت المريضة فى‬
‫أصرار وصبرت أسبوعا بعد آخر وال نتيجة ‪ .‬وبعد تيقنها من أصراره على التهرب أمتأل قلبها حسره‬
‫وأثرت أن تجد سبيال أخر بعرض قضيتها على من بيده التأثير والحل كما تعتقد ‪ ،‬فطلبت وساطة‬
‫" الحاج قبارى" للتدخل ‪ ،‬إال أنه كان واضحا معها وهو يصارحها بأن عالقته سيئة للغاية فى الوقت‬
‫الحالى مع هذا الرجل وتكاد تكون مقطوعة ‪ .‬صرح لها بتلك المعلومة من خالل مكالمة تليفونية مبديا‬
‫أسفه الشديد عن عدم المساعدة محذرا فى نهايتها من أساليب نسيم وأالعيبه مع وعد منه بمتابعة‬
‫تحركاته وأمدادها بأى جديد حين يتمكن من ذلك ‪.‬‬

‫يومان وتالت ساعات كانت هى المدة الفاصلة بين تلك المكالمة وقرار هدى الحاسم بمباغتة نسيم فى‬
‫عقرمكتبه بعد أخبارية سريعة جاءتها على لسان قبارى ‪ :‬ألحقى بسرعة نسيم وصل أمبارح من الغردقة‬
‫وهو دلوقتى موجود فى مكتبه ‪ .‬أستقبلت الخبر بحماسة و " لهوجة " فسبقت حركتها صوتها ‪ ،‬أغلقت‬
‫السماعة ثم شكرته !‪.‬‬

‫أندفعت متحفزة تتخطف مالبسها ترتديها وهى تدور حول نفسها فى غرفتها قبل أن تنطلق خارجة من‬
‫الشقة وكأنها فى مهمة لضبطه متلبسا ‪.‬‬

‫نصف ساعة كانت كافية لتصل وتستقر قدميها عند أعتاب مكتبه لتواجهها سكرتيرته المحشورة داخل‬
‫بلوزة وبنطلون جينز تحبس فيهما شياطين دائما ما تكون على أهبة األستعداد للخروج بأشارة من‬
‫صاحب المكتب ‪ ،‬سارعتها بسؤال مباشر عن وجود نسيم ‪ ،‬لم تنتظر منها أجابة أو تتيح لها فرصة‬
‫ترتيب أى رد بعد أن ضرب األرتباك مالمحها اللعوب ‪ .‬حاصرتها ‪ :‬أنا أتأكدت قبل ما أجى أن نسيم بيه‬
‫موجود جوه فى مكتبه وياريت تبلغيه أنى عايزة أقابله ‪ .‬قالتها ثم تحسست بكفها كتف السكرتيرة‬
‫ثم أردفت ‪ :‬وال تحبى أدخله على طول ‪ .‬تحركت األخيرة فى بطء ورددت كالمغلوب على أمره ‪:‬‬
‫أل أستريحى حضرتك وأنا حأدخل أبلغه ‪ .‬غابت لدقيقتين ثم خرجت بعدها رافعة حاجبيها متصدرة جزءا‬
‫من الباب واضعة يدها فى خصرها تهز ساقها على واحدة ونص ‪ :‬أتفضلى يامدام ‪ ..‬مرت أمامها تتأملها‬
‫دون رد ‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫دخلت مرهقة ‪ ..‬هب واقفا يرحب بها ‪ .‬تهالكت عند أول مقعد ‪ ،‬أشار لها بيده أن تجلس على مقعد مقابل‬
‫ليتدبر أمره معها ‪ ،‬أو لتتدبر أمرها معه ‪ ،‬تناول فنجان القهوة من على مكتبه ‪ ،‬رشف منه رشفة وهو‬
‫ما يزال واقفا ‪ ،‬ثم أستوى على كرسيه الجلدى خلف مكتبه وبدأ يداعب شاربه األشيب بينما بقيت‬
‫صامتة إلى أن بدأ هوالحديث وقد بدت على شفتيه أبتسامة القط يداعب فأرا ‪ :‬معلش يا مدام هدى‬
‫سامحينى أتأخرت عليكى شوية ‪ ..‬بس حنعمل أيه األيام بقت صعبة ومايعلم بيها إال ربنا ‪ .‬أبتلعت ريقها‬
‫بصعوبة تصحبها تنهيدة ‪ :‬كان اللــه فى العون يا نسيم بيه ‪ .‬رمش بعينيه فى مسكنة ‪ :‬نديم اللــه‬
‫يرحمه أرتاح من الدنيا وأرفها ‪ .‬رمقته بنظرة قلقة وقد توجست شرا من حديثه ‪ :‬أنا عايزة أعرف‬
‫حقوق نديم اللى عندك ألنى بصراحة مش فاهمة حاجة و ياريت تنورنى وتفهمنى عشان دى فلوس‬
‫يتامى ‪.‬كان يمر على كلماتها يعى معناها على الفور ‪ ،‬فاألمور واضحة ‪ .‬هى تريد حق نديم كامال ‪ .‬فتح‬
‫ملفا كان بين يديه يحاور األوراق ويداورها ومرت فترة صمت ‪ ،‬تعمدت فيها هدى إال تعيد نفس السؤال‬
‫بالرغم من الحيرة والرغبة اللتين كانتا مطوقة بهما لتعرف رده ‪ ،‬و ما أن رفع عينيه إلى وجهها أرتد‬
‫للوراء متحاشيا نظراتها المتساءلة وقد أنفرجت شفتاه عن أسنان مضمومة فى عنف ‪ :‬الملف اللى فى‬
‫أيدى ده يا مدام فيه كل كبيرة وصغيرة تخص شغلى مع المرحوم والنهاردة حيبدأ األستاذ منصور‬
‫المحاسب مراجعة الملف كله وبكتيره يومين وحتعرفى كل حاجة بالمليم ‪ ..‬ما تقلقيش يا مدام ‪.‬‬

‫كانت نظرتها الممتدة تتحدى حركة عينيه المرتبكة ثم تنهدت وهى تنهض فى بطء قبل أن تعثر على‬
‫نبرة لم تتداولها من قبل ‪ :‬ماشى يا نسيم بيه ماجتش من يومين ‪ .‬قالتها بلهجة تهديدية ‪.‬‬

‫ــ ما يصحش تقومى من غير ما تشربى حاجة ‪ .‬لم تتبدل نبرتها ‪ :‬معلش نأجلها كمان يومين ‪.‬‬
‫عقب عودتها من مكتب " نسيم الشرقاوى" تغيرت طبيعة األمور فوضحت بعض النقاط ‪ ،‬وعلى النقيض‬
‫أصبح بعضها مدعاة لبلبلة األفكار أكتر من ذى قبل ‪ .‬كان فكرها يتنقل على رؤوس األسئلة التى تدور‬
‫فى رأسها فى سرعة فائقة وال تقف على أى منها وقفة تمكنها من أستيعابها وتخزينها ‪ ،‬أنتابها ذلك‬
‫األنحراف المزاجى الذى يشعر به األنسان عندما تضطره الظروف إلى الغوص فى حالة الحزن واألسى ‪.‬‬

‫دخلت غرفتها صامتة ‪ .‬ظل الصمت قائما ‪ ،‬فأكرهت نفسها على الجلوس على طرف السرير وأستمر‬
‫صوت طحن أضراسها غير المجدى ‪ ..‬وجدت نفسها مطوقة بشخوصها وأحداثها ‪ ،‬أمتأل خيالها‬
‫بالمشاهد والصور وأيام هاربة جمعتها ‪ ،‬وأخرى كانت غائبة أمسكت بها فى زحمة تلك الوقائع وكل‬
‫حدث زاحم فى ذهنها حدثا أخر فى نفس الدهشة حين سألت نفسها بقسوة ‪ :‬كيف تساهلت وسمحت‬
‫‪45‬‬
‫لزوجها فى بداية األمر أن يبتلعه نسيم بتلك السهولة ؟ خرجت من السؤال إلى همومها األنية ‪.‬الضغوط‬
‫تتزايد حدتها كل يوم ‪ ،‬المراسالت تكاد تكون اسبوعيا من إدارة مدرسة نورا ويوسف تستنكر فيه‬
‫التأخير فى دفع األقساط بخالف طلبات يومية متجددة تزيد الوضع سوءا وتعقيدا تدفعها إلى الكأبه كلما‬
‫وجدت نفسها وحيدة بال سند ‪.‬‬

‫تمددت فى تعب تشبك يديها خلف رأسها ‪ ،‬وعيناها تحدقان الى السقف ‪ ،‬ترمش فى بطء ‪ ،‬تحتمى من‬
‫ذكرياتها بأنتكاس الرأس ‪ ،‬قبل أن تديرها للحائط تحدق فيه بعينين محترقتين بعد أن لفت نفسها جيدا‬
‫بالبطانية وجمعت تحتها نهديها فى أصغر مساحة ممكنة ‪.‬‬

‫ظلت أيات على حالها فى غرفتها أسيرة أوجاعها وأزماتها ‪ ،‬تتابع مايجرى فى حياد‪ ،‬ليس فى حياد‬
‫فقط ‪ ،‬بل فى أهتمام قارىء يتابع حبكة رواية يريد أن يعرف إلى أين تنتهى ‪ ،‬لم تعد تحس بالمصيبة ‪.‬‬
‫أغمضت عينيها فى قساوة تحاول فصل نفسها عن الخارج ‪ ،‬كى تستسلم لجوانية داخلية تعيشها بعد هذا‬
‫الوقت العصيب الذى أصطدمت فيه براءة قلبها بنذالة البشر وأحتك أرهاف حسها بسوقية العالم ‪،‬‬
‫فعرفت كيف تنكمش إلى نفسها وأصبحت ال ترجو من العالم شيئا بعد أن كونت لنفسها عالما من‬
‫صنعها ‪ ،‬فكانت نبرتها محايدة وباردة وال تعلن عن أى حس يقتضيه الموقف ‪ ،‬حتى أبدت هدى أستياءا‬
‫وتذمرا أنعكس فى لهجتها التى أنفجرت منها كاللغم ‪ :‬حرام عليكى ياآيات سيبانى أتلطم فى الدنيا لوحدى‬
‫عشان أجيب حق أخوكى اللى مات وأنتى مكبرة دماغك وكأن المال اللى عند نسيم مالكيش فيه نصيب ‪،‬‬
‫ساعدينى وأعملى أى حاجة ‪ ..‬كلمينى شورى على ما تسبينيش كده لوحدى غرقانة ‪ ..‬جاء ردها كمجرم‬
‫يقر بجريمته ‪ :‬أنا مافيش منى فايدة ياهدى أنا أنسانة ميتة منتهية ‪ ،‬ال بأيدى أساعدك وال حتى أساعد‬
‫نفسى ‪ ..‬أعذرينى وسامحينى ‪ .‬قالتها قبل أن تنسحب الى غرفتها ‪ ..‬المراقب يدرك أنها سلبية أكثر من‬
‫الالزم ‪ .‬غير أن داخلها حزنا عنيفا عندما تلوذ بغرفتها ‪ .‬كان هياجها على فراق شقيقها من الهوس ‪.‬‬
‫حيث أن كلمات كثيرة كانت تمثل أحيانا على شفتيها فى نفس اللحظة التى تخلط فيها بين األلفاظ‬
‫كالمجذوبة وفى سكون الليل كان يحلولها أن تخرج الصور القديمة من مخبئها فتتفرس فى مالمح‬
‫أخوها وتقبلها ثم تتجه ناحية النافذة وترفع رأسها إلى السماء وتحدق فى عباءة الليل مطلقة العنان‬
‫لذكرياتها قبل أن تنهى جولتها إلى ظهر مقعدها أمام البيانو ‪ ،‬لتحتضن أصابعها أصابع البيانو الملتصق‬
‫ببرودة الحائط ‪ ،‬سرت النغمات المالئكية أشبه بالموسيقى الكنسية ‪ ،‬تنفض بها حزنها وتسرح معها ‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫رنين جرس الباب يشرخ جدار الصمت والحزن فى شقة هدى قبل أن ينفتح فى فرجة صغيرة كانت كافية‬
‫لتستطلع " نعمة " وجوه قافلة من الجيران تتقدمهم " زيزيت " وبجوارها " سميحه هانم " فى حيازة‬
‫زوجها "خيرى" وفى الخلفية منهم دكتور " كرم اسباستيان " ومن وراءه " نوح البواب " كأنه ظال‬
‫معتما ‪.‬انزاحت نعمة للوراء ومعها باب الشقة فى أشارة منها ليتقدم الضيوف تزامنا مع خروج نورا من‬
‫غرفتها متزعمة أخوتها لتستكشف الداخلين بينما أنفجرت فرحة مبالغا فيها أصابت بسمة عند رؤيتها‬
‫للضيوف ‪ ،‬فهى نادرا ما ترى بشرا غير الساكنين معها ‪ ،‬أما يوسف فأنفرجت أساريره برؤية الخواجة‬
‫كرم فى حين أبتسمت نورا أبتسامة مبتورة منكمشة بعدما أنتهت من فحص الوجوه كعادتها ‪ ،‬فبالرغم‬
‫من كونها مازالت بالصف الثانى األعدادى بمدرسة " ماريا أوزيليا " إال أنها تملك حضورا قويا ولها‬
‫" كاريزما " من نوع غريب ‪ ،‬لها طريقة كالم مميزة سريعة ومنتظمة أضافت عليها حكمة ال تتناسب‬
‫مع سنها ‪ ،‬وكثيرا من األحيان أستسلمت أمها ألرائها التى تخص نظام البيت وشئونه ‪.‬‬

‫قالت " نعمة " بعد أن أغلقت الباب وهى تقودهم إلى الصالة ‪ :‬أهـــال وسهال أتفضلوا فى الصالـــون ‪..‬‬
‫بادرها نوح ‪ :‬كتر خيرك يانعمة ‪ ..‬فى حين أنحرفت " زيزيت " بأتجاه نورا تضع قبلة على خدهــــــا ‪:‬‬
‫ماعدتيش عليه ليه النهاردة فى األتيليه ‪ .‬نكست عينيها دون رأسها ‪ :‬عشان أنا زعالنة منك‬
‫ياطنط حضرتك وعدتينى أنك حتعلمينى أزاى أفصل شورت لأللعاب ‪.‬أنحنت تستقبلها بين ذراعيها ‪:‬‬
‫أوعى ياحبيبتى تزعلى منى أنا أتفقت مع ماما لما تخلصى األمتحانات حتبقى معايا فى‬
‫األتيليه ليل ونهار و حأعلمك تفصيل كل حاجة ‪ ،‬مش أحنا أتفقنا يانورا نبقى أصحاب ‪ .‬تهز رأسها مع‬
‫أبتسامة ‪ :‬صح يا طنط ‪.‬‬

‫و ما أن أطمأن بهم المقام فى الصالون المطل على الصالة ببهائها وضوئها الصافى القليل يتدفق من‬
‫األركان ‪ .‬جلسوا ثالثتهم على كنبة الصالون الذهبية ‪ ،‬خيرى فى الوسط بجسده الفارع يحاصره من‬
‫الطرفين كرم ونوح بينما فى مواجهتهم سميحة هانم بجوار زيزيت فى حين ظل خيرى محبوسا فى‬
‫مقعده يتأمل شاردا كعادته كل ما هو عتيق ‪ ..‬مشى ببصره بأتجاه النافذة قوسية السقف المحفورة عميقا‬
‫فى الجدار ثم إلى الستائر البيض المطرزة حفرا التى تعود لزمن القصور ـ ورث متداول عن األجداد ـ‬
‫تعبره قشعريرة دائما ما تصيبه عند رؤيته لتلك النماذج القديمة ‪..‬أحتوته تلك العصور وصار شغوفا بها‬
‫وحلم كثيرا وتمنى لو عاش فى رحابها يوما ‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫دقائق وكانت "هدى " ماثلة أمام أعينهم بوجهها الرقيق وثيابها السوداء وشعرها الملموم والخصلة‬
‫المتمردة على جبينها تطل على عينان غائرتان تلمعان كبقية ماء فى قاع بئر ‪ ،‬بعد أن فرغت "سميحة"‬
‫من عناقها تسلمتها زيزيت ومن قبلهما كلمات مواساة وتشجيع تناثرت على ألسنة خيرى وكرم ونوح ‪.‬‬

‫وما أن أنتهت المقدمة الواجبة حتى أحتلت حكاية " نسيم الشرقاوى" صدر الحديث وتمطت هدى فى‬
‫تفصيالتها وأحتماالتها ‪ .‬كانت عصبية وحركاتها مضطربة ‪ .‬شعر الموجودين بأن األحداث تفوقها وأنها‬
‫األن تتوقع المصائب كلها و التستشعر قوة للمقاومة وال حتى محاولة للفهم ‪.‬‬

‫لم تكن هناك حاجة لتوجيه أسئلة كثيرة لها ‪ ،‬كان يكفى تأملها وهو ما طبقه خيرى الذى تفصله عنها‬
‫منضدة منخفضة ‪ ،‬كان شغوفا لردها وهو يراقب كلماتها المحملة بالمخاوف والشكوك وتجعل جسدها‬
‫يرتجف غير قادر أن يثبت فى مكانه ‪ ،‬حاول أن يستند بظهره للوراء كى يتمعن فى مالمحها ‪ ،‬إال أن‬
‫حصار كرم ونوح لم يمكنه ‪ ،‬فتابعها وهى تنتقل فى حديثها إلى ذكرى " نديم " و ماتركه لها من مصير‬
‫أصبح بين يدى اللـه ثم يدى " نسيم الشرقاوى " أحس بها تنأى بنفسها بعيدا عن عيونهم وقد سرحت‬
‫بذراعيها على فخذيها فى حين ألتزم الجميع الصمت أحتراما ألساها بينما توجه خيرى ـ بجوارحه كلها ـ‬
‫منصتا حتى شارفت على األنتهاء ‪ ،‬فأعتصرت كل حكايتها فى جلستها ‪ ،‬سمعت فيها قلوبهم تضج‬
‫بالحزن حتى كبر األسى فى وجوههم ‪ ..‬بدا واضحا أن هدى ال تحكى وانما تخاطب ذاتها أو تلقى من‬
‫فوق كتفيها أحماال ‪ .‬المفاجأة على وجوه الموجودين كانت أكبر من أستياءها ‪ ،‬مخاوفها من " نسيم "‬
‫أثارت ذعر كل من تطاول برأسه ليفهم ‪.‬‬

‫أراد " الخواجة كرم " أن يكون أول المعقبين وكأنه يريد األفصاح عن شيىء مختلف ‪ :‬من رأيى يامدام‬
‫هدى أنك تاخدى معاكى محامى شاطر لما تقابليه فى الزيارة الجاية وما دام هو راجل ألعبان يبقى الزم‬
‫يالقى اللى يالعبه ! ‪ ..‬تطلعت اليه بنظرة تراوح ما بين الدهشة واألستنكار ‪ :‬محامى أيه يا دكتور كرم‬
‫ده ما فيش مستندات وال أوراق رسمية بين المرحوم وبينه‪.‬‬

‫بعد أن تمكن من لملمة تفاصيل لقاءها األخير مع نسيم ‪ ،‬عقب خيرى فى صيغة تساؤل ‪ :‬متهيألى الزم‬
‫يكون عندك حلول جاهزة ‪ ..‬الراجل ده ممكن يفاجئك بأى حاجة !!‪ ..‬قالها وهو يقرب وجهه من وجهها‬
‫الذى تصرخ فيه تعاسات وعذابات ‪ ،‬عدلت من وضع جسمها قبل أضطرارها لألنحناء فبرزت مفاتن‬
‫وجهها رغم قنوطها وأفصاح عينيها الشاردتين عن حزن وقهر ال قرار لهما‪ ،‬وبعد سكتة قصيرة ‪ :‬ما‬
‫ينفعش يا أستاذ خيرى أفكر فى حلول و ال أستنى مفاجأت الحل الوحيد أنى أجيب حق والدى بالكامل ما‬
‫‪48‬‬
‫ينقصش مليم واحد ونديم مش حيرتاح فى قبره إال لما أجيبله حقه من الراجل ده ‪ .‬كما شارك " نوح "‬
‫قبل أن ينحنى محتضنا قاع مقعده بنبرة قدرية ‪ :‬معلش ياست هدى دى أرادة ربنا وحكمته وده أختبار‬
‫وإن شاء اللـه كل حق الزم يرجع لصحابه ‪ .‬قالها بصيغة تسليم وأذعان بينما راحت هدى تتعقب أرائهم‬
‫وأقتراحاتهم فى صمت وبدا وجهها كما لو لم تعبره طوال عمرها أبتسامة واحدة ‪ ..‬بدا قاحال لدرجة‬
‫الفزع ‪ .‬أدركت زيزيت مدى العذاب الساكن فى كيان صديقتها برغم تظاهرها بالهدوء ‪ ..‬أثار المشهد فى‬
‫نفسها صورة قديمة عصرت قلبها ‪ ،‬لعلها تذكرت لحظة وفاة والدتها وربما معاناة الوحدة بعد طالقها ‪،‬‬
‫فبدت متوترة حتى أن عظام كتفيها لم تكن لتلمس مسند مقعدها وتأهبت ألنفعال داخلى وهى تسترق‬
‫النظر إلى عينى هدى ‪ ،‬تقرأ فيهما ذلك النداء األسترحامى الذى يأتى من بعيد ‪ ،‬قد تكون فى حاجة إلى‬
‫معونة أو لمعجزة و ربما ترجو أن تترك وشأنها فى خضم مشاكلها ‪ ،‬فعقبت بنبرة حزينة و تقطيبة‬
‫على وجهها تحسها وال تراها ‪ :‬ما تقلقيش يا هدى وال تخافى وخلى أرادتك قوية و أوعى تستسلمى ده‬
‫حقك وحق والدك وخليكى فاكرة أنك أنتى اللى علمتينى أزاى أبقى قوية وأتحمل و ماأتكسرش ‪ .‬تنهيدة‬
‫مرتعشة ‪ :‬ربنا يستر يا زيزيت ‪ ..‬أنا كل قلقى وخوفى أنه دايما بيتهرب منى ومش قادرة أفهم ليه ؟‬
‫قاطع نوح قبل أن يهرش فى ركن شاربه ‪ :‬ياست هدى ما دام بيتهرب منك تبقى نيته مش كويسة وأكيد‬
‫بيدبر لحاجة ‪ .‬كلماته أتاحت لخيرى أن يستخلص أستنتاجا ‪:‬لو فرضنا أن نسيم بيتهرب منك فعال يبقى‬
‫أكيد وراه سبب و أحتمال يكون ماعندهوش سيولة وبيحاول يجمعلك المبلغ ‪ ..‬أو صمت ثم عاد ‪ :‬أو‬
‫بيخطط لملعوب ‪ .‬أومأت هدى أهدابها باأليجاب ‪ :‬هو فعال يا أستاذ خيرى الراجل ده مش سهل ومش‬
‫مريح وأكيد بيخطط لحاجة وبيدبر لشر ‪ .‬تنحنح كرم وكأنه يكرر سؤال يجول فى خاطرها ‪ :‬راجل زى‬
‫نسيم الشرقاوى ممكن تفكيره يوصله لحد فين ؟ ‪.‬‬

‫ـ ده راجل زى التعبان وضميره ميت ويسمحله بأى حاجة ‪ .‬راقب خيرى حركات يديها الناطقة بأقصى‬
‫درجات األنفعال الذى أنتقل إليه كالعدوى ‪ :‬أنا مش قادر أصدق أزاى نديم اللـه يرحمه حط نفسه فى‬
‫مصيدة راجل بالطباع دى !! ‪ ..‬هزت " سميحة هانم " رأسها حاملة ما يشبه الخوف بالرغم من أنها‬
‫كانت أكثر منهم حيرة وأعتصاما بالصمت إال أنها تصنعت التفاؤل ‪ :‬إن شاء اللـه ربنا حيقف معاكى‬
‫والملعون ده حيرجعلك حقك وحق والدك ‪ ..‬قبل أن تنهى جملتها كانت بسمة قد أنفلتت من قبضة‬
‫" نعمة " فى لحظة مرورها من الصالة الى الصالون ناحية أمها ‪ ،‬تشبثت بها وحشرت رأسها فى‬
‫صدرها فمالت تطبع قبلة على خدها قبل ان تباغتها بمالحظة ‪ :‬أنا مبسوطة منك يا ماما عشان أنتى‬
‫مش بتعيطى زى كل يوم !‪ ..‬ربتت على ظهرها وهى تجاهد اال تستسلم لدموعها التى غصت بها ‪.‬‬
‫‪49‬‬
‫أختنقت وأنتزعت نفسها لتنهض بينما لم تستطع " سميحة هانم " مقاومة البكاء ‪ ،‬فخرجت دمعتين‬
‫وحيدتين غلبتاها وأفلتتا ‪ ،‬فدفعت زوجها إلى تعليق أخير وهوينهض من مكانه يتبعه األخرون وقوفا ‪:‬‬
‫ماتخافيش يا مدام هدى أحنا كلنا معاكى ولو الراجل ده مارجعلكيش حق والدك أنا حأقلب عليه الدنيا‬
‫مهما كانت قوته ونفوذه بس المهم أجمدى وأصبرى ولو فيه أى حاجة محتاجاها أحنا كلنا أخواتك ‪.‬‬
‫كانت لحظتها بحاجة فقط الى شيىء من التعاطف واألحساس بمأزقها وقد فعلوا ذلك كله وفاض عنها‬
‫بأريحية ‪.‬‬

‫لم تصب الصور بالوهن بل راحت تجرى ببطء فى ذهن هدى فى حلكة الليل وهى على حالها ممددة على‬
‫سريرها الحديدى فى العنبر ‪.‬‬

‫مرت مهلة اليومين التى قطعها نسيم على نفسه لمراجعة األستاذ منصور المحاسب ‪ ،‬فأستطالت وتمددت‬
‫األيام أسابيع ومن ثم شهور ‪ ،‬لم تهدأ هدى خاللها ‪ ،‬لم تنتظر ردا أو تبريرا من سكرتيرته حين كانت‬
‫تداهم المكتب بزيارات مفاجئة ومتكررة وان كانت على يقين بأنه خارج البالد بصحبة زوجته فى رحلة‬
‫عالجها بسويسرا ‪ ،‬رغم ذلك أعتادت أقتحام حجرة مكتبه وتفتيشها ومسح المكان كله بحثا عنه ‪ ،‬حتى‬
‫بات األمر أعتياديا بالنسبة لـ" زيزى " السكرتيرة وعامل البوفيه ‪.‬‬

‫أصبح األمساك بنسيم بالنسبة لها كالزئبق ‪ ،‬ما أن يأتيها خبر وصوله ليال حتى يتسرب فى بواكير‬
‫الصباح مرتحال إلى الغردقة يتابع مشاريعه الفندقية التى بدأها منذ شهور ‪.‬‬

‫أمعن الزمن فى أهانتها ومحاصرتها ‪ ،‬مصاريف نورا ويوسف المتزايدة وما تتطلبه المرحلة األعدادية‬
‫من تكاليف تزاحمهما مرحلة األبتدائي وبطلتها "بسمة " التى ال تمل وال تكل عن طلبات الطفولة بخالف‬
‫بنود رئيسية للحياة اليومية وكثيرا من المستجدات التى تظهر فجأة دون مقدمات ‪.‬‬

‫حين تلقفت آذانها خبروصوله من الغردقة فى أجازة خاطفة ‪ ،‬لم يستغرق األمر منها وقتا لتباغته فى‬
‫مكتبه قبل أن تقطع المسافة إليه رافعة شعار الفرصة األخيرة مصحوبا بجراح وديون وقنابل موقوتة‬
‫من الكبت والغضب ‪ ..‬تدق األرض بقدميها فى عنف يهتز لها شعرها الملموم خلف رأسها فى عصبية‬
‫ومالمح منقبضة ونظرات حادة تخرج من عينين أحاط بهما السواد ‪ ..‬تحتلها قوة خفية تستبد دوما‬
‫بتفكيرها المنظم وتخطيطها المتقن ‪ ،‬تنذرها فى تحد مستفز بأن هناك شيئا غامضا مجهوال لم تضعه فى‬
‫حسبانها سوف يقلب كل مخططاتها رأسا على عقب ليجعلها تعيش زمنا طويال كعشوائية ‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫أقتحمــت المكان كالعادة قبل أن تلحظ عدم وجود سكرتيرته على مكتبها ‪ ..‬فاجأته على‬
‫طريقة الكوماندوز ‪ ،‬كان نسيم مطروحا إلى الوراء فى وضع مبتذل ‪ ،‬يدخن " البيب" فى أنفاس قصيرة‬
‫شرهة ‪ .‬لحظة دخولها راح يفرغ بعض من غضبه فى الضغط على الزر الذى يستدعى به سكرتيرته‬
‫ببأس شديد ‪ .‬تماسك ‪ .‬ذاب غضبه ‪ ..‬تبعثر وتراجع حتى تبدد وتالشى حين أطل بعينيه على وجه هدى ‪.‬‬
‫قبل أن يعاوده الغضب عندما دخلت سكرتيرته بأبتسامة أرتخى فيها كل غضبه قبل أن يطالها األرتباك‬
‫عند رؤية هدى ‪ .‬محاوال التخلص منها ‪ :‬تقدرى تمشى دلوقتى يازيزى ‪ .‬تتمايل كراقصة ‪ :‬مش حأستنى‬
‫حضرتك ؟ ‪..‬‬

‫ـ أل أنا لسة قدامى شوية ‪ .‬فى طاعة تهز رأسها وتنصرف ‪..‬يشير " نسيم " لهدى بالجلوس ‪ ،‬مال نحو‬
‫درج مكتبه وأخرج ذات الملف الخاص بأعماله مع " نديم " كما أدعى ‪ .‬قبض على الملف بكفيه كمن‬
‫يهم بأخذه لصدره ‪ .‬طرحه أمامه ‪ .‬بينما كان السكون يلف المكتب فى كفن من التلهف والترقب ‪ .‬يمر‬
‫بأصابعه على صفحات الملف ‪ ،‬ثم يرفع عينيه نحوها وقد خصها بأبتسامته كأنه سلطان أصابه السأم ‪.‬‬
‫فى قرارة نفسه لم يكن يريد أن يعطيها ما ترجوه و لكنه كان يريد أن يزرع فيها ما أستقر فيه ‪ ،‬أراد أن‬
‫يجعلها تقبل ما سيمنحه لها فقط ‪ .‬يلعب معها لعبة يتقنها دائما ‪ .‬يدفعها الى األقتناع والقبول ‪ ،‬لتظل‬
‫تقبل جزءا من بعد جزء ‪ ،‬حتى يصبح قبولها تسليماطوعيا ‪ ،‬وال مفر منه ‪.‬‬

‫قرأ الملف بسرعة تحت أنظارها المترقبة ‪ ،‬وكان كلما تقدم فى قراءتهه زادت دهشهتها ‪ .‬أسهتمعت بدقهة ‪،‬‬
‫كى تفهم ‪ ،‬أستنفرت كل حواسها كهى ال تقهع فهى فهخ أو مصهيدة ‪ .‬لهم يبهق األن فهى المكتهب سهوى مشههد‬
‫متوتر حقيقهى ‪ .‬كهان يهدرك مهن طري قهة ههدى فهى طهرح أسهئلتها أثنهاء تالوتهه لسهطور ههذا الملهف ‪ ،‬أنهها‬
‫ال تشههجعه أبههدا علههى األجابههة والجههدال معههها أو أقناعههها بمهها يريههد لههيس بههاألمر السهههل ‪ .‬أنههه وحههده يملههك‬
‫الجواب ‪ .‬جاءت نهاية قراءته للملف المشئوم مصحوبة بأداء حركى حين أنهتفض واقفها وقهد قهرر جهالء‬
‫هذا الغموض دفعهة واحهدة ‪ :‬يبقهى أنتهى لكهى فهى ذمتهى تلتمايهة وسهبعين ألهف جنيهه ‪ .‬قالهها بتعهالى وقهد‬
‫أكتفى بمظهر يليق بسيد كريم أعتاد السخاء و كأنه ينزه نفسهه عهن أى مسهاومة ‪ .‬مها أنتههى مهن جملتهه‬
‫حتى أهتز ما فى وجهها من لحهم وههى تطلهق ههذه العبهارة كأنهها صهرخة أحتجهاج يمازجهه فهزع عظهيم ‪:‬‬
‫تلتماية وسبعين ألف جنيه ‪ ..‬حرام عليك أتقى اللـه ده أصل المبلغ لوحده تالتة مليون جنيه وأكتر ‪ .‬فى‬
‫جلسته وهو ينقل نظره بين أرجاء مكتبه متجهما ‪ :‬ياهانم أنها مهش حرامهى والمبلهغ ده ههو حقهك بالتمهام‬
‫والكمال ‪ .‬ثم أستند بكفيه على مكتبه ‪ .‬يكمل ‪ :‬عاجبك تأخديه أهال وسهال مش عاجبك اللى تقدرى عليهه‬
‫أعمليه ‪ ..‬لكن أنا ماعنديش كالم تهانى أقولهه وكلمتهى واحهدة ياههانم ‪ .‬شهعرت بنفسهها تتكسهر تحهت وقهع‬
‫‪51‬‬
‫كالمه المستفز ‪ ،‬يحاول تمرير كلماته إلى عقلها ‪ ،‬فيحدثها عهن أشهياء مكهررة كثيهرة ومختلطهة ‪ ،‬نظهرت‬
‫إليه بعينين مملؤتين دموعـا سخينة وبكلمات متقطعـة بههاجس األمنيهة المسهتحيلة ‪ :‬حهرام عليهك يانسهيم‬
‫بيه ‪ ،‬أنا عايزة فلوس جوزى كلها ‪ ..‬نديم اللـه يرحمهه مها كهانش بيخبهى عنهى حاجهة وكهان مفهمنهى كهل‬
‫سفرية بتكسب كام والكونتينر الواحد بعد مصاريفه بيكسهب قهد أيهه ‪ ،‬أعمهل معهروف دى فلهوس يتهامى ‪.‬‬
‫كانت تتحدث بال توقف ‪ .‬الكلمات التى تنطق بها تبدو وكأنها أتية من مكان بعيد جهدا ‪ ،‬مهن زمهان أخهر ‪،‬‬
‫فما هى إ ال ذلك النوع على شاكلة ‪ :‬ربنا بيحرم أكل مال اليتامى وضميرك حيأنبك طول العمر وعمر ربنا‬
‫ماحيباركلههك فههى أبنههك وال فههى مراتههك ‪ ..‬الههخ الههخ ‪ .‬كلمههات يمكههن أن يحسههبها المههرء دعههاء يتلههى ‪ ،‬تجلههى‬
‫األنفعال فى نبرتها ‪ ،‬تحاصره بمجموعة مصطلحات تلسعه والتكف عن مالحقته وتعذيبه ‪ .‬تعب األنفعهال‬
‫فـــــــى حنجرتها ‪ ،‬هدأت و تريثت أمال بسماع تعليق يصدر عنه ‪ ،‬ظل مالزما أصغاءه بكياسهة مدروسهة‬
‫‪ .‬تجلد وتجاهل ‪ ..‬فى حين خهيم صهمت مشهحون بهالتوتر ‪ ،‬وخهالل فتهرة الصهمت تعمهد أن يشهغل نفسهه ‪،‬‬
‫أزال ب ظفر أبهامه قشرة جلد فهى أحهد أصهابعه ‪ ،‬رسهالة منهه بالآلمبهاالة بينمها عهادت " ههدى" إلهى نفهس‬
‫كلماتها تستحثه فهى الحهاح ‪ .‬ضهاق بهها فغلهب عليهه الكهدر حتهى غهص بالغضهب ‪ ،‬فأختهار عبارتهه بعنايهة‬
‫شديدة ‪ ،‬كانت بلهجة تهديدية ومالمح صارمة ‪ :‬أنا مش عايز أسمع كالم تانى ومش عايز مسكنة هو ده‬
‫حقك وما فيش مليم واحد زيادة عن المبلغ اللى قلته‪ .‬قابلت تهديده ببكاء أشبه بالنحيب ‪ ،‬حينما أيقن أن‬
‫رسالته قد وصلت وأن المتلقى فهم تماما وأستسلم ‪ ،‬أنتقل بعدها إلى لهجة أخرى تقضى على أخهر قهالع‬
‫األحتجاج أو حتى المجادلة ‪ :‬أنا قلت لك يامهدام أن كلمتهى واحهدة ودلهوقتى حأكتبلهك شهيك بهالمبلغ وأنتهى‬
‫حرةولههو لكههى جنيههه زيههادة عنههدى أبقههى روحههى أثبتيههه ‪ .‬فلمهها سههمعت جملتههه األخيههرة رجعههت إليههها قواههها‬
‫وتجلدت ‪ ،‬وكانت الزاوية القاسية من فكها المثنى على مرارة تضهفى علهى وجههها كلهه دربها مهن العنهف‬
‫والقسوة مهددة ‪ :‬أسمعنى كويس يا نسيم ياشرقاوى ‪ ..‬حقى كله حأخده منك على دايرمليم ولو فاكر أنى‬
‫لقمة طرية وممكن يضحك عليها ‪ ..‬أل ‪ ..‬أوعى عقلك يقولك دى ست وحدانيهة وضهعيفة تبقهى غلطهان يها‬
‫نسيم بيه واأليام بينا ‪ .‬كان يمكن لها أن تنتظر أو أن تتفهاوض لهو لهم يسهتدعها بكلماتهه الوقحهة وعينيهه‬
‫األشد وقاحة ذات النظرة العدائية التهى تسهوط كهل قطعهة تبهرز مهن ثنايها الثهوب ‪ ..‬حهين رفهع فهى وجههها‬
‫سبابته ‪ :‬أتفضلى أطلعى بره وماتجيش هنا تانى ‪ .‬وقفت فى جمود يمتلىء بكل مكونات األنفجار ‪ :‬يعنهى‬
‫أنت ح رامى وكمان بجح وبتطردنى ‪ ..‬أيه الجبروت ده ‪ .‬قالتها وأنهدفعت نحهوه بقهوة ‪ ،‬فلمها بلغهت مكتبهه‬
‫لم تسمح للعقل أن يبدأ سيطرة حازمة على النفس ‪ ،‬لم يكن فى وسعها إال أن تشبعه بسهيل مهن الشهتائم‬
‫واللعنهات ‪ ،‬تصههدى لههها بصههفعة قويهة علههى خههدها ذات صههدى أطاحههت برأسهها ونظراتههها بعيههدا عنههه حههين‬

‫‪52‬‬
‫أفترش وجهها سطح المنضدة الصغيرة المالصقة لمكتبه ‪ .‬كان قهرها هو الذى يحرك المشهد كى يوغل‬
‫فهى فجيعههة تجمعههت عناصهرها ‪ ،‬لتنسههج خيههوط مأسههاة قادمهة ال محالهة عنههدما رفعهت رأسههها التههى عانقههت‬
‫" فازة الورد الكريستال " الموضوعة على المنضدة ‪ ،‬قبضت عليها بأصابع متشنجة ‪ ،‬فاذا به فهى ههذه‬
‫اللحظة التاريخية يهتز أهتزازا عنيفا على أثر ضربة هائلة بالفازة هوت على رأسه ‪ ،‬تليها ضهربة ثانيهة‬
‫أنقطعت من هولها أنفاسه ‪ .‬فأنكسر طوله وسقط على األرض وتكوم أمامها فأنقضت عليه تشبعه صهفعا‬
‫بهيستيرية كهالغريق الهذى يجهدف بيديهه ‪ .‬بهرزت قطهرات ضهخمة مهن الهدم خرجهت بهبطء مهن رأسهه ‪ .‬لهم‬
‫يتحرك ‪ ،‬أصبح ال يحاول أن يتقى الضربات ‪ ،‬بات مقتنعا بأن كل أحتجاج ال يجدى وان كل حركهة يحهاول‬
‫أن يقوم بها دفاعا عن نفسه لن تنفعه ‪ .‬ثم نزلت النهاية نزول الصاعقة ‪ ،‬فأستسلم ميتا ‪.‬‬

‫دوت أنتحابات هدى وتحولت إلى نداء حار تجاوزت حجرة المكتب وهى جاثمة على ركبتيها أمام كتلة‬
‫اللحم الممددة وقد غابت مالمحه تحت بركان الدم النافر من كل زوايا رأسه المهشمة ‪.‬‬

‫ــ عايزة حق نديم ‪ ..‬عايزة حق والدى ‪ ..‬قوم رد علي !‪ ..‬صرخاتها المجنونة أنفجرت أقوى من الضجة‬
‫والجلبة التى جاء بهما رجال الشرطة ‪ ،‬قبل أن تمتأل حجرة المكتب بجيران " نسيم الشرقاوى " فـــى‬
‫نفس الطابق مـــن أصحاب المكاتب وموظفيها وعمالها الذين تزاحموا وتجمعوا فى دائرة مضطربة‬
‫مهتاجة عقب سماعهم تلك الصرخات التى أعقبت سقوط نسيم صريعا ‪ ..‬صدمة ‪ ..‬همهمات ‪ ..‬الجميع‬
‫يتكلم فى آن واحد ‪.‬‬

‫بدت لينة تائهة مذهولة تتقاذفها أيدى رجال األمن الخشنة وهم يقتادونها فى موكب تخبطت داخله‬
‫قدميها وهى تجر من كتفيها ‪ ..‬كانت فى حالة بين اليقظة والحلم وخيل لها أنها أصبحت فى هوة عميقة‬
‫ولم يعد لها مناص من الفرار منها ‪.‬‬

‫بدأت رحلتها السيئة الكئيبة وهى التزال تعيش مرحلة األفاقة من وضع لم تفهم بعد كيف دخلت إليه‬
‫ومتى ستخرج منه ‪ .‬كان أول بند فى برنامج رحلتها الكابوسية هى غرف الحجز ثم التحقيقات‬
‫المتواصلة ومنها إلى بدرومات األقسام المظلمة التى تفوح فيها رائحة البول الالذعة ورائحة العرق‬
‫العطن المنبعثة من أجساد نساء لم يعرفن األغتسال شهورا ‪ .‬عرفت أنماطا من البشر ال تخطر لها على‬
‫بال ‪ ،‬بل تشككت أصال من أن تلك الكائنات كانت تعيش بيننا ؟ ‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫أفاقت أيات على واقع لم تتخيل أن تعيشه يوما ‪ ،‬كان هو نفس األحساس الذى سيطر على عقل وقلب‬
‫أبناءها ‪ ،‬وأحتلهم اليأس وتحقق لديهم نفاذ الحيلة ‪ ،‬ولم تعد لديهم باب يتوقعون منه فرجا ‪ .‬وزادت‬
‫مصيبتهم كبرا أنهم لم يكونوا يستطيعون البكاء وال الندب ‪ ،‬من هول مصيبتهم !! ‪.‬‬

‫جوالت تلتها جوالت فى المحاكم ‪ ،‬تأجيالت ثم أستئناف مع بعض الوعود والحركات والفزلكات التى‬
‫أداها " أحمد السباعى " محامى هدى الذى أشرف على أنتدابه وسداد أتعابه كامال " زيزيت " والذى‬
‫جاهد فى مرافعاته أن يأخذ القضية إلى سكة الدفاع عن النفس ‪ ،‬حيث برر مقتل " نسيم " بأنه محاولة‬
‫من المتهمة للدفاع عن نفسها من موت محقق على يد المجنى عليه ‪ ..‬شاركه فى أثبات تلك النظرية‬
‫شريكه فى الدفاع األستاذ " برهامى " محامى أسرة " سميحه هانم " والتى تحملت أيضا كل أتعابه ‪.‬‬

‫جاء يوم النطق بالحكم ‪ ..‬كانت هدى تنظر إلى القاضى من خلف القضبان داخل قاعة محكمة جنايات‬
‫األسكندرية حيث أنتبهت إلى عينيه ‪ ،‬كان أضطرابها يشتتها ويسحبها إلى أستعطافه ‪ .‬جاءت كلماته حين‬
‫ذكر الواقعة وتاريخها وأسم المتهمة والمجنى عليه قبل أن يرتفع صوته فجأة كى تصل ألذانها أهم جملة‬
‫فى حياتها ‪ :‬حكمت المحكمة حضوريا على المتهمة " هدى عبد الفتاح أسماعيل " بالسجن خمسة عشر‬
‫عاما ‪ ..‬رفعت الجلسة ‪.‬‬

‫كان المشهد بالنسبة لها ال يعنى شيئا إال أنفجار رئسها باألسئلة وأن تبتلع روحها كل بحار الدهشة قبل‬
‫أن ترسل نظراتها المفزوعة فى كل األتجاهات ودون تركيز ‪ ..‬أحست بالفجيعة ألن المصير قد تقرر‬
‫وما عاد هناك مجاال للشك ‪.‬‬

‫حان وقت الرحيل ‪ ،‬أصطفت السجينات ومن حولهن ضباط وعساكر‪ ،‬ظهرت سيارة " البوكس "‬
‫الزرقاء التى أستدارت ثم أعتدلت حتى أصبح بابها الخلفى أمام باب الحجز بينما وقف الحراس فى‬
‫صفين ليمر بينهما المطلوب ترحيلهم ‪ ،‬صعدن السجينات وصعدت هدى مع الصاعدين ‪ .‬كانت مقيدة‬
‫اليدين منحنية وملمومة على نفسها ‪ .‬ألتفتت برأسها تمسح المكان وعيناها تطرفان من نور الشمس‬
‫حين توقفت عند الدرجة األخيرة قبل أن تدلف إلى داخل البوكس تودع أوالدها وحريتها ‪.‬‬

‫فى اللحظة األولى لدخولها السجن وحين مرت داخل أسواره ‪ ،‬راحت هدى تتحسس حجارة السجن‬
‫وكأنها تبحث بينها عن حجر يستجيب لدفعتها ‪ ،‬ويترك لها ثغرة تنفذ منها ‪ ،‬ولكن كان كل شيىء متينا‬
‫وصلبا ومغلقا ‪ ،‬وبدا الباب الكبير وباب العنبر والشبابيك ذات القضبان الحديدية وكأنها فتحات حصن‬
‫‪54‬‬
‫مسدود ‪ .‬باتت يومها األول مسكون بالهلوسات ورؤى قاتمة ‪ ،‬تنهض كلما أشتدت المحنة ‪ ،‬األحساس‬
‫بالغربة يزحف على جسدها كالهواء البارد ‪ .‬يمزقها الحنين إلى أوالدها ‪ ..‬إلى حياتها ‪ ..‬إلى غرفة‬
‫نومها ‪ .‬تطبق جدران العنبر الكالحة على روحها ‪ ..‬خارت قواها وألقت بنفسها على السرير وأستغرقت‬
‫فى البكاء ‪ ،‬والسرير الحديدى الصدأ يئن تحت جسدها ‪ ..‬أغمضت عينيها كأنما هى تريد أن تحذف العالم‬
‫من حولها ‪ ..‬ضغطت جفنيها تعتصر دموعها حتى جفت ثم طافت بعيناها تكنسان العنبر ‪ ،‬كانت تتفحص‬
‫الموجودين واحدة تلو األخرى وكأنها تبحث فيهم عن سر الحياة ‪ .‬هن يعشن داخل جدران ‪ :‬هل هم‬
‫أحياء أم أموات ؟! ‪ ..‬تساءلت ثم تنبهت ‪ ..‬فهذه اللحظات هى قول الفصل ‪ ،‬فأما تنهار وتستسلم أو‬
‫تتجاوز ‪ .‬ال حل وسط ‪ .‬فكانت البداية ‪ ،‬تصحو وتتذكر ‪ ،‬وأحيانا تغيب عن الواقع بدنيا األحالم بعد أن‬
‫تحققت من األحباط وأنقطاع األمل ‪.‬‬

‫بعد فترة لم تطل حزمت أمرها وقررت إال تستسلم ‪ .‬وبدأت معركتها المريرة ضد طعام السجن والنظافة‬
‫ومقاومتها المستميتة فى الهروب من غيبوبة الروائح الكريهة التى تضرب مركز الوعى فى المخ والتى‬
‫تتسرب الى خياشيمها خالل زيارتها المنتظمة للحمامات ‪ ،‬وما أدراك ‪ ..‬رحلة تعذيب مؤكدة ‪ ،‬فأن دخلت‬
‫موت يكاد يتحقق ‪ ،‬وأن لم تدخل عذاب ومغص وتوتر ‪.‬‬

‫تمر األيام بطيئة متشابهة ‪ .‬كل يوم يشبه الذى سبقه والذى يليه ‪ .‬ذبلت جفونها وتكسرت أهدابها غير‬
‫أنها أرادت أن تتمسك بالحزم وتتعلق بأذيال الصبر كما هو دأبها ‪ .‬أنها تعيش داخل السجن تجربة مريرة‬
‫وعميقة ‪ ،‬تتأمل زميالت العنبر وتقرأ ما فى دواخلهم ‪ ،‬أنماط من البشر وألوان وأعمار وأحجام وثقافات‬
‫متباينة ‪ ..‬عادت " هدى " من غيبتها مع ذكرياتها الطويلة بمالمح ناءت بعبء ثقيل ‪ .‬مضت فترة ‪.‬‬
‫دون أن يصدر عنها حركة وفى عينيها مكان نضارتها القديمة بدا بريقا يداعبها فى استحياء ‪ ،‬يكاد‬
‫يلمس عتبة الحرية وأمل العودة ‪.‬‬

‫ها هى " فايزة " فى تلك اللحظة عند قدميها مغلفة فى جلبابها األبيض كأنما هى أيضا تتحضر لمرحلة‬
‫جديدة ‪ .‬نظراتها فى وجه هدى بدت صورة ثابتة التتغير فى حين خرج صوت األخيرة بطيئا متأثرا ‪ :‬ياه‬
‫يافايزة أنا رجعت كتير أوى لسنين فاتت و كأنى بأتفرج على فيلم طويل ‪ .‬تنهيدة ممتدة مسحت خاللها‬
‫وجهها بكفيها ‪ .‬قالت فايزة التى أنتقل اليها تأثير اللحظة ‪ :‬حاسة بيكى يا حبيبتى ‪ ..‬شفت عينيكى وهى‬
‫بتضحك وشفتها كمان وهى بتبكى ‪ ..‬أنهت جملتها ودامت نظرتها الطويلة ‪ .‬ثم عادت حين أقتربت ‪:‬‬
‫تعالى فى حضنى ياهدى ‪ .‬رفعت ذراعيها ودارت بهما حول كتفيها ‪ .‬قبلتها فى جبينها ‪ .‬غابت هدى‬
‫‪55‬‬
‫لحظة فى ذاتها قبل أن تعود إلى الحاضر فى وثبة ‪ :‬ميعاد الزيارة قرب يافايزة ما فيش أخبار جديدة عن‬
‫عبده ومنصور ؟ ‪ ..‬نفخت فى مرارة ال تتفق ولهجة المرح التى كانت تشيع فى كلماتها ‪ :‬عبده ‪ ..‬أخباره‬
‫سودة ومنيلة بعيد عنك ‪ ..‬على يدك أخباره بتوصلنى لغاية عندى ‪ .‬قبل أن ينتفض لحمها على السرير‬
‫عاودت ‪ :‬الراجل الناقص أبن الناقصة داير على حل شعره وكل يوم والتانى داخل فى جوازة عرفى مش‬
‫قادر يصبر أبن المفضوحة لغاية ماأطلع من هنا ‪ .‬تخبط بكفيها فخذيها ‪ :‬آه يانارى اللى يطولنى رقبته‬
‫ودين النبى لما أطلعله ألخليه هو والنسوان صنف واحد ‪ ..‬الصايع الضايع اللى عايش على أفايا‬
‫وبيبعزق من فلوسى ‪ .‬ضحكة مكتومة تخرج من بين ثنايا وجه هدى ‪ :‬مش يمكن األخبار اللى بتوصلك‬
‫دى هجص وأشتغاالت ‪.‬‬

‫ـ أبدا " جمال النونو " الصبى بتاعى ودراعى اليمين عمره مايغشنى وال يكدب على ده عينى اللى‬
‫بشوف بيها الدنيا بره السجن ‪.‬‬

‫ـ سيبك من عبده وسيرته وقوليلى منصور أبنك أخباره أيه ؟ ‪ ..‬تعبر وجهها غيمة حزن تشى بأن‬
‫صاحبته تخفى كمدا على شيىء جميل أفتقدته ‪ :‬منصور ده اللى طلعت بيه من الدنيا ده الحيلة ياهدى ‪..‬‬
‫منه للــه عبده أبن جليلة الطرشة من ساعة ما دخلت السجن ياختى والوله ضاع ‪ ،‬خاب فى الدراسة أبن‬
‫الموكوسة قعد يعيد فى الثانوية العامة تالت سنين وآخرتها كمل فى القهوة مع أبوه ‪.‬‬

‫ـ معلش يافايزة مش كل حاجة التعليم المهم أنه كبر وبقى راجل ‪.‬‬

‫ـ كانت جوازة سودة ونسلها هباب ‪ ..‬اللـه يسامحه اللى كان السبب ‪ .‬هزت رأسها ندما وحسرة حين‬
‫أردفت ‪ :‬آه لو الزمن يرجع تانى ؟!‪ .‬مضت لحظات قبل أن تسترجع زمنها غارقة فى تواتر أفكار تروح‬
‫وتجىء ‪ ،‬تعيد صور أيام تباعدت ‪ ،‬كأنما أنفتح صندوق الدنيا تتلصص من فتحته الخشبية فى غفلة من‬
‫اللحظة ‪ ،‬على تصاوير تعيدها إلى سنوات قديمة تمنت لو لم تكن تعيشها ‪.‬‬

‫حين زارها " خراط البنات " كما يردد أوالد البلد تجاوز عن جسدها وتركه يرعى بال ضابط وال رابط‬
‫فتكور وانتفخ كـ " الباراشوت " بال تضاريس ‪ ،‬إال أن خراطها اجتهد ونجح فى تشويه طباعها‬
‫و تصرفاتها قبل األوان ‪ ،‬فبدت عدوانية جريئة يقودها لسانا من المقاس الطويل اليرحم صغير وال يوقر‬
‫كبير ‪ ،‬حتى أن أبوها المعلم " عبد المقصود " صاحب مقهى البهوات فى حارة " أبن شكر " وهى تعد‬
‫واحدة من حوارى كرموز العتيقة والتى لم تطأها يوم قدم أى من البهوات منذ نشأتها ‪ ،‬فاض به الكيل‬
‫‪56‬‬
‫حين فاجأه أستدعاء عاجل بخطاب " مسوجر " على يد عم " جاد اللـه " البوسطجى سلمه يد بيد‬
‫للمعلم قبل أن يتناول أكراميته كوب شاى حبر وحجرين معسل بينما تالعبت العمة فوق رأسه وهو يقلب‬
‫بين يديه الخطاب ‪ :‬أيه ده يا جاد اللـه ؟‪ ..‬رشف دفعة كاملة من الرشفات الالهثة ثم مد بعدها بوزه‬
‫وألتقط بشفتيه المبتلتين المبسم يسحب نفسا طويال ‪ :‬األستاذ عبد المجيد ناظـــر المدرســة عايزك بكرة‬
‫ضرورى تعدى عليه ‪.‬‬

‫ـ ليه ياجاد اللـه ؟‪ .‬رفع عينيه الحوالء بأتجاه عبد المقصود وأن طاش منها األتجاه ‪ :‬بنتك فايزة المرة‬
‫دى زودتها على األخر وجابت النهاية ‪ ،‬ضربت مدرس العربى وعضته فى ودنه وحضرة الناظر حالف‬
‫ميت يمين ما تدخل المدرسة ‪.‬‬

‫ـ يابت الكلب ‪ ..‬قالها وحزم جلبابه حول وسطه ‪ ..‬وله يامسعد خد بالك من القهوة أنا رايح لغاية البيت‬
‫وراجع بسرعة ‪ ..‬خرج من العتبة يتوعد ‪ :‬على الحرام يابت الحرام ما تعتبى المدرسة دى تانى ‪.‬‬

‫أقتحم شقته ‪ ،‬أنطلق من الصالة إلى غرفة نومه كالسهم ‪ ،‬أطاح بجلبابه العسلى المسترخى على شماعة‬
‫خلف باب الغرفة قبل أن يسحب من تحته حزامه الجلدى المتدلى كاألفعى ‪ ،‬لحظات وكان فى غرفة فايزة‬
‫رافعا ذراعه كتمثال الحرية يحرسه ضوء أصفر مصدره لمبة " تالتين واط " تتراقص فوق عمامته‪..‬‬
‫مرت دقيقة واحدة أو مايزيد كان قد أودع خاللها عبد المقصود عشر جلدات متتالية على ظهر فايزة‬
‫المتكورة عند قدميه ‪ ،‬جلدات لها رنين تسحبك على الفور لمشهد جلد المسلمين على يد الكفار فى فيلم‬
‫" فجر األسالم " ‪ ،‬إال أنها أبت أن تتحمل لسعات الحزام ‪ ،‬فجلجل صوتها يشدوصراخا فى الشقة منسابا‬
‫إلى الجيران موصوال بالحارة التى عانت كثيرا من لسانها وأفعالها ‪ ،‬فتحركت مجموعة قليلة من أهل‬
‫الحارة تدفعهم شهامة بطيئة مترددة أستجابة لنداءها ‪ :‬ألحقونى ياناس ‪ ..‬غيتونى يا أهل الحارة أبويا‬
‫حيموتنى ‪ .‬مرت عشر دقائق قبل أن يتمكن مجموعة من الجيران بالفصل بينهما وفض األشتباك ‪ ،‬تم‬
‫تجريده من الحزام وهو يردد بصوت متقطع كمن يلفظ أنفاسه األخيرة ‪ :‬بنت الكلب دى حتموتنى‬
‫حتجيبلى المرض ‪ ..‬كل يوم والتانى عاماللى مشكلة ‪ ..‬فى المدرسة بتضرب البنات زمايلها وبتشتمهم‬
‫وأخرتها عضت المدرس بتاعها وعلى يدكم هنا فى الحارة األسبوع اللى فات ضربت " وصفى" اللبان‬
‫وقبلها بهدلت شلبى بتاع الخضار ‪ ..‬قولولى أعمل فيها أيه ‪ ..‬أنا زهقت ‪ .‬ثم أندفع نحوها فى محاولة‬
‫أخرى للتخلص من األيدى التى تمنعه من الوصول اليها قبل ان يستعيد عافيته ثانية ‪ ،‬صرخ فى‬
‫مرارة ‪ :‬أمها ماتت واخواتها كلهم أتجوزوا وسابولى النصيبة دى فى أرابيزى !‪ ..‬غير أن " زوبة "‬
‫‪57‬‬
‫زوجة " حامد " الحالق أحتوته فى صدرها قبل أن تلقنه فى اذنه ‪ :‬بنتك كبرت يامعلم وآهى دلوقتى‬
‫بتاعة ستاشر سبعتاشر سنة جوزها وأخلص منها وتبقى فى أفا راجل يشيل همها ‪ .‬اال أن " حامد "‬
‫أشار إلى مالحظة ‪ :‬وأهم حاجة فى العريس أنه يبقى راجل أبن أبوه عشان يقدر عليها ويعرف يشكمها‬

‫وزن " عبد المقصود " كالم " زوبة " بميزان راحة البال والخالص من وجع الدماغ ‪ ،‬فأقتنع بالفكرة‬
‫وتحمس لها ‪،‬بينما لم تجد قبوال عند كل من لمح له ورأه مناسبا ‪ ،‬لم يجد تجاوبا سوى من "عبده"‬
‫الشهير بـ " الجن " فهو عربيدا فى حوارى كرموز يخطف من الخلق ما وسعه ذلك ‪ ،‬نصاب بالفطرة‬
‫بلطجى بحكم النشأة يجيد اللعب بالكلمات ‪ ،‬سجين سابق بسجن الحضرة بتهمة النصب والبلطجة ‪.‬‬

‫أعتقد " عبد المقصود " فى شخصيته القوة الكافية للجمها بضخامة بنيانه وأقتنائه لمالمح رادعة حيث‬
‫يملك شعرا أكرت يغطى رأسه الكبير وشارب كثيف يعتز به يلمسه ويداعبه على الدوام كدلوعة‬
‫فى وجهه ‪.‬‬

‫دخل "عبد المقصود " شقته ساحبا " عبده الجن" فى يده الذى بدا فى هيئة " فريد شوقى " فى فيلم‬
‫" بداية ونهاية " حيث السوالف تغطى نصف صدغيه ‪ ..‬عند عتبة الصالة ‪ .‬أشار إليه ‪ :‬أقعد ياعبده‬
‫حأدخل أجيب العروسة عشان تعاينها ‪ ..‬لم يسمع ردا بل رأى أبتسامة لم تكتمل خرجت من بين شفتيه‬
‫وتوقفت عند زاويتهما ‪.‬‬

‫أدار " عبده " رأسه فى كل األتجاهات يتفحص كل شبر تطاله عينيه كاللص الذى يدرس المكان قبل‬
‫مرحلة التنفيذ ‪ ،‬بينما يفرك كفيه محدثا نفسه بهمس ‪ :‬دى باين عليها حتحلو وحتلعب بالجامد ياجن ‪.‬‬
‫صوت" عبد المقصود " يأتيه متسلال ‪ :‬يابت أمشى أسمعى الكالم ‪ ،‬ياساتر عليكى ‪ .‬تقدم بها الى الصالة‬
‫يجرها من يدها ‪ ..‬يسحبها سحبا وهى من خلفه تسير كالمخبولة ‪.‬‬

‫تتطوح للوراء يسبقها صدرها وبطنها ‪ .‬قام " عبده " من كرسيه فى بطء ماسحا صدره بكفه كما أعتاد‬
‫" محمود المليجى " فى أفالمه‪ ..‬تتفحصه فايزة فى معاناة كمن يجلس فى حمام بلدى يشكو أمساكا ‪،‬‬
‫تعتصر مالمحها عصرا ‪ ..‬أنتقلت نظرات والدها من وجه العريس إلى وجه أبنته التى تعانى األرف‬
‫وعدم الرضا ‪ ،‬فخرج صوته يمأل المسافة بينهما ‪ :‬أدى ياستى العريس نقاوة أبوكى ‪ ..‬ده عبده الجن‬
‫ودى بنتى فايزة ‪ ..‬عارف يعنى أيه بنتى فايزة ‪ .‬أجاب عبده مرتديا قناع الخجل ‪ :‬يعنى بنت المعلم اللى‬
‫بيعلم األصول وكبير معلمين كرموز ‪ .‬قاطعه مضيفا ‪ :‬مش كده وبس ياجن ‪ ،‬فايزة دى هى األدب كله‬
‫‪58‬‬
‫واألخالق يعنى الطاعة والحنية ‪ .‬أنهى جملته فى أرتباك يضغط على أضراسه وهو يلكزها فى جنبها كى‬
‫يستقيم وجهها باتجاه سحنة العريس ‪ .‬أردف ‪ :‬وده عبده يابت عارفاه طبعا ‪ ..‬هو شقى حبتين ومزودها‬
‫تالت حبات لكن إن شاء اللـه ربنا حيهديه لما يحصل النصيب وتتم الجوازة ‪ .‬قالها وسكت ثم قرب‬
‫وجهه من عبده ‪ :‬عشان أنا ناوى والنية للـه حأخليه يشتغل معايا فى القهوة ويبقى دراعى اليمين أنا‬
‫محتاج راجل يبقى جنبى فى شغل القهوة ‪ ..‬ثم تحسس خد أبنته ‪ :‬أيه رأيك بقى يافايزة ؟‪ .‬أنكمش خدها‬
‫قبل أن يضيق صوتها ‪ :‬فى أيه ؟!‪ ..‬أحتدت نبرته ‪ :‬فى عبده يابت ! الذى عدل من وقفته وشد صدره‬
‫ونفخ رقبته كالطاووس مستعرضا طوله وعرضه ‪.‬‬

‫ــ ده بلطجى يابا ‪ ..‬زالت نفخته وأنكمشت رقبته وبدأ كالطاووس المحتضر ثم مط شفتيه ‪ :‬برضه ده‬
‫كالم يامعلم ‪.‬أدرك أبوها بوجوب أنهاء الموقف سريعا ‪ :‬قوم يا عبده أتكل على اللـه دلوقتى و عايزك‬
‫تجهز نفسكو تحضر حالك و الشهر اللى جاى كتب الكتاب والدخلة وأنا حأجهزلكم أوضه هنا فى البيت‬
‫و حأفرشها أحسن فرش وأبقى عدى على الليلة فى القهوة ‪.‬‬

‫ــ علم يامعلم وسينفذ ‪.‬‬

‫لم تكن تستطيع أن تقف فى وجه حماس والدها الذى انتقل اليها وقادها إلى هذا المصير ‪ ،‬فسقطت‬
‫خاضعة ألوامره بالزواج من " عبده " قبل أن تفقد القدرة حتى على القلق أو التفكير أو التردد بعد أن‬
‫ربط أبوها زواجها من عبده بتنازله لها عن المقهى وبيتين ‪ ،‬األول تسكنه فى حارة " المناجيلى"‬
‫والثانى فى أخر حارة " أبن شكر " القريب من المقهى ‪.‬‬

‫أنتهت مراسم الفرح فى سالم وسط حضور جماهيرى واسع ضاقت بهم " أرض الوسعاية " المواجهة‬
‫للمقهى ‪ ،‬فى حين تصدر الصفوف األولى لفيف من أصحاب المقاهى بمنطقة كرموز ومجموعة ال بأس‬
‫بها من أصحاب السوابق المقربين من " عبده " ‪ .‬أكمل " عبد المقصود " ليلته فى المقهى ‪ ،‬ليفسح‬
‫المجال للعروسين ألنجاز المهمة ‪ ،‬فى حين دخل العريس غرفة النوم تسبقه فايزة بخطوات مرتبكة‬
‫يتحسس بكفه ظهرها ‪ .‬الليلة بالنسبة له ليلةحاسمة ‪ ،‬أو هى ليلة تاريخية كما يقول الرفاق أو ليلة‬
‫مصيرية ‪ ،‬كما يقولون األكثر تشددا ‪ .‬أما هى فكانت تنتفض وترتجف ‪ ،‬كان خياال دمويا رهيبا ذلك‬
‫الذى يسيطر على تفكيرها كلما تجسدت أقاويل النساء أطياف تتحرك عما يحدث للعروس فى ليلة دخلتها‬

‫‪59‬‬
‫أراد أن يحقق المستهدف فى ليلته و بالرغم من قوته وتحفزه عجز عن التمكن منها ‪ ،‬فلم تمكنه ‪ ،‬كانت‬
‫كالعجل الذى أبصر قاتله شاهرا نصله ‪ ،‬فأجتاحتها نوبة صراخ وتمرد ال ينفع معها عشرين "عبده"‬
‫مجتمعين ‪.‬‬

‫فى اليوم التالى خرج العريس من خلوة الدخلة ‪ ،‬أنتحى باألب جانبا الذى أسرع بدعوة نسوان العيلة ‪..‬‬
‫عمتها نبوية وبنتها سهير ومعهما " زوبة " زوجة حامد الحالق فى حين أنزوى العريس الذى لم‬
‫يعرف كيف يحزم أمره ‪ ،‬وأستمر الجدل حتى ظهيرة هذا اليوم ‪ ،‬والعروس فى الداخل تتكور على نفسها‬
‫كالفأر المذعور ‪ .‬أنفض األجتماع على قرار واحد صدر بأجماع األراء تصدر لتنفيذه نبوية وزوبة‬
‫بمساعدة عبده ‪ .‬أخيرا دوت صرخة العروس كأنما أنغرز خنجر مثلوم فى أحشائها ‪ ،‬أصبع نبوية‬
‫المسنون يفض الغشاء الذى راوغ قدرة عبده وأرهق كرامته وذل حيث المذلة ‪ ،‬خرجن بعدها من‬
‫الحجرة ‪ ،‬تشرعن المنديل الملطخ بدم الذبيحة ‪ .‬عاش شبح تلك الليلة لفترة حائال بين الزوجين ‪ .‬وبعدها‬
‫عرفت على يديه ‪ ،‬و منذ البداية لعنة الجنس الردىء ‪ ،‬الجنس الذى يتحول الى حلبة مصارعة وينتهى‬
‫بأرهاق الجسد وفراغ فى الروح ‪.‬‬

‫دخل " عبده " هذه الزيجة طامعا فيما تمتلكه فايزة عن أبيها مقهى وبيتين ‪ ،‬كان يأمل أن يغرف بجماع‬
‫كفيه دون وهن ‪ ،‬لكن األمور فى حقيقتها كانت تسير بمهارة وأساليب فايزة الخفية ‪ ..‬ثالثة شهور‬
‫بالتمام والكمال ودب الحمل للمرة األولى يتحرك فى أحشاءها ‪ ،‬راحت تشعر بذلك الكمال والقوة التى‬
‫يبعثها جنين يتحرك ‪ ،‬شعرت بأنها أمتلكته تماما ‪ ،‬وحين سحبت رأس منصور من بين فخذيها لتعلن عن‬
‫وصول طفلها األول هدأت طباعها المتمردة وسكنت وأنشغلت به لفترة ‪ ،‬غير أن توترها قد زاد وأشتدت‬
‫عصبيتها حين تأخر الحمل الثانى ‪ ،‬وفى ليلة باردة ‪ .‬لم تجد سوى بطن قدمها رفست بها عبده فى جنبه‬
‫كادت أن تطيح به من على السرير مكفيا على وجهه ‪ ،‬قام من جوارها فزعا تائها من سباته العميق‬
‫على صرخاتها المتألمة ‪ :‬قوم ودينى لدكتور أنا عندى نزيف ‪ .‬أحتوى دهشته وهو يتمتم يلعن الساعة‬
‫واليوم التى جمعته بها ‪ ،‬لم تنجح محاوالته فى تهدأتها وتبديد مخاوفها ‪ ،‬اقتادها من يدها كالشاة الذاهبة‬
‫الى المذبح وسلمها لذلك الطبيب الشاب الذى لم يحصل على فرصته بعد وتولى الكشف عليها ‪ .‬بفرح‬
‫طفولى قال ‪ :‬هى محتاجة جراحة بسيطة وممكن نعملها هنا فى العيادة لو حبيتوا ‪ .‬فكان له ما أراد ‪.‬‬

‫نصف ساعة أنهى خاللها الطبيب الشاب عمله داخل فايزة قبل أن يخوض بيده المرتعشة فى تجويف‬
‫الرحم بمشرط مرتبك ‪ ،‬لم ينطق بكلمة بعدها مكتفيا بأبتسامة وهو يلملم أدواته ‪ ..‬ثالثة أيام والنزيف‬
‫‪60‬‬
‫يتواصل ‪ ،‬حينها فقط تولى أمرها الدكتور " عياد " فى قسم النساء والتوليد بمستشفى الشاطبى الذى‬
‫ترك فى أذانها معلومتين ‪ ،‬األولى قالها بدهشة ‪ :‬الدكتور اللى أنتى رحتيله ده أكيد سمكرى عملك جرح‬
‫فى عنق الرحم ‪ .‬ثم أضاف لها معلومته الثانية قبل أنصرافها من المستشفى ‪ :‬وفى الغالب يامدام فرصة‬
‫أن يحصل حمل تانى حتكون صعبة خالص ‪ ..‬الرحم بقى عامل زى الشراب المقطع ؟!‪.‬‬

‫أصبحت " فايزة " هى المستغلة لزوجها ال هو المستغل لها ‪ ،‬فدفعت به إلى صدارة المقهى بعد أن‬
‫مرض والدها ثم مات ‪ ،‬بادرت هى بأعطاء أختيها عايدة وفتحية المتزوجتان بالصعيد حقهما من ميراث‬
‫والدهما عدا ونقدا ‪ ،‬سارت خطتها للحياة كما رسمتها حين أعدت زوجها لمستقبل تستفضل أفاقه‬
‫الضيقة الحدود لمهنة والدها " صاحب قهوة " مستثمرة طباعها الى أقصى درجة ‪ ،‬الشكيمة والقوة‬
‫الصارمة القادرة على فرض أرادتها على ذلك الطامع ذى العينين القاسيتين والكفين يفركهما فى طلب‬
‫للرضا مثل جرو صغير يتقافز من حولها ‪ ..‬فرضت عليه أنماطا جديدة من السلوك واألفكار ووجهته‬
‫وجهة مغايرة عما كان يحلم به من أطماع ‪ ،‬لذلك عند ثورتها و هياجها ‪ ،‬ال يفعل شيىء سوى أنه‬
‫يتكور على نفسه مستجديا األستعطاف حتى اذا مارقت ‪ ،‬يطوى صدره على األلم وينكمش الى جوارها‬
‫مروض النفس على القناعة بها ويركع تحت قدميها طالبا مزيدا من الرضا والغفران ‪ .‬حقيقة األمر أن‬
‫" عبده الجن " لم يحب هذه المرأة أبدا ‪ ،‬ففيها شيىء منفر دائما ‪ ،‬شيىء متحفظ طارد ‪ ،‬غير أنها‬
‫بالنسبة له ضمانة حقيقية لمستقبله ‪ ،‬بفضلها أستهواه دور " المعلم " وأصبح له شأن وكيان ‪ ،‬يشعر‬
‫بالذعر والخوف بمجرد التفكير فى خسارتها وأن يعود الى سيرته األولى مما جعله مرمى لكل هدف من‬
‫أقدامها‪ ..‬هى مزقته فى خواطرها المكبوتة كما حاول هو دائما أن يمزقها بلسانه فى مجالسه ‪ ،‬حتى‬
‫أحالمها طردته منها ‪ ،‬ودائما ما تحرجه بأستعالئها المتعجرف فى المناسبات القليلة التى جمعتهما‬
‫مرغمين لتهئنة أو عزاء ‪ ،‬المهم أن يكون لها ظل ‪ ،‬ينفصل عنها بمشيئتها ‪ ،‬ويتبعها بمشيئتها ‪ ..‬لم‬
‫تكن أبدا فى حاجة إليه ‪ .‬حاولت جاهدة بعد خذالنه لها حين طغت أنانيته وسلبيته على كل شيىء ‪ ،‬حتى‬
‫على أبنهما الوحيد " منصور " أن تبحث عن فكرة من بين مجموعة أفكار تستثمر فيها ما تبقى لها‬
‫من ميراث بعد أن ملت من أيقاع حياتها الرتيب الذى يبدأ من المغربية إلى منتصف الليل راقدة فى‬
‫مكانها بجوار عبده فى المقهى ترصد كل مليم وسحتوت ‪ ،‬كانت كالسيف فوق رقبته ‪ ،‬فهى تدرك حيله‬
‫وأالعيبه ‪ ،‬قبل أن يشير عليها جارها فى الحارة " جمال النونو " الشاب الثالثينى صاحب عينان‬
‫حالكتان كأنهما من فحم ‪ ،‬له جسد هزيل ووجه شاحب قلق ‪ ،‬كما يحتفظ لنفسه ببعض السوابق من قبيل‬
‫فرض سيطرة وبلطجة ‪ ،‬أشار لها بأن مشروع " التاكسى" أستثمار ناجح ومضمون ‪ ،‬ألتزمت بنصيحته‬
‫‪61‬‬
‫وأقتنت تاكسى الدا فئة " ‪ "2105‬أدارته بحرفية وحزم تحت قيادة " النونو " الذى أظهر أنضباطا‬
‫والتزاما بحضوره اليومى للمقهى فى العاشرة مساءا لتسليمها ايراد اليوم تحت سمع وبصر " عبدة "‬
‫ونظراته المترصدة لعلى وعسى يناله من الخير صدقة ‪ ،‬إال أنها كانت تتعمد أن تبقيه فى الظل‬
‫وال تسمح له بالتدخل ‪.‬‬

‫أفسحت " فايزة " لعقلها مجاال ألستخراج فكرة جديدة تبنتها بحماسة عقب عملية جرد مفاجئة‬
‫لبعض الكراكيب المكدسة فى المخزن التابع للمقهى والذى ال يفصله عنها سوى حائط مشترك ‪ ،‬بعد‬
‫معاينه سريعة تم اجالء الكراسى والطاوالت المهدمة واخالئه من اجولة الفحم ظهرت مساحة المخزن‬
‫الحقيقية ‪ ،‬فأضيىءذهنها بحتمية استغالله ‪ ..‬أستهوتها تجارة المالبس الجاهزة وأستقرت عليها كبداية‬
‫لمشروع أستثمارى بعد استشارة النونو وبعض المقربين ‪ ..‬بدأت بزيارات متقطعة للمنطقة الحرة‬
‫ببورسعيد ثم تحولت لزيارات ثابتة كل أسبوع بصحبةصبيها وتابعه " خضر" ‪ ،‬صالت وجالت‬
‫بمشروعها الجديد فما كاد يمتأل المخزن بكل أنواع المالبس حتى يفرغ سريعا ‪ ،‬سياسة التقسيط بل‬
‫التنقيط التى اتبعتها مع اهالى كرموز كانت سببا رئيسيا فى قفزتها السريعة وتحولها من تاجرة شنطة‬
‫إلى معلمة صاحبة كيان له كلمة وهيبة ‪ ..‬ثالث سنوات حتى أصبحت فايزة تفهم من أسرار التجارة ماال‬
‫يفهمه تاجر عتيق ‪ ،‬فسيطرت على دنياها الجديدة بأقتدار وقوة ‪ .‬خيال النصب أو " الطناش" لم يزر‬
‫أبدا عقل أيا من المتعاملين معها ‪ ،‬الكل يدرك جبروت " فايزة عبد المقصود " جبروت أتاح لألستاذ‬
‫" محمود المحامى" المكلف منها بأدارة تعامالتها مع التجار والزبائن وكذا حسابات المقهى ‪ ..‬سهولة‬
‫فى األداء بدون تعقيدات لدرجة أنه لم يقدم بالغا ولم يزر قسم شرطة وال محكمة بل أنه لم يواجه أى‬
‫مشكلة من أى نوع ‪.‬‬

‫منح القدر " عبده الجن " أستراحة مؤقتة ‪ ،‬يستجمع فيها قواه ويلتقط أنفاسه ‪ ،‬كان ذلك حين قامت‬
‫فايزة بغزوة من غزواتها لبورسعيد ‪ ،‬وكما جرت العادة وبأتفاق مسبق مع من بيده األمر من مفتشى‬
‫الجمارك ‪ ،‬ضاعفت فايزة حجم بضاعتها المهربة داخل سيارة نصف نقل من ممتلكاتها تحت قيادة‬
‫" خضر" تحسبا لزيادة الطلب المتنامى مع قرب عيد األضحى ‪ ..‬كانت دائما تدير مجريات األمور من‬
‫داخل التاكسى بصحبة النونو كغرفة عمليات متقدمة ‪ ،‬على نحو مفاجىء ومدبر تم تغيير طاقم مفتشى‬
‫الجمارك بأخرين والذين لم يجدوا صعوبة فى ضبط البضاعة المهربة داخل السيارة بينما لم تتمالك‬
‫فايزة أعصابها وهى تراقب المشهد من مخبئها وهى ترى بأم عينيها بضاعتها وهى تصادر‪ ،‬كان‬

‫‪62‬‬
‫أكثرعيوبها وضوحا هى هذه األندفاعة العصبية التى تباغت بها الناس أحيانا على غير توقع منهم ‪،‬‬
‫فأندفعت كالمجنونة صوب مفتش الجمارك تدفعه بكلتا يديها لمنعه من تكملة ما بدأه ‪ ،‬فواجهها هو‬
‫األخر بدفعة قوية لعلها تكون رادعة ‪ ،‬إال أنها عاجلته بلكمة قاسية بيمناها كان لها أثر فورى حين‬
‫تصدر أبهامها المحاط بفص ذهبى متوجا بحبة زرقاء عين المفتش ففقأتها فى الحال ‪.‬‬

‫لم تستمر محاكمتها طويال ‪ ،‬أنه أعتداء مباشر على موظف عام فى الدولة أثناء تأدية مهامه الوظيفية‬
‫وأصابته بعاهة مستديمة ‪ ،‬هذا ما قالته النيابة فى مرافعتها ‪ ..‬تسلمت فايزة مكافأتها على أنجازها‬
‫المريع من قاضى المحكمة ‪ ..‬سبع سنوات مع الشغل والنفاذ تقضيها فى األسر ‪.‬‬

‫ما أن غابت سيارة الترحيالت بفايزة فى جوف الطريق ‪ ،‬أحس" عبده " براحة وأنتابته نشوة الظافر ‪،‬‬
‫فغمره شعور القائد المغوار وقد أمتطى صهوة جواده وأستل سيفه ‪ ،‬ودخل المقهى منتصرا فاتحا ‪ .‬رمى‬
‫أيامه الماضية وتخلص منها وراح يقرع صدره بكفيه ويزعق صارخا ‪ :‬خالص يابشر ‪ ..‬من هنا ورايح‬
‫زمن عبده الجن حيرجع تانى ؟!‪ .‬فأصبحت المقهى بحساباتها وأيراداتها مباحة له وإن كان يتوخى‬
‫الحذر حتى ال ينكشف أمره ‪.‬‬

‫رمشات سريعة ثم أغماضة طويلة قبل أن تنشق جفنى " فايزة " عن دموع محبوسة ‪ ..‬تنهيدة ساخنة‬
‫تستعيد بها اللحظة وهى على حالها ثابتة فى مكانها تحتضن ركبتيها الى صدرها فى حين التزال‬
‫"هدى" واجمة تستقبل مالمحها الضوء الخافت الذى يأتيها من خارج العنبر مرتجفا بفعل الهواء‬
‫فترعش الظالل والوجوه واألجسام الممددة ‪.‬‬

‫همست فايزة بنبرة غلب عليها سلطان النوم ‪ :‬حتقوللى لوالدك على األخبار الجديدة فى الزيارة الجاية ؟‬

‫( الزيارة اللى جاية ) كررتها هدى ‪ ،‬بدت لهذه الجملة مذاق مر فى فمها وهى تنطقها ؟!‪ ..‬تبدل حالها‬
‫وخرج صوتها مهموما ‪ :‬يبقى يحلها الحالل ساعتها ‪.‬‬

‫ــ عندك حق ‪ ..‬تصبحى على خير يا هدى ‪ .‬قالتها ثم أفرجت عن ساقيها فى وجع بعد أن قبضت عليهما‬
‫خالل جلستها ‪ ..‬قامت من مكانها تحجل على قدم واحدة بأتجاه سريرها وهى تتثائب ‪.‬‬

‫أرتفع صوت الصراصير تطلق أنغامها فى سكون الليل ‪ ،‬فى حين مددت هدى جسدها ثم أنكمشت بعدما‬
‫أيقنت بأنها سيالزمها األرق حتى الصباح ‪ ..‬نسيت األنهاك وجرى الليل قبل أن تسلم نفسها لوابل من‬

‫‪63‬‬
‫الوخزات ‪ .‬شردت مرغمة وراء دفء الماضى الهارب فى شكل صور صامتة وكئيبة وألحت فى أقناع‬
‫النفس بوجود العزاء المؤمل فى الحرية ‪ ،‬فى المقابل أنضم شخير فايزة الى مجموعة العازفين‬
‫" المشخراتية " كسيمفونية تتردد فى كل ركن من العنبر ‪.‬‬

‫الفصل الثانى‬

‫روتين يومى معتاد لم يتبدل أو يتغير وسط كل المتغيرات والمؤثرات التى أستجدت على حياة أبناء‬
‫هدى ‪ ،‬دائما هى جلسة العشاء التى ال تتم طقوسها إال وقد تحلق الجميع حول مائدة الطعام القابعة فى‬
‫ركنها المنزوى فى آخر الصالة ‪ ،‬حكايات ومالحظات وعبارات أشبه بخواطر تم رصدها تخص كل منهم‬
‫فى محيط حياته اليومية المحدودة ‪ ..‬ثبت " يوسف " عينيه العميقتان اللتان يظللهما حاجبان كثيفين‬
‫وشعر مسترسل للخلف على بشرة بيضاء وعود مستقيم طويل ‪ ..‬ركز نظراته فى وجه أخته نورا التى‬
‫لم تبدل مالبسها عقب عودتها للتومن عملها ‪ ،‬بدت على غير عادتها وهو ما لفت أنتباهه حين لمح‬
‫شعرها الجاف وقد جمعته إلى مؤخرة رأسها وعيناها شبه مغمضتين بثقل جفنيها على عكس هيئتها‬
‫المعتادة ‪ ،‬دائما ما تطلق شعرها الناعم األسود الغزير منسدال حتى كتفيها يحوط وجهها البدرى التى‬
‫تسكنه عينان لوزيتان تنسجم بتناغم مع باقى تفاصيل وجهها بينما صدرها المنتفض الذى يحرس جسد‬
‫محدد بدون ترهالت به كثير من مفاتن األنوثة ‪.‬‬

‫ـ مالك يانورا شكلك تعبان قوى ؟ تساءل يوسف ‪ .‬ببطء قبل أن تدعك عينيها ‪ :‬واللـه يايوسف من‬
‫الصبح لغاية ماجيت دلوقتى وأنا واقفة على رجليه ‪ ،‬الوقت بقى ضيق وبنحاول بأيدنا وسنانه نشطب‬
‫الشغل ونجهزه قبل عرض األزياء الشهر اللى جاى ‪ .‬ألتقطت " بسمة " كلمات أختها وهى تستند بكلتا‬
‫يديها على المائدة تتحاشى أصابعها لمس طبقين فارغين إال من ورك فرخة أصبح هيكال بال لحم بعد أن‬
‫أجهزت عليه وبجانبه طبق سلطة تلوثت أطرافه ببقايا جزرة وقصاقيص جرجير ‪ ،‬كالمعتاد علقت فى‬
‫حدود شخصيتها المنطلقة فى أحاديثها العابرة و ماتحمله من متناقضات متباينة ‪،‬؟ حيث يمتزج الحزن‬
‫و الحياء فى صوتها والمرح والبهجة فى عينيها فى آن واحد ‪ ..‬هى دائما ثورة المرح فى البيت وبركان‬
‫الجسد الذى أستوى فى تناغم ملفت للنظر ‪ ،‬الرأس بالشعر بتقاسيم الوجه تتناسب مع الكتفين العريضين‬
‫فوق صدر على شكل مثلث نافرا على خصر مكتنز ‪ .‬بنبرة مازحة ‪ :‬أيوه ياعم المهم ‪ ،‬البلد كلها حالها‬
‫واقف والشغل فى األتيليه عند مدام زيزيت مولع نار !‪ .‬جاهدت كى تخرج منها أبتسامة واهنة ‪ :‬والنبى‬

‫‪64‬‬
‫الحكاية مش ناقصة أر يا بسمة وأتيليه زيزيت مش مستنى حال البلد يوقف وال يمشى ده له زبونه‬
‫وناسه‪ .‬تؤيد أيات على كالمها ‪ :‬عندك حق يا نورا سمعة األتيليه مسمعة فى كل مكان فى أسكندرية ‪.‬‬

‫منذ أربع سنوات وقبل تخرجها من كلية األداب بعامين تبنتها " زيزيت " وحققت لها أمنيتها القديمة أن‬
‫تتعلم حرفة التفصيل ‪ ،‬فعلمتها الصنعة على أصولها وعرفتها خبايا أسرارها وأعطتها من خبرتها ما لم‬
‫تعطى أحدا من قبل لما رأت منها أصرارا وأجتهادا ‪ ،‬وان كان األصل وراء تلك الحماسة هو حبها‬
‫الشديد لنورا التى رأت فيها األبنة والصديقة وشريكتها فى حياة الوحدة ‪ ،‬كما وجدت فيها فرصه سانحة‬
‫لرد جميل أمها صاحبة الفضل عليها ‪ ،‬فأصبحت زيزيت بال منازع هى السند واألمان لها وألخوتها منذ‬
‫لحظه دخول هدى السجن ‪.‬‬

‫تضاعف راتب نورا عدة مرات وزاد كثيرا فى أخر عامين حتى تحول الى رقم محترم بفضل موهبتها‬
‫الفزة وخصوصية صنعتها التى جعلتها رقما صعبا ال يمكن تجاوزه داخل األتيليه بعد أن أجادت‬
‫وتخصصت وأبتكرت فى تصميم مالبس المحجبات ‪ ،‬كما أنها أنفردت بتصميمات فساتين الزفاف الخاصة‬
‫بتلك الطائفة حتى أصبح أنتاج األتيليه يخرج معظمة من تحت يدها ‪.‬‬

‫ألتصقا يوسف وبسمة بنورا ‪ .‬هى بالنسبة لهما الحياة بكل معانيها ‪ ،‬كانت من نوع يحتاجانه بشدة ‪،‬‬
‫فهى صلبة حنونة جريئة قبل أن يضاف إليها صفة السخاء فى الفترة األخيرة ‪ ،‬لم تكن تلك الصفات‬
‫وليدة الحاضر بل من رحم الماضى منذ بداية اليوم األول ‪ ،‬حين أختفى وجه أمهم فى السجن وعندما‬
‫أطفئت جميع األنوار وهدأت الحركة ‪ ،‬ولم يبقى مايمأل السمع إال صوت السكون حينما أستولى خوف‬
‫على قلب نورا ‪ ،‬وأرتعش البدن مع نشيجها المؤود فى الظلمة والذى يحدث فحيحه صوتا أيقظ بسمة‬
‫ويوسف المنكمشان فى ركن الفراش ‪ ،‬فأنشدا معها على نفس الوتر المتصاعد بكاء حادا جاءت على‬
‫أثره عمتهم " أيات " لتضىء النور وتهدأ حزنهم وأحساسهم بالخوف والوحدة بكلمات لم تكن لها أثر‬
‫كبير فى نفوسهم ‪ :‬ما تخافوش ياوالد وخليكم شطار ‪ ..‬أنا عارفة أنكم محتاجين مامتكم ‪ ..‬بس أنا مش‬
‫بأيدى حاجة ‪ ..‬تنهدت للحظات فى قلة حيلةثم أستدارت خارجة من الغرفة بينما تولت نورا األمر حين‬
‫تمددت فى الفراش تتوسطهما ‪ ،‬تحتضن يوسف وبسمة التى دفنت رأسها بين تجويف الصدر الصغير ‪،‬‬
‫بديال عن األم ‪ ،‬وراحت تغط غطيطا خفيفا تقطعه من وقت آلخر زفرة عميقة كأنما تزيح عن صدرها‬
‫أكواما من الهم ‪ ،‬بينما ألصق يوسف ظهره فى الحائط وأخفى وجهه تحت الغطاء وأحاط ذراعه بأخته‬
‫وغاب فى سبات ‪ .‬بينما لم يغمض لنورا جفن حتى تسلل ضوء النهار من النافذة ‪ ،‬لم تدر متى غفلت‬
‫‪65‬‬
‫عيناها ‪ ،‬إال أنها أستيقظت على صوت عمتها تدعوها لألفطار ‪ ..‬الجفون مثقلة ‪ ،‬وحريق يلهب العينين ‪،‬‬
‫لكن النهار بدا لنورا التى بات عليها أن تحمل الهم مبكرا ‪ ..‬بدا بعيدا فهى لم تتعد الخامسة عشرة بعد ‪،‬‬
‫يليها يوسف بعامين وبسمه التى تصغره بثالث أعوام ‪ .‬فكان لزاما عليها أن تشارك " نعمة " فى كل‬
‫كبيرة وصغيرة بداية من نظافة الغرف مرورا بالغسيل والمسح والكنس نهاية بطريق عودتها من‬
‫المدرسة حين تنعطف بأتجاه سوق األبراهيمية لشراء أحتياجات اليوم التالى كما لقنتها عمتها وعند أخر‬
‫النهار تحاول أن يدخل رأسها المتعب بعض مما هو مكتوب فى الكتب المدرسية التى ستؤدى أمتحانا‬
‫فيها أخر العام ‪ .‬حاولت بسمة الصغيرة أن تساعدها وأن يشارك معهما يوسف ‪ ،‬لكن األخت الكبرى‬
‫مألها أحساس غامر بالفداء ماركة " أمينة رزق " رفضت أن تهين أخوتها فى أعمال البيت وأقتصر‬
‫دوريهما على أسناد " نعمة " فى الجلوس والوقوف أو تدليك ركبتيها بدهان الروماتيزم ‪ .‬أستكانت األم‬
‫الصغيرة للحياة التى فرضت عليهم ‪ ،‬التقشف وضيق اليد لعجز العمة عن توفير حياة أكثر راحة بعد ان‬
‫رأت نفسها قد أستدرجت الى بؤرة األحداث ولم تعد على هامشها دون قصد منها ‪ ،‬والتى ركنت على ما‬
‫تسحبه شهريا من البنك مما تبقى لها من بيع شقة الزوجية بعد طالقها ‪ ،‬فكانت مسئولية طارئة أعطت‬
‫لحياتها مذاقا كانت لمرارته حرقة فى القلب ‪ ،‬ذاقت نورا وأخواتها تلك المرارة أيضا ‪ ،‬وبدت مالمح األلم‬
‫تزحف على وجوههم لتكشف عن ضائقة العيش وزوال النعمة ‪ ،‬فى حين أستطاعت نورا أو أرادت أن‬
‫تعطى أنطباعا بأنها تسد الفراغ وتكمل دور األم ‪ ،‬على صغرها ‪ .‬كانت كلمة ثناء من عمتها أيات أو من‬
‫الجيران ‪ ،‬أجرا مجزيا لها ‪ .‬التجربة قفزت بعمرها و ماعادت بطفلة ‪.‬‬

‫وظلت نورا تعايش حياتها فترة ‪ ،‬فتاة هادئة ‪ ،‬تفكر ‪ ،‬تجيد أتخاذ القرار وتعرف السبيل لتنفيذه قبل أن‬
‫يتالشى دور عمتها أيات التى أختارت أن تكون حياتها دائما فى الظل ‪ ،‬حياة رتيبة قضتها نورا هى‬
‫وأخوتها ‪ ،‬أقصى ما يقع فيها من متع ‪ ،‬هى رحلة صيد صباح كل يوم جمعة على شاطىء جليم تحت‬
‫قيادة الدكتور " كرم سباستيان" وصديقه نوح البواب ‪ ،‬نادر وشريف ولدى خيرى علم الدين كانا دائما‬
‫من ضمن أفراد الرحلة ‪ ،‬وبالتوازى وفى نفس الوقت يزداد أصرارها يوما بعد يوم على متابعة دروس‬
‫يوسف وبسمة ‪ ،‬مما دفعها لتلبية دعوة األستاذ خيرى واألعتماد عليه فى مراجعة دروسها هى‬
‫وأخوتها ‪ ،‬فبادر بتحديد ثالثة أيام أسبوعيا لهم تعاطفا منه لما لحق بهم و ماتطويه نفسه من شعور حاد‬
‫بالفجيعة والخسارة يصحبه أخر بالرثاء حد مغالبة البكاء لما آل له حال أمهم وإن كان حال أبنيه‬
‫ال يختلف كثيرا عن حال أبناء هدى بعد وفاة زوجته " سميحة الغريانى " وأقامته منفردا معهما ‪ ،‬فكان‬
‫البيت كبير أكبر سعة من حاجتهم ‪ ،‬إال إنه كان مملكته التى ورثها عن زوجته ‪ ..‬هذا السكون لم يشعره‬
‫‪66‬‬
‫بالملل ‪ ،‬والوحدة لم تضايقه ‪ ،‬يخدم نفسه وأوالده ‪ ،‬خفيف الحركة كعازب يلعب جميع األدوار ‪ ،‬األب‬
‫واألم والخادم المطيع ‪.‬‬

‫كانت نورا بقدها الدقيق المتناسق وحركتها الدءوب المشتعلة وخفة دمها الطبيعية ‪ ،‬تحرك لدى شريف‬
‫ـ على غير قصد منها ـ خيال المغامرة فى كل حصة تحضرها ‪ ،‬فكان ال يكف عن مزاولتها مستغال غياب‬
‫والده لدقائق فى المطبخ لعمل فنجان قهوة أو زيارة للحمام ‪ ..‬فى مداعبة ثقيلة أختلس شريف كراستها‬
‫الخاصة بواجباتها فى غفلة من والده الذى كان بصحبة " نوح " يباشر ماسورة مياة فى المنور‬
‫أصابها الرشح ‪ .‬فطاردته فى الصالة لتستردها ‪ ،‬حاورها فى أرجاء المكان ‪ ،‬دخل حجرته ‪ ،‬أقتحمت‬
‫الباب وراءه ‪ ،‬رفع يديه بالكراسة ‪ ،‬شبت على أطراف أصابعها لتطولها ‪ ،‬طوح يديه الى الخلف ‪ ،‬أختل‬
‫توازنها ‪ ،‬أرتمت على صدره ‪ ..‬طوق ذراعاه كتفيها ‪ ،‬دفعته ‪ ،‬فك حصاره ثم راحت تقابله بأنفاس‬
‫الهثة ‪ ..‬لم تقرأ مالمحه من مثل هذا القرب من قبل ‪ ،‬به وسامة ملحوظة يكبرها بثالثة أعوام ‪ ،‬يميل‬
‫لونه إلى البياض يرتدى المالبس الكاجوال والجينز ويبدو متحررا متمردا ‪ ،‬له شعر متبعثر وقسمات‬
‫متحددة بصالبة ‪ ،‬تبدو كمالوأن تم نحتها بصرامة تخفف من حدتها عينان صافيتان بلون بنى‪ :‬لكن‬
‫ما الذى يشدها إليه بهذا العنف ؟ تقدم منها أكثر من الالزم فشعرت كما يشعر النائم إنه يفتح ذراعيه‬
‫ليحتويها‪ ،‬وعندما ضمها إليه غمرها فيض من السخونة الذى تعبر عنه تلك الضمة والدفء الذى‬
‫يحتوى ذلك الصدر ‪ .‬دفنت رأسها فى اعطافه وتملكها خدر ظل يدعوها إلى أن تبقى ‪ .‬كانت تستطيع ان‬
‫تلتقط نظراته اليها وتترجمها فتشعر إنها تقول لها أشياء ال يقولها غيره ‪ ،‬ترتاح لمعانيها‪ ،‬وتشعر أنها‬
‫قريبة منه ‪ ،‬وأنه أقرب الناس إليها‪ .‬نشر ذراعه حول جيدها وأحتضن كفها بذراعه الملتصق حول‬
‫العنق ‪ ،‬فوطأت قبضته صدرها النافر ثم رفع ذقنها بسبابته وقبل ما بين العينين ثم أرنبة األنف ‪..‬‬
‫نمنمات خافتة كانت تصيب القلب الصغير بالتوتر ‪ ،‬ال قدرة لها على النظر إلى عينيه الواسعتين اللتان‬
‫ضاقتا فجأة على صوت جرس الباب ‪ ..‬رنتان هما طريقة األداء المعتادة لخيرى فى أستعمال الجرس ‪.‬‬
‫أنتفاضة تلتها أبتسامة ‪ .‬شريف بالنسبة لها كان يضيىء خيالها ‪ ،‬كانت تتقدم صورته على كل الصور ‪،‬‬
‫فتشغل مساحة من نفسها ؟!‪ .‬عندما يحتضن خيالها صورته فى الليل تتقلب على جانبها األيسر وتدير‬
‫ظهرها لبسمة ‪ ..‬ألول مرة تنام وصدرها ليس فى أحضان أختها ‪ .‬ألتقت الليلة بأحضان شريف ‪ .‬فى‬
‫األحالم ! هكذا صا رت عالقتهما منذ البداية ‪ ،‬حب متنكر فى ثياب الجيرة ‪ .‬فكانا يتالقيان بال أضطراب‬
‫وبال خوف ‪ .‬غاصت نورا الى أذنيها فى دوامة البيت الخالى من روح ربة البيت وسلطتها ‪ ،‬فلم تلبث أن‬
‫صارت مديرة البيت والروح األمين الذى يحرس سير الزمن فيه ‪ ،‬بعد أن أبت عمتهم أيات وأصرت أن‬
‫‪67‬‬
‫تدفن نفسها فى داخل غرفتها وأحتميت بالصمت والموسيقى ‪ ،‬وقبل أن يتوارى دور نعمة خلف التعب‬
‫والمرض ‪ .‬لم تبخل نورا من اللحظة األولى لسجن أمها أن تمنح أخوتها نفس الحب الكبير الذى أفتقدوه‬
‫حتى بدت كأم خبيرة تلحظ وتحس وتراقب كل متغير يطرأ عليهما ‪ ،‬فكان واضحا جليا يوم نجاح بسمة‬
‫فى الصف الثانى األعدادى حين داهمها فى منتصف المسافة من غرفتها الى الحمام ‪ ،‬مغص شديد ‪،‬‬
‫تقلصت ‪ ،‬صرخت متألمة ‪ ،‬هرعت اليها نورا كالمجنونة تسندها ‪ ،‬لم تعد قادرة على األحتمال ‪ ،‬تعثرت‬
‫بسمة ‪ ،‬ترنحت نورا ‪ ،‬أنساب بين فخذيها سائل لزج دافىء ‪ ،‬أصابت الدوخة بسمة ‪ ،‬تمايلت ‪ ،‬مالت‬
‫معها نورا ‪ :‬مالك ياحبيبتى حاسة بأيه ؟ سقطت على األرض تتكور كالشرنقة حول نفسها تغالب‬
‫الصراخ ‪ :‬ألحقينى يا نورا ‪ .‬مأل قلبها رعبا منظر الدماء التى لطخت األرض ولوثت فستانها الرمادى ‪..‬‬
‫بسمة كانت تغادر طفولتها دون وعى ‪ .‬يومها عرفت أنها لم تعد طفلة ‪ ،‬فهذه هى البينة بأنها دخلت‬
‫مرحلة جديدة كما لقنتها نورا بعد أن مرت بذات التجربة قبل أن تسميها لها نعمة ‪ :‬دى أسمها الدورة‬
‫يانورا والزم تيجى كل شهر ‪ .‬ثم لحقتها بـ " خرقة " لوال تدخل أيات السريع فعلمتها بروتوكول التعامل‬
‫مع " البريوت " ‪ .‬أحست بسمة بذلك الشعور المتناقض ‪ ،‬لكن أنزعاجها ولى وباتت تنتظر الموعد كل‬
‫شهر وتستعد له ‪ .‬ألتحم وجودها بوجود نورا التحاما كامال ولم يعد من الغريب أن تصبح هى أمها‬
‫بجدارة وتكون هى أبنتها بالمعنى الوجدانى األصيل ‪ .‬فى حين لم يعد يوسف بالنسبة لنورا مجرد أخ‬
‫يصغرها بل الرفيق والصديق وكم سجلت أبتسامته الحلوة فى نفسها السعادة ‪ ،‬وال عاد من الغريب فى‬
‫ساعات الضعف أن يبكى على صدرها الرحيم دون أن يساوره حياء الرجل من الضعف والدموع ‪ ،‬كان‬
‫يحتمل تعاسة واقعه بال مرارة ‪ .‬هو شاب برىء النفس لم يمسه دنس ‪ ،‬وقد مر به عامه العشرون من‬
‫سنتين ‪ ،‬وكانت أحالمه وتطلعاته فى السنوات األخيرة تفضى به دائما إلى حالة نفسية يملؤها ظمأ‬
‫صادق الى حب عظيم ‪ .‬هذه المعجزة التى يريد أن تسقط عليه بال صراع وال وجع قلب ‪ .‬وجد حلمه فى‬
‫" هدير" زميلته بالسنة النهائية فى كلية الهندسة ‪ ،‬من عائلة غنية فهى أبنة المقاول السكندرى الشهير‬
‫" أحمد الشهاوى" له شركة عريقة التاريخ فى األنشاءات والمقاوالت و له بصمة واضحة فى منطقة‬
‫" سموحة " ينتشر شعار شركته على عدد ال بأس به من األبراج الفخمة فى الشوارع الرئيسية‬
‫والراقية بالمنطقة ‪ .‬بداية رومانسية كالسيكية جمعته بزميلته منذ ثالث أعوام ‪ ،‬كان ذلك كلما غرست‬
‫نظراتها فى عينيه ‪ ،‬تأهبت أبتسامته المترددة لتناجيها ‪ ..‬كانت نظراتها الحالمة الوديعة تضىء الكأبة‬
‫التى تحيط بحياته ‪ ،‬كان يكتفى بأن ينظر لها خلسة ‪ ،‬يرى فى عينيها لهفة ألن يحادثها عندما تجمعهما‬

‫‪68‬‬
‫قاعة المحاضرات ‪ ..‬لما ال وقد أشتهر بين الطالبات بوسيم الهندسة ‪ .‬كل ما فيها يرشحها ألن تكون‬
‫أميرة أحالمه ‪ ،‬وها هى وقد أصبحت يقظته وأحالمه ‪.‬‬

‫نغمات متقطعة كاللحن المرتعش أصابت آذانهم فى جلستهم حول المائدة ‪ ،‬كان مصدره صينية بها أربع‬
‫أكواب شاى تتراقص فى يد نعمة و تحتك ببعضها ‪ ،‬أنتفضت بسمة تنقذ ما يمكن أنقاذه ‪ ،‬تسندها كأنما‬
‫تسند عودا خاويا آيل للسقوط ‪ .‬تناول يوسف الصينية من أخته رافعا عينيه تجاه نورا ‪ .‬بنبرة خجولة ‪:‬‬
‫ما تنسيش بكره تشترى لنا شوية حاجات عشان زيارة ماما يوم الخميس ‪ .‬أزاحت وجهها بعيدا قبل أن‬
‫تنكمش مالمحها ‪ .‬فى أقتضاب ‪ :‬حاضر ‪.‬‬

‫ــ ياريت يوم الخميس نخرج بدرى من البيت عشان نوصل فى ميعاد الزيارة ‪ .‬كانت ملحوظة أضافتها‬
‫بسمة ‪.‬‬

‫ــ أنا مش رايحة معاكم عندى شغل متأخر والزم يتسلم ‪ ..‬قالتها بأداء من فاض به‪ ..‬نازعتها دهشة‬
‫يخالطها قلق ‪ :‬ليه يانورا ‪ ..‬دى رابع زيارة ما تجيش معانا فيها تشوفى ماما ؟!‪ .‬كان أشد ما يزعج‬
‫نورا تلك األعراض التى تداهم يوسف وبسمة قبل كل زيارة ‪ ،‬تشوق وحنين وتحضيرات تشتد وتيرتها‬
‫كلما أقترب الموعد ‪ ،‬كل من حولها فى البيت رصد تلك التغيرات التى الزمت نورا كقرين اليفارقها ‪ .‬لم‬
‫يستطع أى منهم فهم أو تحليل تلك الحالة ‪.‬‬

‫تمر بكفها على جبينها المتكبر وشعرها الملموم ‪ :‬يابسمة ياحبيبتى أحنا بنجهز لعرض األزياء الشهر‬
‫اللى جاى فى شيراتون المنتزة ‪ ،‬يعنى كل دقيقة لها تمن ومحسوبة علينا ‪ .‬تلفت نحوها والتكشيرة‬
‫تغرس وجهه وحاجبيه وعينيه ‪ :‬الزيارة دى مرة كل شهر ومابتزيدش عن ساعتين تالتة مش حيحصل‬
‫حاجة يعنى وال الدنيا حتتهد وعرض األزياء مش حيتأخر عن ميعاده ؟!‪.‬‬

‫ــ الزيارة اللى فاتت ماما بكت كتير وكانت حتجنن ومش القية سبب واحد مقنع يخليكى ما تجيش‬
‫تشوفيها ‪ .‬قالتها بسمة باستنكار بينما نكست نورا وجهها قبل أن تمسك رأسها بكفيها ‪ :‬حرام عليكوأنا‬
‫تعبانة ومش فايقة للكالم الفارغ ده ‪ ،‬أبتلع ريقه ‪ ،‬بدا عليه وكأن جملة أسئلة تدور فى رأسه ‪ .‬أختزلها‬
‫كلها ‪ :‬بصراحة يانورا أنا مش فاهمك ومش القى أى مبرر يمنعك من زيارة ماما ‪ .‬ثم تأملها فى حيرة‬
‫بينما سحبت نفسا عميقا وتهيأت ألظهار الحدة وبمالمح لعبت بها الشياطين ‪ ،‬فأقتحمته فى عنف ‪ :‬أنتو‬
‫مش قادرين تحسوا باللى أنا فيه ‪ ..‬أنا من جوايه تعبانة وهلكانة و طول النهار زى النحلة عشان أقدر‬
‫‪69‬‬
‫أوفر لحضرتك مصاريفك وطلباتك عشان ما تبقاش أقل من أى حد وقبل ما تحقق معايا يا أستاذ وتعمل‬
‫فيها وكيل نيابة أبقى شوف مصروفك كل يوم وصل لكام والهدوم اللى مالية دوالبك تمنها أيه وأحسب‬
‫الكورسات بتاعتك وبتاعة الست أختك بتتكلف كام ‪ ..‬شوفوا مصاريف أكلكم وشربكم ‪ .‬زادت عصبيتها‬
‫وهى تصرخ فيهم قبل أن تخبط المائدة براحتيها فأنتفض الجميع ‪ :‬أيه األنانية اللى بقت فيكو دى ؟‬
‫ال بترحموا وال بتعذروا ‪ ..‬مش كفاية قلقى عليكو طول النهاروأنا شايفة البلد كلها على كف عفريت‬
‫وسيادتك عاملى فيها ثورى والهانم أختك رايحة جاية فى المظاهرات ‪ ..‬كل ده مش شايفينه‬
‫وال حاسينه ‪ ..‬كعادتها ختمت كلماتها برأى حاد متصلب ‪ :‬وخالص أنتهينا قلت مش رايحة يعنى‬
‫مش رايحة ‪.‬‬

‫أختصرت أيات مداخلتها ‪ :‬أهدى شوية يانورا ‪ ،‬الحكاية مش مستاهلة كل العصبية دى ‪ ،‬رأيك وأنتى‬
‫حرة فيه وكل واحد أدرى بظروفه ‪ .‬لم تجد نورا ردا على تلك الكلمات ‪ ،‬هزت رأسها متجنبة الخوض‬
‫فى العيون ‪ ،‬فى حين أصبحت أيات تدرك أن شيىء غامض أصبح مسيطرا على نفسية نورا كما أستقر‬
‫داخلها شعورا الزمها منذ فترة ليست بالقصيرة بأن أختها تحاول كبت و طمس مشاعر أخوتها‬
‫تجاه أمهما ‪.‬‬

‫ــ ليه كمية الغضب والعصبية اللى نورا بتبقى فيها قبل كل زيارة ؟ ليه دايما بتحاول تفكرنا بكل حاجة‬
‫بتعملها لنا أول ما نقولها تعالى معانا الزيارة ؟!‪ ..‬لم يستطع يوسف أن يمتنع عن ترديد تلك التساؤالت‬
‫على نفسه فى لحظة أصبحت حدود المائدة تتراجع أمام عينيه ‪ ،‬بينما أشتات أسئلة وأفكار أخرى تطير‬
‫من رأسه لتحط فوق رأس أخته التى تهدل فكها أستغرابا أو جزعا ‪ ..‬غمغمت مغلوبة على أمرها آسفة‬
‫حزينة فى حين أفلتت عن نورا دهشة أستنكار حين شعرت بأنها خرجت عن المألوف فى حوارها مع‬
‫أخوتها ‪ ..‬نظرة خاطفة فى وجوههم قبل أن تستقر عينيها فى أتجاه كوب الشاى ‪ :‬أنا ما كانش قصدى‬
‫‪ ،‬أعذرونى ضغط الشغل بقى كله على دماغى ‪ .‬أردفت بكلمات متقطعة ‪ :‬وبصراحة أنا نفسيا مش مهيأه‬
‫لزيارة ماما دلوقتى خالص ‪ ..‬معلش غصب عنى ! ‪ .‬لم تفلح كلماتها فى تبرير حرج أدركهم جميعا ‪ .‬لكن‬
‫يوسف كعادته سارع إلى التقليل من التوتر وحدة الحوار بأبتسامة وبلهجة طبيعية وخيبة ظنه تغالب‬
‫عتبه ‪ :‬أحنا مقدرين تعبك واللــه يانورا ‪ ،‬أنتى مش أختنا الكبيرة وبس ده أنتى كمان أمنا وصاحبتنا‬
‫وكل حاجة لنا ‪ ..‬معلش سامحينا ‪ .‬تراجعت نبرة صوتها فتحولت الرءوس نحوها ‪ :‬كل اللى أنا وصلتله‬

‫‪70‬‬
‫و اللى ربنا أكرمنى بيه مش عايزة منه أى حاجة كل اللى يهمنى أنتو بس ومستقبلكم وأزاى أعوضكم‬
‫عن سنين البؤس اللى فاتت ‪.‬‬

‫ــ وليه ما تفكريش فى نفسك يانورا أنتى عملتى كتير عشانا وكملتى رسالتك بشكل ممتاز وكلها كام‬
‫شهر ويوسف يتخرج ويبقى مهندس أد الدنيا ويعتمد على نفسه وبسمة كمان قدامها سنتين وتتخرج‬
‫من كلية التجارة ‪ .‬تلك الكلمات مصدرها أيات التى أبدت حيرة ودهشة ‪.‬‬

‫ــ يعنى أنتى مش شايفة ياعمتى حال البلد اللى مايسرش وال تكونى فاكرة أن يوسف أول ما حيتخرج‬
‫حيالقى الشغل مستنيه ‪ ..‬أنتى بتحلمى ياعمتى ؟!‪.‬‬

‫ــ لما نشوف حكم األخوان حيودينا لفين ؟!‪ .‬قال يوسف كلماته وهو يتكىء بيديه على المائدة وينهض‬
‫نصف نهوض وكان وجهه قد أطمأن نسبيا بعد ان زال التوتر رغم أنه اليزال مطبوعا بطابع األلم ‪..‬‬
‫أتجه الى غرفته مارا بنعمة التى تهالكت فوق مقعد تراقب تطور األحداث ‪ .‬بينما غادرت بسمة مقعدها‬
‫بمالمح تسليم أو أحتجاج ‪..‬‬

‫حيرة وأرتباك وعدم فهم هو ما أجتمع عليه الجميع ‪ ،‬ال يكفون عن أطالق التخمينات حول حالة نورا‬
‫المحيرة المربكة ‪ .‬بقيت األخيرة فى مكانها ترشف من فنجان الشاى ومالمحها التى غصت فى أعماق‬
‫المحنة التى صدمت كيانها الطفولى منذ سنوات وقتلت فيها الطفلة التى كانت قبلها تتوثب فى أرجاء‬
‫البيت فرحا ومرحا قبل أن تكتمل داخلها تركيبة جديدة خرجت من رحم مرارة السنين ‪ ..‬خلطة سرية ‪،‬‬
‫لم يستطع كل من حولها فهم كل مكوناتها ‪.‬‬

‫‪0000000000‬‬

‫بقايا جدران تشكل بيوت ‪ ،‬متالصقة أو متقابلة ‪ ،‬تشكل فى مجموعها حارة ‪ ،‬هذا هو الشكل الهندسى‬
‫المعتاد للحوارى فى منطقة كرموز ‪ ..‬ال تكاد تمتد بضعة أمتار طوال حتى تنعطف يمينا أو يسارا ‪ ،‬وفى‬
‫أى موضع منها يطالعك منحنى يطوى وراءه مجهوال ؟!‪ .‬بركة مياه طافحة حول بالوعة صرف ‪ ،‬بيت‬
‫قديم متهدم أو حتى كلب يجلس مستأسدا ينتظر مرور أى غريب أو يصدمك شمام أو حشاش أو قاطع‬
‫طريق يفعل بك كل األفاعيل ‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫الناس فى حارة " المناجيلى " بسطاء بال تحذلق و ال أسرار ‪ .‬رائحة البشر المختلطة برائحة الطبيخ ‪،‬‬
‫وأصواتهم العالية المتداخلة مع صراخ باعة الروبابيكيا والخضار وسباب المتعاركين الذى ال ينقطع ‪.‬‬
‫يجعل المشهد مكتمال ‪.‬‬

‫الحارة تعج بساكنيها بالرغم من مساحتها الضيقة ‪ ..‬نساءها ‪ ،‬كمعظم نساء المحروسة ‪ ،‬ال ينشغلن إال‬
‫بالطبخ والحبل والوالدة كالقطط واألرانب ‪ ،‬ففى كل سنة ولد فى البطن وولد فى الحضن وولد يلتصق‬
‫بركبتها حتى طفحت أركان الحارة و ماعادت تتسع لفقس جديد ‪ ،‬وحين تتفحص السحنات والوجوه‬
‫المارة فى الحارة أبتداءا من الجدات الالتى ضمرت أنوثتهن وأصبحت صدورهن مفرطحة إلى اللواتى‬
‫برزت بطونهن مرورا بأشكال المتسولون والمجذبون بأجسادهم النحيفة وهم يترنحون أو يعرجون‬
‫يزاحمهم عدد ال بأس به من الشمامين والمبرشمين ‪ ،‬فيجتاحك شعور كاسح بأنك ترى فيلما وثائقيا عن‬
‫حارة " المناجيلى " ‪.‬‬

‫حول واحدة من الطاوالت فى مقهى " عبد المقصود " يدور الحوار هادئا أو مستفزا عن أحوال البلد‬
‫وثورة يناير ‪ ،‬مالها وماعليها ؟!‪ .‬ودور القنوات الفضائية الخاصة ومسئوليتها المباشرة عن تدهور كل‬
‫شيىء فى البلد ( رأى واحد بلحية ) !! فى حين أحتدم النقاش على طاولة أخرى حول أهداف جماعة‬
‫األخوان المسلمين ومواقف السلفيين وسياسات الرئيس مرسى المربكة والمحيرة بينما طاولة أخرى‬
‫أرتفع فيها صوت القفشات والنكات والضحكات ‪.‬‬

‫هنا كل شيىء الفت ومغر ‪ ،‬ليس الدخان المتصاعد من األفواه واألنوف أو الصياح وحدهما ؟ أو الكلمات‬
‫البذيئة وال صوت التليفزيون المتواصل بال أنقطاع ‪ ،‬بل أنه الجدل الملتهب الذى يحتد بينهم فجأة دون‬
‫مقدمات ‪ ،‬يعلو ويعلو حتى تتيقن بأنه سينتهى ال محالة الى صراع باأليدى والرؤوس ‪ ،‬فتهتزله‬
‫أعضاءك ولكنه يتراجع رويدا رويدا ثم يتالشى ‪ ..‬دائما ما تكون قصص المطرودين من أشغالهم‬
‫والعاطلين والمدمنين والنساء ‪ ،‬ال تمثل تلك الحوارات فى ذاتها أى دهشة أو أستغراب ‪ ،‬فى حين تتصدر‬
‫مجموعة من شباب الحارة األشاوس التربيزات األمامية منطلقين على سجيتهم يحيون لحظتهم األنية‬
‫واليبغون عنها بديال ‪ ،‬حيث أمعنوا فى سب بعضهم بألفاظ ومصطلحات يحتفظون ألنفسهم بحقوق‬
‫الملكية فى أبتكارها ‪ .‬وعلى يسار المدخل يقع الجزء الهادى من المقهى الذى يقطنه مجموعة متخشبة‬
‫هامدة من أصحاب األمراض المزمنة والمعاشات يلتصقون ببعضهم فى دائرة صغيرة كأنهم يحيطون‬
‫بميت ‪ ،‬لهم وجوه غائرة وعيون ذاوية ‪ ،‬تدرك فى مالمحهم أنهم ال ينتظرون شيئا وال يتوقعون جديدا‬
‫‪72‬‬
‫يتفحصون كل من يمر أمامهم بنظرات عميقة ساكنة‪،‬العالقة لهم بالحوارات الصاخبة وال اللغط المثبعثر‬
‫فى كل األمكنة ‪.‬‬

‫لم يكن األمر يخلو من عيون تراقب وأذان تنصت ‪ ..‬أنه " عبده الجن " ‪ ،‬كان على غير عادته ‪ ،‬يجلس‬
‫وحيدا فى موقعه بصدارة المقهى يجول بعينيه بين هؤالء وهؤالء مختبئا داخل كوفيته محنطا فى جلباب‬
‫أبيض وعباءة عسلية ‪ ،‬وظل لوحة تحتل مكانا بارزا فوق رأسه و تفترش جزءا من مساحة‬
‫مكتبه الصغير تظهر فيها رأس أنسانى لها صدغ مستطيل تعلوه عين ثعبانية ضيقة وقفا طويل‬
‫غريب التكوين ‪ ،‬صورة غلب فيها اللون األسود على األبيض ‪ ..‬أنه الراحل " المعلم عبد المقصود"‬
‫والد فايزة ‪ ..‬مط عبده شفتيه مناديا ‪ :‬ولـه ياجمعة ‪ ..‬هات لى شيشة ‪ .‬بدا منفصال بفكره عما يحيط به‬
‫‪ ،‬غارقا فى ذاته عازفا عن الكالم ‪ .‬ربما كان يفكر فى موعده مع األستاذ " محمود المحامى " الذى‬
‫يتفاوض نيابة عنه منذ أسبوع مع " كريمة " عاملة تغليف بمصنع حالوة والتى تزوجها عرفيا من‬
‫ثالثة شهور ‪ ،‬كعادته كل فترة غير أنها كانت مختلفة عن سابقتها ‪ ،‬رأسها وألف برطوشة أن يدفع لها‬
‫عبده ألفين جنيه كما جاء فى نص العقد الذى حرره وأشرف عليه " محمود المحامى " ‪.‬‬

‫أتاه " جمعة " من خلف " النصبة " حامال الشيشة ولوازمها ‪ ،‬أرتكز على قدميه منحنيا بجزعه يتعامل‬
‫فى خفة مع الشيشة ‪ ،‬وما أن تم طقوس أشعال الجمرات وتكريس المعسل فى الحجر ورص الجمرات‬
‫الصغيرة بالماشة وهو يطرقها بهوادة فترسل شررا أزرق ليبدأ معها رحلة شد األنفاس حتى تنشط ثم‬
‫يناولها لعبده ليغرد بها مكركرا شاردا بذهنه مع كركرة الماء فى أذنيه وصورة اللهب األزرق المندلع فى‬
‫الحجر كلما شد نفسا عنيفا بعدها ينفث الدخان قبل أن يخرج المبسم من بين شفتيه ليفسح مجاال لخروج‬
‫سؤاله ‪ :‬منصور أيه اللى أخره لغاية دلوقتى ؟ ‪.‬‬

‫ـ مش عارف يامعلمى ‪ ..‬طب ما تكلمه على الموباين ‪ .‬يلوى فمه ضيقا ‪ :‬كتر خيرك ياأفا المحمول بتاعه‬
‫مقفول ‪ ..‬روح أتكل على اللـه شوف شغلك ‪ .‬بينما يدخل فى تلك اللحظة األستاذ " سعيد " عتبة المقهى‬
‫والملقب على ألسنة روادها بـ " سعيد تشكك" ‪ .‬تحس فيه أنه كائن قادم من زمن ال يفرز وال ينتج‬
‫سوى الكالم والسفسطة والتشكك ‪ ،‬أصلع وعلى عينيه نظارة سميكة بأطار أسود موديل الستينات ‪ ،‬له‬
‫مالمح غير مرتبة فالعينين متباعدين واألنف يكاد يلتصق بفمه ‪ ،‬يرتدى جاكيت قديم يخفى تحته قميص‬
‫ال يفسخ طرفى يأقته ال صيفا وال شتاءا ‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫بعد ثورة يناير تيقن بعلو مكانته الكالمية ‪ ،‬إال أنه كان من سجيته أن يقفل كل النوافذ فى وجه الحياة‬
‫مهما تغيرت األحداث وتبدلت األحوال ‪ .‬تشعر به كائنا خفيا يعمل فى همة ألغتيال كل األحالم ‪ ..‬غير أن‬
‫معظم المحيطين به قد أستشعروا تحوالته المزاجية فى هذه األيام الحرجة ‪ ،‬فبدت أفعاله وحركاته سوى‬
‫تشنجات عصبية وزفرات أشبه بغباءات كبيرة ‪ ،‬كان التحليل المنطقى لحالته كما أشار بعض خبراء‬
‫المقهى وحكمائها هو أنفصاله عن زوجته وأقترانها بأخر ‪ ،‬فأنفرد بنفسه مع الوحدة الكئيبة التى جعلته‬
‫مصابا بحالة من العصيان ال يعرف معها بأى اتجاه يسير ‪ ،‬أختار المسيرات والمظاهرات داوم على‬
‫الخروج فيها حتى وإن كانت مظاهرة تنادى بتحريم المظاهرات ‪ ،‬أعتبرها شريان يضخ فيها غضبه ‪،‬‬
‫ولما تهدأ المسيرات والتجمعات والمظاهرات تكون ضالة الكالم هدفه وغايته ‪ .‬سحب كرسيا ثم صفع‬
‫قعدته بكف يده كأنه يهش من عليه الغبار ‪ ،‬أنضم لمجموعة من المشجعين يراقبون فى حماسة غير‬
‫ضرورية دور طاولة ملتهب كان طرفية " عم نوفل " واألستاذ " أمام" تابع " العشرة " بذهن خالى‬
‫من أى مادة تصلح لحديث ‪ ..‬أستعد يراقب كى يلتقط مدخال أفضل لما يأتى من كالم ‪ ،‬أو ليتبين وقع‬
‫الحديث القادم ‪ ،‬غير أنه بالتأكيد كان قد أعد بعناية كيف يبدأ ‪ :‬أيه اللى األخوان بيعملوه فى البلد ده ؟!‪.‬‬
‫بنبرة غير مبالية على لسان عم نوفل ‪ :‬هو أنت مش كنت متحمس لهم وبتقول عليهم حيعدلوا البلد !!‪.‬‬

‫ــ أنا ماقلتش كده أنا قلت الناس دى مليانة فلوس والبلد حينولها من الحب جانب ‪.‬‬

‫أستقبل الحاج " تاج " تبرير " تشكك" بأبتسامة خفيفة برزت فيها أسنان صفراء تتوارى خلف شفتين‬
‫رفيعتين تحددان المالمح الهادئة للوجه األبيض واألوداج المتهدلة والعيون الضيقة ‪ .‬مال بفمه على‬
‫مبسم الشيشة قبل أن ينزعه ‪ :‬بلد أيه اللى حينولها من الحب جانب ‪ ..‬أسألنى أنا عن األخوان ياسعيد‬
‫الناس دى كل اللى يهمهم أزاى يتمكنوا من البلد ‪ ...‬يتكامل المشهد كما أراد ‪ .‬أرتفع صوته كالنذير ‪.‬‬
‫قال تشكك ‪ :‬مستحيل يتمكنوا من البلد وأحنا موجودين الشعب مش حيسكت ياحاج ولوجت على أرواحنا‬
‫تبقى سهلة ‪ .‬أضاف وكأنه يفشى سرا ‪ :‬لو األخوان عايزنها دم وحيسلطوا ميلشياتهم على الناس‬
‫ساعتها حتالقى فى كل حارة وفى كل حى ميلشيا تصدهم وتوقفهم عند حدهم مش حيسيبوهم ‪.‬‬

‫جاء صوت من ركن المقهى معقبا ‪ ،‬تحس انه ينفجر فيه ذلك األنفجار اليائس ‪ ،‬كان عجوزا متعبا ولم‬
‫يكن فيه جزء سليم إال لسانه ‪ :‬لو سكة الدم دى أتفتحت فى مصر مش حتتلم تانى أبدا وال تقولى‬
‫ساعتها أحنا حنبقى زى لبنان وال الصومال ‪ ..‬كلنا حناكل بعض و مافيش حاجة فى البلد حتفضل واقفة‬
‫على حيلها كله حيتهد على دماغنا ‪ .‬خرجت همهمات متفاوتة بين األعتراض والقبول على هذا الرأى ‪،‬‬
‫‪74‬‬
‫كل له فهمه ‪ ،‬غير أن الوجوم قد أستشرى فى الوجوه كالعدوى ‪ .‬قام " عبده " من مكانه بعد أن أحس‬
‫بشيىء من القتامة يلقى بظالله عليه ‪ ،‬أراد أن يفتت الغمامة الثقيلة التى كبست على مالمحه ‪ :‬يعنى هو‬
‫الريس مرسى مش شايف بعينه كل اللى بيحصل ده وال دى سياسة مرسومة وهمه ماشيين عليها ‪ .‬لم‬
‫يكمل مالحظته بعد أن بطش به السعال ‪ ،‬فأغتنم " تشكك " فرصة أنشغاله ‪ :‬الجماعة دول مايعرفوش‬
‫يعنى أيه وطن ‪ ،‬دى ناس بتفكر فى خالفة ومش فارق معاهم البلد تقع وال تتقسم دول عالم معقدين ‪.‬‬

‫خرجت نبرة قبل أن ينقيها من أثر السعال ‪ .‬قاطع عبده ‪ :‬همه أحرار فى تفكيرهم المهم أحنا عايزين‬
‫أيه وحنحافظ على البلد وال أل والعبد للــه اللى قدامكم أبو الوطنية !!‪ ..‬دائما ما يتفاخر عبده بنضاله‬
‫الوطنى إبان األيام األولى لثورة يناير المجيدة وأستشهد بدوره البطولى المقاوم حين كان يركض‬
‫بال هوادة خلف سيارات األمن المركزى مطاردا لها فى شارع كرموز الرئيسى قبل أن يتمكن هو‬
‫ومجموعة من أحرار حارة " عويضة " بالقيام بعملية فدائية ناجحة داخل قسم شرطة " مينا البصل "‬
‫أسفرت عن تحرير كل الحرامية والمجرمين من داخل حجرة الحجز واألستيالء على كل األسلحة‬
‫الموجودة ‪ .‬فرغ عبده من قصة الوطنية ثم تقاسم مع الموجودين سرد الحكايات تباعا ‪ ،‬كلها حكايات‬
‫مليئة بالصراعات والهزائم والخيانة فيها لها دور كبير‪ ،‬الراوى هنا سعيد تشكك ‪.‬‬

‫تحول " عبده " الى ترابيزة الحاج " تاج " ثم أنضم إليهما " تشكك " قبل أن يباغتهم " جنش "‬
‫الجزمجى بصندوقه المتدلى من كتفه وبطنه المتقدم ورجلين يسحبهما معه سحبا تحت جلباب غامق‬
‫ال يبلى أبدا وال يخلعه قط ‪ ،‬فقد بات من طول عشرته له يحمل شكل جسمه ‪ ،‬أنقض بال مقدمات على‬
‫حذاء الحاج " تاج " يدلكه بالفرشاة بينما " قناة الجزيرة " مباشر تذيع لقاء مع أحد الناشطين‬
‫السياسيين أصحاب الوجوه المعروفة فى الفترة األخيرة ‪ ،‬تصلبت أذنى " تشكك " تلتقط كلمات الناشط‬
‫قبل أن يسحب من بنطلونه جزءا من قميصه ‪ ،‬أخذ يمسح به نظارته ‪ ،‬فأختصر كل ما يموج فى ذهنه‬
‫كعادته عند بداية أحاديثه بالسب واللعنات على معظم الموجودين فى الساحة السياسية ‪ ،‬عباراته كأنها‬
‫أشياء مقلوبة ال توحى بأى أنتماء أو أحترام ألى حزب أو حركة أو جهة ‪ .‬يشير بأصبعه بأتجاه الناشط‬
‫المتفزلك على الشاشة ‪ :‬آهو ده بالذات عميل أبن عميل ‪ ..‬كلهم خونة وبيدوروا على سبوبة يطلعوا‬
‫منها بأى مصلحة ‪ .‬طأطأ " عبده " قبل أن يمد يده لكوب الشاى ‪ ..‬بدا مذهوال حين سأل وهو مازال‬
‫ملخوما مما سمع ‪ :‬مش الراجل ده كان قاعد ليل ونهار فى ميدان التحرير ‪ ..‬أزاى بقى عميل‬
‫وخاين ؟!‪ ..‬يدير " تشكك " وجهه عن المتسائل المتطفل بازدراء ‪ .‬يمضى مبررا ‪ :‬يا معلم عبده مش‬

‫‪75‬‬
‫كل الل ى فى التحرير بيخافوا على البلد ونيتهم سليمة أكترهم قابض يابا ؟!‪ ..‬لم يصل فيه السؤال‬
‫إلى ذلك المنحنى الفاجر الذى يربكه ‪ .‬فأضاف ‪ :‬اللى بيسموا نفسهم ناشطين وأنهم صحاب الثورة واللى‬
‫أتلمو دلوقتى على شلة الدقون اللى طلعوا لنا فجأه زى العفاريت كانوا كلهم قبل الثورة مش ألقيين‬
‫ياكلوا وال كان حتى يعرفوا شكل الفلوس و دلوقتى كلهم راكبين أحسن عربيات وساكنيين فى أحلى‬
‫شقق ‪ ..‬أصحى يامعلم أحنا كلنا أتباعنا وأتقبض تمنا كاش ‪ ..‬كان أداءا حماسيا سرعان ما أنتشر‬
‫فى المقهى متواثبا فوق كل الطاوالت ‪ ،‬فأرهف الجميع أذانهم ‪ ،‬معظمهم كانوا من المفلسين يستمعون‬
‫إلى أرائه المفككة المفاصل ‪ ،‬يرسمون بنفاق على وجوههم معالم األنصات إليه بجدية ‪ ،‬بينما أبدع‬
‫" تشكك " وأضاف منشدا ‪ :‬الناس دى حرامية وعايزين ياكلو البلد فى بطونهم ‪ ..‬عمركم سمعتم عن‬
‫وظيفة أسمها " ناشط سياسى " طب حد عاقل يجاوبنى ويقولى الناس دول بيصرفوا منين وبيعيشوا‬
‫أزاى ‪ .‬أسكته " تاج " مقاطعا ‪ :‬أهدى ياسعيد وسيب األيام تبين مين مع البلد ومين اللى ضدها ‪.‬‬
‫أرتفعت خيوط الدخان فى صمت ‪ " .‬جنش الجزمجى" ميال إلى الفكاهة ‪ ،‬يأخذ الدنيا من جانبها‬
‫الهزلى ‪ ..‬رفع عينيه ويديه من على حذاء الحاج تاج ‪ .‬يسأل ‪ :‬من حقهم ياخدوا فلوس ؟!‪ ..‬ويسترزقوا‬
‫كمان ‪ .‬قطب " تشكك" حاجبيه ‪ :‬ليه إن شاء اللـه ياجنش ؟!‪..‬‬

‫ــ عشان همه ناشطين مش كسالنين ‪ .‬دوت ضحكات متقطعة قبل أن يقاطع أحدهم ‪ :‬بيقولك مرات‬
‫واحد ناشط بتقول لصاحبتها جوزى راح يشترى لنا بطاطس ‪ ،‬عربية صدمته ومات ‪ ..‬صاحبتها أتخضت‬
‫وقالتلها وأنتى عملتى أيه ؟‪..‬أبدا عملت كوسة ‪ .‬أرتفع زئير ضحكاتهم ‪ .‬أصابت تشكك بالكأبة والوحدة ‪،‬‬
‫تململ فى جلسته وهو ينظر إليهم واحدا واحدا ‪ ،‬شعر أنه لن يستطيع أن يكمل جلسته بينهم وفى هذا‬
‫الجو الباسم بينما دخل عبده فى وصلة ضحك قبل أن يضع كوب الشاى جانبا وضرب فخذيه حين لمح‬
‫األخير ينتفض غيظا وقد أرتعش حاجبيه كأنهما تتراقصان ‪ ،‬فأستجمع بقايا كرامته وربت على ركبتيه‬
‫بكلتا يديه ثم نهض مرة واحدة ‪ :‬سالمو عليكم يامعلم عبده ‪ ..‬سالمو عليكو يارجالة ‪.‬‬

‫ــ مالسه بدرى يا استاذ سعيد ‪ .‬قالها عبده بينما قام الرجل العجوز ثانية ‪ :‬تالقيه رايح يشترى‬
‫بطاطس !‪ ..‬مضى " تشكك " ينقل خطواته بعصبية ظاهرة خارجا من المقهى تزامنا مع أنتهاء‬
‫" عبده " من وصلة الضحك والسعال ‪ ..‬ثم سأل ‪ :‬ما تفهمنى يا حاج تاج مرسى واألخوان حيودونا‬
‫لفين ؟!‪ ..‬حاول أن ينهى النقاش المبتور ‪ ،‬الذى يبدو بال بداية وال نهاية ‪ :‬أسمع ياعبده كلمتين حاقولهم‬

‫‪76‬‬
‫لك وحطهم فى ودانك ‪ ..‬مصر دى كبيرة أوى ومن األخر عمر األخوان ما حيحكموا مصر وأنتخاب‬
‫مرسى ده قول عليه كده خبطة على الدماغ والناس أختارته وهيه مدروخة ‪.‬‬

‫ــ كالمك صح ياحاج كنا كلنا مدروخين والشعب كله كان عامل دماغ ‪ .‬سكت فجأة وتوتر حين لمح أبنه‬
‫منصور يدخل المقهى ‪ .‬نهض ‪ :‬عن أذنك يا حاج ‪ ..‬أتجه نحوه بخطى هادئة حتى سد عليه الممر بين‬
‫الطاوالت ‪ :‬كنت فين لغاية دلوقتى ياوله ؟‪ ..‬بنبرة مشروخة وجفنان متورمان ‪ :‬كنت نايم يابا ‪ .‬بلكنة‬
‫أبوية تحمل معانى ال يجيدها ‪ :‬لك حق تنام لغاية دلوقتى ماهى دى آخرة الصياعة والسهر طول الليل ‪.‬‬
‫أشاح بعينيه بعيدا وقد بدا وجهه كئيبا كالعادة فى ساعات النهار بينما يكتسب رونقا خاصا فى آخر الليل‬
‫بعد أن أصبح رجل وله خباياه التى ال يريد الكشف عنها أليا كان ‪ .‬توزعت مالمحه وتركيبته وحالته‬
‫المزاجية بالتساوى بين أمه ووالده ‪ ..‬طويل قوى البنية كأبوه ‪ ،‬وجهه لحيم وعيناه واسعتين كأمه ‪ .‬ال‬
‫تنقصه الوسامة ‪ ،‬بشرة خمرية وشعر طويل يغطى جزءا كبيرا من أذنيه وقفاه ‪ ،‬معلوم للجميع بأنه‬
‫يكسب الكثبر من المقهى ‪ ،‬تتمناه كل أم لبنتها فى الحارة ‪ ،‬والكثيرات ينصبن حوله الشباك ‪.‬‬

‫ــ أتفضل يافالح أترزع مكانى لغاية ما أروح لمكتب محمود المحامى ‪.‬‬

‫ــ حتتأخر يابا ؟‪.‬‬

‫ــ ليه إن شاء اللـه وراسيادتك حاجة ‪.‬‬

‫ــ مش القصد ‪ ..‬النهاردة حنشطب بدرى عشان بكرة ميعاد الزيارة بتاعة أمى ‪.‬‬

‫أزاحه عن طريقه قبل أن يرد بملل ‪ :‬روح أقعد مكانى وبكره ربنا يسهل ويعديها معانا على خير ‪ .‬قالها‬
‫وأنطلق متعجال فى حين أنكمش منصور محتال مكان أبوه ‪ ،‬يرمى بنظراته الحادة لكل ما تصل إليه‬
‫عينيه ‪ ،‬إال أنه رفع يده فى تحية بأتجاه صاحبه الحميم " سليم " فور دخوله عتبة المقهى ‪ ،‬عالقة‬
‫قديمة مستمرة منذ أن زامله فى مدرسة " النهضة األبتدائية " وهى المرحلة األخيرة فى عالقة سليم‬
‫بوزارة التربية والتعليم ‪ ،‬أتجه بعدها بكل حماسة إلى المشاغبات والرذالة ثم أحترف بعض المهن كانت‬
‫أحداها النقاشة والتى أظهر فيها نجاحا فى دهان الجير ‪ ،‬له سحنة تتغير حسب ما يتعاطاه ‪ ،‬فتجده مرة‬
‫شابا ومرة كهال وأخرى شيخا هرما ‪ .‬له خطوة مميزة تحس فيها بالترنح ؟‪ ،‬يقترب من منصور وهو‬
‫يتفقد شعره بأنامله الذى وضع عليه مايكفى من " الجيل " بينما نفرت منه خصلة على جبينه مثل ذيل‬
‫الفار ‪.‬‬
‫‪77‬‬
‫أفسح " منصور" مكانا لكرسى " سليم " الذى سأل قبل أن تلمس مؤخرته مقعدته ‪:‬أبوك فين ؟‪..‬‬

‫ــ عند محمود المحامى ‪ .‬قالها وأشعل سيجارته التى كان قابضا عليها بشفتيه ‪.‬‬

‫ــ خير فى حاجة ؟ ‪.‬‬

‫ــ يعنى أنت مش عارف أبويا ومشاكله اللى حاطط نفسه فيها !!‪.‬‬

‫ــ قصدك نظام العرفى اللى داير بيه مع النسوان الساكة ‪ ..‬طب أطلب لنا شاى وشيشة ‪.‬‬

‫ـ أتنين شاى وشيشة هنا ياجمعة ‪ .‬بينما كان يراقبة سليم من خالل حاجبيه ‪ :‬اللـه يسهلك ياعم ‪..‬عرفت‬
‫أنك كنت مع البلطية النهاردة ؟!‪ ..‬أنتبه ولم يجب ‪ ،‬وإنما ألتقى حاجباه عند منبت األنف فى ثنيتين ‪:‬‬
‫تقصد نوسة ‪ ..‬واللـه ماشفتها النهاردة ‪ .‬حضر " جمعة " بصينية بها كوبين شاى وشيشة وضعها‬
‫بين ساقى سليم ‪ .‬فما أن ادار ظهره حتى تابع منصور ‪ :‬بتسأل ليه ياسليم ؟‪ ..‬لم يأته الرد سريعا ‪،‬‬
‫مازال األخير يسحب أنفاسا طويلة من الشيشة ثم يحاصرها داخل صدره ال ينفث الدخان إال بعد مدة ‪.‬‬
‫قال حين أغمض عينه نصف أغماضة ‪ :‬أنا لسه شايفها من ساعة داخلة حارتهم وكانت متظبطة‬
‫ع المسطرة محزأ ومحبك ع األخر قلت أكيد الحلوة كانت مع منصور ‪ .‬توتر األخير فظهر الشريان الذى‬
‫يشق جبهته حين يغضب ‪ ،‬يدخن سيجارته ويطقطق بأظافره على بطن كوب الشاى ‪ ..‬لحظة عصبية‬
‫تنتابه فى حين سعل سليم سعاال خفيفا كى يتيح الفرصة لصوته أن يخرج ‪ :‬هى أيه العبارة يامنصور‪..‬‬
‫ساهما ‪ :‬خرجت راحت فين ورجعت ؟ قالها ثم ثأثأ ونطق بعبارات مفككة وألفاظ من الشتائم الضخمة‬
‫بينما يضغط سليم بالماشة على الجمرات يتناول أنفاسا قصيرة ‪ :‬ليه تعكر مزاجك وتشغل بالك وتخلى‬
‫الصراصير تلعب بدماغك ما تتصل عليها وتسألها ؟‪ .‬دار بعينيه للحظات ثم قام من مكانه قلقا غاضبا ‪:‬‬
‫أل مش حأتصل أنا حأروح لها البيت ! قرر ذلك وهو يضع علبة سجائره فى جيب قميصه ثم صرخ ‪:‬‬
‫جمعة ‪ ..‬ربع ساعة وجاى ‪ .‬قالها وألتفت لصاحبه ‪ :‬أستنانى حأروح أشوف الحكاية دى وحأرجع على‬
‫طول ‪ ،‬هز " سليم " رأسه قبل أن يقبل على الحجر ملهوفا متأمال صاحبه الذى أختفى فى ثوانى من‬
‫المقهى ‪.‬‬

‫غار منصور فى الحوارى المضاءة نصف أضاءة وسط صمت وهدوء مباغت فى هذه األزقة الضيقة‬
‫المتعرجة التى أفضمت به إلى بيت عتيق محشور بين أشباهه ‪ ،‬واجهته ليس فيها شيىء من تناسق ‪،‬‬

‫‪78‬‬
‫كانت من تصميم وأبتكار جده الراحل " عبد المقصود " بصفته مالك البيت ومن بعده ألبنته فايزة ‪،‬‬
‫وبالرغم من مساحته الكبيرة إال إنه موقوف على سكان همهم األكبر أختصار النفقات والعيش يوم بيوم‬

‫أجتاز منصور المدخل الصغير ‪ ،‬ثم دفع بابا صغيرا معلقا فى زاوية ‪ ،‬صعد السلم الحلزونى الضيق‬
‫المظلم الذى قاده إلى شقة نوسة ‪ ،‬فلما صار عند العتبة ‪ ،‬رن الجرس ‪ ..‬لحظات وكان الباب مفتوحا قبل‬
‫أن تطالعه نوسة بأبتسامة مصحوبة بنصف وقفة وقد أنحشر جسدها فى فستان ضيق قصير ‪ ،‬فتفسر‬
‫تفاصيله بتحديد واضح ‪ ،‬الوسط الضيق والصدر المدبب ‪ ،‬فالسوتيان أصغر من مقاس صدرها‬
‫بـ " نمرتين " من الدانتيل الذى يكشف وال يخفى ‪ ،‬بدت مالمحها جامحة ‪ ،‬عينان سوداتان فوقهما‬
‫حاجبان مرسومان بدقة على بشرة بيضاء المعة ‪ ..‬جمال وحشى يضرب الفقر فى نخاعه بكل ما أوتى‬
‫من عزم دون أن ينجح فى تشويهه ‪ .‬صراخ جسدها باألغراء كان تلقائيا ‪ ،‬أصبح عليها أن تشق طريقها‬
‫بسالحها الوحيد ‪ .‬أنوثتها المتفجرة ‪.‬‬

‫صوت أمها الست " بدرية " يأتيها من الداخل مجلجال ‪ :‬مين يا نوسة اللى على الباب ؟‪ .‬تقرب عينيها‬
‫بشقاوة تالعبهما فى عينيه خرجت كلماتها مع دوران اللبانة فى فمها التى تبرزها فى بطء عند طرف‬
‫لسانها ‪ :‬ده منصور ياما ‪..‬‬

‫ــ تعالى يا منصور أدخل ‪ .‬صحبته إلى الداخل وهو من خلفها يتبع خطواتها بينما بصره منحصر فى‬
‫أردافها المرتجة المدربة ‪.‬‬

‫بدت الشقة صغيرة ضيقة وتجهيزها من موبيليا وطالء وأضاءة دون المستوى فى حين كانت " بدرية "‬
‫ملء كنبة أسيوطى فى ركن الصالة ‪ ،‬أوشكت أن تتحول إلى كائن كروى طوله مثل عرضه ‪ ،‬لها وجه‬
‫أبيض منتفخ يوشك على األنفجار ‪ ،‬غالبا ما تفقد لونه تحت وطأة مساحيق من شتى األلوان ‪ ،‬خطوط‬
‫بالقلم األسود تحت العينين ‪ ،‬ظالل خضراء على الجفون يظللهما حاجبان رفيعان مقوسان ‪ ..‬الست‬
‫بدرية صاحبة تاريخ طويل من الكفاح المشرف سطرته منذ ثالثين عاما حين شقت طريقها مغنية‬
‫مغمورة فى األفراح الشعبية وفى سبوع المولود وحفالت الطهور إلى أن توالت نجاحاتها حتى أصبحت‬
‫مطربة كرموز األولى قبل أن تطور أدائها وأرتفعت بسقف الطموحات حين أكتشف فيها " عم داود "‬
‫متعهد كومبارس نواة جيدة لممثلة سيصبح لها شأن فى سماء الفن ‪ ،‬دائما ما كان لها دور فى معظم‬
‫المسرحيات التى تعرض باألسكندرية فى الصيف ‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫خمسة وعشرون عاما هى المدة الزمنية التى قدمت فيها رسالتها الفنية بنجاح ‪ ،‬وإن كان يعاب عليها‬
‫أن كل أدوارها كانت صامتة إ ال ما ندر منها عندما تنطق بكلمة أو كلمتين ‪ ،‬غير أنها ألقت بمسئولية‬
‫الخرس فى كل أدوارها على عاتق المخرجين والمنتجين الذين حاصروها دائما فى أدوار تعتمد على‬
‫الحركة وسط المجاميع‪ ،‬ولكن سبحان مغير األحوال جاءت ثورة يناير المجيدة فاتحة خير عليها حين‬
‫توقف النشاط المسرحى تماما فى األسكندرية ‪ ،‬فلم تجد أمامها سوى األختيار الصعب وأعلنت قرارها‬
‫باألعتزال !‪..‬‬

‫أقتنص منصور مساحة صغيرة إلى جوارها وجلس محصورا قبل أن تنضم إليه نوسة وتلتصق به ‪.‬‬
‫أستدارت برأسها فى صعوبة مستفسرة ‪ :‬خير يامنصور يابنى جاى تاخد األيجار؟ سدد نظرة وعيد‬
‫باتجاه نوسة ‪ :‬أل ياست بدرية أنا جاى أفهم األمورة بتاعتنا كانت فين النهاردة على سنجة عشرة ‪.‬‬
‫بأستهانة ردت بدرية بعد تفكير لم يطل وهى تلعب له حاجبيها وتتنهد من أعماق بطنها ‪ :‬حتروح‬
‫فين ياحسرة كانت عند " منعم " الكوافير ‪ .‬تفحصها بركن عينه ‪ :‬وهيه برضه محتاجة كوافير‬
‫ياست بدرية !‪.‬‬

‫ــ أسمع يا بنى ‪ ..‬تخاف عليها على عينى وراسى ؟‪ ،‬تطمن عليها كتر خيرك ياحبيبى لكن راحت فين‬
‫وجيت منين ‪ ..‬أل " صورى" ماتأخذنيش أنا بس يا نور عينى اللى أسألها ‪ .‬زادت جلسته أنكماشا‬
‫وضيق فتحتى عينيه وصدرت عنه صيحة غضب ذاهلة ‪ :‬أزاى بس الكالم ده ياست بدرية ما أنتى‬
‫راسية على اللى فيها وفاهمة كويس أن نوسة بتاعتى ‪ .‬حشدت أذانها ‪ .‬تسمعه ‪ .‬وقد أرتفع حاجب‬
‫وأنخفض األخر بينما تمر بأصبعها على أحداهما ‪ :‬بتاعتك أزاى ياروح الست بدرية ؟ ‪.‬‬

‫ــ يعنى حتبقى مراتى على سنة اللـه ورسوله ‪ .‬النت نبرتها ‪ :‬أحنا سمعنا الكالم ده كتير يا منصور‬
‫وبصراحة بقى أنا عايزة أشوف بعينى ‪.‬‬

‫ــ إن شاء اللـه بكره حتسمعى كل خير ‪.‬‬

‫ــ أشمعنى بكرة ياعنيه ‪.‬‬

‫ــ بكرة الزيارة بتاعة أمى وأنا نويت أفتح معاها الموضوع وإن شاء اللـه الخير كله حيبقى بكرة ‪..‬‬
‫مصمصت شفتيها ‪ :‬ع العموم بكرة مش بعيد ‪ ..‬تشرب قهوة ؟ يفرك يديه مبتسما ‪ :‬أل أشرب شاى ‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫محاوالت متكررة منها للملمة لحمها قبل أن تنجح فى النهوض ‪ ،‬تجر قدميها جرا ‪ ،‬بينما كان ظهرها‬
‫يختفى من الصالة بأتجاه المطبخ أرخت نوسة جسدها بنعومة حتى مأل منصور عينيه من ساقيها‬
‫المنحدرتين بأستقامة وجلدها الالمع المشدود يغريه ‪ ،‬بينما لم تغب عنها نظرته التى سقطت عند فتحة‬
‫العنق ‪ ،‬كذلك لم يغب عنه ذراعها البض المستدير بال ترهل ‪ .‬ولما أنفرجت فتحة الثوب ‪ ،‬لتحيط‬
‫بإطار داكن الحمرة ‪ ،‬فخذان بضان خلبا عقله ‪ ..‬ألتصق بها ثم مديدا جريئة تقفل فتحة الثوب ‪ ،‬المست‬
‫أصابعه الخشنة نعومة اللحم األبيض ‪ ،‬ففتحت فى لحظة شوق لألصابع الداخلة ‪ ،‬فبرقت عيناها وسرت‬
‫سخونة فى بدنها كله ‪ ..‬أمتدت يده تداعب شعرها وعنقها ‪ ،‬فأحس بها تلتصق به وكأنها أرادت أن‬
‫تطمئنه على وجود غنيمته بجانبه ‪ .‬مالت على العنق العصبى فالعبت شعره ليكرر صوته المتهدج‬
‫بالشهوة والرغبة ‪ :‬بحبك أوى يا نوسة ‪ .‬قال جملته ثم مط شفتيه لعله يقبض بهما على شفتيها قبل أن‬
‫تبعدهما ‪ :‬أنا كمان بحبك يامنصور بس مش بأيدى حاجة ‪ ..‬أنت اللى مالكش غرض ‪.‬‬

‫ــ أنا يانوسة ؟!‪.‬‬

‫تضغط بضروسها على لبانتها ‪ :‬أيوه أنت يامنصور ‪ ..‬بقالك سنة بتقوللى حأكلم أمى فى موضوعنا‬
‫لما أروح أزورها ‪ ،‬وزيارة ورا زيارة وال منك كلمتها وال حتى بينت كرمات ‪ .‬هدأت الرغبة المحمومة‬
‫حين أدلى رأسه ‪ :‬ما أنتى عارفة أن أمى فى أيدها كل حاجة وهى صاحبة الحل والربط وعشان كده الزم‬
‫أتكتك براحة وأخد رضاها فى حجرى ‪ ..‬أمى لو باركت المشوار بتاعنا ده الدنيا كلها حتضحك لنا ‪.‬‬
‫أجتذبت كلماته رضاها وأصبح الجو دافئا وقبل أن تزيد سخونته سمعت نوسة الصوت المألوف لزحف‬
‫شبشب أمها على البالط ‪ ،‬وهو أعالن منها عن قرب ظهورها قبل أن تبلغ ركنهم فى الصالة كى‬
‫ال تفاجئهما ملتحمين فى عناق ‪ ..‬أقبلت بدرية بصينية الشاى تستكشف بنظراتها ما أسفرت عنه الجلسة‬
‫الخلوية قبل أن تلقى بنظرة فى عينى أبنتها التى فهمت القصد منها ‪ ،‬فتحولت بأتجاه الولهان ‪ :‬بكرة‬
‫ياما منصور حيروح يزور أمه الشر برة وبعيد فى السجن ووعدنى أنه حيفاتحها فى موضوعنا ‪.‬‬
‫وضعت الصينية على المنضدة الصغيرة كى تتمكن من وضع يديها حول وسطها بتأنيب ‪ :‬ده أخر كالم‬
‫يا منصور والزى كل مرة ! ‪.‬‬

‫ــ وعزة جالل اللـه بكرة حأكون مخلص الشغالنة دى كلها ومش حأرجع من عندها إال ومعايا موافقتها‬

‫ــ لما نشوف أخرتها ‪ .‬قالتها بتسليم وأرادت أن تكافأه ‪ .‬أردفت ‪ :‬طب باألذن يابنى ورايا حاجات فى‬
‫المطبخ حأعملها ‪ ..‬شعر منصور بأن طريقه أخضر فأراد أن يحتويها بين يديه ‪ ،‬بينما كانت نوسة يطيب‬
‫‪81‬‬
‫لها أن ترى شهوته تتدفق منه ‪ ،‬كانت تجعله يرتوى من مجرد المالمسة وكانت ترى رغبته فى النظر‬
‫إلى نهديها البيضاوان المكوران ‪ ،‬يرى أستدارتهما وهى تنحنى لتقديم الشاى قبل أن تضع يدها عليهما‬
‫وعاتبته بعينيها وأبتسمت ‪ ..‬بدت شفتاها ترتجفان بأبتسامة تتدبر فيها أقتراحا ما ‪ :‬أنا جتلى فكرة‬
‫يامنصور ‪ .‬سحب يدها من على صدرها ‪ :‬هو ده وقت أفكار يابت ‪.‬‬

‫ــ أهمد وأسمعنى ‪ ،‬أيه رأيك لو تكلم أبوك المعلم عبده وتتفق معاه ييجى عندنا هنا يفاتح أمى ونقرأ‬
‫الفاتحة وأنت براحتك بقى خد وقتك مع أمك وأبقى مهد لها فى أى زيارة وساعتها الحتمانع‬
‫والحترفض‪.‬‬

‫وقع كالمها كان باديا على مالمحه حين أرتبكت نظراته وأنكمشت جبهته ‪ .‬لم تسمع منه تعقيبا‬
‫فعاجلته ‪ :‬أيه رأيك فى الفكرة دى ؟!‪ ..‬خبط جبينه بكف يده ‪ :‬يانهارك أسود يانوسة ‪ ،‬بقى أنتى عايزة‬
‫أبويا ييجى عندكو البيت ويتفق مع أمك وكمان يقرأ معاها الفاتحة من غير موافقة أمى فى األول ‪.‬‬
‫صدى كفيه على فخديه كان معبرا ‪ :‬تصدقى وتؤمنى باللـه ‪.‬‬

‫ــ ال إله إال اللـه يامنصور ‪.‬‬

‫ــ ده أبويا من كتر خوفه من أمى لما بيعدى من أدام صورتها اللى متعلقة فى البيت بيمشى على‬
‫طراطيف صوابعه ‪ .‬عند ذاك تطلق ضحكة مجلجلة أفقدتها توازنها فمالت على كتفه بطراوة ثديها‬
‫فيتوتر جسده للحظة ويكف عن الحديث ‪ ،‬فيجرع كوب الشاى دفعة واحدة قبل أن يشعل سيجارة يدخنها‬
‫لعلى أنفاسها تخفف توتره ‪ ،‬بينما ترمقه بنظرة ماكرة من طرف عينها وهو يمسح قطرات الشاى من‬
‫حول فمه بظهر يده وهى تتدلل وتراوغ ‪ .‬كانت كالقطة التى تلعب بالفأر قبل أن تجهز عليه ‪ ،‬وتأكله ‪.‬‬
‫أزاحت يده بحركة حاولت أن تجعلها ال تشى بأمتعاضها ‪ ..‬أبعدت شفتيه عندما أقتربت من خدها أنفاسه‬
‫الساخنة ‪ ،‬ظلت فى كل لحظة تتصدى لمحاوالته وتحبطها قبل أن تهمس وهى تدفعه فى صدره‬
‫بميوعة ‪ :‬كفاية كده يامنصور وقوم روح شغلك قبل أمى ماتاخد بالها ‪ .‬لمست منه أستجابة قبل أن‬
‫يقبض بكفيه على خديها تاركا قبلة على شفتيها كان لها تأثير مؤلم على فكيها ‪ ،‬نهض بعدها واقفا ‪:‬‬
‫أدينى ماشى ياقشطة ‪ .‬تقدمت أمامه ‪ ،‬فتحت باب الشقة ‪ ،‬أراد النزول سريعا قبل أن تظهر أمها وتلقنه‬
‫كلمة أو جملة حول زيارة الغد ألمه ‪ ..‬بينما أدركته نوسة وهو يهبط الدرجات على عجل ‪ :‬أسمع‬
‫يامنصور ‪ .‬توقف وهو يرنو الى أعلى ‪ :‬حترجع بكره أمتى من الزيارة ؟‬

‫‪82‬‬
‫ــ يعنى بعد العصر كده ‪ .‬همست ‪ :‬أول ما ترجع أبقى كلمنى على طول ‪ ،‬عايـــزة أسمع أخبار حلوة ‪..‬‬

‫صعد درجة وهو يفتح فمه ‪ :‬دى أول حاجة حأعملها بس أدعيلى يانوسة ‪ ..‬ضحكت ‪ :‬حأدعيلك ‪ ..‬هبط‬
‫يكمل الدرجات ‪.‬‬

‫‪0000000000000‬‬

‫مازال عبده ماثال أمام األستاذ " محمود المحامى " الذى تصدر مكتبه بمالمح صارمة واثقة زادت من‬
‫فجاجتها بدلة فيرانى وكرافتة سوداء مع نبرة صوت لها رنة وكأنه مقدم برامج فى حين أسترخى عبده‬
‫بجلبابه الفضفاض وقد بدرت منه صيحة دهشة عفوية ال تخلو من هامش كوميدى ‪ :‬خير ياأستاذ‬
‫محمود جايبنى على مال وشى كده ع الحامى عامل زى الدكر اللى مزنوق فى نتاية !!‪ ..‬رجع بجسده‬
‫مستندا إلى ظهر كرسيه ‪ :‬يعنى هو أنت ياسى عبده لما الواوا تنأح عليك ويكون لك مزاج فى جوازة‬
‫تيجى وتبقى عامل زى فرقع لوز لغاية العقد مايتكتب وبعد الواوا ماتخف تخلع وتسيب لنا وجع‬
‫الدماغ !‪ ..‬تداخلت رأسه بين كتفيه ‪ :‬يعنى أيه يامتر الكالم ده ؟ ‪.‬‬

‫ــ يعنى لم الدور ياعبده ‪ ..‬أحتد فجأة ‪ .‬لعله لم يفهم مقصده من تعبيره ‪ :‬يعنى أيه الم الدور ؟ ‪.‬‬

‫ــ يعنى خلص البت كريمة وأديها القرشين بتوعها وخليها تروح لحال سبيلها ‪ .‬قالها بصيغة قرار‪..‬أراد‬
‫أن يقاطعه ‪ :‬مأهو أنا عايز أقولك ‪ ..‬لكنه صفع سطح المكتب بيديه مقاطعا ‪ :‬ال تقولى وال تعيدلى أنت‬
‫تخلص الحكاية دى وبس وأبعتلى فلوس كريمة اللى مكتوبة فى العقد ‪.‬‬

‫ــ طب ماتأخد وتدى فى حكاية المبلغ ده ‪.‬‬

‫بنبرة من فاض به ‪ :‬خلص نفسك ياعبده أحسن لك ‪ ..‬الوله " جمال النونو " صبى فايزة لو شم خبر‬
‫عن الحكاية دى حيبلغ المعلمة وساعتها أنت حر منك لها بقى ! أرتبكت الكلمات على لسانه ‪ :‬أل لحد‬
‫كده ويبقى الزم ألم الدور وأخلص نفسى ‪.‬‬

‫غير أن عبده فوجىء به يقهقه بوتيرة عالية متواصلة ويكاد ينقلب على ضهره ويضرب كفيه ‪ ،‬سرعان‬
‫ما شاركه عبده الضحكات فلم يكن يتصور أن األستاذ محمود أنسان قابل للضحك مثله ‪ .‬لم يمهله‬

‫‪83‬‬
‫األستغراق فى دهشته بل قذف عليه بسؤاله كمن يقذف بحجر ‪ :‬أخبار دفاتر الحسابات بتاعة القهوة‬
‫أيه ؟ بدا كمن سحب لصدره نفسا ‪ :‬أن شاء اللـه حأجهزهم وأبعتهملك متستفين ‪.‬‬

‫أختصر الموقف ‪ :‬أدامك أسبوع ياعبده وتكون الدفاتر هنا على مكتبى ‪ .‬شابت صوته نغمة خيبة ‪:‬‬
‫ماينفعش أسبوع ‪ ..‬فى أمور الزم تتظبط وفى حاجات لسه حتتشال وحاجات حتتحط ‪.‬‬

‫ــ ماشى حأسيبلك فرصة أسبوعين تظبط فيهم نفسك وأنت سيد العارفين أنا الزم كل شهر أقفل حسابات‬
‫فايزة من شيكات وأيصاالت أمانة‪ ..‬ده حتى الوله النونو سلمنى أيراد التاكسى بتاع الشهر اللى فات‬
‫وبيجهزلى أيراد الشهر ده ومش فاضل غيرك ياعبده ‪ .‬مسح شاربه قبل أن يحفزه الفضول ‪ :‬طب لو‬
‫فرضنا أنى ماقدرتش أجهز الدفاتر فى األسبوعين دول ‪ ،‬أيه اللى حيحصل يعنى ؟ بتكشيرة صرخ فيه ‪:‬‬
‫ساعتها ياحلو حأخلص ذمتى وحأقدم طلب زيارة لفايزة وحأقولها جوزك عبده الجن اللى بيدير القهوة‬
‫مش عايزنى أراجع الحسابات وال عايز يسلمنى األيراد ‪ ،‬أراد عبده أن يعترض ‪ ،‬ولكنه تفكر فى األمر ‪،‬‬
‫فأحجم ‪ ،‬هو ال يريد أن يقحم نفسه فى أية مشكلة مع فايزة ‪ ،‬كما أنه يعرف عقم مثل هذه المناقشات مع‬
‫األ ستاذ محمود ‪ ..‬أومأ برأسه مسلما ‪ .‬أمتثل صاغرا ‪ .‬ثم قال مخاطبا ‪ :‬ماشى كالمك يامتر ‪ ..‬أمرى للـه‬
‫أسبوعين وحتكون الدفاتر بين أيديك ‪ ..‬أرتخت مالمحه ‪ :‬يعجبنى فيك عقلك الكبير ‪ ..‬الدفاتر تكون‬
‫عندى هنا كمان أسبوعين وبكرة بالكتير تكون فلوس كريمة جاهزة ‪ ..‬ماشى ياعبده ‪ .‬شعر األخير‬
‫بصدره ممتلىء بشيىء ثقيل كاألسمنت سريع الجفاف ‪ ،‬بينما أنشغل فى حوار داخلى سريع بينه وبين‬
‫نفسه ‪ ،‬راح يفاضل بين أحتماالت األسوأ واألكثر سوءا ‪ .‬غير أنه أعد نفسه على كره منه لتنفيذ‬
‫تعليمات المتر ‪ ..‬هز رأسه مهموما قبل أن يلملم جلبابه وقام من جلسته أسود الوجه كالغراب ‪.‬‬

‫‪000000000000‬‬

‫جموع من البشر تمضى وأخرى تأتى ‪ ،‬تتحرك بمسارات متعرجة ومرتجلة وايقاع يصعد بالحركة إلى‬
‫غاية ال تخطئها األفواج الماضية واآلتية ‪ .‬مكان الحدث عند البوابة العمومية لمبنى السجن ‪ .‬تلك هى‬
‫مشاهد الحركة التى تدور أحداثها فى بالتوه الساحة الخارجية الممتدة أمام البوابة ‪.‬‬

‫يوم حافل باألرتباك ‪ ،‬محفوف بالعشوائية ‪ .‬المشاعر األنسانية بشتى درجاتها هى القاسم المشترك لكل‬
‫الموجودين ‪ .‬أنه يوم الزيارة ‪..‬‬

‫‪84‬‬
‫المشهد من الداخل مختلف بأختالف الشخوص ‪ .‬بعضهم تنفس الصعداء فور مروره إلى الداخل مثقل‬
‫بحمله من حقائب وأكياس وأطفال قبل أن يعبث أمن السجن بأصابعه فى كل شيىء ‪ ،‬فهم يدققون‬
‫ويفحصون ويفتشون أحمالك وجيوبك وبين ثنايا مالبسك وداخل تفاصيل جسدك ‪ .‬وأخرون عقب‬
‫خروجهم من البوابة رأوا فى تلك الخاتمة خالصا ! ‪.‬‬

‫يوسف وبسمة كأنا من ضمن فوج تقرر دخوله حين سمعا مناديا فى هيئة " صول" يتلو أسماء‬
‫السجينات المتاحة لهن الزيارة وجرى على لسانه أسم أمهما ‪ ،‬شعر يوسف حينها ببلوغ غاية أستحالت‬
‫إلى أمنية طارئة أو مصيرية ‪.‬‬

‫تحرك الفوج فى بطء بارد وكان فى القلب منه بسمة وأخيها ‪ ،‬يرتطم جسديهما بجموع المتلكئين الذين‬
‫يتركون أجسادهم يدفعها لهم اآلخرين ‪ .‬توقف الزحف عند ساحة أستقبال واسعة مستطيلة تشرف على‬
‫مبنى العنابر وقد تناثرت طاوالت بطول المكان وعرضه ‪ ،‬المشهد بدا فوضويا ‪ ،‬تصل إلى األسماع من‬
‫كل ركن ثرثرة الواقفين والجالسين ‪ .‬كل تطحنه همومه ‪ .‬الحوارات تدور أشبه بالصراخ ‪ ،‬كلها جمل‬
‫مشتقة من قاموس الفقر والمرارة مصحوبة بشرح واف عن أزمات عاتية تتردد على ألسنة الزوار يزيد‬
‫من مأساتها عيونهم الباكية ‪ ،‬بدءا من أزمة الغالء والعيشة واللى عايشنها وحالة السواد والكآبة التى‬
‫تمكنت من البالد والعباد ‪ ،‬نهاية بتفاصيل التعب واألرهاق والتكلفة عند كل زيارة ‪ ،‬غير أن األمر‬
‫ال يخلو من أنحرافة سريعة على حال البلد تحت حكم األخوان ‪ ،‬فدفعت البعض إلى القول بأن حال‬
‫الموجودين داخل السجن أفضل كتيرا ممن هم خارجه ‪ ،‬بينما تحفظ البعض وأوضح أن الحال قريب‬
‫الشبه وليس بأفضل ‪.‬‬

‫رغم سنوات السجن الطويلة مازالت " هدى" تحمل فرحا وخوفا غامضا عند لقائها بأوالدها فى كل‬
‫زيارة ‪ .‬هلع يظهر ويسيطر ويختفى ‪ .‬تسمرت فى مكانها عند عتبة المبنى المشرف على مكان األستقبال‬
‫وسط صف طويل من السجينات ‪ ..‬مشهد يترك لديك أنطباعا ‪ ،‬بأن عددا ال يستهان به من المصريين‬
‫يتابع حياته من داخل السجون ‪ .‬تهلل وجهها حين لمحت يوسف وبسمة ‪ .‬طوقت جبهتها بكفها فوق‬
‫عينيها وكأنها تحجب عنهما لفح رؤية مفزعة حين لم تجد بينهما نورا ‪ .‬لم تجد جوابا سوى دهشتها‬
‫التى أعتادت أن تعلنها داخلها فى كل زيارة أختفى فيها وجه أبنتها ‪ .‬ولما أستجمعت شتاتها ‪ ،‬تحركت‬
‫نحوهما مسرعة تنادى بلهفة ‪ :‬يوسف ‪ ..‬بسمة ‪ ..‬كانا وحيدان ‪ ،‬منزويان فى ركن قصى داكن ‪ ،‬كأنهما‬
‫تعمدا أن يتواريا عن األنظار ‪.‬‬
‫‪85‬‬
‫سمعا النداء ‪ .‬قطبت بسمة جيبنها لتتبين ‪ .‬أتخذ األمر منهما ثوان ليتأكدا قبل أن يرفع يوسف يده‬
‫ملوحا ‪ ،‬تقدما فى هرولة يدفعهما الحماس ‪ ،‬ليمرا بين أنواع البشر المختلفة ما بين قائم وقاعد ونائم‬
‫وثائر ‪ .‬كانت بسمة هى األسرع بأتجاه أمها ومن خلفها أخوها يحاور بجسده رجلين وسيدة مروا فجأة‬
‫من أمامه بخطوات باردة ثقيلة حتى أفلت منهم ‪ ،‬وعند نقطة التالقى ‪ ،‬كانت هدى األكثر أندفاعا كقطار‬
‫خرج عن قضبانه ‪ ،‬بينما تحول صدر بسمة لصدادة أحتوت كل األرتطام العاطفى المجنون التى بدت‬
‫قوته متعادلة بينهما ‪ ،‬بين لهفة جامحة وشوق تزيد حدته عند كل لقاء ‪ ،‬عناق ساخن مبلل بالدموع ‪.‬‬
‫فى حين أستقر يوسف فى مكانه قبل أن تصيبه رعشة سرت فى بدنه كله ‪ ،‬أصابت عينيه وشفتيه ‪ .‬لم‬
‫يتحرك من مكانه ‪ ،‬فجرته أمه وعانقته وشرعت تدور به وتضمه إليها وهو أطول منها ولكنه خاضع‬
‫مطيع ‪ ..‬لحظة درامية يذوب فيها الفرح فى الحزن ‪ ..‬كان هناك عتاب صامت بدا واضحا فى عينيها‬
‫وهى تسير بينهما تتأبط ذراعيهما حتى أجلستهما على يسارها ويمينها حول منضدة دائرية خصصتها‬
‫إدارة السجن ألستضافة أسر السجينات التى التتجاوز عدد أفرادها ثالث ‪ .‬تتناقل بنظراتها تتأمل‬
‫مالمحهما تبحث عن فارق أستجد فيهما عن الزيارة السابقة ‪ .‬لم تمهلها بسمة متابعة الفحص حين‬
‫نهضت نصف نهوض ومالت نحوها تقبلها ‪ :‬وحشتينى أوى أوى ياماما ‪ ..‬تدور عينيها فى خريطة‬
‫وجهها ‪ :‬أنت أكتر ياحبيبتى ‪ ،‬كلكم وحشتونى ‪.‬‬

‫بينما مازال يوسف معلقا ذراعه بذراعها وأدلى برأسه نحو ظهر يدها المدلى على مرفقه ‪ ،‬قبله فى‬
‫خشوع ‪ :‬ربنا يخليكى لنا يا أمى وما يحرمناش منك أبدا ‪.‬‬

‫ــ وال يحرمنى أبدا منكم ياحبايبى ربنا وحده اللى أعلم زيارتكم بتعمل جوايه أيه دى هيه اللى بتصبرنى‬
‫وبتخلينى أتحمل عيشة السجن ‪ .‬لم تجد بسمة سوى كلمات عفوية منفعلة وغير مرتبة ‪ :‬واللـه ياماما‬
‫أحنا بعد كل زيارة بنفضل نعيد ونزيد فى كالمك اللى بنسمعه ومافيش ساعة بتعدى علينا إال وبتكونى‬
‫حاضرة معانا ‪ ..‬أنتى غالية أوى عندنا يا ماما ‪.‬‬

‫ــ ربنا يهونها يابنتى ونرجع نتجمع تانى زى زمان ‪ .‬تنهيدة طويلة يشوبها اليأس ‪ .‬أردفت ‪ :‬هو ده‬
‫األمل اللى أنا عايشة عليه وبيصبرنى ع األيام السودة الطويلة ‪ .‬لم تعرقل كلماتها سوى حشرجة ألمت‬
‫بصوتها قبل أن تباغتها نوبة بكاء سريعة تعمدت بعدها أن تكون متماسكة ‪ .‬لملمت شهقاتها ‪ :‬لما بأفتكر‬
‫أول يوم لى فى السجن ولما الزنزانة أتقفلت على كنت متأكده أنى مش حكمل يوم واحد وحموت لكن‬

‫‪86‬‬
‫الحمد للـه ربنا وقف معايا وقوانى وخالنى أتحمل أسوة الزنزانة واأليام البطيئة اللى ما بتعديش ‪..‬‬
‫بارقة أمل عثرت عليها بسمة وصدرتها فى جملة مفيدة ‪ :‬هانت ياماما فات الكتير ‪.‬‬

‫ـ أحنا كلنا حاسين بيكى وعارفين أد أيه أنتى متحملة وصابرة بس على رأى بسمة خالص هانت ‪ .‬كان‬
‫ذلك رأى يوسف بينما أدلت بسمة برأسها داخل الحقيبة يسبقها شعرها مغطيا وجهها قبل أن تردعه إلى‬
‫الخلف رافعة عينيها ‪ :‬شوفى ياست ماما أحنا جبنالك أيه ؟ فأطلت األخيرة برأسها معها على محتويات‬
‫الحقيبة التى تصدرها كيس دجاج كنتاكى من الحجم العائلى وتوارى تحته علب تونة وعصائر ومعجون‬
‫أسنان وفرشاة وفى القاع فوط صحية يجاورها كيس كبير ‪ .‬لم يجد يوسف فى عينى أمه فضوال‬
‫وال أستفسارا عن الكيس الذى يحوى غيارات داخلية وشرابات صوف وشبشب ماركة " ‪ "Nik‬بقدر‬
‫مالمح حيرة مبهمة تغزو عينيها ال تبارحها رغم ما تقوم به من جهد لطرد تلك الصورة المطبوعة فى‬
‫مالمحها ‪ ،‬ثم تنظر إليهما نظرة غريبة فيها أستفهام وقلة حيلة ‪ :‬هى نورا برضه مش عايزة تيجى‬
‫تزورنى ؟! كان أول سؤال تبادرهما به ‪ .‬تلفت حوله وطاله األرتباك بينما يبحث عن كلمات مقنعة ‪:‬‬
‫بصراحة ياماما نورا ما قدرتش تيجى معانا ‪ ..‬اليومين دول بالذات عندها شغل كتير أوى لدرجة أننا‬
‫مابنشفهاش غير بالليل ع النوم ‪ .‬تدعمه بأجابات سريعة كما تم األتفاق مسبقا ‪ .‬قالت بسمة ‪ :‬مدام‬
‫زيزيت بتحضر لعرض أزياء كبير والوقت ضيق أوى عشان العرض أدامه شهر وبصراحة ياماما كان‬
‫اللـه فى عونهم ‪.‬‬

‫ــ ده األكتر من كده نورا بتتغدى وتتعشى فى األتيليه ‪ .‬رمى يوسف إليها بهذا الخبر المحير الباهت‬
‫وعاد إلى صمته قبل أن يرجع بظهره إلى مسند كرسيه يتأمل زوارا بدأوا يتخذون أماكنهم أستعدادا‬
‫للقاء ‪.‬‬

‫لم ت تفوه هدى بكلمة ولكن دموعها تولت األجابة ‪ ..‬هذه المرة بتدقيق وحس أكبر قرأت بسمة فى داخل‬
‫أمها حزنا وأحباطا وتسليما ‪ .‬لم تلمح أمال ‪ .‬أوجعها المنظر ‪ :‬واضح أنك مش مصدقانا ‪ .‬رسمت هدى‬
‫بتقاطيع وجهها عالمة أستغراب ممزوجة بقلق ‪ :‬يعنى زيزيت بتحضر لعرض أزياء وأختكم قاعدة ليل‬
‫ونهار فى األتيليه‪ ..‬هى دى أخرتها يايوسف ‪ .‬تلفتت بأتجاه بسمة ‪ :‬مش قادرة تفهميها أن أمها أغلى‬
‫من مليون أتيليه ومليون عرض أزياء ‪ .‬كست عينيها الدموع ‪ :‬مش قادر يايوسف تقول لها أن أمك‬
‫بقالها ست شهور ماشافتكيش وال سمعت صوتك ‪ .‬ثم التلبث أن تدعك أنفها وعينيها بمنديلها وتستأنف‬
‫حديثها ‪ ،‬كأنما تحدث نفسها ‪ :‬أنا مش مصدقة نفسى نورا اللى كنت بأعتبرها صاحبتى وأختى وكل‬
‫‪87‬‬
‫حاجة لى فى الدنيا معقولة تنسانى كده بالبساطة دى ؟ تتصارع أسئلة مخيفة ضربت رأسها كشظايا‬
‫منفجرة جعلت أفكارها غير خاضعة ألى منطق ‪ ..‬تنمو الكآبة فى داخلها قبل أن تتطوع دماغها‬
‫لمساعدتها ‪ ،‬سرحت تستحضر لها أوقاتا سعيدة قضتها مع نورا ‪ ،‬هكذا هى ‪ ،‬يسعفها ذهنها مما يقيها‬
‫من أزمات نفسية ‪ ..‬غابت تستعرض أيام ولت حين كانت أبنتها فى مدرسة " ماريا أوزيليا " وكانت‬
‫ترافقها دائما فى حفالت المدرسة الموسيقية بمناسبة عيد األم وعند أنتهاء العام الدراسى ‪ ..‬هى نفسها‬
‫التى رافقت الكون عند والدتها ‪ .‬كن يتالشين كل منهما فى اآلخر إلى أن صارتا كتلة واحدة ‪..‬‬
‫أستحضرت رائحة عطرها التى كانت تحبه ممزوجا بروائح تلك اللحظة وهما محاصرتان بزخة مطر لم‬
‫تفو فروع وأغصان أشجار شارع " شامبليون " على حمايتهما منها ‪ ،‬وأرتمت نورا فى حضنها هاربة‬
‫من البرق والرعد معلنة ‪ :‬لما بأكون فى حضنك ياماما مش بخاف من أى حاجة فى الدنيا وال حتى من‬
‫الحاجات اللى بتنور فى السما ‪ ..‬بدأت هدى تضيق بذاكرتها ‪ ،‬فكم تمنت لو أصابتها غيبوبة حتى ترحل‬
‫عن الواقع وال تتذكر شيئا ‪ ..‬حاوال تبادل الكلمات معها لتهدأة قلقها ومخاوفها ‪ ،‬غير أنها عادت إليهما‬
‫بفضول برىء ‪ :‬قوليلى يابسمة وأنتى ياباشمهندس أنا فى حاجة قولتها غلط زعلت نورا وال يمكن قلت‬
‫كلمة ضايقتها و جرحتها وأنا مش واخدة بالى ‪ ،‬يمكن أكون طلبت منها حاجة وكانت فوق طاقتها‬
‫ومكسوفة منى ‪ .‬تدعك بأصابعها جبهتها ‪ .‬تعتصر ذاكرتها ‪ :‬مع أنى عمرى ماطلبت منها حاجة وال حتى‬
‫من أى حد وكمان مستحيل أكون زعلتها ‪ ..‬أزعلها أزاى وأنا بأعد الساعات والدقايق عشان أشوفكم ‪..‬‬
‫تخطى منسوب الشك أفق العقل إلى الحد الذى يفضى بأنفجار فى أى لحظة ‪ :‬يمكن يكون حد طلب منها‬
‫ماتجيش تزورنى ؟!‪ ..‬ينصت يوسف لها بألم إال أنه ال يريد أن يتدخل أو أن يقطع عليها تسلسل سرد ال‬
‫يزال فى بداياته ‪ .‬لكنه أمام تعبيرها الفاجع الذى خلف على وجهها حسرة ‪ .‬أضطر إلى التدخل ‪ :‬أيه‬
‫الكالم اللى بتقوليه ده ياماما ‪ ..‬واللـه ما فى حاجة خالص من اللى بيدور فى دماغك ده ‪ .‬سألها قبل أن‬
‫تبادره بمالحظة أو سؤال ‪ :‬وأنتى ممكن تصدقى أن نورا تقدر تتأخر عن زيارتك إال إذا كان فى سبب‬
‫جامد أوى وغصب عنها وأنا فهمتك ياأمى أن شغلها فى األتيليه بقى ليل ونهاروالدقيقة عندهم بقت‬
‫بتفرق ‪.‬‬

‫بدت تفاصيل المشهد تتجمع وتكتمل ‪ ،‬تسحبها الدقائق والثوانى إلى تشكيل درامى يصعد بها شيئا فشيئا‬
‫حتى الذ روة ‪ .‬قالت وقد ظهرت عليها عصبية خفيفة ‪ :‬أكيد مش ده السبب ياباشمهندس وال السبب‬
‫زيزيت وال أتيليه وال عرض أزياء وال غيره ‪ ..‬الحكاية ببساطة أن أختكم الفلوس جرت فى أيديها‬
‫وغيرتها وحست أن بقى لها وضع وبرستيج وبقت معروفة ومهمة ‪ ..‬سكتت للحظات حين سحبت نفسا‬
‫‪88‬‬
‫طويال حاولت أن تحبسه قبل أن ينفلت منها خارجا مع أستنتاج توصلت إليه ‪ :‬نورا بقت بتستعر منى‬
‫وشايفة أن وضعها الجديد مايسمحش لها بزيارة أمها المسجونة ‪ ..‬أعلنت األتهام و تفحصتهما ثم‬
‫أستأنفت ‪ :‬حد فيكم شايف أن كالمى غلط ؟ كما كانت طريقتها فى نطق السؤال صاعقة وموحية وتحمل‬
‫فى طياتها العديد من األسئلة التى تبحث عن أجوبة ‪ .‬هوت كلماتها كالمطرقة على رأسيهما وعصفت‬
‫بهما دوامات وتعطل عقلهما عن التفكير وأصابهما وجوم اليعرفا معه ماذا يقوالن ‪ ..‬أهتزت بسمة‬
‫ثانية ‪ ،‬أو ماتبقى منها ‪ ،‬فألتفتت نحو أمها ثم إلى الجالسين متناثرين حولها ‪ ،‬فأحست بدفء فى قلبها ‪،‬‬
‫ألن العيون ‪ ،‬كل العيون فيها دموع مثل دموعها ‪ .‬أرخت جفنيها أمام نظرات أمها المشحونة ‪ .‬لم‬
‫يستأنفا كالمهما ‪ ،‬لم يكن أحدهما قادرا على المواجهة ‪ ،‬حتى كلمات العزاء ‪ ،‬أحسا أنها فقدت المعنى ‪..‬‬
‫بقيا صامتين يرقبانها وهى تجتهد للتماسك ‪ ،‬ربما ليس طلبا لسماع مبررات وحجج واهية بقدر سعيها‬
‫ألرضائهما وتلبية رغبتهما الملحة فى أن تعود لطبيعتها ‪.‬‬

‫جلست مطرقة حتى ناوشتها بسمة باليد والكلمة لتخرجها عن صمتها ‪ :‬يعنى أحنا بقالنا شهرين من أخر‬
‫زيارة محرومين من كالمك الحلو ومن ضحكتك العسل اللى الزم ليالتى أفتكرها قبل ما أنام ‪ ..‬يرضيك‬
‫يعنى ياجميل تبقى الزيارة كلها حزن ودموع !! تتظاهر بأستقرار خارجى زائف ‪ ،‬تخفى ما تشعر به من‬
‫ظنون وهواجس وعدم قدرة على ربط المبررات فى سياق واحد ‪ .‬أيقنت تغير العالم حولها ‪ ،‬كما تغير‬
‫أدراكها له ‪ ،‬لم تشأ أن تغرق فى تفسير أو توصيف الحالة وقررت الخروج من كآبتها المركبة‬
‫وأنخفضت بنبرات صوتها الى ايقاع منحدر هادىء وكمن يدلو بشيىء محظور ‪ :‬خالص ياوالد مافيش‬
‫دموع والحزن وربنا وحده اللى يعلم أد أيه بأستنى زيارتكم بفارغ الصبر والدنيا بحلها مش بتكفى‬
‫فرحتى لما بأشوفكم قدام عينى وأالقيكم كبرتو ‪ ..‬ساعات كتيرة بأبقى مش مصدقة نفسى أن‬
‫ربنا عوضنى وبقى عندى راجل زى يوسف و عروستين زى القمر ‪ ..‬ألف شكر ليك يارب ‪ .‬أخيرا‬
‫سقط ذلك السور الزمنى وأختفى ‪ ،‬ضحكوا مثلما كانوا يضحكون فى سهراتهم الصيفية على كورنيش‬
‫األسكندرية ‪ ،‬لكن هذه المرة تنقصهم نورا ‪ .‬أجاب يوسف عن سؤال حسبته قد ضاع فى زحمة‬
‫أحاديتهم ‪ :‬بصراحة ياماما هدير بالنسبة لى مثالية فى كل حاجة و بتحبنى وفهمانى ومؤدبة ومن عيلة‬
‫كبيرة واألهم من كده أنها دايما بتفكرنى بيكى ‪ ..‬نفس شخصيتك القوية مع أنها بنت وحيدة بس مش‬
‫دلوعة وتفكيرها أكبر من سنها ‪ .‬سندت مرفقيها على المنضدة ‪ :‬نطمن األول على تخرجك يايوسف‬
‫وتبقى مهندس أد الدنيا وبعدها يبقى كل شيىء سهل ‪ .‬قابلها بأبتسامة عريضة صامتة دون تعقيب ‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫فى نفس اللحظة وفى ذات المكان أستعد فوج أخر من السجينات ألستقبال ذويهن ‪ ،‬بينما وقف‬
‫" عبده الجن" ملتصقا بكتف أبنه " منصور" يحملق بعينيه ويتطاول بعنقه ‪ ،‬لعله يلمح فايزة ‪ .‬بدا‬
‫وجهه عبوسا كئيبا ‪ ،‬بعينيه أحمرار وأنتفاخ مكشوفان ‪ ،‬وبسحنته ذبول وشحوب كأنه لم يذق طعم النوم‬
‫من عدة ليال ‪ .‬فى حين تصلبت فايزة فى مكانها مكتوفة األيدى تراقب الوجوه كأنها مخبر فى كمين ‪.‬‬
‫لمحتهما ‪ .‬أشارت إليهما بثبات ‪ ..‬تسمرت قدماه فى األرض حين لمحها ثم أذا به يتقدم نحوها يجر‬
‫رجليه بعدما أيقن أن مثل هذه اللحظة ال بد قادمة وال مفر من المواجهة ‪ ..‬شبح أبتسامة يراود شفتيه ‪،‬‬
‫تدريبا أعتاد عليه لتهيأة مالمحه ألستقبال زوجته بينما ضبطت األخيرة جلبابها األبيض حول جسدها‬
‫وعصبت رأسها بالطرحة البيضاء ومضت إليهما ‪ ..‬كلما أقتربت منهما خرج صوت عبده بدعائه المعتاد‬
‫فى كل زيارة ‪ :‬ياخفى األلطاف نجنا مما نخاف !! ذلك الكائن المغرور المتجبر تجعله تلك الزيارات دائما‬
‫فأرا مذعورا ‪ .‬ثوان قليلة وكانا ماثلين أمامها ‪ .‬أختطفت فايزة أبنها تضمه إلى صدرها بقوة ‪ ،‬فينقض‬
‫عليها يحتضنها ويخفى وجهه فى ثوبها بينما مدت يدها بأتجاه زوجها وسحبته من ياقة جلبابه فى جذبة‬
‫مفاجئة وغيبته فى دسامة صدرها تضغط على ظهره فى قوة وصرامة قبل أن تباغته بنبرة غامضة‬
‫مريبة ‪ :‬واللـه زمان ياعبده ياجن !! طالعها بأبتسامة ذليلة وكلمات ترحاب مبالغا فيها أن تسترمذلة‬
‫الشعور بالخوف مما تنطوى عليه الجلسة من تساؤالت وأستفسارات قد تفاجئه بها ‪ :‬بسم اللـه ماشاء‬
‫اللـه وال حول وال قوة إال باللـه ‪ ،‬تصدقى وتؤمنى باللـه يافايزة ‪ ..‬بترقب قبل أن تشبك يديها على‬
‫بطنها ‪ :‬ال إله إال اللـه ‪.‬‬

‫ــ لو أنا مش شايف بعينى أنك هنا قدامى فى السجن أنا كنت قلت أنك لسه طالعة من حمام بخار بلدى‬
‫من بتوع زمان اللى بيخلى النسوان تلعلط وتنور‪..‬الصراحه أنتى كل مابتقعدى فى السجن بتزيدى حالوة‬
‫وجمال ‪ ..‬أل وكمان بتصغرى ‪ ..‬أيو واللـه !! ملتفتا ألبنه يطلب تأييده ‪ :‬صح يامنصور ؟!‪ ..‬أبتسامة‬
‫مرتبكة ‪ :‬صح يابا ‪ .‬سحبتهما خلفها إلى مكانها المخصص ‪ .‬جلست معتدلة ووضعت ساق فوق ساق‬
‫بعظمة تنظر بثبات تجاهه فى حين دعك عبده كفيه ولم يعد فى وجهه من المالمح غير أبتسامة مفتعلة‬
‫ثم أخذ نفسا عميقا بعد أن تأكد أنها تحدق فيه ‪ .‬أستسلم ساكنا لنظراتها بينما بطرف عينه يراقب‬
‫تفحصها له بقلق ‪ ..‬تصعد بعينيها نحو رأسه تدقق فى أركانها الكروية فى حين رف طرف شاربه األيمن‬
‫بحركة عصبية ‪ ،‬مبعث توتره وحرجه كان سؤالها المباشر ‪ :‬أنت صابغ شعرك ياعبده ياجن ؟!‪ ..‬جف‬
‫ريقه وبدا لسانه ممددا فى فمه كعود الحطب ‪ ،‬ظل يختار ما يمكن أن يقوله ‪ ،‬ثم وجد نفسه يتمتم‬
‫ببالهة ‪ :‬منه للـه حامد الحالق عملها معايا ‪ ..‬تضغط بفكيها ‪ :‬عملها معاك أزاى ياجن ؟!‪.‬‬
‫‪90‬‬
‫ــ قالى مادمت رايح تزور المعلمة يبقى الزم أظبطك عشان مايصحش تشوفك كده ‪ ..‬رفعت له حاجبا‪:‬‬
‫صح حامد عنده حق !! حاول الهائها حين حاصرها بثرثرة حول سكان الحارة وزباين المقهى وحال‬
‫الدنيا منهيا تقريره هامسا فى أذنيها بعاطفة مصطنعة عن ليال جنسية محروما منها ‪ ،‬يستفيض فى تلك‬
‫العبارات التى تستغرق منه وقتا طويال وتقتضى تحايال بارعا لعله يقتل زمن الزيارة ‪ ،‬بينما منصور يعقد‬
‫حاجبيه فى جمود وال يبسطهما أبدا حتى أقتربت منه وداعبته ولعنته ولعنت أبوه وأضحكته ثم قبلته فى‬
‫خده وناوشته ‪ ،‬دائما ما تجد مختارات عجيبة من األلفاظ ترسلها على الفطرة فى وقاحة عذبة وهى‬
‫تتحسس كتفيه ‪ :‬مالك ياوله كده عمال تطول وتعرض ‪ ،‬كلها كام شهر وتبقى زى البغل اللى جنبى اللى‬
‫عايم فى مية البطيخ ‪ .‬عبده تلدغه كلماتها وتحت شاربه الكثيف تنام بسمة ساخرة على شفته ‪ :‬ماتفك‬
‫سحنتك وأفرد وشك يا أبن البغل !‪ ..‬فأنشق جفناها عن النظرة القوية التى تجيد رشقها فجأة فى عينى‬
‫من تكلمه ‪ :‬ماتقولى يابنى مالك وش اللى جابك مقلوب ليه ‪ ..‬أبوك مضايقك ومزهقك فى عشتك ‪ ،‬ماهو‬
‫أنا عارفاه وحفظاه ده راجل أنانى مايحبش غير نفسه ماعندهوش ريحة الدم راجل ناقص تالقيه راميك‬
‫فى القهوة ليل ونهار وهو داير يتسرمح ‪ .‬أنكمش عبده ولم يعلق ‪ ،‬تركها تشتمه بمحصولها الوافر‬
‫العجيب من أقبح النعوت ‪ .‬غير أنه قال بعد أن هرش بسبابته رأسه وهو يضغط على الحروف ‪ :‬عاجبك‬
‫كده ياأبن الكلب آهى جابتها فى ‪ ،‬ماتقولها فى أيه وخلصنا ؟‪ ..‬أستعد منصور وتماسك ‪ ،‬إال أنه سرعان‬
‫ماأرتبك وتحدث حديثا غير متصل راح يقفز بعباراته من معنى لمعنى دون ترتيب ‪ ..‬أستشفت فايزة‬
‫بيقظتها أتجاه فكره ومداه فعالجته وهو يتململ فى جلسته الصعبة بأنذار حاسم ‪ :‬فى أيه ياوله مالك‬
‫عمال تلف وتدور زى الحية ماتقول عايز أيه ‪ .‬زاد أضطرا به وهمس مناجيا نفسه ‪ :‬أنا مش عارف‬
‫حأفاتحها أزاى فى حكايتى ؟! بدت منفعلة ‪ .‬أنه يثيرها ويفسد خطتها للتحمل والصبر ‪ ،‬لكنها‬
‫وماأقدرها‪ ..‬كانت قد أستردت سكينة نفسها وأسدلت على وجهها قناعا من هذه األقنعة التى تجدها عند‬
‫الحاجة لتغطية أسوأ المواقف ودفع أكبر النكبات ‪ :‬هو أنا يامنصور بتأخر عنك فى أى حاجة بتطلبها ‪،‬‬
‫ده أنت ياحبيبى أبن عمرى ونور عينى ‪ ..‬ده أنت الحيلة والحسنة الوحيدة اللى طلعت بيها من الجوازة‬
‫السودة دى ‪ ..‬يقدم كلمة ويؤخر مثلها حتى تشكلت على لسانه جملة مفيدة ‪ :‬بصراحة ياما أنا لى طلب‬
‫عندك وعايز موافقتك ‪ .‬أدركت بفراستها من النظرة والصوت أن أبنها يريد أن يقول شيئا ‪ ،‬فحاولت‬
‫معه أن يفك عقدة لسانه ‪ :‬طلب ‪ ..‬قول يامنصور عايز أيه ؟ ‪.‬‬

‫ــ عايز ياما أتلم وأشوف بنت الحالل اللى تخدمنى أنا وأبويا ‪ .‬عينيها توقفت ولمعتا لهفة وفضول‬
‫عند ذكر " بنت الحالل " مقاطعة بنبرة متسلية ‪ :‬آه هى الحكاية فيها بنت الحالل ‪ .‬ثم عاودت‬
‫‪91‬‬
‫األستماع إليه ‪ .‬يواصل كالمه ‪ :‬وقلت لنفسى آهى تبقى فرصة لما أمى تطلع تالقى واحدة مستنياها‬
‫تكون خدامتك وطوع أيدك ‪ .‬تعلقت به عينيها التى أتسعت دهشة وذهول من أن يأتى هذا الكالم‬
‫من أبنها " العيل بتاع أول أمبارح " ‪ :‬عايز تتجوز يامنصور ؟!‪ .‬هز رأسه دون أن ينطق أو يرفع‬
‫عينه ‪ .‬أردفت ‪ :‬وبنت الحالل دى اللى عجبتك وكلت دماغك مافهمتكش وال نورتك والقالتلك عيب ياأبن‬
‫الحالل تفاتح أمك فى موضوع زى ده وهى فى األسر مسجونة ‪ ..‬مش قادر تستنى لما أخرج ياأبن‬
‫المفضوحة ‪ ..‬أنت فاكرنى ياوله واخدة تأبيدة ‪.‬‬

‫ــ أبدا ياما أحنا قلنا نقرأ الفاتحة بس يعنى ربط كالم لغاية ماتخرجى بالسالمة ‪.‬‬

‫ــ أخس عليك ياقليل األصل ياناقص ياأبن الناقص ‪ ..‬هو أنت حتجيبه من بره طالع زى اللى جابك‬
‫أعمى البصر والبصيرة ‪ .‬غير أن عبده وقف حاجزا فى طريق عباراتها وتابع محاوال أمتصاص غضبها‬
‫ومحاصرة أى أنفعال قد تلقيه فى وجهه أو فى وجه أبنه ‪ .‬ردت بتوتر خف كثيرا بعدما نجح فى سحبها‬
‫الى الهدوء ‪ :‬ومين بنت الحالل دى اللى شقلبت كيانك وخلتك عديم األصول زى أبوك ‪ .‬قبل أن ينطق‬
‫لسانه لكزه أبوه فى ساقه وتولى الرد ‪ :‬مافيش حد فى دماغه ‪ ..‬كبرى دماغك يافايزة وما تشغليش بالك‬
‫ماأنتى فاهمة ياست الكل السن ده ‪ .‬أبدى عبقرية فى األصالح لم تعرفها عنه إال فى حاالت نادرة ‪ .‬أشعل‬
‫لها سيجارة ثم دفعها بين شفتيها ‪ .‬سحبت نفسا طويال وهى تنصت وقد أرهفت سمعها لكالم زوجها‬
‫حول بعض القضايا واألمور التى تخص المقهى وبيت أبن شكر وقد ركزت عينيها الواسعتين على‬
‫وجهه وغرزت أصبعيها فى خدها ودخان السيجارة يتصاعد من بينهما ‪.‬‬

‫بينما التزال هدى تحكى حكايات ال تنفذ عن نورا ثم تمد يدها بين لحظة وأخرى لتلملم أطراف طرحتها‬
‫البيضاء ‪ ..‬كانت هناك منطقة جافة خاوية فى كيانها رغم ما تبديه من فرح وجرأة وتحد ‪ ..‬حال أيات‬
‫أثلج صدرها وهى تتابع كلمات بسمة ‪ :‬حالها أتغير كتير عن األول ‪ ،‬دلوقتى بتقعد معانا وبتسمع‬
‫مناقشتنا وحكاياتنا وكمان بيبقى لها رأى ‪.‬‬

‫ــ كل حاجة أتغيرت فى الدنيا حتيجى على عمتى يعنى ‪.‬‬

‫ــ الحمد للـه يابنى أنها خرجت من أزمتها ‪ ..‬هى أتأخرت أوى بس آهو كل شيىء بأوان ‪.‬‬

‫فى تحفظ قال يوسف ‪ :‬هيه ماخرجتش أوى يعنى لكن أحنا كنا فين وبقينا فين ‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫ــ لسه بتخرج كل يوم خميس ؟ تولت بسمة األجابة ‪ :‬هيه دى الحاجة الوحيدة اللى فى جدول عمتى‬
‫ماتغيرتش ‪ ،‬يوم الخميس بعد المغرب تظبط نفسها وتخرج تتمشى على الكورنيش ‪ ،‬صيف شتا ده ميعاد‬
‫مقدس ‪.‬‬

‫ــ واللـه عمتكم دى زى النسمة دايما بتفكرنى بهوانم زمان فى كالمهم وحركاتهم بشوف فيها ليلى مراد‬
‫وراقية ابراهيم وليلى فوزى بس لألسف ياعينى ماقدرتش تتحمل أسوة الزمن وغش الناس ‪ ..‬ربنا‬
‫يكون فى عونها ‪ .‬تقاطيع من اليأس ظهرت سريعا على مالمح يوسف ‪ :‬ربنا يكون فى عونا كلنا ‪ ،‬البلد‬
‫كل يوم بتسوء عن اللى قبله ومرسى وجماعته عايشين فى ملكوت تانى والناس كلها فى سكة تانية‬
‫وماحدش عارف بكرة شايل أيه ‪.‬‬

‫ــ كالم يوسف صح ياماما والمصيبة الكبيرة دلوقتى أن الناس كلها بتتكلم وتفتى فى السياسة اللى فاهم‬
‫على اللى مش فاهم كله بيرغى والوحيدة فى مصر اللى مالهاش دعوة باللى بيحصل هى نعمة ‪ .‬فاجأها‬
‫األسم ‪ :‬بالحق نعمة عاملة أيه دلوقتى ؟ ‪.‬‬

‫ــ الروماتيزم مخليها يادوب بتمشى ‪.‬‬

‫ــ ماحدش وداها لدكتور ؟ ‪.‬‬

‫ــ أزاى بس ياماما ‪ ،‬ده أنا وعمتى كل شهر الزم نروح بيها للدكتور يتابعها ‪.‬‬

‫برقت عينيها بالدموع ‪ :‬خلو بالكم عليها ياوالد ‪ ،‬نعمة دى بتاعة الزمن الجميل واأليام الحلوة ‪ ..‬ست‬
‫أصيلة ‪ .‬ختمت جملتها بنبرة متحسرة ‪ :‬ياخسارة يازمن !!‪.‬‬

‫كانت ساعتين من أصل ثالث ساعات قد أنقضت من وقت الزيارة ‪ .‬بقى الحال على حاله ‪ ،‬عبده محشور‬
‫فى كرسيه ‪ ،‬محاصر ومحصور من كل الجهات ‪ .‬تفهم فايزة نفسيته عن ظهر قلب فيطيب لها أن‬
‫تكايده ‪ ،‬وهى ال تعدم دائما كلمة مسمومة تتوج بها تلذذها بتنغيص كيانه ‪ :‬أنا لما دخلت السجن ياراجل‬
‫يامعفن وسيبتلك الواد ده أمانة فى رقبتك كان زى قضيب القطر ال كان متنى وال ملوى وال معوج وحاله‬
‫دلوقتى ال يسر عدو وال حبيب ‪ ..‬خيبته فى التعليم وبوظته وخيبت أملى فيه وكمان الوكسة زادت‬
‫وبسالمته عايز يتجوز ‪ .‬لم تمهلة حق الرد بل أضافت فى لهجة من تذكرفجأة شيئا كان قد نسيه ‪ :‬ماهو‬
‫عنده حق شايف بعينيه أبوه راجل ناقص وعايب عمال يتسرمح ليل ونهار على أفايا وبفلوسى واللى‬

‫‪93‬‬
‫زاد وغطى صابغ شعره كمان ‪ ،‬كلماتها وصلت إليهما كأنها مخالب نمر مفترس ينهش لحمهما ‪ .‬لم‬
‫ينطق عبده بل بدا كثعبان مزنوق تلوى على نفسه محتدما بالغل حتى كاد غليان الخوف تحت عظام‬
‫جمجمته أن ينفجر ‪ .‬فناولته وخزة أخرى ‪ :‬ودين النبى ياعبده ياجن إن ماتعدلت أنت وأبن الكلب ده‬
‫ألكون مخليه الكبير والصغير فى كرموز كلها يتفرج عليكوا !!‪ .‬قام منصور من مقعده كالمصعوق‬
‫يستجمع خوفه ‪ :‬ماحصلش حاجة يعنى لكل الكالم ده ‪ ،‬أنا ماغلطش ياما وال طلبت المستحيل كل اللى‬
‫قلته نقرأ فاتحة وبس ‪ .‬أنتفضت فجأة من مكانها وهى تدمدم وتتوعد وتسب ‪ :‬أل ياروح أمك انت غلط‬
‫وأتعديت األصول واللى الزم تفهمه ياحيلة وتحطه فى دماغك الوسخة دى أنى أنا بس اللى أختاروأنقى‬
‫واللى على مزاجى أنا مش مزاجك أنت ‪ .‬رمش اليها عبده مرتعدا ‪ :‬صح يافايزة كالمك كله صح‬
‫ياختى ‪ .‬أراد منصور أن ينسحب ‪ .‬تحرك خطوة ‪ .‬فمدت يدها وشدت بذراعه وأعترضته ووقفت أمامه‬
‫تحدق فيه وهو ينظر فوق كتفها ألبعد منها وسألت بألحاح ‪ :‬مين ياوله اللى لحست عقلك ‪ ..‬أسمها‬
‫أيه ؟ ألتفت بعيدا ولزم الصمت بينما هى ال تفلت ذراعه من يدها ‪ ،‬أحست أرتباكه وأرادت أن تريحه‬
‫منه ‪ ،‬لكنه كان كاألبكم ‪ :‬أنا أعرفها ‪ ..‬هى من الحارة عندنا ؟ سحبته نحو كرسيه ‪ :‬أقعد ‪ ..‬فظل واقفا‬
‫ينظر حوله كالمذهول ‪ .‬شدته ونزل بأرتطام وجمود وبقى صامتا ال يتحرك ‪ .‬حذرته وهى تقف عند‬
‫نهايات الكلمات ‪ :‬ع العموم ياروح أبوك لو أنا عايزة أعرفها ‪ ..‬حأعرفها وأحسنلك تفوق وتصحصح‬
‫لحسن تشوف منى أيام أسود من شعر أبوك المصبوغ ‪ .‬أستدار برأسه يتهرب منها ‪ .‬أمسكت به من يده‬
‫وأرغمته على النظر إليها وجها لوجه ‪ ،‬ثم تركته وجلست ويدها مشبوكتان فى حجرها وأبهاماها تضغط‬
‫أحداهما على األخرى ألتماسا للقوة ثم نظرت لزوجها فوجدته يبتسم ولكن أبتسامة غامضة وغير مبررة‬
‫وال مجال لها فكانت نظرتها إليه نظرة فهمها قبل أن تلوى شفتيها وسكتت كما سكت الناس جميعهم‬
‫فجأة وفى وقت واحد ‪ ،‬حتى الوشوشات لم يعد يسمع هسيسها ‪ .‬كل هؤالء البشر ‪ ،‬سجينات وزائرين‬
‫أرتدوا جميعا إلى دواخلهم بظالل حزن ألزمهم الصمت عندما أقتحم المشهد فرد من حراسات السجن ‪،‬‬
‫طويل القامة متوترالقسمات بشاربه الذى يشبه بصمتين من بصمات األصابع وعلى وجهه حدة‬
‫معلنا أنتهاء الزيارة ‪ .‬أصاب الجميع غضب وثاروا ثورة ال يهتم بها أحد ‪ ..‬باقى نصف ساعة على‬
‫أنتهاء الموعد الرسمى ‪ .‬فى مثل تلك األحوال من خيانة المواعيد يعم الغضب وتفلت األلسنة وتنهمر‬
‫الشتائم مطرا ‪ .‬يبدأ الناس ثورة وهياجا ‪ ،‬يفتأن يتكسران شيئا فشيئا حتى يستحيال إلى تذمر واهن ‪ .‬قد‬
‫ال يكون األمر مفهوما لهم وال يملكون تفسيرا وال تبريرا واألسئلة تدور فى الروؤس ‪ ،‬إال أنها ال تقدم‬
‫وال تؤخر وال تفسر ‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫نهض الثالثة وقوفا ‪ ،‬هدى وبسمة ويوسف فى زوايا مثلت ونظراتهم مشتبكة كأنهم يبحثون أزمة‬
‫وخطوات الناس حولهم مرتبكة وعيونهم زائغة حتى أصواتهم وأنفعاالتهم ال يتحكمون فيها بينما خرج‬
‫صوت هدى بكلمات سريعة وموجزة ‪ :‬خلوا بالكم من بعض ياوالد و خد بالك يايوسف من أخواتك‬
‫وقولوا لنورا ماما حتستناكى الزيارة الجاية عشان هى وحشتنى أوى ‪ .‬يضمها إليها ‪ :‬حاضر ياماما‬
‫وبأوعدك من دلوقتى أنها حتكون معانا الزيارة الجاية ‪ .‬بينما بسمة غلبتها دموع الفراق ‪ :‬خلى بالك‬
‫على نفسك ياماما وكلى كويس ‪ .‬تحتضنها وقد أصابتها رعشة لم يستطع معها يوسف أن يحبس‬
‫دموعه‪.‬‬

‫عند أعالن أنتهاء الزيارة نزل الفرج من السماء على عبده ‪ ،‬شعر كمن يخرج من حال لحال يغادر قلقه‬
‫وخوفه فى حين تابعت فايزة بقوة وصرامة ما بدأته مذكرة عبده بكل المنسيات ‪ ،‬القهوة وحساباتها ‪،‬‬
‫ايجار البيتين وضرورة أشراف محمود المحامى على كل كبيرة وصغيرة مع تحذير صريح سمعه‬
‫كل من مر بجوارها ‪ :‬أحترم نفسك وألزم حدودك أحسنلك والقهوة تترزع فيها ما تفارقهاش ال ليل‬
‫وال نهار ‪ .‬ثم باغتته بأصابعها تفرق شمل شعر رأسه ‪ :‬وأول ماتوصل البيت تغسل رأسك‬
‫بالجاز ياراجل ياناقص ‪ ..‬عايزة الزيارة اللى جاية أالقيها بفتة بيضا ‪ .‬أنهت التحذيرات وأحالته لوصايا‬
‫سريعة ‪ :‬فتح عينك ألبنك وأعدله دماغه وخلى بالك من الوله النونو ومش عايزة أسمع منه شكوى‬
‫ياجن ‪ ..‬ظال منصور ووالده ‪ ،‬الخيبة والخوف تتقاذفهما تصعدبهما وتهبط دون أن تترك لهما فرصة‬
‫أللتقاط األنفاس ‪ ،‬تعبا وأصابهما ملل مشحون بأحباط ظل ينمو ‪ ،‬حتى دخال منطقة حزن عميق بينما‬
‫وقف منصور وكان حجر بنطلونه الجينز ملتصقا بما بين فخذيه نتيجة أنتفاخ طارىء ضرب الخصيتين‬
‫فسحبه بتأفف يبعده فى حين تحرك عبده بخطوات أزدادت أتساعا حتى أصبحت هرولة مذعورة ‪ ..‬ماهى‬
‫إال لحظات وكأنا عبده ومنصور يخطفان الطريق خطفا بأتجاه البوابة وقد أنتفخ جلبابه األبيض ورفرف‬
‫فى الهواء ‪ ..‬كان يشعر بنظراتها تخرق ظهره ‪.‬‬

‫عندما غادرت بسمة بصحبة يوسف كان الزحام شديدا وحركة األجساد تضاعف لحظة الفراق ‪ ،‬بينما‬
‫التزال هدى على وقفتها الملهوفة كأنها تبدى أسفها على هذا الفراق ‪ .‬كانت تلوح لهما وكأنها تتشبث‬
‫بجدار ينهار ‪ ..‬راحت تتلكأ لتكون آخر المودعين ‪ ،‬ثم مالبثت ال تخطو وال تلوح حين صارت قامات‬
‫المودعين تبعد وتقصر فركزت نظرتها على ظل يوسف وبسمة وهو يتالشى رويدا رويدا وعيناها‬
‫ترحالن وراءهما ‪ ..‬منظرها التعس ووقع خطواتها ‪ ،‬وحتى ظلها وهو يسير إلى األمام والى الخلف‬

‫‪95‬‬
‫أصابها بشعور جارف باليأس دفعها أن تطأ ظلها بقدميها ‪ ،‬أن تقهر ذاتها ‪ ..‬أحتلتها أفكار وظنون‬
‫وتهيؤات مجنونة وأيقنت أنها ستجنى أحباطا مديدا ينحفر فى الذاكرة ‪ ،‬وقد ينفجر فيها !‪.‬‬

‫الفصل الثالث‬

‫عند تباشير الشتاء وقدوم أسراب النورس على شواطىء األسكندرية ‪ ،‬وزحف الموجات الرغوية‬
‫المتالحقة ‪ .‬كعادتها كل يوم خميس خرجت " أيات " من باب الشقة تدق األرض بكعب حذائها دون أن‬
‫تستدير وهى تحث خطاها حاملة على ظهرها تاريخا من العزلة ‪.‬‬

‫شوارع األسكندرية بعماراتها القديمة وطريق الكورنيش العتيق ونادى سبورتنج الذى كان مالذا‬
‫للباشوات وعائالتهم ‪ ،‬فكل هذه األماكن تسكن طفولتها مثلما يسكن وجهها األلم والوحدة ‪ ..‬كان الليل‬
‫قد هبط على الكورنيش مسلما البحر الى تدرجات اللون الغامق ‪ ،‬المرتحل رويدا رويدا نحو عتمته‬
‫الكثيفة ‪ .‬بينما الموج يضرب صفحة الماء ‪ ،‬كمن يلطمها ‪ ،‬والهواء فى هياج كالماء ينشط محدثا‬
‫ضجيجا وسط السكون ‪ ..‬ال أحد فى الشوارع سوى الشتاء ‪ ،‬فما من بشر يستطيع أن يشاركها موقفها‬
‫فى هذه البرودة الشديدة ‪ ..‬كانت تتلقى البرد كله وحدها والهواء يصفر فى أذنيها ويلفح وجهها ‪.‬‬

‫بداية غير مشجعة لها ‪ ،‬فقاومت وسارت منكمشة داخل معطفها الصوفى الثقيل ‪ ،‬تضم طرفيه المبطنة‬
‫بالفرو كلما صدمها الهواء ‪ .‬خطواتها بطيئة متمهلة ‪ ،‬تلتفت بنظراتها تجاه البحر ‪ ،‬تغرق فى تداعياته ‪،‬‬
‫لم تسحب تأملها إلى ضفاف تستكين إليها ‪ .‬وقفت ‪ ..‬أرادت أن تستنشق هواء مشبعا بالملح واليود ‪.‬‬
‫الهواء هنا عند الكورنيش يتسرب فيها ويحملها فتعلو روحها بينما اليود ينعش الدورة الدموية وينشط‬
‫ذاكرة صرفها الزمن عن البوح بأسراره ‪ ..‬مرت فى لحظات حكايتها مع شاكر أمام عينيها ‪ ..‬أصبحت‬
‫الريح أكثر نشاطا ‪ ،‬لم تعد تعبث معها برفق إال أنها بقيت ثابتة فى مكانها تتأمل قبل أن تنكمش رأسها‬
‫تدريجيا داخل معطفها منتبهة لتأمالتها نحو بحر ال يجيب وهى تستحضر سؤالها المتكرر ‪ ،‬وسمعت‬
‫نفسها تهمس ‪ :‬وبعدين ياأيات ‪ ..‬الزمن واخدك على فين ؟!‪ .‬الريح تضرب فيها بقوة وشراسة ‪:‬‬
‫الشهور جابت سنين وأنا على نفس الحال واقفة عند عتبة الماضى ال قادرة أشوف النهاردة وال بأفكر‬
‫فى بكرة ‪ .‬تتنفس هموم تضرب فى داخلها فتزلزلها ‪ :‬ياخسارة ياأيات ‪ ..‬كل حاجة راحت منك ‪ ،‬السعادة‬
‫والمال والعمر و ماعدش فاضلك حاجة فى الدنيا ‪ .‬راحت تدقق فيما حولها بهدوء ‪ .‬بدت كأنها تصطدم‬
‫بواقع تنهار دوائره واحدة بعد أخرى ‪ ..‬تبتلع ما تبقى فى حلقها بصعوبة ‪ :‬أنتى أنسانة فاشلة‪ ..‬مافيش‬

‫‪96‬‬
‫حاجة نجحتى فيها حتى الحب الوحيد اللى قابلتيه فى حياتك فشلتى وماعرفتيش تحافظى عليه ‪ ..‬كل‬
‫حاجة ضاعت من أيديكى وماعدش عندك حاجة تتسندى عليها ال راجل وال والد وال فلوس خلى بقى‬
‫كرامتك وكبريائك ينفعوكى ‪ ..‬والنتيجة عزلة ووحدة جوه أوضه ضلمة مع بيانو وشوية ذكريات‬
‫وهروب من كل حاجة حتى من المسئولية ‪ .‬أسئلة راحت تتمادى داخلها يتخللها مزيج بين الهدوء‬
‫والهياج ‪ ..‬إال أنها ثبتت فى مكانها وتماسكت تدافع ‪ :‬أنا مهربتش من المسئولية ‪ ،‬أنا وقفت جنب والد‬
‫المرحوم نديم وصرفت عليهم كل اللى كان حيلتى وماتأخرتش عنهم ‪ .‬يأتيها ساخرا من عمق بحر‬
‫يترصدها ‪ :‬يعنى كان كل دورك أنك صرفتى عليهم كل اللى حيلتك وكأنك جمعية خيرية وال فاعل خير ؟!‬
‫والد نديم كانوا محتاجين منك أكتر من كده ‪ ..‬كانوا محتاجين األمان والصدر الحنين اللى يلمهم‬
‫والنصيحة اللى تنفعهم ويالقوا حد يعوضهم عن أبوهم اللى مات وأمهم المسجونة ‪ ،‬عمرك ماشاركتيهم‬
‫فى لحظات ضعفهم وال فى لحظات يأسهم وخوفهم ‪ ..‬كل حاجة فرطى فيها من غيرتمن ؟!‪ ..‬يشتدالهواء‬
‫يضرب بجبروت ووحشية ‪ .‬شعرت بطرفى معطفها األسود يرفرف على كتفيها كالجناح فظلت للحظات‬
‫على وضعيتها كأنها نسرا محلقا بينما مازال صوتها من داخلها يرتفع كى يتغلب على عواء الريح ‪ :‬أيه‬
‫ياأيات ‪..‬كلها كام سنة ومش حتالقى حد جنبك ‪ ،‬الكل حيدور على مصلحته وعلى طريق يمشيه وأنتى‬
‫بس اللى حتفضلى لوحدك واقفة فى مكانك تتفرجى عليهم زى العاجزة ‪ ..‬خليكى كده زى ماأنتى متحنطة‬
‫فى أوضتك مستنية الموت لما ييجى وأنتى محبوسة جوه زنزانتك اللى اخترتيها بنفسك ‪ ..‬تبدلت السماء‬
‫فجأة ‪ ،‬فأنشقت عن خيوط أمطار متصلة ‪ ،‬بينما هى ال تبالى تنصت بأنتباه لما يخرج من داخلها ساخنا ‪:‬‬
‫أختارتى أسهل طريق تمشيه طريق الهروب من كل حاجة وكبرتى دماغك وصغرتى نفسك وخليتى نورا‬
‫البنت الصغيرة اللى كانت محتاجة سند ودعم هى اللى تشيل المسئولية كلها على دماغها ‪ ..‬أتحملت‬
‫وصبرت ووقفت مع أخوتها لغاية ماوقفوا على رجليهم ووقفت معاكى كمان وماتخلتش عنك وأختارت‬
‫أنها تبقى الكبيرة وأنتى الصغيرة ‪ .‬أجابت بال تفكير وكأنها تريد أن تضع حدا لهذا الصوت المتمادى‬
‫الكاشف ‪ :‬واللـه أنا ماكنتش عايزة األمور تمشى كده أبدا لكن نورا هى اللى كانت بتسعى للدور ده‬
‫وكانت رافضة أى حد يشاركها فى المسئولية هى اللى قررت تخلينى زيادة عدد وماليش لزمة ‪..‬‬
‫ماكانش بأيدى حاجة أعملها ‪ .‬أدلت رأسها لألرض ولم تفارق عينيها خطواتها الثقيلة التى تتقافز حولها‬
‫قطرات المطر ‪ ،‬بينما تراخت عضالتها وهى تسير تراقب األمواج الكبيرة المندفعة قبل أن يظهر لها‬
‫فجأة خلفها وحولها أناسا هوايتهم المفضلة المشاغبة و " الغتاتة " كأن رمادا كالحا قد نثر على هذه‬
‫المخلوقات التى ال هوية لها ‪ ،‬دائما ما يخرجون من قبورهم ليال من جوف مناطقهم العشوائية بأطراف‬

‫‪97‬‬
‫المدينة ‪ ،‬يتسكعون هنا وهناك ‪ .‬أنهم بشر وصلوا الى حد أصبحوا فيه ال قيمة لهم ‪ ،‬وصاروا أصفارا ‪،‬‬
‫اليمكن أن يفعلوا إ ال شيئا واحدا ‪ ..‬هو أن يطالبوا بكل شيىء ‪ .‬هؤالء هم تركة خلفتها سنوات‬
‫الماضى ‪ ..‬أستدارت أيات بعينيها ثانية تجاه البحر تتأمل مساحته الشاسعة متجاهلة تلك الكائنات‬
‫الضئيلة التى تسعى أمامها وتثير ضجيجا تافها حولها ‪ ،‬وإن أستوقفتها بعض عباراتهم من عينة ‪ :‬أيه‬
‫يامرى اللى موقفك فى السقعة دى ؟!‪.‬‬

‫ــ دى تالقيها صيادة أراميط ! ‪.‬‬

‫ــ أراميط أيه يابرشمجى ‪ ،‬دى مرى خلصانة وأخرها سردينة ‪.‬‬

‫أستدارت هاربة مع صوت قطرات المطر الذى أشتد فوق رأسها ورشح إلى وجهها فألصق بالخدود‬
‫خصال من الشعر بينما أنتفخ فراء معطفها بالماء وتصلب ‪ ،‬فأتجهت الى حافة الرصيف تأهبأ لعبور‬
‫طريق الكورنيش الذى أجتازته ركضا هربا من شالل المطر ومن ذلك الحوار البائس الذى كان يتسلل‬
‫داخلها على أستحياء قبل أن يتطور فيخرج عن أستحيائه حتى أصبح نافذا ال تستطيع معه المناورة ‪.‬‬

‫أختبأت بجوار " بنزينة " تراقب طابورا من سيارات التاكسى والميكروباص تتسول لترات قليلة من‬
‫" بنزين ‪ " 80‬الذى تحول الى حلم يداعب كل صاحب سيارة فى األسكندرية ‪ .‬هدأ المطر وأختفى البرق‬
‫وسكت الرعد ‪ .‬رفعت أيات رأسها للسماء تتحسس بوجهها أنقطاع الماء ثم تحركت من مخبئها ‪ ،‬بدت‬
‫أقل مما كانت وكأن األمطار أكلت من هامتها ‪.‬‬

‫‪000000000000‬‬

‫كان المشهد عارضا ومختلفا داخل العنبر عقب انتهاء الزيارة ‪ ..‬السجينات تصلن تباعا وكل منهن تأتى‬
‫بحملها بين ذراعيها ‪ ،‬لفائف وأكياس وسجائر ومبالغ مالية ‪ .‬أنه يوم النصر ‪ .‬يوم جمع الغنائم بعد‬
‫معركة الزيارة ‪.‬‬

‫حالة أستثنائية من األنشغال الطارىء ‪ ،‬همهمات ‪ ،‬كلمات متناثرة هنا وهناك ‪ ،‬الصوت يعلو فوق صوت‬
‫األكياس ‪ ،‬الكل منشغل بالتنقيب داخلها‬

‫‪98‬‬
‫ثآلثة أيام مرت كاملة ولم تنقطع فيها األجتماعات والحوارات ‪ ،‬تحليالت مستفيضة وقراءات مختلفة‬
‫عما دار فى لقاءاتهن ‪ .‬أخبار سارة ومفرحة تحصلت عليها مجموعة قليلة منهن ‪ ،‬بينما نالت‬
‫المجموعة األكبر حظها الوافر من األخبار السيئة الصادمة مثل"عواطف وحكمت " اللتين سمعتا خبر‬
‫طالقهما غيابيا ‪ ،‬فى حين تلقت " فتحيه " خبر زواج زوجها على لسانه شخصيا مبررا فعلته بعبارة‬
‫مازالت ترددها بأداء غلب عليه البالهة واألستغراب وبحالة نفسية سيئة ‪ :‬الراجل قالىما أقدرش أغضب‬
‫ربنا يا فتحية وأرافق نسوان فى الحرام ‪ ،‬قلت أتجوز وآهو أصون نفسى وبالمرة تربى العيلين ‪ .‬أرادت‬
‫" سامية " أن تخفف عنها فمرت بكفها على ظهرها ‪ :‬معلش يافتحية هو برضه معذور ‪ ،‬الراجل بيدور‬
‫على الحالل ومش عايز يغضب ربنا ‪ .‬واجهتها بعينين زاد أحمرارهما ‪ :‬ربنا مين اللى يغضبه ياسامية‬
‫ده راجل أبن وسخه عشته كلها حرام فى حرام ده هالس وحرامى وأيده طويلة ‪ ..‬قبل أن تنهى وصلتها‬
‫ألمت بها رعشة وحالة من البكاء الهيستيرى ‪ :‬منك للـه ياسعيد‪ ..‬حسبى اللـه ونعم الوكيل ‪.‬‬

‫فى حين ألتصقت هدى بسريرها و تمددت متصلبة كأن لها جسد من حديد ‪ ،‬ال تحرك ساكنا بدت‬
‫تائهة مغيبة ‪ .‬كان وجهها محتقنا كـمؤخرة " قرد " أسلمت نفسها للكأبة وتحولت إلى كتلة من حطام‬
‫المشاعر ‪ ..‬بدت كحياة بال أحالم ‪ ،‬حاولت معها فايزة فور أنتهاء الزيارة أن تكشف ما سترته عن‬
‫فحوى لقاءها بأبناءها ‪ ،‬إال ان ماحصلت عليه كانت أسئلة وليست أجابات ‪.‬‬

‫شريحة لحم مع قطعة مكرونة بالباشميل فى طبق صاج هو ماتبقى لدى فايزة من بقايا الزيارة ‪ .‬تمد‬
‫يدها فى محايلة مستمرة ومتكررة ‪ :‬تعدمينى ياهدى وتكون طلعتى من العنبر ده على ضهرى لو‬
‫ماأكلتيش كل اللى فى الطبق ده ‪ .‬ردود متعبة بطيئة ‪ :‬حرام عليكى يافايزة أنا مش قادرة أبلع حاجة ‪.‬‬

‫ــ أنتى من ساعة الزيارة ومافيش لقمة دخلت معدتك أنا قلتلك تعدمينى ‪ ..‬يعنى عايزة تعدمينى ياهدى ‪.‬‬
‫قالت جملتها بأنفعال وبصوت عالى ‪ ،‬فتحولت الرؤوس نحوهما ‪ .‬أستجابت فى تباطؤ ‪ .‬فتحت شفتيها‬
‫كأنها تحاول فك لحامهما بينما فايزة قرفصاء تراقبها تحثها وتشجعها وكأنها أمام طفلة ‪ .‬خرج تساؤل‬
‫غامض على لسان هدى بنبرة من فقد طاقته وأحتله اليأس ‪ :‬قوليلى يافايزة هو أيه اللى حصل بره‬
‫السجن وأحنا مش فاهمينه ؟ ‪ .‬بتلقائية أفصحت عن معلوماتها حسب فهمها للسؤال ‪ :‬اللى حصل كتير‬
‫أوى ياهدى ‪ ..‬الوله النونو بيقولى أن الدنيا برة بقت سايبة ع اآلخر واللى فى شوقه حاجة بيعملها ‪ ،‬ده‬
‫بيقولى المخدرات والبرشام بتتباع فى الشوارع زى الخضار ‪ ،‬والوله خضر كان قالى لوفيه أتنين تالتة‬
‫أتلموا على بعض بيعملوا عصابة ويثبتوا الناس ويقلبوهم ‪ .‬أضطرت ألظهار أبتسامة واهنة رغماعنها ‪:‬‬
‫‪99‬‬
‫مش ده اللى أقصده يافايزة أنا بسأل عن نفسية الناس يعنى طباعهم وأحوالهم لسه زى األول وال‬
‫أتغيرت ‪ ..‬يعنى لسه فى صلة رحم وناس بتخاف على بعضها وال المواضيع دى أنتهت وأحنا هنا‬
‫عايشين فى وهم ومش فاهمين حاجة ؟!‪ ..‬أيقنت أنها كانت تجيب فى أتجاه آخر ‪ :‬آه ‪ ..‬أنتى بتسألى عن‬
‫نفسية البشر ‪ ..‬فردت رجليها ثم مدت يدها فى مغارة صدرها ‪ ،‬قبل أن تخرجها متوجة بعلبة سجائر‬
‫" ‪ " L.M‬أحمر وهى واحدة من " خرطوشة " كاملة تسلمتها من عبده ‪ :‬أستنينى لما أولع سيجارة ‪.‬‬
‫زحفت بعينيها تجاه الشعلة ‪ :‬شوفى ياستى الدنيا علمتنى أن البعيد عن العين بعيد عن القلب وفى الزمن‬
‫األغبر اللى أحنا فيه ده القريب من العين والقلب برضه بعيد وخسران ‪ ..‬يبقى بذمتك أحنا حالنا حيبقى‬
‫أيه وعينة النسوان اللى حوالين منك شاهدة على الزمن واللى بيحصل فيه ‪ ..‬عندك اللى تعبت واللى‬
‫ضحت واللى أتبهدلت عشان خاطر بيتها وعيالها وآخرتها مافيش حد بيجى يزورهم والحتى يتف فى‬
‫وشهم ‪ .‬كلمات أخافتها ‪ :‬قصدك أيه ؟ ‪ .‬مدت يدها "بحتة " لحمة تفض بها شفتى هدى المطبقتين قبل‬
‫أن تجيب ‪ :‬الحسبة دلوقتى أتغيرت ياحبيبتى مش زى زمان وخدينى أنا مثال وعبرة ‪ ..‬يعنى أنا لو‬
‫ماحلتيش مال ساترنى وعندى بيتين ملك وقهوة كان زمان عبده الجن ومنصور أبنى ماعتبوش السجن‬
‫ده أبدا وكنت أتنسيت ‪ .‬لمعت عينيها بالدموع وزادت حالتها سوءا بينما " حتة " اللحمة فى فمها تدور‬
‫تبحث عن مخرج أما للداخل أو للخارج ‪.‬‬

‫فرمان عاجل من " الريسة عفاف " حارسة العنبر ‪ :‬تعالى معايا ياهدى أنت مطلوبة فى األدارة ‪ .‬قالتها‬
‫بصيغة بيان مقتضب وكان له أثرا مرعبا داخلها ‪ ،‬فهو ينبأ عن أمر جلل فى أنتظارها ‪ .‬خرجت من‬
‫محبسها بمالمح مهمومة ونحيلة ‪ .‬لم يطل أنتظارها وبالتالى لم تسحبها هواجسها إلى منطقة عذاب‬
‫وأضطراب حين أصطحبتها " عفاف " فى عجالة بوجهها الناشف ‪ ..‬سارتا عبر الممر الموصول‬
‫والمؤدى إلى خارج مبنى العنابر ومنه إلى ممر آخر كأنه نفق فى جبل ‪ ،‬بينما شعرت هدى بالتوتر وبدا‬
‫لها طريقا بال عودة ‪ ..‬سمعت وقع خطواتها على بالط الممر ‪ .‬قالت بفزع ‪ :‬هو أنا حصل منى حاجة‬
‫ياست الريسة ؟‪ .‬كان سؤاال قد أختارته من بين مجموعة أسئلة راحت تضرب دماغها فى تلك اللحظة‬
‫بينما تعتصر ذاكرتها تبحث فيها عن جرم أو مخالفة أرتكبتها ‪.‬‬

‫وقفت أمام باب حجرة تطل على الممر ‪ ،‬تقدمت منها الحارسة ثم طرقت الباب ودخلت ‪ ،‬عادت لها بعد‬
‫لحظات ‪ ،‬سحبتها من يدها وقادتها إلى الداخل ‪ ..‬حجرة متوسطة وأثاث متواضع فاتح اللون وسجادة‬
‫عادية ومكتب خشبى كبير تجلس خلفه فى كرسى ذى مسندين أمراة فى األربعين تضع نظارة بيضاء‬

‫‪100‬‬
‫على عينيها وأمامها جهاز كمبيوتر تتقدمه الفتة نحاسية مكتوب عليها " األستاذة هناء خليل ـ أخصائية‬
‫أجتماعية " ‪ .‬عينيها فوق األوراق المتناثرة أمامها تنشغل بها وصوت األوراق أثناء تقلبها يمزق‬
‫السكون بينما علم مصريغطى جزءا من مساحة الحائط الخلفى بألوانه المتعددة ورمزه المحفوظ ‪..‬‬
‫تفحصتها هدى خائفة مرتبكة ‪ ،‬كانت مذعورة ‪ ،‬تنظر حواليها فى فزع ‪ .‬خلعت نظارتها وأصطنعت‬
‫أبتسامة واجهتها بها وهى تشير لها بالجلوس ثم أقتربت بعينيها من شاشة الكمبيوتر ‪ ..‬تدقق ‪ ..‬ثم‬
‫بدأت تتلو كرنفال من تواريخ الزيارات الخاصة بهدى وأستدعاء لعالقاتها مع زميالتها فى العنبر ‪،‬‬
‫معلنة لذلك التتبع الذى ال ينتهى لتواريخ كل حدث ‪ ،‬تفصيالته وتبعاته فى حين توجهت هدى بكامل‬
‫أهتمامها إليها وهى تتلو تلك التفاصيل المكدسة على الشاشة ‪ .‬أنكمشت فى جلستها ‪ ،‬أختلطت فى‬
‫رأسها المتعب األوهام بالحقائق وتداخلت األشياء بالطول والعرض ‪ ..‬هذه لحظة الشكوك والهواجس ‪.‬‬
‫أسبلت عينيها بينما حاولت األخصائية خلق جو من المرح حين نظرت إليها ‪ :‬أخبارك أيه ياهدى ‪.‬‬
‫ضاقت عينيها وغضت جبينها ‪ .‬بصوت ممتد واهن ‪ :‬الحمدللـه ‪ .‬صاغت فى ذهنها جملة مهذبة تستفسر‬
‫عن وجودها فى مكتب األخصائية ‪ ،‬لكنها بادرتها بسؤال ‪ :‬وأخبار بنتك نورا أيه ؟!‪ .‬أنفجرت الدهشة فى‬
‫مالمحها فور سماعها أسم أبنتها يتردد على لسان األخصائية ‪ :‬مش فاهمة حضرتك تقصدى أيه ؟‬
‫أعادت صياغة تساؤلها‪ :‬مالك أترعبتى كده ليه أنا بطمن بس ‪ ..‬ده شغلى !! ‪.‬‬

‫ــ مش فاهمة ؟ ‪.‬‬

‫ــ شغلى هنا أنى أرصد الحالة النفسية للسجينات وأى تغيير فى سلوكهم ‪ .‬تنقر سطح المكتب بقلم فى‬
‫يدها ‪ ،‬تابعت ‪ :‬بنتك نورا زى ما هو واضح قدامى فى بيانات الزيارات السابقة كانت دايما موجودة‬
‫فى كل زيارة بأنتظام ماعدا آخر أربع زيارات ‪ .‬قامت فى بطء من كرسيها ‪ .‬أردفت ‪ :‬فى الفترة‬
‫األخيرة وبعد كل زيارة غابت فيها نورا الحظــنا أن حالتك النفسية بتبقى تعبانة شوية وتقريبا‬
‫مابتاكليـش وأغلب الوقت بتكونى منطوية على نفسك ومش عايزة تكلمى حد ‪ ..‬تطلعت اليها ‪ .‬أدلت‬
‫بأجابة كتحصيل حاصل ‪ :‬ال أبدا ياأستاذة أنا حالتى تمام ومافيش عندى أى مشكلة وبخصوص نورا بنتى‬
‫الحكاية كلها أن ظروفها فى الشغل بقت صعبة أوى وده السبب اللى بيمنعها عن زيارتى !‪ .‬أدركت‬
‫األخصائية معاناتها من خالل صوتها ‪ ،‬أقتربت منها قبل أن تجلس أمامها على كرسى مقابل ‪ ..‬تأملتها‬
‫للحظات ثم مالت نحوها ‪ :‬أسمعينى ياهدى ‪ ،‬أنا أستدعيتك هنا عشان أساعدك وأكون جنبك وأقف معاكى‬
‫لو عندك مشكلة ‪ ..‬ده دورى هنا ‪ .‬لم توفق الجابة محددة ‪ :‬يعنى أنا مطلوب منى أيه ؟ مبتسمة ‪ :‬مش‬

‫‪101‬‬
‫مطلوب منك حاجة ياهدى لكن لو عايزة تعتبرينى أخت أو صديقة وتسمحيلى أتدخل فأنا ما عنديش مانع‬
‫‪ .‬أصابها هلع ‪ :‬تتدخلى أزاى يعنى ؟ قاطعتها كى تطمأنها ‪ :‬ماتخافيش ياهدى لو حأتدخل فده حيكون‬
‫بصفة شخصية مش بصفتى الرسمية والزم تعرفى أن أى مشكلة بتقابل أى سجينة أول حاجة بأعملها‬
‫أنى بأرجع للملف بتاعها وبأفحصه كويس جدا ومن قرايتى لملفك فهمت قضيتك كويس وعرفت وضعك‬
‫األجتماعى اللى أنتى جاية منه والظروف اللى محيطة بوالدك ‪ ..‬عشان كده أرجوكى ماتقلقيش خالص ‪.‬‬
‫أستعادت هدى أطمئنانها وراحت تقترب بال شعور من الحديث المعد من األخصائية ‪ ،‬فتحت لها قلبها‬
‫عن أوجاعها ومشاعرها ‪ ،‬فطفحت كلمات الحسرة على شفتيها ‪ :‬كل لحظة بتمر على هنا وأنا بأراجع‬
‫نفسى وبسأل هو أيه اللى حصل منى وخلى نورا تبعد عنى وتبطل تزورنى ‪ .‬شردت ثم أضافت ‪ :‬فى‬
‫البداية كان عندى شك أن ممكن ال قدر اللـه يكون حصلها حاجة ‪ ،‬لكن الحمد للـه زيزيت صاحبة األتيليه‬
‫اللى بتشتغل فيه نورا جت هنا وزارتنى وطمنتنى عليها ‪ .‬تحاصرها بأستفسار ‪ :‬طب ماقالتلكيش أيه‬
‫السبب اللى خالها تبطل تيجى تزورك ؟!‪ .‬تنتزع من حلقها كلمات يائسة ‪ :‬ماقدرتش أفهم منها أى حاجة‬
‫غير شوية تبريرات زى أنها شايلة كل المسئوليات على دماغها من أول شغلها و أخواتها والبيت ‪،‬‬
‫تنهيدة وصلت سخونتها إلى وجه األخصائية ‪ .‬أردفت ‪ :‬أنا عارفة إن نورا شالت حمل كبير أوى فوق‬
‫طاقتها وأكبر من سنها لكن حأعمل أيه ماكانش بأيدى ‪ ..‬ده نصيبى ونصيبها ! ‪.‬‬

‫تساءلت هدى كثيرا لتفهم مدى المتغيرات التى أستجدت خارج السجن وأثرت سلبا على كل شيىء ‪،‬‬
‫حتى على المشاعر األنسانية ‪ ..‬دفعت جسدها إلى ظهر الكرسى وتبادلت مع األستاذة " هناء " حديث‬
‫مطول طال أمورا كثيرة ‪ ،‬غير أنها لم تصل معها إلى أجابة قاطعة وسبب واحد منطقى يمنع نورا من‬
‫زيارتها ‪ ،‬كان كل ما تم طرحه بينهما لم يتعد سوى األحتماالت والوسوسات ‪ ..‬أجابات عائمة كأنها رثاء‬
‫قبل أن تعقب بكلمات معبرة ومشجعة ‪ ،‬كانت هى مسك الختام من جانب األخصائية ‪ :‬خالص أتفقنا‬
‫ياهدى حتبقى جامدة وقوية زى ماكنتى دايما ومهما كان السبب اللى منع نورا من زيارتك الزم تعذريها‬
‫وأنا متأكدة أن كل حاجة حتبقى أحسن من األول ‪ .‬أستقبلت كلماتها بمالمح هادئة ومنفرجة ‪ ،‬بصوت‬
‫عاد تدريجيا إلى طبيعته ‪ :‬أتفقنا ياأستاذة ‪.‬‬

‫ــ وكمان فى حاجة مهمة الزم تحطيها فى دماغك اللى فاضلك هنا أقل بكتير من اللى عدى ‪ .‬أنهت‬
‫جملتها بأبتسامة عريضة بينما واجهتها هدى ببريق لمع فجأة فى عينيها ‪.‬‬

‫‪000000000000000‬‬
‫‪102‬‬
‫بعد أن صب " خيرى علم الدين " فنجانا جديدا من القهوة ‪ ،‬عاد إلى مسقط رأسه حيث جلسته‬
‫المفضلة أمام المدفأة المحفورة فى أحد جدران الصالة ‪ ..‬يبدو فى جلسته هادئا قليل الكالم ‪ .‬يوغل فى‬
‫رجولته ‪ ،‬والزمن منحه الهيبة بعد سنوات طويلة من الوحدة والشعور بالفقد كلماتذكر زوجته الراحلة "‬
‫سميحة الغريانى " تجذر داخله شعورا متناميا منذ رحلت أن شيئا ما ذهب وليس من السهل أستعادته ‪،‬‬
‫لم يعوضه األصدقاء وال حتى القراءة التى أدمنها ‪ .‬دائما ما يتذكر أيامها األخيرة قبل رحيلها حين‬
‫كان يراقب الجسد الذى ضاجعه عمرا وأنجب منه أبنيه نادر وشريف ‪ ،‬ممددا على الفراش ‪ ،‬عاجزا ‪،‬‬
‫عليال ‪ ،‬يتألم فى صمت موجع قبل أن يرحل فى هدوء دون أن يسبب أى متاعب لمن حوله ‪ .‬كثيرا ما‬
‫يشعرك لوهالت بأنه أنسان غير أجتماعى ‪ ،‬وحيد ‪ ،‬تضافرت عليه ظروف المعيشة بحيث حولته الى‬
‫ترس فى عجلة ‪ ،‬يدور معها بشكل رتيب ‪ ،‬ليست ثمة قدرة داخلية أو خارجية يعول عليها أن تحدث له‬
‫تغييرا ‪ .‬أحيانا كثيرة كان يريد بعض الرفقة أو بعض الدفء ‪ ..‬العيش بعيدا عن عاطفة الحب جعلته‬
‫يجف ‪ .‬خلع نضارة القراءة ونزع فنجان القهوة من بين شفتيه ‪ ،‬مدد ساقيه على كرسى صغير أمامه‬
‫وأشعل سيجارة جديدة لزوم القهوة قبل أن يطوى كتابا عن أسرار جماعة األخوان المسلمين من تأليف‬
‫المنشق عنها " ثروت الخرباوى " بعد أن غاب بين صفحاته لساعتين وكأن الشيىء يعنيه سوى‬
‫ماسيدخره من مضمون تحملة تلك األوراق ‪ .‬أتخذ فى جلستة وضع المتأمل قبل أن يتحول إلى مواجهة‬
‫مع النفس ‪ ،‬كانت واحدة من أزماته التى يعرفها ميله إلى نمذجة الناس ‪،‬فكان يصنف من حوله ذهنيا‬
‫حسب رؤيته ‪ .‬مرت حياته بالكثير من المنحنيات واألمور الطارئة قبل أن تنحسر فى نهاية األمر ما بين‬
‫عمله فى مصلحة اآلثار ورفقة أبنه شريف فى المنزل بعد أن تخطا سويا العالقة المعتادة بين األب وأبنه‬
‫إل ى صداقة قوية متينة بحكم الحالة األجتماعية ‪ ،‬فهما تقريبا مقطوعان من شجرة بعدما رحل " نادر"‬
‫األبن األكبر الى امريكا منذ ستة أعوام حين كان السفر بالنسبة له آخر أحالمه وأكبر من واقعه ‪ ،‬بل كان‬
‫أمرا حتميا ‪ ،‬ليس رغبة بقدر ما كان قرارا مصيريا ‪ ،‬كان له طموحات غير عادية ‪ ،‬لم يعرف لها طريق‬
‫أو أمكانية تحقيق داخل األسكندرية أو حتى فى مصر كلها ‪ .‬رحل " نادر " مخلفا وراءه أبوه وأخيه قبل‬
‫أن يودعانه فى المطار بالدموع والتمنيات بينما هو كان طائرا قبل أن يصل الى طائرته !‪ .‬ترك لهما‬
‫حيزا من القلق زمنا ثم أستدعاهما أو أستعادهما وطمأنهما بمكالمة تليفونية عن أحواله ونجاح محاولته‬
‫فى تثبيت قدميه فى بالد األمريكان ‪ .‬حدثهما عن أمنياته ومحاولته للم الشمل كى يرتاح باله ويطمئن‬
‫قلبه قبل أن تختفى عنهما أخباره مجددا ‪ .‬منذ عام ونصف سطر القدر لمصر والمصريين ومن قبلهما‬
‫‪103‬‬
‫" خيرى علم الدين " وأبنه " شريف " أنفراجة أمل وسعادة بالغة حين فاجأ " نادر" الجميع بزيارة‬
‫قصيرة تاريخية ألرض الوطن ‪ ..‬بدا كمن خلعوا له لسانه وزرعوا بدال منه لسانا أخر أمتزجت كلمات‬
‫العربى باألنجليزي وبصحبته أمرأة غريبة لها طباع غريبة ومالمح أغرب ‪ ،‬هى زوجته " بادين " التى‬
‫تكبره بسبع سنوات ‪ .‬قال الراجع من بالد األمريكان ألخيه فى جلسة جمعتهما فى حضور والده ‪ ،‬كما‬
‫كان يحدث فى الماضى ‪ :‬جهز نفسك يابطل ‪ ،‬المطعم بتاعى أنا وبادين محتاجك معانا ‪ .‬كان فى واقع‬
‫األمر يحاول مساعدته على الفرار بنفسه من واقع صعب مرتبك ‪ ..‬أعترض شريف مبديا بعض‬
‫المالحظات شارحا وجهة نظره ‪ ،‬غير أن األخ األكبر وضعها داخل قاموس " الهجص " المصرى‬
‫وصفها بأنها حالة من حاالت التمسح فى أكاذيب تتسمى بأسماء ضخمة مثل الوفاء والبر بوالده‬
‫وأستحالة أن يتركه بمفرده كما يستحيل أيضا أن يترك حبه األسطورى لنورا ويرحل ‪ ،‬وإن كان لم‬
‫يصرح بذلك مباشرة ‪ ،‬بينما يرى نادر أن تلك المسميات دائما ماترد على ألسنة أمثال أخيه من القاعدين‬
‫المقعدين أو العجزة والفشلة وأصحاب مبدأ " األنتخة " ‪ .‬مع ألحاح نادر وشرح أيجابيات السفر أبدى‬
‫خيرى موافقة مبدئية كى يضمن ألبنه مستقبال كأخيه ‪ ،‬فى حين سايرهما شريف وتظاهر بالموافقة‬
‫ووعد بتنفيذها على مراحل فى قادم األيام ‪.‬‬

‫رحل " نادر" كما جاء ‪ .‬زيارة لم تسفر عن شيىء يذكر سوى مبلغ نقدى فى يد أخيه ومجموعة‬
‫نصائح مملة تسير كلها بأتجاه الطموح والنجاح وقدرة المرء على أقتناص الفرص التى ال تنتظر كثيرا‬
‫مختتما كلماته بأراء هجومية على مصطلحات العاطفة والعشرة ومصر أم الدنيا والتى أستوقفته الجملة‬
‫األخيرة ‪ .‬فقاطع بحدة ‪ :‬أم أى دنيا ‪ ..‬دنيا المجارى الطافحة وال الشوارع المكسرة وال الزبالة اللى فى‬
‫كل حته وال الفقر والمرض اللى طايل كل الناس ‪ ..‬فوق بقى يا أخى وسيبك من الهبل ده ‪ ..‬أنت عايش‬
‫جوه بلد متخلفة ؟!‪ .‬أراد خيرى حبس جملة أعتراضية فلتت منه ‪ :‬لما بلدنا فيها كل العيوب والمأسى‬
‫دى جيت ليه يانادر ؟!‪ .‬أبتلع دهشته ‪ ..‬لم يتخيل أبدا أن يأتى السؤال عنيفا على لسان أبيه ‪ :‬أنا جاى‬
‫أشوفك وأطمن على حضرتك أنت وشريف ‪ .‬بأبتسامة هادئة سبقت تعليقه ‪ :‬يانادر ياحبيبى الزم تفهم‬
‫أنى أنا وأخوك راضيين بالعيشة المتخلفة دى وأنا شخصيا بأعشقها وده مش أحساسى لوحدى ‪ ..‬كل‬
‫اللى عايشين على أرضها بيعشقوها لدرجة الجنون حتى لو كان كالمهم وتصرفاتهم مابتدلش على كده‬
‫والدليل على كالمى البنى أدم المصرى هو الوحيد فى الدنيا لما بيهاجر وبيعيش فى أغنى بالد العالم اللى‬
‫فيها العيشة مستريحة ومافيش فيها كل البالوى اللى عندنا أول ما يحس بالتعب و العجز أو المرض‬
‫أول حاجة بيعملها بيرجع بلده تانى عشان يقضى أيامه األخيرة ويدفن فيها ‪ ..‬بلدنا يانادر مش فيها‬
‫‪104‬‬
‫مرض وجهل وفقر وبس ‪ ،‬أل فيها حاجات تانية ‪ ..‬جايز تكون مش معروفة ‪ ..‬فيها أعظم سر موجود‬
‫فى الدنيا ‪ ..‬الكائن المصرى !! قال كالمه وطالت نظرته فى عينى أبنه الذى هز رأسه دون تعقيب إال‬
‫ماتيسر ‪ :‬أوكيه يابابا ‪ ..‬قالها بنبرة أستهانة ‪.‬‬

‫خشخشة مفاتيح تدور فى كالون باب الشقة أنتشلته من جلسة التأمالت ‪ .‬وقع خطوات مرهقة بأيقاع‬
‫منتظم تتسلل إلى أذنيه ‪ ،‬هى دائما خطوات شريف الذى أطل برأسه ليتأكد من وجود أبوه فى مكانه‬
‫المفضل قبل أن يطيح بالجاكيت المعلق على كتفه عند أول كرسى وفى اليد األخرى كيس يتطوح بين‬
‫يده ‪ .‬أقترب من أبوه وبادره كالعادة بتقديم تحية عسكرية ‪ :‬تمام يأفندم ‪ ..‬أبنك شريف وصل مدغدغ‬
‫يافندم ‪ .‬أداء ساخر أعتاده شريف مع والده من أيام األنفالت األمنى المصاحب لبدايات ثورة يناير حين‬
‫تصدر " خيرى" مشهد اللجان الشعبية بالحى وكان المسئول األمنى عن توزيع مجموعات الحماية من‬
‫شباب الحى أمام مداخل العمارات وعند النواصى ‪ ،‬منذذ ذلك اليوم وتعامل شريف معه وكأنه جنرال‬
‫عسكرى وتحولت الدعابة إلى عادة ‪ .‬أبتسامة أستقبل بها أبنه قبل أن يتفحصه سريعا ‪ :‬حمد اللـه على‬
‫السالمة ياسيدى ‪ ..‬أيه اللى أنت جايبه فى الكيس ده ‪ .‬تقدم بخطوة عسكرية وبنبرة ميرى ‪ :‬الكيس ده‬
‫سيادتك فيه ربع النشون حلوانى وكيس مخلل وست رغفة فينو ومعاهم كمان كيس بن سفيانوبولو‬
‫وصاية لزوم سعادتك ‪.‬‬

‫ــ طب تعالى أقعد جنبى ‪.‬‬

‫ــ ماشى ياأبو نادر ‪ .‬أستجمع مفاصله المفككة ونزل بجسده مرتطما على كرسى مواجها لوالده كأنه‬
‫يهوى من قمة جبل فاردا ساقيه ‪ ،‬يدعك ركبتيه قبل أن تئن مالمحه ‪ :‬آه يارجليه ‪ .‬قالها وأنحنى على‬
‫حذائه ‪ ..‬فك رباطه‪ .‬نصف أبتسامة ‪ .‬مندهشا ‪ :‬مالك يابنى أنت لسه صغير ع الخيبة دى ‪.‬‬

‫ــ خيبة أيه بس يابابا أتناشر ساعة واقف على رجلى لما أتكسحت ‪.‬‬

‫ــ وماله ياشريف أى بداية بتبقى متعبة وبعد كده األمور بتتحسن وتبقى تمام ‪ ..‬نفخ ومسح جبهته ‪:‬‬
‫تتحسن فين بس والدنيا عمالة تزيد كعبلة وأندلة وكل يوم فى النازل ‪ .‬عشر دقائق كانت كافية ليسرد‬
‫شريف تفاصيل يومه مكررا مالحظة سبق وأن ذكرها بأنتظام فى الشهرين السابقين ‪ :‬كل أقسام المول‬
‫فيها ركود ال بيع وال شرا مع أن العروض حقيقية وبجد والتخفيضات كبيرة ‪ .‬رماه بنظرة خاطفة ‪ :‬هى‬
‫دى نتيجة السياسة الفاشلة لألخوان أنهيار فى كل حاجة وفوضى فى كل مكان البلد بقت عاملة زى‬
‫‪105‬‬
‫العيان اللى بيصارع الموت والدكاترة اللى مسئوليتهم يعالجوه واقفين بيتفرجوا عليه وهو بيطلع فى‬
‫الروح وياريت سايبينه يموت فى هدوء ‪ ..‬أل دول كمان بيتخانقوا مين اللى حيغسله األول ! تجمدت‬
‫مالمحه ‪ .‬دارت األفكار سريعة مرعبة فى رأسه كدوامة فى بحر ‪ :‬واللـه يابابا أنا خايف لحسن‬
‫ادارة المول تستغنى عن عدد مننا ‪ .‬أغمض عينيه قبل أن يرجع برأسه للوراء ‪ :‬مش عارف أقولك أيه‬
‫يابنى ‪ ،‬خليها على ربنا ‪.‬‬

‫ــ ربنا يستر ده أنا ماصدقت أتعلقت فى شغالنة ‪.‬‬

‫قبل ثالثة شهور أنشغل شريف كثيرا بالحصول على فرصة عمل ‪ ،‬كان قد وقع فى سلسلة رفض‬
‫جهنمية ‪ ،‬يبدأ يومه بعد أن يستيقظ متأخرا ‪ ،‬يتحرك إلى األماكن التى تعلن عن وظائف شاغرة عن‬
‫طريق النت أو جريدة الوسيط ‪ .‬كان يدرك فى أعماقه شيئا ما ‪ ،‬ناقصا ‪ ،‬غير مكتمل ‪ .‬شعر بأن هناك‬
‫حدود بين طيبته وشره ‪ .‬بين جنونه وتعقله ‪ ،‬بين جيبه ويده ‪ .‬كانت متناقضات نائمة بداخله ‪ ،‬لم تصحو‬
‫من سباتها إال بعد أخر مشادة دارت بينه وبين نورا ‪ ،‬حين أصبح طباعها وأنشغالها ‪ ،‬يزرع المسافة‬
‫بينهما ‪ .‬لم يعد يراها ‪ .‬تقلصت لقاءتهما لتكون مرة أو مرتين شهريا بعد أن كانت مرتان يوميا ‪ ،‬األولى‬
‫فى منتصف اليوم أثناء فترة الراحة من شغل األتيليه والثانية بعد التاسعة مساءا عقب أنتهاء عملها ‪.‬‬
‫غير أن الحال تبدل حتى أصبحت بالنسبة له مثل خيال مسافر وعد بالرجوع لكنه لم يرجع ‪ .‬وألن أمرها‬
‫كان عسيرا على التفسير بالنسبة له وكانت دائما خارج دوائر التوقعات وحين عاتبها وأعلن لها عن‬
‫رفضه لسلوكها الفاتر نحوه ‪ ،‬كانت حادة حين دافعت عن نفسها بشدة حتى أوصلت إليه أحساسها‬
‫بالتميز ‪ .‬لم تترك لديه أنطباعات سلبية إال عندما سألته ‪ :‬أنا بأشتغل وبأتعب وعارفة ألتزاماتى كويس ‪..‬‬
‫تقدر تقولى أنت بتعمل أيه وال بتفكر فى أيه وال عايز أيه أصال من حياتك ؟ لم تنتظر منه أجابة ‪ .‬نظرت‬
‫إ ليه فقط ‪ .‬كانت كلماتها له شديدة القسوة ‪ ،‬وشت بالكثير من الحدة التى كانت مكبوتة بداخلها ‪ .‬بدا‬
‫ساهما ‪ .‬حزينا ‪ ،‬تنم تجاعيد جبهته المتقلصة عن قلق عميق ينمو فى أعماقه ‪ .‬حاول أن يدافع عن‬
‫نفسه ‪ :‬مين قالك أنى مستسلم للوضع ده أنا كل يوم من أول النهار آلخره بأدور على شغل ومش ساكت‬
‫ودى مشكلتى وأنا حأحلها بطريقتى ‪ ،‬لكن المشكلة الكبيرة فيكى أنت ‪ .‬تابع منفعال ‪ :‬من ساعة مابقى‬
‫لكى وضع وكلمة مسموعة فى األتيليه ومرتبك بقى باالالف أتغيرتى وأتحولتى ومش شايفة قدامك غير‬
‫الفلوس وبس ‪ .‬لم تكن أعصابها تهتز أبدأ لكالمه ‪ ،‬بل تتحداه فى ثقة وهو مواصال هجماته فى أصرار‬
‫على أن ينال الغلبة فى النهاية ‪ :‬بقت كل حياتك بتاخديها بعناد وتحدى وكأن الدنيا عندك حرب ياغالب‬

‫‪106‬‬
‫يامغلوب ‪.‬متشبثة بعنادها ‪ :‬حتى لو كان كالمك صحيح مش عيب أبدا أنى أنجح وأثبت وجودى ويبقى‬
‫عندى ارادة ألن اللى زيى ممنوع عليه الفشل ‪ ..‬عارف ليه ؟ عشان لو أنا فشلت حأضيع و أخواتى‬
‫حيضيعوا معايا ‪ ..‬أنا مسئوليتى كبيرة وتقيلة وفى عيلة متعلقة فى رقبتى يعنى الزم أحارب فى كل‬
‫خطوة ومش زى ماأنت قلت ياغالب يامغلوب أل ياشريف ده ياقاتل يامقتول ‪ ..‬فهمت وال لسه ‪ .‬كلماتها‬
‫حملت إليه شعورا لم يستطع استجالء ماوراءه مرة واحدة ‪ .‬تراجعت عباراته وبدت متكسرة ‪ :‬أنا‬
‫ماقلتش عيب أنك تنجحى أو تثبتى وجودك ‪ ،‬لكن مش الزم يكون نجاحك ده على حساب اللى بينا !!‪.‬‬
‫المسألة بالنسبة لها ليست بالماضى حين أحبته وهى صغيرة وال بالحاضر وهى تحبه بكل أحباطاته‬
‫وفشله ‪ ،‬لكن المستقبل هو الذى يهمها ‪ .‬كيف ترتبط من رجل مفرغ من األحالم واألهتمامات ‪ .‬أتخذت‬
‫وضع من ال تعنيه الكلمات وهى تتصنع الدهشة ‪ :‬عمر الشغل والمسئولية ما يكونوا على حساب اللى‬
‫بينى وبينك ‪ ..‬الظروف هى اللى بتحكم وساعات بتبقى أكبر من حاجات كتيرة وأى عالقة ناجحة الزم‬
‫الطرفان فيها يكملوا بعض يعنى ماينفعش طرف يكون عملى أوى وعايز ينجح والتانى واقف فى مكانه‬
‫مافيش حاجة بيعملها غيرأنه يفضل يتهمه ويكسر فيه ‪ .‬نظرات شريف الذى نفذ صبره مسلطة عليها ‪،‬‬
‫ناطقة بالريبة وتوشك أن تلفظ األتهام ‪ :‬سيبك من الجمل الكبيرة دى والكالم بتاع مسلسالت رمضان ‪..‬‬
‫الحكاية كلها أنك بقيتى مش شايفة غير نفسك وبس وبتوزنى كل حاجة بميزان الفلوس بس وسيادتك‬
‫بتحاولى تجمليه وتسميه نجاح ‪ ..‬بطلى الكالم التخين ده ألن ماعدش له معنى ‪.‬كشرت وتجهمت وتغير‬
‫لونها وبدت كقطة شرسة ‪ ،‬فقدت الكثير من رقتها ‪ :‬مش أنا ياشريف بتاعة الكالم التخين ‪ ،‬أنت اللى‬
‫بتحب نظريات الفاشلين وبتعجبك أوى الكلمات الخايبة اللى ال بتودىوال بتجيب وبدل ما حضرتك تشوف‬
‫عيوبك وتحاول تغير من نفسك عايز ترمى كل مشاكلك على غيرك عشان أنت عديم الطموح متجمد فى‬
‫مكانك ‪ ..‬شعر بأن صورتها فى رأسه غير واضحة المعالم ‪ .‬لم يقل لها شيئا ‪ ،‬كما لم يلحظ أثرا للماضى‬
‫فى حديثها ‪ .‬لم تظهر أمامه أى تراجع بل أستدارت فى غضب بأتجاه درجات السلم متجهة إلى األتيليه‬
‫تردد بعد أن زادت رقعة التوجس بينهما ‪ :‬عن أذنك ورايا حاجات أهم من الكالم الفاضى بتاعك ؟!‪.‬‬
‫كلماتها القاسية لم تجعله يفقد األمل ‪ ،‬بل حاول بشتى الطرق أخراجها من تلك الدائرة المستحكمة مابين‬
‫أخوتها وشغل األتيليه ‪ ،‬إال أنه كان محاصرا مثلها ‪ ،‬لكن بنوع أخر من سياج كان من صنعها هى ‪،‬‬
‫يدور فى فراغ الدائرة باحثا عن ذاته الذى تأكل بفعل نجاحاتها ـ هى ـ فى قيادتها ألسرتها وسد فراغ‬
‫األم المنكوبة فى السجن وقفزاتها الناجحة فى األتيليه مقابل فشله ـ هو ـ فى العثور على كيان يليق ‪،‬‬
‫اللهم إال هذا العمل الباهت الذى أقتنصه من بين عشرات الطامعين بتوصية من األستاذ " برسوم "‬

‫‪107‬‬
‫صديق والده ‪ ،‬فيدفن أحالمه فى جدول وهمى من ساعات عمل مزدحمة على ماكينة " كاشير " بنظام‬
‫الوردية فى أحد الموالت الضخمة بشرق األسكندرية ‪ .‬تتنازعه أحالم مستقبلية غاصت منه أسفل قدميه‬
‫وجار البحث عنها ‪ ،‬فقنع ب ‪ 800‬جنيه شهريا يزيد عليها مايقارب نصف الراتب " تبس " ‪.‬‬

‫لمحه خيرى من تحت نظارته قبل أن يطوى كتابه ويحشر داخله كومة أوراق ‪ :‬مالك شكلك مش‬
‫عاجبنى ؟‪ ..‬أجابة مقتضبة غير كاشفة ‪ :‬أبدا يابابا مافيش حاجة ‪ .‬أدرك أن شيئا يشغله ‪ .‬قام من كرسيه‬
‫أمام المدفأة وجلس فى مواجهته ‪ :‬أنت لسه زعالن مع نورا ؟ مسح شعره بكفه وظهر السؤال الحائر‬
‫فى عينيه ‪ ،‬وينطق به لسانه ‪ :‬بصراحة مش عارف أقولك أيه ‪ ..‬نورا أتغيرت أوى وبقت واحدة تانية‬
‫مش هيه دى اللى أنا عرفتها والهيه اللى كنت بأحلم معاها وبنخطط سوا لمستقبلنا ‪ .‬أنكمشت مالمحه‬
‫أستغرابا ‪ :‬يعنى أيه بقت واحدة تانية ؟!‪.‬‬

‫ــ أنا نفسى مش عارف ‪ ..‬بقت عاملة زى ماكينة الفلوس اللى أنا شغال عليها كل همها شغلها ومرتبها‬
‫الكبير ده غير أنشغالها المجنون واللى زايد عن الحد بأخواتها وأصرارها الغريب على أنهم لسه أطفال‬
‫وهى أمهم ‪ ،‬عايشة فى كدبة وصدقتها وفاكرة أن بسمة ويوسف دول والدها يعنى الزم تأكلهم وتشربهم‬
‫وتطمن عليهم لمايناموا والعصبية والقلق والتوتر يركبوها لو أتأخروا شوية برة البيت ‪ ..‬هدأت حدته ‪.‬‬
‫ثم تابع ‪ :‬بصراحة أنا بقيت مش فاهم حاجة ‪ ..‬يا أما أنا مش طبيعى ياأما هى مجنونة ؟!‪ .‬أنفرجت‬
‫شفتيه عن أبتسامة خفيفة وهو ينظر فى عينى أبنه قبل أن يسطر كلماته وحيثيات حكمه على طباع نورا‬
‫عبر قائمة مليئة ببنود ونقاط ال يوازى منطقها منطق ‪ .‬وبدأ دفاعه ‪ :‬أوال ياشريف الزم نكون متفقين‬
‫على أن نورا هى الوحيدة تقريبا اللى أتحملت وشالت المسئولية كلها على كتافها من بعد أمها ما دخلت‬
‫السجن ‪ ،‬وفى سن كان اللى زيها ما يعرفش أصال يعنى أيه معنى كلمة مسئولية ‪ .‬يحدق فيه عن قرب ‪.‬‬
‫مكمال ‪ :‬متفقين على كده ؟ هز رأسة ‪ :‬ما أحنا كنا معاهم لحظة بلحظة وعارفين أد أيه هى أتحملت لكن‬
‫أنا بأتكلم عن دلوقتى ‪.‬‬

‫ــ مافيش زمان ودلوقتى وهيه دى تركيبة نورا وهو ده طبعها خالص بقت مدمنة للمسئولية وخوفها‬
‫الزايد على شغلها وأخوتها ده طبيعى جدا ألنه بالنسبة لها عمرها كله وتعب السنين ومتنساش أنها هيه‬
‫اللى كبرت وأكلت وعلمت وأشتغلت وصرفت ‪..‬همه بالنسبة لها شهادة نجاح وملكية خاصة ‪ ..‬أنا متفق‬
‫معاك أنها ساعات بتبقى متسلطة عليهم وشديدة معاهم لكن ده بدافع الحب والخوف ‪ .‬قاطعه كالتائه‪:‬‬
‫طب أنا فين من كل ده يابابا ؟ ‪ ..‬أبتسامة أقرب إلى ضحكة مكتومة ‪ :‬أنت برضه موجود جواها ومن‬
‫‪108‬‬
‫ضمن مسئولياتها ألن اللى بينكو مش من سنة وال أتنين ده موجود فيها من ضمن تركيبتها اللى‬
‫أتشكلت فى السنين اللى فاتت كلها والتوتر اللى بيحصل ده سببه بسيط أوى وهو أنك بكل بساطة‬
‫ماحققتش لنفسك أى حاجة وده اللى بيخليك دايما خسران فى أى مقارنه معاها وده مش معناه أنك‬
‫فاشل ‪ ..‬أل أبدا ‪ ،‬لكن نورا وظروفها اللى عاشتها هى اللى خلت نجاحها واضح وماحدش يقدر يعرف‬
‫لو أنت كنت فى نفس ظروفها كان حيبقى حالك أيه ؟!‪ .‬قال جملته األخيرة على سبيل الترضية ‪.‬‬

‫ــ بصراحة أنا تعبت وحاسس أن الدنيا صعبة واأليام تقيلة ‪ .‬سحب نفسا يائسا قبل أن يكمل فى مرارة ‪:‬‬
‫كنت فاكر أننا لما نقوم بثورة كل حاجة حتتعدل وحيبقى شكلنا أحسن ‪ ..‬ياخسارة ؟!‪.‬‬

‫شريف كان ثائرا ‪ .‬لم ينس أبدا تلك األيام ‪ ،‬كان فى طريقه إلى ممارسة حياة يومية رتيبة وسط‬
‫الكآبة واليأس حين واجهته جموع الغاضبين تتقدم فى أعصار مدمر ‪ ،‬تهدر حناجرها " الشعب يريد‬
‫أسقاط النظام " أندفع ‪ .‬صرخ مع الصارخين حتى كادت تتمزق أحباله الصوتية ‪ .‬كان وسط حشود‬
‫بشرية ال يحصيها العد ‪ .‬كان يشعر بنهرمن الدفء ‪ ..‬هل بسبب هذه الشوارع التى كان يقطعها‬
‫جريا ؟!‪ .‬أم بسبب الهتافات التى كان يرددها بأقصى مايستطيع خلف الشباب المحمولين على‬
‫األكتاف ؟! ‪ .‬أم بسبب أنفالتا داخليا لم يعهده ؟!‪ .‬مفاجأة تحبل بالكارثة ‪ .‬رد فعل الجماهير التلقائى كان‬
‫يعصف بكل العقول وبكل األنظمة وبكل التدابير ‪ .‬المصريون كلهم أندفعوا ‪ ،‬البلد كلها ركبها عفريت‬
‫المظاهرات ‪.‬‬

‫بعد مرور أسبوعين على تلك المشادة العنيفة بين نورا وشريف ‪ ،‬خفت وتيرة الخصام وأنكسرت حدته‬
‫حين تصدت له عند خروجه من باب المصعد قبل أن تفتعل حديث ال معنى له ‪ :‬مالك شكلك متبهدل كده‬
‫ليه ؟ حاول سحبها من معصمها فى المساحة الخالية بين الشقتين ثم ثبتها على الجدار الفاصل ‪ :‬أفندم‬
‫يا ماما نورا ‪ ،‬واحد لسه راجع من الشغل عايزة يبقى شكله أيه ‪ .‬قالها وفرد ذراعيه وثبت كفيه على‬
‫الحائط وهى معتقلة بينهما ‪ ،‬تخترق نظراته من أعلى فرجة ضيقة فى البلوزة البيضاء ‪ .‬أستشفت‬
‫ماتنطوى عليه نظرته فأبتسمت نصف أبتسامة وهمت بالخالص ‪ :‬أوعى أيديك ياشريف حد يفتح الباب ‪.‬‬
‫لمس خديها حتى شفتيها ثم أغمض عينيه وأقترب بشفتيه اللتان أنفرجتا كالكماشة ‪ ،‬وقبل أن يلتهم‬
‫شفتيها أصابهما أرتباكا مفاجىء حين دوى صوت نوح البواب ‪ :‬أقفل باب األسانسير يا اللى فى التالت ‪.‬‬
‫فلتت بوجهها من بين يديه وسحبت جسمها باتجاه المصعد ‪ :‬سالم بقى وحأكلمك بالليل لما أرجع من‬
‫األتيليه ‪ ،‬بينما لملم أعصابه المشدودة وتوجه بها الى داخل شقته ‪.‬‬
‫‪109‬‬
‫كانت ثورة يناير بالنسبة لشريف ثورة فاشلة بحكم النتيجة وما آل إليه الحال بعد أنقضاض األخوان‬
‫المسلمين على السلطة وبعدما أيقن الكثير أن حكمهم ال يختلف عن سابقه ‪ ،‬اللهم إال فرق واحد فى‬
‫منظومة الفساد ‪ ،‬فالسابق فساده ماليا وأقتصاديا وسياسيا ‪ ،‬أما الحالى ففساده فى منهجه الفكرى‬
‫وتكوينه حيث يعتمد على نظرية عفى عليها الزمن ‪ ،‬نظرية المحتل والمستعمر الذى دائما ما كان يبدأ‬
‫خطواته األولى بالتحكم فى مفاصل الدولة ومؤسساتها ‪ ،‬ليمرر من خاللها خططه وأستمرار وجوده ‪.‬‬
‫بينما " خيرى " وبطريقته المعتادة المتأنية فى رصد وتحليل األحداث بعد تلك المتغيرات الجذرية عقب‬
‫ثورة يناير ‪ ،‬كان يرى أن أزمتنا أزمة وعى ؟‪ ،‬فال أحد يدرى وال أحد يعرف ‪ ،‬الكل مشوش ‪ ،‬حتى‬
‫النخب ة طال وعيها التشويه بفعل الشيخوخة أو التوجه ‪ .‬أظهرت " ثورة يناير " قسوة النظام السابق‬
‫وتغوله وفساده والذى أنهك المصريين ‪ ،‬فبات الشعب كله مضروب فى بنيته ونخبته وثقافته ولقمة‬
‫عيشه ‪ ..‬فقر وجهل وتمزق ‪ .‬واألن وبعد الثورة خرج علينا من هربوا من دنيانا وجاءونا بمنطق‬
‫وتفاسير جديدة تودى بالعقل وتسحق مابقى من المنطق وتزيد الهوة وتسحبنا لعصور الخيمة‬
‫والصحراء ‪ .‬ردة للخلف مئات السنين ‪.‬‬

‫الوعى دائرة واسعة أبتلعت داخلها كل شيىء ‪ .‬كان خيرى قد نجح فعال فى تدريب روحه على قبول كل‬
‫ما حوله والتعامل معه وفق معايير جديدة ‪ ،‬وأصبحت األشياء المحيطة به جزء من مكونات الصورة بعد‬
‫أن طبعت نفسها فوق عديد من الصور القديمة ‪ ،‬لم تكن باهتة أو منضبطة عليها بقدر ما كانت تشف‬
‫عما وراءها ‪ ..‬كانت البداية بتطور ثورى مفاجىء فى مسلكه حين باغته صديق عمره وكاتم أسراره‬
‫" برسوم " زميل عمل بمصلحة اآلثار منذ خمسة وعشرون عاما ‪ .‬وعقب أنتهاء ندوة مملة حضراها‬
‫بأحدى القاعات فى مكتبة األسكندرية بحضور لفيف من محترفى الكالم وحين دار النقاش حول مجموعة‬
‫دراسات وتحليالت تؤكد أن مدينة األسكندرية فى طريقها للغرق تحت مياه البحر خالل العشرين سنه‬
‫القادمة ‪ ،‬بدت كلمات المشاركين فى الندوة مطاطة وطويلة ‪ ،‬فزلكة من الدكتور فالن وسفسطة على‬
‫لسان الدكتور عالن وكلمة من هنا ومثلها من هناك وأنتهت الندوة على توصية هامة فارقة سيذكرها‬
‫التاريخ ‪ .‬مفادها ‪ :‬أن تكون هناك ندوة أخرى لتكملة النقاش ! ‪.‬‬

‫ــ يوم الخميس الجاى حتيجى معايا ياخيرى فى المقر بتاع جريدة أسكندرية اليوم ‪ .‬قال برسوم ‪.‬‬

‫رفع كفه مسلما فى ضيق ‪ :‬أل سامحنى مش عايز أحضر ندوات تانى أنا توبت ! ‪.‬‬

‫‪110‬‬
‫ــ دى مش ندوة ياخيرى دى حاجة جديدة لسة مولودة فى أسكندرية وأنا عندى أحساس جوايه بيقولى‬
‫أنها حتجيب الفرج ‪ ،‬وبعدين خالص أنا رشحتك تبقى معايا من ضمن مجموعة المؤسسين ؟!‪ .‬بحث فى‬
‫رأسه عن أجابة وهو يتطوح فى مشيته ‪ ،‬كانت المفاجأة أكبر من أى رد ‪ ،‬غير أنه أختصرها برسم‬
‫مالمح على وجهه لم يستعملها من قبل فى حين أكمل برسوم ما بداه قبل أن تحتوى صديقه المفاجأة ‪:‬‬
‫أنا عارف رأيك كويس فى حكاية األحزاب و األئتالفات وتريقتك عليهم وحافظ كمان جملتك المشهورة‬
‫ال على المجنون حرج وال المريض حرج وال " على األحزاب حرج " أشعل سيجارة قبل أن يطلق أول‬
‫نفس منها فى وجه صديقه الذى مازال يعانى تنميال فى مقعدته جراء جلسته الصعبة فى الندوة ‪ :‬لما‬
‫أنت ياأخى كل يوم معايا فى الشغل ومش بنبطل كالم وعارف رأيى كويس بتقولى علي الخيبة‬
‫دى ليه ؟!‪.‬‬

‫ــ عشان ده مش حزب زى اللى بالك فيه ‪ ..‬ال نفس الشكل وال التركيبة دى حاجة جديدة خالص ! ‪.‬‬

‫ــ مش فاهم ؟!‪ .‬رشحت أبتسامة على مالمحه النحيلة وأزدادت صلعته لمعانا ‪ :‬تقدر تسميها كده حركة‬
‫توعية أو مجموعة وطنية بجد مش زى اللى موجودين دلوقتى وكل همهم منصب والشويعملوه ‪ ،‬دول‬
‫ناس بيحاولوا يعملوا حائط صد قبل البلد ما تقع وتتخطف كلها ومانعرفش نرجعها تانى !! ‪ .‬كانت‬
‫كلمات غامضة ومربكة ‪ ،‬تباطأت خطوات خيرى على أرضية البورسلين داخل المكتبة ‪ .‬ثبت فى مكانه‬
‫واضعا يديه داخل جيبى بنطلونه بعدما تمكنت منه الحيره قبل أن يرمى بالسيجارة من بين أصبعيه‬
‫بطريقة لم يفعلها سابقا ‪ .‬أستدار وأصبح فى مواجهة برسوم بحاجبين مرفوعين يتفحصه وكأنه يراه‬
‫ألول مرة قبل أن ترتخى مالمحه فجأة وأنفرجت شفتيه عن أبتسامة سرعان ماتحولت إلى ضحكة ذات‬
‫مغزى ‪ :‬طريقة كالمك الغامضة دى يابرسوم بتفكرنى بأفالم الجاسوسية لما كان بيظهر فى المشهد‬
‫راجل الموساد وهو البس بالطو أسود وحاطط على عينيه نضارة سودة وهو بيحاول يجند البطل عشان‬
‫يخليه يتجسس لحسابه ‪ .‬أبتلع ضحكته ‪ .‬ثم تابع ‪ :‬نفس الكالم اللى مالهوش أول من آخر ‪ .‬قابله‬
‫بضحكة ساخرة ‪ :‬لو حتدقق فى المشهد اللى انت بتقوله حتالقى الفرق مش كبير ‪ ..‬أسرائيل كانت بتجند‬
‫الخونة وضعاف النفوس أما الزمن األغبر اللى أحنا فيه ده بقى عندنا عشرات االالف من الجواسيس‬
‫والخونة عاملين زى الطابور الخامس ‪ ،‬تالقيهم فى كل مكان جنبك فى الشارع وفى المؤسسات‬
‫وساكنين معاك و الزقين فى جسمك زى الميكروب ولآلسف الصنف ده مش أسرائيل اللى مجنداه‪ ..‬دول‬
‫بشر أتربوا بطريقة شاذة وأتغسلت دماغتهم وأتسيطر على عقولهم بشعارات وأفكار سودة وبقوا‬

‫‪111‬‬
‫بيتحركوا فى وسطينا زى األفاعى وكل يوم والتانى بيغيروا جلدهم ويتلونوا حسب الظروف ‪ ..‬زالت‬
‫دهشته بعد أن سحب نفسا طويال قبل أن يخرجه ببطء ‪ :‬فهمت قصدك يابرسوم بس النوعية دى مش‬
‫شريحة صغيرة دول نسبتهم كبيرة فى البلد وطول مافى فقر وجهل حيفضل عددهم يزيد وشرهم حيكبر ‪.‬‬

‫ــ كالمك صح وعشان كده أنا بأعرض عليك األمر ده وتبقى معانا و تشاركنا وأنا متأكد أنك لما حتقابلهم‬
‫وتقعد معاهم حترتاح أوى ألفكارهم وكفاية أنهم ناس مخلصين وبيخافوا على البلد وهمه تشكيلة من كل‬
‫النوعيات فيهم رجال أعمال وصحفيين وأدباء وموظفين وعمال ‪.‬‬

‫قبل أن يصفعهما هواء البحر عقب خروجهما من بوابة المكتبة وبعد أن أمتصت برودة الهواء دهشة‬
‫خيرى وأستغرابه ‪ :‬بس أنضم لكم فى أيه يابرسوم وأنا مش فاهم أنتو عايزين تعملوا أيه بالظبط ؟!‪.‬‬

‫ــ حأقولك ياسيدى ‪ ..‬المجموعة اللى أتكونت لحد دلوقتى تقريبا تالتين واحد وكلهم متفقين على أن‬
‫حكم األخوان فى مصر الزم ينتهى وبسرعة قبل البلد كلها ماتروح فى سكة اللى يروح مايرجعش أو‬
‫فوضى من كل نوع حتخلى بلدنا شبه الصومال وكل سنة وأنت طيب ‪ ..‬عشان كده كل واحد فى‬
‫مجموعتنا بيقدم أفكاره وتصوراته وبناء عليه حيتم دراستها وتحديد الخطوات ‪.‬‬

‫مازال مرتبكا ‪ :‬طب وأنا مطلوب منى أيه ؟ ‪.‬‬

‫ــ تشاركنا وتحضر معانا األجتماعات وتقدم أفكارك ‪ .‬سايره وهو يخفى أستغرابه ‪ :‬حأفترض أنى عملت‬
‫اللى أنت بتقوله ده وكتبت التصور اللى أنا شايفه أو حتى غيرى كتب أيه اللى حيحصل يعنى وال أنت‬
‫فاكر أن التالتين واحد بتوعك همه دول اللى حيخلصوا البلد وينقذوها ؟!‪ .‬ثقة ضاعفت من نبرة صوته‬
‫وجعلت خطوته أكثر أسترخاءا ‪ :‬اللى مش عاجبينك دول يقدروا يعملوا كتير أوى ياخيرى ‪ ..‬قاسم أمين‬
‫لما رفع شعار تحرير المرأة كان لوحده من غير سند وغاندى لما قاوم األنجليز ماكانش يملك إال فكرة‬
‫حاربهم بيها وبرضه كان لوحده ‪ .‬حتى الضباط األحرار لما خططوا لثورة يوليو كان عددهم كام واحد‪..‬‬
‫كل حاجة بتبدأ بعدد صغير هو اللى بيبقى الشرارة وبعد كده الناس بتتلم حواليهم وبتتحول لثورة ‪.‬‬

‫بالرغم من أن خيرى علم الدين كان أكثر أمتاعا ‪ ،‬حيث أنه يشعرك انك تجلس فى وكالة أنباء ‪ .‬تسمع‬
‫النبأ وتحليالته وتعرف وجهة نظره التى تقودك إلى أشياء غائبة عنك ‪ .‬ورغم الفضول الذى أثاره فيه‬
‫هذا األلحاح من صديقه برسوم ‪ ،‬فأنه تمنى من صميم قلبه ‪ ،‬أن يبقى بعيدا عن مجريات األمور ‪ ،‬يكفيه‬
‫أن يحلل ‪ .‬أن يجمع المعطيات كعادته ‪ ،‬وأن يقيم األشكاليات جميعها ويتنبأ لينتشى فيما بعد وهو يرى‬
‫‪112‬‬
‫نبوءاته تتحقق واحدة بعد األخرى ‪ .‬لم تكن عضويته فى المجموعة تهمه وال يريدها ‪ ،‬ولكنه وجد نفسه‬
‫منساقا تحت ضغط األلحاح ‪ ،‬كما أن التحول الغريب والجوهرى فى المناخ السياسى المصرى بعد ثورة‬
‫يناير أغراه كثيرا حيث لم تعد هناك نخبة أو غيرها بالمعنى المتعارف عليه ‪ ،‬الكل ينتفض فى حالة من‬
‫الهيجان والمراهقة السياسية ‪ ،‬الشباب بثوريته المندفعة وغير المحسوبة وبمبدأ " كن فيكون "‬
‫واألخوان كعادتهم مصلحة الجماعة فوق الجميع وبحكمة " خد وأجرى " أما الكبار المتمرسون فحدث‬
‫وال حرج بداية من كالم منمق فاقد للجوهر والمعنى غير قابل للتطبيق ‪ ،‬وان كان يحسب لهم تحولهم‬
‫المفاجىء إلى نجوم فى البرامج الحوارية مدعومة بلياقة بدنية تحسب لهم فى خفة الحركة من قناة‬
‫ألخرى فى وقت وجيز ‪.‬‬

‫حاصره برسوم يوميا بإلحاحه مذكرا أياه بموعد يوم الخميس ‪ :‬الساعة سبعة بمقر جريدة أسكندرية‬
‫اليوم ‪.‬‬

‫ــ وده مكانه فين أن شاء اللــه ؟ ‪.‬‬

‫ــ أدام محطة ترام األزاريطة الدور الخامس ‪ .‬ضاقت عينى خيرى قبل أن يفرد أبتسامته ‪ :‬مافيش كلمة‬
‫سر وال أسم حركى وال أى حاجة من الكالم ده ! ‪.‬‬

‫ــ أبقى خبط على الباب تالت خبطات وقول جزر ‪ .‬قالها وأنفجرت ضحكاتهما حتى دمعت عيناهما ‪.‬‬

‫أنصاع يكتب ‪ .‬أرتعشت يده وكانت أصابعه تتململ أثناء قبضها على القلم ‪ ،‬بدأت تصوراته وأفكاره‬
‫تتوالد قبل أن يحصل برسوم على أجابة شافية ‪ :‬أنا بدأت أكتب شوية تصورات حسب اللى أنا شايفه‬
‫و طريقة تنفيذها ‪ ..‬لما نشوف مجموعة الهجص بتاعتك دى حتعمل أيه ؟ غير أنه باغته بقبلة مباركة‬
‫وهو يهتف ‪ :‬مادمت كتبت تبقى أقتنعت وربنا يسهل بالباقى ‪.‬‬

‫‪000000000000000‬‬

‫مناقشات دائرية فى حلقات تكونت بتلقائية من الطلبة المتجمهرين داخل حرم جامعة األسكندرية ‪،‬‬
‫ناقشوا أحالمهم عن الديمقراطية ومستقبل البلد ‪ ،‬كما أستعرض الكثير منهم برامج األسر الطالبية‬
‫المرشحة ألنتخابات الجامعة بعد أقرار الالئحة الجديدة للنظام األنتخابى للجامعة ‪ .‬كادت تتحول‬
‫المناقشات إلى مشادات حامية بين التيارالمدنى المستقل وبين طلبة األخوان مما زاد من سخونة‬

‫‪113‬‬
‫المشهد ‪ ..‬تطوع طالب من التيار الشعبى عريض الصوت ‪ :‬أحنا عايزين نشارك فى الحكم والزم يكون‬
‫لنا كلمة ونفهم بلدنا رايحة على فين ‪ .‬أنتفض أخر ‪ ،‬العصبية أضاعت من كلماته تأثيرها ‪ :‬همه فاكرين‬
‫المصريين دول أيه ‪ ..‬بيستخفوا بعقولنا ليه ‪ ..‬البلد بتتأخون قدام عنينا وأحنا واقفين بنتفرج ‪ .‬كلمات‬
‫حماسية تحولت الى حركة أحتجاج جماعى ‪ ،‬تقدم طالب من حزب الدستور حمله زميله على كتفيه وسط‬
‫حشد طالبى يحيط به كالسياج ‪ ،‬ليهتف هتاف البداية ‪ :‬يسقط يسقط حكم المرشد ‪ .‬بينما تقف بسمة‬
‫متحمسة فى قلب أحدى الدوائر تحاور وتناقش بوعى أو بدون وعى ‪ ..‬فى أيامها األولى بالجامعة منذ‬
‫عامين أستعادت بسمة عالقتها ب " نورهان " التى زاملتها فى مرحلة األعدادية وعرفت " نور "‬
‫صاحب الوجه الطفولى و " باسم " صاحب المالمح المتجهمة كما عرفت أحمد وساندى وعاشت معهما‬
‫قصة حبهما المستحيلة ‪ ،‬ألن ساندى مسيحية ‪ .‬هؤالء هم الصحبة القريبة لها التى ال تفارقهم ‪،‬‬
‫بتجمعون فى " كافيه " الكلية قبل المحاضرات وبعدها ثم طوروا من أداءهم حتى أصبح وجودهم‬
‫فى الكافيه طوال اليوم مختتمين يومهم بسندوتشات " فول وفالفل " من مطعم ( محمد أحمد)‬
‫بمحطة الرمل ‪.‬‬

‫أنفلتت " بسمة " عن صحبتها النمطية من خالل مصادفة معتادة ومتكررة فى الوسط الطالبى ‪ ،‬كان ذلك‬
‫يوم أن أصيبت بحالة من الدهشة وهى ترقب جمعا غفيرا من الطلبة مدعومين ببعض الموظفين وقد‬
‫أحتشدوا أمام مبنى األدارة مطالبين باقالة العميد فأستندت الى سيارة تتابع الوجوه الغاضبة المهتاجة ‪،‬‬
‫وجدته إلى جوارها مستندا إلى نفس السيارة يدخن سيجارته بنهم وبينما كانت هى فى حالة من‬
‫السرحان أقترب منها " أمجد" بالسنة النهائية بالكلية والتى منحته األيام طوله الفارع وعينان لها بريق‬
‫كحدة السيف ‪ ،‬أنتشلها مما هى فيه من أستغراب وحيرة وبطريقته الساخرة التى يعرفها كل من حوله ‪:‬‬
‫أيه رأيك فى اللى بيحصل ده ؟ لم تجيبه بل سألته ‪ :‬أنت أيه رأيك ‪ .‬لم يخدعها برأيه ‪ :‬العميد ده من‬
‫فلول مبارك وأحنا عملنا ثورة عشان القديم كله الزم يتنسف ‪ .‬تململت فى وقفتها ‪ :‬بصراحة أنا أول مرة‬
‫أشوف مظاهرة من القرب ده ‪.‬‬

‫ــ هو أنتى لسة جديد هنا ؟ ‪.‬‬

‫ــ أنا فى سنة أولى ‪ .‬يجوب بعينيه فى أنحاء جسمها‪ :‬ده أنتى لسه حتشوفى العجب ‪ .‬حاولت أمتصاص‬
‫كل نظرات الطلبة الداخلين للجامعة ‪ ،‬لكنها لم تستطع أن تصرف نظراته عنها ‪ ،‬لم يترك فيها جزء‬
‫إال وتفحصه وكأنه فنان يتأمل لوحة كثيرة التفاصيل ‪ ،‬ماجت بذهنه ‪ ،‬كما لم يكبح عنان خياله وهى‬
‫‪114‬‬
‫تنتصب أمامه نخلة باسقة مثمرة ‪ ،‬جردها فى ذهنه من التيشرت " النبيتى " والبنطلون الجينز الضيق‬
‫ثم نقلها إلى فراشه وعبثت فيها أصابعه وتخلل لحمها وفعل معها ما يعشقه من مشاهد تسكن ذاكرته ‪.‬‬
‫وبعد أن غادر أرتباكه الغريزى بدأ بينهما حديثا مازال ممتدا ‪ .‬كان دائم التهكم على شعارات تيار‬
‫األسالمى السياسى موضحا لها ‪ :‬أوعى تاكلى من شغل الدقون وال الزبيبة وال البنطلونات القصيرة ‪..‬‬
‫كل ده هجص ونصب دول ناس فاضية من جوه وعقولها مهوية وعايشين فى زمن عكرمة وأبو لهب‬
‫وبعد الثورة جتلهم الفرصة لغاية عندهم وبدل مايجددوا أفكارهم ويعيشوا معانا فى العصر اللى أحنا فيه‬
‫عايزين يرجعونا كلنا لزمن الكفار والمسلمين ‪ .‬بدت مذهولة إزاء برمجة أفكاره وكالمه المرصوص‬
‫الذى يغلفه حماس البداية والتعارف فطوح بها إلى لحظات مشابهة وإلى كالم مطابق سمعته كثيرا فى‬
‫أفالم األبيض واألسود ‪ :‬مش المهم أننا نقول شعارات وال نرص كالم كبير أهم حاجة أن الشباب كله‬
‫الزم يتفق على مطلب واحد ويحارب بكل قوته عشان يحققه ‪ ..‬العدالة ‪ ..‬العدالة فى كل حاجة ‪ ..‬فى‬
‫األكل فى الشرب فى الوظيفة وكمان فى األنسانية ‪ ..‬عشان كده ضرورى الزم تفضل الحالة الثورية حية‬
‫ومستمرة و الزم المظاهرات واألعتصامات والوقفات تبقى كل يوم لغاية ماأهداف الثورة تتحقق كلها ‪.‬‬
‫غير أنها فى أول األمر كانت تغيظه ‪ :‬ما هو أنت أشتراكى ناصرى وشعاراتك دى مكانها المتاحف ‪..‬إال‬
‫إنها عندما سقطت فى بئر أرائه وأفكاره وجرفها تيار التذمر لم تكن تدرك أنه يحصد من وراء تلك‬
‫الشعارات ثمار مازرع فيه بالفطرة ‪ ..‬عن سوء التوزيع ونصيب الفرد والعدالة الغائبة ‪ .‬كالم كثير لم‬
‫تكن تفهمه ‪.‬‬

‫عرضت عليه " بسمة " أن يشاركها وصحبتها برنامجهم اليومى ‪ ،‬فشاركهم فى وليمة فول وطعمية‬
‫على سور الكورنيش ‪ ،‬هناك بدا صامتا كان يشعر أن هذا العالم ليس عالمه على األطالق وبدا طافيا‬
‫بفكره خارج الجلسة بنكاتها وحكاياتها وعند الرحيل كان هناك قرارا مفاجئا أجتمعوا عليه بزيارة خاطفة‬
‫إ لى "مكرم " محل جيالتى شهير برأس التين لم يوافق أمجد ألسباب عديدة ‪ ،‬غير أن " أحمد " أنقذه‬
‫وأعلن على المأل بأنه معزوم بمناسبة خروجه معهم ألول مرة ‪.‬‬

‫مشوا بمحاذاة سور الكورنيش ‪ ،‬تسكعوا وضحكوا ولوثوا زوايا أفواههم بالجيالتى وبدأت الثنائيات‬
‫تتضح ‪ ،‬وأنفصال عن الجميع وتوجها إلى فتحة فى سور الكورنيش ‪ ،‬جلسا على الشاطىء يكتشفان‬
‫صورة البحر من جديد وكأنه أنشأ حديثا ‪ ،‬رسم بأصبعه دوائر وخطوطا على الرمال بينما هى تراقبه‬
‫وتتبع نظراته ‪ ،‬إال أن وجهه المتطلع أدهشها بمالمحه الغاضبة وجبهته العريضة ونظرته الحادة من‬

‫‪115‬‬
‫عيونه العسلية وذلك الشيىء الغامض فيها ‪ ،‬شدها إليه بصمته ‪ ،‬فمنذ دخولها الجامعة تعودت مع الذين‬
‫تجلس معهم أن يستعرض الواحد منهم أهميته وذكائه ويحاصرها بأسئلة عن حياتها الخاصة ‪ ،‬لكن‬
‫أمجد تعمد األستخفاف بكل األسئلة وبالحياة بل وبنفسه بينما هى جسدها ينتفض غيظا من ال مباالته‬
‫وبدا وكأنه ال يريد أن يعرف شيئا عنها ‪ ،‬أنشغل بالها بطريقته وزاد أهتمامها به وحاولت أن تقرأ داخله‬
‫المغلق وكانت إذا لم تحدثه يركن إلى الصمت ‪ .‬أستمرا فى الجلسة ثالث ساعات بكت فيها بسمة وهى‬
‫تحكى له عن أمها المغتربة فى الخليج ‪ ،‬غير أنها فى حقيقة األمر كان بكاؤها لعدم قدرتها على البوح له‬
‫عن مكان أمها فهذا ماحفظته منذ سنوات وأقسمت عليه مع يوسف أمام نورا أن تكون تلك الكدبة هى‬
‫الرواية الرسمية عندما تذكر أمهما في أى حديث ‪ ،‬حكت له عن أحترامها وحبها لنورا األخت‬
‫واألم وعن يوسف األخ والصديق والعمة أيات سجينة غرفتها ‪ ،‬كما أخبرته عن حبها للون األسود‬
‫وكرهها الشديد للسبانخ والقلقاس وعشقها المجنون للممثلة " منى زكى " ولم تخف عنه أعجابها‬
‫بـ " أبراهيم عيسى " لم تجد منه تعقيبا فقطعت سكوته وأنتزعته من جموده بسؤال حشرته داخل حديث‬
‫عشوائى تبحث من خالله عن مفتاح يمكنها من الدخول لشخصيته ‪ :‬ماكلمتنيش عن نفسك عايش فين‬
‫وأزاى وبتفكر فى أيه ‪ ..‬حاجات زى كــده يعنى ؟! ‪ .‬فتح " أمجد " مجاال لحنجرته بأفتعال كحه وهى‬
‫تنتظر ‪ :‬أنا ياستى من عيلة متواضعة جدا على أد الحال والعبد للـه هو الكبير وأخويا سامح الصغير‬
‫وريم أختى الوسطانية ومعانا هنا فى الجامعة بس كلية أداب سنة تانية وأمى ست بيت غلبانة مكافحة‬
‫شبه ستات كتيرة بتقابليهم كل يوم وأنت ماشية فى الشارع ‪ ،‬أمى من الصنف اللى دايما تالقيه‬
‫واقف فى طابور العيش أو تشوفيها أخر النهار وهى راجعة من السوق بعد ما أشترت بواقى الخضار‬
‫والفاكهة ‪ ..‬على أد فلوسها ‪ ،‬أمى طول الشهر بتحاور األيام وبتحايلها عشان المليمين اللى بتأخدهم‬
‫من أبويا يقدروا يكفونا أكل وشرب ‪ .‬لم تفارق عيناه وجه بسمة قبل أن يعيد رسم مالمحه بضحكة‬
‫عارضة ‪ .‬تابع ‪ :‬نسيت أقولك أن أبويا كان بيشتغل فى شركة النحاس وخدم فيها ثالثة وعشرين سنة‬
‫ومن تالت سنين بس ربنا كرمنا بثروة ماكانتش على البال ‪ .‬رمقته فى أستغراب ‪ :‬طلع لكم ورث !‬
‫هرش رأسه ليصيغ لها واقعا ‪ :‬الحقيقة هو مش ورث ‪ ،‬الشركة عطته مكافأة سبعة أالف جنيه وطلعته‬
‫معاش مبكر ‪ ..‬جحظت عينيها حين سمعت الكلمة األخيرة ‪ :‬يعنى خصخصة ‪.‬‬

‫ــ تمام هى خصخصة ‪ .‬أردف دون أن يلتقى بعينيها ‪ :‬ونص المكأفاة طارت فى أول شهرين لما أبويا‬
‫قرر يعمل تستيكه للسطح عشان أحنا ساكنين فى أخر دور والشتا لما بييجى علينا بنبقى تقريبا عايشين‬
‫تحت مصفة ‪.‬‬
‫‪116‬‬
‫أصغت إلى أحالمه عن السفر إذ تعذر دخوله مجال التمثيل ‪ ،‬كما اخبرها عن تفكيره فى األنضمام لحركة‬
‫األشتراكيين الثوريين ثم أفشى لها عن " مسج " على موبايله من شركة موبينيل تقدم عرضا " أشحن‬
‫بعشرة جنيه وأتكلم مجانا من منتصف الليل إلى ظهيرة اليوم التالى " فهمت مقصده وعرفت أن للحديث‬
‫بقية بـ " أبو بالش " ‪ ..‬تكلما فى أناء الليل وحتى أطراف النهار وقابلته طيلة األسبوع ‪ ،‬كان يفكر فيها‬
‫كثيرا ويقترب منها وتطورت العالقة ونمت بسرعة كنبات اللبالب ‪ ..‬أسابيع قليلة كانت كافية ليفرج‬
‫أمجد عن شخصيته الحقيقية بعد أن جاهد فى أن يقمعها داخله ‪ ،‬فهو معروف فى الوسط الجامعى‬
‫بكفاءته المشهودة فى المدح والقدح والكر والفر طبقا للظروف ومقتضيات الحال وتطويع قدراته على‬
‫األستفادة من األحداث واألشخاص ‪ ،‬وألسبابه الخاصة من ميراث الفقر والعدم وجد أن بسمة فرصة ال‬
‫يجب أهدارها خاصة وأن الـ " سى فى " التى تملكه ملىء بالكنوز ‪ ..‬أمها فى الخليج من سنوات ومن‬
‫عائلة عريقة ومن وسط راقى ‪ ،‬فكان يقتحمها بشكل سافر وكان بطبعه وأفكاره يدرك أنها ليست تحفة‬
‫وليست فلتة ‪ ،‬فهى ال أكثر من رعناء مخترقة أو أية صيغة من الصيغ ذات األبعاد الملغومة ‪ ،‬هذا هو‬
‫أعتقاده ‪ ..‬عقدة الفقر والعوز جعلته كالحصان الملجم تركبه المصلحة الشخصية ‪ ،‬فهو قادر‬
‫وبأمتياز على أخفاء نواياه الحقيقية فى قالب من السخرية الالذعة والنكتة المحبوكة بحيث ال يعرف أحد‬
‫مقصده ‪ ،‬فكان مصدر حيرة بالنسبة لها ‪ ،‬غير أنها لم تستسلم بدافع الحب وتقمصت دور طبيبة فى‬
‫لتستخرج‬ ‫معمل تحاليل فأخذت عينات متعددة من شخصيته المركبة ووضعتها تحت الفحص الدقيق‬
‫النتائج تباعا وعلى ضوئها تحدد الدواء ‪ ،‬فحين تراه غاضبا على كل شيىء متمردا وفى كالمه دخان‬
‫يتصاعد مثل قدر يغلى وعندما تشعر به مأزوما حادا وال يجد مكانا يتنفس فيه ‪ ،‬كانت تفسح له مخرجا‬
‫أو طريقا قبل أن توقفه فى مواجهة مع أوجاعه النفسية وحرمانه المزمن من الشعور بالسعادة فكانت‬
‫مقنعة وبارعة فى حديثها ‪ :‬نفسى أعرف سبب واحد لكمية الغضب اللى جواك ‪ ..‬أنت ليه مش عايز‬
‫تفهم أن الدنيا اللى حواليك كلها أتغيرت وماعدش فيه دلوقتى أنا أبن مين وال ده وضعه أيه ‪ ..‬خالص‬
‫الليلة دى عدت وخلصت وكله بقى شبه كله ‪ .‬غير أنه كثيرا ما يشعر أن األمور ال تجرى على النحو‬
‫الذى يرضيه ‪ ،‬دائما تلبسه غريزة حاقدة عنيدة كانت تدفعه إلى التمرد على كل األوضاع ‪ .‬فتراجع لحم‬
‫خديه إلى الداخل وتقلصت مالمحه وبدا كالشيخ المريض ‪ :‬عندك حق فى اللى قلتيه أنا فعال أرفان‬
‫وغضبان من كل حاجة ‪ ..‬من الفقر والعيشة الجبس والمستقبل اللى مالوش مالمح وحال البلد اللى ال‬
‫يسر عدو وال حبيب ‪ .‬قاطعت بكلمة " بس " إال أنه أوقفها بنبرة محتدة ‪ :‬مافيش بس ‪ ..‬أنا لو فى‬
‫مكانك ووضعى زى وضعك وساكن فى حتة راقية وأمى بقالها سنين فى الخليج وعيشتى مرتاحة كنت‬

‫‪117‬‬
‫برضه حأتكلم زيك كده وحأعيش دور الواعظ اللى عمال ينصح ويدى تعليمات ‪ ..‬هزت رأسها وثبتت‬
‫نظرتها فى وجهه ‪ :‬أنت محسسنى بأنى جاية من كوكب تانى ‪ ..‬واللـه يابنى الكالم ده خلص من زمان‬
‫وأنتهى من أيام فيلم رد قلبى والدليل على كده أنى لما عرفتك ما كانش فارق معايا أنت غنى وال فقير‬
‫كل اللى يهمنى أنى بأرتاح معاك وشايفة أن جواك حاجات كتيرة كويسة مع أنى عارفة عيوبك وحافظاها‬
‫كويس لكن فى حاجة بتشدنى ليك ‪ .‬بعد ما راثون طويل من المكالمات واللقاءات جاءت اللحظة الحاسمة‬
‫وفى نفس موقع لقاءهما األول على سور الكورنيش حين حدق فى عينيها وأدلى بأعترافه التاريخى ‪:‬‬
‫أنا بحبك يابسمة ‪ .‬وضعت كفيها على خديها وأغمضت عينيها ‪ :‬ياربى أخيرا قلتها ‪ .‬قطعا معا كل أشواط‬
‫الرومانسية ‪ ،‬كان يمثل أمامها كل شيىء كما كانت تمثل له ‪ ،‬عرفت من خالله أشياء وأشياء وكانت‬
‫تنقل له كل ما يدور حولها ومع زمالئها ‪ ،‬بينما يلقى لها برؤيته عن الدنيا واألحداث فتشابكت األراء‬
‫وتفاعلت فى نوع من الفوضى الجميلة والحب المتمرد من خالل لقاءات شبه يومية داخل الجامعة بينما‬
‫تكفلت بسمة بدفع فاتورة لقاءاتهما الخارجية التى جمعتهما فى " ماكدونالذ" ومطعم العربى أخصائى‬
‫الكبدة األسكندرانى أوفى كافيهات الداون تاون دون أن تجرحه بينما كان هو ينتقى أيام معينة يختارها‬
‫بعناية ليرد لها فيض العزايم فكانت المرة األولى فى شهر أبريل من العام الماضى ويومها لم‬
‫ينفق من جيبه بل من حنجرته حين سارا سويا فى مظاهرة ضخمة الى المنطقة الشمالية العسكرية‬
‫بـ " سيدى جابر " وهى تردد معه ‪ :‬يسقط يسقط حكم العسكر ‪ .‬والثانية كانت فى ديسمبر الماضى أمام‬
‫مسجد القائد أبراهيم حين تشابكت أيديهما وسط جموع تنادى ‪ :‬أرحل يامرسى ‪ .‬شعرت معه أنها‬
‫مسلوبة األرادة فأستكانت لهذا الشعور على الرغم من أدراكها الكامل لطبيعته ‪ ،‬بينما كل من حولها أكد‬
‫لها أنه متغير المزاج أنانى الطبع ‪ ،‬أنصتت لنصيحة صحبتها ولم تقتنع بل دافعت عنه بأستماتة أمام‬
‫أحمد وساندى وجادلت نور بعصبية ووافقت مكرهة كى تهدأ ثورة "باسم " بهزة من رأسها قبل أن‬
‫تؤكد لهم بملل أنها تقيم الموقف ‪ ،‬كانت أجاباتها نابعة بأنها أصبحت مسئولة عن نفسها وعن تصرفاتها‬
‫وليست فى حاجة إلى نصيحة ‪ ،‬لقد تسلمت نفسها منهم ‪ ،‬لم تكن تعلم أنه تغلغل فى كيانها الى هذه‬
‫الدرجة وأنه أستولى على وعيها كامال ‪.‬‬

‫‪00000000000000‬‬

‫فى غرفته البيضاء ذات السرير الوحيد المجاور لـ " كومودينو" تزينه أباجورة نحاس بدون لمبة‬
‫ومكتب صغير بجوار النافذة يلهث فوقه جهاز كمبيوتر لم يرحمه "يوسف " منذ عامين وأمامه كرسى‬

‫‪118‬‬
‫جلدى ‪ ،‬معلق على ظهره فردتين شراب " بيج " بينما أرضية الغرفة زرعت بالكتب وأدوات الهندسة‬
‫ومذكرات الكورسات ‪ ،‬نغمة غربى صاخبة أندفعت فجأة فى حالة هيجان تصاعدى من موبايل يوسف‬
‫الذى سلم نفسه للنوم متأخرا فبدت مالمحه وكأنه فى حالة موت سريرى بينما تسربت النغمات الملحة‬
‫إلى مركز األحساس فى مخه الذى أستقبل الرنات بكرمشة وجهه قبل أن يجاهد فى فرده كمريض فى‬
‫غرفة أفاقة بعد أجراء عملية وهو يتحسس بأصابعه مكان الموبايل حتى سحبه من على الوسادة ‪ ،‬شق‬
‫جفنيه بصعوبة محاوال طرد غشاوة علقت بعينيه وقرب شاشته لحدقتيه كأنه يعانى قصر نظر ‪ .‬أستعاد‬
‫وعيه ‪ :‬أيوه ياهدير ‪ .‬قالها بنبرة من يحتضر بينما أتاه صوتها مغلفا بنشاط وحيوية مبالغا فيها ‪ :‬أنت‬
‫لسه نايم لغاية دلوقتى يايوسف ‪.‬‬

‫ــ صباح الخير ياهدير ‪ ..‬أنتى فين ‪ .‬كشفت عن موقعها بضحكة ‪ :‬أنا هنا عندك ياأستاذ واقفة قدام‬
‫مدخل العمارة ‪ .‬أستقبل جملتها بتعبيرات غامضة ‪ ،‬غير أنه قام من سباته كمن تلقى نفيرا فى أذنيه ‪..‬‬
‫هبط من سريره يترنح كتائه فى الصحراء متجها للنافذة ‪ ،‬دفع الشيش بكف يده متقمصا دور ضابط‬
‫صاعقة فى مهمة أقتحام ‪ ،‬وارب جفنيه لصد هجمات ضوء النهار ثم دار بنظراته يبحث حتى ألتقط‬
‫مكانها كجهاز أستشعار ‪ ،‬كانت تقف أمام سيارتها " الالنسر" رافعة رأسها نحوه بينما الشمس تضىء‬
‫وجهها فتبادل معها األشارات وهو يحدثها ‪ :‬خمس دقايق وأكون عندك ‪ ..‬سالم ‪.‬‬

‫رمى الموبايل على السرير وتعرى من " الترنج " ثم بلغ باب غرفته بالبوكسر ومنها الى الحمام وكأنه‬
‫فى سباق للتتابع ‪ ،‬أختزل طقوس برنامجه الصباحى فى الحمام وخرج منه سريعا متجها الى غرفته‬
‫ليضع رجليه فى بنطلون جينز أسود ويستر لحمه بقميص أبيض مطلقا سراحه حتى " الهنش" ‪ .‬غادر‬
‫غرفته مسرعا قاطعا الصالة بأتجاه باب الشقة قبل أن يتفادى فى طريقه " نعمة " القادمة من رحلة‬
‫عودة من المطبخ إلى غرفة أيات ‪ :‬مالك يابنى متسربع ليه كده ع الصبح ‪.‬‬

‫ــ معلش يانعمة كملى أنتى مشوارك ‪ ..‬طريقك أخضر ‪ .‬خرجت نورا من غرفتها تستطلع وهى تسد أخر‬
‫زرار فى بلوزتها أستعدادا للخروج ‪ :‬صباح الخير يايوسف ‪ ..‬مالك مستعجل ليه ؟ أستدار ناحيتها قبل‬
‫أن يبلغ الباب متجنبا الخوص فى التفاصيل ‪ :‬هدير مستنيانى تحت العمارة ‪.‬‬

‫ــ هو أنت مش النهاردة عندك تدريب فى المكتب اللى بتروحه مع هدير ‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫ــ أيوه يانورا ‪ ..‬خرجت عمته أيات هى اآلخرى من غرفتها تزامنا مع جملته األخيرة تقف عند عتبتها‬
‫ككائن محنط داخل روب زهرى ‪ :‬ماتنساش تسألى يايوسف عن سيديهات مزيكا جديدة تكون نزلت‬
‫السوق ‪ .‬بنبرة ضيق ‪ :‬حاضر ياعمتى ولو مالقيتش حأبقى أجيبلك حاجة للشيخ محمد حسان ‪ .‬فتحت‬
‫شفتيها ثم أطبقتهما بسرعة وكأنها تبتسم فى حين أقتربت منه نورا تلقى عليه نظرة فاحصة قبل أن تمد‬
‫يدها فى حقيبتها ‪ :‬خد يايوسف الخمسين جنيه دى ‪.‬‬

‫ــ مصروفى لسه ماخلصش يانورا ‪.‬‬

‫ــ ماشى ياعم المهندس يمكن تعزم هدير على حاجة يكون نفسها فيها ‪ ..‬طوفى وال أرواح ‪ .‬قابلها‬
‫بأبتسامة مع نظرة أخيرة قبل أن يدسها فى جيبه ثم رحل بعدما رفع يده بالسالم متلقيا منها نصيحة‬
‫كل يوم ‪ :‬خلى بالك على نفسك يا يوسف ‪.‬‬

‫أحتار لثوان قبل أن يحدد بوصلته باألتجاه للمصعد أو قفز الساللم ‪ ..‬أختار األخيرة وأندفع فى السباق ‪.‬‬

‫فى تلك اللحظة أنتفض " أنور" متجها إلى سيارة هدير تحمله ساقين قصيرتين مرتديا قميصا أكبر من‬
‫مقاسه تحته بنطلون ال يبلغ نصف ساقيه ‪ ،‬هو شاب ريفى وارد " أبو حمص" أستعان به نوح ليقوم‬
‫بحراسة العمارة ليال ‪ ،‬دار حول سيارتها يطوقها مسحا وفى نهاية كل مسحة يرسل نظرة إلى وجهها‬
‫ليتأكد من رضاها عن عمله ‪ .‬لمحت يوسف يقترب من مدخل العمارة فأخرجت نصف رأسها من شباك‬
‫السيارة وأبتسمت له وهى تشده نحوها بنظراتها ‪.‬‬

‫أجتاز المدخل ‪ .‬الهدف باب السيارة قبل أن يلوى رقبته ناحية أنور ‪ :‬الحساب ده عندى ‪ .‬أقتحم السيارة‬
‫منحنيا ثم أخذ يزحف بجسده على الكرسى مسندا رأسه على حافته بينما اليزال يقاوم خدر المفاجأة ‪.‬‬
‫سألها وهو مغمض العين ‪ :‬أيه المفأجاة الجامدة دى ‪ .‬بنظرة ركنية ‪ :‬بجد يايوسف ‪.‬‬

‫ــ طبعا ‪ .‬رائحة عطرها تمأل فراغ السيارة فى حين خطفت لقطة سريعة من وجهه عندما أحست‬
‫بحشرجة صوته ‪ :‬أنت لسة نايم وال أيه ؟ قالتها وأستقامت بوجهها لتدفع بعصا الفيتيس ثم اندفعت‬
‫محاذرة وسط صفى سيارات على الجانبين ‪ ،‬أدارت الكاسيت على مقطوعة موسيقية هادئة وسارت‬
‫السيارة مثل نصل يخترق جسد ميت ‪ .‬ترد خصلة شعر حركها الهواء أمام عينيها ‪ :‬أنا قلت أعدى عليك‬
‫نروح المكتب سوا ‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫ــ واللـه رحمتينى من الزحمة والمواصالت ‪.‬‬

‫ــ معلش يابنى أتحمل شوية هو فى حد اليومين دول يالقى مكتب زى بتاع المهندس ناجى يتدرب فيه ‪..‬‬
‫متتبطرش ياباشمهندس ‪.‬‬

‫عدل من وضع جسمه ‪ :‬أتبطر ‪ ..‬يتقطع لسانى لو ده قصدى ولوالكى ماكانتش جتلى الفرصة دى أبدا ‪.‬‬

‫ــ أنت تأمر ياباشا وأحنا خدامينك بس ماتنساش تدعى للحاج أحمد أبويا وبالمرة لماما ‪ .‬كرر كلمتها‬
‫األخيرة بلكنة محبطة ‪ :‬ماما !!‪ .‬لم ينس أبدا ذلك اليوم عندما تلقى مكالمة موجزة وبصوت متعب قالت‬
‫فيها هدير ‪ .‬مش حأقدر أجى المكتب النهاردة يايوسف ‪.‬‬

‫ــ خير ياهدير فى أيه ‪.‬‬

‫ــ تعبانة شوية ‪ ،‬ياريت تجيبلى نماذج التدريبات ورسومات الموقع ‪.‬‬

‫بنبرة منزعجة ‪ :‬أجيبهم فين ؟! ‪.‬‬

‫ــ عندنا هنا فى البيت ‪ .‬تقمص هيئة الشاب المندهش الخجول ‪ :‬أزاى بس أجى عندكوالبيت ‪ ..‬باباكى‬
‫ومامتك حيقولوا أيه !‪ .‬فاجأته ‪ :‬أيه يابنى الكالم الخايب ده هو أنت فاكرنا عايشين فى زمن الطرابيش‬
‫وال أيه ‪ ،‬طبعا مش حيقولوا حاجة وكمان الزم تفهم ياأستاذ أن اللى بينى وبينك من بدايته لغاية دلوقتى‬
‫بابا عارف كل تفاصيله ‪.‬‬

‫ــ عارف كل تفاصيله ‪ .‬قالها ببالهة ‪.‬‬

‫ــ يابنى الحاج أحمد أبويا ده صاحبى وحبيبى وما أقدرش أخبى عنه حاجة ‪ .‬فى حين أنها دائمة التحفظ‬
‫فى سرد تفاصيل عالقتها بيوسف ألمها ‪ .‬ولما أستشعر جديتها لم يقدر على كبح جماح دهشته فتخلى‬
‫عن أداء دور الشاب الرصين وخاطبها ‪ :‬أنا جاى على طول مسافة السكة ‪.‬‬

‫حمل الرسومات ونماذج التدريبات وأتجه بها إلى منطقة سموحة حيث المقر الرسمى ألقامة أسرتها ‪،‬‬
‫وجدها فيال بالغة الفخامة ‪ ،‬لها جدران خارجية مغطاة بالطوب الفرعونى ‪ ،‬بينما كانت هدير منتظرة فى‬
‫شرفتها المطلة على ممر طويل مزروع بالخضرة ‪ ،‬ولما رأته مالت بخدودها المشتعلة نحو السور تشد‬
‫خصرها ليهب صدرها عليه ‪ ..‬أستقبلته أمها فى وجوم عند باب الفيال بوجهها الدسم األبيض وبعينين‬
‫‪121‬‬
‫واسعتين ثابتتين فى مكانهما كأنهما عيون ميتة وحجابا يدور حول رأسها دون رقبتها وهو أمامها‬
‫واقف كالصنم فاردا ذراعيه فى استقامة وقد رص فوقهما الرسومات والنماذج كقاتل سلم نفسه‬
‫لمطارديه حامال كفنه ‪ .‬قالت دون أن تبتسم ‪ :‬أهال ‪ ..‬أتفضل ‪ .‬وضعته كلماتها ذات النبرة الناشفة فى‬
‫صميم الخوف المربك ‪ .‬تعثر ‪ :‬شكرا مش حأقدر عشان مستعجل ‪ .‬قالها وهو يبحث بعينيه خلفها عن‬
‫هدير التى سمع وقع أقدامها تندفع من الطرقة نحوهما ‪ .‬لحظات وكانت محشورة بينهما كأنها تزود عنه‬
‫وأصرت على أصطحابه للداخل بينما كان أصراره على الرفض أشد مبديا أسباب واهية لم تقنعها ‪ ،‬غير‬
‫أن سبب رفضه الحقيقى هو شعوره المتنامى بأن أمها ترفضه تماما وال تستسيغه فأثر السالمة وعدم‬
‫الخوض فى حالة حرج قد تخدش كرامته ‪ ،‬فهى نوع من النساء مغرور متكبر وحدود شخصيتها ومنطق‬
‫تفكيرها ينحسر فى تزويج أبنتها من مهندس قدير غنى وليس طالبا على وشك التخرج مستندة فى ذلك‬
‫على المعلومات الشحيحة التى انتزعتها من على لسان أبنتها فزادت تصلبا وتمسكت بالرفض الشديد‬
‫خاصة أنها تجد غرابة وعدم راحة فى كون أمه فى حالة سفر دائم ومتصل منذ سنوات فى الخليج بينما‬
‫أوالدهافى رعاية وكفالة عمتهم كما أنها لم تبتلع مهنة نورا أخته ودائما ماتكرر على أسماع أبنتها‬
‫بصيغة المعايرة ‪ :‬يعنى بتشتغل خياطة ‪ .‬كانت تلك مجموعة أسباب أستندت إليها أمها ولم يشفع عندها‬
‫ساللة الباشوات والبهوات التى ينحدر منها ‪.‬‬

‫ولما دخل ‪ ،‬برقت فى وجهه المرايا التى تكتسى بها الطرقة المؤدية إلى الريسبشن الضخم ‪ ..‬يمرعلى‬
‫سجاد تغوص فيه األقدام قبل أن يلفح وجهه هواء بارد لعله التكييف ‪ .‬كان يتبع خطوات هدير وكأنه‬
‫يسير فى حراستها بعد أن أختفت أمها من خلفها ‪ ،‬أختار أول مقعد صادفه فى حجرة األستقبال ‪ ،‬بدا‬
‫داخله ضئيال حين جلس ‪ ..‬دارت عيناه تمسح المكان وتشاغل بالنظر فى اللوحات المعلقة التى وضعت‬
‫جميعها فى أطر مذهبة لتنسجم مع أثاث الصالون الكالسيكى فدعته هدير لمشاهدتها عن قرب ‪ ،‬اللوحات‬
‫معظمها زيتية مرسومة بحرفبة عالية ‪ ..‬خطوطها صريحة ‪ ..‬أشجار خضراء يجرى وسطها شالل مياه‬
‫يتدفق فوقه سرب طيور لم يعرف هويته ‪ ،‬لم يكن فيها أية تعقيدات وكأنها تنتمى الى زمن لم يضطرب‬
‫بعد ! ثم نقل نظراته المرتبكة بين اللوحات دون فحص حقيقى بينما شعرت هدير تجاهه بنوع من‬
‫األشفاق على أرتباكه قبل أن يعود إلى مقعده صامتا بعد جولته السريعة فى حين أختارت هى مقعدا فى‬
‫مواجهته تبادله الصمت ‪ ،‬حاول فى كل مرة أن ينطق فيها وأن يعتذر عن صمته الذى طال حتى أسكته‬
‫دخول " نجاة " وهى خادمة من بين ثالث خادمات يخدمن فى الفيللال تحمل صينية يشع منها بريق‬
‫مفضض ويتوسط فراغها كأس عصير بلون أحمر ‪ .‬مدت له الكأس ‪ :‬شكرا ‪ .‬تذوق ما فيه برشفة‬
‫‪122‬‬
‫صغيرة ‪ ،‬قلبها فى حلقه ‪ ..‬أستحسنها فأفرج عنها لتمضى فى جوفه ‪ .‬راقبته واألبتسامة تداعب‬
‫عينيها ‪ :‬أشرب يايوسف ده عصير كراز ! رفع حاجب واحد ‪ :‬طعمه جميل جدا ‪ .‬أنتبهت لقدوم والدها‬
‫الذى دخل بهدوء وقد أحاطت وجهه أبتسامة زادت من حمرته ‪ ،‬رجل ستينى بدا أنيقا فى بدلة فاتحة‬
‫اللون من دون كرافت ‪ ،‬له مالمح متفائلة وشعر فضى ناعم صففه على طريقة الممثل الراحل‬
‫" سليمان نجيب " ‪ .‬لم يمهله يوسف فرصة الوصول إليه فسبقه وتحرك نحوه يمد كفه مصافحا ‪ :‬أزى‬
‫حضرتك يافندم ‪.‬‬

‫ــ أهال ياباشمهندس ‪ ..‬أيه النور ده ‪.‬‬

‫فرغا من المصافحة وبادره يوسف بتصريح دفاعى ‪ :‬الحقيقة هدير طلبت منى أجيب لها رسومات من‬
‫مكتب المهندس ناجى عشان هى تعبانه شويه ‪ .‬ربت على كتفه ‪ :‬أقعد ياباشمهندس ‪ ..‬ده بيتك ياأبنى‬
‫وفى أى وقت أهال بيك ‪ .‬تحركت بأتجاه والدها ومالت برأسها على كتفه قبل أن تفلت منها ضحكة التزال‬
‫فى مرحلة التكوين ‪ ،‬إال أنها حبستها بأشارة من عينى يوسف ‪ :‬من أول مادخل يابابا وهو ساكت‬
‫ومتل خبط وملخبطنى معاه !‪ .‬التقت على هذه الجملة عيونهما وقد أحمرت بشرته بينما ظهرت أبتسامة‬
‫طيبةغطت مالمح الحاج ‪ :‬ليه كده يايوسف ‪ ..‬دى هدير دايما بتكلمنى عنك وعن ثقتك فى نفسك ‪.‬‬

‫ــ ربنا يخلى حضرتك ‪ ..‬هدير هى اللى مزوداها حبتين ‪ .‬جلس بجوارأبنته وأستهل حديثه وعيناه‬
‫مركزتان على الرسومات ‪ :‬هانت ياوالد كلها شهرين تالته وتتخرجوا ‪.‬‬

‫ــ ربنا يسهل حضرتك ‪.‬‬

‫ــ تقريبا هدير قالتلى أن مالكش أخوات صبيان ‪ .‬ضاقت عيناه ‪ :‬أيوه ياعمو ‪.‬‬

‫ــ يبقى مالكش جيش ‪ ..‬يعنى أن شاء اللـه تبدأ شغل على طول ‪ .‬فتح عينيه يرسل نظرة طموحة ‪ :‬ربنا‬
‫يبعت ياعمو ‪ .‬توقفت الكلمات حين ظهرت أمها فجأة بعد أختفاءها ‪ ،‬تتهادى إلى داخل حجرة الصالون‬
‫ورأسها المرفوع ناطقا بالكبرياء والتحفز ‪ ،‬صافحته باشارة من رأسها وتقبلت تحيته بتكلف فى حين‬
‫أدار الحاج أحمد حديثا محببا إلى قلبه ‪ ،‬راح يشرح بداياته األولى وخطوات نجاحه المتتالية كمن يقدم‬
‫" سى فى " للحصول على وظيفة ‪ :‬أنا يابنى من أول الناس اللى حطيت أيدى فى شغل هنا فى منطقة‬
‫سموحة ‪ .‬رفع عينيه للسقف مستدعيا جغرافية المنطقة ‪ .‬أردف ‪ :‬ماكانش فيها غير شارعين أسفلت‬
‫واحد يودى لجنينة الحيوانات والتانى لعزبة سعد والباقى كله عبارة عن أرض مافيهاش غير برك ميه‬
‫‪123‬‬
‫وزرع شيطانى وبوص ‪ .‬ينصت يوسف كطالب فى محاضرة دون أن ترمش عينه بينما الحاج يشير‬
‫بأصبعه بأتجاه الشرق ‪ :‬التالت عمارات اللى عند المدينة الجامعية كانوا أول شغلى فى المنطقة الكالم‬
‫ده كان فى نص السبعينات واللى كان بيشرف على الشغل بتاعى المهندس ناجى اللى أنتو بتدربوا عنده‬
‫دلوقتى ‪ ..‬والحمد للـه بعدها العجلة مشت وبقى عندى فى سموحة برج فى كل شارع ‪ .‬أختلفت مالمحه‬
‫وظهرت ثالث خطوط طولية على جبهته عالمة تجهم وضيق حين عاود كالمه ‪ :‬أيامها عمرنا ماسمعنا‬
‫عن بيت بيقع وال عمارة بتميل كان فى ضمير وأخالق ومهنة المقاول كانت لها شنة ورنة الواحد منهم‬
‫يبقى واقف فى مكانه زى األسد يخاف على شغله وسمعته ‪ ،‬حتى المهندسين زمان كان فيهم الهيبة‬
‫واألخالص ناس بتعمل شغلها صح وع المسطرة والمهندس اللى كان أسمه يتحط على يافطة أدام عمارة‬
‫بتتبنى كان أحسن من مليون رخصة ‪ .‬أنهى حديث الذكريات بخبطة من كفه على فخذه ‪ :‬آه زمن !‪..‬‬
‫بينما زوجته تتلوى وتزوم فى حين تفاعل يوسف وزالت رهبته ‪ :‬كالم حضرتك مظبوط بس ماتنساش‬
‫أنه زمانكم ماكانش فيه فهلوة وال بلطجة كان كل واحد عارف اللى له واللى عليه ‪.‬‬

‫ــ أبدا يابنى كان برضه فى زمنا فيه الحلو والوحش بس ماكانتش منتشرة بالطريقة بتاعة دلوقتى‬
‫دى ‪ ..‬تبحث لها عن دور فى الحوار‪ .‬قالت هدير ‪ :‬أنت راجل أصلى ياحاج أحمد يابتاع زمان وبتاع‬
‫دلوقتى ‪.‬‬

‫ــ أنتى شايفه كده ياهدور ‪ .‬زادت نبرة الجد فى صوتها ‪ :‬طبعا ده أنت مافيش زيك فى الدنيا‬
‫كلها ‪ .‬قالتها و تعلقت عيناها بوجه أمها عند نهاية جملتها ‪ :‬وطبعا ماما كمان ‪ .‬همسات خفيفة مدروسة‬
‫خرجت منها بتململ ‪ :‬مرسيى ياحبيبتى ‪ .‬بينما يوسف يراقبها وقد أقتحمته حاالت الجفاف ‪ ،‬لم يرفى‬
‫وجودها سبيال إال ترديد لكلمات المجاملة ‪ :‬طبعا دى األم عماد البيت ‪.‬‬

‫ــ عماد البيت وال عماد حمدى ‪ " .‬أفييه " همست به هدير فى أذنه قبل أن تلحقه بأشارة من أصبعها‬
‫كى يفتح مجاال للحوار مع أمها ‪ ،‬أضطربت قصاحته المعهودة وهو يحاول التودد اليها ‪ :‬هدير دايما‬
‫بتكلمنى عن حضرتك وأد أيه بتحبى النظام والترتيب ‪ .‬لم ير تعبيرا واضحا على مالمحها فزادها بيتا ‪:‬‬
‫ياريت الناس دلوقتى يبقى عندهم الصفات دى ‪ .‬أبتسامة غير كاملة لم تكشف إال عن أسنانها فى الجانب‬
‫األيسر ثم زمت شفتيها وأرخت جفنيها وعقدت حاجبيها وكأن جبهتها عليها حجر ثقيل فى حين دار‬
‫حديث جانبى بين هدير ووالدها حول وعد كان قد قطعه على نفسه بتغيير سيارتها بينما أراد يوسف‬
‫معاودة محاولته فى أستمالة أمها ‪ ،‬وما أن تقع عينه على سحنتها إال ومر بأصبعه على رقبته حول‬
‫‪124‬‬
‫العنق ‪ ،‬زاد شعورة باألختناق وهو محاصر بال حيلة أمام نظراتها الثابتة فى وجهه وكأنها تعرف كيف‬
‫ومتى ستنتهى تلك العالقة التى تمسك بأطراف خيوطها جيدا ‪ ..‬هرب بنظراته إلى ملجأ األمان حيث وجه‬
‫هدير ‪ ،‬باشرت عينيه عملها فى تقاطيعها قبل أن تنزلق منه إلى النهدين الحبيسين المرفوعين ‪ ،‬لذة‬
‫حسية تنسيه إلى حين الحصار المضروب حوله بنظرات أمها القاسية ‪ ..‬أنتبهت هدير إلى مدى نظراته‬
‫فأستقبلتها بغمزة ‪ :‬منور واللـه ياباشمهندس !!‪.‬‬

‫نصف ساعة مرت ‪ ،‬وماكان بالجديد إال أسم "مدام هدى " والذى تردد فجأة وعن قصد على لسان‬
‫أمها ‪ ،‬فكهربته وهى تستفسر ‪ :‬من يوم ما هدير دخلت الكلية من خمس سنين وهى بتقولى أن مامتك‬
‫فى األمارات ‪ ..‬أزاى مافكرتش ولو مرة واحدة أنها تنزل أجازة تطمن عليكم وتشوفكم ‪ ..‬متهيألى دى‬
‫حاجة غريبة أوى ؟!‪ .‬أستجمع كلماته فى تبرير تدرب عليه سابقا ‪ :‬بصراحة ياطنط ماما كل سنة بتبقى‬
‫عندها النية تنهى العقد بتاعها وترجع ‪ ..‬لكن زى ماحضرتك شايفة ظروف البلد بقت عاملة أزاى ‪ ..‬بس‬
‫إن شاء اللـه بعد ماأتخرج هى حترجع وحتبقى فى وسطتنا ‪ .‬أرتفع الجفنان الثقيالن عن عينيها‬
‫الواسعتين تبحثان عن عينيه ودون أن تدرى كانت نظرتها فاضحة لسريرتها وهى تضغط على الكلمات‬
‫فى تأفف ‪ :‬واللـه ده زمن العجايب !‪ .‬لمحت هدير فى وجهه ومضة ذعر شعر بها أيضا والدها الذى‬
‫أستعان بعبارات ملطفة ‪ :‬هانت يايوسف إن شاء اللـه لما تتخرج األمور كلها حتتغير وحتبقى أحسن‬
‫وأنا متأكد أنك حتبقى مهندس جامد أوى ‪.‬‬

‫أنهى يوسف جلسته مكتفيا بتلك العبارة ومشى مع والدها حتى منتصف الريسبشن ثم تابع منفردا بعد‬
‫مصافحة وداع حارة قبل أن تتسلمه هدير عند باب الفيال بنظرة طويلة مصحوبة بكلمتين ‪ :‬بحبك‬
‫يايوسف ‪ .‬بادلها نفس التعبير من خالل عينيه العميقتين بينما أمها تراقب مغادرته من مكانها وتتابعه‬
‫خطوة بخطوة ‪.‬‬

‫الشمس تزاوله من خالل زجاج السيارة فيغير وضعية وجهه تفاديا لتسلطها السافر بينما أنتاب هدير‬
‫ضيق أعلنت عنه بأنفعال ‪ :‬واللـه العظيم ده أطول وقت قضيته فى أشارة مرور من يوم ماأتعلمت‬
‫السواقة على أيد عم " سالمة " سواق العائلة‪ .‬لم يتبق فيه إال صوت متذمر حين عقب يوسف بنفاذ‬
‫صبر ‪ :‬أنا قلتلك أمشى من شارع بورسعيد أسهل ‪ .‬تكورت خديها على أثر نفخة قوية ‪ :‬وأنا كنت أعرف‬
‫منين أن بتوع الميكروباص حيقطعوا طريق الكورنيش ‪ .‬أتخذ العقاب الجماعى ساعة كاملة أنهارت‬
‫خاللها حيويتها وتالشى نشاطها وبدت مستسلمة لقدرها كما تراجعت رأس يوسف الى مابين كتفيه‬
‫‪125‬‬
‫أنتظارا للفرج قبل أن يتم فك الحصار فجأة ودون ترتيب بعد ورود أخبارية عن توافر " البنزين " فى‬
‫ثالث محطات بنزين بشارع أبو قير ‪.‬‬

‫أغلقت كاسيت السيارة وسارت ببطء بمحاذاة الرصيف تبحث عـن مكان لتركن فيه ‪ ،‬خرجــا من السيارة‬
‫مصابان بانحناءة فى الظهر و أجتازا مدخل العمارة بعدما رمى يوسف بنظـــرة مستفسرة لعم " جودة "‬
‫البواب ‪ :‬صباح الخير ياعم جودة ‪ ..‬المهندس ناجى وصل ‪.‬‬

‫ــ ده جه من بــدرى وخـــرج من شوية مع الباشمهندسين سحب نفسا محبطا وأتجه لألسانسير وهى‬
‫تتبعه ‪ :‬عاجبك كــده آهو الراجل جه ومشى ‪ ..‬مين بقـى حيراجع معانا الرسومات ‪ .‬جذبتـه لجوارهــا ‪:‬‬
‫ياسيدى كبر دماغك دخال األسانسير وقبل أن يصل بهما للطابق الثانى كانت هدير قد تلقت مجموعة‬
‫ال بأس بها من القبالت فى أنحاء متفرقة بالوجه والرقبة متحاشيا الشفتين المصبوغتين بالروج ‪.‬‬

‫مكتب أنيق تطل جميع نوافذه على شارع أبى قير ‪ ،‬كان خاليا إال من المهندسة " إيمان " مديرة مكتب‬
‫المهندس ناجى ‪ .‬أتجها الى حجرة مكتب صغيرة ملحقة بالمكتب الكبير ‪ ،‬كانا وحيدان جلس كل منهما‬
‫على مكتبة أمام اآلخر ‪ ..‬أنشغال فى فحص بعض الرسومات بينما هى كل دقيقة تنهض من‬
‫كرسيهاتتواثب فــى خفة تجيد أصطناعها وهى تتحرك أمامه لعرض ماتوصلت اليه من رأى ‪.‬‬

‫‪0000000000‬‬

‫فى تلك األثناء وبينما أصابعها تداعب فنجان القهوة خرج صوت أيات مستنكرا وهى تجلس فــى ركـن‬
‫الصالة تراقب نعمة التى جلست أمامها منكمشة منحنية الرأس وهى تعتصر عينيها داخل صينية بها أرز‬
‫تتحسس حباته فى عملية فرز شكلى ‪ :‬هـو أنا مش قلت لك مـية مـرة يانعمة الزم تلبسى بنطلــون تحت‬
‫الجالبية ‪ .‬بنبرة تسليم ‪ :‬أنا بأتخنــق لما بألبس بنطلــون بحس أن نفسى بيروح منى ‪ .‬توجهـــت اليها‬
‫بنظرة ملل قبل أن ترشف آخر رشفة ‪ :‬أنتى حرة عمر ركبك ماحتخف وأبقى دورى على اللى يجرى‬
‫معاكى عنـد الدكاترة ‪ .‬وضعت الفنجان بجانبها وأنكمشت مالمحها عندما أنساب صوت جرس التليفون‬
‫المتقطع فــى حياء ممزقا حالة الصمت فى الصالة الكبيرة ‪ .‬رنينه فى المنزل يكاد يكون نادرا ‪ ،‬شعرت‬
‫بصوته كأنـــه أجابة عن المجهول أفزعتها ‪ :‬سامعة يانعمة جرس التليفون األرضى ‪ ..‬ده أنا بقالى‬
‫شهور ماسمعتهوش بيرن ‪ .‬تتبعت صوت الجرس بخطوات متلهفة فى حين علقت نعمة ‪ :‬الموباين خلى‬
‫التليفونات دى مالهاش أى لزمة ‪ .‬بينما ترفع سماعة التليفون ‪ ،‬ردت بهمس حذر‪ :‬أيوه ‪ ..‬مين حضرتك‬
‫‪126‬‬
‫؟ أتاها الصوت متجها إلى طبلة ودنها مباشرة ‪ :‬هنا منزل هدى عبد الفتاح أسماعيل ؟ أهتزت مالمحها‬
‫بشدة وأرتعشت شفتيها ‪ .‬لم تجيبه بل سألته بصوت ممتد ‪ :‬أنت مين ؟ كانت أجابته بصيغة بيان ‪:‬‬
‫معاكى النقيب عادل عبد الرحمن من مصلحة السجون ‪ .‬راجعت أفكارها بسرعة وكأنها تسترد ذاكرتها ‪:‬‬
‫أيوه هنا منزل هدى ‪ .‬رد بكلمات متالحقة لكن رنة الفرح فيها ‪ :‬نحب نبلغك أنه صدر قرار عفو من‬
‫األفراج ‪..‬‬ ‫وزارة الداخلية بحق السجينة هدى عبد الفتاح أسماعيل ويوم الخميس الجاى هو ميعاد‬
‫مبروك !! كادت السماعة تسقط من يدها ‪ .‬دهشت وتجمدت مكانها أمام هذه المكالمة الفاصلة المشحونة‬
‫بالمفاجأة المذهلة ‪ ،‬أنتابتها حالة طارئة مابين الحقيقة والسراب وهى تتجه متشنجة كاألنسان اآللى‬
‫صوب نعمة التى تنتظر وصولها بوجوم وترقب ‪ :‬أنتى سمعتى اللى أنا سمعته يانعمة ‪ .‬كمن يبعد عنه‬
‫تهمة ‪ :‬وأنا أعرف منين ياست أيات هو مش أنتى اللى رديتى ‪ .‬تستوضح مشاعر لم تعتادها منذ فترة‬
‫طويلة ‪ ،‬راحت تتحدث بصوت كمن خرج لتوه من غرزة بلدى بعدما تعاطى كوكتيال من شتى األنواع‬
‫واألصناف ‪ :‬الراجل قاللى فى التليفون أن هدى حيفرجوا عنها يوم الخميس ‪ .‬أستقبلت نعمة الخبر‬
‫بأنتفاضة تستخدمها دائما وتصيب من حولها بالفزع حين تسمع خبرا مفاجئا ‪ :‬هدى مين ‪ ..‬الست هدى‬
‫بتاعتنا ‪ ..‬سبحان اللــه ‪ ..‬ألف نهار مبروك ‪ ،‬شوفى السنين جرت أزاى بسرعة ‪ ..‬ياسالم ع الزمن دى‬
‫ياعينى سابت عيالها وهمه ‪ ..‬صرخت فيها أعتراضا ‪ :‬بس خالص أسكتى شوية سيبينى أركز عشان‬
‫أشوف حأعمل أيه ؟ ‪.‬‬

‫الزال المكتب الهندسى فى تلك اللحظات يحتضن داخله يوسف وهدير وعصافير الرومانسية تحوم فوق‬
‫رأسيهما يتداوالن الهمس عن أحالم مستقبلية ورسم خطط البدايات ‪ ..‬غرقا فى وهم هدوء صنعاه ‪.‬‬
‫رنين موبايله أستدعاه من رحلة األحالم إلى واقعه وقطع اللحظة كما قطع جملة هدير التى بدأتها ‪ :‬بابا‬
‫كل أمنيته وأمله فى الدنيا أنى أتجوز وأعيش معاه فى الفيال عشان ‪ ..‬رأى يوسف رقم عمته يظهر على‬
‫شاشة الموبايل حتى داهمه قلق وتوتر محدثا نفسه بعفوية ‪ :‬خير ياعمتى عايزة منى أيه ؟ رفعه ألذنه‬
‫ثم تلقى منها بدون مقدمات ‪ :‬أيوه يايوسف ‪ ..‬فى واحد ظابط أتصل على تليفون البيت وبيقول أن مامتك‬
‫حيطلعوها أفراج يوم الخميس ‪ .‬عقد الذهول لسانه ‪ ،‬لم ينبس بكلمة ‪ .‬سكت يتلقى الخبر حتى النهاية ‪،‬‬
‫أخترقت كلماتها مركز األتزان فى مخه فأدلى رأسه لألرض وهو يلف حول نفسه بينما هدير تدقق فى‬
‫وجهه كمن يقرأ الطالع فى حين تحرك للخلف خطوات وأعطى لها ظهره وأتجه ناحية الشباك كى يتمكن‬
‫من طرح أسئلته على عمته بعيدا من أذانها ‪ :‬أنتى متأكدة من اللى أنت بتقوليه ده ياعمتى ؟ تمكنت منه‬
‫نوازع الخوف واألرتباك حين عال صوتها وأنفجر خارج الموبايل ‪ :‬عمتك لسه عقلها فى دماغها‬
‫‪127‬‬
‫وماخرفتش ‪ .‬لم تستطع هدير كبح نظراتها المتلصصة لمعرفة مايدور غير أنها لمحته وهو يبتسم‬
‫وعيناه تلتمعان ‪ .‬أنهى المكالمة وأبعد الموبايل عن أذنه ببطء ثم شرد بنظره فى فراغ المكتب يراوده‬
‫سؤال ملح ‪ :‬هى ممكن عمتى تكون جت لها حالة وأتخيلت أن التليفون رن وأن حد بيكلمها ‪ .‬أقترب من‬
‫هدير التى جلست فى وضع المنتظر وهى تسند ذقنها على قبضة يدها ‪ ،‬وقف أمامها ليبدأ بأداء دورفى‬
‫مشهد مرتبك ‪ ،‬بدا مضطربا رغم محاولته رسم أبتسامة ‪ ،‬فأنكشفت حيرته وتردد من أين سيبدأ وهو‬
‫يحرص على اال يزيد من حالة األرتباك فى حين كانت هى توظف صمتها دون أن تدرى وهو يفتش عن‬
‫سبب يصلح تفسيرا لتلك المكالمة ‪ :‬دى عمتى اللى كانت بتكلمنى وقالتلى على مفاجأة كبيرة أوى ‪.‬‬

‫ــ خير يايوسف ‪ .‬حملت كلماته عفوية حاول بها طرد أى حرج يمكن أن يتسلل اليها ‪ :‬بتقوللى أن ماما‬
‫أتصلت على تليفون البيت من شوية وبلغتها أنها حتوصل من األمارات يوم الخميس ‪ .‬قالها وصمت‬
‫وكأنه يعيد تقييم الموقف من بدايته ‪ ،‬فهو كثيرا ماحدثته نفسه فى مواقف عديدة أن يفضى لها بحقيقة‬
‫ما يخبأه اال انه خاف سوء العاقبة وكان دائما يغمره شعور جارف بالندم يظل يعذبه حتى أنفلت قيده‬
‫بالمزيد من األنغماس فيه واألستسالم له غير أنه كان فى سره يعزى نفسه بأنه مضطر للكذب ويمنى‬
‫نفسه بأنه سيتغير وسيتدبر أمره فى الوقت المناسب وسيعلنها عما يخفيه ‪.‬‬

‫ظلت األستفسارات تعبث بألحاح فى رأس هدير ‪ :‬أخيرا يايوسف مامتك راجعة ‪ ..‬ياه ‪ ..‬ده أنا نفسى‬
‫دلوقتى أدخل جواك وأعرف أحساسك أيه ‪ ..‬أكيد النهاردة يوم مش عادى عندك ‪ .‬حاولت أن تفهم بينما‬
‫ق رأ يوسف أسئلتها ثم تداوال بعدها لدقائق حديثا باهتا تعمد فيه أن يكون حذرا ثم أستأذنها فليس لديه‬
‫من الوقت الكثير كى ال يطيل الحوار ‪ .‬قاطعها وقد بدا أقل قدرة على التماسك ‪ :‬مش حأقدر أقعد أكتر من‬
‫كده الزم أرجع البيت ‪ .‬سحبت حقيبتها من على مكتبها وتناولت موبايلها وأنتصبت أمامه ‪ :‬أنا حأجى‬
‫معاك أوصلك يايوسف ‪.‬‬

‫‪000000000000000‬‬

‫كمسحراتى رمضان دارت أيات بالخبر من خالل أتصاالت سريعة ومقتضبة بدت فيها نبرة الذهول هى‬
‫الطاغية فى صوتها ‪ ،‬بينما تلقت نورا مكالمة عمتها كمن تلقى طعنة سكين أصابت شريان رئيسى فنزف‬
‫بغزارة حتى جف الجسد من الدماء ‪ ،‬بهتت وتسمرت أمام مانيكان خشبى تعالج على هيكله عباية‬
‫فى مرحلتها األخيرة من التشطيب ‪ ..‬عالمة أستفهام تكبر وتكبر حتى تتضخم وتسد عليها مسارب‬

‫‪128‬‬
‫التفكير ‪ ،‬تحاول أن تستوعب جملة عمتها التى طرحتها بطريقة صادمة ‪ :‬مامتك حتخرج من السجن يوم‬
‫الخميس ‪ .‬بدت كالمصعوقة ومنافذ الرؤية غمامة سوداء قاتمة تعصب عينيها ‪ .‬لم تشعر فى تلك اللحظة‬
‫بالواقفة فوق رأسها تمطرها بكلمات األستفهام ‪ :‬فى أيه يانورا مالك مسهمة كده ليه ولونك مخطوف ‪.‬‬
‫مالحظـة ألقت بها زيزيت فى وجه نورا التى حاولت أحتواء ماتشتت داخلها ‪ ،‬اال انه كان فوق‬
‫أحتمالها ‪ :‬الحقيقة مش فاهمة ‪ ..‬عمتى بتقولى حاجات غريبة مش قادرة أستوعبها ‪ .‬سحبت من يدها‬
‫المقص بتمهل ‪ ،‬كانت تشهره كسالح هجومى فى وجه المانيكان ‪ :‬حاجات غريبة زى أيه يعنى ‪ .‬مرت‬
‫بكفها على جبهتها ‪ :‬بتقولى أن فى واحد أتصل وقالها أن ماما حتخرج أفراج يوم الخميس ‪ .‬تطوى‬
‫طرفى المقص بضغطة سببت صوت متوتر كأنه موسيقى تصويرية فى مشهد درامى ‪ :‬هدى حتخرج يوم‬
‫الخميس ‪ ..‬ياه على السنين ‪ .‬تداخلت مالمحها ونشطت دموعها كزخات مطر مفاجىء ‪ .‬أردفت ‪ :‬مبروك‬
‫يانورا ‪ ..‬مبروك ياحبيبتى ‪ .‬قامت األخيرة من جلستها كعجوز متهالكة وخلعت مريلة الشغل ذات اللون‬
‫السماوى ‪ :‬عن أذنك يامدام أنا حأطلع أشوف أيه الحكاية ‪ .‬أنسحبت متوترة من حجرة التفصيل فى حين‬
‫تولد شعور غريب لدى زيزيت رصدته فى مالمح نورا ‪ ..‬ال هو فرحة بسماع الخبر وال تشوق لرؤية‬
‫أمها وال أمل يداعب مالمحها وال قنوط يهوى بها وال حتى أحساس بالترقب ‪ .‬رددت دون وعى ‪ :‬أنا‬
‫مش فاهمة نورا حصلها أيــــه ؟ ‪.‬‬

‫كانت نورا أول الواصلين الى الشقة لتجد نعمة وعمتها تجلسان فى مكانهما كحراس معبد بينما راقبت‬
‫أيات أرتباكها غير المبرر من لحظة دخولها وهى تستفسر بصيغة أتهام ‪ :‬أنا مش حأسألك تانى ياعمتى‬
‫بس أنا عايزة أفهم اللى كلمك فى التليفون قالك سبب األفراج أيه ؟ قبل أن يبلغ السؤال مداه ‪ :‬مالحقتش‬
‫أعرف منه حاجة هو قالى كلمتين ورد غطاهم ‪ .‬وكأنها تنتظر نزول الوحى أو خروج األلهام ‪ ..‬راحت‬
‫تقطع الصالة ذهابا وأيابا عدة مرات وتتوالى عنها األسئلة مقابل أجابات مقتضبة من جانب عمتها بدعم‬
‫من نعمة كشاهد ما شافش حاجة قبل أن تلقى بنفسها على فوتيه الصالة ‪..‬أغمضت عينيها لدقيقة ثم‬
‫فتحتهما وقد تفككت مشاعرها المركبة لتلد أحاسيس مختلفة ظهر فيها الذهول والقلق والخوف والفرح‬
‫لدرجة أنها لم تخرج مندفعة بكل أحاسيسها فى لحظة فرح عارم أو غضب فادح أو حزن داهم ‪ ،‬بينما‬
‫أيات تتأملها وتنتظر منها ماستقرره من خطوات قادمة ‪ ،‬فهى تعلم أنها توازى الجميع ‪ ،‬كلهم فى كفة‬
‫ونورا فى كفة راجحة ‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫طرقات منغمة على باب الشقة بأيقاع " وحياة قبلى وأفراحه " مصدرها أصابع بسمة التى أستقبلتها‬
‫أختها كلوح تلج متصلب بينما بسمة يشع غليان الفرح فى وجهها التى بادرت أختها بحركة خاطفة‬
‫ودارت بها كراقصة باليه ثم هرولت وهى ثائرة الشعر فى أيقاع رشيق على أطراف أصابعها متجهة إلى‬
‫عمتها قبل أن تطيح بمذكرة محاسبة على كرسى فى أول الصالة ‪ ..‬فتحت ذراعيها كجناحين ‪ :‬تعالى فى‬
‫حضنى ياعمتى ياحببتى يابتاعة األخبار الحلوة ‪ .‬أنحنت فوقها تلف رقبتها ورأسها فى عناق خانق حتى‬
‫خرج تيشرتها الـ " الروز" عن حياءه منفلتا خارج حرم البنطلون الجينز فبدت فى هيئة فتاة خارجة من‬
‫حفلة تحرش بأحد شوارع األسكندرية بينما نجحت عمتها فى تخليص رقبتها ورأسها من حماسة يديها‬
‫لحظة دخول يوسف من باب الشقة بوجه طافح بالذهول ‪ ..‬أقتحم الصالة وألقى بسالمه ثم أتجه ناحية‬
‫عمته قبل أن يزيح بسمة من أمامها مرتمياإلى جوارها على الكنبة محشورا بينها وبين نعمة‬
‫التى سقطت رأسها على أثر غفلة نوم سريعة ‪ .‬أتجه بكالمه مستفسرا من صاحبة الحق الحصرى عن‬
‫الخبر ‪ :‬فهمينى براحة كده ياعمتى الحكاية أيه من األول ؟ تحركت اليه نورا بخطوات عصبية ولم تمهله‬
‫سماع أجابات مكررة ‪ ،‬بدت فى حالة عدائية وكأنها ترفض تصديق الخبر فصاغت فى رأسها قرارا‬
‫أفرجت عنه بنرفذة ‪ :‬مش حنفضل نعيد ونزيد فى اللى عمتك قالته ‪..‬أنت دلوقتى تاخد بعضك و تروح‬
‫لمديرية األمن وتتأكد بنفسك من الخبر ده ‪ .‬قطب حاجبيه فى بالهة ‪ :‬أروح أقولهم أيه ؟‬

‫ــ ياأخى فى أستعالمات هناك أسأل وأستفسر عن المكالمة دى ‪ .‬كمن يرفع ثقال ضعف حجمه ‪ :‬حاضر‬
‫يانورا مع أنى متأكد أن الخبر ده صحيح ‪.‬‬

‫ــ واللـه وأنا كمان يايوسف أحساسى بيقولى أن ماما حتكون معانا يوم الخميس ‪ .‬قالتها بسمة بفرحة‬
‫طفولية بينما الزالت نورا تحاول سد ثغرة من الفرح يزداد أتساعها كل لحظة على مالمح يوسف وبسمة‬
‫‪ :‬أصبروا شوية لغاية مانتأكد من الموضوع كله ‪ .‬بدت كلماتها كردة فعل أخيرة فى حين أدار يوسف‬
‫ظهره دون أن يلتفت اليهم وهو يمضى إلى الباب بينما شيعته نورا بنظرتها ‪ :‬خلى بالك على نفسك‬
‫يايوسف ‪ .‬قالتها وأنكمشت على نفسها داخل كرسى منزوى فى ركن الصالة والصداع يضغط على‬
‫رأسها فأزاحت خصالت شعرها من فوق حاجبها وضغطت بأصبعيها على جبهتها ‪ .‬ألتفتت أختهاإليها‬
‫ملوحة لها بيدها تختبر درجة تركيزها ‪ :‬أيه ياجميل أنت مش معانا وال أيه ‪ .‬جاهدت ألخفاء قلق غير‬
‫مفهوم وأبتسمت أبتسامة ضبابية ‪ :‬بأفكر أيه اللى ممكن نعمله ‪ .‬دون مقدمات عادت نعمة فجأة للحياة‬
‫من غيبوبة نوم عارضة ‪ :‬هو أحنا لسه حنفكر نعمل أيه ده يادوب نلحق نوضب البيت ونحضر كام أكلة‬

‫‪130‬‬
‫من اللى أمك كانت بتحبهم ‪ ..‬ده غير أوضتها اللى عايزة تتهوى وتتنفض عشان لما تيجى بالسالمة يوم‬
‫الجمعة تالقى كل حاجة تمام ‪ .‬صححت لها بسمة المعلومة ‪ :‬الخميس يانعمة ‪.‬‬

‫ــ كمان !! بدت أيات كمن لم تقع عيناها على مشهد من قبل يسابق فيه الكل الزمن للوصول إلى غايات‬
‫مثباينة ‪ ..‬كل غاية منهم تقع فى خانة الحاالت الطارئة ‪.‬‬

‫‪0000000000‬‬

‫الفصل الرابـع‬

‫أسند عبده رأسه على صدره كأنه فى جلسة عزاء محاصرا بين الحاج تاج وسعيد تشكك بينما هسيس‬
‫تالوة قرآن بأداء متسارع مصدرها قناة " أقرأ" يتلوها شيخ سعودى بنبرة أضفت جو من الحزن على‬
‫المقهى والموجودين ‪ ..‬حالة من األسى تجتاحه منذ أن هجم عليه خبر األفراج عن فايزة ‪ ،‬دوما شاردا‬
‫ويثأثىء وله نظرات موروبة تشى بالحذر والترقب ‪ ..‬غرز ابهاميه فى صدغه وهو يمسح المقهى بنظرة‬
‫الملكية لكل مافيها وقد أوشكت على العودة الى صاحبتها ‪ ..‬غابت أصوات الجالسين عن أذانه ‪ ،‬لم يعد‬
‫يسمع شيئا ‪ ..‬زاغ بصره فى الدخان والبخار المتصاعدين ‪ ..‬مد ساقيه أمامه بعد أن أفرج عنهما‬
‫" جنش الجزمجى " قبل أن يعتقل مركبتين خاصة " سعيد تشكك " بينما رشف عبده رشفة طويلة من‬
‫كوب الشاى ويدس بوزالشيشة التى ترقد بجوار قدميه فى فتحة فمه ‪ ..‬كركر فى رتابة ثم يخرج الدخان‬
‫بتكاسل من فتحتى أنفه كعاصفة خماسينية أخفت وجهه ‪ ،‬بينما الحاج تاج يرصد حالته المزاجية فتطوع‬
‫مهدئا ماسحا على ركبته ‪ :‬وحد اللـه ياعبده وأهدى كده وصلى ع النبى ‪ .‬أشاح بنظره يستدعى‬
‫ثباتا ‪ :‬ال اله اال اللـه ياحاج ‪ .‬قالها ومال بجسده لألمام ورشحت الكلمات منه كندابة فى مأتم ‪ :‬ياخسارة‬
‫يابلد ‪ ..‬ثم خبط على فخذيه ‪ :‬ياخسارة ياحكومة ياداخلية ‪ ..‬خالص يارجاله ماعدش فى عدل فى البلد‬
‫دى ‪ .‬طالته نظرات الترقب ‪ .‬موضحا ‪ :‬عدل أيه ده اللى يخلى واحدة تطير عين موظف حكومة وتخليه‬
‫أعور بقية عمره وأخرتها يكافؤها و يطلعوها عفو ‪ ..‬يرضى مين الكالم ده ‪ ،‬يرضيك أنت ياحاج تاج‬
‫ياللى زرت بيت ربنا وال أنت ياسى سعيد يابتاع المظاهرات والثورة ‪ ..‬ماحد يفهمنى ويقولى ؟! ال ردود‬
‫وال تعليقات سوى أجابة بال منطق تسللت إليه أتية من األسفل ‪ :‬يعنى هو كان فيه حد فاهم حاجة فى‬
‫البلد دى لما أنت عايز تفهم يامعلم عبده ‪ .‬قال جنش بينما أدلى عبده برأسه ‪ :‬أنا عارف نفسى كويس‬
‫‪131‬‬
‫طول عمرى فقرى وقليل البخت ‪ .‬صارع الحاج تاج ضحكة كادت أن تغلبه إال أنها بدت فى عينيه ‪ :‬أنا‬
‫مش عارف أنت مكبر األمور ليه هيه فايزة دى مش مراتك برضه وأم أبنك وصاحبة النعمة اللى أنت‬
‫فيها دى ‪ ..‬أهدى باللـه وكفاية عليك لحد كده ياعبده أديك عشتلك كام سنة فى الهلس والمزاج وهى فى‬
‫السجن ‪ ..‬خالص بقى ولم الدور وأبدأ معاها صح عشان هيه كمان تبدأ معاك صح وماتنساش أن‬
‫السجن أصالح وتأديب ياعبده ‪ ..‬تجول األخير بنظره فى وجوه الزباين يبحث عن إجابة مناسبة تصلح‬
‫للرد قبل أن يلتقط واحدة زادته أحباطا ‪ :‬الطبع غالب وعمره ماحيتغير أبدا تقولى بقى السجن أدب‬
‫السجن أخالق الكالم ده ماياكلش معايا‪ ..‬طب تصدق وتؤمن باللـه ياراجل ياطيب ده أنا لما بأروح‬
‫أزورها وعزة جالل اللـه بأحس أنها صاحبة السجن والضباط والعساكر معزومين عندها ‪ .‬خفت صوته‬
‫وضعف كمن يوشك على البكاء ‪ :‬دى جبارة وقادره ياموالنا ‪ .‬قالها وبدا خائفا ‪ ،‬فمنذ لحظة تأكده من‬
‫الخبر وعصف بفكره الوسواس الخناس الذى يوسوس فى صدور الناس ‪ ..‬الكوابيس واألحالم الغامضة‬
‫تالحقه فى نومه ثم هاربة تداهمه فى يقظته كأنها كائنات تتشكل أمام عينيه كاألشباح فى مدينة مهجورة‬
‫‪ ،‬يظهر له دائما وجه فايزة بمالمح مصاصى الدماء أو فى صورة ريا وسكينة حين تعتليه فى نومه‬
‫تخنقه بينما أنفاسه تتقطع وتجحظ عيناه وينساب العرق من جبهته بغزارة مرتعدا مفزوعا منفلتا من‬
‫بين يديها إال أنها ما تلبث تباغته فى مشهد أخر أشد أثارة وعدوانية حين تتقدم نحوه تدق األرض‬
‫بقدميها محدثة صوت يصم أذنيه وهو ممددا على سريره تقترب نحوه شاهرة مقص ضخم كالذى‬
‫يستخدم فى تقليم األشجار‪،‬فتصفعه على فخذه صارخة ‪ :‬أفتح رجليك ياسيد الرجالة يادكر ! يفتح حين‬
‫تفتح طرفي المقص عن أخرهما وتمر به بين فخذيه حتى بلغت قضيبه الذى بدى ذليال مرتعشا بين فكى‬
‫المقص بينما عبده لم يحتج مكتفيا باشارات من كفيه كأنه يدفعها عنه على طريقة " البانتوميم " ‪..‬‬
‫ضغطة واحدة منها وبعدها للـه األمر من قبل ومن بعد ثم صرخة مدوية صدرت عنه مؤكدا نجاح‬
‫عملية " الطهور " ليدفن بعدهـا عبده وجهه فى كفيه ‪ :‬حرام عليكى يافايزة ‪ ..‬خالص مابقاش لى لزمة‬
‫‪ ..‬أنتصبت واقفة بنظرات شامخة تعاين المكلوم قبل أن ترمى إلى جوار قدميها رجولته المبتورة وهى‬
‫تنادى فيه ضاحكة ‪ :‬قومى ياختى حمداللـه ع السالمة ‪ .‬عاد من سرحته المؤلمة على وقع استفسار‬
‫تشكك ‪ :‬هيه مراتك حتطلع يوم الخميس الساعة كام !‪ .‬تفاصيل مستفزة تزيد حنقه ‪ :‬حتطلع فى ساعة‬
‫سودة ياأخى ‪ ..‬أنت مالك ياجدع أنت !‪ .‬أجابة محتجة أعادته للوراء ملتصقا بظهر كرسيه فى حين تدخل‬
‫الحاج تاج ‪ :‬العصبية بتاعتك دى مش حتنفع ياعبده ‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫ــ يعنى أنت عاجبك أسئلته الخايبة دى ‪ ..‬أكيد سهرة أمبارح اللى قضاها فى قسم الرمل مخلية‬
‫دماغه منملة‪.‬‬

‫فباألمس وكالعادة شارك تشكك فى بعض الفعاليات المتواصلة فى األسكندرية من أحتجاجات‬


‫وأعتصامات حتى وأن كان سببها غير مفهوم بالنسبة له ‪ ،‬فالمشاركة عنده كاألدمان ‪ ..‬ساهم باألمس‬
‫وبحماسة الثورى فى وقفة سلمية أمام مبنى المحافظة متضامنا مع بعض قيادات وعمال النظافة الذين‬
‫يسعون لزيادة الراتب والحوافز إال أنها سرعان ماتزحزت وقفتهم من أمام المبنى إلى عرض الطريق‬
‫وقطعه ‪ ،‬كانت وقفة مهيبة ‪ ،‬الكل حمل المكانس مرددين ‪ :‬عايزين حقنا يانموت كلنا ‪ .‬لحظات قليلة‬
‫وقامت قوة من قسم الرمل بفض الوقفة قبل أن تقوم بأسر مجموعة منهم وعلى رأسهم سعيد تشكك‬
‫وأقتادتهم إلى داخل القسم وتم عمل الالزم معهم بكل أخالص وتفانى خاصة مع تشكك الذى أقسم أمام‬
‫الضباط بأنها ستكون المرة األخيرة وأعلن توبته أمام مجموعة من المخبرين وأعتزاله رسميا وتم‬
‫األفراج عنه بعد ثمانى ساعات من الحجز قبل أن يلطعه مخبر بكف غليظة على " أفاه" وسحبه‬
‫من " الفانيال " حتى أنسلتت خارج الكلسون وتسلمه أخر ليرميه خارج القسم مودعا ‪ :‬أوعى أشوف‬
‫وش أمك تانى فى أى حتة ‪ .‬نهاية جملته كانت مشمولة بركلة فى مؤخرته ودفعة قوية إلى الشارع الذى‬
‫يتثائب فى تلك الساعة من الفجر ‪.‬‬

‫وصل " منصور " المقهى بمالمح متفائلة ولمح أبوه محاطا بصحبته قبل أن يلتقطه الحاج تاج الذى‬
‫أشار لتشكك ‪ :‬قوم معايا ياسعيد نلعب عشرتين طاولة ونسيب عبده مع أبنه شوية يدبروا أمورهم ‪ .‬قام‬
‫تاج وتبعه تشكك تشيعه بصقة غليظة من فم عبده الذى لم يعرف هل هى تحية وداع أم خالصة مرارة‬
‫يمضغ ها من لحظة سماع خبر األفراج ‪ .‬سحب منصور كرسيا وقبل أن يجلس الى جوار أبوه تلفت‬
‫يستكشف األجواء ‪ :‬أيه يابا جو الحداد ده ‪ .‬تنهيدة مستسلمة ‪ :‬حنعمل أيه بقى أدى حال الدنيا ‪.‬‬

‫ــ مالها الدنيا ماهى ماشية حلوة معانا وزى الفل ‪.‬‬

‫ــ حلوة وزى الفل ‪ ..‬أبقى قابلنى وتف على خلقتى لو شفت بعد كده فل وال غيره ‪ .‬هرش رأسه ‪ :‬دى‬
‫برضه أمى يابا مش عزرائيل وال أنت فاكر يعنى أنها حتخرج من السجن حتاخد رقبتك ‪.‬‬

‫ــ وله ياجمعه هات واحد بن تقيل ‪ .‬قالها عبده وأعتدل على كرسيه فى مواجهة أبنه ‪ :‬الدنيا يابنى كانت‬
‫ماشية معايا ومعاك بالرضا واألنسانية وعلى يدك أنا مدور القهوة ومظبطها ع الشعرة وبرضه مسلك‬
‫‪133‬‬
‫أمورى وشايف مزاجى برضه وكله باألصول وكمان أنا ماقصرتش معاك يامنصور ومصروفك بتاخده‬
‫بالزيادة وفوقيه بوسة وال بأدقق معاك وال بقولك رحت فين وال جيت منين ولما فاتحتنى فى موضوع‬
‫نوسه بنت بدرية مافتحتش بؤى بكلمة وكل اللى طلع من ذمتى أنى نصحتك وقلتلك واحدة واحدة‬
‫وبالهداوة يامنصور عشان أمك ماتجيبش عاليها واطيها ‪ ..‬مش ده اللى حصل منى ‪.‬‬

‫ــ صـح يابا ‪.‬‬

‫ــ مكبر دماغى معاك عشان عارفك راجل وفاهم بتعمل أيه ‪ .‬ثم أرتد للوراء وعالمات األسف تسكن‬
‫مالمحه ‪ .‬تابع ‪ :‬لكن دلوقتى بقى ياروح أمك أنسى الكالم ده كله ‪ ،‬أمك حتطلع من السجن زى الكلب‬
‫المسعور حتنهشك بسنانها لوخرجت عن طوعها وأنسى بقى حكاية نوسة وشغل روميو اللى أنت‬
‫عايشه ده وسلم لها نفسك والجزمة فى حنكك عشان هيه بالصلى ع النبى اللى حتفكرلك وحتنقيلك‬
‫وتجوزك والمطلوب منك بس أنك تخضع وتبقى زى الشبشب اللى فى رجل جنش ‪ ..‬خد منى وأسمع‬
‫كالم مجرب ‪.‬‬

‫شعر منصور بروحه تنسحب إلى قدميه ‪ :‬يعنى أيه الكالم ده يابا ؟ ‪.‬‬

‫ــ يعنى زى ماسمعت وأنت فاهم وأنا فاهم وماتعمليش فيها مصدوم ‪ ،‬أنصت إليه كمن يعانى خلال فى‬
‫األعصاب حين ألمت به رعشة‪ ..‬تخيل كل كلمة تخرج على لسان أبوه بأنها عين الحقيقة وما ستؤول‬
‫إليه األمور ‪ .‬لم يستطع أن يحول نظره عن والده الذى يداعب شاربه وال أن يقف األنفعال الذى أستبد به‬
‫فمط شفتيه وأتسع منخاره قبل أن ينفجر صوته مضطربا ‪ :‬أنت قلقتنى أوى يابا ‪ ،‬الذى سارعه بأجابة‬
‫شافية ‪ :‬بص أدامك ياحمار وأنت تشوف القلق بعينك ‪ .‬تتبعت عيناه نظرات والده المتجهة لمدخل‬
‫المقهى وهو يراقب تاكسى فايزة " الالدا " الذى يتهادى إمام المدخل تحت قيادة " جمال النونو " الذى‬
‫أخرج رأسه من شباك السيارة يلقى نظرة فاحصة متشفية مشيرا بيده ‪ :‬منور يامعلم عبده ‪ ..‬شايف‬
‫الفرحة حتنط من عينيك ‪ ..‬معلش أستحمل شوية كلها يومين والمعلمة تطلعلك !قذف بجملته كالجمرات‬
‫وكأنه يرجم شيطان رجيم ثم أندفع مخلفا شروخا فى رأس عبده وشفة مرتعشة ونبرة متذمرة ‪ :‬رابع‬
‫مرة النهاردة يعدى على أبن المفضوحة ويقولى البؤين دول ‪ .‬بدا منصور وقد أخرسته مشاعر لم يفطن‬
‫لنوعيتها ‪ ..‬هل هو توتر مشوب بالخوف أو القلق من عاصفة ال أمل فى تحاشيها ‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫مرت نصف ساعة كاملة أفرغ فيها عبده مأساته ومخاوفه أمام حيرة أبنه الذى بدا مشوشا ‪ .‬أنهى عبده‬
‫كالمه ثم قام من كرسيه مهموما رافعا عينيه فى مذلة مستجديا ‪ :‬أسترها معانا ياللى بتستر الغالبة ‪.‬‬
‫جملة لم تعد تفارقه كمجذوب أمام جامع ‪ ،‬قالها وأتخذ طريقه للخارج بينما لحقه صوت الحاج تاج ‪:‬‬
‫على فين ياعبده ‪ .‬يمسح صدره بيده ‪ :‬مخنوق شوية حأشوفلى أى داهية تلمنى ‪ .‬خبط جنش كف على‬
‫كف ‪ :‬الراجل حيجنن ياولداه ‪.‬‬

‫ــ بصراحة الراجل معذور ‪ ..‬الوليه مراته دى الشر نفسه يهرب منها ‪ .‬عبارة اضافها تشكك وهو يتابع‬
‫عبده الذى يمر بين الزبائن ‪ ..‬يجر قدميه وسط تلميحات مكشوفة وعبارات ساخرة ترددها ألسنتهم ‪ ،‬ما‬
‫من تحية تلقى عليه إال وتتبعها عبارة " شد حيلك " منغمة بنبرة شماتة وتشفى بينما قام منصور‬
‫واضعا يديه فى جيب بنطلونه يحاول أستيعاب صدمة الحدث الذى لم يعطه قدره المطلوب ‪.‬‬

‫‪0000000000000‬‬

‫أنتفاضة حياة تدك قالع الرتابة والكآبة داخل العنبر ‪ ..‬حركة دؤوبة ونشطة ‪ ،‬األستعدادات على قدم‬
‫وساق وحالة من الفرح العارم واألستنفار تسيطر على المالمح والكلمات ‪ ..‬بدا العنبر فى تلك األثناء‬
‫مقسوما لنصفين كما هو الحال فى مصر كلها ‪ ..‬مجموعة تهلل وتغنى وأخرى تراقب وتتحسر كعوانس‬
‫تخطاهم قطار الرجال فى حين تشابكت أيادى من شملهن العفو فى دائرة بوسط العنبر يحجلن على‬
‫أقدامهن وهم يرجعن للوراء فتتسع الدائرة ثم أرتدادة لألمام فتضيق بهن وكأنها رقصة أفريقية لطرد‬
‫األرواح بينما تحولت فايزة على غير المعتاد إلى كائن وديع مسالم تتحرك بطول العنبر وعرضه الذى‬
‫أزداد أتساعا وبراحا أمام مشيتها المنفوخة بصدر متقدما أياها بينما التضاريس الوعرة والهضاب خلفها‬
‫تهتز فى رشاقة نادرة حين أقتربت من دائرة الفرح مخترقة أحكامها واأليقاع يسرى من يديها على طبق‬
‫صاج تنقر عليه بحماسة مستدعية نغمة األنشودة الخالدة " آه ياواد ياولعة خدها ونزل الترعة "‬
‫والحناجر حولها تردد بال هوادة كلمات األغنية مع طلقات زغاريد مدوية كالصراخ فى حين ظلت هدى‬
‫خارج الدائرة تراقب المشهد لعلها تتخلص من حالة األرباك التى الزمتها من لحظة سماعها خبر األفراج‬
‫التى تلقته مثل عطشان يطارد الماء ‪ ،‬تستشعر داخلها بفيضان من الفرح يندفع ويفيض ‪ ،‬فأستسلمت‬
‫على نحو مفاجىء لتلك الرغبة الحثيثة فى عدم مقاومة الفرحة أو مجرد التفكير فيما ستحمله لها األيام‬
‫وأستكانت لألحساس المباغت بالرضا والخالص من كل شيىء ‪ ..‬من القضبان والحراس والمراقبة‬
‫والحشرات ‪.‬‬
‫‪135‬‬
‫وكما هو متعارف عليه داخل السجون تبادر السجينات المفرج عنهن بتقديم العطايا والهبات ‪ ،‬فكانت‬
‫هدى هى النموذج والمثل حين فتحت ضلفة الدوالب الحديدى العتيق ومالت داخله ناحية رف خاص بها‬
‫وسحبت منه بطانية صوف كانت هدية من أوالدها منذ ثالث سنوات بمناسبة عيد األم وأحتوتها بين‬
‫ذراعيها قبل أن تسحب كل غياراتها الداخلية وعدد أتنين شبشب وثالث فوط ثم سارت بهم بطول العنبر‬
‫بحذا السراير وهى تفرغ حمولتها على زميالتها ‪ :‬خدى يافتحية سونتيانه وكيلوت وأنتى يانعمة شرحه‬
‫‪ .‬ثم ناولت بأبتسامة ‪ :‬وأنتى ياتوحة الفرشة والمشط ودبابيس الشعر وصبع الروج بتاعك ‪ .‬قالت‬
‫جملتها ثم طوحت يدها برمية قوية موفقة بأتجاه " أم السيد وبحرية " ‪ :‬وأنتو خدوا البطانية دى تدفيكم‬
‫لغاية ما حد من الداخلية يفتكركم ‪ .‬تبعتها فايزة على نفس الدرب وتقدمت فى شهامة الى وسط العنبر‬
‫تنادى فيهم حتى أنتبهوا ثم أصدرت قراراتها تباعا وكأنها تتلو وصية ‪ :‬براد الشاى واألتنين مج من‬
‫نصيب عواطف واألطباق والمعالق والفوط للحاجة زينب وبكره قبل مانتكل على اللـه من هنا بقية‬
‫السجاير اللى فى الخرطوشة خدوها ووزعوها على بعض ‪ .‬إنتهت وصيتها قبل أن تسحبها هدى من‬
‫يدها فى الحاح ‪ :‬كفاية بقى تنطيط وتعالى نقعد شوية ‪ .‬خطوتان وسلتت فايزة يدها من يد هدى وألتفتت‬
‫ناحية توحة مساج ‪ ..‬أشارت لها بيدها ملوحة ثم مرت إليها حيث تقف أمام سريرها حتى ضاقت‬
‫المسافة بينهما الى نصف متر ثم نظرت فى عينيها وأبتسمت ‪ :‬مش عايزة أمشى من هنا وأنتى زعالنة‬
‫منى ياتوحة ‪ .‬قابلتها بأبتسامة بريئة وأرتمت على صدرها ‪ :‬واللـه أنا فرحنالك أوى يافايزة ‪.‬‬

‫ــ عقبالك ياتوحة ‪ .‬تنهدت ‪ :‬عقبالى فين بقى شكلى كده حأكمل مدتى وأمرى للــه ‪ .‬وضعت يدها برفق‬
‫على كتفها ‪ :‬اللى فاضلك مش كتير ياتوحة بس المهم لما تطلعى أبقى غيرى الشغالنة ‪ .‬شبكت يديها‬
‫على خصرها ‪ :‬مش بأيدى يافايزة ياختى ‪ .‬ثم ذيلت جملتها بصهللة أرتدت على أثرها فايزة خطوة‬
‫للوراء ‪ :‬روحى ياوسخة ربنا يبتليكى بمسمار حدادى يتحشر فيه وال ينفع معاه دخول وال طلوع‪.‬‬

‫ــ مش حيلحق ينحشر ياحبيبتى ‪ ..‬الشواكيش اللى بتدق كتير ‪ .‬قالتها ضاحكة وأتجهت صاعدة إلى‬
‫سريرها ‪ .‬بينما أسرعت هدى ناحية فايزة تشدها ‪ :‬يعنى أنتى الزم تطولى معاها فى الكالم ‪.‬‬

‫ــ هو أنتى مش سامعه الفاجرة بتقولى أيه ‪.‬‬

‫أتجهتا سويا ناحية ركن مجاور لسرير فايزة وجلستا على األرض تستندان الى الحائط فى صمت بينما‬
‫تحولت هدى بعينيها بين الوجوه الفرحة واألخرى الحزينة حتى توقفت عند " الحاجة زينب " التى‬
‫أنكمشت قرفصاء فى سريرها وكعادتها ال تفارق عينيها صفحات المصحف المفتوح تتلو فيه بنبرة‬
‫‪136‬‬
‫خشوع وندم ‪ ،‬فهى تعتبر من السجينات القدامى التى تم أرسالها للسجن على يد قاضى جنايات طنطا‬
‫بحكم مؤبد فى قضية جلب مخدرات من لبنان وأشتهرت فى السجن بـ " هند رستم " عنبر ج فكانت‬
‫تملك فتنة التقاطيع والتفاصيل التى أصبحت ذكرى بعد ما نجحت سنوات السجن فى محو المالمح‬
‫والمفاتن وغابت العيون المثيرة خلف نظارة سمك زجاجها أربعة مللى بالكاد تعثر بها على كلمات‬
‫القرآن فى مصحفها قرينها الدائم فى ساعات الليل والنهار فحصلت بجداره على لقب " الحاجة زينب "‬
‫عادت هدى من رحلة معاينة الوجوه بشعور حزين ‪ :‬الحاجة زينب صعبانة على أوى يافايزة ‪ ..‬ناس‬
‫تيجى وتروح وهى ياعينى قاعدة فى ملكوت تانى ‪ .‬وضعت يدها على ركبة هدى ‪ :‬الحاجة زينب دى‬
‫خالص سلمت أمرها للـه وماعدش يفرق معاها أى حاجة ‪ ..‬خلينا والنبى فى نفسينا أحنا اللى ورانا كتير‬
‫ياهدى ‪.‬‬

‫ــ عندك حق ‪ .‬بينما تسلل الخوف الى مالمحها وقد أنتابتها حالة من السلمية وهى تتابع بنظراتها‬
‫جدران العنبر وشروخه وكأنها تقرأ عليها شريط حياتها ‪ .‬أردفت ‪ :‬أول يوم جيت هنا فيه كنت متأكدة‬
‫أنى مش حأستحمل حبسة وبكتيره شهر وال أتنين وحأموت ‪ .‬بنبرة ساخرة أكملت ‪ :‬أتحملت وأتحملت‬
‫وشهر ورا شهر وسنة ورا سنة لغاية مابقوا تسع سنين وتالت شهور وال مت وال جرا لى حاجة وأدينى‬
‫كمان خارجة بكره ‪ ..‬سبحان اللـه ‪ .‬عاجلتها فايزة بتحذير واجب ‪ :‬ونبى ماتفكرينا باللى فات وخلينا فى‬
‫اللى جاى ‪.‬‬

‫ــ ياخوفى من اللى جاى ‪ ..‬حاسة بحاجة كده جواية مش قادرة أفهمها وحاسة أنى قلب مقبوض‬
‫وخايفة ‪ .‬أشعلت فايزة سيجارة وأغمضت عينيها ثم فتحتهما قبل أن تنفخ دخانها ‪ :‬ومين سمعك ‪ ..‬أنا‬
‫كمان دماغى عمالة تجيب وتودى ‪ ..‬الكام سنة اللى أتنيلت فيهم هنا مخليانى كأنى مش أنا حاسة أنى‬
‫بقيت واحدة تانية ‪ .‬مسحت هدى رأسها بيديها ورجعت بظهرها للحائط ‪ :‬خايفة أوى من الناس يافايزة‬
‫‪ ..‬السجن والزنزانة كانوا منسينى حاجات كتيرة أوى ‪ ..‬والدى دلوقتى كبروا ‪ ..‬نورا وبسمة بقوا‬
‫عرا يس ويوسف ربنا يحميه خالص حيبقى مهندس أد الدنيا ‪ ..‬لم تخف قلقا بدأ ينتشر كالسرطان فى‬
‫مالمحها ‪ .‬أستأنفت ‪ :‬مش عارفة وجودى معاهم حيسببلهم أيه فى حياتهم ‪.‬‬

‫ــ من الناحية دى أطمنى ع اآلخر وال حيحصل حاجة وحياتهم حتبقى زى العسل ‪ ..‬أنتى ياحببتى‬
‫ماتشغليش بالك بالوساوس اللى فى دماغك دى ‪ ..‬أنتى مادخلتيش السجن عشان حاجة بطالة ال سمح‬
‫اللـه أنتى جيتى هنا عشان حق عيالك‪ .‬أضافت قبل أن تتحول نبرتها إلى ثقة ‪ :‬الناس دلوقتى وبعد‬
‫‪137‬‬
‫الثورة بقوا حاجة تانية أتغيروا وماعدش فيه حد بيدقق وال حد بيسأل الكل هايص وملهى فى حاله‬
‫وماتنسيش أنك طالعة من هنا برخصة ! ‪.‬‬

‫ــ رخصة ‪ .‬قالتها بفزع ‪.‬‬

‫ــ أيوه ياهدى برخصة حسن سير وسلوك الدور والباقى على اللـى طلعوا من السجن هربانين وبقوا‬
‫دلوقتى بيحكمواالبلد ! تحولت إليها بنظرة ركنية مشمولة بأبتسامة ‪ :‬يعنى أنت شايفة كده ! بسطت‬
‫فايزة كفيها على األرض ورفعت مؤخرتها تستعد للوقوف ‪ :‬قومى بينا عشان ننام خلى خلقتنا وأحنا‬
‫ماشيين من هنا بكرة تبقى صابحة ورايقة‪ .‬أتجهتاإلى سريرهما ‪ ،‬فردت هدى جسمها ووضعت مرفقها‬
‫على جبهتها وعينيها شاخصة إلى السقف وكأنها تناجيه ‪ .‬لم تكن تنام فى اليومين األخيرين ‪ ،‬وقعت‬
‫فريسة ألوهام وهواجس تهدد راحتها النفسية بدت قلقة متوترة ‪ ..‬كان خوفها من مواجهة الحياة هو‬
‫صراعها األول ‪ ..‬دائما تمنى نفسهابأنها أصبحت أكثر نضجا فكانت تتعجل الفرار من سنوات سجنها‬
‫التى تحمل جروحا فاض صديدها قبل أن يداهمها فى نفس اللحظة أحساسا متصاعدا يغطى المسافة‬
‫المتبقية لنيل حريتها فبدت أمامها بال أفق وال نهاية والوقت صار بطيئاوثقيال ‪ .‬أغمضت عينيها قبل أن‬
‫تسحب مرفقها من على جبينها ليستسلم إلى جوارها بينما الليل راح يوغل فى رحلته الكئيبة فى حين‬
‫استلقت فايزة على سريرها ‪ .‬بدأت فى شحن بطاريتها من جديد كى تستعيد حالتها القديمة فراحت ترتب‬
‫أفكارها وخططها ‪ ،‬تهدم وتبنى ‪ ،‬فرأسها ال يحوى سوى صور وخواطر مشتتة ضيقة األفاق ضيق‬
‫حوارى كرموز ‪ ..‬تجولت بخيالها فى أزقة حارتها تستعرض وجوه المعارف والجيران ثم سرعان ما‬
‫سلمت نفسها لغيبوبة النوم ‪.‬‬

‫‪00000000000000000‬‬

‫الخميس ‪ 12‬ظهرا‬

‫كان السجن مختلفا وبدا فيما يشبه أن يكون ضاحية منفصلة فى أطراف مدينة ‪ ،‬كانت كوكبة من جنود‬
‫األمن المركزى ببدالتهم العسكرية المائلة نحو السواد القاتم بأزرارها النحاسية الالمعة وخوذاتهم‬
‫المكورة ومعاطفهم الغليظة المربوطة بأحزمة جلدية سميكة وأحذيتهم الثقيلة شديدة السواد ‪ ،‬يقفون فى‬
‫أنتباه يتقدمهم واقفا ضابط ذو وجه معبر وهيئة صارمة ‪ ،‬وقف مباعدا قدميه ويديه وراء ظهره بينما‬
‫عدد من رجال األمن بزى مدنى يطوفون باحة األنتظار من أولها الى أخرها وكل شبر فيها مرصود ‪ ،‬فال‬
‫‪138‬‬
‫يفلت من مشهده التفصيلى شيىء ‪ ،‬الكل مشدود وفى كامل توتره ‪ ،‬بينما غصت باحة سجن النساء‬
‫بالمنتظرين ‪ ،‬خليط من البشر ومزيج من السحنات ‪ ..‬أكتظاظ وحركة دائمة ‪ ..‬سيارات صغيرة وكبيرة‬
‫تنتظر المفرج عنهم ‪ ،‬بالرغم من المشهد المزدحم العشوائى إال أن كل شيىء يبدو محسوبا ومظبوطا‬
‫وال يخرج عن سياقه ‪ ،‬فالخروج خطيئة تجد على الفور من يتدخل بفظاظة لقمعها ‪.‬‬

‫وصلت " أيات" بسيارتها الى باحة السجن تحمل فى جوفها يوسف فى المقعد األمامى ونورا وبسمة فى‬
‫المقعد الخلفى ‪ ،‬هبطوا جميعا من السيارة وساروا فرادى بخطوات مرتبكة وعيونهم شاخصة نحو بوابة‬
‫السجن ‪ ،‬يرصدون كل من يمر خاللها وتعكس وجوههم قلقا ولهفة ‪ .‬أتخذوا مكانهم محشورين وسط‬
‫الناس ثابتين فى مواقعهم وكأنها معركة وجود ‪ ..‬ساعة من األنتظار تحت لهيب الشمس كانت كافية‬
‫لسلخ وجوههم بينما أحكمت أيات أيشاربها لتغطى صدغيها لعله يكون ساترا لبشرة أكلتها الشمس ‪.‬‬

‫أنفتحت البوابة وخرجن السجينات تباعا فى طابور فأصبحن فى متناول البصر ‪ ،‬فماتنفك تظهر وجوه‬
‫شهباء كأنها وجوه شاحبة بينما األهالى متأهبين وفى أقصى درجات الترقب ‪ ،‬فجأة ودون مقدمات‬
‫أطلقت سيدة خمسينية العمر صاحبة وجه ملسوع من الشمس زغرودة البداية ‪ ،‬فكان لها صدى وسحر‬
‫فى آذان المنتظرين فتبعتها أخريات حتى أجتازت أول سجينة فى الطابور بوابة األنتظار فبدأ األرتباك‬
‫والعناق وتحول المشهد كله الى حالة درامية دامعة ‪ ..‬ظهرت هدى تطل برأسها من البوابة وقد أختفت‬
‫جهامة السنين الماضية وبش وجهها تالزمها فايزة ملتصقة بكتفها بعد أن أنجزتا أتفاقا يشتمل على أدق‬
‫التفاصيل كى تلتقيا فى توقيت ال يدركه خلل مهما تغيرت الظروف ‪.‬‬

‫غشت عينى هدى أشعة الشمس المنعكسة من المقدمات المعدنية للسيارات القابعة فى أماكن األنتظار ‪،‬‬
‫بسطت ظل كفها وقاء لعينيها من الشمس وهى تستطلع وجوه المنتظرين حتى ألتقطت رأس أبنها من‬
‫بين الرؤوس المرفوعة فأنتفضت ووضعت كفيها فى قوسين حول فمها لتحتضن صوتها وتدفعه طوليا‬
‫ليبلغ آذانه ‪ :‬يوسف ‪ ..‬يوسف ‪ .‬ظلل عينيه بكفيه وأرسل بصره ليجوب المكان باحثا عن صوتها ‪..‬‬
‫لمحها ‪ ..‬فتفجرت حماسته وأنسلخ من بين األجساد ووسع أبتسامته حتى شملت عينيه ‪ ..‬لهفته سبقت‬
‫صوته ‪ .‬هتف ‪ :‬ماما ‪ ..‬ماما هناك أهيه ‪ .‬شبت بسمة على أطراف أصابعها وأخرجت رأسها المحشورة‬
‫من بين أكتاف المتزاحمين بينما أيات تعقبت بنظراتها أشارة أصبع يوسف لعلها تصل للهدف ‪ ،‬لكن‬
‫نورا الذى طال الترقب وجهها لزمت الصمت ولم يمنحها ظل أبتسامة فى حين أندفع أخوها ومن خلفه‬

‫‪139‬‬
‫أخته ثم أيات ونورا بخطا أقل حتى نالت عينى هدى وجوههم قبل أن تهرول إليهما تحمل نظرة تشتمل‬
‫على أبتسامة عريضة ‪.‬‬

‫وصل الجميع عند نقطة التالقى ‪ ..‬فتحت هدى ذراعيها آلخر مدى تتلقف فى محيطهما بسمة ويوسف ‪،‬‬
‫قبالت عشوائية توزعها وتطبعها على وجهيهما فأختلطت الدموع وأرتبكت النبرات وهى تلفهما بنظرة‬
‫دامعة ‪ :‬وحشتونى ياحبايبى وحشتونى أوى ‪ .‬مط يوسف شفتيه وعنقه ناحية جبينها مقبال ‪ :‬حمد اللـه‬
‫على السالمة ياماما ‪ .‬صعدت بذراعها إلى كتفه وراحة يدها تنفرد بكل اتساعها وتضمه اليها ثم قبلت‬
‫جانب جبهته بينما بسمة تعلقت برقبتها وأفرغت فرحتها العنيفة دفعة واحدة بكلمات كانت كالهذيان ‪ :‬أنا‬
‫فرحانة ‪ ..‬فرحانة فرحانة واللـه العظيم أنا مامصدقه نفسى أنا كأنى بأحلم ‪ ..‬الزالت نورا منكمشة خلف‬
‫ظهرى يوسف وبسمة ونظرت ألمها نظرة خجل فبادرت إليها هدى وأتجهت ناحيتها تسحبها لصدرها‬
‫وأحتوتها فى ضمة طويلة أستسلمت فيها نورا ولم تتماسك فغلبتها الدموع وقهرتها دون توقف وجعلتها‬
‫تغمض عينيها وهى تسمع نشيج أمها على كتفها يتقطع معاتبة ‪ :‬كده برضه يانورا أربع شهور‬
‫ما أشوفكيش ‪ .‬بال جدوى حاولت أن ترد إال أنها فضلت أن تدفن رأسها فى صدر أمها وتفرج عن‬
‫مشاعر حبستها شهورا ‪ :‬أعذرينى ياماما وسامحينى واللـه ظروفى كانت صعبة ‪ .‬أنهت أيات مشهد‬
‫الدموع وفضت العناق المحتدم بينهما وقد أستنفرت بقايا أحاسيس كانت خاملة والتى نشطت فجأة بحكم‬
‫الضرورة فرفعت ذراعيها تتجه بهما لهدى التى أستلمتها ‪ :‬حمد اللـه على السالمة ياهدى ‪.‬‬

‫ــ اللـه يسلمك ياأيات ‪ .‬بينما تعانى أيات من ضعف المخزون من كلمات المجاملة فبدت مرتجلة ‪ :‬شكلك‬
‫زى ما هو ياهدى ما أتغيرتيش ‪ .‬دققت فيها ‪ :‬أنتى كمان ما تغيرتيش ياأيات وكأنى سايباكى أمبارح ‪.‬‬
‫تقبلت كلماتها بضحكة أعادت لوجهها نضارة قد فقدتها منذ تسع سنوات ثم بادرت بسحبها من يدها ‪:‬‬
‫كفاية كده ويالال بينا نمشى من هنا ‪ .‬تحرك الجميع ودب فيهم نشاط عفوى بأتجاه السيارة يتقدمهم‬
‫يوسف كى يفسح لهم ممرا بين األجساد ‪.‬‬

‫وبينما يمر موكب هدى فى حراسة أوالدها كان هناك موكب أخر على مقربة منهم بقيادة "عبده الجن "‬
‫وقد تهيأ ألستقبال حرمه وقد تلفف بالبياض كما لو أنه مكفن بالجلباب والطاقية الشبيكة وعلى يساره‬
‫وقف منصور وجمال النونو فى حالة ترقب التى زالتا عنهما حين فغر عبده فمه الواسع وأنطلق فى‬
‫ضحكــــة صفراء عندما وقعت عيناه على فايزة قبل أن يسبقه أبنه مندفعا بحماسة الشباب صوب أمه ‪،‬‬
‫فأرتمــى فى أحضانها لتبتلعه فى صدرها قبل أن تخرج منه كلمات الهثة ‪ :‬وحشتينى أوى ياما ‪.‬‬
‫‪140‬‬
‫ــ أنت أكتر يامنصور ‪ .‬يلحقهما عبده ملفوفا بعاطفة مفتعلة ‪ :‬كفارة يافايزة ‪ ..‬ألف مبروك ياختى واللـه‬
‫تستاهليها ‪ .‬ألقت بنفسها بين ذراعيــه بحكم المشهد ومن خلف كتفية ‪ ..‬كتر خيرك ياعبده ياجن ‪..‬‬
‫أنتظر النونو دوره وهو فى أشد درجات الفرح قبل أن ينحنى برأسه يقبل يدها ‪ :‬كفارة يامعلمة ‪ .‬ثم‬
‫ألتفت إلى عبده ومنصور‪ :‬أتبهدلنا من غيرك يامعلمة ‪ .‬رسمت إبتسامة متكلفة ‪ :‬خالص يانونو من هنا‬
‫ورايح مافيش بهدلة ‪.‬‬

‫ــ ربنا مايحرمنا منك يافايزة ‪ .‬قال عبده ثم أصطحبها النونو وسارت إلى جواره بخطوات متمهلة بأتجاه‬
‫سيارة التاكسى بينما عبده ومنصور يلهثان خلفهما حتى أستقر الجميع داخل التاكسى لتبدأ رحلة العودة‬
‫إلى حارة المنجى ‪.‬‬

‫فى نفس توقيت مغادرة فايزة وصحبتها كانت هدى قد أنحشرت فى سيارة أيات فى المقعد الخلفى بجوار‬
‫الشباك وإلى جانبها بسمة ونورا التى غابت عينيها وراء نظارتها السوداء وقد تقلصت مالمحها بفعل‬
‫ألم طارىء مصدره جلد المقعد الذى حولته الشمس إلى فرن حامى فتقلبن عليه كلما لمس جلده الملتهب‬
‫مؤخراتهم‪ .‬كانوا داخل السيارة فى عســر وضيــق ال تكاد أحداهن أن تحرك كوعها من مكانه بينما‬
‫أراحـــت نورا رأسها فوق المسند العلوى للمقعد وبدا جانب وجهها غائما ‪ ..‬جربت أيات محرك السرعة‬
‫وحررت مكابحها وبدأت تتحرك رويدا رويدا ثم أنطلقت إلى البوابة الرئيسية لتصلها فى لحظات ‪ ..‬وكان‬
‫هناك جندى فى األنتظار يغالب النعاس واقفا عند بابها وعلم مصر فى أعلى البوابة هابطا على صاريه ‪،‬‬
‫إذ لم يكن هناك هواء يرفعه ويجعله يرفرف أو ربما ألسباب أخرى ال يعلمها إال العلم!‪ ..‬فتح البوابة‬
‫وأنطلقت أيات كمن يهرب من عدو يالحقه ‪ ،‬بينما لمحت عبر المرأة العاكسة مبنى السجن وباحته وهما‬
‫يتضاءالن ويصغران فى مكانهما منارين بأشعة الشمس ‪ ..‬يضؤالن ويضؤالن حتى صارا نقطتين ثم‬
‫نقطة مالبث الطريق والغبار أن أبتلعهما ‪.‬‬

‫" هدى" عيناها شاخصتان إلى الطريق فيما يشبه الشرود ‪ .‬السجن والحراس ‪ ،‬كالهما أنزاح للوراء ‪.‬‬
‫دخال الماضى ‪ .‬رفعت وجهها وقربته من الشباك بأتجاه الشمس وعيناها مغمضتين ‪ ،‬تركت األشعة‬
‫الدافئة تمشى فوق جفونها ‪ ،‬أتخذ هذا الوضع لحظات قبل أن تفتحهما على مشهد أثار فيها خوفا‬
‫وشجونا حين رأت سيارة ترحيالت السجن الزرقاء تسير عكس األتجاه ناحية البوابة وقد أمتألت عن‬
‫آخرها بسكان جدد ستكون العنابر والزنازين مأوى لهم ‪ ،‬فقفز على الفور من ذاكرتها نفس المشهد‬
‫وذات اللحظة وربما نفس السيارة وهى تقرأ فى نظراتهم من وراء شباك السيارة أستسالم قدرى كمن‬
‫‪141‬‬
‫يودع الحياة ‪ ..‬المشهد العابر جعلها تدرك سريعا أن للحياة فلسفة خاصة ليست خطا مستقيما لها بداية‬
‫ونهاية كما تعلمنا من كتب األولين ‪ ،‬بل هى دائرة ال أول لها وآل آخر ‪ ..‬نرحل ونعود فى نفس الدائرة‬
‫ليضيع أولها فى آخرها ‪ ،‬فأناس يبكيهم اللقاء وأخرين يبكيهم الفراق ‪ ..‬سحبت نفسا طويال بطول‬
‫السنين الماضية وهى تتأمل الشوارع تنفلت من بصرها مسرعة هاربة إلى الخلف ‪ .‬ذهنها بدا مثل‬
‫الشوارع مشتتا باهتا تتزاحم به الهواجس واألفكار تفر دون قدرتها على األمساك بخيط منها ‪ .‬قطعت‬
‫أيات نصف المسافة فى طريق العودة بقيادة هادئة وأتزان نفسى مع صمت تام أصاب الجميع كالعدوى‬
‫وكأنهم الزالوا فى مرحلة األستيعاب قبل أن تقتحم أيات قلب دوامة الفوضى إلى وسط األسكندرية ‪ ،‬فلم‬
‫يخلو المشهد بعد من تبعات الثورة ‪ ،‬تحول قلب المدينة الى حالة مرضية ميئوس منها فأصاب األنسداد‬
‫شرايينه ولم يعد هناك مجال أو مكان ألى حركة ‪ ،‬صفوف من السيارات بالكاد تتحرك كسلحفاة عجوز‬
‫وأصبحت الفوضى هى عين الحقيقة فى األسكندرية ‪ ..‬نفخت أيات زفرة ساخنة وهى تردد ‪ :‬عمرى‬
‫مافكرت أنى ممكن أسوق فى الوقت ده أبدا ‪ .‬لم يعلق أحد فأدارت الكاسيت تبحث عن مسكن ألعصابها‬
‫ونظرت لهدى فى المرآة بحماسة قبل أن يركبها عفريت األنسجام ‪ :‬حأسمعك شوية مزيكا‬
‫حينسوكى السنين اللى فاتت كلها ‪ .‬أرسلت لها نبرة متعبة من خالل المرآة ‪ :‬لسة زى ماأنتى يا أيات‬
‫المزيكا بتجرى فى دمك ‪.‬‬

‫ــ المزيكا هى اللى مصبرانى على األيام السودة دى ‪ .‬ألتفت اليها ‪ :‬األيام جميلة ياعمتى أنتى بس اللى‬
‫شايفاها سودة ‪.‬‬

‫ــ طب أسمع وأنت ساكـت يامتفاءل ‪ .‬علقت من محبسها بين أمها وأختها ‪ :‬على طول كــده ياماما ناكــر‬
‫ونكير ‪ .‬تناهت إلى أذانهم موسيقى رتيبة ذات أيقاع واحد مطرد فى حين أنشغلت هدى عن الموسيقى‬
‫بمتابعة الطريق واألنصات لبسمة التى التكف عن الوشوشة فى أذنها بلغة الهمس ‪ ..‬خرجت السيارة‬
‫من دوامة الزحام بمعجزة وقدرة قادر والطريق أمامها يتثنى ويتلوى وهدى تتأمل بعين فاحصة شوارع‬
‫مرت بها من قبل وقد كساها التراب وزينتها أكوام القمامة تحرسها أرصفة من دون بالط وأشجار بال‬
‫أوراق ‪ ،‬فهزت رأسها كمدا ‪ :‬ياه دى أسكندرية عجزت أوى ‪ .‬خفضت أيات من صوت الموسيقى ‪ :‬هيه‬
‫أسكندرية بس اللى عجزت ‪ ..‬مصر كلها شاخت وإنحنت ‪ ..‬البلد أتخطفت ياهدى ووقعت فى إيد ناس‬
‫سايقين بينا بسرعة الصاروخ ‪ ..‬بس مش لقدام ‪ ..‬لورا ! ‪ .‬أستطاعت نورا أن تحرك يدها لتكتم‬

‫‪142‬‬
‫ضحكة ‪ :‬أصل عمتى بتكره األخوان ‪ .‬قربت هدى رأسها فى أفا أيات ‪ :‬الناس بتقول أن مرسى وجماعته‬
‫دول بتوع ربنا ‪.‬‬

‫ــ ليه بس كده ياماما عمتى لما بتسمع الكالم ده الدنيا كلها بتتشقلب أدام عينيها ‪ .‬كانت جملة تحذيرية‬
‫من بسمة قالتها حين أطلت أيات بسيارتها على شارع الكورنيش بعد أن أجتازت شارع بورسعيد بعد‬
‫عناء وكأنها والدة متعسرة قبل أن يلوى يوسف عنقه للخلف فى لهفة مخاطبا أمه ‪ :‬بصى شوفى الناس‬
‫اللى على شمالك دول ‪ .‬تلفتت بنظراتها لتقع عينها على جمهور محتشد أمام مبنى أدارة شركة مياة‬
‫األسكندرية ومن خلفهم أنتشر عشرات من رجال األمن المركزى وقد الح فى عيونهم هلع مكشوف من‬
‫الهتاف الحماسى للمحتشدين ‪ ،‬لم تدرك هدى حقيقة البالء الذى نحياه لكنها من خالل الالفتات المرفوعة‬
‫أدركت أن الغليان يتعلق بتظاهرة أحتجاج ضد رئيس الشركة ألجباره على تثبيت العمالة المؤقتة ‪..‬‬
‫تشممت هدى الهواء الذى يحمل رائحة البحر فهاج شعورها برؤية القوارب والصيادين والناس‬
‫والحبيبة فأحست بحاجة إلى أن يحيط بها وأن يحملها تيار هؤالء الناس الذين ال تعرفهم وأن كان‬
‫وجودهم ينعشها ‪ ..‬خرجت " آه " دون وعى منها وهى تحمل أحاسيس من الصعب أن يدركها من‬
‫حولها ؟ ‪ ..‬أحساس يعبر عن هذا البلد ‪ ،‬دائما ما كان الكورنيش يغمر مشاعرها باألطمئنان ويشعرها‬
‫برحابة العالم وأتساعه وقدرة األنسان على تغيير مكانه وبقائه حيا ‪ ..‬أرسلت نظرتها إلى أمتداد البحر‬
‫حتى خط األفق ‪ ،‬فوجدته محايدا ليس غاضبا والمطيعا ‪ .‬فأبتسمت ‪ ..‬أحتواهم الصمت فى السيارة‬
‫لدقائق وهى تتجه على مهل ناحية المنزل قبل أن تبادر أيات بسؤالها وهى تتفادى سربا من تالميذ‬
‫المدارس ‪ :‬تحبى ألف بيكى شوية ياهدى أفرجك على البلد ‪ .‬تعليق بسمة كان شافيا على هذا العرض‬
‫السخيف ‪ :‬هيه أسكندرية بقت فيها شوارع عشان تلفى فيها ‪ .‬نظرة قاسية من عمتها ‪ :‬البركة فى‬
‫مرسى ‪ .‬أحست هدى بنبضات قلبها تتسارع وشعرت بجسدها يرتفع فوق المقعد ومعه روحها كلما‬
‫أقتربت السيارة من ميدان محطة الرمل ‪ ،‬حشدت ذهنها وتأهبت قبل أن تنتحر فى عقلها عشرات األفكار‬
‫واألسئلة حين وطأت السيارة شارع شامبليون الذى ينحشر كالعروس الخجول بين الكورنيش وشارع‬
‫ترام بورسعيد وزاد تركيزها حين ظهر لها عن بعد الطوابق العليا من البناية فبدت وكأنها تروض نفسها‬
‫لرؤيته فراحت تستعيد مالمحه وذكرياتها وتملكتها خواطر قلقة بين الماضى والحاضر تعبث برأسها ‪،‬‬
‫إال أنها نفضت عنها صراع اللحظة وهى تتابع السيارة تتهادى فى ظل صف من السيارات الخامدة على‬
‫جانب الرصيف حتى أستقرت بهم أمام مدخل البيت ‪ ..‬لم يسحبها تأملها للبناية كثيرا ونزلت من بطن‬
‫السيارة كالتائه بدون دليل يتبعها الباقيين ‪ ،‬بينما وقف نوح البواب فى محيط المدخل كالذى يحرس‬
‫‪143‬‬
‫منطقة نفوذه وهو يضيق فى عينيه محدقا فى الداخلين يزر رمشه يبحث فى ذاكرته عن أسم لهذا‬
‫الوجه ‪ ..‬تسمرت حدقتيه وتوقفت رعشة جفنيه ثم أبتسم ‪ ..‬أبتسم طويال ليخرج بعدها صوته ممتدا‬
‫ساهما يخاطب زوجته المحنية على نفسها وقد أرتكزت على قدميها تكنس المدخل ‪ :‬شوفى يا أم نور‬
‫مين اللى جاى علينا ‪ .‬لم ينتظر منها أجابة سعفته الذاكرة ثم هرول نحوهم وصوته يتهدج ‪ :‬الست‬
‫هدى ‪ ..‬ياأهال ياأهال ‪ ..‬واللـه زمان ألف حمد اللـه على السالمة ‪ ،‬ظل يهز يدها بكلتا يديه الواهنتين‬
‫وعظام وجنتيه أنفرجت عن أبتسامة ‪ :‬نورتى بيتك ياست هدى ‪ .‬وقف الجميع خلفها فى أنتظار‬
‫نهاية سريعة لفرحة نوح وترحيبه بينما تطيل هدى التحديق فيه وتدنى وجهها منه ‪ :‬ربنا يخليك‬
‫ياعم نوح ‪ ..‬المكان منور بيك ياراجل ياطيب ‪ .‬ضغطت على يديه فى عطف حين لمحت فيه الكهولة‬
‫فأصابع كفه أصبحت عظاما وعيناه ضاقتا كثيرا ‪ ،‬بينما هبت أم نور تقبل كتفيها ‪ :‬واللـه أنا مامصدقة‬
‫نفسى ‪ ..‬نورتى الدنيا ياست الكل ‪.‬‬

‫ــ كتر خيرك يا أم نور ‪ .‬قالتها ثم تجاوز الجميع المدخل الواسع المعمول من الرخام األبيض وصعدوا‬
‫ست درجات تفضى إلى مكان المصعد ‪ ،‬بدت البناية شديدة النظافة وال يخدش نظامها شيىء ‪.‬‬

‫أحتواهم المصعد كفئران فى مصيدة ينتظرون الفرج بينما هدى فى مواجهة الباب كاألمام ومن خلفها‬
‫المصلين ‪ ،‬بدت نظراتها مرتبكة وهى تتفحص سقف المصعد قبل أن تنقلها الى الطوابق التى تهبط أمام‬
‫عينيها من شراعته المستطيلة ‪ ،‬توقف بهم فى الطابق الثالث محدثا " تكة " خفق لها قلبها قبل أن‬
‫يشير لها يوسف ‪ :‬أفتحى الباب ياماما ‪ .‬دفعته على مرتين وكأنها لم يعد فيها جهد ‪ ..‬سارت ببطء بأتجاه‬
‫الشقة ‪ ،‬خطوتين وألتفتت نحوهم وكأنها تطلب دعما فأرسلوا لها نظرات مشجعة قبل أن يتقدمها يوسف‬
‫ويفتح باب الشقة بينما هى تراقب وتردد ‪ :‬سبحان اللـه ‪ ..‬سبحان اللـه حتى أدمعت عينيها ‪ ..‬فتح الباب‬
‫وأنزاح للداخل وبقيت أمه متصدرة مدخله ‪ ،‬مدت رقبتها فأطلت برأسها ودارت بعينيها وكأنها تتأكد أن‬
‫كان كل شيىء فى مكانه بينما تتطاير خياالت غير محددة تقطع أسترسالها وتبذل جهدا كى ال تحيد‬
‫ببصرها حتى تنتهى من المعاينة التى لم تكتمل حين خرجت لها نعمة متلهفة صارخة ‪ :‬ألف حمد اللـه‬
‫على السالمة ‪ ..‬ألف مبروك ‪ .‬أرتدت مالمح هدى وتراجعت شفتاها عن األبتسام فقد أدهشتها حالة‬
‫الضعف والعجز وايقاع خطوتها المترنح ‪ .‬سارعت إليها وضمتها فى رفق ‪ :‬أزيك يانعمة وحشتينى أوى‬
‫واللـه ‪ .‬أنفتحت حنفية الدموع ‪ :‬البيت كان وحش من غيرك ياست هدى وربنا يعوضك خير عن السنين‬
‫اللى فاتت ‪ ..‬تسندها ‪ :‬تعالى أقعدى يانعمة ‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫ــ معلش ياست هدى كتر خير الدنيا ‪ .‬تدخل يوسف ‪ :‬نعمة دى بتتدلع ولما تخف أن شاء اللـه‬
‫حنشوفلها عريس ‪ .‬أنشغلت هدى تحاول أن تحدد مواضع األشياء ‪ ..‬تسير ببطء وهى تالمس كل ما تمر‬
‫به ثم دارت بجسدها دورة كاملة فى وسط الصالة وقد أستعادت بعض الثقة لتبدأ رحلة الطواف داخل‬
‫المنزل ‪ ،‬تحركت بهرولة فى أرجائه وهى تطل من كل جانب فيه حتى سحبتها قدميها الـى باب‬

‫غرفتها تضغط على مقبضه بيد مرتعشة ‪ ،‬فتحته وأستقبلها ظالم الغرفة حيث شيش النافذة مغلقة‬
‫فتحسست الجدار حتى عثرت على زر النور فأشرقت األضاءة فيها وأثار جو الغرفة فى نفسها أشيــــاء‬
‫قديمة كانت باهتة ‪ ،‬فلمعت وأتضحت وطفت بكل تفاصيلها من جديد فتقدمت إلى رأسها ذكرى تلك الليلة‬
‫البعيدة وأول يوم لها فى الغرفـــة التى دخلتها كملكة متوجة يتقدمها زوجها الراحـــل مقدما لها فروض‬
‫الطاعة والوالء ‪ .‬شبكت يديها خلف ظهرها وهى تتجول فى الغرفة تقرأ من كتاب الذكريات كل حدث فى‬
‫كل ركن فيها ‪ ،‬بدا أن شعورا باألمن والطمأنينة قــد أستولى عليها وبينما عينيها تجوب المكـــان تنشط‬
‫الذاكرة فتتضح تفاصيل فى الغرفة لم تكن موجودة من قبل ‪ ..‬أختفت الستائر القطيفة التى كــان يعشقها‬
‫نديم ويسميها " ستائر الرومانسية " كما أختفت النجفة الكريستال ذات الداليات وصحونها الدائرية‬
‫وأست بدلت بأخرى مودرن بلون النيكل ‪ ..‬مرآة الدوالب البلجيكى بها جرح قطعى بطول تالتين سم خصم‬
‫كثيرا من وقارها ‪ ،‬إال أنها لم تقف عند تلك األمور وبدأت تدير شريطا من الذكريات وهى تلمس صورة‬
‫زوجها قبل أن تباغتها أيات من خلفها تنزعها من حديث هامس كانت على وشك أن تبدأه مع الراحل ‪:‬‬
‫كفاية عليكى سرحان ياهدى األيام جاية كتير ‪ .‬قالتها وألتفتت خارج الغرفة تكمل باقى جملتها ‪ :‬هاتى‬
‫يانورا لمامتك أى حاجة من عندك تلبسها ‪.‬‬

‫ــ قبل أى حاجة الزم أخد دش األول ‪ .‬قالتها كأمنية وتشكلت علـــى شفتيها أبتسامة سريعة ثم أردفت ‪:‬‬
‫أنتو مش عارفين قيمة النعمة اللى عندكم فى البيت ‪.‬‬

‫ــ تقصدى الدش ياماما ‪ .‬قالت بسمة بسذاجة ‪.‬‬

‫ــ أيوه ياحبيبتى اللى يعرف يستحمه فى السجن يبقى ربنا راضى عنه ‪.‬‬

‫ــ أنسى بقى ياماما األيام السوده اللى فاتت ‪ .‬كان تعليقا من يوسف فى حين أرادت أيات أن تختصر‬
‫المشهد ‪ :‬ياريت تسيبوها ياوالد تأخـذ الشاور بتاعها وتظبط نفسها ‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫دخلت هدى الحمام فى حراسة بسمة ونورا التى سلمتها غـيارا وبرنس وفوطـــة ‪ ،‬حاولت أن تستعيــــد‬
‫طقوسها القديمة فى األستحمام ‪ ..‬خلعت مالبسها بتردد وهى تستعيد جو المكان ‪ ..‬وقفت داخل البانيو‬
‫وفتحت الدش فوق رأسهــــا لتحقق لنفسها ماكان يراودها وهى أسيرة ‪ .‬أرخت رأسها للخلف متلقفة‬
‫دفعات الماء على وجههــــا مغمضة العينيـن مفتوحة الفم بينما تسرى فيها رعشة حين ينسال الماء‬
‫ساخنا يدغدغ أعصابها وعضالتها بينما رغوة الصابون تتجمع بين ساقيها المضمومتين ‪ ..‬نصف ساعة‬
‫تحت الماء أعادت لوجهها الحياة وأستعادت دورتها الدموية نشاطها قبل أن تخرج منكمشة داخل برنس‬
‫نورا األبيض التى بدت فيه أصغر سنا وشعرها المبتل يلتصق بجانب وجهها وهى تقرع أسنانها‪،‬‬
‫فأقتادتها بسمة حتى باب الغرفة مشددة ‪ :‬عايزاكى تدخلى تنامى ياماما وتريحى جسمك على األخر‬
‫ولما تصحى حنرغى أنا وأنتى للصبح ‪ .‬ثم ودعتها بقبلة ‪ ..‬دارت حول نفسها فى الغرفة وأقتربت‬
‫من المرآة تنظر لوجهها وهى العادة التى توقفت عن ممارستها منذ دخولها السجن ‪ ..‬أتجهت ببصرها‬
‫إلى أعماق العينين المرسومتين أمامها فى المرأة وبدا طيف أبتسامة فاترة يتموج على شفتيها‬
‫المتقلصتين ‪ ..‬أستطاعت أخيرا من أن تكتشف فى عينيها المعانى القديمة المألوفة لديها ‪ ..‬ها قد عرفت‬
‫نفسها ووفقت بين الصورة وبين األصل ‪ ..‬تحركت بأتجاه السرير ‪ .‬وقفت تتأمله كثيرا قبل أن تتحسسه‬
‫بيدها ‪ ..‬ثم أستلقت عليه وهى تخشى إال تستطيع نوما لفرط ما بها من قلق وفرح وما يتقاذفها من‬
‫متناقضات ‪ ..‬أستطلعت كل جزء فى الغرفة من مكانها ‪ ،‬مازالت ال تصدق أنها قبل ساعة من اآلن كانت‬
‫السجينة هدى عبد الفتاح ‪ ..‬سبحان مغير األحوال ‪ ..‬لم يكن لديها وقت لتصاب بالدهشة المفرطة ألنها‬
‫بالفعل أنزلقت سريعا وبنعومة مبهرة فى نوم هادىء دون أن تصطدم بحواجز األرق والفرحة ‪.‬‬

‫‪0000000000000000‬‬

‫قبل أربعين دقيقة غادر تاكسى " الالدا " موقع السجن وفى جوفه فايزة يجاورها أبنها فى الخلف بينما‬
‫عبده فى الصدارة بجانب النونو ‪ .‬أستكانت فايزة لفترة كانت توزع فيها نظراتها بين الطريق وبينهم‬
‫وحواسها كانت تستجيب ألدنى أشارة تصدرعنهم ‪ ..‬أبتسم النونو نصف أبتسامة وخاطبها من خالل‬
‫المرآة ‪ :‬البشر فى كرموز متلهفين يشوفوكى ياست الكل ‪ .‬رفعت ذقنها فى شموخ ‪ :‬طبعا ياوله مش‬
‫ناسى وأهل حتتى ‪ .‬يقابلها يأسنان صفراء تظهر عبر المرآة على أثر ضحكة واسعة ‪ :‬واللـه عندك‬
‫حق ‪ ..‬المعلم كمال األخرس وشلته وكل تجار القماش مسيحين ومسلمين الكل مستنى عند القهوة ده‬
‫غير الحبايب والجيران الكل جاى يجامل وكمان ‪ ..‬أنقطع حبل كلماته فجأة وألتهبت مالمحه حين خرجت‬

‫‪146‬‬
‫عليه سيارة " هيونداى" من شارع جانبى ومرت أمامه بسرعة فتحول برأسه ناحيتها معاتبا بلطف ‪:‬‬
‫هو أنت فاكر نفسك سايق فى الصحراوى ده أنت حمار أبن وسخة ‪ ،‬وضعت يدها على كتفه مثنية على‬
‫أدائه وهى ترمى بالمعنى تجاه عبده ‪ :‬جدع يانونو ‪ ،‬هو ده الصح واللى مايعرفش فى األصول ويغلط‬
‫ياخد على دماغه ‪ .‬قالتها وظلت ترمقه بنظرة تحمل أشارة الوعيد بينما شعر عبده بوخز نظراتها يخترق‬
‫جانب وجهه فتمتم ‪ :‬أسترها يارب !‪ .‬عادت تستفسر ‪ :‬كملى ياوله مين تانى مستنى ‪ .‬يتابعها فى‬
‫المرآة ‪ :‬بقولك البشر كلهم نسوان ورجالة كبار وصغار كله فى األنتظار ‪ .‬ثم وارب جفنيه وخفت‬
‫صوته وخرجت منه عبارة خجولة ‪ :‬والعبد للـه أتفقلك مع فرقة من عندنا عشان تقدم التحيه وكله‬
‫فضلة خيرك ‪ .‬عقدت أصبعيها تحت ذقنها مستغربة ‪ :‬يعنى أنت يانونو اللى بلغت الناس بميعاد خروجى‬
‫وأنت اللى جهزت المسائل وكمان أتفقت مع فرقة ‪ ..‬يكونش أنا أرملة ومش واخدة بالى ‪ ..‬ده زى‬
‫مايكون الجحش اللى قاعد جنبك متوفى ‪ .‬ثأثىء األخير مضطربا وضم رجليه المفتوحتين ‪ :‬أزاى بس‬
‫الكالم ده يافايزة ‪ .‬ثم لكزه فى فخذه يذكره ‪ :‬ماتقولها مين اللى علق النور داير مايدور فى القهوة ومين‬
‫اللى من أمبارح بيجهز المكان وعينيه ماشافتش النوم ‪ ..‬ماتقولها يانونو ‪ .‬فى حين برأ منصور نفسه ‪:‬‬
‫عارفة ياما أول ما أبويا بلغنى بالخبر من فرحتى بقيت زى المجنون و مشاريب الزباين كلها خلتها على‬
‫حسابى ‪ .‬أبتلعت كلماته بتأفف ‪ :‬شاطر زى اللى جابك ‪.‬‬

‫ضاقت وأنكمشت المسافة المتبقية للوصول إلى كرموز بينما لم يتوقف النونو عن الرغى طول الطريق‬
‫وكأنه أكتشف فجأة أن لديه حاسة الكالم ‪ ،‬سمعت منه فايزة ملخصا مؤجزا عن التاكسى وأيراداته‬
‫وصيانته وعن محمود المحامى وتفاصيل التعامل معه ثم معرجا على أحوال الحارة وسكانها وعن‬
‫العيشة واللى عايشنها ‪ ..‬ظل النونو على هذا الحال يتلو األخبار على شكل عناوين فى حين لم يسمع‬
‫صوت لعبده والحركة سوى أبتسامة يتيمة يظهرها كلما لوى رقبته ليناولها سيجارة ثم سرعان ماتموت‬
‫على شفتيه قبل أن يالزمه الصداع كصديق وفى ‪ .‬أكتفت فايزة بما سمعته من صبيها وتحولت بنظراتها‬
‫ناحية منصور ‪ :‬وأنت ياحيلة مافيش حاجة عايز تقولهالى ‪ .‬زحف بظهره معتدال ‪ :‬ما أستغناش ياما ‪.‬‬
‫بينما توارت رقبة عبده إلى داخل كتفيه كأنما يتفادى لكمة حين شعر أن دوره هو التالى إال أنها تخطته‬
‫عندما الحت أمام عينيها منطقة سوق الجمعة وهى أول حدود كرموز الجغرافية التى بدأت تتضح‬
‫معالمها على مدى الشوف فأعتدلت وأستقامت بظهرها وأصلحت أيشاربها ولم تخف أحساسها بالعظمة‬
‫فى حين يردد النونو ‪ :‬حمد اللـه على السالمة يامعلمة نورتى المنطقة ‪ .‬ويؤمن عليه عبده ‪ :‬أى واللـه‬
‫ياوله يانونو ‪ .‬توغل التاكسى إلى قلب كرموز النابض وغاص فى حواريها قبل أن يتسلل إلى أذنيها‬
‫‪147‬‬
‫صوت رجالى منغم من خالل ميكرفون اليزال أرساله بعيدا ‪ :‬عيلة حودة القط والحاج سلمان وأبو نادية‬
‫بيقولوا حمد اللـه ع السالمةوكفارة يامعلمة ‪ .‬سحبت نفسا متكبرا وأنتفخت رقبتها ‪ :‬دى الحبايب كلهم‬
‫متجمعين ‪ .‬قبل حارتين من حارة المناجيلى أستقبل الناس بالضجيج والفرح مرور التاكسى على‬
‫أراضيهم فأختلطت كلمات الترحاب بهمسات النميمة وأستحوذت كلمة " كفارة" على نصيب األسد‬
‫ترددها األلسنة عشرات المرات فى حين تطوع أشبال الحوارى بالجرى والدفع والطراخ وراء التاكسى‬
‫بينما واجهتهم فايزة بهزات من رأسها وتحية صامتة مع كف تلوح بها ‪.‬‬

‫دخل النونو بالتاكسى حارة المناجيلى دخول الفاتحين ويده على النفير لم تفارقه ‪ ،‬فتحرك حشد‬
‫المنتظرين وأحاط بالسيارة وبدت فرحة بال منطق ‪ ..‬صخب وزغاريد وأيقاعات موسيقية مدوية تنخر‬
‫فى األدمغة مصدرها " فرقة اللول الشعبية " وهى واحدة من الفرق العريقة فى كرموز والمدربة على‬
‫مواجهة الجماهير واأللتحام معها ‪ ،‬فتقدم رجال الفرقة األشداء وقد أنتفخت وجوههم بفعل مزمارا‬
‫يصرخون فيه وقد شقوا الصفوف وصوال للتاكسى قبل أن تخرج منه فايزة بعد أن فشل النونو فى‬
‫الوصول الى مدخل المقهى ‪ ..‬أرتفعت النغمات فى حماس على لحن " سالمة ياسالمة رحنا وجينا‬
‫بالسالمة " بينما تدافع نحوها نسوان الحارة كأجراء ضرورى ألثبات الحضور وليتحول صدغيها الى‬
‫مرمى يستقبل قبالت محمومة ومباركات قبل أن يتصدى لهن منصور منحشرا كعازل فى حين أفسح‬
‫النونو وعبده مجاال لها للمرور وهى تدلى رأسها فى تحية ثم ترفع كفيها على رأسها ثم صدرها كما‬
‫تلقت مجموعة من التهانى خالل مسيرتها بأتجاه المدخل من كبار تجار كرموز التى كان لها باع فى‬
‫التعامل معهم ‪..‬أتخذ هذا الوضع منها عشر دقائق قبل أن تطأ قدميها أعتاب المقهى والتى زينت‬
‫واجهتها بلمبات من فئة الـ ‪ 100‬واط بشتى األلوان بينما طاف جمعه فى نشاط وهمة على الجميع‬
‫بأكواب الشربات بلونها األحمر الصارخ فى حين تشكلت دائرة حول فايزة من المهنئين قبل أن تنتبه‬
‫فجأة على أنحسار الصخب وخفوت صوت مقدم التحيات فى الميكرفون حتى خرس تماما وتحول الرغى‬
‫إلى كلمات متقطعة حتى تالشت إلى همس ‪ ،‬فأرسلت نظراتها من بين أجساد الدائرة تستطلع حتى‬
‫ألتقطت عينيها مشهدا غريبا ومفاجئا حين رأت مجموعة من الشباب ال يتجاوز عددهم الخمسين فردا‬
‫والتزيد أعمارهم عن بدايات العشرينات يتقدمون بخطوات منتظمة كفرقة كشافة رافعين الفتة كبيرة‬
‫مكتوب عليها " ائتالف حارة عسليةيبارك عودة المعلمة فايزة الى حارة المناجيلى " حضورهم‬
‫المفاجىء أصاب الجميع بالدهشة واألستغراب وعلى رأسهم فايزة وقيادات الحارة ‪ ،‬الجميع يعلم حجم‬
‫الخصومة الشديدة بين الحارتين وأن كان سببها الرئيسى مازال تحت البحث والدراسة وإن كانت هناك‬
‫‪148‬‬
‫أقاويل تتناسل كالعادة تتردد من هنا وهناك عن أن أفرادا من حارة عسلية منشقين عن األئتالف قد‬
‫هجموا فى ليلة مظلمة على مقر جبهة حارة المناجيلى فى " زقاق نمنم " والذى أسفرعن ثالث أصابات‬
‫فى صفوف المدافعين من الجبهة وأستيالء المجموعة المهاجمة على فردين خرطوش وكمية من‬
‫السيوف والسنج أضافة إلى مائة زجاجة مولوتوف ‪ ،‬ومنذ ذلك اليوم ال تنقطع التحرشات والمناوشات‬
‫بين الحارتين من حين الخر وأن كانت هناك محاوالت من بعض السلفيين من رواد مسجد‬
‫" العزة لألسالم" لعقد حوارات مصالحة بين الطرفين بصفتهم وسيط محايد إال إنها باءت بالفشل ‪،‬‬
‫لذلك رأى أصحاب العقل والرأى النافذ فى األئتالف أغتنام فرصة خروج فايزة من السجن لتكون بادرة‬
‫خير فى أتجاه مصالحة شاملة ‪ ..‬تقدم " نعناعة " وهو قيادى بارز بخطوات منحرفة يجر قدمه العرجاء‬
‫نتيجة عن أصابة مباشرة تعرض لها أبان ثورة العطارين التى أندلعت العام الماضى بسبب قرارأصدره‬
‫مجموعة من العواطلية بتحويل شارع األمير " أحمد رفعت " وهو أحد الطرق الرئيسية التى يربط‬
‫نهاية شارع العطارين بشارع عمود السوارى إلى سوق شعبى وأفترشوا فيه بضاعتهم بطول الشارع‬
‫وعرضه إال أن أمن األسكندرية أنتفض ورفض هذا السلوك وباغتهم بحملة مكبرة أزالت البشر والحجر‬
‫فأنفجرت الثورة وتصدر الباعة المشهد وأنضم اليهم مجموعات من المسجلين ودارت معركة شرسة‬
‫لفرض األرادة والسيطرة أستمرت تالت أيام متتالية أستطاع خاللها أبطال العطارين أن يقهروا قوات‬
‫األمن وكان لهم ماأرادوا حتى بات الشارع ذكرى ‪ .‬أقترب " نعناعة " من موقع فايزة التى شدت‬
‫صدرها ورفعته فى شموخ وهى تنصت لكلمات الترحيب التى يلقيها فى هيئة بيان مقتضب أنهاه بعبارة‬
‫" اللـه الموفق والمستعان " ثم تقدم إليها وأنحنى برأسه وهو يمد لها علم مصر مطويا فتسلمته ثم‬
‫قلبته بين يديها تبحث داخله عن هدية أو تذكار ‪ ،‬لكنها لم تجد شيئا فتجهم وجهها وأنحنت برأسها تقبل‬
‫العلم فى مشهد مفعم بالوطنية وبنبض الثورة !‪ ..‬وما أن تسلمته حتى شاع الفرح والزغاريد وهتفت‬
‫الحناجر " حارة عسلية وحارة المناجيلى أيد واحدة " فأهتزت بيوت الحارة الواهنة وتعلقت األبصار‬
‫بفايزة حين أستندت بيدها على منصور وعبده كعكازين لرفعها على الكرسى الذى أمتطته واقفة ثم‬
‫دارت بعينيها فى الوجوه تستمتع بالمجد ثم سحبت أطول نفس يمكنها أن تسحبه من حنايا صدرها‬
‫وأنطلقت تتكلم بعفوية ‪ :‬كتر خيركم ياحبايبى ياأهلى وناسى ‪ ..‬تصفيق يعقبه زغاريد فتشير لهم بيدها‬
‫لتهدأتهم ‪ :‬أنا اللى عايزة أقوله أن ربنا كرمنى ومدتى فى السجن عدت على خير وسالم وإن شاء اللـه‬
‫اللى جاى معاكم هنا فى حارتنا حيكون أحسن ‪ ..‬بس الصبر شوية لغاية ماأخد نفسى وأشوف الدنيا بقت‬
‫رايحة لفين وعن قريب إن شاء اللـه حأرجع أشتغل تانى وحتشوفو بعينيكو أحلى بضاعة وأحسن‬

‫‪149‬‬
‫ماركات وكل اللى نفسكم فيه أنا حأجيبه وبرضه على قديمه بالتنقيط مش بالتقسيط واللى عايزة تجهز‬
‫وتشور بنتها ماتشغلش بالها طول ما أنا موجودة واللى عايزة تأسس بيتها وتكمل الناقص بعون اللـه‬
‫كله سهل وعندى ‪ .‬قوبلت كلماتها بهيجان وفورإن من الحماس قبل أن تهبط من كرسيها مستندة على‬
‫كتفى النونو التى همست فى أذنه ‪ :‬كفاية لحد كده ولم الدور أنا تعبانة وعايزة أروح بيتى ‪ .‬تدخل عبده‬
‫بعد أن ألتقطها ‪ :‬حاضر يافايزة حاضر ياختى ‪.‬‬

‫أنفض المولد أمام المقهى وتم سحب فايزة إلى بيتها سيرا على األقدام فى رحلة لم تستغرق سوى عشر‬
‫دقائق ‪ ..‬وقفت عند عتبة شقتها بعد أن شكرت وودعت المهنئين ومن خلفها كالعادة فى تلك المناسبات‬
‫بعض الصحبة من الجيران والمقربين بينما وقفت هى تستطلع الشقة وتتقصى مافيها ‪ ،‬ودون أرادة‬
‫منها تعلقت عينيها بصورة زفافها المتصدرة حائط الصالة المواجه لباب الشقة وقد بدا فيها " عبده "‬
‫نحيفا طويال وياقة قميصه األبيض أكبر من مقاسه بنمرتين بينما هى تتعلق بذراعه وأسندت رأسهاعلى‬
‫كتفه وهو يلف ذراعه بأحكام حول خصرها وكان يضحك غير أنه بدا وكأنه يريد ــ أحتراما للصورة ـــ‬
‫أن يقيد فرحته ويبدو عريسا رصينا ‪ ،‬فغلبته الضحكة وظهر معلقا بين الحالتين ‪ ..‬بعد عملية جرد‬
‫سريعة لمحتويات الشقة تربعت فايزة على رأس جلسة جمعت فيها صديقاتها وجيرانها من حارة‬
‫المناجيلى وبعض الحوارى المجاورة ‪ ،‬أحاطت بها نسوة لهن مثل مالها من وقاحة خبيثة وبذاءة فى‬
‫األشارة والقول وأمامهن صينية عليها براد شاى بناء على طلب من فايزة لعله يعدل ما أصاب رأسهـــا‬
‫من صداع فتطوع النونو فى تجهيزه ‪ ،‬أسهبت فايزة فى السرد وحكت الكثير والكثير عن بطوالت‬
‫ومغامرات لها فى السجن فأستولت على عقل من كانت على يمينها وهى أمرأة بيضاء الجلد ممتلئة أكثر‬
‫مما يلزم أل مرأة واحدة ويناديها أهل الحارة بـ " نجية جيلى " وأخرى على يسارها بال معالم معدومة‬
‫التضاريس وبدون فواصل ينقصها القعر والسقف وأمامها جلست سمراء مهزولة تحفظ قاموسا من‬
‫النكات المكشوفة أثارت بها موجات من الصهللة ‪ ،‬كانت معانيها فاجرة تلقيها دون حياء وبطابع سوقى‬
‫مبتذل تجعل منها نموذجا فاضحا لحرائر " زقاق النص " محل أقامتها وهو متفرع من حارة المناجيلى‬
‫الذى اليدخله من حالوة العيش نور ‪ .‬مرت ساعة وصار البيت شبه خالى بعد أن أنسحبت النسوة واحدة‬
‫فى أثر واحدة وما تبقى غير " أم الشحات " أما الرجال فلم يكن هناك سوى عبده ومنصور وجمال‬
‫النونو قبل أن تنصرف أم الشحات وفى ذيلها منصور بصحبة النونو وخلت الساحة تماما إال من عبده‬
‫فى مواجهة فايزة التى تفحصته وهو خاضع أمامها فمسحته بنظرة من أعلى إلى أسفل وكأنها تعيد‬
‫تقييمه إلى أن قالت ‪ :‬أنا داخله أستحمه أغسل جسمى من أرف السجن وبالويه‪.‬‬
‫‪150‬‬
‫فتح فمه عن أخره مبتسما ‪ :‬الزم يافوز وأنا مستنى فى األوضة ‪ .‬عشر دقائق أنهت فيها مراسم‬
‫األستحمام ‪ ،‬غسلت كعبيها بالحجر وسلخت لحمها بالماء الساخن حتى عاد لونه األصلى ثم تكحلت‬
‫وخرجت منه غير مادخلت وبدت وكأنها تستعيد أمرأة كاملة ولت عنها منذ أعوام ‪.‬‬

‫أستلقت على السرير بقميص نوم أسود خفيف ‪ ،‬فردت ساقيها أمام عبده ينتظران بلهفة لحظة األلتحام‬
‫فبدأ معها نوعا من المداعبة بينما هى التتمنع بل تركته يتلمس أجزاءها ويتحسس خريطتها بينما عينيه‬
‫تدور فى جسدها بنظرة متأففة ‪ ..‬كم كان يتمنى أن يكون لها خصر يفصل الذى فوق عن الذى تحت‬
‫كخصر " كريمة " أخر زواج عرفى أو يكون لها صدر بنهدين كعصفورتين طليقين بدال من هاتين‬
‫الكومتين من اللحم المتدليتين إلى بطنها فى حين كان جسمها ينتظر طائعا بعد سنوات الحرمان بينما‬
‫أصابع عبده تتحرق نحو الرقبة وهى ساهمة فى رضا فزادت الحماسة وتسارعت األصابع كى تغزو‬
‫مناطق جديدة ‪ ،‬وفى مشهد مباغت قبل أن ينهى حديث األصابع فك عبده أزرار جلبابه وراح يخلعه ثم‬
‫سحب سرواله فى حركة خاطفة وقذف به إلى وسط الغرفة ليخرج السروال خارج المشهد قبل أن يضيق‬
‫بوجود " الفانيال " على لحمه ويطيح بها بجوار السرير ولم يبق سوى لباسه األخير فأندفع إلى جوارها‬
‫حتى أندفست هى معه تحت البطانية وبدأ األلتحام وراحا يستخدمان اآلذرع واألرجل بشكل عشوائى‬
‫وعاشا فى لحظات فيما يشبه األغماءة وهما يخوضان فى حلكة عمياء تحت البطانية معركة البحث عن‬
‫اللذه بال بصر وال بصيرة متعمدا أن يكون شرسا وعنيفا مما أثار حنقها وجزعها حتى أنتهى فدفعته‬
‫عنها فى غيظ ‪ :‬قوم كتك األرف ده أنت حمار ‪ .‬أخلى سبيلها محتال مكانا إلى جوارها بينما تحولت هى‬
‫إلى كيان منكوش الشعر مجهدة المالمح بعد ممارسة ال تشبع وال تروى فبدت منتهكة وغاضبة بينما هو‬
‫يلهث للحظات ثم هزته دفعة من السعال فشلت فى خنقه مرات عديدة وأستدار على جنبه الصقا صدره‬
‫بظهرها المتقوس كأنما عادت إلى رحم أمها وشكل أنحناءة جسمه على رسمها وفحيح أنفاسه التى‬
‫تلهب ظهرها جعلتها تتململ وقالت والوخم يغلف كلماتها وقد تعمدت أن ترفع صوتها بعد تثائب أخفته‬
‫وراء كفها ‪ :‬أبعد شويه الدنيا حر ‪ ..‬أدار ظهره لها يستدعى النوم ‪.‬‬

‫الفصل الخامس‬

‫فى يومها التالى فى عالم الحرية أرادت هدى أن تحقق لنفسها أمنية طالما راودتها طيلة فترة سجنها‬
‫وهى زيارة قبر نديم ‪.‬‬

‫‪151‬‬
‫هنا فى المقابر ‪ ..‬الزمن واحد والليل والنهار واحد ‪ ..‬والصمت واحد ‪ .‬الموتى كل منهم اليملك أكثر من‬
‫مساحة حجمه ‪ .‬أقتربت هدى من مدفن أسرة نديم الذى يقع على يسار البوابة الرئيسية لجبانة المنارة‬
‫تتبعها أيات وبجانبها بسمة ‪ ،‬أجتازت باب المدفن المنخفض بأنحناءة حيث أن أرتفاعه عن األرض‬
‫ال يتجاوز المتر وكأن الذين بنوه قد قصدوا أن ينحنى له داخلوه ‪.‬‬

‫أستقبلت هدى قبره برعشة وكأنه زلزال ضرب كيانها ‪ .‬كانت مأخوذة بقبره بأنخطافة تدعوها للتكوم ‪،‬‬
‫فجثت على كعبيها صامتة تتأمل القبر وكأنها ترى شيئا ال تراه الواقفتان خلفها ‪ .‬فأيات تراقبها وقد‬
‫شبكت يديها على بطنها وقد جف وجهها وجفت عيناها بينما بسمة ترصد المشهد من وراء أمها تراقب‬
‫المكان الملفوف برهبة الموت وجو الغموض القاتم بفعل أضاءة قليلة متسربة خلفهم على أستحياء من‬
‫باب المدفن ‪ .‬فى حين شعرت هدى بالثورة فى نفسها وهاج شعورها وأحست بفداحة الفراق ‪ ،‬فبالرغم‬
‫من مرور تلك السنوات لم تبهت ذكراه أبدا ودائما ماكانت تتحدث عنه وإليه بنفس الصوت الخاص‬
‫القديم الذى أعتاده منها نديم ‪ ،‬إال إنها لم تعد تستطيعه األن ‪ ..‬صوت لم تعد تجده ‪ ..‬تتحدث بال كلمات‬
‫وكأنه يفهم عنها كل شيىء ‪.‬‬

‫قرآن الفاتحة كان بداية المراسم الذى ألهب الحماس وجدد األحزان بينما هدى أنحصر فكرها وهى‬
‫فى هذه الصحبة إلى تحليالت وتأمالت وهى تغوص بكيانها فى أعماق قبر نزلت اليه ذات يوم جثة رجل‬
‫كان أليف ماندتها وشريك فراشها ثم خبأتها األرض التى أكلتها وهضمتها وتطوى صفحة قصيرة من‬
‫كتاب حياتها ‪.‬‬

‫أخبارية سريعة من عم " بكر " حارس الجبانة جاء على أثرها عم " السيد " التربى يسحب فى يده‬
‫مقرىء ‪ ..‬خلعا نعليهما وجلسا أمام القبر فى خشوع ‪ ..‬شرع المقرىء يرتل القرآن فى عجالة دون‬
‫أجادة ‪ ،‬لم يبلغ فى نفوسهم جالل األيات ولم يومض فى صدورهم المعانى الغالية ثم قفز بينهم فيتلو‬
‫دعواته ‪ ..‬يجف ريقهم من سرعة وكثرة الـتـأمين على دعائه الذى أنهمر كالسيل ‪ ..‬أمين األخيرة‬
‫يقولها معهم ويمطها ‪ ..‬أميــن ‪ ..‬قالتها هدى ونفحتهما أيات ببعض الجنيهات قبل أن يختفيا عن العيون‬
‫فى سرعة البرق بينما جلست هدى فى مكانها تتلو أيات من القرآن مما حفظته تحت أشراف‬
‫" الحاجة زينب " فى مسجد السجن وبدأت متحمسة تقرأ القرآن ‪ ..‬كان واضحا الفارق بين القراءتين‬
‫فتجلت المعانى القرآنية فى تالوتها وتدريجيا شرع صوتها يتوتر ويختلج وبدأ يتعثر إلى أن سيطر‬
‫النشيج المرتعش وأنهمرت الدموع وأهتز جسدها فى عنف بينما دعتها أيات للصمود بعد أن أخذت نفسا‬
‫‪152‬‬
‫عميقا وبحثت داخلها عن شيىء من التماسك والقوة ‪ :‬كفاية كده ياهدى وأدعيله بالرحمة ‪ .‬ترددت فى‬
‫أخراج صوتها قبل أن تعثر على نبرة خالية من الحشرجة ‪ :‬نديم وحشنى أوى ياأيات كان نفسى يبقى‬
‫جنبى ‪ ..‬كان حبيبى وأخويا وصاحبى ‪ .‬قالت عبارتها ثم أكملت " سورة الرحمن " ودعت له بالرحمة‬
‫وبجنات النعيم ثم غلبها البكاء مرة أخرى ‪ .‬فاضت دموعها وتابعتاها بينما نزلت بسمة على ركبتيها‬
‫وأصبحت فى محاذاة وجه أمها ‪ :‬ياله بينا ياماما قومى معايا ‪ .‬غادرن باب المدفن كما دخلن بأنحناءة ‪..‬‬
‫خرجن كأحصنة متعبة تنهى السباق ‪ ..‬واجهن جنازة تتقدم وحملة النعش يركضون وكأنما يسحبهم‬
‫النعش نحو المقابر ‪.‬‬

‫‪00000000000‬‬

‫سحب " خيرى علم الدين " نفسا عميقا بعد مكالمة قصيرة من صديقه " برسوم " أبلغه فيها بتأجيل‬
‫األجتماع المقرر يوم الخميس فى السابعة مساء بمقر جريدة " أسكندرية اليوم " إلى صباح اليوم التالى‬
‫فى التاسعة والنصف ألنشغال بعض األعضاء فى التحضير لحملة " تمرد " التى تجوب األسكندرية طوال‬
‫وعرضا لسحب الثقة من الرئيس مرسى ‪ ،‬وجد خيرى فى ترحيل الموعد لعدة ساعات فرصة ألنهاء‬
‫ما بدأه حيث قضى ساعات طويلة خالل األيام الماضية عاكفا على مكتبه الصغير فى غرفة نومه يضع‬
‫تصورات تفصيلية عن تلك المرحلة ‪ ..‬شرح فيها كل شيىء من وجهة نظره حاضرها ومستقبلها حتى‬
‫تفككت أعضائه ‪.‬‬

‫أراد خيرى من وراء كتاباته رصد تفصيالت المشهد السياسى من كل جوانبه والوصول إلى منطق جديد‬
‫يستطيع طرحه غدا على مجموعة األعضاء من واقع أيمانه الشديد بأنه البد من أفكار وخطوات واضحة‬
‫ومبتكرة تميز عمل تلك المجموعة عن باقى المجموعات والحركات واألحزاب الموجودة حاليا على‬
‫الساحة ‪ ،‬فأعد مجموعة من األفكار والبرامج رأى فيها تطورا وشكال جديدا من أشكال المقاومة للنظام‬
‫األخوانى الحاكم ‪ ،‬ساعده فى ذلك تميزه الفطرى ‪ ،‬فهو يتأمل " الفكرة " قبل أن يقدم على تنفيذها ‪ ..‬أنه‬
‫يتعذب كثيرا وهو يكتشف فى لحظة عيبا مؤلما فى أداء القوى السياسية كافة ‪ ،‬فمعظمهم ببغاوات‬
‫مهرجة بينها وبين دهاء السياسة مابين قرد الغابة وحكمة الفالسفة ‪ ،‬أما أداء مايسمى " القوى‬
‫الليبرالية أو المدنية " فوجد فيه هزال سقيم ‪ ،‬فعندما يصغى اليهم مستمعا لحواراتهم فى برامج‬

‫‪153‬‬
‫التليفزيون فى بعض الليالى ‪ ،‬فالشيىء الوحيد الذى يعود به الى سريره وجعا شديدا فى عضالت معدته‬
‫وأنتفاخ فى الخصيتين !‪.‬‬

‫أخيرا أنهى خيرى مابدأه فى الرابعة فجرا حتى ثقل جفناه وداهمه النوم ‪ ،‬لكنه قاوم ‪ ،‬وان لم يفعل‬
‫فالصباح سيفر منه ‪ ..‬صلى الفجر فى غرفته أمام مكتبه ثم تمدد على السرير يصارع النوم حتى هزمه‬
‫بصعوبة وطلع النهار وقبل أن يبيض تماما قام مترنحا من فراشه حتى بلغ الحمام ووقف أمام‬
‫الحوض حتى تجرأ وأنحنى برأسه يستقبل الماء البارد من الصنبور حتى غمر رأسه وقفاه وتدحرج إلى‬
‫سلسلة الظهر ‪ ..‬أفاق ثم أرتدى بدلته " الفيرانى " وقميص سماوى وكرافت كحلى ثم نظر إلى وجهه‬
‫فى المرآة‪ ..‬وعدل وضعه ومر بيده على شعر رأسه ‪ ..‬أمعن النظر فى تلك الهالة الرمادية التى أحاطت‬
‫بالعينين ‪ ،‬ومضةأسى ‪ .‬كان يقينه يتحقق وسحبت األربعين الخمسين من العمر ‪ .‬كان قانعا بما سينتهى‬
‫به المطاف ‪ ،‬مرتديا أخر عمره طاقية بيضاء على جلباب أبيض تاركا لحيته ليبدو مثل أولياء اللـه ‪..‬‬
‫ولكنه لم يلبث أن أتهم نفسه بالنرجسية وأشاح بوجهه وهو يدرك أن حساب العمر اليوم يتم بالخصم‬
‫ال باألضافة ‪ ..‬تماسك حتى التنسيه اللحظة العبثية ما هو مهيأ لتنفيذه ومستعد للقيام به ‪ .‬جمع أوراقه‬
‫المتناثرة وحبس أنفاسه وخيل إليه أنه يملك قوة شمشون فأحكم أصابعه كلها حول كومة األوراق‬
‫ودسها داخل حقيبته " السمسونيت " ثم جذبها بعد أن أغلقها بأحكام وهو يقول محركا رأسه وكتفيه ‪:‬‬
‫على اللـه يقدروا يفهموا اللى أنا كتبته فى الورق ده ‪ .‬كان يشعر أن األوراق دونه بال معنى وبال‬
‫شخصية ‪ .‬مجرد أوراق ‪ .‬مضى يحس بنشوة لم يمارسها و أخذ يستعد للمهمة الجليلة ‪.‬‬

‫تمام التاسعة صباحا ‪ ..‬يتدفق خيرى إلى الشارع بقدميه سيرا إلى مقر جريدة " إسكندرية اليوم "‬
‫بمنطقة األزاريطة التى ال تبعد عن منزله سوى عشرون دقيقة مشيا ‪ ..‬تململ فى مشيته ‪ ،‬فالشمس‬
‫بدأت تغضب وتصب لعناتها وتستعرض قدرتها على حرق الوجوه ‪ ..‬يسير وال يعبأ بالسيارات التى بدأت‬
‫تصرخ وتذكره أن اليوم بدأ بالفعل ‪ .‬زادت حيويته ودب فيه الحماس حين عبر الشارع بأتجاه المبنى ‪،‬‬
‫أستقبل المدخل بنشاط وأندفاعة قبل أن تستوقفه مجموعة الفتات تزاحمت على جدران المدخل تشيرإلى‬
‫أس ماء أطباء ومعمل تحاليل ومكاتب محاماة بحث فيهم بعينيه حتى عثر على الفتة صغيرة محشورة فى‬
‫زاوية خافتة تحمل أسم جريدة إسكندرية اليوم فمنحها نظرة عطف قبل أن يصعد السلم المرمرى ليواجه‬
‫بتنويه صادم كتب بخط أسود كئيب " المصعد معطل" ‪ ..‬من بئرالسلم تطلع إلى أعلى بعينين تدور مع‬
‫الساللم صاعدا دورا فدورا ‪ ..‬فقد كثيرا من همته ونشاطه حين بلغ طابق الجريدة‪ ..‬وقف للحظات يحاول‬

‫‪154‬‬
‫تنظيم أنفاسه ثم دخل على أستحياء قبل أن تلتقط أذنيه أصوات صادرة من مكان ما بالداخل ‪ ،‬كانت‬
‫متفاوتة الطبقات بين المنخفضة والمحتدة والعاقلة ؟‪ ،‬فأبطأ خطوته وبدا كمستكشف وهو يتخبط بنظراته‬
‫فى طرقة نحيفة طويلة حينها أدرك أنه بحاجة ألستعمال موبايله‪ ..‬رنة واحدة منه كانت كافية لخروج‬
‫" برسوم " مهروال من تلك الزاوية المخفية التى ال ترى عبر الطرقة ‪ ..‬رمقه خيرى فى صمت قبل‬
‫أن يصل إليه برسوم بوجه محتقن ‪ :‬أيه اللى أخرك كده ياخيرى ‪ .‬جال برأسه متفقدا ‪ :‬همه األحرار‬
‫وصلوا ‪ .‬قالها بأبتسامة وسارا حتى نهاية الطرقة ثم أنحرفا بأتجاه الزاوية ومنها إلى قاعة كبيرة تضم‬
‫مجموعة رجال بكامل عددهم كمانوه سابقا األستاذ برسوم وقد ألتفوا كسوار من لحم بشرى يحتضنون‬
‫مائدة مستديرة التبعد سوى مترين عن منصة صغيرة بها ميكروفون وفى خلفيتها شعار الجريدة ‪.‬‬
‫سحب "برسوم " صديقه من يده الذى تأخر بخطوة قبل أن يعد له كرسيا إلى جواره مخاطبا الجمع‬
‫المترقب ‪ :‬أحب أعرفكم باألستاذ خيرى علم الدين زميلى وصديق عمرى وزىماقلتلكم قبل كده أنه‬
‫صاحب رؤية وله وجهة نظر ووجوده معانا حيساعدنا كتير خصوصا فى المرحلة دى ‪ ..‬تعليقات تحمل‬
‫ترحيبا وقبوال قابلها خيرى بأبتسامة وتحية صامتة ‪ ..‬فى حين أستهل بدايات الحديث رجل بدين وقور‬
‫المالمح فى منتصف الخمسينات له نظرة مباشرة ونبرة هادئة ينادونه باألستاذ " دراز " وهو مالك‬
‫الجريدة ‪ .‬أعتدل ناطقا ‪ :‬فى البداية بأرحب بيكم كلكم وبأكرر أسفى على تغيير الميعاد وأن كان السبب‬
‫مقبول ألن أى تحرك بأتجاه أسقاط األخوان ورئيسهم أحنا معاه وبندعمه ‪ .‬عشر دقائق كاملة أستغرقتها‬
‫كلمة األستاذ " دراز" أنهى فيها المقدمة الترحيبية قبل أن ينتقل إلى سرد األحداث التى وقعت فى‬
‫األسبوع الماضى حسب ترتيبها الزمنى دون تعقيب أو تعليق حتى أنتهى عند أخر حدث ‪ :‬وتقريبا كده‬
‫معظم أحياء أسكندرية وقعت على أستمارة تمرد وده يعتبر تحول كبير فى خريطة مواجهة األخوان وده‬
‫اللى حناقشه النهاردة ‪ .‬ختم نشرة األخبار ثم أرسل أبتسامة مفاجئة بأتجاه خيرى ‪ :‬وأحب أقدم تحياتى‬
‫وترحيب المجموعة كلها باألستاذ خيرى على تفضله وحضوره معانا النهاردة ‪ .‬أستقبل األخير الكلمات‬
‫بكحة مصطنعة ‪ :‬الحقيقة أنا اللى زادنى شرف بحضورى هنا وسط المجموعة المحترمة دى اللى بتحب‬
‫بلدها وخايفة عليها من مصير مجهول وأتمنى أن المناقشات وعرض وجهات النظر تقدرتساعدنا‬
‫على وضع خطة واقعية ممكن ترجمتها على األرض ‪ .‬قاطع برسوم ‪ :‬أن شاء اللـه المناقشات حتتم‬
‫ياأستاذ خيرى بس ياريت تتفضل األول على المنصة تسمعنا رؤيتك وتعرفنا وجهة نظرك ‪ .‬قالها ثم‬
‫نهض واقفا وأزاح كرسيه ليمر خيرى بأتجاه المنصه بعد أن فتح حقيبته وأخرج منها كومة أوراقه ‪..‬‬
‫بلغها ببطء ثم بسط أوراقه على المنصه قبل أن يسحب واحدة منها ويقربها أمام عينيه ثم شرع يقرأ‬

‫‪155‬‬
‫ما كتبه ‪ :‬بسم اللـه الرحمن الرحيم ‪ ..‬أحب أوجه التحيه ‪ ..‬ثم سكت فجأة ولم يكمل بدا كاألخرس ‪ ..‬رفع‬
‫عينيه وتأمل الوجوه المنتبهة ثم أزاح الورقة من أمام عينيه وكأنه يبعد حاجزا ظهر فجأة ‪ :‬المفروض‬
‫أنى أقرأ اللى مكتوب فى الورق وأشرح وجهة نظرى ورؤيتى زى ماأتفقت مع األستاذ برسوم ‪..‬ياريت‬
‫تسمحولى أتكلم معاكو ببساطة ووضوح ‪ ..‬وأول حاجة الزم نكون متفقين عليها أن األحداث على‬
‫األرض أسرع بكتير من أى كتابة ومن أى أوراق وحتى من المناقشات نفسها والحاجة التانية ودى‬
‫مهمة جدا بالنسبة لى أنى مش عارف هى أيه الخطوات اللى حيتم تنفيذها على األرض ‪ ..‬ده لوفرضنا‬
‫يعنى أننا أتفقنا على رؤية واحدة ‪ ..‬عشان كده الزم يكون فيه تحديد لألولويات وتدبيراألمكانيات اللى‬
‫حتربطنا بالشارع وتخلينا فاعلين فى األحداث أو حتى على األقل جزء من التفاعل ‪ .‬ألتقط أنفاسه وتمهل‬
‫قليال وأمسك الميكرفون بأصابعه وتابع مبتسما ‪ :‬بصراحة أنا أول مرة فى حياتى أتكلم فى ميكرفون‬
‫فياريت تسامحونى لو فى أرتباك ‪ .‬ثم عاد إلى مالحظته ‪ :‬أعذرونى على اللى أنا قلته ‪ ،‬لكن أعتقد أن‬
‫حضراتكم متفقين معايا فى وجهه النظر دى ‪ ،‬وعلى العموم أنا برضه حأقولكم على وجهه نظرى‬
‫المتواضعة من اللى أنا شايفه على الساحة قدامى ‪ .‬طوى أوراقه ثم وزع نظراته على الموجودين وقال‬
‫شارحا ‪ :‬حضراتكم تفتكروا أن فى أيام مبارك كان فى تضخيم لقوة الدولة ومؤسساتها وخصوصا‬
‫المؤسسة األمنية وتقريبا كلنا كنا مقتنعين أن أحنا عايشين فى دولة قوية على األقل أمنيا وأن كل شيىء‬
‫مرصود وتحت السيطرة لغاية ماجه يوم ‪ 25‬يناير وأكتشفنا كلنا مفاجأة كبيرة ومدوية وبالبلدى كده‬
‫عرفنا أن شوية عيال مايجيش عددهم تالت أربع تالف دوخوا األمن وخلوهم ياولداه مكسحين وأتكشفوا‬
‫بسرعة واللى كان نتيجته نزول الماليين للشوارع وبقت كل ساعة تعدى نتأكد أكتر أن البعبع األمنى‬
‫ماعدش له وجود أنسحب وأتبخر من كل مصر ‪ ..‬اللى عايز أقوله من ورا كالمى ده أننا الزم نطبق‬
‫نفس القياس على األخوان وعلى السلفيين بمعنى أننا أتضحك علينا للمرة التانية وأتصدرت لنا صورة‬
‫مبالغ فيها عن قوتهم وعددهم وتنظيمهم وأنا على قناعة تامة أننا قريب أوى حنكتشف قلة عددهم‬
‫وضعفهم الشديد وأن الشعب المصرى ممكن بكل سهولة فى الفترة الحالية أنه ينهى ظاهرة التيارات‬
‫الدينية وبالضربة القاضية كمان واأليام حتثبت صحة الكالم ده ‪ ..‬سحب نفسا بطيئا كى يصبغ جملة‬
‫جديدة تدور فى ذهنه ‪ :‬آخر نقطة أحب أطرحها عليكم أننا الزم نأخد خطوات سريعة وعمليه عشان‬
‫الطرف التانى بيتحرك بخطوات أسرع بهدف التمكين واألستيالء على كل حاجة واألوراق اللى معايا دى‬
‫كتبت فيها تصور يمكن تنفيذه على األرض وحأوزعه على حضراتكم عشان تطلعوا عليه وبعد كده نحدد‬
‫ميعاد سريع نتناقش فيه ونشوف ممكن نعمل أيه ‪ .‬وقبل أن ينهى كالمه سحب الورقة األخيرة من كومة‬
‫‪156‬‬
‫أوراقه ونظر اليها بعينيه الموغلتين فى العمق توحيان بأنفعاالت المحظور وقرأ أخر كلماته فى الورقة‬
‫األخيرة ‪ :‬هناك صراعات ستفضى حتما الى هزيمة للبلد من نوع أخر وساعتها سيكون الكالم بحديث‬
‫الراحلين حتما !!‪..‬قالها ثم هدأت نبرته وخرجت منه جملة لم يعرف من أين عثر عليها ‪ " :‬وكأن هذا‬
‫الشعب يولد من زمن عاقر " ‪.‬‬

‫وضع ورقته أمامه ونظر إلى الجالسين بينما صمت الجميع لحظة وكأنهم راحو فى غفوة قبل أن تعبر‬
‫كلماته من أوراقه إلى عقولهم بعدما نهض واحد من الجالسين يعبر عن أعجابه ‪ :‬كالمك ممتاز ياأستاذ‬
‫خيرى أنا بأحييك ‪ ..‬وكأنها أشارة متفق عليها فبادر الجميع بالتصفيق وتحرك األستاذ " برسوم" بأتجاه‬
‫الم نصة فكان أول من القاه خيرى وصافحه وضغط على يده ‪ :‬أحسنت ياخيرى ‪ ..‬كالمك مهم وموجز‬
‫ومتهيألى لما نقرأ توصياتك اللى فى الورق أكيد األمور حتوضح أكتر ‪ .‬هز األخير رأسه مبتسما دون‬
‫تعليق ‪.‬‬

‫‪0000000000000‬‬

‫" هدى " رغم تحررها من السجن تقبع فى أعماقها أمرأة حبيسة ‪ ..‬أنطلق عقلها وجسدها خارج‬
‫القضبان ‪ ،‬لكن بقى جزء من كيانها أسيرا ‪ ..‬حاضر جديد يحيط بها من أول ساعات النهار حتى هبوط‬
‫الليل ‪ ..‬تحايلت على نهارها وقسمته لتقصف عمر ذلك السكون الممطوط ‪ ،‬فقضت أيامها األولى على‬
‫وتيرة مسالمة ال تكاد تتغير ‪ :‬من الغرفة هذه الى تلك ومن المطبخ الى الصالة ‪ ،‬تجوب الشقة وتطوف‬
‫فى غرفها تستكشف وتنقب فى كل ركن ‪ ،‬غريزة األم داخلها تدفعها للبحث عن وجود فعال وقوى‬
‫ليعوضها سنوات أختفاءها القصرى ‪ ،‬أما فى المساء فتفتح رأسها على مصراعيها لتمألها بأخبار‬
‫وبرامج التليفزيون محاولة منها لاللمام بموضوعات مستحدثة تستخرجها وتستلهمها مدفوعة بأعجاب‬
‫منقطع النظير باألعالمية " لميس الحديدى "‬

‫اليوم أستهلت " هدى " صباحها بالتوجه الى غرفة أبنتيها بعد أن خرجتا مبكرا األولى للجامعة والثانية‬
‫لألتيليه ‪ ،‬بدأت بتنفيذ ماأتخذته باألمس من قرارات بينها وبين نفسها وفى مقدمتها القيام بعملية تنظيف‬
‫شاملة لكل غرف الشقة بأستثناء غرفتها التى أنتهت منها باألمس ولم تتركها إال وقد أعادتها لسابق‬
‫عهدها بعد أن وضعت خطة سريعة كان أول بند فيها صندوق ذكرياتها ‪ ..‬سريرها الذى حمل خريطة‬
‫جسمها وأحتوى فحولة الزوج الراحل الذى عبر بها حقبة الفتاة الحالمة إلى امرأة أشبعته حتى التخمة‬

‫‪157‬‬
‫ومأل أناءها من فيضانه الهادر الذى جرف فى طريقه كل الحواجز والفوارق وأودع فى قاعها ثالث‬
‫بذرات صارت بعدها ثمرات هى كل ماتحصلت عليه من أيام الرضا ‪.‬‬

‫دعكت أخشابه بلمعة موبليا قبل أن ترفع مراتبه للتهوية كما أعادت نجفتها القديمة من منفاها ببلكونة‬
‫المطبخ ‪ ،‬وجاهدت معها لتحيا بدعم من الماء الساخن الذى أزال عنها تراب السنين وكأن الحياة تعود‬
‫لها تدريجيا قبل أن يقول الليمون والكربونات كلمتهما الحاسمة فبزغ بريقها الذهبى القديم وباتت جاهزة‬
‫للتعليق ‪ ،‬إال أنها لم تستطع أكمال المهمة بمفردها فأستعانت بـ " نوح " البواب للمساعدة والذى أبدى‬
‫حماسة ولبى النداء ‪ ..‬نزع النجفة الفضية وعلق الذهبية وقام بتوصيل أسالكها كما أشرف بنفسه على‬
‫فك مرآة الدوالب المشروخة وحملها طواعية الى ورشة زجاج بشارع " صالح الدين " وقام بنفسه‬
‫بعملية التركيب وبمجهود فردى نال به أستحسان هدى بعد أن قاوم فى عناد رعشة أصابعه حتى أنهى‬
‫المهمة المستحيلة التى أستهلكت منه وقتا كبيرا كان يكفى لتركيب عشر مرايات ‪ ،‬وبالرغم من ذلك لم‬
‫يتسرب الملل أو الضيق إلى نفس هدى بعدما عوضها نوح بتقديم تقرير وافى عن العمارة وسكانها فى‬
‫التسع سنوات الماضية ‪ ..‬سرد لها وقائع وأحداث بأداء سهل وموجز راعى فيه عدم الخوض فى‬
‫األعراض أو المسائل الشخصية كعادته دائما ‪.‬‬

‫يوم كامل قضته فى غرفتها قبل أن تتمكن من ترتيب تفاصيلها السابقة وكأنها ترمم أثرا نجحت فى‬
‫أعادته إلى زمن الزال مقيما داخلها ‪ ،‬فكان من حقها فى نهاية اليوم أن تلصق ظهرها بالحائط وتحبس‬
‫أنفاسها وهى تلف غرفتها بنظرة أيقنت منها عودة الروح إلى كل ركن فيها فتحررت أنفاسها الحبيسة‬
‫وهى تردد ‪ :‬الحمد للـه هى دى أوضتى اللى سيبتها من تسع سنين ‪ ..‬فى مساء نفس اليوم أستقبلت‬
‫آذانها عبارات الدهشة واألعجاب على لسان كل من عاين غرفتها واضعين ذلك المجهود فى خانة‬
‫األنجازات المدهشة ‪ ،‬غير أنها قاطعتهم متوعدة ‪ :‬أنتوا لسه شفتوا حاجة ‪ ..‬من بكرة حأفرم باقى أوض‬
‫الشقة وبعد كده الصالة وحيكون الحمام والمطبخ همه مسك الختام ‪ .‬كلماتها كانت رسالة واضحة وقوية‬
‫بأنها نجحت فى األنغماس فيما يحيط بها من مكونات مختلفة حيث تالشت صور السجن وأبتلعت الصور‬
‫الجديدة وأستسلمت لتفاصيل حياتها وراحت تغيب فى عالمها الصغير بعد أن وجدت الساحة خالية‬
‫أمامها لوضع بصماتها على كل شبر فى المنزل ‪ ،‬فنورا نهارها وليلها تقريبا فى األتيليه بعدما أطمأنت‬
‫لوجود البديل الذى يسد أختفاءها بينما نعمة الحول لها وال قوة وأنحسر دورها فقط فى مالزمة أيات ‪..‬‬
‫تجالسها طول اليوم وتتركها فى أوقات الرقاد لتعاود الكرة فى الصباح توقظها أن كانت نائمة لتحكى لها‬

‫‪158‬‬
‫عن المنام الذى رأته فى ليلها وهى تقدم لها فنجان القهوة بالحليب بينما تستسلم أيات لها وتبدأ فى‬
‫سرد تفاصيل المنام الجديد فى أنتباه وشغف لعلها تفتش فيه عن شيىء ‪ ..‬عن حلم قديم يراودها أو‬
‫مفاجأة تحملها لها األقدار ‪ ،‬فال تملك من أمرها سوى األنصات أو ربما حركة جسد نعمة المتهالك أضفى‬
‫عليها نوعا من األستسالم ويبعث صوتها المنكسر فى نفس أيات الشعور باألطمئنان ‪ .‬فى حين بدا أن‬
‫يوسف وبسمة يعيشان حالة من األنسجام والرضا عن سير الحالة العائلية فأنتابهما أحساسا مشتركا‬
‫بأنهما اآلن أصبحا لديهما راعيان ‪ ..‬فزادت ثقتهما فى األيام وأستبشرا خيرا فيما هو قادم ‪ ،‬وبدا أن‬
‫الكل يعيش ويندمج ويتشكل تشكيال خاص به ‪.‬‬

‫بدأت هدى حملتها المكبرة تتوعد كل شبر فى الشقة بأنزال عقاب النظافة بعد أعالن حالة طوارىء‬
‫أستثنائيه ألنهاء فوضى ضربت الشقة منذ زمن ‪ ،‬تحركت بنشاط وخفة مرتدية ترنج أسود أستعارته من‬
‫بسمة وكان أصغر من مقاسها فبدا مشدودا ملتصقا بجسمها يفضح تضاريسها فى أثارة ألقصى درجة‬
‫منسجما مع إيشارب ذهبى طوقت به رأسها على شكل حلقة تنفلت من جانبيه خصالت من شعرها‬
‫األسود على لوحة بشرتها البيضاء فبدت رائعة ‪.‬‬

‫الحماسة واألصرار كانأهما شعارها ‪ ،‬خطوات متسارعة ومتالحقة فى كل مكان بالشقة وكأنها من‬
‫ساكنى الغابات من المفترسات تضع لمستها فى كل ركن مطبوعة برائحة عرقها وكأنه أعالن منها عن‬
‫فرض السيادة والنفوذ على كل سنتيمتر تصل إليه ‪ ..‬داخل غرفة أبنتيها شدت مالءة السرير ورفعت‬
‫السجادة وجمعت كومة من المالبس ستكون الغسالة مأوى لها ثم شرعت بعدها بعملية بحث وتمشيط‬
‫داخل الغرفة لعلها تتمكن من ضبط أى ركن أو زاوية لم تصل إليه يد النظافة ‪ ..‬فتحث الدوالب على‬
‫مصراعيه وأرسلت نظراتها داخله تتعقب سكانه قبل أن تصاب بقدر كبير من األنبهار حول كم المالبس‬
‫المعلقة ‪ ،‬فلم تجد على لسانها سوى كلمات ربانية تكسر بها دهشتها ‪ :‬بسم اللـه ماشاء اللـه عليكى‬
‫يانورا أيديكى تتلف فى حرير ‪ ..‬ربنا يحميكى يابنتى ‪ .‬دقائق قليلة وبات كل شيىء فى الغرفة تحت‬
‫سيطرة عينيها فأرسلت نظرة أخيرة كمراجعة نهائية قبل المغادرة ‪ ..‬غير أنها لم تجد شيىء يستحق أن‬
‫تعيد عليه سوى ستارة النافذة التى أختفى نصفها خارج الشيش بفعل نشاط هوائى لطيف فتصدت لها‬
‫تشدها للداخل ‪ ،‬إال أن شيىء غريبا أثار المالحظة عندها وهى تطل من الشباك ‪ ،‬الحظت أن كل شيىء‬
‫فى الشارع فى مكانه كما هو مثلما رأته قبل دخولها السجن ‪ ..‬ال تغيير وال تجديد ‪ ،‬ودون مقدمات‬
‫تذكرت فجأة تاريخ زواجها كما تذكرت تاريخ والدة أبنائها ‪ ..‬أرتدت مبتعدة عن سور الشباك مستغربة‬

‫‪159‬‬
‫وهى تبحث فى رأسها عن سبب مقنع لتلك الظاهرة ‪ ،‬من أين جاءت تلك التواريخ لتحشر نفسها فى‬
‫رأسها فى هذه اللحظة ‪ ..‬لم تقف طويال وخرجت من الغرفة بمالمح بلهاء بأتجاه حجرة يوسف ‪ .‬فى‬
‫طريقها مرت بجوار غرفة أيات الموصودة وتجاوزتها قبل أن تصل إلى مقبض باب غرفة يوسف‬
‫وفتحته فى فرجة صغيرة وحشرت رأسها وألقت نظرة فوجدت أبنها حافى القدمين والصدر ‪ :‬أنت‬
‫صاحى يايوسف ‪ .‬قام يتخبط بالبوكسر ‪ :‬أيوه ياماما ‪ .‬أجتازت العتبة بينما أرتبك يوسف ‪ .‬جلس على‬
‫حافة السرير يضع قدميه داخل حذائه مبتسما أبتسامة خجولة ‪ ..‬دنت منه وتحسست خديه وشعر ذقنه ‪:‬‬
‫كبرت ياحبيبى وبقت راجل ‪ .‬رفع عينيه ‪ :‬حأعمل أيه ياماما أدى حال الدنيا ‪ .‬فما كان منها إال وأحتضنت‬
‫رأسه ودفستها فى بطنها ‪ :‬عندك حق يابنى هو ده حال الدنيا ‪ .‬باغتتها ذاكرتها وهى تمسح شعر رأسه‬
‫وتذكرت وجهه وهو صغير حين كان يرتكز بذقنه على كتفها وهو يبتسم أبتسامة مشاغبة قبل أن ينفلت‬
‫من بين يديها ويحلو له أن يخلع مالبسه قطعة قطعة وهو يعدو فى البيت سعيدا بعريه وهى تالحقه‬
‫وحين تمسك به يصرخ ويبكى ويركل ويرفض أن يرتدى حتى سرواله الداخلى ‪ .‬قام يوسف من مكانه‬
‫وأنتصب أمامها واضعا قبلة على خدها ‪ :‬خالص بقى ياماما الدنيا حالها أتعدل وبقيتى فى وسطينا‬
‫دلوقتى ‪.‬‬

‫ــ ربنا مايحرمنى منكم ‪ .‬قالتها ومرت بعينيها لتكتشف فوضى الغرفة ‪ :‬أوضتك دى عايزة تتنسف ‪ ..‬هز‬
‫رأسه مكتفيا بمراقبتها وهى تنزع الستارة وتحاصر مالبسه المعلقة على رشاقة خلف الباب قبل أن‬
‫تسحبها وترمى بها على أرضية الغرفة حتى كونت هرما صغيرا تسربت منه رائحة عرق نفاذة ممزوجة‬
‫بعطر الـ " وان مان شو " فأنتج رائحة كالخميرة إالأنه أبدى مالحظة حين أعتلى بنطلونه الرمادى قمة‬
‫الهرم ‪ :‬البنطلون ده لسه مغسول ومكوى ‪.‬‬

‫ــ من النهاردة ياحبيبى فيه نظام تانى ‪ .‬الحاجة اللى تتلبس ويبقى ريحتها عرق الزم تتغسل ‪ .‬لم يعقب‪.‬‬
‫أشاح بنظره ناحية المكتب وكأنما يرشدها عن وجود زوج شرابات أسفله ‪ ..‬تتبعت نظراته وقالت وهى‬
‫تنهج ‪ :‬ماتشغلش بالك ياحبيبى ولما ترجع أن شاء اللـه حتالقى الدنيا كلها متظبطة ‪.‬‬

‫ــ أنا مش عايز أتعبك معايا ‪ .‬توجهت له بعتاب ‪ :‬كده برضه يايوسف ‪ ..‬اللى بأعمله ده حقكم عندى‬
‫وده أحلى تعب فى الدنيا ‪ ..‬أنت كل اللى مطلوب منك مذاكرتك وبس ‪ .‬قالتها وهى تلملم أوراقه المتناثرة‬
‫بجوار مكتبه بينما ألتفت إليها ‪ :‬خلى بالك ونبى ياماما ده ورق المراجعات ‪.‬‬

‫‪160‬‬
‫ــ ماتخافش ياحبيبى أمك مش جاهلة ‪ .‬كل ورقك حألمه على المكتب عشان تبقى أوضتك فاضية قدام‬
‫عينى ولما ترجع حتالقيها بتبرق ‪.‬‬

‫ــ ربنا يخليكى ياماما ‪ .‬قالها قبل أن يصدر تليفونه رنات متتالية فرفعه ألذنه ‪ :‬صباح الخير ياهدير ‪.‬‬
‫أنصت ثم أجاب ‪ :‬نص ساعة وحأكون عندك ‪ .‬أختصر ردوده ما بين " آه " و " أل" ثم أنهى المكالمة‬
‫وأستدار فوجد أمه ترمقه فى أبتسامة فبادر ‪ :‬دى هدير مستنيانى فى الكلية ‪.‬‬

‫ــ ربنا ينجحكم أنتم األتنين وتحققو اللى نفسكم فيه مع أن سيادتك بطلت تكلمنى عنها ‪ .‬أنهى أرتداء‬
‫مالبسه ورافقته حتى باب الغرفة ‪ :‬واللـه أبدا الحكاية كلها أنى مستنى تأخدى نفسك شوية وبعد كده‬
‫حأقولك على كل حاجة بالتفصيل ‪ .‬أشرقت مالمحها عن أبتسامة عريضة حين سمعت تلك الجملة ‪:‬‬
‫عشان خاطر الكالم الحلو ده قولى بقى نفسك أعملك أيه على الغدا ‪.‬‬

‫ــ اللـه على السؤال الجميل ده ‪ ..‬ملوخية طبعا ‪ .‬قالها بأداء الملهوف ‪.‬‬

‫ــ من العين دى قبل العين دى ‪ .‬سارع بطبع قبلته األخيرة على جبينها ‪ :‬عن أذنك دلوقتى ياماما يادوب‬
‫ألحقلى مكان فى المراجعة ‪ .‬ثم خرج مسرعا بينما وقفت تدور بعينيها فى غرفته التى بدت شحيحة‬
‫التفاصيل سهلة دون تعقيدات كصاحبها ‪ ..‬نجفة بسيطة بثالث لمبات تطل على دوالب أتنين ضلفة‬
‫يجاوره سرير وأمامه مكتب صغير ‪ ..‬أستهلت البداية بفتح الشباك للتهوية وتغيير الهواء الراكد والمقيم‬
‫داخل الغرفة منذ أيام قبل أن تتجه للمطبخ وهى تدرك أن كابوسا ينتظرها غير أنها أنحرفت بأتجاه غرفة‬
‫أيات ‪ ..‬نقرتين على بابها الموصود ثم فتحته مستطلعة قبل أن تستقبلها نظرات أيات من موقعها على‬
‫كرسيها الهزاز التى لم تفارقه منذ ساعتين وهو الشيىء الوحيد الذى يتحرك داخل الغرفة بينما نعمة‬
‫منزوية وملتفة حول نفسها بجوار قدمى أيات وكأنهما تمثاالن فى متحف ‪ .‬أوقفت حركة الكرسى ‪:‬‬
‫صباح الخير ياهدى ‪.‬‬

‫ــ صباح الخير ياأيات ‪ ..‬عاملة أيه النهاردة يانعمة ‪.‬‬

‫ــ نحمده ونشكر فضله ياست هدى ‪.‬‬

‫ــ محتاجة نوح يجيبلى شوية حاجات ‪ .‬الحت بوادر حركة فى مالمح نعمة الميتة وأستعاد لسانها نشاطا‬
‫مفاجئا ‪ :‬نوح بطل يقضى طلبات للسكان ‪ ..‬الراجل عجز ياست هدى وماعدش زى األول ‪ .‬أصابت‬

‫‪161‬‬
‫كلماتها دهشة هدى ‪ :‬ده لسه أمبارح كان بيساعدنى وجابلى مراية جديدة للدوالب وركبها بنفسه ‪.‬‬
‫نصف أبتسامة على شفتى أيات ‪ :‬عشان هو بيعزك بس عمل كده وع العموم أى طلبات أنتى عايزاها‬
‫حأخلى أنور يقضيها لك ‪ .‬كانت مالحظة توضيحية قابلتها هدى بأستفسار ‪ :‬أنور ده اللى كان بيمسح‬
‫السلم أمبارح ‪ .‬هزت أيات رأسها وهى تنهض من مكانها تتلفت يمينا ويسارا تبحث عن موبايلها حتى‬
‫لمحته على طرف السرير‪ :‬محتاجة أيه ياهدى ‪.‬‬

‫ــ عايزة ملوخية وفراخ ورز ‪.‬‬

‫ــ الرز موجود فى دوالب الخزين اللى فى بلكونة المطبخ ‪ .‬تلك كانت فتوى من نعمة بينما قربت أيات‬
‫شاشة الموبايل الى عينيها تبحث عن رقم نوح ‪ ،‬لم يستغرق البحث أقل من عشر ثوان حيث رقمه هو‬
‫الرابع من بين خمسة أرقام هى كل مالديها ‪.‬‬

‫ــ أيوه يانوح أبعتلى أنور عشان يجيب لنا شوية حاجات ‪ .‬أنصتت ثم نظرت لهدى وأردفت ‪ :‬عايزين‬
‫فراخ وملوخية ‪ .‬أبتسمت ‪ :‬كتر خيرك ياراجل ياعجوز ‪ .‬وضعت موبايلها جانبا ‪ :‬تمام كده ياهدى ‪.‬‬

‫ــ مؤقتا بس لغاية ماأعرف البيت ناقصه أيه وحأبقى أشترى بنفسى خزين البيت ‪ ..‬المهم بس أن أنور‬
‫ده مايتأخرش على فى الطلبات ‪ .‬قالت عباراتها ثم أعطت لهما ظهرها لتخرج فى عجالة فى حين تابعتها‬
‫أيات بنظرة متفحصة عميقة وسيطر عليها شعور بأن دور البطولة القادم فى المنزل ستلعبه هدى بال‬
‫منازع ثم همست بنبرة رضا ‪ :‬سبحان اللـه العظيم ‪ .‬لمحت نعمة نظرتها ‪ :‬فى أيه ياست أيات ‪.‬‬

‫ــ هدى زى ماهيه ‪ ..‬صحيح الطبع غالب ‪ .‬زحزحت نعمة جسمها وكأنها تمشى بمؤخرتها ‪ :‬عايزة الحق‬
‫ياست أيات اللى الست هدى عملته فى يومين تالتة مايعملهوش تالت رجالة مع بعض ‪ ..‬أسم اللـه‬
‫عليها غيرت شكل البيت كله بقى زى اللبن الحليب ‪ .‬عادت أيات الى كرسيها الهزاز وبدت مالمحها بال‬
‫تعبير وصدرت عنها نبرة باردة ‪ :‬حأقولك أيه يانعمة أنا عن نفسى ماليش فى شغل البيت وأنتى بقيتى‬
‫خالص موتورك مفوت ال بتهشى والبتنشى يادوب فنجان القهوة اللى بتعمليه ونورا هانم األتيليه واخد‬
‫كل وقتها وبسمة أيدك منها واألرض ‪ .‬أنصتت نعمة وقد زادت أنكماشا ‪ :‬عندك حق ياست أيات ‪.‬‬

‫‪00000000000‬‬

‫‪162‬‬
‫فى نفس الوقت وفى أجواء مختلفة بدت فايزة متأهبة لتناول وجبة أفطار خفيف حيث أن الصباح فى‬
‫توقيتها يبدأ ظهرا فأستعدت له جلوسا على كنبة فى الصالة وأمامها مائدة صغيرة وقد حبست نفسها فى‬
‫جلباب أبيض بخطوط زرقاء و توجت رأسها بعصابة رمادية مشدودة بعنف حولت جمجمتها إلى شكل‬
‫الشمامة فى حين أستنفرت حواسها فى شغف على طبق الفول الذى زين المائدة وإلى جواره ثالث‬
‫بيضات مسلوقة وبصلتين وكومة جرجير وأربع أرغفة ‪ ،‬بدت فى جلستها كالجبل المستقر فى مكانه بعد‬
‫أن بسطت هيمنتها تماما فى اليومين الماضيين وراحت تمارس وظيفتها القديمة فى التسلط واألستبداد ‪،‬‬
‫فكان أول حصادها أن أستقامت أفعال عبده الذى أبتلع وجودها مستسلما دون مراوغة بالرغم من‬
‫المرارة التى تفيض منه مكتفيا بأصدار عبارات والء وكلمات غزل كى يتمكن من أستمالتها لعله ينجح‬
‫فى أستعادة حياته الماضية ‪ ،‬إال أنه وحتى اللحظة لم يرصد أى مؤشرات ايجابية تدل على نجاح‬
‫خطته ‪ ..‬فى نفس الوقت وداخل غرفة النوم وقف عبده أمام المرآة وهو يعاين مالمحه ويرصد فى‬
‫حسرة وقار السن الذى ظهر عليه فجأة حين شاب شعره دفعة واحدة بعد أن زال عنه سواده المستعار‪..‬‬
‫بدا منكمشا داخل جلبابه البلدى الواسع له فتحة مستديرة عند الرقبة و أكمام واسعة ‪ ،‬أشاح بوجهه‬
‫فزعا حين سمع صوت فايزة يأتيه كالنذير ‪ :‬بتهبب أيه كل ده عندك ‪ .‬توترت حركته وزاد أرتباكه‬
‫ومسح شعره بكفيه فى سرعة وفر مهروال خارج الغرفة قبل أن يتمكن من أنزال الجلباب الذى توقف‬
‫فوق ركبتيه وأجابها ‪ :‬أنا جاى يافايزة ‪ ..‬ثوانى وظهر فى الصالة يرسم أبتسامة مشفوعة بمالمح‬
‫نشطة طارئة ‪ .‬بادرها ليسيطر على شرها ‪ :‬المعلم عبده الجن بيرسل ماسش بيقول فيه صباح الفل على‬
‫ست الكل ‪ ..‬إلتفتت إليه بمالمح متصلبة ‪ ،‬لم تضحك ولم تنفرج سحنتها وكوفىء على فشله بالصمت‬
‫وسرت الدهشة فى بدنه بينما أحتدت نبرتها ‪ :‬تعالى أقعد هنا أدامى وسيبك من الخبالن اللى أنت بتقوله‬
‫ده ‪ .‬نفذ األمر وجلس أمامها على المائدة يفصل بينهما طبق الفول وحلفائه بينما تابع بتأفف البيضة‬
‫المسلوقة وهى تختفى كاملة داخل فمها تتبعها بلقمة فول قبل أن تحشر معها باقة من أوراق الجرجير‬
‫لتسهل عملية البلع ‪ ،‬توقفت فجأة أضراسها عن الطحن حين رمقته بنظرة متوحشة وكأنها تذكرت‬
‫وجوده ‪ :‬مد أيدك وأطفح بدل ماأنت بتبحلقلى فى اللقمة ‪.‬‬

‫ــ ماأنتى فاهمة يافايزة أنا ماليش فى موال الفطار ده الزم أعمل أصتباحة األول أشق ريقى بحجرين‬
‫معسل وكباية شاى ‪ ..‬قذفت أمامه برغيف ‪ :‬أطفح ‪ .‬رفع يديه بكمهما الواسعين على طريقة من يهم‬
‫باقامة الصالة ‪ :‬بسم اللـه الرحمن الرحيم ‪ .‬تفحصته ‪ :‬كل يا موالنا ‪ .‬كسر لقمة ووضعها فى فمه ثم‬
‫‪163‬‬
‫مضغها طويال وحاول بلعها فى حين سددت له نبرة تحذيرية ‪ :‬وأنت راجع من القهوة ماتنساش تجيب‬
‫معاك دفاتر الحسابات عشان أبعتهم لألستاذ محمود المحامى يراجعهم ويرسينى ويفهمنى أولى من‬
‫أخرى ‪ .‬أجاب واللقمة تنحشر فى حلقه فتخنق العبارة ‪ :‬وماله يافايزة حقك ياختى ‪ .‬تزر عينه قبل أن‬
‫ت نخفض نبرته وتركبه المسكنة ‪ :‬بس مش حينفع النهاردة يافايزة أدينى يومين كمان ‪ .‬واجهته بأصبع‬
‫مقوس فوق حاجبها وبعين مفتوحة وأخرى منكمشة ‪ :‬ليه أن شاء اللـه !! ‪.‬‬

‫ــ عشان بقالى شهرين مانزلتش المصاريف فى الدفاتر ماهو أنا مش مالحق على شغل القهوة‬
‫لوحدى‪ ..‬الليلة كلها على دماغى ‪.‬‬

‫ــ والمحروس أبنك بيعمل أيه ‪.‬‬

‫ــ المحروس أ بنى مكبر دماغه وسايقها سرمحة طول الليل والنهار ‪ .‬تدرك أرتباكه ‪ :‬ماشى ياعبده مش‬
‫مشكلة وال يهمك يومين كمان مش حيفرقوا ‪ ،‬لكن ورحمة أبويا لو لقيت أى لعب فى الدفاتر وعزة جالل‬
‫اللـه ياعبده ألوريك اللى عمرك ماشفته ‪ .‬أستوعب وعيدها وأزدحمت فى رأسه أفكار كثيرة أستعصى‬
‫عليه ترتيبها قبل أن يتأهب للرد إال أنه قال بلهجة مترددة فى البداية مالبثت أن أستقامت وهو يعلن‬
‫براءته ‪ :‬عيب يافايزة مش عبده الجن اللى تظنى فيه كده ‪ ..‬أنا برضه جوزك وأبو أبنك وأكتر واحد فى‬
‫الدنيا يخاف على مصلحتك ‪.‬‬

‫ــ مافيش عيب ياجن واللى بينى وبينك الدفاتر ‪ .‬تخبط على صدره بكفها ثم أردفت ‪ :‬خلى بالك مش‬
‫فايزة اللى تأكل من الكالم ده ‪ .‬ضاقت عينيه وأنكمشت مالمحه وتهدل شاربه الذى كان منتفضا من‬
‫لحظات ثم ألقى باللقمة التى فى يده على المائدة وتناول كوب ماء شربه حتى أخر قطرة فى قاعه وكأنه‬
‫يبتلع به خوفه ثم مسح شاربه بكم جلبابه بينما لم تنصرف نظراتها عنه إال عند سماعها صوت خطوات‬
‫منصور قادما من غرفته إلى الصالة ‪ ..‬ظهر مرتديا قميص زهرى وبنطلون جينز أسود وعلى وجهه‬
‫مالمح متهالكة موزعا نظراته بين أبوه وأمه قبل أن يعثر على نبرة تصلح لتكون بداية ‪ :‬صباح الخير‬
‫ياما ‪ .‬مسحته بنظرة ‪ :‬صباح الخير ياحيلة ‪ .‬ثم تراجعت بجسدها للوراء لتتسع المسافة بينها وبين‬
‫المائدة ‪ :‬أنا نمت أمبارح بعد الفجر وبسالمتك ماكنتش شرفت ‪.‬‬

‫ــ على ماشطبت شغل القهوة أنا والوله جمعة كان الفجر شقشق ‪ .‬رماه أبوه بنظرة ركنية وهو يرى فى‬
‫وجوده تخفيفا عنه فى حين أدلى منصور برأسه لألرض يستجمع ثقته بعدما حسم أمره وأتخذ قرارا‬
‫‪164‬‬
‫بمفاتحة أمه فى موضوع " نوسة " بعد أن أنهى بروفات أستمرت ليومين كاملين على كيفية مفاتحتها‬
‫دون خسائر تلحق به ‪ ..‬هدأ أنفعاله وأستجمع شتات شجاعة هاربة ‪ :‬عايز أتكلم معاكى ياما فى موضوع‬
‫كده ‪ .‬قال جملته بنبرة مرتعشة قبل أن تلتفت اليه ‪ :‬أقعد أفطر األول وبعد كده صدعنى بمواضيعك ‪.‬‬
‫برأس منحنية جلس الى جوارها ‪ :‬أيه ده ياما فول وبيض على الريق كده ‪ .‬دحرجت إليه بيضة وناولته‬
‫رغيف ‪ :‬هيه الناس بتفطر أيه على الصبح ‪ .‬قام عبده مضطربا ‪ :‬الحمد للـه شبعت ‪.‬‬

‫ــ مش تستنى لما تشوف الحيلة عايز يقولى أيه ‪ .‬تململ فى وقفته وأرتبكت كلماته ‪ .‬ال ياستى أنا‬
‫حأتكل على اللـه أشوف أكل عيشى وأنتى مع أبنك تتصرفوا سوا ‪ .‬إال أن منصور قام مذعورا وكأنه‬
‫يحاصره ‪ :‬أيه يابا حتبعنى وال أيه ‪ .‬أزاحه بظهر يده هامسا فى أذنه ‪ :‬أن جالك الطوفان !!‪ ..‬قالها‬
‫ورمى نظرة خاطفة بأتجاه فايزة ‪ :‬عن أذنك يافوز ‪ ..‬ردد عبارته وخرج من الصالة تشيعه بمصمصة‬
‫من شفتيها ‪ :‬بالسالمة ياسيد المعلمين ‪ .‬رفعت عينيها ألبنها وجذبت يده بشدة ‪ :‬أقعد ياوله مالك واقف‬
‫كده ليه زى اللى محصور ميه ‪ .‬نزل بجسده متخشبا كالصنم ‪ ،‬إال إنها وبنظرة خبيرة تشككت فى أمره ‪:‬‬
‫مالك يامنصور فى أيه ‪ ..‬عايز فلوس ياوله ومكسوف ‪ .‬هز رأسه نافيا ‪.‬‬

‫ــ شفت حاجة على أبوك وعايز تقولها لى ‪ .‬قال دون أن ينظر اليها ‪ :‬الحكاية مش كده ياما ‪.‬‬

‫ــ أمال الحكاية أيه ياقلب أمك ؟ تلكأت الكلمات على لسانه ‪ :‬فاكرة الموضوع اللى فاتحتك فيه فى أخر‬
‫زيارة فى السجن ‪ .‬ضيقت حاجبيها ومرت بأصبعها على عصابة رأسها تسترجع مايقصده حتى أرتخت‬
‫مالمحها ثم أطلقت صهلولة كان لها أثر طيب فى نفسه ‪:‬ال هو أنت لسه ياوله بتفكر فى حكاية الجواز‬
‫دى ‪ :‬كست وجهه عالمات العبط ‪ :‬أيوه ياما وعايز رضاكى ‪ .‬تستدرجه فى أندهاش وحذر ‪ :‬وماله‬
‫ياحبيبى ‪ ..‬بس مش تقولى هى مين األول ‪ ..‬أنا أعرفها ؟ هز رأسه باأليجاب ‪ .‬عقدت حاجبيها فى‬
‫لهفة ‪ :‬مين ياوله ؟ ‪.‬‬

‫ــ نوسة ياما ‪ .‬أنكمشت جبهتها ولوت رقبتها تبحث فى ذاكرتها ‪ :‬نوسه مين يامنصور ‪.‬‬

‫ــ نوسة بنت الست بدرية اللى ساكنين فى بيتنا فى حارة أبن شكر ‪ .‬تاهت نظرتها فى وجهه لثوان قبل‬
‫أن تخبط بكفها صدرها ‪ :‬نوسة بنت بدرية كومبارس ‪ .‬تزحزح من جوارها مرتعدا وبدا صوته‬
‫كالمكهرب ‪ :‬هيه ياما ‪ .‬قذفته بنظرة أرف ثم لطمت فخذيها ‪ :‬عايز تتجوز بنت بدرية أم حرأوس‬
‫ولبانة ‪ ..‬يافضحتك يافايزة ‪ ..‬تندب وتنوح وظل جسدها المدكوك ينتفض ‪ :‬ضحكت عليك ياأبن‬
‫‪165‬‬
‫الموكوسة يادلدول ياوسخ ‪ .‬ثم راحت كعادتها تلعن وتسب أبوه وتنسب له كل نقيصة تخطر لها على‬
‫بال ‪ :‬هو أنت حتجيبه من بره طالع دنى زى اللى جابك ‪ ..‬بتقلده يامنصور بتجرى ورا بنت بدرية زى‬
‫ماهو بيجرى ورا النسوان الساكة ‪ ..‬اللــه يخربيتك أنت وهوه فى يوم واحد ‪ .‬أرتج لحمها وهى تنهض‬
‫من مكانها فجأة بعد أن تلون وجهها وبدا كمؤخرة قرد ‪ :‬على جثتى ياأبن الكلب ياأهبل ده أنا أفرتكك‬
‫بأيديه دول وأفشخك ‪ ..‬بدرية وبنتها ضحكو عليك ولفوا دماغك ياأبو رياله ‪ .‬تراجع منصور بظهره‬
‫للوراء رافعا يديه كمالكم يحمى وجهه من ضربة مفاجئة ‪ :‬واللـه أنتى ظالمهم ياما ‪ ..‬بدرية وبنتها مش‬
‫زى ماأنتى فاهمة ‪ .‬أزدادت ثورتها وتضاعف حجم صوتها بشكل عجيب فأنخلعت قلوب سكان البيت‬
‫على صراخها وهى تتوعد ‪ :‬ورحمة أبويا ألخليك تندم ياأبن النجس أنت والمقاطيع اللى ملموم عليهم ‪.‬‬
‫أنهت وصلتها قبل أن تتأهب لبصقة ‪ :‬أتفوه عليك وعلى أبوك ‪ .‬بينما وثب منصور من مكانه حين شعر‬
‫بالبصقة تمأل صفحة وجهه المحلوق فتزيده لمعانا فهز رأسه كرجل سد الماء أذنيه فأطبق فمه وهو‬
‫يكشر عن أنياب الغضب العاجز قبل أن يلعن نفسه بال رحمة وهو فى وضع المتأهب للقرار ‪ :‬أنا أستاهل‬
‫ضرب الجزمة أنى باخد رأيك ‪ ..‬أنا مش صغير وال بأمص فى صوابعى ‪ ..‬أنا راجل ‪ .‬قالها وأندفع‬
‫أندفاعة المخبول يفر من أمامها فتعدو فى أثره وهى تلقى عليه جرعات متتالية من اللعنات ‪ :‬أمشى‬
‫ياأبن الكلب ياأهطل ‪ ..‬راجل أيه ياأبو لباس ملون ياوسخ ‪ .‬بينما خرج من باب الشقة يركض وخطف‬
‫ثالث درجات من سلم البيت فى وثبة ‪ .‬كان يهرب من أمامها كالكلب المضروب النابح فى حين عادت‬
‫فايزة أدراجها بأنفاس الهثة بعد فشل محاولتها فى اللحاق به ‪ ..‬جلست على الكنبة ثم مسحت وجهها‬
‫كى تبحث عن هدوء مؤقت وهى تحدث نفسها ‪ :‬بقى الحكاية كده يامنصور ‪ ..‬طب أنا حأعرف أوريك‬
‫ياأبن بطنى ‪.‬‬

‫‪00000000000‬‬

‫فى نفس اللحظة التى فر فيها منصور من قبضة أمه كان عبده قد وصل المقهى ليتسلمه جمعه عند‬
‫المدخل يحاصره بتقرير موجز عن طلبات عاجلة ‪ :‬بعد صباح الخير يامعلمى ‪ ..‬البن والينسون يادوب‬
‫يكفونا ساعة وكلمت الحاج منعم حيبعتلنا عشر كياس سكر وعندنا كمان دستة كبايات هالك ده‬
‫غير ‪ ..‬نفخ عبده كاظما غيظه ‪ :‬أصتبح يافقرىوأصبر عليه شوية وغور جهزلى أصتباحتى ‪ .‬ثم مر من‬
‫أمامه متجهما وجمعه فى مكانه متسمرا وعيناه عالقتان فى أفا معلمه ‪ :‬ماشى يامعلمى ‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫سار عبده بجلبابه الواسع وسط طاوالت خالية حتى أقترب من كرسيه وجلس نصف جلسة ثم غلبته‬
‫تنهيدة تشى عن هم أستوطن داخله وظل على وضعيته حتى لحق به جمعه بالمطلوب الذى راح يتعامل‬
‫مع الشيشة بأقتدار يرفع جمرات النار من هامتها بينما عبده يراقبه قبل أن يدس يده فى جيبه‬
‫الفضفاض وأخرج ورقة " السوليفان " ومد جمعه يده دون أن ينظر إليه فأسقط عبده فى اليد الممدودة‬
‫القطعة البنية الصغيرة فعالجها على الفور بين أصابعه وهيألها مكانا ورد الجمرات حواليها فى ضربات‬
‫خفيفة بطرف الماشة ثم أهاب بالمعلم المتسلطن فوق عرشه الخشبى قبل أن يعتدل فى جلسته ‪ :‬شد‬
‫يامعلمى ‪ .‬شحن طاقته وفتح رئتيه يدس بوز الشيشة فى بوزه ثم سحب أنفاسا قصيرة متقطعة أعقبها‬
‫بنفس طويل ممتد ثم نفث الدخان من بين شفتيه وطاقتى أنفه فى خيوط كثيفة بينما يتابع جمعه بفخر‬
‫انجازه ‪ :‬تمام يامعلمى ‪.‬‬

‫ــ اللـه ينور ياوله ‪ .‬سمعها ورحل متجها خلف النصبة فى حين راح عبده يمشى بنظراته متعقبا دخانه‬
‫قبل أن ترتخى شفتيه ويسحب" الالى" من بينهما حين علقت عيناه بوجه أبنه منصور الذى دخل‬
‫المقهى بمالمح مهزومة وسار بخطوات متلكئة وهو مطقطق الرأس ناحية والده مالبث أن سحب كرسيا‬
‫إلى جواره وجلس منكمشا فى قاع كرسيه بينما دقق أبوه فى مالمحه ثم تجاهله وسحب أنفاسا متالحقة‬
‫ثم قال وقد خرجت العبارة المعدة مع الدخان فى وقت واحد ‪ :‬شكلك كده واخد الطريحة التمام ‪ .‬ندت عن‬
‫صدره تنهيدة طويلة ثم هز رأسه دون أن يفسر فأحتدت نبرة أبوه ‪ :‬ماتنطق ياوله عملت معاك أيه‬
‫الولية ربة السجون دى ‪.‬‬

‫ــ كانت حتاكلنى يابا ‪ .‬أتجه األخير بجسده كله نحوه ‪ :‬ليه ياوله عملتلها أيه ؟ ‪.‬‬

‫ــ فاتحتها فى موضوع نوسة وعليها أتقلب حالها وأتحولت وكانت حتفترسنى ‪ .‬ضحك عبده ضحكة‬
‫محتشمة لكنها شامتة ‪ :‬تستاهل عشان أنت عبيط أبن كلب قلتلك أتقل مش وقته دى لسه طالعة من‬
‫السجن وهايجة علينا ماسمعتش الكالم وأدى النتيجة ‪ .‬مال برأسه لألرض وهو يهمس همسا يتكسر‬
‫على شفتيه ‪ :‬أهو اللى حصل بقى‪.‬‬

‫ــ وطبعا أنا أتاخدت فى الرجلين وشدت السلخ على أنا كمان ‪ .‬روى منصور تفاصيل مادار بأنفعال‬
‫مكتوم بينما ينصت عبده إليه بعين مغمضة وأخرى مفتوحة متحاشيا الدخان المتسرب إليه ثم أزاح‬
‫الشيشة من أمامه فاردا ساقيه وبدا مسترخيا يليق بجلبابه البلدى الواسع ثم أردف ‪ :‬ياريت بقى تقفل‬
‫على حوارات البت نوسة دى وتكن شوية ‪ .‬قاطعه فى أستنكار ‪ :‬أزاى بس يابا وأنا أديت الناس كلمة‬
‫‪167‬‬
‫وقلتلهم حأفاتح أمى وهمه مستنيين منى أحدد لهم ميعاد عشان نخلص الحكاية ‪ .‬يكبح جماح سخريته ‪:‬‬
‫يابنى ناس مين وكلمة أيه أنت محسسنى أنك حتتقدم لبنت المحافظ الليله كلها نوسة وأمها بدرية‬
‫كومبارس ‪ ..‬أسمع كالمى ولم الدور أحسنلك بدل ماأمك تخلص عليك وعليهم أنا أدرى منك بفايزة ‪.‬‬
‫صفعت ه الحقيقة ‪ :‬طب وبعدين يابا العمل أيه ؟ ! قام األخير يلقى عليه نظرة محذرا ‪ :‬ماتعملش حاجة‬
‫وقفل على الموضوع ده لغاية مانشوف الدنيا رايحة فين و أتفضل قوم دلوقتى وشوف الوله جمعه‬
‫حيقولك على التموين الناقص ‪ .‬أستند على كرسيه وقام كعجوز وشعر بنفسه محاصرا بين سندال أمه‬
‫ومطرقة نوسة بأنوثتها المبالغ فيها ومن خلفها أمها التى تلح عليه ليل نهار متذكرا أخر عباراتها التى‬
‫تلقاها فى أخر زيارة لهم باألمس التزال معانيها تدق مؤخرة رأسه ‪ :‬لحد كده وكفاية لف ودوران‬
‫يامنصور‪ ..‬عشمتنا أنك حتفاتح أمك وهيه فى السجن وزيارة ورا زيارة ال شفنا حاجة وال حصل حاجة‬
‫وآهو ربنا كرمها وخرجت وماعدش لك حجة يبقى األصول يانور عينى أنك تيجى المرة الجاية وأمك فى‬
‫أيدك واللى أوله شرط أخره نور ‪ .‬تاه فى كلماتها ونكس رأسه خارجا من باب الشقة قبل أن تندفع خلفه‬
‫نوسة تستوقفه وتحجزه بصدرها النافر وخصرها الطرى يالمس بطنه ‪ :‬ماتزعلش من أمى يامنصور‬
‫هى خايفة على وكالم الناس بقى كتير وأنت كل يوم والتانى داخل طالع عندنا ‪ .‬أراد أن يظهر غضبا إلى‬
‫أنها ناولته جرعة أضافية بعد أن رفعت أصابعها تتحسس شفتيه لتحبس فيهما األنفعال ‪ :‬وبصراحة بقى‬
‫أنا محتاجالك أوى ياريت تستعجل وتخلصنى يامنصور ‪ .‬أرتعشت شفتيه خلف أصابعها قبل أن يزيحهم‬
‫فبادرت هى بمعالجة رعشتهما بقبلة أتخذت منها نصف دقيقة حتى تالشت الرعشة وأنفجرت فيه نبرة‬
‫الحماسة وهو يدلى بتصريحا ناريا ‪ :‬حأفاتح أمى وحأخلص الموضوع كله والمرة الجاية مش حاجى‬
‫لوحدى ‪.‬‬

‫‪000000000000‬‬

‫دخل الليل منذ ساعة وأستقبلته هدى وحيدة فى الصالة بعد أن أتمت بنجاح عملية تطهير شاملة للشقة‬
‫قبل أن تعيد للبيت أحشائه التى أخرجتها وأصبح كل ركن فيه شاهدا على مجهود جبار يستحق التقدير‬
‫ونالت نصيبها العادل من آالم مبرحة فى الظهر والكتفين وأرتخاء فى األطراف فأستسلمت هامدة‬
‫وغاصت فى مقعدها ممددة الرجلين تنتظر وصول أوالدها بين لحظة وأخرى ‪ ،‬مازالت هدى فى البدايات‬
‫تتحسس نمط حياتهم تجهل مواعيدهم المعتادة فى الخروج والعودة ‪ ،‬فكان لزاما عليها أن تستقى‬
‫معلوماتها عن الوقت والساعة بسؤال متكرر تطرحه على أيات كل فترة حتى أشفقت عليها ولم‬

‫‪168‬‬
‫تجد أمامها فى أخر األمر سوى األدالء ببيان توضيحى ‪ :‬أرتاحى شويه ياهدى لسه بدرى على وصول‬
‫والدك ‪ ..‬نورا عندها شغل كتير وبترجع فى حدود الساعة تمانية ويوسف وبسمة تقريبا فى‬
‫نفس الميعاد ‪.‬‬

‫ــ هيه فى كليات بتتأخر للوقت ده ‪.‬‬

‫ــ همه بيخرجوا من الكلية وبيروحوا يحضروا كورسات مراجعة ‪ .‬كان البيان كافيا ليختفى السؤال الملح‬
‫عن الوقت من قاموس أسئلتها ‪ .‬شعرت فى جلستها بأن هناك شيىء يعتصرها ويحدث فى فضاء الصالة‬
‫يظهر ويختفى ‪ ..‬ربما قلق أو خوف أو أضطراب ‪ ،‬لم تعرف من أى مكان داخلها يأتى ذلك الهاجس ‪ ،‬إال‬
‫أنه رحل سريعا حين تسللت إلى مسامعها همسات موسيقية بدت وكأنها تعيدها إلى حلمها القديم عند‬
‫دخولها البيت ألول مرة ‪ ،‬النغمات تأتيها عبر ضربات البيانو الصاعدة بعزف أيات من وراء باب غرفتها‬
‫بينما سطوة النغم يجلل المشهد حولها يستدعى عالمها األخر المنفلت منها فى صورة الزوج الراحل‬
‫وهى تحيطه بذراعيها أيام سهراتهما فى كازينو" مكسيم " بالمعمورة ‪ .‬بدت ساكنة كالمالك تسترجع كل‬
‫لحظة بشرود ثم تنهيها بأبتسامة أو دمعة تترجرج داخل عينيها ‪ ،‬غير أنها قاومت أستغراقها فى‬
‫المواقف والذكريات ‪ ..‬أنزلت ساقيها الممددة فى أنتفاضة حين أنصتت لدوران مفتاح فى كالون باب‬
‫الشقة ‪ ،‬فتأهبت فى جلستها ترقب ظهور الداخل ‪ ..‬أنتصبت واقفة حين ظهر وجه نورا فتحركت إليها ‪:‬‬
‫حمد اللـه على السالمة ياحبيبتى ‪ ..‬أتأخرتى أوى يانورا ‪.‬‬

‫ــ أل أبدا ياماما هو ده الطبيعى ‪ .‬قالتها بأبتسامة منهكة قبل أن يستوقفها حال البيت فوزعت دهشتها‬
‫وهى تحاصرالصالة بنظرات سريعة ثم قطبت وجهها ونمت عالمة أستفهام كبيرة وهى تتجول‬
‫بين الغرف تقف عند أعتابها ‪ :‬عملتى كل ده أمتى ياماما ؟ فرت منها أبتسامة ثقة ‪ :‬ياحبييتى ده أنا‬
‫هدى عبد الفتاح واألجر على اللـه ‪ .‬رن جرس الباب مع نهاية الجملة فتقدمت إليه هدى بخطوات‬
‫واسعة ‪ ..‬فتحته لتواجهها بسمة بذراعين مفتوحين وعينان ضاحكتين ثم عناق ملهوف ‪ :‬وحشتينى أوى‬
‫أوى ياهدهد ‪ .‬لم تكمل ديباجة المقدمة عندها أقتربت منها نورا ‪ :‬كل ده تأخير يابسمة معقولة فى‬
‫مراجعات لغاية دلوقتى ‪ .‬لم تستسيغ الجملة ومرت بجوارها دون رد قبل أن تتسمر عند حدود الصالة ‪:‬‬
‫أوه ‪ ..‬واو ‪ ..‬أيه األنقالب الفظيع ده ‪ ..‬ده أنتى عاملة شغل جامد أوى ياماما ‪.‬‬

‫ــ ولسه أنا نويت كل يوم أعمل حاجة لغاية ماأرجع البيت ده زى ماكان ‪.‬‬

‫‪169‬‬
‫ــ ياهدهد ياعظيم ده أحنا ربنا حيكرمنا آخر كرم ‪ .‬بأداء عصبى قاطعت نورا ‪ :‬سيبك من الرغى الكتير‬
‫ده وأدخلى غيرى هدومك عشان نأكل ‪.‬‬

‫ــ مش حتستنى يوسف ‪ .‬كان ذلك أستفسارا من هدى ‪.‬‬

‫ــ يوسف جاى حاال ياماما ‪ .‬لم تبرد جملتها إال وفتح يوسف باب الشقة على ضحكة ساخرة منها ‪:‬‬
‫ياريتنا أفتكرنا خمسة جنيه ‪ .‬لم يخف دهشته مثل سابقيه ‪ :‬أيه جو النضافة ده ‪ .‬قالها وأغمض عينيه‬
‫قبل أن تتسع فتحتى أنفه يتشمم ثم نظر فى وجه أمه التى طمأنته بأبتسامة ‪ :‬أيوه ياحبيبى دى ريحة‬
‫الملوخية اللى أنت طلبتها ‪.‬‬

‫ــ ياسالم على قلب األم وتقليتها قصدى وحنيتها ‪ .‬رمى بمذكرتين كان يحملهما على منضدة األنتريه‬
‫وأقترب منها ساحبا يدها ليطبع قبلة ‪ :‬ربنا مايحرمنى منك والمن أكلك ‪ .‬أبتسمت ثم أتجهت للمطبخ‬
‫تحمل معها كلمات األعجاب واألشادة قبل أن تردد على مسامعهم ‪ :‬ياريت تغيروا هدومكم بسرعة‬
‫وأستنونى على السفرة واألكل حيكون جاهز حاال ‪ .‬راقبتها نورا حتى أختفى ظهرها من الصالة ‪ :‬ماما‬
‫شكلها كده عايزة تعوض التسع سنين فى تسع تيام ‪ .‬ثم أنسحبت إلى غرفتها تتبعها بسمة ‪ :‬واللـه ماما‬
‫دى ماحصلتش نضفت البيت ده كله لوحدها وكمان جهزتلنا األكل ‪ ..‬سبحان اللـه ‪ .‬وقبل أن يبلغ يوسف‬
‫باب غرفته أصدر نداءا ‪ :‬أنا حأغير هدومى بسرعة ‪ ..‬أنا ميت من الجوع ‪.‬‬

‫فى المطبخ خاضت هدى سباقا محموما مع الحلل واألطباق قبل أن تبدأ رحلة مكوكية من المطبخ إلى‬
‫المائدة تضع أصنافها بعناية تزامنا مع خروج أهل البيت تباعا من مكمنهم رافعين راية الزحف بأتجاه‬
‫المائدة حتى أكتمل النصاب القانونى عدا نعمة التى التزال فى منتصف المسافة الفاصلة عن موقع‬
‫الوليمة تجاهد للوصول وهى تراقب هدى التى تخطتها حاملة سلطانية ملوخية فاحت رائحتها كقنبلة‬
‫غاز مثير لألعصاب كان مكانها محجوزا بين أطباق األرز ثم أدارت ظهرها للمرة األخيرة بأتجاه المطبخ‬
‫ألحضار الديك من موقعه فى نار جهنم داخل الفرن قبل أن تتحاشى فى طريقها األصطدام بنعمة ‪:‬‬
‫ماتشدى حيلك شوية يانعمة األكل بقى جاهز ‪ .‬تحمست وزادت سرعتها فى المتر األخير حتى وصلت‬
‫بسالمة اللـه وجرت كرسيا مجاورا أليات التى ساعدتها فى الجلوس لحظة وصول هدى بجثة الديك التى‬
‫زينت به وسط المائدة فأشرأبت أعناقهم وتزاحمت عليه األبصار ليكتمل أنسجام المشهد مع الملوخية‬
‫واألرز والشوربة فى حين أتخذ األمر من المتحلقين حول المائدة لحظات قبل أن تصلهم أشارة البدء‬
‫على لسان هدى ‪ :‬ياله ياحبايبى بالهنا والشفا وعايزة أسمع رأيكم ‪ .‬أنهت جملتها ثم أنقضت بيدها على‬
‫‪170‬‬
‫جثة الراحل الممددة فى السرفيس فشدت وركه فأنخلع من مكانه وقدمته ليوسف قبل أن تجهز على‬
‫بقيته حتى فككت أجزاءه ووزعتها بينما مالت بسمة تهمس فى أذن أخوها ‪ :‬من حقك الورك ماهو أنت‬
‫دكر البيت ‪.‬‬

‫ــ عندك شك فى الموضوع ده ‪ .‬عشر دقائق تجمد فيها الزمن وأصبح الشيىء مهم ‪ ،‬فاألهم هى‬
‫ماتطاله األيدى من داخل األطباق ‪ .‬لم تصل لهدى حتى تلك اللحظة أى عبارة تقدير أو كلمة شكر فحالة‬
‫التركيز تمنع مثل تلك األمور بينما عملية الطحن والبلع تسير بنجاح داخل األفواه وأن هدأت حدتها‬
‫نسبيا حين قارب السباق على األنتهاء ‪ ،‬حتى نعمة أثبتت جدارة على " التراك " وان كانت ال تملك من‬
‫األدوات غير سنتين فى األمام وأربع ضروس خلفية فى حين بدت هدى فى جلستها كملكة على عرشها‬
‫يكفيها القليل وهى تنقل نظراتها بينهم كرادار مراقبة ‪ ..‬أخيرا شعرت بنفسها تجتاز أختبارا صعبا عندما‬
‫الحت بشاير النجاح حين جفت سلطانية الملوخية وبان قاعها األبيض وتناثرت عظام الديك حول أطراف‬
‫المائدة ‪ ..‬هدأت األنفاس وتباطأت حركة األيادى حتى تراجعت الرؤوس وتقدمت البطون ‪ ..‬اآلن فقط‬
‫حان وقت المديح فأستهل يوسف ‪ :‬بصراحة الواحد مش عارف يقولك أيه غير ربنا يخليكى لنا ياست‬
‫الكل ‪ .‬توالت بعدها عبارات التأييد واالشادة وكأنه أستفتاء يعيدها بقوة ألعتالء العرش من جديد بينما‬
‫رفعت بسمة عينيها عن المائدة صوب أمها وهى تتحسس بطنها ‪ :‬الحمد للـه أول مرة أحس أنى أكلت‬
‫بجد ‪ .‬لم تمر تلك الجملة دون تعقيب من نورا ‪ :‬والسنين اللى فاتت دى كلها ماكنتيش بتاكلى وال أيه ‪..‬‬
‫أمال بقيتى كده بغلة أزاى ‪ .‬لم تعلق سوى بابتسامة حذرة قبل أن تدلى بخبر ‪ :‬عم نوح قابلنى وأنا جاية‬
‫وبلغنى أن الخواجة كرم وعمو خيرى وشريف جايين يوم الخميس عندنا عشان يسلموا على ماما ‪.‬‬
‫أضافت نورا فى أفتضاب ‪ :‬ومدام زيزيت كمان جاية معاهم ‪ .‬أبتسامة عريضة وهى تلملم أطباقها ‪ :‬أهال‬
‫وسهال بيهم فى أى وقت ومن غير أستئذان ده أنا حتى من يوم مارجعت ماشفتش حد فيهم ‪.‬‬

‫ــ همه مقدرين ظروفك وسابوكى ترتاحى يومين ‪ .‬قال يوسف فى حين عقبت أيات ‪ :‬وع العموم البيت‬
‫دلوقتى بقى زى الفل ويشرف ‪.‬‬

‫ــ المهم أن ماما محتاجة شوية هدوم أو على األقل طقم تلبسه تستقبل بيه الناس ‪ .‬كانت تلك مالحظة‬
‫مهمة من بسمة ‪ .‬أستفزت نعمة ‪ :‬نورا تجهزلها بدل الطقم عشرة ‪ .‬عقبت بنبرة جافة ‪ :‬أغسل أيديه من‬
‫األكل وأبقى أخد مقاساتك وبكرة أشوفلك حتة قماش فى األتيليه أعملهالك فستان ‪ .‬مالت بسمة بصدرها‬
‫عند حافة المائدة ‪ :‬وأنا عن نفسى حأخد ماما بكرة أنقيلها شوز وأجيبلها شوية حاجات داخلية ‪.‬‬
‫‪171‬‬
‫ــ كل القلق ده عشان زيارة الجيران ‪ ..‬فركت أيات يديها ‪ :‬دول مش أى جيران يايوسف دول والد‬
‫األصول اللى بقو زى حتة الدهب وسط كوم صفيح !‪ ..‬ساخرة كعادتها بسمة ‪ :‬دهب أيه وصفيح أيه‬
‫ياعمتى دول يادوب يتعدوا على الصوابع وقريب أوى حينقرضوا ‪ .‬تنويه ساخر قابلته نورا بأسترخاء ‪:‬‬
‫ليه بس يافقرية ‪.‬‬

‫ــ مش هيه دى الحقيقة ‪ ..‬عندك مدام زيزيت عايشة لوحدها ومقطوعة من شجرة والخواجة كرم شبها‬
‫وعندك عمو خيرى يادوب ماحيلتهوش غير شريف والتانى مهاجر ‪ ..‬أدى ياستى سكان العمارة الطويلة‬
‫العريضة حتى عم نوح حاله من حال السكان عايش بطوله مع مراته العيانة ‪ .‬مدت هدى رأسها ‪:‬‬
‫البركة بقى فى الجيل بتاعكم هو اللى حيعمر المكان وحيحييه من جديد لما تتجوزوا وتملوه عيال ‪ ..‬هى‬
‫دى سنة الحياة ‪ .‬لم تستطع بسمة حبس ضحكة منفلتة ‪ :‬جيل أيه بس ياماما ‪ ..‬العمارة كلها مافيهاش‬
‫غير جوزين بس من الجيل اللى بتقولى عليه ده منهم جوز على شمالك أنا ويوسف وعلى يمينك فى‬
‫فردة من الجوز التانى األنسة نورا والفردة التانية شريف وده بقى تسألى عنه األنسة وهى تفيدك ‪.‬‬
‫بينما أفصح يوسف عن معلومة ‪ :‬شريف قابلنى أمبارح وأشتكالى منك يانورا وبيقولى أنك بقيتى أخر‬
‫طناش معاه ومكبرة دماغك ‪ .‬أحتدت نبرتها ‪ :‬خليك فى حالك يايوسف ‪ .‬هز رأسه وأبتلعها دون تعليق ‪..‬‬
‫فى محاولة للفهم أرادت هدى أن تستفسر ‪ ،‬إال أنها قررت أن تنهى اليوم على هذا الحال دون توترات ‪:‬‬
‫قومى معايا يابسمة نشيل األطباق ‪.‬‬

‫ــ حاضر يا ماما ‪ .‬ظلت نورا فى مكانها تتأمل أمها وكأنها تستوعب شيئا تحاول فهمه أو وضع جديد‬
‫تحاول هضمه ‪.‬‬

‫فى مساء اليوم التالى تأهبت بسمة للخروج مع أمها وكعادتها لم تستهلك وقتا طويال فى تبديل مالبسها‪،‬‬
‫دائما ما تضع نفسها فى قالب سهل من المالبس البسيطة اليخرج عادة عن بنطلون جينز وتيشرت مع‬
‫ماكياج خفيف بينما لم يكن الحال سهال بالنسبة لهدى التى تربعت فوق سريرها بقميصها الداخلى تقيس‬
‫ماتبقى من مالبسها القديمة التى أستدعتها من جوف خزانتها وكومتها أمامها وصارت الحول لها‬
‫والقوة ‪ ،‬البلوزات والفساتين ضاقت عليها وضاقت بها وحتما ستحال لصندوق الذكريات ‪ .‬شعرت أن‬
‫شيئا قد أمتلكته قد ضاع منها‪ ،‬تمنت لوأن تخرج مع بسمة بشيىء جديد ‪ ،‬فتدخلت األخيرة وعثرت لها‬
‫على حل سريع يفى بالغرض مؤقتا حين أستعارت لها بلوزة وبنطلون واسع من الفخدين حتى الساقين‬

‫‪172‬‬
‫من دوالب نورا لكنه كان ضيقا عليها عند الخصر‪ ..‬عاونتها بسمة فى تبديل مالبسها وحبست لها‬
‫أزرار البلوزة فى عروته وشدت لها الكم وهى ترسل لها أبتسامة ‪ :‬أيه القمر ده اللى واقف قدامى ‪.‬‬

‫ــ يابنت يابكاشة أنا خالص راحت على ‪.‬‬

‫ــ راحت على مين ياقمر طب واللـه أنت أخرك بالكتير تالتين سنة ‪ .‬ضحكة مصحوبة بحالة معنوية‬
‫مرتفعة وهى ترد شعرها للوراء بفعل فرشاة تحت أشراف أبنتها ‪ :‬سيبك منى المهم أنتى ياحبيبتى أنا‬
‫نفسى ومنى عينى ييجى اليوم اللى ألبسك وأهندمك بأيديه وأسلمك لصاحب النصيب ‪ .‬أبتسمت وهى‬
‫تفتح حقيبة يديها تسحب منها زجاجة برفان مكورة باغتت بها أمها برشة حول العنق وتحت األبطين ‪:‬‬
‫صاحب النصيب ياماما حيتخرج كمان شهرين بس مشكلته عويصة أوى ‪ ..‬ماعندهوش كاش ‪ .‬أدارت‬
‫لها هدى ظهرها لتواجهها من خالل المرآة ‪ :‬تقصدى أمجد ‪.‬‬

‫ــ هو فى غيره ياماما‪ ..‬مش أنا كل زيارة كنت بأحكيلك كل حاجة ‪.‬‬

‫ــ متأكدة كنتى بتحكيلى كل حاجة ‪.‬‬

‫ــ طبعا ‪ ..‬بس يمكن فيه شوية تفاصيل كنت بأعديها عشان يوسف كان دايما قاعد وسطينا ‪ .‬واصلت‬
‫هدى تعقيبها وهى تخرج من الغرفة تتبعها أبنتها ‪ :‬ع العموم مادام هو كويس وأبن حالل أنا ماعنديش‬
‫مانع ياحبيبتى ‪ .‬توقفت قبل أن تصل إلى باب الشقة ‪ :‬المشكلة مش فيكى ياماما ‪.‬‬

‫ــ تقصدى يوسف يعنى ‪.‬‬

‫ــ ياريت ‪ ..‬المشكلة فى نورا ‪ ..‬كل ماأتكلم معاها عن أمجد وأجيب سيرته تكشر فى وشى وتقولى أنا‬
‫مش مرتاحة له ده مالهوش مستقبل والحكاية مش ناقصة فقر ‪ ،‬صمتت هدى ولم تعلق وهى تكتشف‬
‫يوما بعد يوم حجم نورا الحقيقى داخل كيان البيت ‪.‬‬

‫رفضت هدى ركوب المصعد وأستعملت السلم ‪ ،‬أرادت إال تلفت أنتباه أيا من سكان العمارة وفضلت‬
‫الخروج المتخفى السريع ‪ ..‬شعور يتنامى داخلها بالحرج ‪ ،‬ربما من هيئتها أو من لقاء مباشر مع أحد‬
‫من الجيران دون تمهيد مسبق قبل أن تستعيد توازنها ‪ .‬خرجت من مدخل العمارة بخطوات مرتبكة‬
‫خجولة تكاد تدفس نفسها فى جسد أبنتها التى بادرت بتهدأتها ‪ :‬خليكى طبيعية ياماما ‪ ..‬مالك ماشية‬

‫‪173‬‬
‫خايفة ليه ؟ ‪ .‬أدلت برأسها لألرض ‪ :‬أعذرينى يابسمة دى أول مرة من تسع سنين أمشى على أسفلت‬
‫غير أسفلت السجن ‪ ..‬حاسة كده زى ما تكون الشوارع بقت واسعة أوى ‪.‬‬

‫ــ أنسى بقى قصة السجن دى وخليكى بنت النهاردة وأمشى كده فاردة طولك ‪ ،‬ده أنا ناويه النهاردة‬
‫ألففك لف وحأجيبلك شوية حاجات حتخليكى ترجعى زى زمان فاتنة العمارة ‪ ..‬أبتسامة خجولة قبل أن‬
‫يتردد على شفتيها تساؤل ‪ :‬هو أنتى معاكى فلوس يابسمة ‪.‬‬

‫ــ ماتقلقيش نورا أديتنى بالزيادة ‪ .‬هزت رأسها ولم تتمكن من التعقيب حين فاجأها مشهد ميدان محطة‬
‫الرمل بحركته المرورية المضطربة وأختالط اللحم البشرى بصاج السيارات يزاحمهما عربات اليد‬
‫المتجولة وسط رائحة العوادم والعرق بينما الليل يتخلل كل تفاصيل المشهد فى حين هدى وبسمة تشقان‬
‫طريقهما وسط الخلق تهربان من الزحام ونظرات العيون الجوفاء والوجوه المجهدة والخطى المتسكعة‬
‫المتعبة ‪.‬‬

‫أستقبلت هدى تلك الصورة بمالمح شرهة تنم عن رغبة عارمة فى ملء عينيها بتفاصيل الدنيا ‪ .‬جعلها‬
‫تتلكأ فى مشيتها وتتوقف بنظرات مشدوهة ناحية العمارات الضخمة التى ظهرت فجأة ‪ ،‬كما أستوقفها‬
‫كم البشر المتكتل فى الشوارع فطرحت سؤاال ساذجا ‪ :‬هو النهاردة فى مناسبة وال أيه ‪ .‬بدون أكتراث ‪:‬‬
‫الزحمة دى بقت كل يوم ‪ ..‬الشوارع ضاقت على الناس ‪ .‬لم تقتنع ومدت يدها تشد على ذراع أبنتها‬
‫خوفا من الضياع فى المتاهة والفوضى بينما عينيها تتطلع فى مالمح الخلق المهمومة تتفرس فى‬
‫الوجوه بدهشة طفل ثم تنقل نظراتها لواجهات المحالت ونوافذ العرض المزدحمة ببضائع تشى بتدنى‬
‫الذوق بينما اليخلو المشهد كله داخل المحالت من ضجيج تعلوه كلمات المساومة ويشوبه أحيانا تعليق‬
‫ماجن ‪ ..‬وقفتا أمام محل ضيق لبيع األحذية وأوليتا الناس ظهريهما حين لمحت بسمة حذاء أسود بكعب‬
‫عالى داخل محبسه فى الفاترينة ‪ ،‬عاينته وفحصته جيدا بعينيها ثم قالت ‪ :‬أيه رأيك فى الشوز األسود‬
‫ده ‪ .‬لم تجيبها بدت شاردة تندس بنظراتها فى كل زحام ‪ ،‬غير أنها أستعادت وعيها على صوت أبنتها ‪:‬‬
‫ركزى معايا شوية ياماما وبصى على الشوز األسود ده ‪ .‬منحته نظرة طويلة ثم أبتسامة ‪ :‬جميل أوى ‪.‬‬
‫بينما صاحب المحل فى تلك اللحظة يرصدهما بنظراته المترقبة حتى دخلتا وأنحشرتا فى أحد أركانه قبل‬
‫أن تشير له وتوجهه لموقع الحذاء فتناولته من يده وقلبته بسمة بين أصابعها بالتبادل مع أمها ‪ .‬دقائق‬
‫وخرجتا من المحل بصحبة الحذاء بعد سداد مائة وخمسة وخمسون جنيها بينما أنتاب هدى فرح‬
‫طفولى أستوطن مالمحها ‪ ،‬أصبحت الدنيا األن فى نظرها غير الدنيا وكل شيىء فيها أخذ لونا جديدا‬
‫‪174‬‬
‫يبتسم فى عينيها ولوال خوفها من أن يظن بها المارة الجنون لغنت متجاوبة مع أحاسيس الحرية‬
‫غيرأنها ترجمت حالتها بعبارة عفوية ‪ :‬أنا فرحانة أوى يابسمة حاسة كده كأنى رجعت عشرين سنة‬
‫لورا ‪ .‬تمضيان فى شارع صفية زغلول بأتجاه منطقة المنشية ‪ :‬الفرحة دى كلها عشان حتة جزمة ‪.‬‬

‫ــ ال ياحبيبتى مش حكاية جزمة ‪ ،‬الحرية حلوة يابنتى وكفاية أنى ماشية جنبك وفى وسط الناس وده‬
‫بالنسبة لواحدة زيى كأنها معجزة كنت من كام يوم ست مسجونة ولسه قدامها كام سنة على الخروج ‪..‬‬
‫حكمة ربنا فوق كل شيىء ‪.‬‬

‫ــ ياأمى ياحبيبتى أنا قلتلك أنسى بقى اللى فات ‪.‬‬

‫ــ ماشى يابسمة حأنسى بس فهمينى أحنا رايحين على فين ‪.‬‬

‫ــ حأعزمك على سندوتشات كفتة تحلفى بيها ‪ .‬أبطأت خطوتها ‪ :‬بس أحنا كده حنتأخر ‪.‬‬

‫ــ عندك حق ياهدى ‪ .‬قالتها ووقفت ثم مالبثت أن فتحت شنطتها وسحبت من داخلها الموبايل‪ :‬وأدى‬
‫ياستى الموبايل كمان حنقفله قبل نورا ما تتصل وتعملنا حكاية وتستعجلنا ‪ .‬ظهر عليها القلق ‪ :‬نورا كده‬
‫حتزعل وحتعمل مشكلة ‪.‬‬

‫ــ كبرى دماغك ياماما نورا من غير حاجة زعالنة على طول ومتنشتة وعصبيتها اليومين دول زادت‬
‫أوى ‪ .‬سارتا بتمهل ‪ ..‬تعيد هدى صياغة سؤالها ‪ :‬أنا حاسة كده أن نورا أتغيرت وماعدتش زى األول ‪.‬‬

‫ــ أزاى يعنى ‪.‬‬

‫ــ من يوم مارجعت البيت لغاية دلوقتى ماحاولتش تقعد معايا تحكيلى والتفضفضلى وبصراحة أنا مش‬
‫فاهمة أيه السبب ‪ .‬قالت جملتها وشمل الحزن وجهها بينما شدت بسمة عنقها لترتفع بنظراتها فوق‬
‫الرؤوس الممتدة بطول الرصيف حين بات مطعم الجمهورية فى مرمى البصر ‪ :‬نورا طيبة وبتخاف‬
‫علينا وكل طلباتنا بتحاول توفرها لنا بس الضغوط والظروف بتخليها جافة شوية فى التعامل ‪.‬‬

‫ــ ضغوط أيه يابسمة ‪ .‬قالت عبارتها بصوت عالى حين زاد الضجيج حولها ونفير السيارات يصم‬
‫األذان ورائحة الكفتة تقتحم االنوف مصدرها مطعم الجمهورية التى أحاطت بمدخله جمهرة من الزبائن ‪:‬‬
‫ماتنسيش أنها مسئولة عن البيت كله من أوله آلخره وبعدين مصاريفنا بقت كتير أوى ياماما ‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫ــ عندك حق كتر خيرها فعال واحدة غيرها كانت فكرت فى نفسها وفى مصلحتها ‪ .‬ثم أطرقت رأسها قبل‬
‫أن تعاود ‪ :‬لكن فهمينى هو أيه اللى حصل بينها وبين شريف شايفاها كده متغيرة من ناحيته ‪ .‬بأداء‬
‫سريع حين أقتربت من الجمهرة ‪ :‬خلينا دلوقتى فى سندوتشات الكفته وبعد كده حأقولك كل حاجة ‪ .‬ثم‬
‫سحبتها من يدها ونحتها جانبا ‪ :‬أستنينى هنا على جنب وأنا حأعيش مع الزحمة دى ‪ .‬أطاعت األمر‬
‫وبدت كصندوق األمانات بعد ما تسلمت منها شنطتها وكيس الحذاء ‪ ..‬أقتحمت بسمة دائرة الزحام‬
‫مستفيدة من لياقتها وليونة جسدها وهى تتلوى بين األجساد كالدودة حتى تصدرت المشهد وصارت‬
‫وجها لوجه أمام البائع بينما أمها الزالت تبحث عنها من خالل زاويتها ‪ .‬عشر دقائق وخرجت كما دخلت‬
‫بنفس األداء محملة بكيس عليه شعار مطعم " الجمهورية " وعيناها مركزتان تجاه أمها التى أستقبلتها‬
‫بضحكة وتعليق ‪ :‬يابنت العفاريت ده أنت خلصتى نفسك بسرعة ‪ .‬فتحت الكيس ومدت يدها تسحب‬
‫سندوتشا ‪ :‬عيب ياماما ده أنا متدربة على األفالم دى ‪ ..‬أمسكى وكلى وقوليلى رأيك ‪ .‬قضمة صغيرة‬
‫أستساغت طعمها فتبعتها بأخرى كبيرة وهى تردد بحشرجة‪ :‬طعمها حلو باين عليها لحمة بلدى‪.‬خطوات‬
‫متسكعة وكأنهما صعلوكتان بال هدف ‪ ،‬ثم أعادت تكرار نفس السؤال ‪ :‬أحكيلى بقى حكاية نورا مع‬
‫شريف ‪ .‬قالت بصوت غير مؤهل لخروج نبرة نقية حيث التزال الكفتة فى مرحلة الطحن بين الفكين ‪:‬‬
‫الحكاية ببساطة ياستى أن نورا عمرها ماحتتغير من ناحية شريف أبدا مش عشان هيه بتحبه من‬
‫صغرها ‪ ..‬أل ياماما الحكاية أكبر من كده بكتير ‪ ،‬شريف بالنسبة لها حتة منها يعنى زى ماتقولى كده‬
‫مزروع جواها وقريب منها لدرجة ماحدش يتصورها ‪ ..‬شريف هو الفرحة الوحيدة والحاجة الحلوة اللى‬
‫فى حياتها من يوم ماأنتى مشيتى من البيت ورحتى اللى مايتسمى ‪ ،‬كان هو النور الوحيد فى األيام‬
‫السودة اللى شفناها فى األول ‪ ،‬كانت تصرفاته معانا كلها رجولة وأكبر من سنه وكفايه أنه هو اللى‬
‫شجع باباه يقف معانا ويساعدنا فى الدروس وهو اللى خلى الخواجة كرم ياخدنا معاه كل جمعه نصطاد‬
‫وعمرى ماحأنسى ياماما لما كان يحوش من مصروفه وهو فى الكلية عشان يجيب لنورا شوز‬
‫وال تيشرت حتى أدوات المدرسة بتاعة كل سنة كان الزم يجبهالى أنا ويوسف ولما كان أخوه نادر‬
‫يبعتله فلوس من أمريكا عارفة كان بيعمل معانا أيه ‪ .‬كانت ساهمة تستغرب تلك المثالية ‪ :‬عمل أيه ؟!‪.‬‬

‫ــ أشترى ليوسف تالت أطقم أخر شياكة عشان دخول الجامعة ‪ .‬حكت بأصبعها مؤخرة رأسها ‪ :‬أنتى‬
‫كده قلقتينى يابسمة ‪ ..‬بقى الرجولة والشهامة يبقى جزاءها المعاملة الجافة دى ونكران الجميل ‪ .‬طب‬
‫أزاى ‪ .‬كانت قد أنتهت من أكل السندوتشات وحوطت فمها بمنديل تمسح ركنيه ‪ :‬عايزة الصراحة ياماما‬

‫‪176‬‬
‫األمور كلها أتغيرت وأتشقلبت لما نورا أشتغلت عند زيزيت فى األتيليه و بقى وقتها مشغول وضيق‬
‫لدرجة أنها بطلت حتى تتصل بيه غير فين وفين ‪.‬‬

‫ــ كالم مايدخلش الدماغ يعنى أى حد يشتغل ينسى الناس اللى بيحبهم ويتخلى عنهم ‪.‬‬

‫ــ واللـه هو ده اللى حصل ياماما وأحتمال تكون نورا أتغيرت لمابقت الكل فى الكل فى األتيليه ومرتبها‬
‫بقى بسم اللـه ماشاء اللـه كبير والدنيا زهزهت معاها وبقى شريف مش مهم فى حياتها وهيه ماعدتش‬
‫زى األول وماتسألنيش ليه ؟ ‪ ..‬سكتت لحظة ثم أردفت ‪ :‬ساعات كتيرة بأبقى مش فاهمة نورا بتفكر‬
‫أزاى أو عايزة أيه بالظبط ‪ .‬سحبت نفسا ثم قالت فى تعجب ‪ :‬المفروض أنك عايشة معاها ليل ونهار‬
‫وأنا عارفة أنها مابتخبيش عنك أى حاجة ‪.‬‬

‫ــ صدقينى ياماما فى تصرفات كتيرة بأبقى مش قادرة أفهمها زى تصرفاتها مع شريف فجأة تقلب‬
‫عليه وتهرب منه من غير سبب وفجأة برضه تالقيها بتحبه أوى وتكلمه فى اليوم عشرين مرة ‪ .‬أطلقت‬
‫هدى ضحكة ساخرة ‪ :‬يعنى أنا كمان شربت من نفس الكاس اللى شرب منه شريف قاطعتنى وبطلت‬
‫تزورنى فجأة ومن غير سبب ‪ .‬لم تعثر على أجابة شافية ‪ :‬كبرى دماغك ياماما هى دى نورا ‪ ..‬ظهر‬
‫التعب على خطوات هدى وتخلفت عن بسمة مسافة متر قبل أن تلتفت اليها األخيرة ‪ :‬شدى حيلك شويه‬
‫ياماما أحنا قربنا على منعم ‪ .‬أنكمشت مالمحها ‪ :‬منعم مين ؟ ‪.‬‬

‫ــ ده الكوافير بتاعى أنا ونورا ‪ .‬تجر قدميها ‪ :‬هو أنتى محتاجة كوافير ده أنتى زى القمر ‪.‬‬

‫ــ مش عشانى المرة دى ‪ ..‬ده عشانك أنت ياجميل ‪ .‬مرت بيدها على شعرها وبشرتها ‪ :‬أنا يابسمة‪.‬‬

‫ــ أيوه أنتى ياماما ده أنا ناوية أخليكى قنبلة العمارة ‪ .‬لمعت تلك الجملة فى رأسها وتوجهت تتبعها دون‬
‫تعليق وبدت مستسلمة وظلت صامتةإلى أن وصلتا عند تقاطع شارع الفلكى مع شارع السلطان حسين‬
‫حين أشارت لها بسمة ‪ :‬هو ده منعم الكوافير ‪ .‬أجتازت عتبة المحل ‪.‬‬

‫ــ أيه النور ده كله ‪ .‬كانت تلك أول كلمات منعم حين دخلت بسمة ومن خلفها هدى ‪ ،‬فصافحته بحرارة‬
‫قبل أن تبادره بجملة أستباقية ‪ :‬الزيارة دى مش عشانى ‪ ..‬دى للمزة اللى ورايا ‪ .‬أنحرف برأسه يمينا ‪:‬‬
‫أهال وسهال شرفتينا يامدام ‪ .‬تنويه البد منه وهى تقربها لجوارها ‪ :‬أوال دى ماما وعندنا بكرة مناسبة ‪..‬‬
‫يعنى تستلمها منى بوضعها ده وتسلمهالى بالكتير أوى بنت عشرين سنة ‪ .‬رماها بنظرة لطيفة مثل‬

‫‪177‬‬
‫صوته ‪ :‬ماتشغليش بالك مامتك جمالها ربانى وشوية الشغل اللى حأعملهم حيخلوها ماحصلتش ‪.‬‬
‫تسلمها برقة وأجلسها على الكرسى الضخم حتى أرتخى جسدها المنهك وتركت له شعرها ووجهها‬
‫وديعة بين أصابعه ‪ .‬صال وجال حولها كراقص باليه يصفف ويرسم وينحت بينما فى الخلفية جلست‬
‫بسمة كمراقب جودة ال تتأخر عن تقديم نفحة مديح كلما أنهى جزءا بنجاح ‪ :‬اللـه على أيدك يامنعم‬
‫يافنان ‪.‬‬

‫ــ مرسى ‪ .‬أتخذ العمل منه مايقرب من ساعة وربع حتى أنحسرت عن وجهها تفاصيل السنوات‬
‫الكبيسة ورحلت غير مأسوفه عليها ‪ ،‬وعندما قرر منعم األفراج عنها بكفالة مائتين جنيها شملت‬
‫تصفيف الشعر وصبغه وتنظيف الوجه ورسم الحواجب خرجت هدى لجماهير شارع الفلكى أمرأة مثيرة‬
‫تلتهمها العيون المتفحصة التى أثارت فرحة بسمة‪ :‬شايفة ياماما الناس حتاكلك بعينيها واللـه أنا‬
‫مامصدقة نفسى أنتى بقيتى واحدة تانية خالص بالظبط شبه ممثالت المسلسل التركى ‪.‬‬

‫ــ طب خلصينا يابسمة أحنا أتأخرنا أوى ‪.‬أتجهتا بخطى سريعة للمنزل وقد دب فيهما نشاط غلب‬
‫عليه طابع المرح وخاصة هدى التى شعرت بأنه قد عادلها نوع فريد من األرتباط ببسمة ‪ ..‬أرتباط غير‬
‫مشروط ‪ ..‬محبة تتجاهل كل ماحدث فى حياتهما معا من فراق ألما بها ‪ ..‬شجعتها بسمة بماتملكه من‬
‫براءتها القديمة وأندفاعها السهل للحياة ‪.‬‬

‫مع دقة الثا نية عشر منتصف الليل فتحت بسمة باب الشقة ‪ ..‬التلفزيون فقط كان يضيىء الصالة‬
‫ويعكس نوره ‪ ..‬مالمح منفعلة تسكن وجه نورا المتصلبة فى جلستها قبل أن تنتفض من مكانها متجهة‬
‫ناحيتهما فأستعدت لها بسمة بأبتسامة مرتعشة بينما توارت هدى خلف ظهرها بحجة غلق الباب ‪.‬‬
‫أقتربت منها بعصبية بعد أن ضغطت على زر النور فأضاءت النجفة كشافاتها ففضحت مالمحها التى‬
‫كساها الغضب قبل أن تنفث جزء منه فى شكل سؤال أجبارى منفعل ‪ :‬كنتو فين لغاية دلوقتى وسيادتك‬
‫قافلة الموبايل ليه ؟ ‪ .‬قبل أن تسترجع أنفاسها من صعود السلم ‪ :‬لفيت شوية أنا وماما أشتريت لها‬
‫جزمة وأكلنا سندوتشات وبعد كده عدينا على منعم الكوافير ‪ .‬تحولت بعينيها تعاين رأس أمها فى‬
‫غضب ‪ :‬ماينفعش الكالم ده ياماما أحنا هنا لنا نظام ماشيين عليه من سنين وماينفعش نغيره ‪ .‬ثم نقلت‬
‫بصرها ألختها متوعدة ‪ :‬من أمتى بتقضى الوقت ده كله بره البيت ‪ ..‬هو أيه اللى جد علينا أنا عايزة‬
‫أفهم ‪ :‬كانت طريقتها فى نطق السؤال صاعقة وموحية بينما ظلت هدى صامتة تقف بال حيلة وأدلت‬
‫رأسها لألرض بعدما ولت عنها عالمات الفرح وأحتلها نوع ثقيل من أحاسيس غريبة لم تعرفها من قبل‬
‫‪178‬‬
‫إال أنها حاولت تلطيف األجواء ‪ :‬خالص يانورا حصل خير ‪ .‬لم تتخلص بعد من عصبيتها ‪ :‬أل مش خير‬
‫ياماما ‪ ..‬يعنى أنا أفضل قاعدة مستنية ودماغى عمالة تجيب وتودى والقلق حياكلنى وتقولى خير ‪ ..‬ثم‬
‫وجهت غضبها فى وجه أختها ‪ :‬الموضوع ده مايتكررش تانى يابسمة وياريت ياماما لوسمحتى تمشى‬
‫على نظامنا ‪ .‬حاولت هدى تجاهل كلماتها فأخذت تدعك ذراعيها لتمنح نفسها بعض الهدوء ‪.‬‬

‫خرج يوسف مذعورا من غرفته بشورت يحاذى ركبته وفانلة زرقاء سواريه على صوت أخته المنفعل‬
‫وكعادته بسط األمور وهونها قدر أستطاعته بعد أن سمع من نورا وجهة نظرها فحاول أن يبدو منطقيا‬
‫ومقنعا وغير منحاز بالرغم من جو األرهاب التى تمارسه نورا ‪ :‬طب أهدى شوية يانورا وأسمعينى ‪..‬‬
‫ماما الغلط مش عليها بسمة كان الزم على األقل تتصل تطمنك ‪ .‬الزالت فى نبرتها سلطة حائرة أتقنت‬
‫أدائها ‪ :‬أنا لغاية دلوقتى مش قادرة أفهم أزاى قدرتى تسيبينى الوقت ده كله قلقانة ومتوترة ثم ختمت‬
‫جملتها بمالمح مستائة وأندفعت إلى غرفتها وأوصدت بابها فى وجه الجميع بينما نظرت بسمة ألمها‬
‫والمت نفسها بشدة ومطت شفتيها أسفا ‪ :‬معلش ياماما ماتزعليش منها هيه دايما بتبقى عصبية لما‬
‫بتقلق علينا ‪ .‬أما هدى فى تلك اللحظة كان فى وسعها أن تحتوى المشهد كله فى ذاتها وهى تستشعر‬
‫مذاق المغلوب على أمره غير أنها لم تترجم شعورها إلى أحتجاج ‪ :‬ماحصلش حاجة ياوالد ونورا عندها‬
‫حق ‪ .‬أقترب يوسف منها محاوال تغيير الموضوع ‪ ،‬لكن بسمة أرادت منه أجابة على سؤال خرج منها‬
‫بنبرة غاضبة ‪ :‬يعنى أنت يرضيك اللى نورا عملته ده وبعدين هو أنا أتأخرت مع مين ‪ ..‬مش مع ماما ؟ّ‪.‬‬
‫لم يرد بأجابة قاطعة لكن شيئا فشيئا أخذت أرادته تتوارى ومنطقه يتخلخل وأصبح رأيه حبيس صدره ‪:‬‬
‫خالص بقى يابسمة ماتعيديش وتزيدى شوية نرفذة وراحوا لحالهم ‪ .‬تركتهما هدى يتجادالن وأتجهت‬
‫إ لى غرفتها تحمل كيس الحذاء ‪ .‬أحست بأنها تخسر هيبتها ‪ ..‬هذه المرة كان لوجومها سبب آخر‬
‫تتحاشى أن تظهره حتى لنفسها ‪ .‬يتسرب إليها ويأخذها الى خوف مستتر ‪ ،‬لم تلتبس األمور عندها‬
‫مثلما هى األن ‪.‬‬

‫الفصل السادس‬

‫مساء الخميس ‪..‬‬

‫البيت المشهود له بالهدوء والسكون أصبح أكثر صخبا وتحول ليل الصالة والصالون إلى بقعة من النور‬
‫الفاضح لكل شبر فيهما بفعل كشافات تسكن فوانيس ذهبية داخل نجفتين عتيقتين مدعومتان بأضاءة‬
‫‪179‬‬
‫منبعثة من أسبوتات مدفونة فى أطراف السقف بينما صوت الموسيقى الهادر يخرج متبجحا من جهاز‬
‫كمبيوتر فى غرفة يوسف موصول بسماعتين قاما بعملهما على أحسن مايكون ونجحتا فى خدش حياء‬
‫المنزل التى أستنكرتها أيات بتأفف صامت وقلقلة فى جلستها وكأنها أكالن ينهش مؤخرتها الملتصقة‬
‫بكرسى الصالون وهى تتابع صوت " ناسى عجرم " المايع بأنتفاضة تصدرعنها كل دقيقة ‪ :‬وطى‬
‫الزفت ده شوية يابسمة ‪ .‬خرجت األخيرة من غرفتها كى تضمن وصول صوتها من خالل الصخب ‪:‬‬
‫ياعمتى ياحبيتى فى ضيوف جايين دلوقتى عشان يباركوا لماما ‪ ..‬يعنى ماينفعش يسمعوا المزيكا‬
‫بتاعتك ‪ .‬تلقت أذنيها التوضيح فأشاحت بوجهها فى أرف وهى تحدث نفسها ‪ :‬بقالى ساعة البسة‬
‫وقاعدة فى مكانى ال فيه حد جه وال حد عبرنا لغاية دلوقتى ‪ .‬أنتاب الساكنين فى المنزل أحاسيس‬
‫متفاوتة حيال تلك اللحظات وإن كانت حالة الرضا هى المسيطرة بعدما تملكهم شعورا حماسيا بعودتهم‬
‫إلى بؤرة األهتمام من جديد وبدى لهم أن الحدث له أهمية خاصة ‪ ،‬لذا كان األستعداد جادا فى غرفة‬
‫نورا التى أظهرت جدية وأهتماما بدت واضحة فى تسريحة شعرها الجديدة وحرصها على أن تبدو‬
‫بمكياج مناسب ‪ ..‬وقفت متأنية أمام المرآه تستهل البداية برفع الرموش المرتخية لتقلبها ألعلى فى‬
‫أنحناءة بفعل " ماسكرة " كان لها فعل السحر فى ظهور شكل العين براقا ومثيرا ثم مرت على الخدين‬
‫قبل أن تتوقف يدها حين تبادلت النظرات مع أختها من خالل المرآة التى كانت فى كامل الجاهزية‬
‫للخروج إلى الصالون ‪ :‬صبع الروج الفاتح اللى كان هنا راح فين يابسمة ‪ .‬أقتربت من خلفها وهى‬
‫تتمايل كبندول الساعة ‪ :‬مش عارفة يانورا ‪ .‬واجهتها بنفخة ولم تعقب بينما أنفرج وجه بسمة عن‬
‫أبتسامة مكر ‪ :‬ماسكرة فى العين وكريم أساس وشعرنا نازل على الكتفين وكمان بندور على صبع روج ‪..‬‬
‫كل ده عشان خاطر زيزيت جاية وال عشان الخواجة كرم وعمو خيرى ‪ .‬أزاحتها من طريقها قبل أن تجلس‬
‫على طرف السرير تنتعل حذاءها ‪ :‬أل وأنتى الصادقة ده عِشان عم نوح ‪ .‬لم تجد بسمة أداءا يصلح سوى‬
‫" الغتاتة " ‪ :‬الشياكة دى بتقول أن شريف أكيد جاى مع عمو خيرى ‪ ..‬صح وال أنا غلطانة ؟! وقفت‬
‫وعدلت من وضع جيبتها السوداء لتحاذى مستوى ركبتيها قبل أن تضع ذراعيها داخل بلوزة " روز"‬
‫رقيقة أضفت عليها جماال كالسيكيا من طراز " سعاد حسنى " ‪ :‬ماعنديش فكرة أن كان جاى وال أل ‪ .‬لم‬
‫تستطع اختها مقاومة جملة أعتراضية‪ :‬واللـه شريف ده ماحصلش وماعدش موجود منه دلوقتى كفاية‬
‫رجولته وأخالقه وكتر خيره أنه متحمل نرفذتك وعصبيتك و ياريت النهاردة تبقى لطيفة معاه وماتحاوليش‬
‫تضايقيه ‪ ..‬شريف بيحبك أوى يانورا ‪ .‬لم تتلق ردا سوى نظرة مترددة ‪ ،‬فأنهت كالمها و خرجت من‬
‫الغرفة وأغلقت الباب خلفها ‪ .‬بينما دارت نورا بعينيها كأنما تبحث عن رد إال إنها لم تجد سوى نفس‬

‫‪180‬‬
‫الكلمات التى دائما ماترددها بينها وبين نفسها ‪ :‬واللـه أنا كمان بحبه ‪ ..‬أكتر من نفسى وأكتر من حياتى ‪.‬‬
‫شاع اآلسى فى وجهها حين أردفت تدافع عن نفسها ‪ :‬ياخسارة ماحدش قادر يفهمنى حتى شريف بقى‬
‫زيهم ال قادر يفهم الظروف وال عايز يستوعب أن الزمن أتغير وكل حاجة أتغيرت ‪ .‬رنين جرس الباب كان‬
‫كفيال ألنهاء حوارها الداخلى فزاد أرتباكها قبل أن تودع المرآة بنظرة أخيرة عاينت فيها وجهها ثم أتجهت‬
‫خارجة الى الصالة ‪.‬‬

‫دخلت " زيزيت " فكانت أول الواصلين وقد مالت قسمات وجهها للفرح الشديد حين أستقبلتها بسمة ‪ :‬أهال‬
‫ياطنط ‪ ..‬أتفضلى ‪.‬‬

‫ــ أزيك يابسمة ‪ ..‬هدى حبيبتى فين ؟ ‪.‬‬

‫ــ حاال حتكون موجودة ‪ .‬تسلمتها نورا لحظة خروجها من غرفتها من منتصف الصالة حتى الصالون قبل‬
‫أن تنحرف فى رشاقة ناحية أيات ‪ :‬أزيك يامدام أيات مختفية ليه اليومين دول ‪ .‬أستعادت األخيرة نبرة‬
‫الهوانم وقالت بأداء راقى ‪ :‬أهال يازيزيت أتفضلى ياحبيبتى ‪ .‬توجهت عند أول كرسى على يمين الصالون‬
‫جلست مشدودة منتصبة كما لو لم ينتقص الزمن من تفاصيلها شيئا وبدت متحررة لينة داخل مالبس‬
‫عصرية يصعب تصنيفها على مقياس الموضة ‪ ..‬هل هى أخر صيحه من تصميمها أم أنها مالبس مجنونة‬
‫أستجلبتها من بالد ماوراء البحار ‪ ..‬ارتدت بنطلون كاكى ضيق حول المؤخرة واسع من الفخدين ومنكمشا‬
‫حول الساقين بينما غطت جزءها العلوى ببلوزة بيضاء بياقة صغيرة وقصيرة الطول تحازى حافة‬
‫البنطلون ‪ ..‬لحظات وتسلل ألسماعهم صوت يشبه بزقزقة فأر " سيسى " كان مصدره حذاء هدى الجديد‬
‫حيث الزال فى مرحلة " التزييق " ظهرت من ناحية غرفتها متجهة إلى الصالة ومنها للصالون بخطوات‬
‫متمهلة داخل ثوبها األنيق الذى أشرفت على أنتاجه وأخراجه نورا وبمشاركة من زيزيت على أستحياء‬
‫بينما شعرها األسود الكثيف تهتز خصالته مع حركة الحذاء أبو كعب ‪ ،‬فبدت فى مشيتها كفتاة أعالنات‪..‬‬
‫وقبل أن تجتاز أعتاب الصالون لمحتها زيزيت فقامت من مكانها ببطء فاغرة فاها وأتسعت عيناها وقد‬
‫أعلنت مالمحها عن دهشة مضاعفة بانت فى عفويتها ‪ :‬واو ‪ ..‬مش ممكن ‪ .‬ثم تماسكت حين أبتعدت‬
‫خطوتين عن كرسيها تأهبا ألندفاعة لم تتأخر ‪ ..‬أقتحمتها فى عناق حار تحول إلى بكاء وتدافعت على‬
‫لسانها عبارات التهنئة منفعلة باهتياج الفرحة ‪ :‬وحشتينى وحشتينى ياهدى ‪ ..‬حمد اللـه على سالمتك‬
‫ياحبيبتى ‪ .‬قالتها بنبرة مرتعشة ‪ .‬لم تستطع هدى منع دموعها ‪ :‬ربنا يخليكى يازيزيت واللـه أنت كمان‬

‫‪181‬‬
‫وحشتينى أوى وكنتى على طول فى بالى ودايما بأوصى نورا عليكى وكتر ألف خيرك ياحبيبة قلبى على كل‬
‫اللى عملتيه معايا ومع والدى ‪.‬‬

‫ــ عيب ياهدى ماتقوليش كده أنا ماعملتش حاجة خالص أنتى ياحبيبتى اللى عملتى كل خير معايا والفضل‬
‫يرجعلك فى اللى أنا فيه ‪ .‬حضر يوسف من غرفته عند نهاية الجملة فاردا أبتسامة ‪ :‬أزيك ياطنط ‪ ..‬أيه‬
‫الشياكه دى ‪.‬‬

‫ــ أهال ياهراب يا أونطجى أبنك خالص كبر ياهدى على وعايش دور المهندس وبطل يعدى علينا فى‬
‫األتيليه‪.‬‬

‫ــ الدور ده أنا أعيشه مع أى حد لكن لغاية طنط زيزيت جميلة الجميالت ماأقدرش أبدا ‪ .‬بينما تراقب نورا‬
‫حديث الوفاء المتبادل بين أمها وزيزيت بنظرة ثابتة غريبة قبل أن تصدرفرمانا أقعدوا واقفين ليه ‪.‬‬
‫تجاورتا على كنبة الصالون ودار بينهما همسا فشلت نورا فى ألتقاط أى همسة منه بفضل صخب األغانى‬
‫وصوت بسمة العالى وهى تبدى رأيا واجبا ليوسف ‪ :‬كنت لبست التيشرت األسود أحسن من القميص‬
‫الضيق ده ‪.‬‬

‫ــ أنتى مابتفهميش فى الذوق ‪ .‬أثارت تلك الضحكات الممتدة حفيظة نورا حين أنتهى الحديث مع نهاية‬
‫حديث الهمسات الذى كان له آثرا جميال الزال عالقا فى عيني هدى ‪ :‬واللـه أنا أول مرة أضحك من ساعة‬
‫مارجعت البيت ‪ .‬نوهت عن ذلك وأسترخت فى جلستها فأنكشفت ساقيها الرخاميتين ببياض وردى ‪ ،‬فكان‬
‫لزيزيت تعليق ‪ :‬أيه الجمال والحالوة اللى بقيتى فيها دى ‪ ..‬ثم مالت عليها وأردفت ‪ :‬أنتى كنتى فين بالظبط‬
‫التسع سنين اللى فاتوا ؟! ثم أغمضت عينيها تمنع ضحكة بريئة ‪ :‬كنت فى دنيا غير الدنيا ‪ ..‬دنيا ربنا‬
‫مايكتبها على حد ‪ .‬ربع ساعة من الرغى المتبادل قبل أن يتحول لحديث جماعى شاركت فيه نورا وبسمة‬
‫كما ساهمت أيات ببعض األراء عن أحوال الدنيا ثم أحوال األتيليه على لسان زيزيت ‪ .‬كان الحوار كافيا‬
‫ألستعادة هدى بعض الثقة فى أول لقاء مباشر مع صديقتها الحميمة فى حين لم تكن تلك المدة كافية ألنهاء‬
‫عملية الفحص والمعاينة التى بدأتها زيزيت فى وجه هدى وتفاصيل جسدها وكأنها تحاول أسكات أسئلة‬
‫الدهشة واألستغراب وهى تردد داخلها ‪ :‬أكيد السجون فى مصر أتطورت أوى !‪ ..‬لم تمض لحظات وكانت‬
‫هدى فى صدارة باب الشقة تستقبل الدكتور كرم سباستيان وتابعه نوح ‪ ،‬قابلتهما بأبتسامة صغيره‬
‫سرعان ماكبرت حتى شملت وجهها ‪ :‬أهال ياخواجة كرم ‪.‬‬

‫‪182‬‬
‫ــ أهال يامدام هدى حمد اللـه على السالمة ‪ .‬صافحها وأفسحت له ممرا للدخول ثم ناولها هدية مكفنة فى‬
‫كيس أبيض عليه حروف ذهبية تشى عن وجود برفان من النوع الغالى ‪ ..‬تسلمته منه بحرج بالغ ‪ :‬ليه كده‬
‫ياخواجة كرم ده المفروض أنا اللى أقدملك هدية على تعبك مع والدى وعلى رحالت كل جمعه ‪ .‬لم يمهلها‬
‫وعاجلها ضاحكا ‪ :‬أنا صحيح مش مصرى لكن أفهم كويس فى األصول ‪ .‬أنهت مراسم الترحيب بضحكة‬
‫تابعها نوح الواقف عند حدود باب الشقة ‪ :‬أدخل ياعم نوح واقف ليه ‪ .‬نفذ األمر وأصطحبتهما إلى‬
‫الصالون وأجلستهما على الكنبة بأشارة من يدها بعدما رحلت عنها زيزيت إلى كرسى مجاور أليات حرصا‬
‫منها كى تأخذ سمنة الخواجة المساحة المناسبة التى تليق بكرشه المترهل بينما اليزال وجهه يحمل‬
‫قسماته القديمة وإن أصابها الكثير من التغيير ‪ ،‬فالذقن زادت كثافة وتراجع شعر رأسه خاصة عند المقدمة‬
‫وتضاعف مقاس نظارته على األقل درجتين ‪ ..‬بادر نوح المنزوى بجواره ‪ :‬واللـه فرحتنا كبيرة أوى ياست‬
‫هدى والحمد للـه على رجوعك سالمة من المحنة الكبيرة ‪.‬‬

‫ــ كتر خيرك ياعم نوح والحمد للـه على كل حال ‪ .‬قاطعت بسمة ‪ :‬ياسالم على كالمك الحلو ياعم نوح كأنك‬
‫واللـــه بتقول شعر ‪.‬‬

‫ــ أنت فين ياخواجة مختفى ليه عن الصورة ‪ ..‬أنا بقالى مدة ماشفتكش ‪ .‬سؤاال طرحته أيات وكانت أجابته‬
‫حاضرة ‪ :‬ياأيات هانم أديكى شايفة أحوال البلد ماعدش فى أمان زى األول وبقى الخروج دلوقتى صعب‬
‫حتى الصيد بتاع كل جمعة بقى ماينفعش اليومين دول ‪..‬‬

‫ــ اللـه يرحم أيام زمان كان يوم الجمعة عندنا زى يوم العيد بحر وصيد وسمك ولعب ‪ .‬كان ذلك الترحم من‬
‫نصيب يوسف ‪ .‬فى حين ظلت نورا صامتة يغلب عليها التوتر والقلق ولم تنطق بكلمةإال بجملة مقتضبة‬
‫حين الطفها الخواجة ‪ :‬خالص يانورا نسيتى أنكل كرم وبطلتى تسألى عنى ‪ ..‬طب مكالمة حتى بربع جنيه‬
‫مش حتكلفك حاجة ‪.‬‬

‫ــ معلش يا أنكل أعذرنى وقتى بقى ضيق جدا ويادوب باجى البيت على العشا والنوم بس وعد منى‬
‫األسبوع اللى جاى حنخرج نتمشى سوا زى زمان وأحكيلك وتحكيلى ‪ .‬أبتسامة ماكرة أضاءت وجهه‪ :‬أنا‬
‫وأنتى بس وال فى حد تانى حيبقى معانا ‪ .‬جاملته بنصف أبتسامة ثم قامت من مكانها ‪ :‬عن أذنكم دقيقة‬
‫واحدة ‪ .‬ربت الخواجة على كرشه حين طرحت عليه زيزيت عرضا ‪ :‬حأستناك بكره تشرب معايا القهوة فى‬
‫األتيليه عندى شوية كتالوجات لسه جايالى من قبرص ومتهيألى الكتابة اللى عليها باليونانى ياريت‬
‫تترجمها لى ‪.‬‬
‫‪183‬‬
‫ــ أوامرك يازيزيت ‪ .‬بينما كانت نورا تتحرك فى الزاوية المخفية بين الصالة والصالون بخطوات قلقة‬
‫وعصبية ‪ ،‬لمحها يوسف من ركنه وراقب توترها فقام متجها ناحيتها وبداية أبتسامة خبيثة تتالعب فى‬
‫عينيه حين أقترب من خلفها ‪ :‬ماتقلقيش زمانه جاى دلوقتى ‪ .‬أرتبكت وهى تستدير نحوه ‪ :‬هو مين ده‬
‫ياسى يوسف ؟‪ .‬خفض من صوته ‪ :‬هو فى غيره ‪ ..‬شريف اللى بقالك شهرين مقاطعاه من غير سبب ‪.‬‬

‫ــ آه ‪ ..‬هو بقى اللى أشتكالك ‪.‬‬

‫ــ هو بطل يشتكى يانورا باين عليه فقد األمل ‪ .‬شعرت بفجاجة موقفها وبدت وكأنها فى أزمة طارئة وقبل‬
‫أن تجيب أقتحمت عليها بسمة الكدر ‪ :‬عمتى بتقولك تعالى أقعدى مع الضيوف ‪ .‬تنهدت ووجهت كالمها‬
‫ألخيها ‪ :‬حاضر جاية ‪ ..‬روح أنت يايوسف أقعد مع الضيوف ‪ .‬أنسحب وتركها مع زفرة ساخنة تعيد تقييم‬
‫حساباتها ‪.‬‬

‫فـى تلك األثناء خرج خيرى من شقته تقوده خطاه إلى أن وقف أمام شقـة هدى يتبعه شريف‬
‫كـ "بودى جارد " ‪ .‬أصلح خيرى الكرافت والقى نظرة متأنبة على حذاءه بينما أبنه يراقبه مستغربا ‪ :‬أيه‬
‫الحكاية يابابا حضرتك فاكر أنك جاى معايا تخطبلى وال أيه ‪.‬‬

‫ــ التفاصيل الصغيرة دى ضرورية يابنى أدم ‪ ..‬مش كفاية اللى أنت عاملة فى منظرك ده ‪.‬‬

‫ــ ماله منظرى ما هو زى الفل ‪.‬‬

‫ــ فى حد يروح يزور ناس فى مناسبة ببنطلون جينز وتيشرت هو أنت رايح رحلة ‪.‬‬

‫ــ موضة يابابا ‪ .‬تلقى المعلومة وضغط على جرس الباب الذى دوى رنينه داخل الشقة فأستقبلت نورا‬
‫صداه برعشة وارتباك طفولى وكأن شيئا ما تحرك داخلها ودب فيها نشاط مفاجىء وأتجهت بحماس إلى‬
‫باب الشقة إال أنها توقفت فجأة ‪ .‬تسمرت مكانها ثم تراجعت ‪ ،‬لم تستسغ حالة الهرولة فعدلت أتجاهها‬
‫وأشارت ألمها من خارج حدود الصالون ‪ :‬لو سمحتى أفتحى الباب ياماما ‪ .‬ألقت جملتها ورحلت فى عجالة‬
‫تخفى نفسها خلف الستارة القطيفة المعلقة عند أول الممر المؤدى لغرفتها وأتجهت بعينيها ترقب الداخل‬
‫حين تهيأت أمها لفتحه ‪ ..‬أنزاح الباب ليظهر وجه خيرى الذى أعد أبتسامة سابقة التجهيز قبل أن تتقلص‬
‫على شفتيه وتختفى حين طالعته هدى ‪ ..‬وقف خامدا كالمصعوق ‪ ،‬الشيىء فيه يتحرك ‪ ..‬أتسعت عينيه عن‬
‫نظرة ثابتة كمن به مس ‪ ،‬تخلى عن حياءه وهو يتفحصها منبهرا ‪ ..‬داهمه بريق عينيها ‪ .‬ظل ساهما ينظر‬

‫‪184‬‬
‫اليها فبادلته نفس النظرات يسحبها بهيبته الخفية ‪ ..‬هيبة المثقف المتمكن‪ ،‬فهو رجل له جاذبية النضج‬
‫الرصينة ‪ ..‬حدث نفسه وهو فى متاهة التأمل ‪ :‬معقول الجمال ده ‪ ..‬مستحيل تكون الست دى كانت‬
‫فى السجن ‪ ..‬سبحان اللـه !! هيئتها وشكلها كانت شاهدا على المودة التى عاملها بها الزمن ‪ .‬مد يده‬
‫وصافحها ‪ ،‬فأحس ببرودة فى أناملها وأرتعاشها قبل أن يأتيه صوت أبنه من خلف كتفه مربكا ‪ :‬هو أحنا‬
‫مش حندخل وال أيه ؟! نظر إلى وجهها فرأى الحياء يعلوه وقد أطرقت ال تستطيع النظر إليه ولكنها ظلت‬
‫ممسكة يده بيدها ‪ .‬وبقيا لحظة صامتين ‪ ،‬كان هو كالتائه أو المسحور وكانت هى تستغربه ولم تعلق ‪..‬‬
‫ثوان مرت بدت وكأنها تدور فى توقيت خارج حدود الزمن وكأنها لحظات مستوحاة من كتاب ألف ليلة‬
‫وليلة صفحة لقاء الفارس باألميرة وتحديدا سطر الهيام واألنبهار ‪ .‬ثم بدأ هو ‪ :‬حمد اللـه على السالمة‬
‫يامدام هدى ‪ .‬نظرت إليه والخجل يمألها ‪ ،‬فجذبت يدها من يده ‪ :‬اللـه يسلمك ياأستاذ خيرى ‪ .‬تقدم خطوة‬
‫وتبعه أبنه بعد أن فرغ من عناق هدى التى قالت مالحظة وهى تحيط وجهه بكفيها ‪ :‬بسم اللـه ماشاء اللـه‬
‫كبرت أوى ياشريف ‪ .‬ضحكة شبابية سبقت رده ‪ :‬أنا بقالى مدة على الحال ده ياطنط ‪ .‬قابلت تعليقه بضحكة‬
‫أضافت إلى جمالها جماال مثيرا ثم سارت تتقدمهما بينما ثوبها األسود الالمع ال يتيح الفرصة للنظرات كى‬
‫تثقبه ‪ ،‬لكنه يستطيع تحريض الخيال كى يحلق كيف يشاء ويتصور‪ .‬أنضم خيرى الى بقية الضيوف بعد أن‬
‫تلقى منهم ترحيبا حافال ومميزا يليق بكيانه داخل العمارة ‪ .‬جلس فى ركن الكنبة بجوار نوح بتوجيه من‬
‫الخواجة كرم وهو يتلفت باحثا عن مصدر صوت " عمرو دياب " بينما توجه شريف فى حراسة هدى‬
‫ناحية األنتريه المجاور للصالون كما أرشدته بخطواتها وكأنها تعد له جلسة خاصة بعيدا عن الضيوف ‪،‬‬
‫إال أنه لمح نورا تتحرك فى خلفية الصالةبالقرب من األنتريه وهى تتابعه بنظراتها ‪ ،‬فما كان منه إال أن‬
‫رسم على وجهه نوعا من الالمباالة ــ التى تعرفها وتعرف أنها غير طبيعية ــ لكنه ماكان يقدر على أن‬
‫يبدوطبيعيا ‪ ،‬كما كان ال يستطيع أن يظهر اللهفة التى كان يخفيها داخله ‪ ،‬كما لم يستطع أن يتحرك أمامها‬
‫بطريقة طبيعية فأغتنمت أرتباكه وسبقته لألنتريه وجلست على كرسيها المفضل فأستوت عليه وعلقت‬
‫رجال فوق آخرى بينما جلس هو قبالتها بأشارة من هدى ‪ :‬أتفضل ياحبيبى أقعد وخد راحتك ده بيتك‬
‫ياشريف وكفاية اللى سمعته عنك وعن رجولتك وشهامتك ‪.‬‬

‫ــ ماتقوليش كده ياطنط أحنا كلنا بنكمل بعض واللى بينا وبينكم يادوب حيطه ‪ .‬هزت رأسها مبتسمة‬
‫وأنصرفت من أمامه ‪ .‬ثم أنحط أمام نورا صامتا وشد جسده على الكرسى ورسم تعبيرا متجاهال وجودها ‪،‬‬
‫غير أنه لم يستمر طويال فتاملها دون أن يطرف له جفن ‪ ..‬أخر مشادة بينهما الزالت أثارها عالقة فى‬
‫مالمحه ‪ ..‬بادلته نظرة طويلة ثم أنفرجت شفتيها عن أبتسامة ضيقة سرعان ماسحبتها لتعيد تشكيل‬
‫‪185‬‬
‫مالمحها بصورة جديدة حين أنقبض فمها وأنعقد جبينها وأرتخت عينيها ‪ ..‬كانت تشعر به متوترا أمامها ‪،‬‬
‫أدلى برأسه لألرض ولم يستطع أن يرفع وجهه إليها ‪ .‬لحظة التوتر باعدت بينه وبين الرغبة فى تفحص‬
‫مالمحها ومظهرها بينما هى تجيد قراءة وجهه جيدا وشعرت به يعيد ترتيب نفس الشعارات القديمة ويردد‬
‫نفس العبارات والتبريرات بينما هى تزداد قناعتها كل يوم بأن الشيىء حقيقى يتكون من ذلك " التفنيط "‬
‫المتخلف و المستمر القابع فى عقله والذى تحول مع مرور األيام إلى قناعة يؤمن بها بأن عملها لدى‬
‫زيزيت يمتص قواها ووقتها وأحالمها أكثر مما ينبغى حتى كاد ينفجر بسؤاله الملتهب كلما رأها ‪ :‬نفسى‬
‫أعرف السبب الحقيقى اللى خالكى تتغيرى من ناحيتى ‪ ..‬ليه أنشغلتى عنى ومابقتش نمرة واحد فى حياتك‬
‫زى زمان ‪ ..‬أنا خالص زهقت ومابقتش قادر أتحمل طريقتك دى والحل الوحيد اللى قدامى أنى أخيرها بينى‬
‫وبين شغلها ‪ ..‬لكنه أجل السؤال عدة مرات ‪ ،‬فهو يعرف أن كيانها كله مرتبط بعملها ‪ ،‬فأيقن أن هذا السؤال‬
‫ال ضرورة له وحاول فى الشهور الماضية أن يستشف ماوراء عينيها عن معنى يصلح أو يساوى مقدار‬
‫التغيير المتنامى الذى ضرب عالقتهما وأصابها بالفتور ‪ ،‬فكان كلما عاود طلبه فى الفترات السابقة للقائها‬
‫كانت تطلب منه أن ينتظر لوقت أخر وتتعلل بجملة أسباب ‪ ..‬وتكرر الطلب والتأجيل واألنتظار ! كان يشك‬
‫فى عواطفها نحوه ‪ .‬تلك الحالة لم يستطع فك طالسمها وظن بوجود شيىء مستتر لم يستطع فهمه ‪ .‬لم‬
‫يتصور فتاته تعيش يوما واحدا دون أن تراه أو تحدته كما كانت دوما ‪ .‬هو يعلم انه قابع داخلها وسط‬
‫منطقة معينة ‪ ..‬ال يمكن أن ينزعه من مكانه شيىء أخر ‪ .‬نظر إليها نظرته العميقة التى تعرفها جيدا‬
‫فخضعت لها وفهمت ماتعنيه ‪ ..‬هو يبحث عن نورا القديمة ‪ .‬أغمض عينيه شاردا ورأى نورا الصغيرة‬
‫وصورة وجهها فى كل رحلة صيد جمعتهما مع الخواجة كرم ‪ ..‬كيف كانت رقيقة وتثير األحساس بالرأفة‬
‫لبراءتها ‪ ..‬كل مافيها ينادى العين ويثير الشهية والرغبة فى لمس خدها األبيض ‪ ،‬عندما كانت ترمى‬
‫الصنارة ثم ماتلبت أن تشد وتشد حتى يحمر وجهها ويتورد ثم تعض شفتها بأسنانها وهى تحاول وشعرها‬
‫يموج ومنابته فوق الغرة صارت حمراء ‪ ،‬فكان يتعقبها بنظراته وهى منحنية ورأسها فى مستوى ركبتيها‬
‫فتحس بالخجل وتعدل من وضعيتها ‪ ..‬عاد الى اللحظة األنية بأرتباكة حين أنتصبت أمامه بسمة تحجب عنه‬
‫وجه نورا وهى تمد له صينيه بها كأسين من عصير البرتقال وهى فى حالة صمت تراقب سرحانه بينما‬
‫سمع قهقهة الخواجة وهو يصيح ‪ :‬أيه ياشريف السرحان ده كله ‪ ..‬مد أيدك لبسمة وخد منها العصير ‪.‬‬

‫جلست هدى منفردة على كرسى فى مواجهة خيرى ال تفصلها عنه سوى منضدة وعلى يمينها جلست أيات‬
‫عاقدة ذراعيها تراقب حوارا ثنائيا بين يوسف وزيزيت بينما التزال هدى تعيش مرحلتها األنتقالية بهدوء‬
‫وثقة تحاول التعافى السريع والتخلص من الماضى ‪ ..‬تأملت وجوه جيرانها ‪ ،‬لم تعد الوجوه التى عرفتها‬
‫‪186‬‬
‫قبل دخولها السجن غير أطياف باهتة فى ضبابة الماضى ‪ ..‬تفحصت مالمحهم بعناية وهى ترصد فيهم‬
‫حصاد السنين قبل أن تسحبها عينيها إلى وجه خيرى الذى ما زال على عادته معها من لحظة مجيئه يغرق‬
‫نظرته فى نظرتها وهى ترصد تطلعه ونظراته الغارقة بأبتسامة خجولة تخصه بها بينما هو يمر بعيونه‬
‫على جسدها كأنه يلمسها وحين أنزلقت عيناه إلى ساقيها ‪ ..‬هاهى تتيح له الفرصة ليتأمل ـ من غير قصد ـ‬
‫سمانة الساق مكتنزة ومشدودة تقود إلى فخذين أملسين ـ بالتأكيد ـ وشديدى األستدارة ـ حتما ـ يتدثران‬
‫بدفء الثوب األسود الذى يحتضن كل الكنوز المستورة ‪ ..‬ألتهب خياله قبل أن تعدل من وضع ساقيها‬
‫الرخاميتين ثم سكنت ناعسة وأرخت أهدابها على عينيها وعلت وجهها حمرة ثم أنسحب حضورها‬
‫وأختبأت فى شرنقة الحياء بينما رفع خيرى كأسه من العصير وكمن يتخلص من ضغط عصبى هائل جرع‬
‫كأسه دفعة واحدة ولم ينتبه إلى بقية الحاضرين ‪ .‬أستغرقته اللحظة كما أستغرقتها فكان البد من الخروج‬
‫من الدائرة التى وقعا داخلها قبلما يشعر الموجودين بذلك خاصة وقد أنتابه شعور مفاجىء أنه يتصرف‬
‫كمراهق ويخسر رصانته فأشاح بنظرته قبل أن يرتد بذاكرته إلى لحظات أخر لقاء مباشر جمعهما قبل‬
‫دخولها السجن فى وقت اشتداد أزمتها مع القتيل " نسيم الشرقاوى " ‪ .‬لم يجد مهربا من عقد مقارنة‬
‫سريعة بين ماكانت عليه وماآلت إليه إال إنه خرج سريعا من المقارنات تأدبا منه أو خوفا على فساد‬
‫الجلسة وتظاهر باآلصغاء لكلمة مديح تجرى على لسان الخواجة كرم ‪ :‬ياسالم عليك ياخيرى وعلى‬
‫تحليالتك اللى قلتهالى آخر مرة كلها طلعت مظبوطة وتمام وكأنك بتقرأها من كتاب ‪ .‬خرج من حالة‬
‫المراقب ليتحول إلى حالة المخاطب ‪ :‬مش شطارة منى والحاجة ياخواجة المثل بيقولك الجواب بيبان من‬
‫عنوانه واألخوان طلعوا أكبر مقلب شربه المصريين فى تاريخهم ‪ ،‬دول مجموعة من الناس تركيبتهم غير‬
‫تركيبتنا وفهمهم للبلد غير فهمنا عشان كده أنكشفوا بسرعة والناس مابقتش طايقاهم وخد منى الكلمتين‬
‫دول على مسئوليتى مرسى أخره معانا سنة بالكتير ‪ .‬أطل نوح برأسه من بين العمالقين ‪ :‬سنة أزاى بس‬
‫ياأستاذ خيرى ده جلدهم تخين ولزقتهم مغرية ‪ .‬آثار هذا التوصيف ضحكات كرم التى أطلقها ببراءة وقد‬
‫أختفت التجاعيد من عنقه حين مالت إلى الوراء قبل ان تستدعيه زيزيت بجملة تحذيرية ‪ :‬خد بالك من‬
‫نفسك اليومين دول يادكتور كرم ‪ ..‬خطف األجانب شغال على ودنه فى سينا وربنا يستر وماتوصلش‬
‫الحكاية لغاية اسكندرية ‪.‬‬

‫ــ واللـه يازيزيت بعد ثورة يناير دى ال حصلت أجنبى وال حصلت مصرى الناس بتعاملنى فى الشارع على‬
‫إنى سلفى ملتزم بلحية وناس تانية لما يدققوا فى شكلى يقولوا على راجل كبير وشايف نفسه وماشى ع‬
‫الموضة ‪ .‬قالها ومازالت آثار الضحك عالقة بمالمحه ‪.‬‬
‫‪187‬‬
‫أراد يوسف الواقف مستندا بمرفقه على كرسى عمته أن يكون له حضورا ‪ :‬أنا لو منك ياخواجه أرجع‬
‫اليونان أستخبى فيها كام شهر لغاية ما الدنيا تهدى شوية ‪ .‬داهمه صمت مباغت وسرت فى مالمحه‬
‫تعبيرات حزينة وتلون بياض عينيه بخطوط حمراء خفيفة ثم قال بصوت متكسر ‪ :‬ماعدش ينفع يايوسف‬
‫أتينا بقت غريبة على وماليش فيها حد ‪ ..‬أسكندرية دى بلدى اللى أتولدت فيها وشفت فيها أحلى أيام‬
‫عمرى واللى إن شاء اللـه ناوى أموت فيها ومافيش حد يابنى بيهرب من بلده لما تتعب والتمرض وأوعى‬
‫تصدق أن مصر حتفضل كتير على الحال ده وال حد يقدر يتمكن منها التقولى أخوان وال غيره وأسألنى أنا‬
‫عن البلد دى ‪ .‬لم يتوقف بعدها عن الكالم لنصف ساعة كاملة راح ينبش فى صندوق ذكرياته وتوقف عند‬
‫تواريخ عديدة كلها تؤكد أن مصر حاليا فى كبوة عارضة لكنها من نوع جديد والحقا ستمر منها ‪ .‬كانت‬
‫محاضرة مؤثرة ختمها نوح نيابة عنه ‪ :‬الخواجة نسى يقول حاجة مهمة أنه لو فكر يرجع اليونان مش‬
‫حيالقى هناك بواب أسمه نوح ‪ .‬قابل القفشة بضحكة عفوية خرجت مع دفعة سعال أدمعت لها عينيه ‪.‬‬

‫ــ ونسيت كمان حاجة مهمة ياعم نوح مين أصال حيسمحله يرجع اليونان تانى ده أنت روح عمارتنا‬
‫وأتعودنا على وجودك ومانقدرش ننسى القعدة معاك فى الفرندة فى الصيف وإحنا بنسمع منك‬
‫قصة إسكندرية أيام الخواجات ومانقدرش نستغنى عن السمك الطازة بتاعك اللى بتوزعه على سكان‬
‫العمارة وأنت راجع من صيد كل جمعه أنت تقريبا ياخواجه األنسان الوحيد اللى فى الدنيا مايعرفش يزعل‬
‫وال يكره ‪ .‬كانت تلك كلمات يوسف قالها كى يتيح لنفسه فرصة تخفيف ماأقترفه من ذنب قبل أن ينحنى‬
‫برأسه بعد لكزة فى فخذه من كوع عمته فناولها أذنه ليتلقى تعليمات فورية ‪ :‬روح لنعمة فى المطبخ‬
‫قولها تجهز أطباق الجاتوه والحاجة الساقعة ‪ .‬أطاع األمر وأنسحب من الصالون ومر فى طريقه على‬
‫شريف ونورا فرماهما بنظرة ‪ :‬وحدوا ‪ ..‬هو أنتو قاعدين فى عزى وال أيه ‪ .‬قذف بجملته وأتجه للمطبخ ‪.‬‬

‫شعر شريف بالحرج من صمته وأستسالمه ألنطوائه بينما نورا تخالسه بين اللحظة واألخرى النظرات‬
‫الحائرة آملة أن يقلع عن صمته ويكلمها إال أنها كانت البادئة وكأنها عثرت على بداية مالءمة ‪ :‬مافيش حد‬
‫قالك أن دمك تقيل ‪ .‬نظر إليها ليتأكد عما إذا كانت كلماتها تعبر عن غيظ أم مداعبة ‪ ،‬فوجدها تنظرإليه‬
‫بوجه مغتاظ وباسم ‪ .‬فأكملت ‪ :‬ع العموم أنا بحب اللى دمهم تقيل ‪ .‬تفككت الكثير من المعانى التى كانت‬
‫جامدة وسالت خلف بعضها ‪ ..‬ها هو أمامها وهى تطالبه باألعتراف الصريح ‪ :‬أنت لسه زعالن منى وال‬
‫مقاطعنى ؟ هى تعرف أنه ال يستطيع أن يكذب ‪ ،‬وربما هى تحتاج لسماع شعوره ناحيتها بعد تلك القطيعة‬
‫بينما شعر أن الحصار أكبر من قدرته على األنفالت من طغيانها وجبروت لحظة المباغتة غير أنه سدد‬

‫‪188‬‬
‫نظراته فى عينيها وكانت فى حلقه صرخة ألم مكتومة ‪ ،‬جاهد أن يمنعها من اآلنطالق ‪ .‬لكنه أجاب ‪:‬‬
‫متهيألى مش حيفرق معاكى ‪.‬‬

‫ــ من ناحية يفرق فهو يفرق ‪ ..‬لو زعالن قولى السبب ولو مقاطعنى برضه الزم تفهمنى ليه ‪ .‬قالت‬
‫جملتها بأداء مايع ‪.‬‬

‫ــ الحكاية مش محتاجة لف و دوران أنت فاهمة كل حاجة كويس ‪.‬‬

‫ــ أل مش فاهمة ياريت سيادتك تفهمنى ‪ .‬أستعادت جديتها ‪.‬‬

‫ــ الزم تعرفى حضرتك أنى مش مرسى ‪ ..‬بأستغراب ‪ :‬مرسى مين ؟! ‪.‬‬

‫ــ الريس مرسى يعنى أنا مش أستبن وال حأقبل أنى أبقى تحت الطلب واألمر وفى آخر جدولك بعد أخواتك‬
‫وشغلك ‪ ..‬مش أنا يانورا اللى يبقى تحصيل حاصل فى حياتك ‪ .‬قال جملته األخيرة بمرارة وكبرياء ‪ ،‬وما أن‬
‫قالها حتى غمس نظرته فى عينيها يلتمس تأثير كلماته ‪ ..‬كبت لسانها دعابة نطقت بشائرها فى عينيها‬
‫وجاهدت رغم األبتسامة أن تكون جادة فى كالمها ‪ :‬يعنى أفهم من كالمك أنى أنا عامالك أستبن وتحت‬
‫الطلب وكمان موجود عندى فى آخر الجدول ده أيه الهنا واألملة اللى أنا فيها دى ‪ .‬يأخذ نفسا يعبر به عن‬
‫ضيقه وكان أكثر مباشرة ‪ :‬بطلى األسلوب ده وماتحاوليش تقللى من اللى أنا فاهمه ومتأكد منه وبطلى‬
‫طريقتك دى وخليكى صريحة مع نفسك ‪ ..‬ثم مال بجسده وقرب عينيه من وجهها ‪ :‬تقدرى تقوليلى سبب‬
‫واحد مقنع يخليكى تشتغلى كل يوم أكتر من أتناشر ساعة فى األتيليه من غير يوم أجازة واحد كنت فى‬
‫األول بأعذرك وأقول لنفسى هى بتحاول تثبت وجودها وتكسب ثقة زيزيت لكن دلوقتى وبعد مابقيتى كل‬
‫حاجة فى األتيليه وبقالك زباين ومحالت كبيرة بتطلب شغلك باألسم يعنى بقيتى ناجحة بكل المقاييس ‪..‬‬
‫فاضلك أيه تانى عايزة توصليله ‪ ..‬أهدى بقى شوية وخدى نفسك !! هدأت نبرته وسكنت حدته وحل‬
‫مكانهما دهشة وأستغراب بينما هى تنصت له فى وجوم وتهز ساقها المعلقة على األخرى بحركة ال أرادية‪.‬‬
‫فأستطرد ‪ :‬واللى محيرنى أكتر ومش ال قيى له تفسير عالقتك الغريبة بأخواتك واللى مصرة تعامليهم على‬
‫أنهم لسه أطفال وقصر والزم يفضلوا تحت وصايتك وسيطرتك وشاغلة بالك بيهم زيادة عن اللزوم وقاعدة‬
‫لهم على الواحدة وعلى طول قلقانة ومتوترة بسبب ومن غير سبب ‪ .‬رجع بظهره للوراء ‪ :‬تقدرى تقوليلى‬
‫أنا فين بقى من كل ده ‪ .‬أجاوبك أنا يانورا ؟ سكت للحظات ثم عاد ‪ :‬البرنامج اليومى بتاعك كومبليت‬
‫ياأنسة واللى زيى مش حيالقيله مكان فيه ‪ .‬توقع منها غضبا منكرا ‪ ،‬لكنها تنهدت وهى تطرق ‪ .‬ثم قالت فى‬
‫‪189‬‬
‫هدوء ‪ :‬مع أنى معترضة على كل اللى قلته ‪ ..‬بجد أنا مصدومة من تفكيرك ده ‪ .‬أنزلت رجلها المعلقة‬
‫وتزحزحت لألمام ‪ :‬تفتكر ياشريف كل الساعات اللى بقضيها فى األتيليه بأبقى عاملة أزاى ؟ يعنى مثال‬
‫حاطة رجل على رجل وعاملة فيها مديرة وتحت أيدى تالت أربعة ‪ ..‬أنت بالذات أكتر واحد جه زارنى فى‬
‫األتيليه عمرك شفتنى قاعدة فاضية وال بشرب شاى وال حتى بأستريح ‪ ..‬أنا بأتعب وبأشقى فى كل دقيقة‬
‫عشان الشغل بالنسبة لى شيىء مصيرى يعنى حياة أو موت ‪ ..‬أنا ياأستاذ جربت كل األيام السودة اللى‬
‫ممكن تتخيلها أنا وأخواتى وماكانش معانا حد غير ربنا ال عندنا بابا وال كان فى ماما ‪ .‬تحجرت عينيها‬
‫وأحتدمت مالمحها ‪ :‬وكمان معنديش أخ فى أمريكا حيبعتلى كل شهر مساعدة تكفينى أنا وأخواتى‬
‫وتريحنى من التعب ده وتشيل عنى مصاريف أخواتى وعمتى وطلبات البيت ‪ .‬نظر اليها طويال ‪ ..‬أدرك‬
‫ماكانت ترمى إليه‪ .‬تابعت ‪ :‬ومين اللى قالك أنى وصية على عمتى وأخواتى ‪ ..‬أل ياأستاذ أنا أكتر من كده‬
‫بكتير أنا هنا مسئولة عنهم ‪ ..‬أنا أمهم وأختهم وصاحبتهم وكل حاجة لهم فى الدنيا ‪ ..‬أنا اللى ربيت‬
‫وعلمت وكبرت دول مسئوليتى أنا لوحدى ‪ .‬قالت جملتها األخيرة بأداء عصبى وبدت كالنمرة المفترسة ‪.‬‬
‫بينما تريث شريف لحظة ألختيار ألفاظه ويجعل النية الحسنة فيها واضحة ‪ :‬اللى قلتيه يانورا أنافاهمه‬
‫كويس ومقدره وكمان عشته معاكى لحظة بلحظة بس أنا كمان محتاجلك عايز نورا بتاعة زمان ‪ ..‬وياريت‬
‫توزعى مسئولياتك بالعدل بين شغلك وأخواتك وخليى جزء صغير عشانى ‪ .‬ثم أردف مبتسما ‪ :‬وآهو الحمد‬
‫للـه مامتك خرجت بالسالمة وحتشيل عنك شوية ‪ .‬رفعت ذقنها ألعلى وكأنما تذكره بما غاب عنه ‪ :‬ماما‬
‫تشيل عنى ‪ ..‬ده أنت طيب أوى ‪ ..‬رجوع ماما البيت مالوش غير معنى واحد عندى أن المسئولية اللى فى‬
‫رقبتى حتزيد واحدة ‪ ..‬واضح أنك ناسى أن ماما ال بتشتغل والحيلتها حاجة ‪ .‬تنهد بينما السؤال يولد على‬
‫لسانه وسرعان ماتحولت المطاردة التى قامت بها أسئلته المتكررة التى يوجهها إلى رغبة فى محاصرتها ‪:‬‬
‫من كده أنك حتفضلى على نفس الحال ده تخرجى الصبح وترجعى أخر النهار هلكانة وتعبانة‬ ‫يعنى أفهم‬
‫ع النوم على طول ‪ .‬أبتسامة مرهقة ‪ :‬ماتقلقش ياشريف أوعدك أنى حأحاول أظبط األمور وكمان ياسيدى‬
‫حأحطك فى مكان كويس فى الجدول عشان ماتزعلشى ‪ .‬أخيرا وجدت األبتسامة طريقها إلى وجهه بينما‬
‫ظل والده يرمقه من حين ألخر بنظرة خاطفة من زاويته يطمأن من مالمحه عن سير األمور قبل أن يتوجه‬
‫مباشرة بكالمه لهدى مستغال جو الجلسة التى تحولت الى ثنائيات هامسة بينما الحالة الغنائية للمشهد‬
‫أصبحت أكثر ألهاما عندماأطلت " أليسا" بصوتها المتسلل من غرفة يوسف بأغنيتها الملتهبة " أجمل‬
‫أحساس فى الكون أنك تعشق بجنون وأدى حالى معاك " ‪ :‬الحقيقة يامدام هدى أحنا كلنا فرحانين برجوعك‬
‫وأن شاء اللـه األيام اللى جاية تعوضك عن كل اللى فات ‪ .‬أرتبكت وقد لعثمها وده وطريقته فى الحديث ‪:‬‬

‫‪190‬‬
‫شكرا ياأستاذ خيرى والحمد للـه على كل شيىء وبصراحة أنا مش القيه كالم أشكرك بيه على تعبك‬
‫ووقوفك جنب والدى ‪.‬‬

‫ــ ماتقوليش الكالم ده والدك همه والدى وأنا متأكد أنى لو كنت مكانك أكيد حتعملى اللى أنا عملته ‪.‬‬
‫أبتسمت لكالمه وظهرت ألول مرة غمازتان فى سفوح خديها ‪ :‬بعد الشر عليك ‪ .‬تطلع اليها مبهورا وكلما‬
‫نظر إليها خلسة شعر بشيىء ينمو داخله لصالحها وخاف أن تفلت منه كلمة تكشف عن حالته ‪ .‬غير أنه‬
‫قال ‪ :‬سبحان اللـه الدنيا دى عجيبة أوى ‪.‬‬

‫ــ أزاى يعنى ‪ .‬كلل العرق جبينه لشدة أرتباكه ‪ :‬مش عارف ‪ ..‬لكن هيه كده دايما فى كل األحوال بتبقى‬
‫عجيبة‪ .‬أبتسامة رقيقة ونظرة عميقة ‪ :‬من ناحية عجيبة فهى عجيبة وغريبة وماتقدرش تعرف أيه‬
‫المفاجأت اللى ناوية عليها ‪.‬‬

‫ــ مظبوط ومتهيألى أنك خالص أخدتى دورك فى مفاجأتها الحزينة مش فاضل غير أنك تأخدى حقك منها‬
‫فى أيام جايه حلوة مع أنى مقدر التجربة الصعبة اللى عشتيها و السنين اللى راحت من عمرك ‪ .‬لم تعقب‬
‫مطلقا على تلك الجملة ‪ .‬كانت عاقدة العزم إال تقول شيئا عن فترة سجنها ‪ ..‬سرها معها هى فقط ملكا‬
‫خالصا لها ‪ ،‬لن يشاركها أحد ولن تشارك أحد حتى أنها دارت عن نفسها ماتعمدت أخفاءه من تلك‬
‫" التجربة " ظاللها وأبعادها وشخوصها وبترت منها أجزاء كما يفعل الجراح مع مريضه ‪ .‬هربت من‬
‫عينيه تتابع حديث نوح المتكىء إلى ظهر المنضدة فى تبلد وأسترخاء وهو يجيب عن سؤال للخواجة الذى‬
‫تالشى شعوره بما حوله وتركز وعيه فى طرح السؤال ‪ :‬مش وضع البلد دلوقتى يانوح بيفكرك باأليام اللى‬
‫بعد نكسة ‪ 67‬؟ سحب نفسا بعمق حكمته وأعتدل فى جلسته قبل أن ينحنى بجبهته لألمام كمن يحاول‬
‫تلخيص بعض األمور ‪ :‬هيه مش بالظبط ياخواجة أياميها الصدمة والهيجان بعد النكسة كان لهم سبب‬
‫مفهوم والشعب كله كان عايز حاجة واحدة ‪ ..‬ياخد التار ‪ ،‬أما دلوقتى فالليلة ماشية شيش بيش واللى‬
‫صوته عالى أكتر بيتسمعله وماحدش بقى عارف مين الثورجى من البلطجى مين اللى عايز يخدم البلد‬
‫ومين اللى بيدور على خرابها ‪ .‬أضاف موجها كالمه لهدى المنتبهة ‪ :‬واللـه ياست هدى بعد حكاية الثورة‬
‫دى أحنا شفنا فوضى ماكانتش على البال وال النية ‪ .‬حرك رأسه ببطء وبدا مأزوما وكأنه يروى كابوسا ‪،‬‬
‫فلن تغيب عن ذاكرته ما مرت به العمارة وسكانها فى بدايات ثورة يناير حين كان األنفالت األمنى والكر‬
‫والفر فى ذروته خاصة وأن موقعها قريب جدا من جبهة الحرب لقربها من مسجد القائد أبراهيم قلب الثورة‬
‫السكندرية فى حينها ‪ ..‬بدت العمارة الضخمة خرساء ال تنطق ‪ ،‬السكان جميعهم يعتصمون فى أعماق‬
‫‪191‬‬
‫غرفهم خشية من هجوم مباغت من مجموعات البلطجية القادمة من أطراف المدينة تغزو األحياء الراقية ‪.‬‬
‫كان سرده موحيا ومنظما وال يزال قوى الذاكرة جيد البدن الينم عن شيخوخته سوى تجاعيد الوجه والبقع‬
‫البنية الداكنة على ظاهر اليدين ‪ .‬أرادت هدى التعقيب ‪ :‬سمعنا كتير ياعم نوح عن حكاية األنفالت دى وأحنا‬
‫فى" السج‪ ..‬ن " قطعت الكلمة قبل أن تخرج منها كاملة ‪ .‬راجعت نفسها وعدلت " الصياغة " ‪ :‬فعال البلد‬
‫شافت أيام صعبة أوى ‪ .‬أستثمر خيرى الحديث عن العمارة وتطرق كعادته فى األسترسال عن أعطال‬
‫المصعد المتكررة وحتمية تغيير بعض مواسير الصرف ‪ .‬قال بنبرة يحث فيها المستمعين عن قيمة العمارة‬
‫وطرازها وكيفية الحفاظ عليها مع نبذة تاريخية عن الطراز المعمارى األيطالى ‪ ،‬كما طالت عدوى‬
‫األسترجاع ذاكرة زيزيت وتوقفت عند أقوال ألمها الراحلة عن مدى تعلقها الشديد بالبناية ثم أسهبت فى‬
‫ذكر محاسنها وتضحياتها حتى كلل الحزن عموم وجهها فبادرت هدى بألهاء صديقتها بعيدا عن سيرة‬
‫الموتى خوفا من أن تجرها الى كآبة الماضى وتسترجع مأساة أنفصالها عن زوجها ‪ :‬واللـه ياجماعة أنا‬
‫متفاءلة أوى واأليام اللى جاية البلد حتقف على رجليها ‪ ..‬ده أنا حتى لسه سامعة مرسى أمبارح بيقول أن‬
‫فى مشاريع كتيرة حتتعمل فى البلد ‪ .‬عند نهاية جملتها دبت الحياة فجأة فى التمثال عندما أعتدلت أيات بعد‬
‫أن ظلت طوال الجلسة فى وضع األستماع فتحفزت وتزعمت موقفا يشاركها فيه كل من زيزيت والخواجة‬
‫كرم تقودهم الرغبة فى تحقير الحاضر ‪ .‬فقالت فى تأفف ‪ :‬فى حد يصدق أن مصر اللى حكمها محمد على‬
‫ومن بعده أمراء وسالطين وملوك ‪ ..‬مصر اللى علمت الدنيا يعنى أيه دولة ‪ ..‬يعنى أيه حضارة ييجى عليها‬
‫اليوم اللى يحكمها شوية أرهابيين عاشوا حياتهم كلها تحت األرض ‪ ..‬معقول حد يصدق اللى بيحصل ده ‪..‬‬
‫بالبساطة دى مصر الكبيرة تتخطف كده قدام عنينه وأحنا قاعدين نتفرج الحول لنا وال قوة !! ‪ .‬هنا تخلى‬
‫خيرى عن هدوءه فكان حاسما ‪ :‬مستحيل ده يحصل ياأيات هانم وماتقلقيش ‪ ..‬الناس فى بلدنا قولى عنهم‬
‫زى ماأنت عايزة ‪ ..‬قولى جهلة مش فاهمين أو مضحوك عليهم وال حتى مكبرين دماغهم كل ده مقبول ‪..‬‬
‫لكن مستحيل حد يقدر يخليهم يغيروا طبعهم وال شكلهم وال بساطتهم وال أى حاجة فى حياتهم وخدى الكالم‬
‫ده على مسئوليتى ‪ .‬أستحسنت كلماته وعجلت بواجب الضيافة ‪ ..‬لعبت هدى وبسمة دور الجرسون ‪..‬‬
‫قطعتان من الجاتوه مشفوعتان بعلبة " كنز " كانت من نصيب كل ضيف بينما ظل الحديث بين نورا‬
‫وشريف يتدرج ببطء إلى أن عادت المياه لمجاريها وتجسدت الحميمية بينهما حين ألتهم شريف قطعتى‬
‫الجاتوه من خالل " شوكة " فى يد نورا ‪ .‬دقائق ونهض الجميع دفعة واحدة وكأنه أتفاق مسبق يتقدمهم‬
‫الخواجة كرم متكئا على ذراع نوح ‪ :‬أحنا أزعجناكم النهاردة يامدام هدى ‪.‬‬

‫‪192‬‬
‫ــ ماتقولش كده ياخواجة ده أنتم نورتونى وجميلك مش حأقدر أنساه أبدا ‪ .‬أنحشر يوسف مقاطعا ‪:‬‬
‫الخواجة دلوقتى نسانا ياماما و مافكرش حتى ياخدنى معاه الجمعة اللى فاتت وأنا شايفه بعينى دول من‬
‫الشباك شايل عدته ومعاه عم نوح رايحين يصطادوا ‪.‬‬

‫ــ خلص أمتحاناتك ياباشمهندس ولك عندى رحلة صيد محترمة وحأجهزلك ماكينة صيد حديثة هدية منى‬
‫لك ‪ .‬ضحك نوح حتى ظهرت بقايا أسنانه ‪ :‬أنت بتصدق الكالم ده ياخواجة ‪ ..‬يوسف بيقول كلمتين فض‬
‫مجالس‬

‫ــ المية تكدب الغطاس ‪ .‬قالها يوسف وهو يكمل معهما المسيرة حتى باب الشقة بينما تقابلت زيزيت مع‬
‫هدى فى منتصف الصالة وسارت معها خطوتين ثم أنتحت بها جانبا كمن عثرت على فكرة كانت فى طى‬
‫النسيان طفت فجأة إلى سطح ذهنها ‪ :‬الحمد للـه ياهدى دلوقتى والدك كبروا وكل واحد فيهم بقى عارف‬
‫مستقبله كويس مش فاضل غيرك أنتى ‪.‬‬

‫ــ تقصدى أيه يازيزيت ‪.‬‬

‫ــ يعنى أنتى كمان الزم تفكرى وتحددى مستقبلك ‪ ..‬مش معقول ياهدى تطلعى من حبسة تدخلى فى حبسة‬
‫وتبقى زى أيات ‪ .‬لمحت نورا أثناء وقوفها مع شريف بجوار كنبة األنترية الحوار الجانبى ‪ .‬فقالت دون أن‬
‫تنظر له ‪ :‬أستنانى دقيقة واحدة ‪ .‬وصلت إليهما مع بداية جملة على لسان زيزيت ‪ :‬وبصراحة كده أنا‬
‫محتاجاكى معايا فى األتيليه ‪ ..‬الشغل كتير والحمد للـه ‪ .‬كلماتها زرعت المفاجأة والدهشة فى مالمحها ‪:‬‬
‫محتاجانى أنا يازيزيت ‪.‬‬

‫ــ أيوه ياهدى أنتى لسه صغيرة والزم تشتغلى وتعيشى حياتك وال أيه يانورا ؟ ‪ .‬أحتدمت مالمح نورا بشكل‬
‫مفاجىء ‪ .‬أربكها العرض فأضطربت وقلقت ثم صمتت لحظة قبل أن تجيب ‪ :‬سابق ألوانه الكالم ده يامدام‪.‬‬
‫أرادت أن تتماشى مع رأى أبنتها خشية الصدام ‪ :‬نورا عندها حق ‪ ..‬سابق ألوانه الكالم ده يازيزيت ‪..‬‬
‫أنهت جملتها مع وصولها عند باب الشقة ‪ :‬ع العموم فكرى وأنا لى قعدة تانية معاكى ‪ .‬ثم طبعت قبلة على‬
‫خدها وفعلت الشيىء نفسه مع نورا وأنصرفت ثم عادت هدى بخطى مسرعة بأتجاه خيرى الواقف عند‬
‫عتبة الصالون يتبادل األراء مع يوسف وبسمة حول جدوى جبهة األنقاذ فى معارضة حكم األخوان ‪،‬‬
‫توجهت إليه دون أن تفارقها أبتسامتها وكأن األبتسامة جزء من لغتها ‪ ،‬تقدمها خيرى تتبعه هدى بأتجاه‬
‫باب الشقة قبل أن يتوقف ويلتفت اليها ‪ :‬حمد للـه على السالمة أنتى نورتى الدنيا كلها ‪ .‬أرتخت جفونها ‪:‬‬
‫‪193‬‬
‫كتر خيرك ‪ .‬مشى تالت خطوات حتى وصل عند عتبة الباب فصافحت يده يدها ‪ ..‬هربت منه الكلمات حين‬
‫نظر إليها فلمحت فى عينيه نظرة من يود األنفراد بها ثم ضغط على يدها وتجاوزها بعد أن شعر بشيىء‬
‫ماأستقر داخله ‪ ،‬فى حين الزال شريف حبيسا فى مكانه ينظر لنورا ‪ :‬ومن هنا ورايح مش حأضغط عليكى‬
‫تانى بس حأستنى منك تليفون الصبح قبل ماأروح الشغل ‪ .‬هزت رأسها وودعته بأبتسامة مع كلمة أشتاق‬
‫إليها ‪ :‬بحبك ‪ .‬قالها ثم تسلمته هدى وشيعته حتى الباب و صافحته وهمست له ‪ :‬نورا بتحبك ياشريف خلى‬
‫بالك عليها وحاول تعذرها وتقدر ظروفها ‪ .‬أبتسم ‪ :‬حاضر ياطنط ‪ .‬أوصدت الباب خلفه ببطء وهى تكتم فى‬
‫نفسها أحساسا لم تفهم مكوناته بعد ‪ ،‬ولم تجد ألرتباكها خالصا غير أن تتجه ناحية الصالون لتنضم إلى‬
‫جلسة تزعمتها بسمة ترصد وتقيم مادار فى الحفلة ‪ .‬خلعت هدى حذائها ‪ :‬ياه ده أنا رجليه أتكسرت من‬
‫كعب الجزمة ‪ .‬لوحت لها بسمة ‪ :‬تعالى جنبى هنا يانجمة ‪ ..‬ده أنتى كسرتى الدنيا النهاردة ‪.‬‬

‫ــ ماتبطلى بقى نفخ فى لحسن واللـه حأخد قلم فى نفسى ‪ .‬قالتها حين جلست بجوارها ‪.‬‬

‫ــ الصراحة ياماما أنتى كنت فورة النهاردة ‪ .‬قال يوسف ‪.‬‬

‫ــ ماشى يايوسف مقبولة منك ‪ .‬ثم مرت بعينيها ناحية نورا المحنطة فى مكانها ‪ .‬أردفت ‪ :‬مالك يانورا اليوم‬
‫ماكانش عاجبك وال أيه ‪ .‬سحبت نفسا هادئا وأظهرت أبتسامة فاترة ‪ :‬بالعكس ده كان يوم جميل جدا وآهو‬
‫على األقل حسينا بتغيير ‪ .‬رمتها بسمة بنظرة ركنية ماكرة ‪ :‬تغيير بس ‪ ..‬ده كان يوم زى العسل وأحلى ما‬
‫فيه قعدة األنسجام مع شريف فى الركن البعيد الهادى ‪ ..‬كنتو شبه جوز العصافير ‪ .‬قاطعتها هدى بضحكة ‪:‬‬
‫عصافير أيه يابنت ! واصلت بسمة تقييمها الساخر يقابله حرج بالغ فى مالمح نورا ‪ :‬مش قصدى عصافير‬
‫أوى ‪ ..‬حاجة كده بتفكرنى باألستاذ كمال الشناوى مع الست نور الهدى لما كانوا فى أخر الفيلم وهى بتأكله‬
‫حتة الجاتوه ‪ ..‬ياسالم على الرومانسية ‪.‬‬

‫ــ واللـه أنتى رايقة وفايقة ‪ .‬رددت جملتها وقامت ببطء قبل أن تصدر تنويها ‪ :‬أنا داخله أنام عشان عندى‬
‫شغل كتير بكره وأنت يايوسف كفاية عليك كده وقوم شوف وراك أيه ‪ .‬وقبل أن يأتى دورها بادرت بسمة ‪:‬‬
‫عارفة وأنا كمان شرحه أدينى قايمة ‪ .‬بينما أشاحت هدى بنظراتها تتفحص الصالون والصالة ‪ :‬وأنا كمان‬
‫حأقوم أظبط البيت شوية بس أغير هدومى األول ‪ .‬توجه يوسف إلى غرفته مرورا بالصالة التى خفتت‬
‫أضاءتها على يد نعمة وأكتفت بالكشافات المخفية المنبعثة من األركان ‪ :‬اللـه ينور يانعمة ‪ .‬فى حين‬
‫أقتربت بسمة من عمتها التى لم تفارق كرسيها منذ ساعتين ‪ :‬وأنت أيه حكايتك ياأيات ‪ ..‬بنات األصول‬

‫‪194‬‬
‫مايسهروش برة أوضهم لغاية دلوقتى ‪ ..‬ياله قومى معايا ‪ .‬أتكأت بيدها على مسند الكرسى ولم تخف‬
‫ضحكتها ‪ :‬ماشى يامجرمة ‪.‬‬

‫حين عادا العازبان إلى الشقة تبادل خيرى وأبنه حديثا هادئا تحت أضاءة شمعدان فى الصالة دام عشر‬
‫دقائق تجادال فى بعض األراء حول الزيارة إال أنهما أتفقا وبشدة على رأى واحد أو جزه شريف بأستغراب ‪:‬‬
‫مستحيل حد يصدق أن طنط هدى كانت فى السجن وكمان أم لتالتة‪ .‬حاول خيرى أن يتجاهل الحديث عنها‬
‫كى ال تفضحه كلمة أو عبارة إال أن شريف أختارت عينيه أيقاعا ساهما حين توجه له والده مستفسرا ‪:‬‬
‫كنت شايفك أنت ونورا قاعدين فى ملكوت تانى ومابطلتوش كالم ‪.‬‬

‫ــ كنا بنتكلم فى كل حاجة يابابا ‪ .‬قالها بال تعبير ‪.‬‬

‫ــ يعنى أفهم من كده أن األمور بقت تمام‬

‫ــ بصراحة أنا لما بأتكلم معاها وبأسمعها بعقلى بأعذرها وبأراجع نفسى وبيجينى أحساس أنى أنانى‬
‫وصغير أوى ‪ .‬لكن ‪ ..‬أعتدل ولم يمهله ‪ :‬من غير لكن ‪ ..‬نورا بتحبك وعايزاك وأنا فهمتك قبل كده وقلتلك‬
‫حاول تقدر ظروفها وخليك جنبها وماتحاولش تستفزها وبطل تحطها تحت ضغط األختبارات الصعبة ‪ .‬ثم‬
‫علت نبرته نسبيا وهو ينظر فى عينيه محذرا ‪ :‬وخلى بالك كل ماحتخنقها وحتضغط عليها حتكون أنت اللى‬
‫خسران ‪ .‬مال بجبهته وبدا صوته مهموما ‪ :‬عندك حق يابابا حأحاول ماأضغطش عليها تانى ومش‬
‫حأفاتحها بعد كده فى حكاية شغلها وأخواتها ‪.‬‬

‫ــ المفروض أصال ماكنتش فاتحتها فى حاجة زى كده أنت بتخلق مشكلة من غير مشكلة مع أن الحكاية‬
‫بسيطة ومش مستاهلة ‪ ..‬يابنى أخواتها مش حيفضلو جنبها طول العمر وبالنسبة لشغلها الزم تكون‬
‫صريح مع نفسك وتعرف أن نورا دلوقتى بقى لها وضع وكيان وبتكسب كويس جدا أحسن من مدير بنك‬
‫فى وقت ماعدش فيه حد بيكسب حاجة فى البلد وأكيد دى حاجة فى مصلحتك مش ضدك ‪ .‬لم يتبق إالشيىء‬
‫فى عينيه كان أيجابيا ‪ :‬صح ياعم خيرى كالمك حكم ياخسارتك فى البلد دى ‪.‬‬

‫ــ واللـه يابنى دى بقت الخسارة فى كل حاجة ‪ .‬قالها بأبتسامة واهنة ‪.‬‬

‫ــ خسارة أيه بس يابابا ده أنت زى الفل ‪.‬‬

‫‪195‬‬
‫ــ متهيألك ياشريف واضح كده إنى قصرت أوى فى حق نفسى ‪ .‬بدا وكأنه يحاكم نفسه على نمطية أستسلم‬
‫لها منذ سنوات قانعا بتفاصيلها اليومية ‪.‬‬

‫ــ مش فاهمك يابابا ‪.‬‬

‫ــ وال أنا كمان فاهم !! ‪.‬‬

‫ــ مادام أنا مش فاهم وال أنت فاهم يبقى أدخل أنام أحسن وياريت تصحينى بدرى ‪ ..‬تصبح على خير يابابا ‪.‬‬
‫سحب نفسا أخيرا قبل أن يتجه مخدرا لباب غرفته ‪ :‬وأنت من أهله ياحبيبى ‪.‬‬

‫دخل خيرى غرفته بخطوات مسترخية كالمترنح ثم أضاء عتمتها قبل أن يسحب نفسه من داخل جاكيت‬
‫البدلة ورماه على كرسى بجوار الباب ‪ ..‬جلس على حافة السرير يخلع حذاءه ‪ ،‬رفع قدما وشرع بفك‬
‫رباطه‪ ..‬شرد فى فراغ أرضية الغرفة ثم أستلقى على السرير بثيابه ‪ .‬غابت هدى عن مجال الرؤية ‪ ،‬لكنها‬
‫ظلت فى المخيلة تطرق بعنف ذلك الدماغ الذى تصدع ‪ .‬نبرات صوتها التائهة بين الحلق واألنف ‪ ،‬بين‬
‫األنوثة البالغة وتثنى الجسد داخل الثوب األسود ‪ ..‬الساق والشفتان والضحكات مازالت جميعها محفورة‬
‫فى ذاكرته ‪ ،‬ال يمكن له أن ينسى حركة عينيها والبريقها ‪ ،‬ولن يغادره صفاء وجهها ونبرة صوتها الحزين‬
‫فأستقر يقينه على أنها أمرأة مشتهاة وبدت له كأعجوبة هذا الزمن ‪ ..‬لما ال وقد تجاوزت األربعين بثالث أو‬
‫أربع سنوات ولكن جمالها ال يعترف بالزمن وكأن وجهها يتحدى السنين وشبابها الخالد الشاذ يثير دهشته‪.‬‬

‫يغمض عينيه ثم ينحدر ببطء وينحدر كما يحلو له ‪ .‬كان يتوق إلى المرأة التى تحدث فحيحا مربكا يكثف من‬
‫اللحظة ‪ .‬فمنذ وفاة زوجته وهو يختلى بنفسه فى تلك الغرفة التى كانت تشاركه فيها " سميحة هانم "‬
‫وبحكم الضرورة والحاجة دائما ما يستحضرها حين كانت تحته تتكسر وتتأوه وتلهث ‪ ...‬األن وفى تلك‬
‫اللحظة تالشت صورتها فى ذهنه ولحقت بصاحبتها إلى بطن األرض بينما دخلت صورة الجارة الحسناء‬
‫تسكن فى الذاكرة بشعرها الكثيف المنسدل والوجه المرتوى والرقبة المرمرية والصدر األعظم فأمتزجت‬
‫فى أعماقه دغدغة اللحظة المحبطة برعشة الحرمان المكبوتة ‪ ..‬أحس بنشوة لم يبلغها فى السنين‬
‫األخيرة ‪ .‬نظر للسقف يبحث عن أجابة لسؤال برىء تردد داخله ‪ :‬هو أيه اللى حصلك ياخيرى وشقلب‬
‫حالك من ساعة ماشفت هدى ؟! ‪ ..‬لم يجد لديه جوابا مقنعا ‪ .‬لكنه غامر بالقول ‪ :‬أكيد لحظة ضعف‬
‫وحتعدى !‪ ..‬وبدأت األسئلة تتداعى فى رأسه ‪ :‬يمكن حياة الوحدة اللى أنا عايشها هى السبب ؟‪ .‬كان دائما‬
‫أحساسه الغالب أنه من الصعب أن تعود الحياة لضريح مثله ‪ .‬شعر أنه رجل مع أيقاف التنفيذ ‪ ..‬غير أنه‬
‫‪196‬‬
‫أفاق على أسف بداخله عميقا وموجعا ‪ :‬كيف شغلته األحداث وشاغلته الى حد أنه نسى أن الحياة تنطوى‬
‫علي مشاعر حب أستثنائية ال تخطر له ‪ ..‬رفع رأسه واضعا ذراعه تحتها وهو يردد فى نفسه ‪ :‬هو أنت‬
‫حتحاسب نفسك على أيه وال أيه ‪ ..‬جايز تكون خسرت حاجات كتيرة لكن أكيد كسبت حاجات تانية ‪ .‬سحب‬
‫نفسا حائرا ‪ :‬وبعدين ياخيرى ‪ ..‬خنق حواره الداخلى وصمت حين لم يجد رأى يضيفه أمام وضع تتساوى‬
‫فيه الحجج والحيثيات ‪ ،‬فأمسك عن كل قول ‪ .‬حدق بنظرة بانورامية فى كل أرجاء الغرفة ثم قال فى‬
‫محاولة هروب مستعجلة قبل أن يتحامل على نفسه ويعتدل جالسا ‪ :‬أقوم أحسن أعملى فنجان قهوة لما‬
‫أشوف أخرتها ‪ .‬أتخذ قراره كى ال تدهمه األسئلة بعد أن هبت فيه األفكار واألراء والصور بدون ترتيب‬
‫والمنطق ‪.‬‬

‫فى تلك األثناء ‪ ..‬لم تستطع هدى أبدا وعبر سنوات سجنها أن تدفع عن نفسها أحساسها الدائم بأنها‬
‫وحيدة ‪ ..‬أختلت بنفسها فى الصالة ‪ ،‬رفعت رأسها وألقت بها على حاجز كنبة األنتريه تتأمل آخر ليلها بعد‬
‫نهاية يوم أعتبرته تاريخيا ‪ ..‬أسترجعت الشخوص والكلمات والنظرات وجدتها كلها أيجابية وفى صالحها ‪.‬‬
‫أتخذ منها األسترجاع والتقييم ساعة من بعد منتصف الليل ‪ ..‬حاصرها النوم فأمسكت " ريموت "‬
‫التليفزيون تقلب القنوات وتشقلبها فى ملل بعدما أربكها كم القنوات ولم تعد تعرف أولها من أخرها غير‬
‫أنها لمحت على أحد الرفوف أسفل ترابيزة التليفزيون ألبوم الصور القديم ‪ .‬قامت فى تلكأ وسحبته‬
‫من مرقده ثم أنزوت به فى ركن الكنبة ‪ ،‬نفضت عن غالفه الغبار فأمتآلت خياشيمها بروائح غريبة‬
‫تشبه روائح كورنيش األسكندرية ‪ .‬توقفت عينيها فى أستغراب وهى تردد ‪ :‬أزاى نضفت الصالة كلها‬
‫ونسيت أنضف ترابيزة التليفزيون ‪ .‬فتحت غالفه قبل أن تضغط على الريموت فتحول التليفزيون لصورة‬
‫بال صوت ‪ ،‬لعلى مخيلتها تسعفها على أستحضار أشياء كثيرة غابت مع تراكم السنين واألحداث فقفزت من‬
‫طياتها صور شاحبة بألوان باهتة ‪ ..‬صور لم تمسها أصابعها من عصر ماقبل السجن ‪ ،‬بعضها كان قد‬
‫ألتصق ببعضها ‪ ،‬لكنها أستطاعت أن تفصلها واحدة عن واحدة بعناية وتركيز كأنها تتولى عملية جراحية‬
‫لشخص عزيز ‪ .‬وجوه كثيرة تداخلت وأزدحمت شاشة العرض بتلك الوجوه التى مرت ومر زمانها ‪ ..‬وجوه‬
‫لم تعد كما هى األن حتى األماكن تغيرت أو أستبدلت ‪ .‬كم مرة تتقطع مشاهدتها ‪ ..‬كم مرة تتزاحم الصور‬
‫والذكريات ‪ .‬توقفت عيناها وظهرت أبتسامة حين رأت صورة لبسمة وهى ترتدى فستانا ورديا منبسط‬
‫الصدر بال فواصل ونهدين صغيرين كحجم زيتونتين تثيران العاطفة واألشفاق ‪ ..‬الصور تتكرر برتابة مملة‬
‫قبل أن تستقر نظرتها على صورة " نديم " وهو يطوق خصرها بذراعه ثم تلتها صورة أخرى تجمعها معه‬
‫ولم يتقاعس فيها عن ضمها إليه ابان الذكرى السابعة لميالد نورا ‪ ..‬كان دائما فى جميع صورهما يمسك‬
‫‪197‬‬
‫بها وكأنه يخشى أن تضيع منه ‪ .‬أقتحمتها تفاصيل الغرام الذى كان ‪ .‬تنبش فى ألبوم الصور تبحث عن‬
‫سنواتها الضائعة وهى معلقة على أعتاب حياة بين بريق الماضى وخذالن الواقع ‪.‬‬

‫قامت من جلستها بصحبة السكون المنتشر فى كل ركن ثم أنحرفت ناحية غرفة نورا وبسمة قبل أن تتجه‬
‫لغرفتها كما كان دأبها فى الماضى ‪ .‬دخلت بهدوء ووقفت أمامهما تتأملهما وهما نائمتين فى حراسة‬
‫" أباجورة " أضاءتها أقل من شعلة شمعة ثم جلست برفق على حافة السرير من ناحية بسمة ووضعت‬
‫يدها على جبين أبنتها تسوى شعرها الذى تعود أن يقف فوق عينيها بينما شعرت بها بسمة وفتحت‬
‫عينيها وأمسكت بيد أمها وتسربت أبتسامة من بين شفتيها وهى تغالب النعاس حتى أستسلمت له‬
‫واألبتسامة عالقة بشفتيها ‪ .‬بقيت إللى جوارها حتى ثقلت جفونها ثم نهضت برفق قبل أن تلتفت إلى نورا‬
‫تطمئن على نومها ‪ ..‬فكانت ممددة وتحت رأسها وسادة يتمرغ فوقها شعرها الفاحم المتموج وفى حالة‬
‫نوم سريرى كامل ‪ ..‬أقتربت منها على أطراف أصابعها كراقصة باليه ‪ ..‬وقفت لحظة تتأمل تحفتها ‪ ..‬أطالت‬
‫فيها النظر ثم همست بشفتيها ‪ :‬نايمة زى المالك ياحبيبتى ‪ .‬عبارة لم ينقطع لسانها عن ترد يدها سنوات‬
‫عديدة ‪ .‬إال أنها شعرت بحاجة ألن تلتصق بها ‪ ،‬فتمددت بجوارها على هامش السرير ووضعت رأسها على‬
‫نفس الوسادة ‪ ،‬ربما تستطيع أن تسافر معها إلى عالم أحالمها ‪ .‬زحزحت نفسها بهدوء وأصبحت أكثر‬
‫ألتصاقا بها ‪ ..‬طفا على ذاكرتها فجأة وهى فى أقصى حاالت التركيز فى وجه نورا ‪ ،‬عندما كانت الى جوار‬
‫نديم وقد تمددا فى السرير وبعدما تسلل إلى حواسه ريح أنوثتها المنتفض من فتحات قميص نومها األسمر‬
‫فأعتدل بجذعه وأنحنى عليها ‪ ..‬فأبعدته برقة وحدثته بدالل وهى تتحسس بطنها ‪ :‬اللى جاى حتسميه‬
‫أيه ؟‪ .‬ردته بسؤالها عما كان ينوى فعله وشرعا يتبادالن أقتراح األسماء وكانت أرائهما على األسماء‬
‫مابين " بلدى أوى ‪ ..‬قديم ‪ ..‬مش أستيل " وأخيرا لم يجدا مانعا من قبول " نورا " إن كانت بنت أو "‬
‫يوسف " إن كان ولدا ‪ .‬أغمضت عينيها ‪ :‬اللـه يرحمك يانديم ‪ ..‬بنتك كبرت وبقت عروسة زى القمر وبقت‬
‫هى اللى فاتحة البيت وشايلة همنا ‪ .‬وسعت نظرتها لتشمل كل مالمح أبنتها ‪ :‬سامحنى يانديم ‪ ..‬عارفة أن‬
‫ده ماكانش المستقبل اللى كنا بنحلم بيه لنورا ‪ ..‬فاكرة كالمك لما كنت تتحدانى وتقولى شخصية نورا‬
‫وطبعها حيخلوها فى يوم من األيام حاجة كبيرة فى البلد وحتفكر الناس بأسم عيلة السبروتى ‪ .‬بلعت ريقها‬
‫بصعوبة ‪ :‬سامحنى ياحبيبى ماكانش بأيدى ‪ .‬ثم رفعت رأسها ببطء وزحزحت جسدها بحرص قبل أن تطبع‬
‫قبلة على جبينها وقامت دون أدنى صوت وخرجت كما دخلت كالطيف ‪.‬‬

‫‪00000000000‬‬

‫‪198‬‬
‫أنزوى منصور فى ركن قصى من القهوة تصله األضاءة على أستحياء بجوار نافذة تطل على حارة المنجى‬
‫وأمامه جلس صديقه الصعلوك " سليم " الذى صب الشاى فى كوبين قبل أن يضع بين شفتيه سيجارتين‬
‫من طراز كامل الدسم أشعلهما معا وناوله واحدة ‪ :‬خد يامنصور رطب جوفك ‪ ..‬شد وأسحب ده صنف‬
‫أستثنائى وارد مطروح ‪ .‬أندمجا صامتين وراحا يرشفان ويدخنان حتى قال منصور بلكنة بلطجة وهو يتأمل‬
‫سيجارته بين أصبعيه‪ :‬جبت الحشو ده منين ياسليم ؟ ‪.‬‬

‫ــ دول أربع سجاير هدية من الوله حوده اللى شغال فى الصحة ‪ .‬ضاقت عيناه يحاول التذكر ‪ :‬حوده مين‬
‫مش واخد بالى ‪.‬‬

‫ــ الوله حوده أضرابات ‪ ..‬حودة ياأخى اللى ساكن فى حارة عويضة ‪ .‬خبط بكف يده جبهته وقد علقت به‬
‫ابتسامة ‪ :‬أيوه أيوه ‪ ..‬مش ده اللى فى هوجة الثورة لطش عربية األسعاف اللى كان شغال عليها وخباها‬
‫ورا مخزن عبد المولى ‪ .‬يتتبع دخانه مع نظرة أعجاب ‪ .‬مكمال ‪ :‬عيل أبن حرام بصحيح ولما الليله أسودت‬
‫عليه رجعها بعد فيلم خربان وقالهم أنا أتثبت بعد ماشفاها وخالها على األربع عجالت ‪ .‬زفر دخانه ببطء‬
‫وتساءل ‪ :‬وده دخله أيه فى موال الحشيش ‪ .‬أستدعى سليم حكمة على مقاس تفكيره ‪ :‬بلدنا دلوقتى بقت‬
‫على المشاع ياصاحبى وال أنت مش واخد بالك ‪ .‬أرتد للوراء يشغل ظهر الكرسى وعلق ساقا فوق األخرى‬
‫متقمصا دور خبير مستأنفا ما بدأه ‪ :‬الكل دلوقتى يابنى دخل اللعبة والسبأ أبتدى يعنى اللى كان قبل الثورة‬
‫مالوش فى أى حكاية دلوقتى بقى له لعبة وحكاية ‪ .‬يسمعه منصور بملل دون تركيز بينما الزال صديقه‬
‫مندمجا ‪ :‬يعنى فى صنف دخل وفتح صدره فى لعبة المخدرات توزيع وتجارة وفى اللى شق طريقه فى‬
‫حتتين سالح سلكهم من ليبيا بياكل من وراهم الشهد ده غير اللى داس فى حكاية المقاوالت هد وأبنى‬
‫وأقلب فى تالت أربع شهور وال فى حد بيسأل أزاى هد وال أمتى بنى أهتز عمود الدخان المنبعث من أنفه‬
‫مع هزة رأسه ‪ :‬كالمك صح ياسليم وآهو كله بيرزق ‪ .‬قالها وسحب أخر نفس من سيجارة المزاج قبل أن‬
‫يهمس متمنيا ‪ :‬ماتناولنى واحدة تانية ألحم بيها لحسن الدماغ لسة محتاجة ‪ .‬أخرج علبته من جيب قميصه‬
‫المفتوح حتى حدود القفص الصدرى ونفض منها واحدة ‪ :‬وماله ياخويا مش بأقولك ده صنف أستثنائى ‪.‬‬
‫أشعل منصور السيجارة وأغمض عينيه يسحب منها نفسا طويال بينما أستفسر منه سليم وهو يختبر‬
‫بأصابعه جفاف " الجيل " فى فروة رأسه ‪ :‬مالها الدماغ بقى يامنصور ‪ .‬فتح عينيه وأرسل نظرة بائسة‬
‫شملت معظم مساحة المقهى كما شملت مراقبة للطاوالت والزبائن وجمعه ‪ :‬نفسى ياأخى الدنيا ترضى عنى‬
‫واألمور تسلك تبقى معايا وماحدش يبقى كابس على نفسى ‪.‬‬

‫‪199‬‬
‫ــ ما أنا بأقولك يامنصور البلد دلوقتى مليانة لعب والحدق اللى يمسك فى لعبة يسترزق منها ‪.‬‬

‫ــ طب ماتقول لنفسك بدل ماأنت داير تتسكع كده عامل زى بتاع العيال ‪ .‬بنبرة بجاحة ‪ :‬أقله أنا بأعرف‬
‫أرمى جتتى على البشر وبأطلع من ده بجوز جنيهات ومن التانى حتة حشيش ومن واحد زى حاالتك كده‬
‫فنجان قهوة وال واحد شاى وآهى بتقضى برضه ‪ .‬بنظرة ركنية شامتة أكمل كالمه ‪ :‬مش زى ناس قاعدين‬
‫زى خيبتها العارفين يروحوا وال ييجوا بس يافرحتى مش شايل غير أسم وزاعق بيه ‪ ..‬منصورأبن‬
‫المعلمة فايزة اللى عندها وعندها واللى يقلبك ويفتشك يالقى أخرك بريزتين قاعد بيهم زى الذليل ياولداه‬
‫مستنى رضى الست الوالدة ‪ .‬بدت فوضى غضب فى مالمحه ‪ :‬وأنت عايزنى أعمل أيه يعنى ‪ .‬قالها بإيقاع‬
‫مرتفع أستوقفت جمعة لحظة مروره بصينية عليها أتنين شوب زبادى ‪ :‬فى حاجة يامنصور ‪ .‬لم يرد‬
‫وتجاهله بينما قرب سليم رأسه المشتعلة بالجيل وتفحص هيئة صديقه ‪ :‬عايز الصراحة أنت راجل‬
‫نص كم ‪..‬أنا لو مكانك ودى أمى وعزة جالل اللـه كان زمانى مصمصتها ‪ .‬لم يعقب وشرد بعينيه بعيدا‬
‫فأعاده سليم ‪ :‬ده أنت الحيلة ياجدع يعنى أنت عندها أول الزمن وآخره والصح بيقول أن طلباتك تبقى‬
‫أوامر‪ .‬نكس رأسه على صدره وزاره طيف الضعف ‪ :‬حيلة أيه دى أمى مش طايقانى وال بتقبل منى كلمة‬
‫من يوم مافتحت معاها موضوع البت نوسة وكأنى مش أبنها ياجدع ومش شايفة قدامها غير الوله النونو‬
‫اللى سرها كله معاه وبقى عينيها وأيديها ورجليها ‪ .‬أعترضته زفرة حزينة كمن يبحث عن هوية ‪ .‬أردف ‪:‬‬
‫لكن أنا وأبويا بالنسبة لها أيدك منها واألرض مابنشوفش منها غير البهدلة واألهانة فى الداخلة والطالعة‬
‫وبتحاسبنا بالمليم وكأننا شغالين عندها باليومية ‪ .‬لم تفلح كلماته فى تغيير وجهة نظر سليم ‪ :‬كل اللى قلته‬
‫ده مايدخلش ذمتى بربع جنيه مخروم ‪ .‬فى ملل ‪ :‬ليه يادكتور ! ‪.‬‬

‫ــ كالمك كده محسسنى أنى بأسمع موظف فى أرشيف الحول له وال أوة مش ده منصور أبدا اللى أعرفه ده‬
‫أنت من خالصة شباب حارة المنجى ومش كده وبس ده أنت أبن عبده الجن يعنى زمن األجرام والصياعة‬
‫الصح ‪ ..‬أدينى أنت بقى عقلك وفهمنى أزاى أنتو الجوز مش عارفين تلفوا دماغها وتاكلوا عقلها ‪ ..‬زادت‬
‫حماسته وعصبيته ‪ :‬يعنى أبوك ده بجاللة قدره واللى فرحان بطوله وعرضه وشنبه اللى مفرود على‬
‫الجنبين مش قادر يكسر رقبتها ويخليها زى أى مرى فى الحارة آخرها طبخة وكنسة وبالليل تبقى زى‬
‫الجزمجة تستنى نصيبها ‪ .‬نظر له منصور بهدوء مفجع يتأمل مالمح وجهه الثائرة ‪ :‬تصدق وتؤمن باللـه‬
‫ياسليم ‪.‬‬

‫ــ ال اله إال اللـه ياسيدى ‪.‬‬


‫‪200‬‬
‫ــ واللـه أنت عيل أهبل ولو أنا ماأعرفكش كويس كنت قلت أنه يلزمك دهان من ورا بقى عايزنى أنا وأبويا‬
‫نأكل عقل أمى ياأفـا ‪ ..‬بتتكلم وكأنك مش عايش معانا فى كرموز وماسمعتش عن فايزة عبد المقصود وال‬
‫تكونش فاكر أمى دى خريجة معهد السلكى وأتجوزت وقعدت فى البيت ومالهاش شغالنة غير تأطف‬
‫ملوخية وتستنانى بالليل لما أرجع عشان تحمينى وتفلينى وتقولى دعوة وتنيمنى ‪ .‬أتسع صوته وكأنه‬
‫يصرخ ‪ .‬أستطرد ‪ :‬دى المعلمة فايزة ياقفل يعنى التجارة والبيع والشرا يعنى األوة واألستقدار وراس‬
‫براس مع أجدعها شنب دى ملكة التقسيط فى كل عموم كرموز ‪ ..‬يعنى سيادتك ممكن تبدد على بنك‬
‫وتسوق فيها ‪ ..‬لكن على فايزة أل ‪ ....‬هدأت نبرته وأنتشر فيه األحباط ‪ :‬أمى بال فخر خريجة سجون يعنى‬
‫واخدة الخبرة من المنبع ‪ .‬ختم كالمه بنظرة يائسة أطل بها من نافذة المقهى بينما أكتفى سليم بالصمت ‪..‬‬
‫تأمل منصور الحارة من خالل النافذة وكان الليل فى الخارج الزال فى بداياته ويغفو فوق الحارة ويخنق‬
‫جنبات األزقة الضيقة والتى حطم أشقياء الحارة من األشبال مصابيحها الحكومية بينما اللمبات الموفرة‬
‫بنورها األبيض تضيىء مدخل المقهى وتكشف رؤوس الزبائن المتدلية على صدورهم والذين التصقوا‬
‫بمقاعدهم وألتمعت وجوههم وتركوا أقدامهم أمامهم مدالة وكأنهم ذباب أليف قد أطمأن إلى قضاء ليلته فى‬
‫هذا المكان ‪ .‬لم يلفت نظره شيىء فأغمض عينيه وأسند مؤخرة رأسه على سور الكرسى مستسلما فى‬
‫حين أنهمك سليم يعبث بموبايله يراجع قائمة األسماء لعله يجد من بينها أسما يسطو عليه ويعينه على‬
‫علبة سجائر أو شريط " ترامادول " ‪ ..‬سكتا خمس دقائق قبل أن يفتح منصور عينيه متوترا على صوت‬
‫مرتعش مصدره حنجرة سليم ‪ :‬ألحق يامنصور شوف مين اللى داخل ع القهوة ‪ .‬رفع رأسه المسنودة ومط‬
‫رقبته وأرسل نظرة أستطالع لتصطدم بمشهد أرتعشت له ذقنه ثم قام ببطء كعجوز تخطى السبعين ‪ :‬ياليله‬
‫سودة ‪ ..‬هى حصلت لحد كده ! ‪ ..‬بينما رواد المقهى فى تلك اللحظة المتحلقين فى مجموعات صغيرة حول‬
‫الطاوالت ‪ ،‬كلهم من مواقعهم أداروا الرؤوس كمن ينظرون لكتلة نار ملتهبة ‪ ..‬كانت " نوسة " ومن‬
‫البديهى عندما تمشى نوسة وتمر ‪ ،‬تدير أعتى الرؤوس ‪ .‬خطواتها األولى داخل المقهى تثير عاصفة‬
‫تجعلك فى مركز اليقظة واألنتباه‪ ..‬أجتازت أول مجموعة تحت حراسة نظرات مشددة وأفواه مفتوحة ‪،‬‬
‫غيرأنها كانت تتقن تجاهلهم بثبات مدهش بالرغم من أنها تبدو وكأنها تفتشهم واحدا واحدا !!‪ ..‬تتواتر‬
‫تعليقات تالحقها فتزداد تقصعا وأثارة بعدما تعمدت وضع يدها فى جيب بنطلونها الجينز فتبرزتكويرة‬
‫ردفيها ‪ ،‬ومضت متريثة تقرأ الوجوه تشق طريقها ناحية منصور ولم تتوقف إال عند ماعلقت عيناها‬
‫بوجهه وهو مازال يحاول فرد طوله بعد تأثيرالصدمة ثم أنزاح مبتعدا عن كرسيه عشر خطوات حتى ألتقيا‬

‫‪201‬‬
‫بجوار طاولة عم" يونس " وأبن خالته " شفيق " فى ضيافة األسطى " خميس" األستورجى الذى نال‬
‫شرف أقتراب كرسيه من مؤخرة نوسة ‪.‬‬

‫ــ أنت أتجننتى يانوسة والجرى فى دماغك حاجة ؟!‪ .‬قالها بنبرة الملهوف لسماع أجابة جاءته ال ينقصها‬
‫الجرأة والميوعة ‪ :‬أيوه جرى يامنصور ‪ .‬ألقى نظره من فوق كتفها يتفحص الهمس والعيون ‪ :‬فى حد‬
‫عاقل يابت يدخل برجليه قهوة بلدى باللبس ده ‪ .‬مالت بوسطها قبل رأسها ‪ :‬ومين قالك أنى عاقلة ‪ .‬جذبها‬
‫من رسغها ‪ :‬تعالى معايا نطلع من هنا ‪ .‬سحبها أمامه وخرجا من عتبة المقهى ودفعها من الخلف بكفه فى‬
‫رقة حتى أبتعدا عن حرم المقهى عدة أمتار فى ضيافة نظرات جائعة بينما كفه المبسوطة على ظهرها‬
‫يوشك أن تنزلق إلى موقع " الهنش " كان يتحسس اللحم الطرى تحت التيشرت الخفيف ‪ .‬فتقدمت عنه‬
‫خطوة فسقطت اليد المتحسسة لكن بقيت العين المتفحصة فى خلفيتها الطاغية ‪ ،‬فكانت قادرة بجسدها‬
‫الصاعق على جذبه واألحتفاظ به حتى وهى تدير له ظهرها قبل أن تتسع خطواته ويلحق بها حتى لمحت‬
‫ظله يقترب منها حتى حاذاها وزحمت كتفه كتفها فوقفت أمامه عند رأس الحارة وواجهته وكأنها تريد أن‬
‫تقيس نفسها به ‪ .‬فعاجلها بعصبية ‪ :‬هو مافيش أختراع أسمه المحمول مافيش ربع جنيه فى رصيدك يكفى‬
‫رنة ‪ .‬حدقت فيه من خالل الليل وضوء لمبة الشارع وبصوت ال قوة فيه ‪ :‬صوابعى دابت من األتصاالت‬
‫والرنات وسيادتك مكبر دماغك وأخر طناش ‪ ..‬قلت مابدهاش بقى آجى بنفسى المشرحة وأشوف القتيل‬
‫حكايته أيه!‪ ..‬النت نبرته وبدا ظريفا وحريفا ‪ :‬واللى جاى يشوف القتيل مش يلبس أسود ويجيب معاه‬
‫أزازة جلوكوس والمضاد وال أى حاجة يمكن القتيل لسه فيه الروح وييجى منه ‪ .‬لم تبخل عليه بنظرة من‬
‫أعلى ألسفل مع أبتسامة ضيقة ‪ :‬مش باين ‪ ..‬أنا شايفة قدامى جثة متلجة ‪.‬‬

‫ــ كده برضه يانوسة دى أخرتها ‪.‬‬

‫ــ أنت ماخلتش فيها أول وال أخر يامنصور ‪ ..‬كم مرة وعدتنى حتخلص كل حاجة أول ماأمك تخرج من‬
‫السجن وآخر مرة عندنا فى البيت قلتلى بعضمة لسانك اللى عايز قطعه الزيارة اللى جاية حتكون أمى فى‬
‫أيدى وآهو لغاية دلوقتى الشفت أمك فى أيدك وال فى ‪ ..‬مالوش الزمة ‪ .‬قالت جملتها بمرارة ‪ ..‬أشعل‬
‫سيجارة ثم نوه عن سخطه ‪ :‬أمى صعبة أوى يانوسة ودماغها زى فردة الجزمة ومش عارف أوصل معاها‬
‫لحل ‪ .‬فكان أول خاطر أحتل ذهنها ‪ :‬معناه أيه الكالم ده يامنصور ؟ ‪.‬‬

‫ــ من غير رغى والكالم كتيرأنا شاريكى يابت وعايزك النهاردة قبل بكرة بس الحكاية كلها مربوطة فى أيد‬
‫أمى ومافيش حل قدامى غير أنى أفضل وراها واحدة واحدة وباللين وبراحة حتيجى معايا سكة ‪ .‬قال‬
‫‪202‬‬
‫منصور كلماته بغير أقتناع ‪ ،‬كان مدركا فى قرارة نفسه أن الوصول لحل يرضيه مع أمه أمرا مستحيال ‪،‬‬
‫ألنه أعتداء على مناطق نفوذها ‪ ،‬والتى تحتفظ لنفسها بحق أتخاذ القرار منفردة بناء على أعتبارات‬
‫تفهمها هى وال يهم فيها رأى آخر ‪ ،‬هى التى تقرر وتختار وهى التى تدفع وهى التى تضع يدها فى يد‬
‫الرجال ‪ .‬وأنكمش السؤال فى أعماقها مهزوما ثم ضاع فى دوامة قلقها ومخاوفها ‪ ،‬إال انها تماسكت‬
‫وأطلقت تهديدا ‪ :‬يبقى خالص يامنصور وكفاية لحد كده ‪ .‬نظر إليها بال كلمة ‪ .‬فتابعت ‪ :‬أدور أنا على حالى‬
‫وأنت تروح لحالك وخليك بقى جنب أمك وسيبنى أنا أشوف نصيبى ‪ .‬أنحشر الكالم فى حلقه وخرج منه‬
‫بصعوبة ‪ :‬أيه الهبل اللى بتقوليه ده يانوسة ‪ ..‬فيه حد عاقل يسيب النعمة اللى ربنا بعتها له‪ ..‬ده أنا من‬
‫غيرك يابت يبقى ماليش لزمة فى الحياة ‪ ..‬أقفى جنبى يانوسة وساعدينى ‪.‬‬

‫ــ طب وأنا بأيدى أيه أعمله ‪ ..‬أمى مسودة عشتى يامنصور بسببك كل يوم نأورة ورمى كالم فى الرايحة‬
‫والجاية ده أبن أمه وبيخاف منها وأبقى قابلينى لوخد خطوة لقدام ‪ ..‬بأسمع وأسكت ومش راضية أتكلم‬
‫وأقول فى نفسى ال يابت منصور ده راجل ومش حيتخلى عنى ‪ ..‬لكن اللى أنا شايفاه أن أمى عندها حق فى‬
‫كل كلمة ‪.‬‬

‫ــ أنتى فاهمة غلط يانوسة ‪ ..‬لمحت فيه األنكسار فأختصرت الموقف ‪ :‬الغلط والصح يامنصور أنت تيجى‬
‫دلوقتى معايا ع البيت وتقعد مع أمى وتفهمها الدنيا ماشية أزاى يمكن تالقيلنا حل ‪ .‬تنهد مضطرا ‪ .‬سحب‬
‫نفس أخير من سيجارته ثم ضربها بطرف سبابته ‪ :‬اللى تشوفيه ‪.‬‬

‫مشت بجواره تصحبه للبيت وبدت بجانبه كولية أمره ‪ ..‬خمس دقائق من السير المتعرج داخل حارتين قبل‬
‫أن تطأ أقدامهما حارة أبن شكر ثم أجتازا مدخل البيت صعودا إلى الشقة حتى تصدرت الباب وهو من خلفها‬
‫كظلها قبل أن تلصق به مؤخرتها فى منطقة ماتحت الحزام كى تفسح ليدها ممرا داخل جيب البنطلون‬
‫ألنتشال المفتاح من حشرته ثم أولجته فى الباب وصحبته إلى الداخل وهى تحيط خصره بذراعها قبل أن‬
‫ترفس الباب بكعب قدمها فأحدث أرتجاجا سمعت على أثره صوت أمها ‪ :‬أنت جيتى يانوسة ‪.‬‬

‫ــ أيوه ياما ومعايا منصور ‪ .‬دلف إلى الصالة بينما صوت أقدام بدرية الثقيلة تسمع بوضوح قادمة من‬
‫غرفتها ودخلت عليه بفم ملوى وأنف مرفوع مرتدية مالبس الخروج وسحنة شوهها الماكياج الردىء ‪،‬‬
‫فالحاجبان تجاوز تخطيطهما طولهما الطبيعى وبقعتين بلون الدم المتجلط على الوجنتين بال أنسجام ‪.‬‬
‫نظرت إليه بعين خبيرة فأدركت أنه مسطول ‪ ،‬فتكلفت وهى تصفعه بكلماتها حين أقتربت منه كوحش كاسر‬

‫‪203‬‬
‫حتى حشرته فى ركن الكنبة وأجلسته عليها كما يجلس السلطان ضحيته على الخازوق ‪ :‬أنت أيه حكايتك‬
‫بقى ياسى منصور ‪ ..‬بصراحة كده أنا مش فهمالك راس من رجلين ‪.‬‬

‫أبتل جبينه عرقا ‪ :‬ليه بس ياست بدرية ؟ ‪.‬‬

‫ــ أمك خرجت من السجن وقلنا الحمد للـه األمور حتتصلح والحال حيمشى وآهو فات كام أسبوع وأنت‬
‫يانور عينى أختفيت ال حس وال خبر ‪ .‬خلع على وجهه معالم الجدية ‪ .‬هو دائما يفعل ذلك كلما أكتشف أن‬
‫هناك من يحاصره ويسد عليه منافذ الهروب ‪ :‬وال أختفيت وال حاجة ياست بدرية واللـه العظيم أنا ماساكت‬
‫وكل يوم والتانى عامل حكاية كبيرة مع أمى ومسود أيامها ‪ .‬تشبك أصابعها فوق بطنها الدائرى ‪ :‬وأخرتها‬
‫أيه يامنصور ‪.‬‬

‫راح يسترسل فى أحاديث عائمة مفككة ويتكلم بألفاظ موجزة غير مفهومة ‪ ،‬فأستدعت من بدرية أنقباضة‪:‬‬
‫أنا مش فاهمة حاجة من اللى أنت بتقوله ده ‪ .‬بينما جلست نوسة إلى جواره تلتصق به كقطة تريد أن‬
‫تندس فى حضن صاحبها وهى تتبع تكتيك المياعة والدلع ‪ :‬سيبك من الرغى الكتير يامنصور أمى عايزة‬
‫تشوف حل ‪ .‬ردد مقولة الضعف ‪ :‬دبرينى ياست بدرية أعمل أيه وأنا من أيدك دى أليدك دى ‪ .‬أخذت نفسا‬
‫عميقا متصنعة الحنكة وبدت له وكأنها تبحث عن حل ‪ ،‬لكنها فى حقيقة األمر كانت قد وضعت ترتيبا خاصا‬
‫وخطة بديلة فى حالة أمتناع فايزة عن الموافقة ‪ ..‬اذن حانت اآلن لحظة الحقيقة ‪ ..‬سددت له نظرة ماكرة‬
‫لحقتها بجملة مثلها ‪ :‬اللى أنا شايفاه يامنصور يابنى أن المعلمة فايزة مش سكتها الكالم وال ينفع معاها‬
‫أخد وال رد ‪ .‬بهتت مالمحه ‪ :‬يعنى أيه مش فاهم ‪ .‬وضعت كفها " المتختخ " على كتفه ‪ :‬أمك من الصنف‬
‫اللى الزم تحطه أدام األمر الواقع ‪ .‬تهدجت أنفاسه ‪ :‬قصدك يعنى أخطب نوسة وأعلى مافى خيلها تركبه ‪.‬‬
‫قالها ثم ترنح فى جلسته حين ترجرجت به الكنبة بفعل جلوس أضطرارى منفعل من بدرية ‪ :‬بقولك تحط‬
‫أمك أدام األمر الواقع عشان تلين وتقبل تقوم تقولى خطوبة ‪ ..‬هو أنت يابنى منصور وال مرسى ! نظر‬
‫إليها بغباء ولم يعلق ‪ .‬فأكملت ‪ :‬واألمر الواقع يانور عينى ‪ ..‬تكتب على نوسة ‪ ..‬رفع عينيه إليها ساهما‬
‫يتبين جدية الطرح فى وجهها ‪ .‬فأردفت ‪ :‬هو ده الحل اللى عندى وأنت حر ‪ .‬لم يحتج أنما أنتابته ربكة ‪:‬‬
‫يعنى عايزانى أكتب على نوسة من غير موافقة أمى ‪ .‬مسح عرقه وألتفت ينظر فى عينى نوسة ‪ :‬يعنى أنتى‬
‫شايفة كده يابت ‪ .‬هزت رأسها فى صمت مع أبتسامة ‪ .‬بينما ردد منصور كالمجذوب عدة كلمات قبل أن‬
‫تضعها بدرية فى جملة مفيدة ‪ :‬كتب كتاب ‪ ..‬مأذون ‪..‬‬

‫‪204‬‬
‫ــ أيوه ياروح قلبى حتبقى مراتك على سنة اللـه ورسوله وتبقى حاللك وتحت أمرك وكل وأشبع منها زى‬
‫ما أنت عايز ‪ ..‬الح فى ذهنه تفاصيل مباغتة غير مرتبة ‪ :‬أبقى عريس ونوسة ع السرير بقميص النوم‬
‫العنابى ‪ ..‬أرسلت بدرية نظرة أستقرت فى عينى أبنتها التى فهمت معناها وترجمتها فى الحال فأقتربت منه‬
‫وألتصقت به قبل أن ترفع رأسها فى وجهه وأنفها القصير يالمس ذقنه ‪ ،‬فدبت فى أوصاله شهوة ‪.‬‬
‫وهمست ‪ :‬هو أنت نونو ولسه خايف من ماما ‪ .‬ينتابه أحساس الخائف المذعور‪ :‬مش القصد يانوسة ‪..‬‬
‫بس الزم أفكر صح عشان النتيجة تطلع صح ‪ .‬قامت أمها تحمل أثقالها وهى تتنهد ساخرة ‪ :‬على ماتفكر‬
‫صح ياروح قلبى أجيب طرحة من جوه أحطها على راسى ‪.‬‬

‫ــ هو أنتى أتحجبتى ياست بدرية ‪ .‬مصمصت شفتيها ‪ :‬حنعمل أيه بقى أحنا دلوقتى فى زمن الحالل بين‬
‫والحرام بينى وأدينى بقالى كام ليلة شغالة مع فرقة تواشيح فى ساحة المرسى أبو العباس ‪ ..‬عن أذنك ‪..‬‬
‫ضاق صوتها ‪ :‬سيبك من أمى يامنصور ومن حجابها ‪ ..‬قلت أيه فى اللى أمى قالته ؟!‪ .‬تأمل وجهها الذى‬
‫اليبعد عن عينيه سوى سنتيمترات فى مواجهة غير متكافئة حيث المؤشرات قضت على تردده دون‬
‫مقاومة حين نزل بعينيه يتفحص مابين النهدين من خالل فرجة التيشرت بعد ماتحرر األزرار من عروته ‪..‬‬
‫رمقها للحظة قبل أن تعلو شفتيه أبتسامة ‪ :‬كل اللى أنتى عايزاه يانوسة حأعمله ‪ ..‬أدينى أسبوع واحد‬
‫حأرتب نفسى وحأقولك نعمل أيه ‪ .‬تعبث بأصابعها حول شفتيه ‪ :‬بجد يامنصور ‪ .‬فأحتوى شفتيها بين‬
‫شفتيه يمتص منهما عسال مسكرا ‪ .‬برغم داللها وأستسالمها تملك قدرة مريعة على أن تصنع منه كائنا بال‬
‫أرادة ‪ .‬خلصت شفتيها وباعدت يديه برفق عن صدرها بينما عيناه السوداوان تمتلئان رغبة ولهفة فرأت‬
‫فيهما عينى ذئب يحاصر نعجة فقررت أن تعمل على تهدئته بعد ماتناولت يده ووضعتها بين كفيها ‪ :‬أهدى‬
‫يامنصور شوية أمى جاية علينا ‪ .‬أنهت جملتها تزامنا مع وصول بدرية وقد غطت رأسها بطرحة‬
‫بلون العسل وفاجأته بسؤال مباغت حين رصدت بعينيها بصمات فعلته حول شفتى بنتها ‪ :‬لو عايز نوسة‬
‫فى الحالل يبقى المرة الجاية تيجى وتحدد معايا ميعاد كتب الكتاب ‪ .‬شعر بالحرج ‪ :‬أنا حأقوم أمشى‬
‫ياست بدرية ‪.‬‬

‫ــ أل أستنى خد واجب الضيافة األول وبعد كده مع السالمة ‪ .‬لم تطل الزيارة ‪ ..‬جلس منصور رهن األعتقال‬
‫فى حراسة بدرية ‪ ،‬تجرع فى أخرها كوب شاى ماعت لها نفسه ثم نظر فى ساعته وأصر على األنصراف‬
‫بينما نوسة فى لحظة خروجه " تقرص " أمها فى وسطها وهى تردد بعصبية مكتومة ‪ :‬براحة ياما عليه ‪.‬‬
‫قالتها ثم صحبته إلى خارج الشقة وهى تهمس ‪ :‬على أتفاقنا يامنصور ‪ ..‬كمان أسبوع ‪ ..‬والمرة الجاية‬

‫‪205‬‬
‫حأدوقك حاجة حلوة !‪ .‬قال وهو يعطى الباب ظهره ‪ :‬دوقينى حاجة تانية غير بتاعة النهاردة ‪ .‬طرقعت‬
‫ضحكة وظلت واقفة على رأس السلم وهى تشيعه بأحلى ماتعثر عليه من كلمات حتى أختفى فى ظالم‬
‫السلم ‪ .‬لم تمض سوى دقيقة واحدة على دخولها الشقة إال وكان أهل حارة " أبن شكر " كلهم يستمعون‬
‫إلى صراخ بدرية وأبنتها وهما يتشاجران بأعلى صوت بعدما فاض بأمها أالعيب منصور ومماطلته بينما‬
‫فاض بالبنت الخوف الذى جلجل فى كيانها من ضياع الحبيب ‪.‬‬

‫‪000000000000000‬‬

‫وصل " جمال النونو " لشقة فايزة فى موعده اليومى الثابت مابين التاسعة والعاشرة مساء ‪ ،‬أستقبلته فى‬
‫الصالة المقر الرئيسى لعقد لقاءاتها اليومية مابين حوارية فى الصباح مع سيدات حارة " المنجى " على‬
‫شاكلة " حمدية " زوجة حامد الحالق ونبوية سيدة أعمال تدير طشت جبنة قريش وكروانة مش أضافة‬
‫إلى أم الشحات وهى من القيادات التاريخية للحارة حيث ولد جميع من فى الحارة فى وجودها ‪ ،‬وبعد‬
‫المغرب تستقبل وفودا من تجار كرموز ورموزها المعروفين أمثال الحاج بالل تاجر أجهزة كهربائية وعم‬
‫سالم وميالد والحاج سيد البرقوقى من موردى األقمشة والستائر والمفروشات ‪ ،‬كانت لقاءات ناجحة تمت‬
‫فى أطار تحركات متبادلة الهدف منها جس نبض السوق من ناحيتها وكيفية العودة لممارسة نشاطها‬
‫التجارى فى حين يبحث التجار عن أستعادة وكيل مهم بحجم فايزة ينعش تجارة باتت تلفظ أنفاسها األخيرة‬
‫فى كل عموم كرموز وسط حالة من الفقر المتصاعد بين أناس صدرت لهم شهادة وفاة أقتصادية منذ أندالع‬
‫ثورة يناير ‪ ..‬دلف " النونو" الصالة يتبع خطاها ‪ ،‬ثوان وكانت فى مكانها أمام مائدتها الصغيرة فى‬
‫مواجهة ذلك الكائن صاحب الوجه األرنبى ‪ ،‬وكعادته فور دخوله يقف أمامها منتبها يخلى مافى جيوبه‬
‫ويضعها على المائدة وكأنه " ممسوك تحرى " أمام ضابط بقسم شرطة ‪ .‬نثر حاجياته تحت مراقبة عينيها‬
‫"علبة سجاير ‪ L.M‬وموبايل " نوكيا" من أصل صينى وثمانين جنيه تسلمتها منه حصيلة الوردية األولى‬
‫قبل أن يسلم مفاتيح التاكسى لـ " خضر" قائد الوردية الثانية ‪ ،‬كانت تلك أول فقرة فى برنامجه اليومى قبل‬
‫أن ينتقل الى فقرة التقارير ‪ .‬سحب سيجارة من علبته أشعلها ونظر لها قبل أن ينكمش أمامها فى موقعه‬
‫بحسب تكوينه الجسمانى لما يمتاز به من كتفين ساقطين وقفص صدرى ضئيل للغاية اليكفى لحبس‬
‫عصفورة بينما هى راسخة فى مكانها ككيان يتفاعل بشكل أيجابى مع واقع تسيطر عليه من كافة جوانبه ‪،‬‬
‫فكان واضحا فى جالل جلستها الرأس يتحرك بزهو تحت حجاب أحكمت طرفيه مع حاجبين مرفوعين‬
‫وسحنة متجهمة أضفت عليها هيبة " أبعد عن الشر وغنيله " ‪ ..‬وكأن شيىء لم يكن ‪ ،‬وكأن السجن فى‬

‫‪206‬‬
‫ذاكرتها مجرد رحلة لطيفة لم يترك فيها مايعكر صفوها اللهم إال تذكار تحتفظ به على ظهر يدها على شكل‬
‫بقعة رمادية ناتجة عن صعقة كهربائية نالتها كمكافأة حين قادت تظاهرة للتحرر داخل العنبر خالل ثورة‬
‫يناير ‪ .‬سرد لها النونو" مشاهداته عقب دورية أستطالع قام بها داخل المقهى ‪ ..‬يضعها داخل الحدث بكل‬
‫تفاصيله ‪.‬أستهل روايته منكس الرأس يدعك كفيه ولم يعد فى وجهه من المالمح سوى القلق ‪ :‬مشيت من‬
‫القهوة على الساعة سبعة وكان منصور تحت عينى قاعد مع الوله سليم بيضربوا سيجارتين فى الركن‬
‫جنب الشباك بعدها أستلم خضر مكانى على مارحت عند محمود المحامى أجيب منه وصل األمانة بتاع أم‬
‫عبير زى ماقلتيلى ‪ ..‬خلصت األمر سريع سريع ويادوب فى نزلتى من عنده لقيت خضر بيتصل على‬
‫وبيبلغنى أن البت نوسة جت القهوة أتكلمت مع أبنك منصور وبعد كده خدته فى أيدها ومشت ‪ .‬تبدل لونها‬
‫وكررت خلفه مفردات الجملة بوجه ينفجر دهشة ‪ :‬بتقول دخلت القهوة ‪ ..‬نهار أبوها أسود بنت الوسخة‬
‫هى حصلت لحد كده بنت بدرية تدخل قهوتى وكمان تاخد الوله فى أيدها ‪ .‬أضافت بعد سكتة قصيرة ‪:‬‬
‫وبعدين يامنيل ‪.‬‬

‫ــ الوله خضر أتسحب وراهم لغاية مادخلوا حارة أبن شكر وبعد كده طلع معاها البيت ‪ .‬جحظت عيناها فى‬
‫شرود ‪ ..‬لحظات صمت أتاحت له فرصة للسؤال ‪ :‬ماتفهمينى يامعلمة بتفكرى فى أيه ؟‪ .‬أشعلت سيجارة‬
‫وظلت تنفث غيظها وهى تنظر لصبيها الذى ينتظر ثم قامت تلملم لحمها المكدس داخل العباية السوداء ‪.‬‬
‫لفت لفة فى الصالة بخطوات مضطربة ثم أكتفت بعدها بالوقوف متحفزة تداهمها أفكار وأستنتاجات حتى‬
‫قفز الكالم على شفتيها مجددا ‪ :‬موضوع البت دى كبير أوى ياوله ‪ ..‬حكاية أنها تروح برجليها لغاية‬
‫القهوة وتدخل كده بعين قادرة وتسحب الوله من أيده وتطلع بيه ده مالوش عندى غير معنى واحد مافيش‬
‫غيره ‪ ..‬يتتبع النونو بعينيه دخانها وهو يصعد ويهبط أمام وجهها ‪ .‬مستفهما ‪ :‬وده معناه أيه يامعلمة ‪.‬‬
‫رجعت لكرسيها وجلست بوجه يمتأل بكمية ال بأس بها من الغضب ‪ :‬ده معناه أن الوله منصور بيتهرب‬
‫منها وعايز يخلع وهيه مش عايزة تهمد وبتلف وراه ‪ .‬رفع النونو عينيه للسقف يقلب كالمها فى رأسه ‪:‬‬
‫كالمك معقول برضه عشان لو فى ود وأنسجام كان يبقى فى أتصال يعنى كان يبقى فى ميعاد فى أى حته‬
‫تلمهم غير القهوة ‪ .‬بينما الذت نظرتها بصورة فى أطار عتيق معلقة قرب مدخل الصالة لوالدها الراحل‬
‫وقالت فى غضب للوجه الظاهر فى البرواز ‪ :‬ورحمة أبويا فى نومته ألكون قاطعه خبر بدرية وبنتها من‬
‫حارة أبن شكر كلها والموكوس أبن الموكوس أنا وهو والزمن طويل وحأفضل وراه لغاية مايسترجل‬
‫ويقول حقى برقبتى ‪ .‬ثم نقرت بأصابعها سطح المائدة تستدعى هدوءا يخفف عنها الضغط العصبى مع‬
‫كلمات مواساة على لسان النونو ‪ :‬أهدى يامعلمة دى أمور رفيعة وبسيطة وحلها بعون اللـه فى أيدينا بس‬
‫‪207‬‬
‫صلى على النبى كده وخلينا فى المهم وقوليلى بقى حنبدأ شغل أمتى ‪ .‬نظرلها بحيرة حين لم ترد إال أنه لمح‬
‫أتساع حدقتيها وكأنها تقرأ فكرة الزال خطها باهتا ‪ .‬فأضاف مستدركا ‪ :‬أيه يامعلمة أنتى رحتى لحد فين ‪.‬‬
‫قالت بعد أن هدأت وظل أبتسامة تزحف على زاوية فمها فى لهفة قبل أن تسحب تليفونها المحمول وناولته‬
‫لصبيها واذا بها تقول له فجأة‪ :‬طلع نمرة محمود المحامى وأتصل عليه ‪ .‬وزن كلمتها وهو ينظر فى قائمة‬
‫األسماء ‪ :‬خير يامعلمة ماهو أنا لسه جاى من عنده ‪ .‬لم تجيبه ‪ .‬أجرى األتصال وناولها المحمول قبل‬
‫أن يتخلى عن معرفة التفاصيل ‪ .‬أتاها صوت محمود المحامى مرحبا ‪ ،‬فعاجلته بالرد بعد وصلة ترحيب‬
‫قصيرة ‪ :‬أيصاالت األيجار بتاعة بيت حارة أبن شكر خليها عندك وماتبعتهاش الشهر ده ‪ .‬كان صوته‬
‫مندهشا ‪ :‬مش فاهم تقصدى أيه ؟ طفحت منها ضحكة ذات مغزى ‪ :‬لما أجيلك المكتب وأقعد معاك حأبقى‬
‫أفهمك الحكاية ‪ .‬أنهت المكالمة حين تالعبت أبتسامة خفيفة على شفتى النونو ‪ :‬ده باين عليه حوار‬
‫كبير أوى !‪.‬‬

‫ــ أتقل ياوله لغاية ما الزبادى يخمر ‪ .‬لم يفلح وده فى كشف سرها فزاد ألحاحه ‪ :‬ماتخلينى معاكى من أول‬
‫الخط يامعلمة ونورينى ‪ .‬توجهت له بنظرتها بينما ينتظر منها كلمة أو جملة توضيحية فأهدته أشارة من‬
‫يدها تعنى " حان الرحيل " ‪ :‬ياله قوم أتكل على اللـه وكفايه رغى وتطلع من هنا على القهوة عدل تلزق‬
‫فيها ماتقومش عايزة أخبار الوله منصور وأبوه بالتفصيل واألهم من كده الزم تعرفلى منصور راح مع‬
‫البت نوسة ليه عندهم فى البيت وخلى عينك فى وسط راسك وماتغفلش عن األفعى الكبير ‪ ،‬هو ده أس‬
‫الفساد لحسن اليومين دول الفار بيلعب فى عبى من ناحيته ومش مطمنة له ‪ .‬سبب قلقها المشروع من‬
‫عبده حين كانت تشعر به فى أحيان كثيرة ينسحب من جوارها قرب الفجر إلى ركن الكنبة فى الطرقة‬
‫المضاءة بذلك النور النحيل ‪ ،‬فكانت تتلصص عليه وتراه يلطم فخذيه وتسمعه يحادث نفسه عن أمور لم‬
‫تعد محتملة وعن عيشة سودة يحياها وبات يخفى أكثر مما يفصح رافعا شعار ‪ :‬الصبر يارب ‪ .‬يكرره مرارا‬
‫فى جلسته منفردا حتى يجف ريقه ويتخدر لسانه ثم ينام جالسا ‪ .‬أشعلت سيجارة أخرى وألتفت اليها النونو‬
‫قبل أن يتخذ طريقه للخارج ‪ :‬لو فيه أى جديد حأتصل عليكى والحتنامى بدرى يامعلمة ‪ .‬قالها بأبتسامة‬
‫باردة ‪ .‬نفثت دخان سيجارتها ‪ :‬مش بأتخمد قبل ما أراجع يومية القهوة مع جوز الندامة ‪ .‬ثم أشاحت‬
‫بوجهها تحاصرها أفكار وخطط لم تحدد بعد موعد التنفيذها ‪.‬‬

‫بينما فى تلك اللحظة كانت بؤرة المقهى مزدحمة حول مائدة التف حولها مجموعة زباين فى دائرة التصقت‬
‫فيها األكتاف وتداعت عليها الرؤوس ‪ ،‬يشاهدون حدثا نادرا أشرابت له أعناقهم ‪ " ..‬عشرة طاولة " مثيرة‬

‫‪208‬‬
‫للجدل أحد طرفيها عم سالمة المستأسد على مقعده بجسمه النحيل ووجهه الضيق والتى أكلته التجاعيد‬
‫وحفرت خطوطا على جانبى عينيه الضيقة تتحول شقوقا فى حالة الضحك ‪ ،‬حافى الرأس إال ماتيسر عند‬
‫الجانبين خريج معاش منذ ربع قرن من الهيئة السلكية والالسلكية وهو التعريف القديم للشركة المصرية‬
‫لالتصاالت ويمثل عنصر الخبرة فى أحداث " العشرة " أمام منافس شاب من مواليد دفعة التسعينات ‪ ،‬هو‬
‫أشرف خريج دبلوم صنايع بتقدير سمح له بالترقى طالبا بالمعهد الفنى الصناعى لمدة عامين تخرج بعدها‬
‫عاطال قبل أن يلتحق بعدة وظائف قصيرة األجل ‪ .‬أستهلها كفرد أمن بقميص سماوى وكاب كحلى وحبل‬
‫ذهبى مشدود من الكتف األيمن حتى أخر جنبه األيسر فى مدخل عمارة بمنطقة سيدى جابر قبل أن يتقدم‬
‫بأستقالة مسببة عقب مشادة خفيفة مع البواب كسرت فيها سنته وأحتفظ لنفسه بخط اليزال مقيما تحت‬
‫أنفه طوله ست غرز ثم تقلد بعدها مجموعة وظائف على نفس الشاكلة حتى أنتهى به المطاف عامل نظافة‬
‫بفندق " البارون " فى شرم الشيخ قبل أن تنقطع عنها أقدام الزبائن بعد ثورة يناير المجيدة فرحل مع‬
‫الراحلين حتى أستقر أخيرا فى مقهى " عبده الجن " زبون دائم كامل التفرغ فأحترف الطاولة وأثبت جدارة‬
‫وتألقا وكسب أحترام المترددين ولقب بالحصان األسود وهو ما أضفى أهمية على تلك المباراة ‪.‬‬

‫بينما " عبده " فى تلك األثناء كامن فى موقعه متجاهال قيمة الحدث إال من نظرة واهنة يرسلها كل حين‬
‫عند أرتفاع أيقاع " الهيجان" مع لقطة يخطفها بفتور من مشهد فى مسلسل تركى تذيعه قناة " دريم "‬
‫تظهر فيه حزمة من النساء يحضرن حفلة فى حديقة قصر بفساتين سواريه بدت فيها مساحة اللحم أكثر‬
‫من مساحة القماش ‪ .‬بدا مكتئبا واجما ‪ .‬لم يكن تعيسا وحسب ‪ ،‬تعبير التعاسة اليوفر أطمئنانا فى مثل حالته‬
‫وال يشفى عليال وال محبطا وال مقهورا ‪ ،‬قهر يجرحه يقطعه ويبعثره بل كان ذلك كله معا ‪ ،‬ومجتمعا ‪.‬‬
‫وصل قهره حالة األنفجار وأحس بعجز فاجع أمام أستقواء فايزة وجبروتها وشعر بنفسه ضعيفا ومهانا‬
‫ومنتهكا ‪ .‬لم يشأ تعايره بالضعف وراح يقنع نفسه بمسكنات األلفاظ ‪ :‬أكيد دى غمة وبكره ربنا يعدلها من‬
‫عنده ‪ .‬بينما حالته النفسية كانت تمثل مادة خصبة على ألسنة المترددين على القهوة من المقعدين بأمراض‬
‫الشيخوخة ومصابى المعاش المبكر وعواطلية حارة المنجى ‪ .‬طال به الصمت قبل أن يغمض عينيه هربا‬
‫من صور بدت له رتيبة ومملة يتابع عبر الظالم ملحمة صوتية غير منسجمة ‪ ،‬فرقعة " أوشاط " الطاولة‬
‫ينزل مدويا فى حيز خانته مع حماس جماهيرى متصاعد يتخللها نداءات مجتهدة على لسان جمعة لعامل‬
‫" النصبة " البليد ‪ :‬فنجان قهوة بن تقيل زى دمك سكر خفيف زى عقلك معاهم واحد شاى أحمر زى ‪!...‬‬
‫نبرته فى النداء كانت أشبه بأستغاثات وسط أدعية مشايخ ومقاطع من سور قرأنية ونغمات شعبية مع‬
‫موسيقى غربى كلها كانت خليط من رنات موبايالت تدافعت إلى رأسه دفعة واحدة مع صراخ أشرف‬
‫‪209‬‬
‫وضحكات النسوان التركى بدبلجة لبنانى " مايصة " فتوقف بذهنه عند " المياصة " اللبنانى يستدعى‬
‫ليالى طرية باتت فى ذمة التاريخ ‪ .‬فتمتم‪ :‬اللـه يرحم أيام المزاج ويمسيكى بالخير ياجودت ‪ .‬قالها وتنهد‬
‫قبل أن يستقل آلة الزمن راجعا لمشهد نوفمبر ‪ 2011‬حين تعرف على" جودت" الجئة سورية عن طريق‬
‫" نعمة بهنس" التى رفعت شعارها فى وجه " عبده " حين هم بها " أسترنى بورقه ياعبده " فكانت أول‬
‫" عرفية " فى حياته النسائية كما سهلت له قضاء أسبوعا مع " جودت " بشقة قانون جديد بالعصافرة‬
‫قبلى أدرك بعدها وألول مرة فائدة أن ينتمى المصرى لمحيطة العربى ‪ .‬فتح " عبده" عينيه والحال كماهو‬
‫الحال لم يلحظ تغييرا فأرسل نظرة بال تعبير قبل أن يبدأ أشتباكا مع ذاته فى حوار أستهله بسؤال ‪ :‬وأخرتها‬
‫أيه ياعبده حتفضل قاعد متحنط كده وال حتسترجل وتخلى عندك دم وتشوف صرفة مع الولية دى ‪ .‬لم يجب‬
‫وأستدرك وهو الزال فى وضعية األشتباك مع حوار فات أوانه ‪ :‬أزاى الوليه دى أتمكنت منى وخلتنى فى‬
‫أيدها زى األرنب وملبشة جتتى وكاتمة على نفسى ‪ ..‬صحيح مرى زى القدر مافيش منها مهرب بتحاسبنى‬
‫بالمليم والقرش وتراجع ورايا الكلمة واللفتة ‪ .‬زفرة متعبة بطعم األستسالم ‪ :‬ولية جتتها منحسة ال زمن‬
‫هدها وال سجن أدبها ‪ .‬ثم بدت فى لكنته رنة ساخرة ‪ :‬أخس عليك ياعبده راجل من دون الرجالة ‪ .‬ختم‬
‫جملته وأدلى برأسه على صدره فلمحه الحاج تاج حين أجتاز عتبة المقهى فأطال النظر فى وجهه فقرأ فى‬
‫مالمحه وجوما وبؤسا فتحرك إليه متحاشيا دائرة الصخب وألتقط كرسى خالى وسحبه خلفه ‪.‬‬

‫ــ ماتوحد اللـه ياعبده ‪ .‬رفع عينه فى ملل ليجد أمامه الحاج بجلبابه األبيض الفضفاض وجلس على‬
‫الكرسى إلى جواره وكأن عبده لم يشعر بوجوده إال مع كلماته ‪ :‬ال إله إال اللـه ‪..‬أهال ياحاج تاج ‪.‬‬

‫ــ مالك فى أيه شايل الدنيا كلها على دماغك ليه ‪.‬‬

‫ــ مخنوق وأرفان مش واخد على عيشة الحصار دى ال عارف أروح وال أجى وال فى قعدة مزاج والحتى‬
‫عارف أصرف قرش وال أى حاجة ‪ .‬ظهرت أبتسامته الطيبة ‪ :‬هيه لسه مزنقة عليك ‪ .‬قبل أن يفجر قنبلة‬
‫الهم أشار بيديه مناديا ‪ :‬هات أتنين شاى هنا ياجمعة فيهم واحد للحاج تاج ‪ ..‬كلمة مزنقة ماعدتش تكفى‬
‫اللى زى حاالتى‪ ..‬أنا مش القى نفسى ياحاج ‪ ..‬أنا بأموت بالبطيىء ‪ .‬أنتشله من كآبته حين خرج عليه‬
‫بلسان ناصح ‪ :‬ياعبده أنت أبن بلد وراجل مفتح وحكايتك مع فايزة مش حتستعصى عليك ‪ ..‬أبدأ معاها‬
‫ياأخى من جديد وأديها األمان وأطوى الصفحة القديمة وبأذن اللـه مع المعاملة المظبوطة كل حاجة‬
‫حتتغير وأكيد هيه كمان حتتغير ‪ .‬هز رأسه كمن يتلقى عزاء ‪ :‬فايزة تتغير ‪ ..‬واللـه أنت راجل طيب ‪ .‬قالها‬
‫بوجه طافح ثم شرد تائها ولم يرد قبل نداءين ولكزة ‪ :‬الشاى ياعبده ‪ .‬أستلمه وبدا حالما كمشتهى الماء فى‬
‫‪210‬‬
‫الصحراء ‪ :‬ياسالم لو فى أنون فى البلد دى يدى الراجل الحق أنه يبدل الحرمة اللى معاه ‪ ..‬حتى ولو بأى‬
‫حاجة ‪ .‬بنبرة لطيفة مع رشفة شاى ‪ :‬ببنوتة صغيرة يعنى ‪.‬‬

‫ــ ال ياعم بناقصها حريم خالص يبدلوها حتى بلبيسة جزم ‪ .‬أحمرخديه بضحكة بريئة بينما أضاف عبده‬
‫ناقما ‪ :‬أخوان أيه وزفت أيه مش الناس دول ياحاج كانوا مصدعين دماغتنا فى المظاهرات وعايزين‬
‫يروحوا القدس ميتين بالماليين ‪ .‬أرتد للوراء يطرح فكرة ‪ .‬أردف ‪ :‬أنا لو منهم يلموا النسوان اللى‬
‫من عينة فايزة ويبعتوهم على فلسطين أقله يرازوا بيهم اليهود ‪ .‬قابل فكرته بضحكة كالشهقة ‪ :‬فكرة‬
‫تحترم ياعبده ‪.‬‬

‫ــ تصدق وتؤمن باللـه ياحاج أنا لما بأقلق من نومى قرب الفجر وبأشوف خلقتها المكعبلة جنبى على‬
‫المخدة ‪ ..‬بعيد عنك كده بأقوم والمؤاخذة زى اللى شاخخ على روحه وبأسيب األوضة كلها وبأختلى مع‬
‫نفسى على الكنبة اللى فى الطرقة ‪ .‬يلتقط أنفاسه رافعا كفيه ضارعا ذليال ‪ :‬وأقول يارب أرزقنى بعفريت‬
‫يركع قدامى ويقولى شبيك لبيك ‪ ..‬عايز فلوس ‪ ..‬عايز جاه ‪ ..‬عايز صحة ‪ .‬يهتز وهو يخبط على فخذيه ‪:‬‬
‫على الحرام من دينى مش حأطلب منه حاجة غير أنه يخلصنى من الولية اللى جوه !!‪ .‬دخل" جمال النونو"‬
‫المقهى مع نهاية قهقهة الحاج تاج النادرة الحدوث وعيناه مركزتان ناحية عبده بينما قدميه تقوده الى‬
‫طاولة منزوية فى الركن فبادر بصفع مقعد الكرسى الخالى بكف يده متظاهرا بأن عليه غبار فى حين توقف‬
‫عبده عن الكالم وشعر بأن هناك عيون لئيمة تراقبه وتنظر إليه من ركن واحد تتفحصه خلسة ‪،‬لم يجد‬
‫أمامه سوى تكتيك " عبده األهبل " ‪ ،‬فشغل نفسه بـ " سعيد تشكك " الذى ظهر فجأة وأندفع ناحيتهما‬
‫بخطواته القصيرة وحركته النشطة السريعة ‪ ،‬شد كرسيا وجلس ثم طلب ينسون وأستدعى " جنش‬
‫الجزمجى " وخلع نضارته وأزاح عرقا نبت فى جبهته فى مدة ال تتجاوز النصف دقيقة قبل أن يعد لسانه‬
‫لبداية كالم آمال أن يكون مثار جدل أو أحباط ‪ ،‬فذكر خبرين لهما عالقة مباشرة بالبلطجة من بينهما سطو‬
‫مسلح على فرع بنك بمنطقة القبارى والتانى أقتحام مستشفى األميرى وسرقة جهاز أشعة مع اعتداء‬
‫مبرح على األطقم الطبية ‪ ،‬فأستوقفه الحاج تاج مشمئزا ‪ :‬كفاية يا أخى أخبارك السودة دى حرام عليك هو‬
‫أحنا ناقصين ‪.‬‬

‫ــ هو أنا يعنى بأجيب حاجة من عندى مش هو ده حال البلد وهى دى األيام السودة اللى أحنا عايشنها ‪ .‬قام‬
‫من مكانه يلتحف بالهم ‪ :‬أقوم أمشى أحسن ‪ ..‬السالم عليكم ‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫ــ عليكم السالم ياحاج تاج ‪ .‬قالها تشكك بفرحة وكأنه حقق نجاحا ثم سلم قدميه مسترخيا‬
‫لـ " جنش الجزمجى " الذى أحتضنها بين ساقيه رافعا عينيه الكبيرتان ‪ :‬جزمتك ياأستاذ تشكك مش حينفع‬
‫معاها لمعة على طول الزم األول تتاخد سكينة معجون ده وشها كله مشقق ‪ .‬أفتعل أبتسامة خجولة ‪ :‬الجزم‬
‫عندى ماليه البيت بس الجزمة دى بالذات بأحس فيها براحة نفسية ‪ .‬شعر عبده بالضيق ‪ :‬ماتخلص‬
‫ياجنش وطوقها بأى هباب وخلصنا ‪ .‬ثم تابع وجه النونو الذى يشير لجمعه بأصبعيه مصرحا ‪ :‬فنجان قهوة‬
‫بن تقيل سكر تقيل ‪.‬‬

‫ــ مش عوايدك يعنى ياأسطى تطلب قهوة بالليل ‪ .‬قالها جمعه بملل بينما نظر اليه فى كراهية ‪ :‬وأنت لك‬
‫فيه يابارد !‪ ..‬مر الوقت بطيئا دون أحداث مهمة ‪ .‬حتى أنحسرت األقدام وتسربت الوجوه لحال سبيلها ولم‬
‫يتبق إال مطاريد الحارة من المفلسين والشمامين والفارين من واجبات شرعية المنضمين لعداد من يعتبروا‬
‫أن الزواج صداقة وأخوة ال أكثر !‪ ..‬كانت الساعة تجاوزت الواحدة صباحا ‪ .‬أمعن النونو التصنت ‪ ..‬ساعده‬
‫صمت الليل وقلة الزبائن على جالء سمعه فتحولت كل شعرة فى جسمه وكل عصب يشاركه األستماع ‪.‬‬
‫مرت ساعة والنونو يالحق عبده دون جدوى بينما األخير يالحظه من محبسه األنفرادى داخل كرسيه بعد‬
‫أن فارقه " تشكك" من نصف ساعة ‪ ،‬يدرك أنه تحت المراقبة المشددة من صبيها فيخرج عن صمته من‬
‫حين ألخر فيلوح لجمعه الذى يفهم طلبه فيأتيه بالشيشة وحجر المعسل قبل أن يتمتم بالسباب يلعن فيها‬
‫فايزة وصبيها دون أن تتحرك شفتيه وال عينيه من وجه النونو ‪ ،‬إال أنه أصابته لوثة غضب مفاجئة دون‬
‫وعى منه رافضا كل أشكال المراقبة والمالحقة وقام من كرسيه متجها إليه بخطى منفعلة حتى بلغه فى حين‬
‫لم يرفع النونو رأسه إليه مستعمال " الطناش" لكن عندما طال وقوفه أمامه أضطر لرفع رأسه ولمعت‬
‫عيناه وأنفرجت شفتيه األرنبية عن تلك األبتسامة الساخرة التى يفهمها عبده فأنحنى نحوه مستندا بكفيه‬
‫على الطاولة ‪ :‬ماتفهمنى العبارة أيه يانونو بدل حركات أسماعيل ياسين اللى أنت عاملها دى !‪ .‬لم ينطق‬
‫وأشار له بالجلوس وأن أتسعت أبتسامته ‪ :‬أقعد يامعلم عبده وبالش الكالم الكبير ده ‪ .‬هم بالجلوس ‪:‬‬
‫ماتجيب من األخر وقولى عايز تعرف أيه وأنا أريحك ؟‪ .‬مال برأسه وكأنه يطقطق فقرات عنقه ‪ :‬براحة‬
‫على يامعلم عبده لو مش عايزنى أقعد فى القهوة صارحنى وأنا أتكل على اللـه ‪.‬‬

‫ــ مش ده الغرض ياأسطى ‪.‬‬

‫ــ نورنى يامعلمى ‪.‬‬

‫‪212‬‬
‫ــ وماله حأنورك ‪ ..‬آخر الكالم يا أبن الناس أنا متلقح هنا بأشوف أكل عيشى يعنى الباروح شمال واليمين‬
‫ومن ساعة مابأوصل المحروقة دى وأستلم من منصور وأنا الزق فى الكرسى لغاية آخر الليل يبقى لزمته‬
‫أيه شغل المرشدين ده ولزقتك هنا ليل ونهار مش التاكسى كان أولى بالوقت ده بدل ركنته بالساعات قدام‬
‫القهوة ‪.‬‬

‫ــ ماتشغلش بالك أنت بالحكاية دى التاكسى له صحاب يسألوا عنه ‪ .‬صفع عبده الطاولة بكفه وبعدها سمع‬
‫النونو رنة غضب ‪.‬‬

‫ــ صحاب التاكسى تبقى مراتى يعنى اللى يخصها يخصنى ‪ .‬غير أن جمال النونو نصيبه من األدب والذوق‬
‫محدود يفهم نفسية عبده ويطيب له أن يكايده ‪ :‬ماشى يامعلم عبده حأبقى أبلغ المعلمة فايزة بالمعلومة دى ‪.‬‬
‫صدته العبارة وقام صامتا وسار ببطء الى كرسيه ثم ألقى نظرة على ساعته فوجدها الثانية صباحا فنادى‬
‫على جمعه الذى يغالب النعاس والنعاس يغالبه ونظر الى الخارج وحك مقدمة رأسه ‪ :‬أنا ماشى ياجمعه فتح‬
‫عينيك كده وصحصح ‪ .‬قالها وأتجه بحذا طاولة النونو ورماه بنظرة وأخذ يهذى فى غضب وتحامل على‬
‫نفسه وأنصرف متعثرا فى ساقيه الطويلتين ‪.‬‬

‫خرج بكتفين ساقطين محتضنا األرف مصابا باالكتئاب واذا نطق تنهد وسأل اللـه اللطف بعباده ‪ .‬مضى فى‬
‫سيره إلى الحوارى الضيقة المتشابهة فى الصمت والظالم خلف األبواب ‪ ،‬لم يصادف سوى كالب تهز‬
‫ذيولها وتتجه إلى كومة عند المنعطف فسار بجوارها يحمل على كتفيه هموم الدنيا وفى رأسه ألف منشار‬
‫يمزقه ‪ .‬وسأل نفسه وهو ينقل خطواته ‪ :‬يارب لما أرجع البيت أالقيها مخمودة وال مقتولة وأترحم من سين‬
‫وجيم بتاع كل يوم ‪ .‬تعجب من السؤال وهمس لنفسه بصوت مسموع ‪ :‬تعمل اللى تعمله بقى تفتحلى محضر‬
‫تفتحلى رجليها أنا زهقت بقى وطهقت وقسما باللـه لو فتحت بؤها بكلمة حأخلى ليلتها سودة ‪.‬‬

‫ظل يمشى وأفكاره تمشى معه حتى فاجأه البيت فأستعاذ باللـه وقبض على طرف جلبابه وصعد السلم يردد‪:‬‬
‫أسترها ياللى بتستر ‪ .‬دخل الشقة برأس منحنية كمن يتفادى حاجزا ‪ ..‬مر إلى الصالة ببطء يحدق فى الظالم‬
‫وكأنه يأمره باألنقشاع وفى رحلته إلى الداخل مر بغرفة منصور ولمح تحت بابها خط من النور وهى إشارة‬
‫لوجوده بالداخل ‪ ..‬تسلل عبده إلى غرفته تردد فى فتح الباب حين شعر بخطر يترصده فألصق أذنه ينصت‪،‬‬
‫ثم قتحه بهدوء وحذر ودخل بكتفه ثم أبتسم حين وجدها نائمة ‪ :‬الحمد للـه مخمودة ‪ ..‬أضاء لمبة سهارى‬
‫كى تمكنه من تبديل جلبابه فظهر له وجه فايزة فى النور الخافت مخيفا بجبين ضيق وأسنان بارزة ‪ ،‬شعر‬
‫بها تتحرك فوق السرير الذى أحدثت حشيته خشخشة ‪ .‬أحست بوجوده فأنقلبت على ظهرها تثنى أحدى‬
‫‪213‬‬
‫ركبتيها وأنحسر قميص نومها عن ساق بيضاء غليظة ‪ .‬خلع عبده جلبابه وبقى بسرواله الداخلى وفانلة‬
‫نصف كم ووقف أمام المرآة يمسح شعره ويعاين خلقته ‪ ..‬عبر المرآة كانت فايزة خلفه فوق السرير ‪.‬‬
‫رمشت بعينيها ثم شقت جفنيها ببطء ‪ ،‬وفى خفوت مؤتلف مع ضوء الغرفة الرقيق صدر عنها نداء‬
‫خفيف كما لو أنه جاء من العالم األخر ‪ :‬شرفت ياسبع !‪ .‬دون أهتمام ‪ :‬الشغل خدنى فى القهوة وماحستش‬
‫بالوقت ‪ .‬ترتكز بكوعها على الوسادة وتحدق فيه بأهتمام ‪ .‬أبتسم فى المرأة وهو ينظر إليها ‪ .‬رفعت‬
‫حاجبيها ‪ :‬بسم اللـه ماشاء اللـه الراجل مشغول أوى وشايف شغله ع األخر ‪ .‬أستدار ناحيتها ‪ ،‬لكن نظرتها‬
‫وهى تتثائب مع كلماتها الممضوغة كانت تمتحن وجهه بفراسة وقوة وبنبرة مهينة ‪ :‬مش عيب عليك‬
‫ياراجل ياناقص ياعايب يااللى شنبك فى وشك أتنين كيلو ترضى بالمسخرة فى قهوة المعلم عبد المقصود ‪.‬‬
‫تضيق عينيه ويصفر وجهه ويتمهل فى حطواته حتى بلغ حافة السرير ‪ :‬مسخرة أيه ياوليه ؟!‪.‬‬

‫ــ بنت بدرية كومبارس كانت بتعمل أيه فى قهوتى وأزاى تدخل بعين قادرة وتسحب الوله من أيده وتأخده‬
‫معاها ع البيت ‪ .‬بان فى مظهره جد طارىء ‪ :‬وأيه يعنى ماتاخده البيت وال تأخده فى أى حته هو أبنك صغير‬
‫ماتسيبيه يشوفله يومين حد واخد منها حاجة ‪ .‬فتبدلت سحنته وأنتفخ وجهه مع وصول أول كلماتها ‪ :‬ما هو‬
‫طالع نجس زى اللى جابه لو شاف ديل كلبة يريل عليها ال يعرف العيب وال األصول ‪ .‬قذفها برده وهو يلوح‬
‫فى وجهها بيديه ‪ :‬العيب يافايزة لما تخلى الصبى العرة بتاعك يلزقلى ليل ونهار فى القهوة وعاملى‬
‫فيها مخبر ‪.‬‬

‫ــ الصبى بتاعى مش عرة ياعبده ياجن ولوحطيتك فى دماغى وعايزة أراقبك بجد حأعد عليك أنفاسك‬
‫وحأعرف أولك من أخرك وحأطلعلك القديم قبل الجديد ‪ ..‬لم نفسك أحسلك ‪ .‬قالتها ثم هبطت من سريرها‬
‫واقفة بينما أنقلب عبده فى جحره أسدا ‪ ،‬فتجتاحه موجة الغضب المفاجىء وأطلق زئيرا وحشيا ‪ :‬حرام‬
‫عليكى يامفترية عايزة أيه منى ماتسبينى فى حالى ‪ .‬ثم دار حولها يجرب قدرتها على مقاومة الغضب وبدا‬
‫كمن أصابته لوثة إال أنه لم يستطع أن يكمل هياجه حين تصدت له بثورة شتائم ‪ :‬عايزنى أسيبك فى حالك‬
‫ياعرة الرجالة يااللى عايش على أفايا وعامل فيها معلم بعد ماكنت بلطجى عايش على أفا الناس ‪ ..‬أنا اللى‬
‫لبستك ونضفتك وخليتك محسوب على صنف الرجالة ‪ .‬أعطاها ظهره يهرب من شرر نظراتها فسحبته من‬
‫كتفه فأعتدل أمامها ‪ :‬أنا سيباك بمزاجى ‪ ..‬عارف ليه ؟‪ .‬عشان أنت عاجبنى كده وبمزاجى برضه بطلت‬
‫أسأل عن دفاتر الحسابات القديمة وبأقول ماشى كبرى دماغك وفى األخر الحساب يجمع ‪ ..‬لكن ودين النبى‬
‫أن ماأتعدلتش وأتفردت حأخلى كرموز كلها تضحك عليك وأنت عارف فايزة عبد المقصود تقدر تعمل أيه‬

‫‪214‬‬
‫معاك ومع ألف من عينتك ‪ ..‬وضعت كفها على صدغه ‪ :‬وساعتها ياسبع الليل ماتلومش إال نفسك ‪ .‬قالت‬
‫جملتها األخيرة بعين مفتوحة بثبات وعين مواربة بينما ظل عبده مرتجفا فى مكانه يرقبها لعلها تتخلى عن‬
‫سخطها الزائد الذى شوه مالمحها فتراجع خطوتين وعيناه فى األرض ثم تمتم مستسلما ‪ :‬يافايزة أنا جوزك‬
‫وأبو أبنك وحاجتك هى حاجتى واللى يخصك يخصنى ‪ ..‬بس أنتى كبرى دماغك منى وماتقفليش ع الواحدة‬
‫وساعتها حتالقى الدنيا كلها ماشية وحتبقى أنتى مرضية وأنا مرضى ‪ .‬صدرت عنها ـ رغم جدية الموقف ـ‬
‫ضحكة مجلجلة ‪ :‬من أمتى الكالم ده ياسيد المعلمين ‪ ..‬أفتكرت دلوقتى أنك جوزى وأبو أبنى ‪ ..‬أنت طول‬
‫عمرك أنانى وطماع ومش بتحب إال نفسك ياراجل ياناقص ياعديم الضمير ‪.‬‬

‫ــ ماشى ياأم منصور مقبولة منك ‪ .‬نظرت له بتأفف وأرادت أن تختصر المشهد بعد أن ملت من طريقته ‪:‬‬
‫روح أتكل على اللـه نام برة على الكنبة ‪.‬‬

‫ــ ليه يافوز ماتخلينى جنبك الليلة ‪ .‬أشاحت بوجهها وكأنها لم تسمع ‪ ،‬فأستدار وأنصرف بهدوء وصفع‬
‫الباب خلفه بينما هى تتعقبه بالنظرات وجسدها كله ينتفض من الغضب ‪.‬‬

‫الفصل السابع‬

‫الزالت تلك الزيارة تحبسه دائما فى دائرة من الترقب لخطوة قادمة ‪.‬‬

‫بدأ خيرى يتابع هدى من اليوم التالى ‪ ،‬ظهر لها فى أوقات صعودها ونزولها ‪ ،‬حريصا على الصمت‬
‫واألبتسام ‪ ..‬بعد مرور يومين حين بلغت هدى طابقها عقب عودتها من رحلة تسوق ناجحة تحمل أربع‬
‫أكياس بيضاء من الحجم الكبير وكيس أسود يتيم أمتألوا عن أخرهم بخزين يكفى أسبوعا من خضار‬
‫ولحوم ودجاج وتوابل وبعض المخبوزات حسب جدول أقرته مع نورا يتماشى مع ميزانية رصدتها األخيرة‬
‫بعد أجتماع مشترك بأحد زوايا المنزل فى حضور أيات ونعمة قبل أن تعرب فيه عن رفضها المطلق فى أن‬
‫يمدهم " أنور " بأى طلبات تشككا منها فى ذمته وفساد بضاعته وأيضا لتجد لها دورا حركيا خارج حدود‬
‫المنزل ‪ ،‬فوافق الحاضرون مع تعليق باهت على لسان بسمة لحظة مرورها فى وقت تالوة القرار ‪ :‬أنتى‬
‫غاوية تتعبى نفسك ياماما ‪.‬‬

‫لمحت خيرى أمامها عند باب المصعد فأنزاحت لتفسح له مكانا فبادرها بأبتسامة ونظرة طويلة مالبث أن‬
‫أعترضها بوسامته بالرغم من تورد جفنيه نتيجة سهر يطارده من يوم الزيارة ‪.‬أستوقفها بهيئته الفخمة ‪.‬‬

‫‪215‬‬
‫فقال مرحبا ‪ :‬أهال يامدام هدى ‪ ..‬أخبارك أيه ؟‪ .‬ألتقت عيناها بنظراته تكاد تلتهمها وهو مازال بوضعية‬
‫األبتسام فغضت بصرها وأطرقت نحو األرض خجلى وعلى شفتيها تتردد أبتسامة متلكئة ‪ :‬الحمد للـه‬
‫ياأستاذ خيرى ‪ ..‬أخبار شريف أيه ؟ ‪.‬‬

‫ــ آهو الحمد اللـه كويس ‪ ..‬بيكافح ! ‪.‬‬

‫ــ ربنا معاه وقوله مافيش حاجة سهلة وسلملى عليه كتير ‪ .‬تتخطفه جمل وكلمات يحاول األمساك بواحدة‬
‫منها كى تتيح له فرصة فتح حوار ‪ .‬لم يعثر إال على واحدة بحكم الشهامة حين نظر لألكياس التى أنهكت‬
‫معصميها ‪ :‬طب أى مساعدة ‪.‬‬

‫ــ شكرا ‪ ..‬كتر خيرك ‪ .‬تراجع خطوتين يفسح لها طريقا لتمر بحملها ثم أنصرفت أمام عينيه إلى شقتها‬
‫بينما لم يتحرك من مكانه وتابعها بنظراته حتى لمح نعمة توصد الباب خلفها ثم مشى إلى شقته متثاقال‬
‫ويتردد داخله شعور متمرد " أى قيد لعين ذلك الذى قيدنى أمامها غير الخوف والحرص وخشية الصد "‬
‫أخرج سلسلة مفاتيحه من جيبه وأنتابه أحساس بطعم الفشل ‪ ،‬تحسس مفتاح الشقة حتى قبض عليه من‬
‫بين حزمة مفاتيح وأولجه بعنف فى كالون الباب ‪ .‬أستقبله السكون ‪ .‬خلع سترته وألقاها على الكرسى‬
‫وأرسل الباب ألطاره بدفعة من نفذ صبره ‪ .‬دخل غرفته وأعتكف فيها تنهشه الوحدة ‪ ..‬هاهو كل يوم‬
‫يفترض أنه موجود ‪ ،‬ويتأمل جثته المحنطة وينتظر زمن عودة الوعى بينما سؤال ملح يطرق رأسه فى‬
‫عنف ‪ :‬هل سيظل فى الماضى أسيرا ؟ هل يطول األضطراب الذى يعتريه ؟ كان عليه ركوب السؤال ‪ :‬هو‬
‫أيه اللى حصلى بالظبط ؟ أحس أن رأسه ال يتحمل مثل هذه األوهام ‪ ،‬وإن كانت هناك حقيقة مؤكدة‬
‫اآلن ‪ :‬أنها تلك المرأة التى أعادت إليه شيئا مفقودا ‪ .‬أشعل السيجارة ـ سميرة الوحدة ـ عبست مالمح‬
‫الوجه وهو يبتلع الدخان ويطرده فى عصبية قبل أن يرن هاتفه فرفعه ألذنه فى ملل ‪ :‬أيوه يابرسوم ‪..‬‬
‫الحمد للـه كويس ‪ .‬أنصت لسؤال صديقه المتحمس ‪ :‬ميعادنا النهاردة تمانية ونص فى الجريدة ‪ .‬دلك‬
‫فرورة رأسه بعنف ‪ :‬مش حأقدر النهاردة يابرسوم ‪ .‬بلهفة ‪ :‬ليه خير فى حاجة عندك وال أيه ؟ ‪.‬‬

‫ــ لما أشوفك بكره حأقولك ‪ .‬أنهى المكالمة سريعا قبل أن يلح صديقه فى طرح األسئلة فأثر الصمت‬
‫والسكينة وشعر بها تمأل فراغ الحجرة وأصبح وجهها البدرى المنير مازال يمأل عينيه ويسد عليه كل‬
‫طريق ‪ .‬خرج للصالة يتفقدها لعله يجد فيها مايشغله إال أنه فشل فى المهمة وأتجه للمطبخ وفتح الثالجة‬
‫وقرب رأسه بأنحناءة ثم مد يده وسحب طبق به جبن براميلى وحولها زيتون أسود دون رغبة حقيقية‬
‫لألكل وقبل أن يوصد بابها عدل عن رأيه وأعاده مكانه وكأنه أكتفى بالمشاهدة وأستبدله بجرعة ماء ثم‬
‫‪216‬‬
‫عاد للصالة وأنحرف ناحية المرآة ووقف يواجهها يتأمل صورته يتبين بعض التفاصيل ‪ ،‬فرأى وجها‬
‫مرهقا وجسدا عاطال فمط شفتيه ساخرا من نفسه ‪ :‬خليك كده زى ماأنت العجز حياكلك وحتبقى زى خيال‬
‫المآته ‪ .‬أستمر على هذا الحال يدور فى الشقة حتى أنتصف الليل قبل أن يقبع فى غرفته وكأنه يبحث عن‬
‫فرج قريب ‪ ،‬فأتجه ناحية النافذة ‪ ..‬حاول فتح الشيش بهدوء حتى ال يشرخ صمت الليل ‪ .‬دخل هواء جديد‬
‫إلى محيط الغرفة الراكد ‪ .‬تأمل الكون النائم ‪ .‬هذه المدينة التى تغرق فى الفوضى أمست الحس وال حركة ‪..‬‬
‫هدوء مثل صمت الموتى ‪ .‬دق قلبه دقات سريعة مباغتة وهو ينقل بصره الزائغ بين الغرفة والمدينة‬
‫النائمة ‪ ..‬بدا وكأنه ثمآل تدور رأسه بغير شراب ‪.‬‬

‫مساء اليوم التالى ‪ ..‬بداية الشهر‬

‫فور دخول نورا من باب الشقة هرولت إليها " بسمة " مندفعة وفى ذيلها يوسف اللذان كانا فى أنتظارها‬
‫منذ العصر ‪ ،‬حاصراها كأسيرة حرب وأقتاداها إلى الصالة وسط تهليل وهتاف ومديح كأمر معتاد مع بداية‬
‫كل شهر حين تعود من األتيليه غانمة مرتبها ‪ ،‬إال أنها قاومت وأنسلتت منهما مع ضحكات متقطعة ‪:‬‬
‫أصبروا شوية يامفلسين حتاخدوا مصروفكم بس أدونى فرصة أغير هدومى ‪ .‬أرتفع أيقاع الرفض وتحت‬
‫ضغط المحايلة المنغمة تخلت عن فكرتها وعدلت عن قرارها وأكتفت بخلع حذائها بجوار باب الشقة‬
‫ومشت بينهما تتعثر كعروس فى زفة بينما تبادال دغدغة مشاعرها بحلو الكالم دون أنقطاع حتى المائدة‬
‫التى أستقرت على رأسها كزعيمة فى حين توافد عليها باقى المفلسين من نزالء الشقة تباعا ‪ ،‬فخرجت‬
‫أيات من غرفتها ملفوفة بروبها الزهرى وأختارت مكانها على يمين نورا بينما جاءت هدى من المطبخ‬
‫داخل " مريلة " معلقة فى رقبتها ومنسدلة حتى الفخذين وقاية من ماء الحوض الذى أعتاد أن يعبث‬
‫بنهديها وبطنها ‪ ،‬خلصت رقبتها وخلعتها ثم أنزوت بجوار الطرقة تستطلع بدهشة حدثا تاريخيا ال يتكرر‬
‫إال مع بداية كل شهر ‪ ..‬أقتربت ببطء تبحث فى الوجوه الفرحة عن فهم ‪ ،‬فتحركت إليهم وجلست على‬
‫كرسى بين يوسف وبسمة وأحاطتهم بنظرة ‪ :‬خير ياوالد ملمومين ليه كده حوالين نورا‪ .‬لم يتصدى أحد‬
‫للرد سوى بسمة بعد مرور لحظات ودون أن تنظر اليها ‪ :‬كل سنة وأنتى طيبة ياماما النهاردة أول الشهر‬
‫وما أدراك ماأول الشهر ‪ ..‬يوضح يوسف ‪ :‬يعنى الفرج ياحاجة ‪ .‬بينما ترفع نورا ورقة أمام عينيها‬
‫تستعرض فيها بنودا تتعلق بالمصروفات الشهرية وداخل عقلها تدور عملية حسابية بين الجمع والطرح‬
‫وهى تغمغم بصوت اليفهمه أحد ‪ ..‬فى تلك اللحظة وصلت نعمة بسالمة اللـه إلى الصالة قادمة من‬
‫‪217‬‬
‫غرفة أيات تحبو داخل " جالبية " سوداء واسعة حتى أستكانت عند أول كرسى قابلها فى طريقها ‪ .‬جلسة‬
‫مكررة ومعتادة مع كل أول شهر ‪ ..‬نفس التفاصيل بنفس األبطال ولم يتغير فى المشهد سوى وجود األم‬
‫المحررة ‪ ..‬لحظات من اللهفة والترقب خيمت على الوجوه حين دست نورا يمناها داخل حقيبة يدها‬
‫وأخرجت المحفظة المعتادة التى بدت منتفخة وكأن داخلها جنين فى مرحلة التكوين ‪ .‬رفعت عينيها بعد أن‬
‫أنتهت من عد بضع ورقات من فئة المائة جنيه ثم سحبتهم كالساحر و قربتهم إلى وجه يوسف الذى بدا‬
‫متأهبا ‪ :‬أتفضل ياسى يوسف ‪ ..‬فلوس الكورسات ومصروفك ‪ .‬ثم ذيلت جملتها ‪ :‬شد حيلك ياباشمهندس‬
‫عايزين نخلص بقى ‪ .‬قالتها وأستعملت اليد اليسرى فى ألتقاط ثالث ورقات أضافية من نفس الفئة ‪ :‬ودول‬
‫كمان لزوم القعدات الرومانسية بتاعة كل يوم مع البرنسيسة بتاعتك ‪ .‬سكنته أبتسامة عريضة ‪ :‬واللـه‬
‫أنتى مافى زيك فى الدنيا ‪ .‬فى حين كانت بسمة على وشك أن تسقط عينيها من محجريها داخل‬
‫المحفظة تتلصص على يد نورا التى تقطتع المزيد من راتبها ‪ .‬تفرك كفيها أستعدادا لتلقى المعلوم مع‬
‫تنويه رددته ‪ :‬خلى بالك معايا يانورا الشهر ده فى مذكرات محتاجاها ضرورى ده غير كورس محاسبة‬
‫وكمان فيه شنطة شفتها فى كارفور حأتجنن عليها ‪ .‬ترفع حاجبها بأبتسامة مدهوشة ‪ :‬هو أنا مش لسه‬
‫جايبالك الشهر اللى فات طقم كامل شوز وبنطلون وبلوزة ‪.‬‬

‫ــ ماهى الشنطة اللى أنا شفتها هى اللى حتكمل الطقم ‪ ..‬مدت يدها بالمعلوم ‪ :‬فلوسك آهيه وفوقها مية‬
‫جنيه صرفى نفسك بيهم زى ماأنتى عايزة وحسك عينك تطلبى منى حاجة لغاية آخر الشهر ‪ .‬خطفت‬
‫الفلوس من اليد الممدودة ‪ :‬أمرى للـه حآجى على نفسى ‪ .‬بينما صدر صوت خافت دون أن يفقد كبرياءه‬
‫قالت آيات كالم مباشرلم تتوقعه نورا ‪ :‬أنا محتاجة فلوس عشان حفلة عمر خيرت يوم الخميس فى مسرح‬
‫سيد درويش ‪ .‬ضحكة مكتومة أصدرها يوسف دون تعليق ‪ ،‬لكن نورا كانت أجابتها سريعة ‪ :‬حاضر‬
‫ياعمتى ‪ ..‬أدى متين جنيه وأبقى سلميلى على عمر ‪ .‬أستلمت المبلغ بشياكة مع نبرة متحفظة ‪ :‬كويسين ‪.‬‬
‫كانت هدى طوال جلستها تراقب مايدور من خالل لهفة السؤال الصامت ‪ :‬كده برضه يانورا بتوزعى عليهم‬
‫المصروف وماكلفتيش خاطرك تشركينى معاكى حتى ولو من باب المجاملة ‪ .‬تنهدت من أعماق أعماقها‬
‫وأقشعر جسمها وهبت رياح حزينة فى نفسها وخنقتها العبرات ‪ :‬ياه ده أنا بقيت كمالة عدد وماليش لزمة‬
‫خالص ‪ .‬أحست أن األيام نالت منها إلى حد التعجيز وسرحت بفكرها بعيدا حين أيقنت بأن الدور لها وال‬
‫وزن لوجودها ‪ ..‬نورا لن تفهم نفسيتها ‪ ،‬والتريد أن تدرك حجم التمزق الذى يجتاحها أو مرارة الحرمان‬
‫من دور أم بدأ يرحل عنها ‪ .‬لوت نورا رقبتها بأتجاه نعمة مشيرة لها بأبتسامة ‪ :‬تعالى يانعوم خد نصيبك ‪.‬‬
‫نهضت بقوامها الدقيق الطويل الذى ال يخفى الكثير من بنيانها العظمى بينما قصدها يوسف ومشت معه إلى‬
‫‪218‬‬
‫المائدة مترنحة تكاد تنهار على األرض فى كل خطوة إلى أن أصطدمت بكرسى خالى مجاور أليات حتى‬
‫تشبثت به وأستندت بكفها على مسنده وهمت بالجلوس ثم شغلته قبل أن تطلق أهةمديدة كعمرها ‪ :‬معلش‬
‫ياوالد أنا بقيت كهنة ‪ ..‬بادرتها نورا ‪ :‬ده أنتى بركة البيت يانعوم وآدى فلوس الدوا بتاعك ‪ .‬أرتسمت على‬
‫شفتيها اليابستين بسمة أستسالم وأقبلت نورا وناولتها نصيبها التى تسلمته وطوته كمن يخفى شيئا‬
‫محظورا ‪ .‬أخيرا أدركت نورا ماغاب عنها طوال الجلسة ودست أناملها داخل المحفظة وسحبت ورقة‬
‫واحدة بمائة جنيه وأشارت بها ألمها ‪ :‬خدى ياماما ده مصروف أيدك ‪ ..‬مدى أيدك ياماما ؟ فأمسكت يدها ‪.‬‬
‫لم تبسطها ‪ .‬دمعت عيناها ‪ .‬كادت تذوب تأثرا ‪ ..‬وكادت ترفض ‪ ..‬لكنها أكتشفت أنها أضعف من أى رفض‬
‫وتوقفت كلمة " ال " عند منتصفها أوأنها تمددت حتى ال نهاية لها ‪ .‬وقبل أن تستغرق هدى فى شرودها‬
‫ويستولى عليها شعورا بالضعف كان جرس الباب يرسل رنينه على أستحياء فقامت من مكانها ‪ ،‬وجدتها‬
‫فرصة لتنفض عن نفسها أحساسا مترايدا بأن وجودها تحصيل حاصل ‪ .‬فتحت الباب ‪ .‬توقفت تتطلع إلى‬
‫فتاة واقفة مثل التمثال ‪ ،‬لكنها مبتسمة ‪ ،‬ترتدى بنطلون أسود ضيق وتيشرت أحمر قانى وحول عنقها عقد‬
‫ذهبى رقيق وعيناها تكسوهما بريق األبهة وتقبض بيدها على كيس فضى بحروف ذهبية يبدو على مظهره‬
‫الفخامة ‪ .‬بينما وقفت هدى صامتة ترمقها بعينين نفاذتين ثم هزت رأسها وقد صنعت على وجهها أبتسامة‬
‫سريعة قبل أن يأتيها صوت يوسف ‪ :‬مين ياماما ؟‪ ..‬رددت الفتاة بصوت هامس خجول ‪ :‬حمد اللـه على‬
‫السالمة ياطنط ‪ .‬تقلصت األبتسامة وضاقت على شفتى هدى فخرجت نبرتها ممتدة ‪ :‬اللـه يسلمك ‪ .‬تقدم‬
‫يوسف نحو باب الشقة تتبعه بسمة يستطلعان ‪ .‬فتح عينيه على أتساعها واقفا فى مواجهتها ملتجئا الى‬
‫الدهشة وقد أرتعشت الركبتان وبدت قدماه عاجزتان عن الحركة وكأن يد قوية سمرتهما إلى أرضية‬
‫الصالة ‪ ..‬بصوت يكاد ينقطع ‪ :‬هدير ؟!‪ .‬بدت أن الرجفة القاسية التى زلزلت كيانه عند المفاجأة ستبعثه فى‬
‫أنتفاضة متوترة ‪ .‬لكزته هدى فى كتفه ونظراتها فى وجه هدير ال تنقطع ‪ :‬مش تقول لضيفتك تتفضل ‪.‬‬
‫وقف قبالتها بقامته المديدة وكأنه ال يستقبلها وإنما يعترض طريقها بينما قابلت هدير وقفته المرتبكة‬
‫وأحتجازه لها على ذلك النحو الذى يكاد يوصد الباب فى وجهها ‪ .‬بأبتسامة هادئة ‪ .‬فى حين أنحشرت بسمة‬
‫بين يوسف وأمها وهى تعانى نفس الحالة من األرتباك ‪ :‬أهال ياهدير ‪ ..‬وحشتينى ياحبيبتى ‪ ..‬أتفضلى ‪.‬‬
‫وكان عناقا متوترا ثم سارت هدير بعد أن أنهت أجراءات الدخول متجنبة الخوض فى الوجوه المرتبكة‬
‫محشورة بين بسمة وأمها يتقدمهم يوسف بخطوات حذرة كمن يمشى على الحبل ‪ .‬أندهشت نورا لثوان‬
‫حين سمعت أسم " هدير " يتردد على لسان أخيها فأبتلعت المفاجأة وأنضمت لعمتها فى صف المنتظرين‬

‫‪219‬‬
‫عند عتبة الصالون ‪ ،‬فتقدمت نورا خطوتين حين أقتربت هدير ثم سحبتها لصدرها تطبع على وجنتيها‬
‫قبلتين مصحوبة بعبارة ترحيب ‪ :‬أيه المفاجأة الجميلة دى ياهدير ‪.‬‬

‫ــ أنا أسفة أنى جيت من غير ميعاد ‪ .‬تلقفتها أيات بقبلتين وعبارة مماثلة من الترحيب لكن بصيغة قديمة ‪:‬‬
‫أهال وسهال ياهدير ‪ ..‬دى فرصة عظيمة أوى !‪ ..‬لم تنس أيات لقاءها الوحيد بهدير عند بوابة كلية‬
‫الهندسة حين تطوعت لتوصيل يوسف بسيارتها العتيقة فى ذلك اليوم الماطر وكانت هدير داخل سيارتها‬
‫تنتظره ‪ ،‬ولم تتوان فى الخروج إليها لتتعرف على العمة سليلة الباشوات ‪ ،‬وقابلتها أيات بكلمة تفيض‬
‫أحتراما وتقديرا كان لها وقع فى نفس هدير أكثر بكثير من وقع قطرات المطر التى تسقط على رأسها ‪.‬‬
‫جلست هدير على كنبة الصالون وقد أصابها ماأصاب الجميع من أرتباك فيما عدا هدى التى لم تستوعب‬
‫بعد حقيقة هذا التوتر فبدت على طبيعتها حين أستهلت كلماتها بالهمس فى أذن هدير بعد أن أختارت‬
‫األقامة إلى جوارها ‪ :‬أنت أجمل بكتير من اللى يوسف وصفهولى ‪.‬‬

‫ــ مرسى ياطنط ‪ .‬ثم نكست رأسها وأضافت تبرر وجودها بعد أن أدركت من خالل نظرة خاطفة فى وجوه‬
‫الموجودين أنها جاءت فى غير وقتها ‪ :‬أنا أسفه جدا ياجماعة أنى جيت من غير ميعاد بس حبيت أعملها‬
‫مفاجأة ليوسف وبصراحة كان نفسى أتعرف عليكى ياطنط ‪ .‬أستقبل كلماتها وقد تسمرت على مالمحه‬
‫ضحكة بال معنى ‪ :‬هى مفاجأة فعال ياهدير ‪ .‬قاطعت أمه ‪ :‬ال ياحبيبتى ده بيتك وفى أى وقت أهال بيكى‬
‫وبالنسبة لى أنا دى أحلى مفاجأة ‪ .‬قالتها هدى وهى تطيل النظر فى وجهها بينما أكدت نورا ‪ :‬أنا وبسمة‬
‫أخواتك ياهدير وبعدين أحنا أصحاب أوى بس عن طريق التليفون وأنا فرحانة جدا أنى شفتك وأتأكدت‬
‫كمان أنك حلوة زى صوتك وأحلى من الصور اللى على موبايل يوسف ‪.‬‬

‫ــ شكرا على المجاملة دى يانورا ‪ .‬ثم أتجهت بجسدها كله ناحية هدى ومدت هديتها الملفوفة فى أستحياء ‪:‬‬
‫ياريت ياطنط تقبلى منى الهدية البسيطة دى بمناسبة رجوعك بالسالمة ‪ .‬أزدان وجهها بأبتسامة صافية‬
‫وهى تتسلم هديتها وتطبع بعدها قبلة رقيقة على خد الضيفة التى خف أرتباكها كثيرا وأضافت فى نفس‬
‫السياق ‪ :‬يوسف كلمنى كتير عن حضرتك وده السبب اللى خالنى أتجرأ وأجى أتعرف عليكى ‪.‬‬

‫ــ ربنا يخليكى ياحبيبتى ده أنا اللى كان نفسى أشوفك من زمان وأقعد معاكى ودايما يوسف لما كان بيجى‬
‫يزورنى كل شهر كان الزم يحكيلى عنك طول الزيارة ‪ ..‬وبالمناسبة هو مش بيخبى عنى حاجة خالص ‪.‬‬
‫قالتها ضاحكة بينما أرتدت هدير برأسها للخلف وقد ضاقت عينيها وأنكمشت جبهتها وهى تسترجع كلمات‬
‫هدى األخيرة وتردد فى داخلها همسا محتدما ‪ :‬أيه اللى الست دى بتقوله ‪ ..‬زيارة أيه اللى كل شهر‬
‫‪220‬‬
‫بيزورها فيها يوسف ‪ ..‬معقولة !‪ ..‬يوسف حيروح الخليج كل شهر يشوف أمه ويرجع من غير ما أنا‬
‫أعرف ؟ طب أمتى وأزاى ‪ ..‬ده تقريبا كل يوم معايا ؟ ! شاع فى وجهها األضطراب وهى تنقل نظراتها بين‬
‫وجوههم ‪ :‬بيزورك فين ياطنط أرتجفت شفتى يوسف وتلعثمت كلماته وهو يتصدى لعالمات األستفهام‬
‫التى مألت وجهها ‪ :‬ماما قصدها يعنى مكالمات التليفون !! ‪ ..‬قصة الحب التى جمعتها بيوسف منذ أربع‬
‫سنوات مكنتها من فهم نفسيته وهضم طباعه وصار بالنسبة لها كتابا مفتوحا تعرف كيف تكون مالمحه‬
‫عندما يكذب ‪ ،‬وكيف يكون أرتباكه وهو يخفى شيئا وتعلم كيف يكون فى مثل تلك اللحظة وهو يهرب‬
‫بنظراته بعيدا عن عينيها حين ينكشف أمرا ماال يحب أن تعرفه هى ‪ .‬أحست هدير فى نظراتهم بشيىء‬
‫غريب ومريب فى حين أصبحت هى موضع النظر واألهتمام والمحرض على الصمت والتأمل بينما لمحت‬
‫هدى حالة الهلع والخوف فى تقاطيع أبناءها وبدأت تفهم أنها قالت شيئا صادما ‪ ،‬فأرادت فى محاولة يائسة‬
‫كسر تلك الحالة المفاجئة ‪ :‬مش تشوف يايوسف هدير تحب تشرب أيه ؟‪ .‬لم يسألها بل أرتفع ضغطه حين‬
‫ظفر بنظرة غامضة وغريبة من عينها فى حين أختفت نعمة من المشهد حين وجهت لها أيات نداءا ‪ :‬حاجة‬
‫ساقعة بسرعة يانعمة ‪ .‬الحظت هدير حال يوسف فأصابها حرج جر وراءه صمتا مربكا ثم أستجمعت كل‬
‫ماتملك من قدرة كى تلملم نفسها وكى تبدو على أقل قدر من التبعثر واألضطراب ثم تماسكت فى وقفتها ‪:‬‬
‫معلش أعذرونى ياجماعة مش حأقدر أتأخر أكتر من كده ‪ .‬قامت هدى من مكانها تحتويها فى صدرها‬
‫وتقبلها فى كتفها وكأنها تستجديها بأن تمر تلك الزيارة فى ذهنها دون طرح أسئلة ‪ .‬صافحت الجميع‬
‫بأبتسامة جاهدت من أجل أن تكون طبيعية ومضت إلى الباب على وعد بزيارة ثانية ولهثت خلفها نورا‬
‫وبسمة بعبارات وداعية قصيرة بينما صاحبها يوسف الى باب الشقة حتى وقفا فى لحظة مرتجلة مد كل‬
‫منهما يده لألخر مودعا ثم مضتت بعدها وفى أثرها عيونه ترسل النظرات الشاردة ‪ .‬توقفت هدى فى وسط‬
‫الصالة وباب الشقة مازال مفتوحا ويوسف اليزال على عتبته ‪ ،‬وما أن غابت هدير داخل المصعد حتى‬
‫أستبد به الخوف وظل ساكنا ال يتحرك وأستند إلى الباب ‪ .‬كان يشعر بضعف وكانت خطواته ثقيلة وهو‬
‫يتحرك راجعا إلى الصالون حيث جلس الجميع ‪.‬‬

‫تكدس فى الصالون صمت ال تصدع فيه وظلوا جامدين فى أماكنهم كأنهم كتل خرسانية ‪ ،‬بينما هو خر‬
‫جالسا إلى جوار نورا قبل أن يغمض عينيه يعيد سيناريو الزيارة المباغتة وحوارها الصعب فى ذهنه ‪ ،‬وما‬
‫أن أنطفأت فى رأسه األسئلة والنتائج المتوقعة أحس أنه مهجور شعر برعشة تسرى فى جسمه كله وأن‬
‫صوتا يقول له " أنه سيهوى أو يزول " فتح عينيه قليال كانت أمه تتأمله وهى فى مكانها متجمدة وقد‬
‫أستولى صمت كئيب فى المكان ‪ ،‬فتكلمت وهى توزع نظراتها فى وجوههم ‪ :‬ماحدش فيكم فهمنى أى‬
‫‪221‬‬
‫حاجة ‪ ..‬ماحدش قالى أنتو مفهمين الناس أيه عنى ؟! أصغى يوسف دون أن يطرف له جفن بينما أمعنت‬
‫نورا فى تعذيبها بالتحديق فيها وهى تدارى حيرتها باأللتفات وتحريك الرموش وطاوعهايوسف فى خطتها‬
‫التعذيبية دون أن يبدى أى مقاومة ‪ .‬ثم أضافت ذاهلة ‪ :‬بتبصولى كده ليه ‪ ..‬أنا ماغلطش أنا كنت فرحانة‬
‫بوجودها وبأحاول أجاملها وماكانش قصدى يابنى أجرحك بأى كلمة وال أسببلك مشكلة ‪ .‬تجمعت خيوط‬
‫األنفعال فى وجهه ثم أخذت حدته تتصاعد ‪ :‬أنتى جرحتينى أوى ياماما وطلعتينى أدامها كداب وغشاش ‪.‬‬
‫تضع كف يدها على صدرها ‪ :‬أنا يايوسف ‪ .‬أزداد أنفعاله ‪ :‬أيوه أنتى ياماما ‪ ..‬لما تقولى لها يوسف‬
‫بيزورنى كل شهر ‪ ..‬ده معناه أيه ؟‪ ..‬هدير عارفه أنك بتشتغلى فى الخليج من سنين يبقى كالمك ده يتفهم‬
‫أزاى ‪ .‬أختنق صوتها بالدموع وهى تردف كأنما توجه بكلماتها عتابا للدنيا بأسرها ‪ :‬أنا ذنبى أيه ‪..‬‬
‫ماحدش فيكم قالى على حكاية الخليج دى أبدا ‪ ..‬هو ذنبى أنى مش عارفة أتلم عليكم ولوساعة واحدة من‬
‫يوم مارجعت وال ذنبى أنى مش القيه حد يقعد معايا وال حد بيكلمنى وال بيفهمنى أى حاجة ‪ ..‬ده أنا تقريبا‬
‫مش عارفة عنكم حاجة خالص وكأنى واحدة غريبة أو ضيفة قاعدة معاكم يومين تالتة وحتمشى ‪ ..‬سكتت‬
‫برهة قبل أن تتجمع موجة غضب فاضت على لسانها ‪ :‬وال أنتو بتستعروا منى عشان دخلت السجن ‪ ..‬أل‬
‫لغاية هنا والزم كلكم تعرفوا أنى دخلت السجن لما لقيت حقكم بيضيع وفلوسكم بتروح وده مش معناه أنى‬
‫مجرمة وال قتالة قتلة كل اللى حصل كان من غير قصد وغصب عنى وفى لحظة أنفعال دفعت تمنها تسع‬
‫سنين من عمرى كنت بأموت فى اليوم الواحد ألف مرة وأنتو بعاد عنى ‪ ..‬عيشت فى زنزانة متر فى متر‬
‫وصبرت وأتحملت ورضيت بحكم ربنا ‪ .‬هدأ الصوت الغاضب وأكملت فى وهن ‪ :‬مافيش حد منكم حاسس‬
‫باللى جوايا والحد بيشاركنى فى يومى وال بيسألنى مالك لدرجة أنى بقيت مش فاهمة أنتو فرحانين‬
‫لخروجى وال زعالنين ‪ .‬أنهت حكايتها الموجعة ولم تستطع أن تدارى مرارتها ‪ ،‬كان أنينها خافت غير‬
‫مسموع ثم قامت تمسح دموعها وهى تحدث نفسها ‪ :‬بيحاسبونى على ذلة لسان ؟! ثم مشت تشد عضالت‬
‫جسمها ورأسها مرفوع تهزه بقوة كأنما تنفض عن نفسها لحظة ضعف وغادرت متجهةإلى غرفتها مخلفة‬
‫مساحة من الصمت لم يستطع أى منهم قطعها ‪ ..‬عندما أقتربت من باب الغرفة شعرت بدوار حين كسر‬
‫حاجز الصمت فى الصالون ووصلتها همهمة أصواتهم وتسمع لغطهم وسمعت حديث نورا المنفعل ‪ :‬أهدوا‬
‫شوية وخلونا نفكر فى المصيبة اللى حصلت ‪.‬‬

‫ــ أنا رأيى أن يوسف يتصل بيها كمان نص ساعة بحجة أنه بيطمن أنها وصلت البيت وال لسه وبالمرة‬
‫يجس نبضها ويشوف أنطباعها أيه ‪ .‬وجهة نظر أبدتها أيات ‪ .‬أيدتها نورا وأضافت عليها كالما حازما ‪:‬‬
‫وماتحاولش تفتح معاها أى كالم عن ماما ‪ .‬هز رأسه ‪ :‬ربنا يستر ‪.‬‬
‫‪222‬‬
‫بينما هدى كانت على وشك أن تعود إليهم وتصرخ فيهم ‪ :‬حرام عليكم أنا ماغلطش ‪ .‬إال أنها تراجعت‬
‫وأكتفت بدخول غرفتها وأتجهت الى النافذة المفتوحة حين شعرت باالختناق وأسندت رأسها اليها تنظر الى‬
‫السماء وكأنها تتشاغل عن هواجسها لعلها تنسى أوتتناسى ماهى فيه من صدمة ومأساة لدرجة أنها لم‬
‫تشعر بدخول بسمة التى بادرتها من خلفها ‪ :‬ماتزعليش ياماما ‪ ..‬يوسف مايقصدش ‪ .‬أنصتت وهى فى‬
‫مكانها التتحرك والدموع ملء عينيها تحاول أخفاءها عنها ‪ ،‬فأدركت بسمة معاناتها ‪ .‬أردفت ‪ :‬عشان‬
‫خاطرى ياماما ماتضايقيش نفسك دى مشكلة بسيطة وان شاء اللـه حتعدى ‪ .‬ثم نكست رأسها وأضافت فى‬
‫محاولة للتوضيح ‪ :‬الغلطة اللى حصلت دى أحنا مسئولين عنها وكل اللى أنت قلتيه مظبوط كان الزم نقولك‬
‫من أول يوم أنى أنا ويوسف ونورا مفهمين كل اللى حوالينا من صحابنا وزمايلنا أنك كنتى مسافرة فى‬
‫الخليج ‪ .‬تستدير ناحيتها وأثار كلماتها تدوى داخلها ثم حركت رأسها ثانية نحو النافذة وأبتلعت دموعها‪:‬‬
‫فى الخليج ‪ .‬أسندت رأسها بأستسالم ‪ :‬أنتم أدرى بحالكم !‪.‬‬

‫ــ طب عشان خاطرى ياماما تعالى نامى على سريرك وأرتاحى وماتفكريش فى أى حاجة وكله حيعدى‬
‫ياجميل ‪ .‬أعتلت السرير فى بطء تنفيذا لنصيحة أبنتها التى أطفأت أضاءة الغرفة وتركتها مع نور األباجورة‬
‫الخافت ورددت على أسماعها قبل أن تنصرف ‪ :‬تصبحى على خير ياماما ‪ .‬فور خروجها أستغرقت هدى فى‬
‫البكاء وأنكمشت على نفسها داخل السرير ‪ .‬مرت عشر دقائق وكانت طرقات خفيفة على باب الغرفة ‪.‬‬
‫يدخل يوسف ‪ ..‬وجدها نائمة فى النور الخافت ومنكمشة فوقف أمامها ونظرلها من أعلى وطافت نظرته‬
‫بالجسم المنكمش فى أعياء ثم تشبث بالوجه الناطق بالسأم الشاكى كما لوكانت قسمات معذبة ‪ ..‬تنهد وهو‬
‫يستعرض ما بدر منه من غضب وأنفعال فأحس أنه مذنب رغم أنفه ‪ .‬لقد أثرت فى نفسه دموع أمه‬
‫ومنظرها البائس فنطق وجهه بالجملة قبل أن يلفظها لسانه ‪ :‬مسكينة ياماما ‪ .‬قالها وهو يدنو وجهه من‬
‫وجهها الذى تصرخ فيه التعاسة ‪ .‬تحركت جفناها ببطء ‪ .‬فتحتهما قليال ‪ ،‬لتنفلت منهما دموعا كانت‬
‫محتجزة ‪ .‬قال والتأثر يخنق صوته ‪ :‬ماتزعليش منى ياماما واللـه ماكان قصدى أضايقك ‪ .‬ثم جلس على‬
‫طرف السرير ملتصقا يمسك بها من كتفها ‪ :‬ماتناميش وأنتى زعالنة منى ‪ .‬تنظر ألبنها كأنها تلوذ به من‬
‫اليأس ثم بادرت تخفف عنه أن أتهمت نفسها بالتسرع وتطلب منه الصفح فتلقاها بين ذراعيه رافضا أن‬
‫تلوم نفسها ‪ ،‬فأخذت رأسه ودفنت وجهه فى صدرها ‪ ،‬غسلت دموعها شعر رأسه ‪ .‬ثم قام بعد أن ودعها‬
‫بقبلة على جبينها وأنصرف بينما هى أكتفت بعزلتها ‪ .‬كان صعب عليها رغم رصانتها أن تتخلص بسرعة‬
‫من آثار ماحدث ‪ ،‬غير أنها ودون مقدمات ينتابها الحنين إلى القضبان ‪ ،‬ورائحة العنبر والمجارى ‪ ،‬تترامى‬
‫رائحتها عبر الوحدة ‪ ،‬ويستحيل األلم لذة على نحوما ‪ ..‬أنزاحت ولصقت ظهرها بظهر السرير وثنت‬
‫‪223‬‬
‫ذراعيها تحت رأسها ‪ ..‬ثم لم تصبر على هذا الوضع فتمددت حيث هى ‪ ..‬تأملت جسدها الذى يغط فى سبات‬
‫بينما كان الجميع يغط فى نوم سحيق ‪ ،‬أما هى فقد شردت تفكر فى أشياء متفرقة حين حملها ريح األرق‬
‫إلى عالمه وتملكتها اليقظة الملعونة ‪ ،‬فأسترجعت كالم " زيزيت " حين زارتها أول أمس فى األتيليه قبل‬
‫رحلتها الصباحية للسوق حين كررت عليها بالحاح نفس العرض بالعمل معها ‪ ..‬الزال العرض يتوغل فى‬
‫رأسها ويخبط فى جنباتها وظلت مفتحة العينين تدرس العرض بتأنى ‪ ..‬ثم مالبثت أن نامت بعد أن قررت‬
‫أبالغ زيزيت بقبولها الغير مشروط ‪.‬‬

‫فى الصبــاح ‪..‬‬

‫أستقبلتها زيزيت كالعادة فى مكتبها الصغير الذى اليتعدى مساحته المترين فى مثلهما والمطل على قاعة‬
‫أستقبال الزبائن والتى أسهمت هى بنفسها فى وضع تصميمه بحيث جعلت جدرانه من األلوميتال األسود‬
‫بأرتفاع متر عن سطح األرض على أن يكمل الزجاج األبيض " الثلجى " صعوده ألعلى الى ماقبل السقف‬
‫بنصف متر فأتاح لها فرصة الرصد والمراقبة لكل مايدور فى القاعة وتعمدت أن تكون النافذة المطلة على‬
‫البحر فى داخل حدوده فبدت خلفيته كرؤية رسام مجنون حين يظهر البحر من خلفها وهى تجلس على‬
‫مكتبها الصغير وكأنه أعلى من رأسها ‪ .‬تشرب هدى قهوتها بنهم ولهفة سعيا وراء أستفاقة سريعة بعد‬
‫ليلة عصيبة كان النوم فيها ضيفا خفيفا ‪ ..‬بينما زيزيت أمامها ترشف قهوتها ببطء وتتلذذ وكأنها تعاشر‬
‫الفنجان بشفتيها تمتص حافته التى طالها الروج فى حين يقذف هو بقطراته المحوجة من بن‬
‫"سفيانوبولو" إلى داخل الفم المفتوح تاركا بصمته عند زاويتى شفتيها ‪ ..‬أطالت النظر الى وجهها‬
‫متفحصة عالمات السهر حول العينين ‪ .‬فبادرت ‪ :‬يعنى أنتى عايزة تفهمينى ياهدى أنك عشان تقررى تيجى‬
‫معايا هنا فى األتيليه فضلتى طول الليل سهرانه من غير نوم ويبقى وشك عدمان بالمنظر ده ‪ .‬مع رشفة‬
‫أخيرة من فنجان القهوة همست بأبتسامة مبتورة ‪ :‬الحكاية مش كده خالص ‪ .‬زمت شفتيها وحبست الكالم‬
‫حين رن موبايل زيزيت التى ألقت نظرة على شاشته ثم تجاهلت الرد قبل أن تعاود معاينة مالمح صديقتها‬
‫بعد ماأخرست رنينه وحولته صامتا ‪ :‬أحكيلى اللى حصل ؟ سكتت للحظات تابعت منظر البحر عبر النافذة‬
‫المشرعة خلف ظهر زيزيت ‪ :‬أمبارح كان يوم صعب أوى ! ثم أعتصرت قصة األمس فى قالب درامى‬
‫مرتب بدأته بمشهد نورا وهى بتوزع العطايا والهبات وماسببته من ضرر نفسى مرورا باللحظة الدرامية‬
‫المتصاعدة بحضور هدير وحديثها التلقائى معها الذى سبب أزمة وأرتباكا وأفضى إلى نهاية حزينة‬
‫وكاشفة لمدى حجم األزمة التى يعيشها الجميع فأستفاضت فى الوصف بينما زيزيت شغوفة لسردها وهى‬
‫‪224‬‬
‫تتابع كلماتها المحملة بالمخاوف والشكوك ‪ ،‬إال أن نهاية قصتها جاءت سريعة على خالف مابدأته من سرد‬
‫تفصيلى حين وقعت عينيها على نورا الواقفة فى آخر القاعة تتصدر باب الخروج مبتسمة فى وداع زبونة‬
‫من العيار الثقيل تملك سلسلة محالت شهيرة لمالبس المحجبات ‪ ،‬تحدثت معها للحظات قبل أن تتخذ‬
‫طريقها ناحيتهما ‪ ..‬نقرت الباب الزجاجى بأصبعيها ولم تدخل مكتفية بمداعبتهما بأبتسامة وكأنها تداعب‬
‫سمكتان فى حوض زجاجى ‪ ..‬جاوبتها أمها بأبتسامة مع أشارة لطيفة بيدها ثم أنصرفت لحجرة التفصيل‬
‫بالداخل ‪.‬‬

‫وضعت هدى يدها على خدها وبدت مضطربة رغم محاولة زيزيت أضفاء بسمة على وجهها ‪ :‬أنا عايزاكى‬
‫تنسى اللى حصل أمبارح كله وأنسى كل اللى فات وفكرى أزاى ترجعى هدى بتاعة زمان الجامدة الجريئة‬
‫الواثقة من نفسها والزم ترجعى تفرضى وجودك فى بيتك وماتكونيش كمالة عدد وعايشة على الهامش ‪.‬‬
‫أنهت نصيحتها بضحكة تحمل أستغرابا وتعجب ‪ .‬أضافت ‪ :‬ياسالم على الدنيا ياهدى وكأن الزمن يعيد‬
‫نفسة ‪ ..‬نفس شكوتك ووجعك حتى أحساسك بالوحدة ‪ ..‬كل ده أنا عشته ودوقت مرارته ‪ ..‬ياما نصحتينى‬
‫ياهدى وشجعتينى أطلع من أزمتى ويشهد علينا المكان ده من أتناشر سنة لما كانت لسه شقة وأنا عايشة‬
‫فيها لوحدى مع الجدران وماكانش فى مخلوق بيزورنى وال بيسأل عنى وال فيه حد بيطمن أن كنت عايشة‬
‫وال ميتة ‪ .‬أبتسمت عينيها حين أكملت ‪ :‬لغاية ماربنا بعتك لى ووقفتى جنبى ورجعتينى تانى للدنيا وساعتها‬
‫حسيت أنى مش لوحدى وفى حد فى ضهرى عشان كده عمرى ماحأنسى وقفتك معايا ‪ .‬أرخت جفنيها فى‬
‫خجل وأرادت أن تقاطعها لتبعد عن نفسها حرجا سكن وجهها ‪ ،‬إال أن زيزيت تابعت فى أصرار ‪ :‬أنا عارفة‬
‫أن ظروفك غير ظروفى وأن الزمن أتغير لكن لو دققتى كويس مش حتالقى فيه فرق كبير هى نفس الوحدة‬
‫والغربة اللى الزمونى سنين ‪ ..‬أنا أكتر واحدة حاسة بيكى وشايفه فى عينيكى الخوف والتردد من أى‬
‫خطوة لحسن تسببلك مشاكل ‪ ..‬فهماكى ومقدرة خوفك‪ .‬فاجأها نضجها وتحليلها المنطقى ‪ :‬كالمك مظبوط‬
‫أنا فعال خايفة من خطوة الشغل دى وقلقانة أوى لحسن األمور تتعقد أكتر مع والدى ‪ .‬لم تستطع زيزيت‬
‫صرف تواريخ تطفو على ذاكرتها حين أستقبلت كلماتها المتراجعة ‪ :‬أنا كنت زيك كده مترددة وخايفة لكن‬
‫لمالقيتك واقفة معايا بجد وبتاخدى بأيدى ساعتها بس أخدت قرارى وكان كل اللى يعرفنى وقتها كان متأكد‬
‫أنى حأفشل زى مافشلت فى حياتى كلها ‪ ..‬عشان كده أنا مش عايزاكى تقلقى من أى حاجة وخدى قرارك‬
‫وماتخافيش ‪ .‬بينما تنصت هدى لها بتركيز شديد لعلها تنجح فى أبعاد سيناريوهات متباينة تحوم فى‬
‫رأسها ‪ .‬بدت كرؤى فى يقظتها ‪ ،‬ترى فى أحداها رفض قاطع من نورا وسعى حثيث للصدام معها بخالف‬
‫ضغط متصاعد تمارسه بقوة على زيزيت للتراجع عن دعمها أو تشكيل جبهة مناهضة لها فى البيت ‪ .‬فى‬
‫‪225‬‬
‫حين واصلت زيزيت ‪ :‬عشان كده ياحبيبتى أنا مش حأقدر أتفرج عليكى كتير وأسيبك فى الوضع ده ‪ ..‬ال‬
‫ياهدى مستحيل‪ ..‬فيه دين فى رقبتى ليكى والزم أوفيه‪ ..‬برضاكى أو غصب عنك دى مش مشكلتى المهم‬
‫أنى حأفضل جنبك لغاية ماترجعى زى األول وأحسن ‪ .‬ثم قربت وجهها منها وأرتفعت فيها نبرة الحماسة‬
‫وهتفت ‪ :‬حأغيرلك حياتك كلها وحترجعى للدنيا بشكل جديد والكل حيعرف قيمتك وأولهم والدك ‪ .‬ثم مالبثت‬
‫أن أنهت كالمها حتى وقفت لتعادل رأسها بمساحة البحر التى تتالعب مياهه الزرقاء خلف ظهرها وقد‬
‫تأهبت مالمحها لتالوة قرارها بصوت زادت فيه مساحة التحدى ‪ :‬أنا قررت أنك من بكرة حتكونى معايا‬
‫هنا ‪ .‬تلقت األمر وكأنها تنتظره ‪ :‬بجد يازيزيت ‪ ..‬أهتزت خصلة شعرها الصفراء المنفلتة على جبينها مع‬
‫هزة رأسها بااليجاب ‪ :‬أيوه ياهدى ‪ .‬بينما تراجع لحم خديها معلنة عن مخاوف الحيلة لها فى صرفها ‪ :‬بس‬
‫أنا قلقانة أوى من نورا ورد فعلها ‪.‬‬

‫ــ أنسى نورا خالص وسيبهالى ‪ ..‬أنا فهماها كويس وعارفة مفاتيحها كلها ‪ .‬سحبت نفسا وأطلقته حائرة ‪:‬‬
‫خايفة ترفض وتعملى مشاكل فى البيت وكمان مش عايزة أسببلك مشاكل معاها وأنا عارفة كويس أنها‬
‫أيدك اليمين فى الشغل ‪ .‬سكتت للحظات تراجع مخاوف هدى المنطقية ‪ ،‬ثم أنحنت بجذعها وأستندت بكلتا‬
‫يديها على المكتب وأدلت رأسها وكأنها تجرى حوارا مع المكتب أنهته سريعا ‪ .‬ثم رفعت عينيها وبدت‬
‫عليها مالمح من قال " وجدتها " ‪ ..‬سحبت نفسها من خلف المكتب متجهة للكرسى المقابل لهدى وجلست‬
‫أمامها ال تفصلهما سوى منضدة صغيرة عليها زهرية بها زهرة عباد شمس صناعة الصين وأستبدلت‬
‫لهجتها الحماسية بأخرى متعقلة ‪ :‬نورا معايا هنا من أربع سنين ومن عشرتى معاها تقريبا عرفت كل‬
‫مزاياها وعيوبها ‪ ..‬بنتك عاقلة أوى فى تصرفاتها وفاهمة يعنى أيه مسئولية ولما بتحط حاجة فى دماغها‬
‫الزم تعملها وعمرى ما حأنسى أبدا أول يوم جت فيه هنا وقالتلى أنا نفسى أبقى زيك أمسك حتة القماش‬
‫وأنفذها وأفصلها على مزاجى أنا مش على مزاج الزبونة ‪ ..‬ثقتها بنفسها كانت زيادة عن اللزوم و دايما‬
‫كانت تقولى مش طموحى أكون خياطة أنا عايزة أبقى مصممة أزياء أتحكم فى القماش وأبتكر فيها‬
‫موديالت وأنسق ألوان وهو ده فعال ياهدى اللى بنتك وصلتله والزبونة اللى كانت معاها من شوية بتاخد‬
‫معظم انتاجها اللى هى صممته ونفذته من دماغها ال نقلته من كتالوج وال شافته على موديل ‪ ..‬هى دى‬
‫نورا الشاطرة الواعية اللى بتعشق التحدى والنجاح‪ .‬خفت بريق األعجاب فى عينيها حين سكتت قبل أن‬
‫تعيد بلكنة تحذيرية ‪ :‬وكمان فيه نورا بشخصية تانية ‪ .‬تنصت هدى بتطلع ‪ :‬شخصية تانية أزاى؟ ‪.‬‬

‫‪226‬‬
‫ــ نورا فيها عيب خطير ‪ ،‬بنتك بتحب التملك والسيطرة وقراراها دايما من دماغها وده واضح جدا فى‬
‫معاملتها مع أخواتها وعمتها وان كنت أنا شخصيا بأعذرها فى العيب ده بالذات عشان هى بجد أتحملت‬
‫مسئوليتهم من األلف للياء لدرجة أنى كنت بأحس أنها فعال أمهم ‪ ..‬مشكلتها الوحيدة أنها بتتعامل معاهم‬
‫على أنهم ملكية خاصة لها وده اللى خالها جافة وشديدة وعنيدة ومابتحبش تظهر ضعفها قدام أى حد حتى‬
‫لو كان أقرب الناس لها ‪ .‬أنهت جملتها األخيرة وأرتدت للوراء تحمل مالمح الخوف قبل أن تضيف ‪ :‬عشان‬
‫كده أنا قلقانة جدا على وضعك فى البيت ‪.‬‬

‫ــ قصدك أيه يعنى ‪ .‬قالتها بصوت مرتعش ‪.‬‬

‫ــ قصدى أن نورا مش حتسمح ألى حد مهما أن كان يكون له سلطة جوه البيت غيرها وبس ‪ .‬أنصتت‬
‫بغضب وتسارع أضطرابها وأزدادت وتيرته ‪ :‬أفهم من كده أيه يازيزيت ؟! ‪.‬‬

‫ــ الزم ناخد األمور بواقعية من غير مانعمل مشاكل والصدام لغاية األمور ماتهدى واألوضاع ترجع زى‬
‫زمان ‪ ..‬عشان كده حنبدأ بحكاية الشغل األول من غير ماهيه تاخد بالها ‪ .‬ضاقت عينى هدى ‪ .‬فتابعت‬
‫زيزيت ‪ :‬يعنى كل يوم الصبح حتيجى تقعدى معايا ساعة وال أتنين لمدة كام يوم لغاية مانورا تتعود على‬
‫وجودك وبعد كده أقوم أنا مدخالكى واحدة واحدة على شغل األتيليه بحجة أنك زهقانة وبتسلى وقتك ‪ .‬قلبت‬
‫هدى األمر فى رأسها ثم أبدت موافقة مضطربة قبل أن تستأذن فى األنصراف حاملة فى رأسها حيرة‬
‫تتخبطها بين أصرار زيزيت على مساعدتها وبين قلق وتخوف مشروع من رد فعل ال يعلم مداه إال اللــه ‪.‬‬
‫وضعت زيزيت يدها على كتفها وتمشيا سويا للباب قبل أن تلتفت اليها ‪ :‬أنا من أول يوم وقفت مع بنتك من‬
‫ساعة مادخلتى السجن وكان قرارى ده عشان أردلك ولو حاجة بسيطة من جمايلك ودلوقتى ومن باب أولى‬
‫أقف جنب صاحبة الجميل نفسها اللى أفضالها على وماتشغليش بالك بأى حاجة طول ما أنا جنبك لغاية‬
‫ماتثبتى وجودك وترجعى أحسن من األول ‪ ..‬أتفقنا ‪ .‬تبدلت مالمحها حين سمعت الجملة األخيرة وأضاءت‬
‫وجهها بأبتسامة ‪ :‬أتفقنــا ‪.‬‬

‫‪00000000000000000000‬‬

‫فى تلك األثناء دخلت بسمة من بوابة الجامعة محشورة وسط أجساد تجرفها فى كل األتجاهات وكأنها‬
‫وقعت فى دوامة من اللحم البشرى ‪ ..‬صارعت وقاومت دون جدوى حتى أستسلم جسدها لنظرية الدفع من‬
‫الخلف حتى اجتازت البوابة سيرا على الهواء قبل أن تسقط فى بؤرة زحام جديدة أمام المدخل ‪ ،‬إال أنها‬
‫‪227‬‬
‫تماسكت وشقت طريقها وسط كرنفال ألوان يصيب العين بتلوث بصرى ‪ .‬أخيرا خرجت كالجنين من الرحم‬
‫ثم توقفت لثوان أصلحت ماأصابها من " نعكشة " بعد معركة العبور المريرة ‪ .‬وسعت من خطوتها‬
‫بعدماأستعادت لياقتها متجهة ناحية الكافتيريا ‪ ،‬فإذا كنت من السائرين خلفها فحتما ستسحب مؤخرتها‬
‫نظرك كتحفة منحوتة داخل بنطلون " جبردين " وحتما ستبقى فى ذاكرتك حتى يحين موعد حلمك ‪ ،‬وإن‬
‫كان طريقك فى عكس األتجاه فسترى مايسرك من طيب الفاكهة ‪ ..‬حبتان كراز على شكل شفتين أسفلهما‬
‫ثمرتان من الرمان معلقتان على صدر منشرح تحته خصر نحيل لين فى حركته نزوال إلى ماال يحمد عقباه‬
‫كامنا وسط فخذين يتراقصان بال أيقاع ‪ .‬أستقبلت بسمة وقفة أمجد الذى بدا وسيما فى قميصه " البيج "‬
‫نظرا لوجود بديله " الرمادى " على حبل الغسيل ! رفعت يدها ملوحة له بينما رفع رأسه مبتسما يبادلها‬
‫نفس األشارة وكأن الذى بينهما لغة األشارة ‪ .‬بادر بالتحرك إليها يراوغ بأداء رشيق مجموعات الطلبة‬
‫التى طالت وقفتهم المرتخية أمام الكافيتريا أنتظارا لخلو مائدة أو حتى كرسى فى حين أصبحت قاعات‬
‫المحاضرات رجس من عمل الشيطان ‪ ،‬فأختصر الطالب حياتهم الجامعية يسعون فى طرقاتها وخارج‬
‫أسوارها ‪ ..‬تائهون بال هدف ‪ ..‬أفكار مشوشة وقضايا كبيرة تطرح بال سند فتتوه وسط الجدل والصراخ‬
‫كما تثور بينهم الخالفات العاطفية التى تبدأ وتشتعل ثم تنتهى فى غضون ساعات وال مانع من خصم بضع‬
‫دقائق لمناقشة األوضاع السياسية التى تدور دائما فى أطار متحضر تحترم دائما فيه وجهات النظر‬
‫المتباينة ‪ ،‬لذلك تفضى تلك المناقشات عن نتائج باهرة دائما ماتظهر فى شكل كدمات وسحجات تتوزع‬
‫بالتساوى على وجوه المختلفين مصحوبة بسيمفونية سب ولعن تطال شجرة العائالت من جذورها العميقة‬
‫حتى آخر ثمرة وليدة ‪ ،‬هنا يؤكد المراقبون والمتابعون للحركة الطالبية أن مصر ينتظرها مستقبل‬
‫مضيىء !!‪ .‬تصافحا بعد عناء وجهد ثم وقفا مع الواقفين فى مواجهة الكافيتريا قبل أن يشب أمجد على‬
‫أطرافه ماسحا الكافيتريا بنظرة سريعة عاد بعدها راسما حسرة مصطنعة ‪ :‬ياخسارة مافيش والترابيزة‬
‫فاضية ‪ .‬جذبها من رسفها ‪ :‬تعالى نقعد فى الجنينة بتاعة كلية األداب أكيد حنالقى فيها كراسى فاضية ‪.‬‬
‫مشت معه وعيناها معلقة على مدخل الكافيتريا ‪ ..‬سارا بتمهل وإن كان يسبقها بخطوة ‪ ..‬فى الطريق حاول‬
‫أمجد أظهار رجولة ال محل لها من األعراب ‪ :‬البنطلون ده ضيق أوى عليكى ‪.‬‬

‫ــ متهيألك ده هو موضته كده ‪ .‬أجابة مختصرة تلقاها حين وصال إلى حدود كلية األداب قبل أن يتجها‬
‫يسارا بمحاذاة قسم اللغات الشرقية وصوال إلى حديقة الكلية العتيقة ‪ ،‬أدار كل منهما رأسه فى أتجاه‬
‫معاكس بحثا عن متر واحد من الخضرة يحتوى جلستهما المتعثرة ‪ ،‬لكن يبدو أنهما قد وصال أرضا فى غير‬
‫موسم زراعتها ‪ .‬فأنفجرت بتلقائية ‪ :‬أنت مش السنة اللى فاتت عزمتنى على حاجة ساقعة عند‬
‫‪228‬‬
‫بسطرودس‪ ..‬أنا دلوقتى بقى مصرة أردهالك ‪ .‬أنتفض فجأة وجذبها بقوة من يدها قبل أن يفكر فى العرض‪:‬‬
‫أتنين قاموا من الكرسى اللى هناك ‪ ..‬تعالى نقعد عليه بسرعة ‪ .‬جلسا صامتين لخمس دقائق أللتقاط‬
‫األنفاس ‪ ..‬أستعاد أمجد وعيه العاطفى حين أبتسم وهو يلتفت إليها ‪ :‬وحشتينى ‪ .‬كلمة أعادت لها ذاكرة‬
‫الغرام بعد أن أراحت قدميها من رحلة السير العابرة للكليات ‪ :‬وأنت كمان ‪ .‬قالتها وهى تنظر فى عينيه إال‬
‫أنه مال لألمام يستند بمرفقيه على فخذيه ثم أنسحب بعينيه ناظرا لألرض بينما تأملت بسمة سكوته‬
‫ونظراته المهمومة لألرض قبل أن تنقر بأصبعها على ظهره ‪ :‬يعنى أحنا بقالنا نص ساعة بنلف لغاية‬
‫مالقينا كرسى فاضى عشان نعرف نقول كلمتين مش عشان سيادتك تسرح وتتأمل فى األرض ‪ .‬رفع ظهره‬
‫وأستقام فى جلسته ‪ :‬مش عارف يابسمة ‪ ..‬حاسس كده أنى مش مبسوط قلقان ‪ ..‬زهقان متضايق ‪ ..‬أى‬
‫حاجة مش عارف ‪.‬‬

‫ــ طب لما أنت شايل جواك كل األحاسيس الجميلة دى كان لزمته أيه بقى أصرارك أننا نقعد مع بعض ‪.‬‬
‫سكت ولم يبرر بينما هى لم تحتج ‪ .‬كان لهما مزاج حذر هذا اليوم ‪ ..‬فقدت الكلمات تلك العذوبة التى كانت‬
‫ألحاديثهما فى األيام الماضية بينما واصل أمجد رحلته التأملية فى أكتشاف الطبيعة حيث بدا بمراقبة متأنية‬
‫لزرقة السماء ثم أنتقالة سريعة لتفحص التربة األرضية قبل أن يعود سالما ملتفتا ناحية بسمة التى‬
‫أستسلمت لصمته وتأمالته وشغلت نفسها بالعبث بمشبك حقيبة يدها قبل أن تلتقط أذنيها بداية كلماته ‪:‬‬
‫مالك ساكته ليه ‪.‬‬

‫ــ عايزنى أقول إيه يعنى وأنا شايفة جنبى واحد قلقان وأرفان وزهقان ‪.‬‬

‫ــ أنا قلت قلقان بس مش أرفان ‪.‬‬

‫ــ ماتفرقش كتير ‪ .‬أستدار بجسده كله متأهبا لتوضيح حالته ‪ :‬مش تسألينى قلقان ومتضايق ليه ‪ .‬عقدت‬
‫ذراعيها على صدرها وأنتظرت ‪ .‬تابع ‪ :‬فاضل أسبوعين على أمتحانات آخرالسنة يعنى بالكتير شهرين‬
‫والعبد للـه إلى قاعد جنبك حيتخرج ‪ ..‬يعنى مرحلة جديدة خالص ‪.‬‬

‫ــ ودى حاجة تقلق و تضايق ‪ .‬قالتها ساخرة بينما أستعاد فجأة روح الثورى المتمرد ‪ :‬طبعا يابسمة تقلق‬
‫وتخوف كمان لما أبقى متأكد إنى حأتخرج من هنا وحأبقى زميل أبويا بعد كده فى قهوة علولة اللى عندنا‬
‫فى باكوس يعنى الشغلة وال مشغلة ومش عايزانى أبقى تعبان ومخنوق‪ .‬لمست أصابعها فخذه الملتصق‬
‫بها ‪ :‬قبل ماتفكر فى اللى جاى وتعقد نفسك ركز األول فى األمتحان اللى فاضل عليه أسبوعين ‪.‬‬
‫‪229‬‬
‫ــ سيبك من حكاية األمتحانات دى ‪ ..‬المهم أنا عايز أخد رأيك فى فكرة كده ضربت فى دماغى أمبارح‬
‫بالليل ‪ .‬واجهته بصدرها قبل أن تستند بكوعها على سور الكرسى ‪ :‬قول ياسيدى ‪.‬‬

‫ــ فكرة مش عارف حتتحمسى لها زيى وال أل ‪..‬بدا مرتبكا ملخوما والخجل يتعثر بلسانه ‪ .‬فعالجته بنبرة‬
‫مخنوقة ‪ :‬ماتجيب من األخر وقول فكرة أيه ؟ ‪.‬‬

‫ــ أنتى عارفة أن الدفعة بتاعتنا حتعمل حفلة يوم السبت فى مسرح الليسيه حتنظمها أسرة المستقبل ‪.‬‬

‫ــ سمعت عنها ‪ .‬أقترب بأصابعه يتحسس يدها ثم ضغط عليها ‪ :‬وطبعا أنتى جاية ‪.‬‬

‫ــ دى مش عايزة كالم ‪ .‬سحبت كفها من يده المعروقة ‪ :‬لم نفسك أحنا فى حرم الجامعة ‪.‬‬

‫ــ حلوة وملعوبة وبمناسبة أننا فى الحرم بأقول لحضرتك ياريت يوم السبت وأنتى جاية الحفلة تجيبى‬
‫مامتك معاكى‪ .‬تهدجت أنفاسها كمن سمعت خبرا مشؤوما ‪ :‬أجيب ماما معايا ‪ ..‬ليه ياأمجد ؟ فأجأه الرد ‪:‬‬
‫عشان أتعرف عليها ‪ ..‬أنتى مش مفهمة مامتك عن اللى بينى وبينك ‪ .‬قالها وبحث بعينيه عن أجابة فى‬
‫وجهها فتابع بعد هزة من رأسها ‪ :‬الحفلة دى حتبقى فرصة أشوفها وتشوفنى وأكلمها وتكلمنى وعشان‬
‫كمان تطمن أن اللى بينا جد مش هزار وأنى بحبك وعايز أرتبط بيكى وكمان ناوى أعرض عليها الفكرة‬
‫اللى خيشت فى دماغى ‪.‬‬

‫ــ فكرة أيه يابنى ؟‪ ..‬سكت يستجمع نفسه بينما تتابعه بترقب ‪ :‬أنا بأقول يعنى لو ممكن مامتك تساعدنا‬
‫وتقف جنبنا‪ .‬قاطعته بفزع ‪ :‬أمى أنا ‪.‬‬

‫ــ أيوه يابسمة ‪ ..‬مامتك تقدر تشوفلى عقد فى الخليج بعد ماأتخرج ‪ ..‬متهيألى ده طلب بسيط ومش حتغلب‬
‫فيه ‪ ..‬مامتك قضت عشر سنين فى الخليج وأكيد لها هناك حبايب بالهبل وأنتى عارفانى كويس أقدر أسد‬
‫فى أى شغالنة وكفاية على سنتين تالتة أحوش فيهم تمن شقة وأظبط نفسى وساعتها نقدر نتجوز ونعيش‬
‫حياتنا ‪ .‬كلماته كانت كطلقات الرصاص تلقتها بصوت مترنح ‪ :‬مش عارفة أقولك أيه أنت فاجأتنى بالكالم‬
‫ده ‪ .‬بينما يرى أمجد ماأرتسم على وجهها ‪ ..‬يتأملها ويستطيع أن يقرأ خطوطا متداخلة من األندهاش‬
‫والتعجب بينما أختبرته بعفوية ‪ :‬هو أنت بتتكلم جد ياأمجد ؟ ! ‪ .‬لم يكن يريد لها أن تضطرب أو تجتاحها‬
‫الهواجس ‪ :‬هى األمور دى فيها هزار ‪ ..‬طبعا بأتكلم جد وأنا من يوم ماعرفتك لغاية دلوقتى وأنا صريح‬
‫معاكى من غير تجميل وأنتى فاهمة ظروفى كويس وعشان بحبك بجد مش بهزار عايز أشتغل وأنجح‬

‫‪230‬‬
‫وأثبت نفسى عشان كده أول حاجة حأعملها بعد التخرج حأخطبك على طول ولما أشوف مامتك يوم السبت‬
‫حأفاتحها فى موضوعنا وحأطلب مساعدتها وحأقولها بكل صراحة أنا عايز أسافر عشان أحسن ظروفى‬
‫وأكافح زى ماأنتى كافحتى لغاية ماأقف على رجليه وأليق ببنتك ‪ .‬تكدس أنفعال الخوف فى وجهها حتى‬
‫أحتقنت بشرتها وأنفجر الكالم على شفتيها فى محاولة منها لوأد فكرته بالضربة القاضية ‪ :‬أنا مش موافقة‬
‫على كل اللى انت قلته ده خالص وال حتى على فكرة األرتباط دلوقتى وال عايزاك أصال تفاتح ماما فى أى‬
‫حاجة وكمان هى مش حتحضر حفالت من أصله ‪ .‬تدلى فكه وهو ينصت ألنفعالها ‪ ..‬كان فى واحدة من تلك‬
‫الحاالت المترددة مابين أدنى الشكوك وأقصى الغباء وأعمق التشتت والح فى وجهه سؤال لم تعبر عنه‬
‫شفتاه ‪ :‬هو أيه اللى أنا قلته غلط وخالها تتكهرب كده ‪ ..‬هى مش عايزانى ليه أتعرف على أمها ؟!‪ .‬أستعاد‬
‫نفسه من بعد أن جمح بها ‪ :‬متهيألى أنا ماغلطش يابسمة وال طلبت شيىء مستحيل عشان النرفذة دى‬
‫كلها ‪ .‬قالها وهز رأسه مستاءا وبادلها غضبا وتابع بأنفعال ‪ :‬أوعى عقلك يكون رايح لسكة أنى طماع وال‬
‫أنتهازى ‪ ..‬أل ‪ ..‬أنا كل اللى طلبته مساعدة مش حتكلف مامتك أى حاجة أنا ماطلبتش حسنة وال سلفة ‪.‬‬
‫أبتلعت ريقها بصعوبة قبل أن تقرب عينيها تحتويه ‪ :‬أسفة ياأمجد ماكانش قصدى ‪ ..‬مش عارفة أنا‬
‫أتنرفذت ليه ‪ .‬الزالت عينيه تحمل الدهشة ‪ :‬ياريت تفهمينى أيه اللى أنا قلته غلط وماخدتش بالى ‪ .‬أختنق‬
‫صوتها وهى تتلفت بعينيها وكأنها تستجير بالمرتخين المزروعين فى الحديقة الصلعاء ‪ :‬أنت ماقلتش‬
‫حاجة غلط أنا اللى وضعى غلط ‪ .‬قالت جملتها األخيرة بتلقائية ودون وعى ثم وقفت فجأة ونظرت له وهو‬
‫جالس مدهوشا ‪ :‬ياله بينا نمشى أنا عايزة أروح ‪ .‬قام ببطء ومشيا سويا فى ظل صمت مريب وأصبحت‬
‫نظراتهما التفارق األرض وكأنهما يسيران فى جنازة ‪ .‬لكن بال ميت !‪ .‬خرجا من البوابة بمالمح مأزومة ‪.‬‬
‫جمل قصيرة قبل الفراق على أن يكون للحوار بقية كما نوهت بسمة ‪ :‬حأكلمك بالليل ‪ .‬هز رأسه دون أن‬
‫ينطق بكلمة وأنتهى اللقاء وأصبحت لبسمة عينان قلقتان ‪ ..‬وأصبح ألمجد وجه مذعور وعالمات أستفهام‪.‬‬

‫‪00000000000000000000‬‬

‫كان أجتماعا مغلقا محاطا بالسرية فى ركن الذكريات والتأمالت أمام المدفأة فى شقة خيرى الذى جمع‬
‫نفسه داخل " ترينيج" أبيض يلفه خط أسود عريض من عند الصدر ويطوى قدميه فى شبشب أسود بأصبع‬
‫بينما جلس أمام صديقه " برسوم " الذى أخفى هيكله العظمى المتهالك خلف قميص أحكم طرفيه حول‬
‫عنقه الهزيل ‪ ..‬بدا الجو العام المصاحب لألجتماع يثير القلق والفضول بينما لعبت األضاءة الخافتة‬
‫‪231‬‬
‫المنبعثة من شمعدان نحاسى على رف المدفأة الرخامى دورا مهما فى أستنفار حواس برسوم الذى تفصله‬
‫عن صديقه منضدة صغيرة عليها فنجانين قهوة تم األنتهاء منهما فى بداية الجلسة وعلى يسارهما مطفأة‬
‫سجاير أجتهد خيرى أن يجعلها مقبرة لعشر سجاير فى نصف ساعة وبمجهود فردى وهو يعيد شرح حالته‬
‫النفسية المتأزمة للمرة الثالثة أو الرابعة بصياغات مختلفة وكلها تدور حول أصابة مباشرة تلقاها قلبه‬
‫نتيجة أزمة عاطفية حادة نالت منه ومن كيانه وجعلته يشعر ألول مرة بأنه ال يعرف ماينبغى فعله ‪،‬‬
‫فأستعان بصديقه رافضا األفصاح له فى المكالمة التى دارت بينهما عصرا وأصر على حضوره ‪ .‬ربما يرد‬
‫على لسانه حال أو عالجا شافيا ‪ ،‬إال أنه وحتى اللحظة الزال برسوم يفتح عينيه ويغمضهما فى صمت‬
‫مكتفيا باألنصات غير قادر على المقاطعة أو األستفسار حتى أمتالت رأسه عن أخرها بكل التفاصيل‬
‫وفاضت على مالمحه التى تهدمت وزادت ترهال قبل أن يستقر على لسانه سؤال مباغت ‪ :‬كل اللى سمعته‬
‫منك ياخيرى عن جارتك هدى من ساعة ماشفتها لغاية النهاردة أنا ممكن أفهمه وأقبله على أنه أعجاب‬
‫بشخصيتها أو بجمالها أو حتى ممكن نسميها نزوة مع واحد محروم زى حاالتك ممكن تبقى مقبولة ‪ ..‬لكن‬
‫حب كده خبط لزق و بالسرعة دى ومن غير سبب مقنع ومع واحد زيك بتفكيرك وبمنطقك العقالنى ‪ ..‬يبقى‬
‫أكيد فيه حاجة غلط أو فيه حاجه تانية أنا مش فاهمها وأنت مخبيها عنى ‪ .‬نكس رأسه للحظات قبل أن‬
‫ينهى تنهيدة طارئة ثم قال ‪ :‬وال فى حاجة غلط وال مخبى حاجة عنك ‪ ..‬أنا نفسى لغاية دلوقتى مش قادر‬
‫أفهم وال أحلل أيه اللى حصلى وأيه اللى خالنى مدهول كده ‪ ..‬تعبت من التفكير ومش عارف أعمل أيه وال‬
‫أتصرف أزاى ‪ ..‬حاسس كأنى مش أنا وال عارف راسى من رجليه وده اللى خالنى أفتح معاك الموضوع‬
‫ده ‪ .‬على مدار ربع قرن من الزمالة والصداقة التقليدية التى جمعتهما دون المساس بطرازها الكالسيكى‬
‫القديم حين تفرز التركيبة الشخصية والطباع الشكل التنظيمى لتلك الصداقة فأحتفظ " برسوم " لنفسه‬
‫بدور " السنيد " المرتبط دائما بمشاكل البطل يطرح عليه الرؤى واألفكار قانعا بموقعه خارج دائرة الضوء‬
‫بينما البطل الوسيم الرصين دائما مايتحمل تبعات النجاح والفشل ‪ .‬أبتسم قبل أن يمارس دوره التاريخى ‪:‬‬
‫يعنى المطلوب منى أيه بالظبط ؟ بعصبية خفيفة ‪ :‬دبرنى ياأخى وقولى أعمل أيه ‪.‬‬

‫ــ نفس الروشتة القديمة اللى قلتهالك ياخيرى فى أول مرة شفت فيها المرحومة سميحة هنا فى العمارة‬
‫لما كنت ماسك لجنة الحصر ‪ ..‬أبعد عن السلبية وخليك أيجابى وسيبك من رومانسية عبد الحليم وصحصح‬
‫شويه ‪ ..‬عصر النظرات والجوابات وسماع أم كلثوم طول الليل ‪ ..‬الزمن ده ولى وراحت أيامه وبقت فى‬
‫رحمة ربنا والبقية فى حياتك ‪ .‬أستوقفت العبارة األخيرة شريف وهو خارج من غرفته بفانلته الداخلية‬
‫متجها للحمام فألقى نظرة على األجتماع السرى يتبين المعنى ‪ :‬خير يابابا مين اللى مات ؟‪ ..‬ركز برسوم‬
‫‪232‬‬
‫حدقتيه فى وجه خيرى ‪ :‬الزمن الجميل يابنى ‪ .‬أقترب منهما يوزع نظراته متقمصا دور الخواجة‬
‫" كولومبو" قبل أن يضغط جبينه يقلب الجملة فى رأسه ويكررها بعمق مضيفا إليها أستنتاجا مستعيرا أداء‬
‫الفنان" عبد السالم النابلسى " ‪ :‬الزمن الجميل يابنى وكمان أجتماع شكله كده مايطمنش بين األستاذ‬
‫برسوم واألستاذ خيرى تحت نور الشمعدان وقدامهم طفاية سجاير مليانه على آخرها وكمان نحط فى‬
‫الحسبان أن الجوز دول أصال منضمين لحركة سياسية ضد األخوان اللى همه دلوقتى ماسكين الحكم ‪ .‬قالها‬
‫وقرب نظراته إليهما بالتتابع قبل أن يصفق بكفيه ‪ :‬آه يبقى األجتماع ده عشان قلب نظام الحكم ياأشقيا‬
‫والبقية فى حياتك دى كلمة السر ‪ ..‬تبقى الليلة كده رايحة على عمل مسلح ‪ .‬لم يتلق أجابة أو تعليق سوى‬
‫نظرة متأففةمن والده ‪ :‬روح أتكل على اللـه شوف وراك أيه ‪.‬‬

‫ــ ماشى ياعم خيرى ‪ .‬قالها باسما وواصل سيره إلى الحمام بعد أن فشل فى نيل أية معلومة وهو يردد‬
‫على اسماعهما ‪ :‬ثوار أحرار حنكمل المشوار ‪ ..‬بينما توجه خيرى متلهفا ‪ :‬وبعدين كمل يابرسوم‪.‬‬

‫ــ أول حاجة الزم نعملها نجهز خطة سريعة و أول بند فيها الجرأة والقلب الجامد وده دورك ياوحش ‪.‬‬
‫خفض من صوته حين ألتفت فى أتجاه الحمام ‪ :‬وحش مين يابرسوم ياخويا ده أنا أول مابشوفها وأقرب‬
‫منها وأبقى عايز أفتح معاها أى مواضيع ماتفهمش يا أخى أيه اللى بيحصلى ‪ ..‬خرس تقول ‪ ..‬لخمة‬
‫ودهولة ماتفهم ‪ .‬تريث للحظة كمفكر محنك قبل أن يدلى بمعلومة ‪ :‬هو ده الحب الحقيقى ياخيرى ‪ ..‬الربكة‬
‫والتوهان والكالم اللى بيهرب منك وتحس أنك قدامها زى لوح التلج ‪ ..‬كل دى أعراضه ‪ .‬مسح خيرى شعر‬
‫رأسه بكفيه من المقدمة إلى المؤخرة كمن يتوضأ على مذهب أبن حنبل ‪ :‬صح يابرسوم قالها وشرد بفكره‬
‫فأعاده األخير‪ ..‬ركز معايا وأسمع تفاصيل الخطة‪ .‬إال أنه سكت حين وطأت قدمى شريف أرض الصالة‬
‫راجعا من الحمام وقد حجب أفاه وعنقه بفوطة ووقف أمامهما يمارس دور " الغتاتة" بعد أن مر بطرف‬
‫الفوطة على وجهه ‪ :‬خير ياشباب وصلتوا أليه ؟! ‪.‬‬

‫ــ أنت مش عندك وردية يابنى الساعة سبعة ماتخلص بقى وأدخل غير هدومك وماتنساش تجيب معاك أي‬
‫لقمة وأنت راجع بالليل ‪ .‬جملة أفضت إلى التخلص منه غير أنه قال قبل أن ينصرف ‪ :‬ماشى يابابا بس لما‬
‫أرجع حتفهمنى أيه العبارة ‪.‬‬

‫ــ هو أنت يابنى شغال فى مول وال على ميكروباص ‪ .‬كان توصيفا من برسوم ‪ .‬قابلها شريف بأبتسامة‬
‫مجاملة وأتجه لغرفته بينما أقترب برسوم بوجهه الناشف الذى دبت فيه الحماسة وهو يتلو بنود الخطة‬
‫متبنيا حالة صديقه على أنها قضية مصيرية تخص جيل كامل من دفعة مافوق الخمسين وخاصة الحاصلين‬
‫‪233‬‬
‫منهم على لقب أرمل ‪ .‬فتابع يشرح ‪ :‬أوال الظروف كلها معانا مش ضدنا ‪ .‬لم يستوضح وأنتظر ‪ :‬اللى أنا‬
‫فهمته منك أن هدى تقريبا كل يوم الصبح بتبقى موجودة عند صاحبتها زيزيت فى األتيليه واللى نورا بنتها‬
‫شغالة فيه واللى حتكون عن قريب حرم أبنك وهمه التالته بيقدروك وبيحترموك وده يطمنا أن لك شعبية‬
‫فى المكان يعنى مش حتبقى قلقان من أى حاجة ومن هنا حتبقى البداية ‪ .‬زفرة ملل قبل أن يسحب سيجارة‬
‫من علبته ‪ :‬وبعدين ‪.‬‬

‫ــ سعادتك حتستناها على السلم وحتظبط نفسك الصبح على وقت دخولها األتيليه وبرضه نفس الحكاية‬
‫ساعة الضهر وهى خارجة وكالمك معاها كله يبقى بعينيك ‪ ..‬خليها تفهم معنى نظراتك وتفهم اللى تقصده‬
‫من غير ماتنطق بحرف واحد وتفضل على الحال ده يومين تالته وبعدها تدخل على المرحلة التانية والكالم‬
‫ساعتها حيبقى مباشر وجها لوجه ووقتها حيبقى لنا تكتيك تانى حسب تطور الوضع ‪ .‬سحب نفسا وأنكمش‬
‫صوته ‪ :‬قلقان منها لحسن تحرجنى بكلمة وال بحركة ‪ .‬قاطعه ‪ :‬مستحيل يحصل منها أى حاجة ‪ ..‬مش‬
‫عشان هيه واقعة فى دباديبك وال دايبة فى حبك ‪ ..‬الحكاية أكبر منك ومنها ‪ .‬رفع حاجبا ‪ :‬نورنى ‪.‬‬

‫ــ أوال هى عارفة أنك حتبقى حما بنتها فى المستقبل القريب وثانيا هى شايله جميلك فوق راسها لما وقفت‬
‫جنب والدها وثالثا وده مهم جدا بالنسبة لها وهى أنها فاهمة وضعها كويس أوى فى نظر الناس ‪..‬أنها‬
‫لمؤاخذة يعنى خريجة سجون وده معناه أنها ماتقدرش تعمل مشكلة معاك وال مع غيرك عشان أى تصرف‬
‫مش حيبقى فى مصلحتها وال فى حد أصال حيصدقها عشان كده بأقولك دوس وماتقلقش من أى حاجة ‪.‬‬
‫ألتقط خيرى تبريرات صديقه بأبتسامة تعنى األرتياح فى حين راقب برسوم فرحة صديقه الطفولية التى‬
‫دفعته لهرش مؤخرة صلعته بحثا عن صياغة هادئة وواقعية لحقيقة تعمد خيرى نسيانها أو غض الطرف‬
‫عنها ‪ .‬فقال ببطء ‪ :‬والمسيح الحى ياخيرى أنت من ساعة مافاتحتنى فى حكاية هدى دى ويعلم ربنا أنا أد‬
‫أيه فرحان ومبسوط ويمكن أكتر منك وأنا شايف الفرحة فى عينيك ‪ .‬سكت بعدها ولم يكمل وأدلى برأسه‬
‫لألرض فى حين تسلل قلق مباغت ينخر رأس خيرى وظل يرمقه بترقب حين أكمل برسوم ‪ :‬سبحان اللـه‬
‫أنا شايف أدامى نفس الفرحة اللى كانت بتتنطط فى وشك زمان هيه نفسها بالكربون لما أتقابلنا فى المكتب‬
‫من أكتر من خمسة وعشرين سنة مش حنسى اليوم ده أبدا كنا أول الشهر ولسه قابضين المرتب وكان‬
‫فوق منه منحة عيد العمال وكنت يومها أنت لسه راجع من عند المرحومة سميحة و مبهور بيها زى ما‬
‫أنت مبهور دلوقتى بهدى ‪ ..‬نفس الحالة وكأن ما فيش فرق بين زمن سميحة وزمن هدى ‪ .‬أبتسم أبتسامة‬
‫غير مفهومة ‪ :‬أنت شايف كده ‪.‬‬

‫‪234‬‬
‫ــ ده رأيى وأن كان الفرق بينهم فى حاجتين بس ‪ ..‬أولهم أن المرحومة سميحة كانت من عيلة كبيرة ولها‬
‫أصل وفصل وأقل واحد فى عيلتها كان بيه أما هدى وأنا متأكد أنها أنسانة محترمة ومالهاش ذنب فى‬
‫المأساة اللى عاشتها لكن الناس بياخدوا بالظاهر وأكيد حيتعاملوا معاها على أنها ربة سجون ‪ .‬مط شفتيه‬
‫وأرخى جفنيه ثم تابع ‪ :‬السؤال هنا بقى ياصاحبى واللى بيفرض نفسه ‪ .‬ضغط خيرى على فكيه وتوترت‬
‫مالمحه أنتظارا للسؤال الصعب الذى بادر به برسوم ‪ :‬حيبقى أيه وضعك وسط الناس لو األمور أتطورت‬
‫أكتر بينك وبينها‪ ..‬الماضى عمره مابيستخبى ياخيرى وساعتها خسارتك حتبقى كبيرة ودايما حتفضل‬
‫قلقان وخايف ‪ .‬تبادال نظرات صامتة إالأن خيرى أشاح برأسه رافعا عينيه ألعلى ناحية صورة المرحومة‬
‫المعلقة فوق المدفأة ‪ ،‬فغاص فيها بنظراته وكأنه يرى أبتسامتها تضيق وخيوط من الدموع تنسال من‬
‫عينيها فعاد حزينا على صوت صديقه ‪ :‬أنا طبعا متضامن معاك فى حكايتك مع هدى وزى ماأنت شايف‬
‫أهوه أنا واقف جنبك و بنتشاور سوا وكمان بنخطط ‪ ..‬بس ده مش معناه أنى حأكون موافق وال مبسوط لو‬
‫تطورت عالقتك بيها ألكتر من أعجاب والحتى حب ‪ .‬لم ينطق خيرى فأضاف برسوم قبل أن يربت على‬
‫كتفه ‪ :‬مش عايزك تزعل منى لكن ده حق الصداقة والعشرة والزم أفكرك باللى أنت عايز تنساه ‪ .‬تنهد وهز‬
‫رأسه قبل أن يقتل سيجارته فى المطفأة ‪ :‬مش زعالن يابرسوم وكالمك مهم لكن سابق ألوانه ‪ .‬أنهى‬
‫تعقيبه وعبث بعقب السيجارة الذى أصبح فى عداد " السبارس" ثم تابع ببالدة ‪ :‬أنت قلتلى فى فرق بينهم‬
‫فى حاجتين بين زمن سميحة وزمن هدى سديت نفسى بواحدة فيهم والتانية أيه بقى ؟ أرتد برسوم للوراء‬
‫وبدت عليه عالمات األسترخاء ‪ :‬الحاجة التانية ياسيدى دى كانت مهمة أوى بالنسبة لى ‪ ..‬أيام سميحة‬
‫كان شعرى مغطى راسى كلها أما أيام هدى بقت راسى والمؤاخذة شبه " تـ ‪ ) ....‬قطب خيرى جبينه‬
‫يستوعب الفارق الذى ذكره ثم أبتسم قبل أن ينفجر ضاحكـا ‪.‬‬

‫الفصل الثامن‬

‫مضت بضع ساعات من ذلك النهار حتى قارب على الزوال ‪ .‬تقدم منصور بوجه حليق ورأس غارق‬
‫فى " الجيل " يتبعه حليفه " سليم " الذى بدا فى هيئة تالجة أيديال قميص أبيض على بنطلون أبيض‬
‫وبلغة بيضاء يسمع صوت زحفها على مسافة عشرة أمتار ‪ .‬أقتحما مدخل البيت بحارة " أبن شكر "‬
‫مدفوعان بخوف كأنما يخشيان أن يكشفهما أحد حتى تواريا فى السلم الضيق ‪ .‬ضغط منصور جرس‬
‫الباب ‪ ،‬فأنفتح له على ضجيج التليفزيون مصدره قناة " المولد" حيث يرطن " سعد الصغير " بأنشودة‬
‫" الحنطور " ‪ .‬ضرب صرير باب الشقة وهو يدفعه متقدما إلى الصالة فى رعاية أبتسامة عريضة من‬
‫‪235‬‬
‫" أم ماهر " الجارة الصدوقة لـ " بدرية " أمرأة فى نهاية الثالثينيات لديها ولد وحيد وزوج جديد بعد‬
‫رحيل " أبو ماهر " المفاجىء الى مقابر " المنارة " ويقال على ألسنة المغرضين فى الحارة أنها تزوجت‬
‫قبل ان تجف مياه غسله ‪ .‬صافحها ودخل ثم ألقى بتحية المناسبة الى بدرية التى تواجه الداخل ‪ .‬مبروك‬
‫ياست بدرية ‪.‬‬

‫ــ أهال ياعريس أتفضل ‪ .‬قالتها وأهتزت رأسها التى تعلوها طرحة قصدت أن تكون حجابا ‪ ،‬فاذا بها عمامة‬
‫مزركشة تتناغم ألوانها مع ظالل العين مع لون الشفاه ‪ ،‬مع الوردة الكبيرة التى تعلو قمة الصدر الضخم ‪..‬‬
‫جلس على يمين مدخل الباب يمسح فخذيه بكفيه سعيا وراء حماسة مطلوبة فى ذلك الموقف العظيم بينما‬
‫ظل سليم واقفا يؤدى دورا محوريا فى تأمين المكان ‪ ،‬بدا متحركا ال يستقر فى بقعة ألكثر من دقيقة ‪،‬‬
‫يسحب نفسه متجها ناحية شباك متاخم لرأس بدرية ماسحا الحارة بنظرة فوقية يتفقد فيها الداخل والخارج‬
‫تحسبا لوجود مندس أو متابع يرصد تحركاتهما ‪ .‬سحب نفسا مفعما بالثقة حين تأكد من خلو الحارة‬
‫من أى متلصص ‪.‬‬

‫األتفاق على التفاصيل ‪ ،‬كان صعبا ‪ ،‬ألنه كان أجابات عن أسئلة مصيرية ‪ .‬أراد منصور وبمباركة بدرية أن‬
‫تجرى األمور فى سرية تامة بعيدا عن العيون المترصدة التى تتابع وتراقب وتبلغ !‪ ..‬الترتيبات كان‬
‫الخوض فيها يقود الى خالفات وأشتراطات ‪ ،‬بدرية تريد حضور المأذون الى شقتها كى يعلم جيرانها‬
‫المقربين بأمر الزواج تفاديا ألثارة الشبهات فى حال دخول وخروج منصور المتكرر ‪ ،‬إال أنه أقنعها‬
‫بحيثياته ‪ " ،‬حارة أبن شكر " الشيىء يخفى فيها ‪ ،‬كل تصرف يخرج عن المألوف فى المساء ‪ ،‬يصبح‬
‫سيرة سيارة تعم الحارة فى الصباح ‪ .‬فى تلك اللحظة أستعدت نوسه للظهور ‪ ..‬توقفت بجوار باب غرفتها‪..‬‬
‫عدلت من هيئتها وسارت خطوتين حتى ظهر لها منصور يهمس فى أذن سليم ‪ ،‬ترمقه لثوان قبل أن تقطع‬
‫الطرقة إلى الصالة ثم خرجت عليه بوجه جديد شحيح المكياج وشعر بدلت لونه إلى األصفر الكنارى‬
‫ومالبس فضفاضة تحجب التفاصيل على غير العادة فتوارى الصدر والخصر خلف بلوزة بيضاء واسعة‬
‫عليها دوائر صغيرة حمراء بينما أختفت األرداف والفخذين والساقين حتى مشط القدم بفعل " جيبة" جينز‬
‫زرقاء تحف فى شوز من نفس الخامة ‪ .‬تراقصت فى خطوتها وهى تقترب على أنغام " سعد" المتصاعدة‬
‫التى تلهب حماس أى " وسط " ‪ .‬أستقبلها واقفا بأبتسامة مالت وجهه قبل أن يتفحصها ‪ :‬مبروك يانوسة‬
‫ــ مبروك عليك انت ياحبيبى ‪ .‬أكمل فحصه مستغربا ‪ :‬أيه الطقم الملموم ده يابت ‪ ..‬هو أحنا رايحين عند‬
‫المأذون وال طالعين عمرة ‪.‬‬

‫‪236‬‬
‫ــ هو المأذون بتاعك ده فى جامع وال قاعد على البحر ‪ ..‬قوم تعالى معايا ياخفيف ‪ .‬جرجرته خلفها كذئب‬
‫فى موسم التزاوج ناحية كرسى يفصل حدود الصالة عن الطرقة ‪ .‬أجلسته وواجهته بجسدها وألتصقت به‬
‫حتى المس خصرها وجهه ‪ ،‬إال أن عينيها كانت تحمل لوما ‪ :‬أيه المسطول اللى أنت جايبه معاك ده ‪ .‬صعد‬
‫بعينيه ‪ :‬سليم جدع يابت ووجوده النهارده ضرورى عشان تأمين المكان ‪ ..‬سليم اللى مش عاجبك ده‬
‫أحسن ناضورجى فى كرموز كلها يعنى لو فى خطر وال حد متابعنا سليم يشم ريحته من على بعد كيلو ‪ ..‬ده‬
‫شمام كبير ‪ .‬التفتت إلى موقعه بجوار مدخل الباب ورمته بنظرة مشمئزة ‪ :‬هو من ناحية شمام باين عليه‬
‫من غير ماتقول ‪.‬‬

‫ــ ماتشغليش بالك كلها ساعة زمن وكل واحد يروح لحاله ‪ .‬قال عبارته ثم حرك أصابعه يتلمس فخذها ‪:‬‬
‫أخبار اللحمة أيه ؟ ضمت رجليها وأبعدت أصابعه ‪ :‬سيبك من اللحمة دلوقتى وقولى حنخرج أزاى من هنا ‪.‬‬

‫ــ أنا وسليم األول وبعدها بخمس دقايق تسحبى أمك فى أيد وأم ماهر فى األيد التانية وحتالقونى واقف‬
‫مستنى جنب مدخل عمود السوارى ومن هناك نخطف تاكسى ع السريع لغاية جامع سيدى جابر ‪ .‬ثم أردف‬
‫قبل أن تنمو أبتسامة شيطانية وهو يلعق شفتيه بطرف لسانه ‪ :‬ونقول هناك كلمتين صغيرين يادوب زى‬
‫شكة األبرة ‪ ..‬قبلتك زوجة وقبلتينى الدكر بتاعك ‪ .‬ثم أشار بأصبعه طوليا من رأسها حتى قدميها ‪ :‬ونطلع‬
‫من عنده والحاجة دى كلها ملك أيدى وبعدها نبقى نظبط المسائل أنا وأنت ياجميل زى ماتكتكنا ‪ .‬أدارت له‬
‫ظهرها متجهة ناحية أمها تراقب وتتابع وقد أثنت عليها بنظرة متفق عليها ثم أرتدت إليه ثانية ‪ :‬هو أحنا‬
‫قدامنا قد أيه يامنصور ‪.‬‬

‫ــ لسه بدرى يانوسة فاضل ساعة وشوية على صالة العشا ‪ .‬هزت رأسها وسحبت كرسيا من جوار سليم‬
‫وجرته وجلست فى مواجهة منصور ‪ .‬لم تنطق بكلمة واحدة وبادلها الصمت ‪ ،‬فأتاح لهما السكوت تأمل‬
‫المشهد بهدوء وتريث وبدت مالمحها كمن تلبى دعوة لم يفصح عنها فى حين بدا منصور كما لو كان‬
‫مدعوا إلى لقاء مربك ‪ ..‬يعلم جيدا إنه يخطو اليوم خطوة جريئة ‪ ،‬حتما ستكون فارقة فى مستقبله كله ‪.‬‬
‫اليوم سيعقد قرانه على نوسة ‪ ،‬كما أتفق مسبقا ‪ ..‬اليوم يحلم أن يكسر الشرنقة ويغزل ثوب الحياة على‬
‫هواه وكما أرتضى ‪ ..‬وعندما يجتمع أثنين على حلم واحد فليس مسموحا لهما أن يحلما فى وضح النهار‪..‬‬
‫ثم مالبثت أن قامت نوسة تنفض عن نفسها لحظة القلق وعالجت أضطرابها بالتنقل على أكثر من كرسى‬
‫بينما زاغت نظرات منصور وراء تحركاتها فى حين أستغل سليم خلو مقعدها وأسرع يشغله ملتصقا‬
‫بصديقه وأنتحيا جانبا يتبادالن بقية تفاصيل الترتيبات ‪ .‬أستقرت نوسة على الكنبة تتوسط أمها وأم ماهر‬
‫‪237‬‬
‫قبل ان تشير عليها بدرية ‪ :‬قومى يابت شوفى منصور بيرغى مع الوله المسطول ده فى أيه ؟ نفذت األمر‬
‫وأنضمت إليهما تحاول أن تضفى بتوترها وهما يوحى بحيويتها وحضورها ‪ .‬لم تقنع منصور بالوهم ‪.‬‬
‫لمس خيوط التوتر والقلق وهى تنسج نفسها حولها ‪ .‬جلست إلى جواره ‪ ..‬ألتصقت به فوضع ذراعه حول‬
‫كتفها وظلل بيده على فتحة البلوزة ‪ ،‬لم تشعر بحرج بينما أراد سليم صنع نجومية وسط الترقب والصمت‬
‫فأبدى صخبا مفاجئا وعال صوته دون مبرر ‪ :‬أن شاء اللـه يبقى يوم مبروك عليكم وربنا يتمه‬
‫علينا بالستر‪.‬‬

‫‪00000000000000000‬‬

‫ألحقى يامعلمة قدامهم أقل من ساعة وحيكونوا عند مأذون جامع "سيدى جابر " ‪ .‬كانت تلك المعلومة‬
‫الوحيدة المتوفرة لدى " النونو " قال جملته فى سرعة وهو يلهث كعادته فى تالوة األخبار السيئة ‪ .‬لم يكد‬
‫ينتهى إلى سمعها تلك األخبار الصادمة التى تجرى على لسانه حتى خبطت فايزة كفها على صدرها ‪ ..‬كان‬
‫يعرف ثورتها التى تنفجر قبل أن تفهم التفاصيل ‪.‬‬

‫ــ أيه اللى بتقوله ده ياوله ‪.‬‬

‫ــ هو ده أخر كالم وصلنى على لسان أشرف سويلم ‪ .‬وهى تلملم شتاتها ‪ :‬أشرف سويلم مين ؟‪.‬‬

‫ــ ده يبقى حبيب عبد العاطى جوز أم ماهر الوليه اللى ساكنة فى الشقة اللى تحت بدرية كومبارس قاله‬
‫بعضمة لسانه أنه مش حيقدر ييجى النهاردة القهوة عشان رايح مسجد سيدى جابر يشهد على كتب كتاب‬
‫منصور أبن عبده الجن على نوسة بنت بدرية ‪.‬‬

‫قامت ببطء من كنبتها ثم بسطت كفيها على كتفيه وهزتهما ‪ :‬يعنى أنت عايز تقولى أن النهاردة منصور‬
‫أبنى حيتجوز فى السر من ورايا من بنت المرى المفضوحة دى ‪.‬‬

‫ــ أيوه يامعلمة ‪ .‬تقلبت حدقتيها وأنشال قلبها وأنحط فى ضلوعها وأرتجف لحمها كالمصعوقة وبدت وكأنها‬
‫خارج غالف الدنيا ‪ ،‬فأعادها وهو يرى فى عينيها شررا أصابه بالهلع ‪ :‬عايزك تهدى شوية يامعلمة‬
‫وماتنسيش أن منصور يبقى أبنك الوحيد ‪ .‬يطرأ الغضب فى ذهنها وأتجهت إلى غرفتها فى خفة عصفورة‬
‫ودفعت الباب بقوة حصان ‪ ،‬فتلهف طرحتها والعباية السوداء قبل أن تدس رجلها فى الشبشب وتدخل‬
‫رأسها فى طوق العباية تلبسها حتى أنسابت على جسدها فزادتها سمكا بينما لفت شعرها بالطرحة ‪ ،‬ثم‬

‫‪238‬‬
‫خرجت من غرفتها تحمل وجوما ووجها مخيفا بدا كقنبلة معدة لألنفجار بينما نقاط من العرق ظهرت فجأة‬
‫فى جبينها وأسفل أنفها كشظايا صغيرة يصعب لمسها ‪ ..‬كل تلك األعراض حدثت فى فترة وجيزة التتجاوز‬
‫العشر دقائق من لحظة سماعها الخبر حتى خروجها من الغرفة الى الصالة حين واجهت النونو بلهجة‬
‫عصبية ‪ :‬أتصل دلوقتى بالوله خضر وقوله يلم شوية المقاطيع ويحصلنا على حارة أبن شكر ‪ .‬أعطته‬
‫ظهرها وأتجهت لباب الشقة بجسد يهتز كأنها زلزال يتحرك ومن خلفها صبيها يتبعها ويراقب توابعه‬
‫بينما صوت الرقع القاسى من شبشبها يدق درجات السلم قبل أن تصرخ فيه دون أن تلتفت إليه ‪ :‬كلم عبده‬
‫خرة أس المصايب وقوله أنا حأعدى عليه دلوقتى فى القهوة ‪.‬‬

‫ــ ليه يامعلمة ‪.‬‬

‫ـــ وأنت مال أمك ‪ ..‬أسمع اللى بأقولك عليه وأنت ساكت ‪ .‬كانت جملة فى شكل صرخة نتج عنها أضاءة‬
‫فورية من لمبة نور السلم المعلقة أعلى باب شقة " أم أبراهيم " التى أستطلعت من فرجة صغيرة فى الباب‬
‫لمحت منها نزول فايزة العنيف ‪ ،‬فلحقتها عند أخر درجة سلم تطل على بسطتها‪ :‬خير ياأم منصور فى‬
‫حاجة ياختى ‪ .‬لم ترد وواصلت النزول ‪.‬‬

‫فى تلك اللحظة كان " عبده الجن " فى أقصى درجات التركيز وهو يخوض صراع محتدم مع دفتر‬
‫الحسابات المفتوح بين يديه تحاوره األرقام وتعانده التواريخ ‪ ..‬ترفض فى أكبار وتحد أن تخشع لتوليفة‬
‫من بنات أفكاره يسعى من خاللها لتوفيق أوضاعه المتأزمة ما بين دخل المقهى ومصروفاته ‪ .‬مرت ساعة‬
‫والزال يحاول بينما " جمعه " يرمقه من بعيد بعين ثابتة وشفاه تتحرك فى حديث مضطرب يدور مع‬
‫الموبايل الذى يركب اذنه ‪ .‬أنتهت المكالمة سريعا ثم سحب نفسه من خلف " النصبة" وكان عبده هو‬
‫الهدف ‪ ،‬توجه اليه وظل فوق رأسه يرقبه قبل أن ينطق فى أقتضاب ‪ :‬أنت قافل موبايلك ليه يامعلمى ؟ رفع‬
‫عينيه ثم قذفه بنظرة حادة ‪ :‬يعنى مش شايفنى بقالى ساعة متهبب مع الدفتر المنيل ده ‪ ..‬مش راضية‬
‫تيجى معايا الشمال وال يمين والحسبة كلها متأندلة ‪ .‬تنهد ثم أردف ‪ :‬وبتسأل على الموبايل ليه يافقرى ؟‬
‫ألقى أستفساره األخير دون أكتراث قبل أن يرجع بعينيه يقلب صفحة فى الدفتر ‪ ،‬إال أن جمعة أبى وأستكبر‬
‫أن يتحرك من مكانه قبل أن يحقن أذنى معلمه بجرعة قاتلة فى صورة بالغ ‪ :‬األسطى نونو لسه مكلمنى‬
‫دلوقتى ع الموباين بتاعى وبيسألنى الموباين بتاع معلمك مقفول ليه ‪ .‬تجمدت مالمحه ‪ :‬والمؤرف ده‬
‫بيسأل ليه ؟ ‪.‬‬

‫‪239‬‬
‫ــ بيقولك حيعدى عليك دلوقتى هو والمعلمة فايزة ‪ .‬كمن أصابته حالة تسمم من جرعة الكالم ‪ :‬حيعدوا‬
‫على هنا فى القهوة ‪.‬‬

‫تداخلت مالمح جمعة ‪ :‬أيوه يامعلمى ‪ .‬قام منتفضا يبحث عن أعصابه الهاربة ‪:‬ليه ياوله ‪ ..‬أيه اللى حصل؟‬

‫ــ الوله النونو كان متشنك أوى وهو بيكلمنى و سامع صوت المعلمة فايزة وهى بتسب وبتلعن فى منصور‬
‫والمؤاخذة فيك كمان يامعلمى ‪ .‬توقفت الجملة األخيرة فى أذنه ثم أستفسر ‪ :‬هو الوله منصور مشى أمتى‬
‫من القهوة ؟ ‪.‬‬

‫ــ هو جه خمس دقايق بص على الشغل وبص فى وشى وكان شكله مبسوط وعطانى سيجارة مالبورو‬
‫وقالى لو أبويا سأل عنى قوله لسه ماشى وبعدها خلع مع الوله سليم ‪.‬‬

‫ــ ماتعرفش راح فين ‪.‬‬

‫ــ الصراحة أل ‪ ..‬بس هو كان آخر شياكة حتى الوله سليم المعفن كان ضارب طقم أبيض شبه التمرجى ‪.‬‬
‫توتر عبده ونفخ فى وجه جمعه ‪ :‬ده باين عليه كده وراه حكاية سودة ‪ .‬طوى الدفتر وشرد يبحث عن أجابة‬
‫لسؤال يدق رأسه ‪ :‬طب هى الوليه حتعدى على فى القهوة ليه ؟‪ ..‬أبنها منصور وشكله كده عامل نصيبة‬
‫طب أنا ذنبى أيه ‪ .‬تنهد ثم مسح وجهه بكف يده كى يستعيد توازنه ووجه كالمه لجمعه فى سرعة وأرتباك‪:‬‬
‫روح يابنى شغل قناة القرأن وطوق القهوة بكنسة على السريع ‪ .‬أصدر تعليماته وأنصرف قاطعا المقهى‬
‫بأتجاه المدخل وسط عدد قليل من الزبائن مابين ساهم وتائه وهامس يحادث موبايل ملتصق بأذنه ‪ .‬أستند‬
‫بجوار حائط المدخل وأخذ نفسا عميقا ثم لفظه مع جملة ممتدة ‪ :‬أستر ياستار ‪.‬‬

‫ــ مالك واقف كده ليه ياعبده ‪ .‬كان سؤاال فضوليا جرى على لسان " عم أمين " حبيس كرسى على يمين‬
‫مدخل المقهى من بعد صالة العصر ‪ .‬أجابه بصوت أصابه التنميل ‪ :‬مستنى القدر ياعم أمين ‪.‬‬

‫ــ طب ماتسحب كرسى وتعالى جنبى نستناه سوا ‪ .‬قالها ثم صدرت عنه ضحكة أصابته بالسعال خرجت من‬
‫فمه الخالى من األسنان ‪ .‬لم يصبر عبده على وضعيته وتنحى عن مكانه راجعا إلى موقعه فى الداخل تاركا‬
‫الظنون تسرح فى رأسه ‪.‬‬

‫‪240‬‬
‫لم تمر خمس دقائق إال وكانت فايزة على أعتاب المقهى وسط زفة تحاصرها ‪ ،‬جمال النونو على يمينها‬
‫وخلفهما خضر يتقدم كتيبة قوامها ثمانى بلطجية ‪ ..‬بينما هم عم أمين نصف همة ‪ ،‬يعكس وجهه الناشف‬
‫دهشته ‪ :‬خير يامعلمة فايزة فى أيه ؟‪.‬‬

‫نظرتها غير مستقرة وعلى فمها غضبة معلقة تشى بالخبل الذى ركبها ‪ :‬هو فين الراجل الناقص ‪ .‬تولى‬
‫خضر األجابة ‪ :‬آهو قاعد جوه يامعلمة ‪ .‬دخلت تتأمل المقهى بتأفف وسط أستغراب القاعدين ومرت عيناها‬
‫بينهم كأنها الترى شيئا بينما أعاد مشهد دخولها لألذهان أيام ولت حين كان " أحمد بك الدكرورى "‬
‫ضابط مباحث كرموز يحل ضيفا على المقهى فى ساعة متأخرة هو ورجاله يتفقد الحالة األمنية قبل أن‬
‫يخرج منها غانما مجموعة أسرى ‪ .‬أنفتح أمامها الطريق للوصول إلى عبده الذى تأهب واقفا ألستقبالها‬
‫يشد بدنه ويضغط على أضراسه حين بلغته ‪ :‬خير يافايزة فى أيه ؟ ألقت عليه نظرة نارية وهى تتحسس‬
‫المكان حوله بعينيها ‪ :‬هو أنت بيجى من وراك خير أبدا ‪ .‬بصوت محتضر ‪ :‬أحنا فى القهوة يافايزة وطى‬
‫صوتك شوية ‪ .‬عال صوتها صوت عبد الباسط المجلجل فى قناة المجد ‪ :‬عايزنى أوطى صوتى ‪ ..‬حاضر‬
‫حأوطيه ‪ .‬بحث بعينيه فى وجهى النونو وخضر ‪ :‬هو فى أيه ياجدعان حد يفهمنى !‪ .‬علقت عيناها فى‬
‫وجهه ‪ :‬قاعد بتهبب إيه عندك وأبنك الموكوس راح يتجوز فى السر ‪ .‬تنهشه الدهشة وفارقت الدماء‬
‫وجهه وأنسحبت الى قمة رأسه مرددا بشفة مهزوزة ‪ :‬أيه اللى بتقوليه ده ياولية ‪ ..‬منصور أبنى حيتجوز‬
‫فى السر ‪ .‬باغتته بقسوة لسانها ‪ :‬أيوه ياسيد المعلمين أصله أبن حالل مصفى وارث عنك جوازات السر ‪.‬‬
‫حاصرته بنظرات متوحشة ولسان متوعد وواصلت ‪ :‬هى دى األمانة اللى وصيتك عليها ياعديم األمانة ‪..‬‬
‫أسيبلك حتة العيل اللى حيلتى أربع سنين أطلع أالقيه حشاش وصايع وحتة بت ملزقة تشتغله وعايزة تلهفه‬
‫منى هيه وأمها عشان تشفط اللى وراه ‪ .‬تململ عبده فى وقفته مثل قدر يغلى والعرق يطفح من وجهه‬
‫يستقبل رذاذ نيرانها فى صمت ثم جذبته من يده ‪ :‬تعالى معايا ياسيد الرجالة ‪ .‬بات كالمخبول فى يدها ‪:‬‬
‫آجى معاكى على فين يافايزة ‪.‬‬

‫ــ على حارة أبن شكر عند المرى اللى أسمها بدرية عشان أوريك بعينك ياعبده ياجن اللى يتحدانى وعايز‬
‫يستكردنى أعمل فى أيه ‪ .‬لم يفرج فمه عن أى كلمة وأختار السكوت حال ومشى خلفها ولم تفلح محاوالته‬
‫فى أظهار التماسك فى تفريق النظرات المتفرجة على كيانه المهزوم ورحل فى ذيلها منكس الرأس وفى‬
‫ظله يتبعه النونو وخضر ومن واالهم ‪ ..‬قضى األمر ! ‪.‬‬

‫‪241‬‬
‫فى الطريق أعدت فايزة عدتها من النعوت واألوصاف المحتمل أستعمالها ‪ ..‬مشت كبرميل بارود متحرك‬
‫وسط أحتشاد النظرات المتابعة للركب من النوافذ والشرفات وأمام مداخل البيوت بينما كوكبة من عيال‬
‫الحوارى أنضموا إلى الركب دون وعى ‪ ،‬تخطت فايزة وزفتها حارة عويضة وحارة البهاليل قبل أن تطأ‬
‫قدميها حارة أبن شكر ‪ .‬خطوتين وغاصت رجليها فى بركة مجارى طافحة ومن خلفها خاضت أقدام الرجال‬
‫فى البركة تيمنابها ‪ ..‬تم أقتحام مدخل البيت الذى ضاق بهم ‪.‬‬

‫لحظات وضربت فايزة باب الشقة الذى أنفتح على يد " أم ماهر " التى تلقت صفعة تعارف على وجهها ‪.‬‬
‫بينما أنتفض منصور من المفاجأة حين مد نظره ناحية أمه التى تسد فراغ الباب ‪ ،‬أصابه الدوار كمن يقفز‬
‫فى الهواء وأدرك أن كالم الواشين لم يذهب هباء ‪ .‬جف ريقه وجنت عيناه بالمشهد المفاجىء وشعر‬
‫بالحصار وهو يردد كالمجذوب ‪ :‬ياليلة سودة ‪ ..‬ياليلة سودة ‪ ..‬حأفهمك ياما ‪.‬‬

‫ــ أنت لسه حتفهمنى ياأبن الوسخة ‪ .‬قالتها ووثبت إلى وسط الصالة فى خفة عجيبة ومن خلفها موكب‬
‫مهيب يتصدره النونو وخضر وكتيبة البلطجية وحولهم يلتف بعض من جيران بدرية صعدوا خلفهم يشدهم‬
‫الفضول واألستطالع ‪.‬‬

‫طالت فايزة أبنها وجذبته من أفاه حتى أستجاب فأعطاها وجهه فنال بصقة ثم صفعة ‪ :‬ضحكوا عليك يانمرة‬
‫ياأبو ريالة ‪ .‬أحاط وجهه بيديه تجنبا للكمة مباغتة ‪ :‬ماحدش ضحك على ياما ‪ .‬قالها بنبرة أستغاثة كمن‬
‫وقع فى حفرة قبل أن تدفعه بكلتا يديها لينهار على الكنبة صامتا ذاهال ‪ ،‬وبنفس الليونة والحيوية أنحنت‬
‫فايزة على األرض عارضة على العيون أردافها الهائلة وما أنكشف من بطنى ساقيها ‪ ،‬فأختطفت فردة‬
‫شبشبها وأشهرته ثم أنقضت على موقع ( بدرية كومبارس ) بجوار منصور المنهار وعلى رؤوس األشهاد‬
‫أخذت بدرية تحمى وجهها بذراعيها وهى تتلوى تحت ضربات الشبشب المنهالة على رأسها وصدغيها‬
‫وأنفها الكبير بينما فايزة زاعقة وسط الزحمة التى حفت بالمشهد وهى منكوشة الشعر حافية القدمين‬
‫مترجرجة فى أنفعالها مثل جبل من " الجيلى " يحتدم فى جوفها بركان ‪ :‬ورحمة أبويا ماحتفلتى من أيدى‬
‫يامرى ياناقصة ياللى ماشية على حل شعرك ‪ .‬أنسحبت بدرية بوجهها السابح فى األلوان بأتجاه الداخل ‪،‬‬
‫سحبتها أرجلها كرد فعل فطرى هاربا من الوحش المندفع خلفها مستهدفة باب غرفتها وتبعتها فايزة بال‬
‫عقل ومدت ذراعيها المشرعة وأحتضنتها من الخلف ثم ثبتتها للحائط وأخذت رأسها بين كفيها تدقها فى‬
‫الحائط فأرتدت عمامة رأسها للوراء ‪ ،‬حاولت بدرية صلب طولها وخافت أن تغيب عن وعيها ‪ ،‬وراحت‬
‫عيناها تتحركان يمينا وشماال تصرخ مستنجدة بشهامة الجيران ‪ ،‬لكن فايزة عاجلتها بضربة خبيرة من‬
‫‪242‬‬
‫قدمها فى بطنها أسقطتها جاثية عند قدميها وبات كل جزء فى جسدها تحت سيطرة فايزة مدعوما بسباب‬
‫يقف له شعر الرأس بينما أنضمت نوسة ألمها تحت ألحاح صلة الرحم بعد ماتوقف عقلها عن األستيعاب‬
‫للحظات‪ ..‬وما أن أفلتت بدرية مشعثة الشعر حتى جرت نفسها تحبو على ركبتيها إلى حجرتها وهى تردد‬
‫بصوت متهدج ‪ :‬هو أنتى فاكرة شغل السجون بتاعك ده حيخوفنا ‪ .‬زادت كلماتها من غضب فايزة فأقتحمت‬
‫عليها الحجرة وأنهالت عليها لطما وأمسكتها من شعرها وهى تقسم أن تجردها من مالبسها وتكون‬
‫فضيحتها كفضيحة لحمة العيد وراحت تدفعها من خلفيتها لتخرجها من الغرفة إال أن بدرية تشبثت بالباب‬
‫كأنها جزء من خشبه وعال صوتها بالعويل كصراخ أمرأة فى حالة والدة ‪ :‬ألحقونى ياناس حأموت فى‬
‫أيديها ‪ .‬بينما فايزة تهدد وتتوعد كل من يقترب ‪ :‬أياك أى عرث يقرب منى ‪ ..‬الزم تاخد نصيبها بالتمام‬
‫والكمال ‪ .‬وكأنها أشارة متفق عليها فتصدى الثمانية عجول بأجسادهم يمنعون تنامى مشاعر شهامة بدت‬
‫تظهر فى الوجوه‪.‬أفاق منصور من صدمته وتدخل يمنع أمه بينما أستماتت نوسة على يديها كى تخلصها ‪،‬‬
‫لكنها كانت متشنجة ومتصلبة على شعرها الذى تمزق بين أصابعها مرددة ‪ :‬وعزة جالل اللـه لتكونى‬
‫أنتى وبنتك بايتين الليلة فى مستشفى الميرى ‪ .‬أخيرا تحرك عبده تحت حرج الموقف وتدخل بمالمح فأر‬
‫مذعور ‪ ،‬حاول أبعادها وتهدأتها ‪ ،‬لكنه نال دفعة فخمة من السباب جعلته محايدا وعاد لصفوف المتفرجين‬
‫بينما الزالت نوسة تدفعها من كتفيها وهى تصرخ فيها ‪ :‬حرام عليكى أمى حتموت فى أيدك يامفترية ‪.‬‬
‫فأخرستها بلكمة موفقة أودعتها أسفل عينها اليمنى فترنحت وسقطت بجوار أمها ‪ ..‬لحظتها تدخل الجيران‬
‫بالصراخ ‪ ،‬فعاد لها عقلها وأستسلمت لنداءات التهدأة وتقبلت حصار جمال النونو وخضر لها كى ال ينتهى‬
‫األمر بجريمة قتل ‪ ،‬فتوقفت بعد أن حصلت على نتائج مرضية رأتها فى وجه بدرية وأبنتها ‪ ،‬كما تقبلت من‬
‫األيدى الكثيرة التى أمتدت لها " طبطبة " والمعاونة فى لبس الشبشب والطرحة ثم نفضت نفسها وبصوت‬
‫متقطع ألقت بيان النصر ‪ :‬قسما باللـه يابدرية لو مالمتيش نفسك أنتى وبنتك وبعدتو عن الوله أبنى لتكونو‬
‫المرة الجاية مكانكم فى الترب ‪ .‬ثم أدارت لها ظهرها بينما بدرية لم يكن سليما فى وجهها إال عين واحدة‬
‫ورقدت مكانها ككومة بالية مغمضة العين وبدت مالمحها قريبة لكائن بشرى وكأن أسدا أفترسها ‪ .‬فى حين‬
‫أستعادت نوسة وعيها وساعدت أمها على الوقوف بناء على توصية رددتها بصوت خافت ‪ :‬دخلينى‬
‫أوضتى عايزة أموت على سريرى ‪ .‬تحركت ببطء تجر باقى لحمها خلفها تترحم على جسد صار تحت طائلة‬
‫العرج والكساح ‪ ..‬فى تلك اللحظة وقف منصور فى الصالة مدهوشا صامتا سقطت عنه كل ثقته المعهودة‬
‫بنفسه وأحتبس على لسانه الكالم فى مصير فاجع ‪ ..‬وها هو ذا يسلم أمره للـه ويعيد حساباته ويرى أنه‬
‫أمام قوة ال يمكن أن تعاند أو تقهر ‪ .‬تلفت حوله يبحث عن سند أو معين ‪ ،‬فوجد نفسه وحيدا حتى صديقه‬

‫‪243‬‬
‫سليم أختفى وكأنه تبخر ‪ .‬فى حين تسللت إليه األهانات كأنات مكتومة تطارد أذنيه وكان مصدرها حجرة‬
‫بدرية ‪ ،‬شعر بنفسه كمخنث فاقد للرجولة فسحب نفسه منكسرا وفتح باب الشقة يترنح على درجات السلم‬
‫يحمل وجهه عالمات المحنة حتى وصل إلى المدخل الذى وجد أمامه تظاهرة وليس من مجال أكثر من‬
‫هذا لكى يتجمع البشر من حارة أبن شكر الذين تفحصوه وهو يمر بينهم ومطوا شفاهم عجبا ‪ ..‬وال هم‬
‫بفاهمين !‪ ..‬حاول أبعادهم ‪ :‬أيه يابشر كل واحد يروح لحال سبيله ‪ .‬ورغم ذلك النداء ال يتحركون إال بطاء‬
‫واليمشون اال مترددين ‪ ..‬يريدون مزيدا من " الفرجة " ‪ .‬فى تلك األثناء تباعدت فايزة وفرقتها بخطوات‬
‫واسعة بينما منصور فى الخلفية اليكاد يلحق بهم حتى أنعطفت فى أول حـــارة جانبية ‪ .‬توقف فجأة ودون‬
‫مبرر ‪ ،‬راقب المشهد كله من بعد بمالمح ومشاعر غير محددة ‪ ..‬هل هى سخرية ‪ ،‬مرارة ‪ ،‬أستسالم ؟‬
‫اليستطيع أن يحدد ‪ ..‬الذى يدركه تماما ويحرك دهشته أنه لم يدافع باستماتة عن نوسة وأمها أو حتى‬
‫عن نفسه ! ‪.‬‬

‫‪00000000000000‬‬

‫أتخذت الخطة المعدة سلفا من زيزيت وهدى ستة أيام حتى تقبلت نورا األمور بثبات ‪ .‬كان ذلك حين ألقت‬
‫األخيرة نظرة خاطفة على أمها وهى تتلقى تدريبا عمليا على ماكينة " السرفلة " على يد زيزيت ‪ ،‬فأقتربت‬
‫منها بحذر ‪ :‬أيه اللى بتعمليه ده ياماما ‪ .‬نبت األرتباك فى مالمح األخيرة ولم تتفوه بكلمة بينما أصابعها‬
‫تزداد تشنجا وهى تسحب طرف عباية مطرزة من أنتاج أبنتها من بين براثن سن األبرة الصاعد الهابط ‪.‬‬
‫فتولت زيزيت الرد ‪ :‬أيه رأيك بقى فى شغل ماما ؟!‪ .‬قطبت جبينها تعيد تجميع الحروف على لسانها ثم‬
‫لفظتها بدهشة ‪ :‬شغل !‪ .‬أبتسمت وضغطت زر أسفل رأس الماكينة التى أصدرت صوتا متحشرجا كالذى‬
‫تخرج روحه أختناقا ‪ :‬تمام كده ياهدى ‪ ..‬أيوه يانورا ماما حتشتغل معانا أنا أقنعتها وقلتلها بدل ماتيجى كل‬
‫يوم الصبح تقعدى معايا ضيفة ونفضل نرغى أنا قلت أخليها تستفاد بوقتها وآهو تغيير وأرحم من حبسة‬
‫البيت اللى هى فيها ومنها تتسلى وكمان تقبض قرشين ‪ .‬ثم قربت وجهها من نورا ‪ .‬أردفت ‪ :‬وبينى وبينك‬
‫أنا عايزاها جنبى عشان نقضى اليوم كله رغى ‪ .‬أنهت كالمها بتمكن وبأداء السهل الممتنع ‪ ،‬فأجهضت‬
‫ثورة كانت متوقعة وقضت على غضب تهيأت نورا ألظهاره حتى ضعف وخفت ولم يصدر عنها سوى‬
‫أضطراب ضاعف من أرتباكها ‪ :‬بس ماما البيت محتاجها برضه ‪.‬‬

‫ــ ماتقلقيش من الناحية دى خالص حيبقى عندها فترة راحة من الساعة تالتة لستة ده غير أنها الوحيدة‬
‫هنا اللى مسموح لها تمشى فى أى وقت يعجبها وتيجى فى الميعاد اللى يريحها ‪ .‬ألتقطت هدى خيط الكالم‬
‫‪244‬‬
‫بعدما تحررت رأسها من وضعيتها ورفعتها بأتجاه أبنتها تستطلع نظراتها الغامضة ‪ .‬ثم توجهت إلى زيزيت‬
‫بأبتسامة ‪ :‬ربنا يخليكى ومايحرمنيش منك ‪ .‬قابلت األخيرة كلمات المديح بجملة توضيحية قصدت منها‬
‫أفشال أى هجوم معاكسى من جانب نورا ومحاصرتها فى دائرة الحرج ‪ :‬واللـه أنتى ربنا بيحبك ياهدى‬
‫وراضى عنك كفاية أنك حتبقى موجودة فى نفس المكان اللى فيه بنتك حبيبتك وكمان جارتك وصاحبتك‬
‫واللى أفضالك عليها ماتتعدش ‪ .‬أبتلعت األحتجاج الذى ظهر فى عينيها وهزت رأسها مغلوبة على أمرها ‪.‬‬
‫فقالت مضطرة ‪ :‬مادام ماما عايزة كده وأنتى موافقة يبقى أنا ماعنديش مشكلة ‪ .‬قالتها وأنسحبت ثم‬
‫أضافت وهى تمشى بنبرة مخنوقة ‪ :‬أنا حأدخل جوه أجهز الشغل اللى حيتسلم النهاردة ‪ .‬وقبل أن يختفى‬
‫ظلها من أرضية الممر المؤدى للداخل حتى أنحنت زيزيت تحتوى هدى فى صدرها وقد أنساب بينهما فرح‬
‫طفولى حين زالت عقبة األعتراض والتداعيات المتوقعة من نورا ‪.‬‬

‫قضت هدى أسبوعها األول كنسمة ترطب ساعات العمل والتتدخل فى شئون األخرين ‪ ،‬هادئة ساكنة‬
‫كعادتها التثير مشاكل من أى نوع ‪ .‬أنسابت داخل األتيليه بسهولة وتوغلت فى تفاصيله وأكتشفت سريعا‬
‫أن األتيليه كيان كبير ويعمل وفق منظومة متكاملة على رأسها أدارة قوية محترفة بقيادة زيزيت وموهبة‬
‫فذة تعشق الخصوصية واألبتكار متمثلة فى نورا ومن خلفهما أصطف يدعم بأخالص مثل " رضا" فتاة‬
‫سمراء التملك من مقومات األنوثة سوى صوت ناعم ‪ ،‬تعمل لدى زيزيت منذ عامين بعدما فشلت فى‬
‫الحصول على األعدادية لثالث سنوات متتالية وحملت وزارة التربية والتعليم مسئولية أخفاقها ‪ ،‬تعتبر‬
‫" جوكر" المكان تؤدى أكثر من دور بداية من الكى والتكييس وأنتهاءا برفع المقاسات من على األبدان ‪،‬‬
‫تزاملها فى نفس الوظيفة " فضيلة " أمرأة أربعينية تحمل لحما كثيفا خشنة الصوت مطلقة دون أوالد بعد‬
‫رحلة زواج فاشلة عمرها عشر سنوات من رجل اليملك شيئا ‪ ،‬فأختارت أن تكون سندا له فحفظت له‬
‫كرامته وحين تأخرت فى األنجاب دار معها على أطباء النساء حتى سمع كلمتهم األخيرة " فرصة الحمل‬
‫ضعيفة يافضيلة " ‪ .‬فكرت بدال منه أن يكون له طموح ومصدر رزق محترم فأستعانت بتحويشة العمر التى‬
‫جمعتها على مدار عشرين عاما من الصراع فى محالت بيع المالبس الجاهزة بوسط البلد ‪ ،‬أستأجرت له‬
‫محل بمنطقة " الحضرة " لبيع المالبس المستعملة ‪ ..‬ثابرت معه حتى تمكن من تطوير أداؤه قبل أن ينتهى‬
‫به المطاف لبيع المالبس التركى المستوردة وفتح اللـه عليه بمحل أخر كما فتح عليها جام غضبه وعايرها‬
‫فى الليل والنهار بعيبها قبل أن يحجز لها تذكرة فى قطار المطلقات ويحجز لنفسه مكانا فى حضن ريفية‬
‫بيضاء يكبرها بربع قرن ‪.‬‬

‫‪245‬‬
‫أنصتت هدى جيدا لدروس زيزيت التى كان لها الفضل فى حشو رأسها بالمعلومات عن كل كبيرة وصغيرة‬
‫بداية من الماكينات المستخدمة والخامات واألكسسوارات المستعملة حتى أسرار التصميمات الخاصة بها‬
‫أطلعتها عليها فى حين أكتشفت هدى نوعيات من النساء من طبقة كانت تعتقد أنها قد أنتهت ‪ ،‬معظمهم‬
‫عضوات بـ "روتارى " األسكندرية وفى أندية سموحة وسبورتنج ‪ ،‬دفعتها زيزيت لتبدأ السلم من أول‬
‫درجاته فأثبتت نجاحا وكانت لها القدرة على مخاطبة أى زبونة تلتقى بها وكأنها صديقة قديمة ‪ ،‬كانت‬
‫ترفض فى البداية أن تأخذ أى أكرامية وهى تقدم الفستان للزبونة ‪ ،‬كانت تنتفض من داخلها حين تسمع‬
‫لهجة أستعالء من بعض السيدات فتزداد متاعبها النفسية ‪ ،‬فاألكراميات ليست كلها نابعة من الكرم ‪ ..‬قدر‬
‫كبير منها لزوم " األالطة والفشخرة " إال أن زيزيت ألمحت لها أن تساير أمورها ‪ ،‬فأعتادت مع الوقت ولم‬
‫يعد شيىء من هذا يثير دموعها كما كانت فى البداية ‪ .‬غدت هدى وبفترة قياسية تعرف كل مجريات األمور‬
‫فى األتيليه الذى أصبح بالنسبة لها جسر بين عوالم التصالح بينها ‪ ،‬ويكاد يكون مرادفا للحياة عندها ‪.‬‬
‫كانت تريد أن تثبت لنفسها قبل األخرين أنها جادة وطموحة ودون قصد منها أعادت لذاكرة زيزيت عهدها‬
‫األول بالعمل ‪ ،‬فقد عرفت هذه اللهفة على النجاح وتذكرت صدى كلماتها وسط أحالمها القديمة فى المركز‬
‫المرموق والحب والزواج ‪ ..‬أحست رأسها تعيش لحظات سقطت من الزمن ‪ ،‬ولعلها تذكرت مواقف كثيرة‬
‫أندفعت جميعها الى حافة ذاكرتها عندما طالعها وجه هدى كل صباح ‪ .‬تسع سنوات قد مرت على أختفاءها‬
‫فى السجن ‪ ..‬وها هى األن تعثر عليها ‪.‬‬

‫مع بداية األسبوع الثانى أصبحت هدى لها حضور قوى فى األتيليه ‪ ،‬جميع المتعاملين من أصحاب‬
‫المحالت الكبرى عرفوها باألسم ‪ ،‬كانت دائمة الخروج مع زيزيت إلى مصانع المالبس واألقمشة وحضور‬
‫األتفاقات بل أنها شاركت فى طرح أفكار جديدة لتصميمات واعدة ‪ ،‬فتحولت سريعا للعب دور السكرتيرة‬
‫الخاصة لزيزيت التى أكتشفت فيها أمكانية ترشحها ألن تأخذ مكانة متميزة فأطلعتها على ميزانية األتيليه‬
‫بينما شعرت هدى أنها تلعب نفس الدور التى أجادته مع زوجها " نديم " حين كانت تمسك بكل ميزانيته‬
‫وتشاركه كل األفكار قبل أن يسلم نفسه طواعية لـ " نسيم الشرقاوى " ‪ .‬هذا الدور أتاح لها أن تستعيد‬
‫بعضا من نفسها ‪ .‬أجتهدت وبداخلها نكران لكل مرارة الماضى ‪ ..‬تحسب الزمن بالدقائق لتعويض مافات‬
‫وبدت كممثلة مغمورة أتاح لها القدر فرصة النجومية فأمسكت بتالبيبها وبدأت رحلتها الصاروخية ‪ .‬لكن‬
‫هناك من يرصد ويتابع ‪ ..‬أشياء كثيرة ومشاهد عدة وانفعاالت متباينة وأفكار تروح وتجىء بال تتابع داخل‬
‫رأس نورا تكاد تورثها جنونا فوق جنون الخوف المرضى الذى ينتابها كلما وجدت تقدما ملحوظا ألمها ‪،‬‬
‫فزاد قلقها من تعاظم دورها وتأثيرها المباشر على زيزيت فشعرت بتخوف شديد على عرشها الذى بنته‬
‫‪246‬‬
‫وأحست أن أمها تسرق أنتصارها وتزحزح نجوميتها فى األتيليه ‪ ،‬فحاولت تلمس األلفاظ التى تنطق بها‬
‫حين أثنيت زيزيت على هدى التى أقترحت مجموعة أفكار من شأنها أن تسهل على بعض المتعاملين سداد‬
‫متأخراتهم تزامنا مع تمويلهم بموديالت الشتاء الجديدة حينها تلقت اشادة التقبل التأويل من المتعاملين‬
‫المتعثرين فى حضور نورا وفضيلة ورضا ‪ ،‬فأحست هدى أن كلماتهم تجاوزت األطراء العادى مما أوقعها‬
‫داخل دوائر الخجل‪ .‬فبادرت متحمسة ‪ :‬أن شاء اللـه بعد كده حأحصر كل التجار اللى عليهم مديونيات وأنا‬
‫حأتصرف معاهم بنفسى وفضيلة حتساعدنى فى الشغالنة دى عشان هيه عارفاهم من زمان ‪ .‬حاولت نورا‬
‫أن تكون عادية ‪ :‬واحدة واحدة ياماما أنتى يادوب ماكملتيش أسبوعين ‪ .‬قالتها بعصبية خفيفة بينما‬
‫أستشعرت زيزيت بوجود غضب وغيرة يتناميان داخل نفس نورا التى أستولى عليها أنفعال أرادت أن‬
‫تتخلص منه ‪ ،‬فلم تجد فى الموجودين من يصلح سوى فضيلة ‪ :‬أنتى واقفة ليه كده ماتدخلى جوه جهزى‬
‫القماش اللى حأشتغل عليه ‪ .‬تلقت األمر بأنكماشة وأحتقن وجهها حرجا وهزت رأسها باأليجاب مغلوبة‬
‫على أمرها ومرت من بين الواقفين تمد خطوتها متجنبة لقاء األعين التى ظهر فيها األستياء واضحا ‪ .‬لم‬
‫ترد زيزيت أن تعقب فأدارت كالما هادئا ‪ :‬أدخلى معاها جوه ياهدى شوفيها محتاجة مساعدة ‪ .‬كانت‬
‫نظرتها كافية لتدرك هدى ماتقصده ‪ ..‬أرادت منها أن تطيب خاطرها ‪ .‬أصبحت نورا دائمة العصبية منذ‬
‫اليوم األول لوجود أمها فى األتيليه ‪ .‬من يراها يحسب على الفور أنها شديدة التوتر على الرغم من البسمة‬
‫الموجودة والتى تحتل أكبر مساحة من وجهها ‪ .‬على أن هذه السماحة وهذا الوجه المستبشر له جانب‬
‫آخر ‪ ،‬فاذا أقتضى األمر أن يتحول إلى النقيض مادام هناك دوافع وضرورات تقتضى تحولها إلى‬
‫أنسان أخر ‪.‬‬

‫فى الداخل لم يكن الوضع سهال على هدى وهى ترى عالمات أستفهام تتخطف مالمح فضيلة ‪ :‬أنا مش‬
‫فاهمة هيه أتعصبت عليه ليه ‪ ..‬ده أنا مافتحتش بؤى بكلمة ‪ .‬صمتت هدى للحظات فى محاولة للعثور‬
‫على رد مناسب ‪ :‬ماتزعليش منها يافضيلة واللـه ماكانت تقصد ‪ ..‬نورا قلبها أبيض وتالقيها بس متضايقة‬
‫من أى حاجة ‪ .‬لم تمهلها المتابعة ‪ :‬متضايقة من أيه ياست هدى دى كانت بتضحك ومبسوطة وهى بتتفق‬
‫ع الشغل الجديد وفجأة أتقلبت مرة واحدة ‪.‬‬

‫عشر دقائق مرت حاولت فيها هدى تهدأتها بعد ماشعرت بفداحة شكواها حتى نجحت فى جعل المشكلة كلها‬
‫فى ترتيب متأخر جدول أوجاعها حين طفت على مالمحها ضربات الزمن الموجعة فغاصت الكلمات فى‬
‫حلقها وهى تتذكر هزائمها على مدار عمرها كله ‪ ..‬تجارب مريرة عاشتها خرجت منها بحكمة رددتها فى‬

‫‪247‬‬
‫يأس على أسماع هدى ‪ :‬فى نسوان ياست هدى ربنا خلقهم فى الدنيا دى زى الكبارى وظيفتهم بس أن‬
‫الناس تدوس عليهم بالجزم عشان يعدوا البر التانى ومش مسموح لهم يتوجعوا واليتألموا يتحملوا بس‬
‫وهمه ساكتين لغاية مااللى بيدوسوا عليهم يعدوا فى سالم وأمان ‪ .‬نظرت هدى لها طويال ‪ ..‬كانت تطعن‬
‫حدقتيها وكأنها أمام شاشة عرض ترى فيها شريط حياتها ‪ ..‬تقيس حكمة فضيلة على حالها ‪ ..‬أغمضت‬
‫عينيها للحظات ثم فتحتهما دامعتين وأبتسمت ثم مالبثت أن ضحكت ضحكا ال يشبه الضحك ‪ ،‬لكنه سرعان‬
‫مارحل عنها أمام دهشة فضيلة وأستغرابها وهى تسأل نفسها ‪ :‬هو أيه اللى أنا قلته وخالها ماتت‬
‫على روحها من الضحك ‪ .‬عادت هدى فى تلك اللحظة إلى واقعها تنشغل بأسئلة لم تصل بعد ألجابات‬
‫عنها ‪ ..‬تعجبت من تغير األحوال وأختالف المصائر ثم كسا وجهها الحزن فجأة وسمعتها فضيلة كمن‬
‫تحادث نفسها ‪ :‬ياه هيه دى حتبقى أخرتها ‪ ..‬نص عمرى ضاع والنص التانى حيضيع واألخر حأخد لقب‬
‫كوبرى ‪ .‬أحست أن حالة فضيلة ربما تكون أمتدادا لما ينتظرها من وحدة قاتلة وحياة بائسة ‪ ..‬تتوقف‬
‫طويال عند كلمات المعنى لها ‪ ،‬تترجمها الى أنفعاالت وشجن ‪ .‬وفجأة ودون مقدمات تساءلت فضيلة وكأنها‬
‫قرأت ماتخفيه هدى ‪ :‬ماتزعليش منى ياست هدى فى الكلمة اللى حأقولهالك ‪ ..‬أنا شايفه كده أن األنسة‬
‫نورا جافة معاكى شويتين وفين وفين لماتتكلم معاكى !‪ .‬تنتبه قليال على قشعريرة جسدها ‪ .‬تسحب نفسا‬
‫بطيئا ‪ :‬أصل أنا وهيه بنتكلم كتير أوى فى البيت !!‪.‬‬

‫‪00000000000000000‬‬

‫ــ لم يكن هذا فى خاطرها أبدا ‪ ..‬حقالم تكن غافلة تماما ‪ ..‬كانت تفطن بغريزتها كأنثى لنظرات خيرى‬
‫الجريئة التى تطاردها بأصرار كلما ألتقى بها عند باب المصعد أو فى مدخل العمارة ‪ .‬حسبتها مجرد نظرات‬
‫معجبة ‪ ..‬لم يطف بخاطرها أى تفسير لنظراته أكثر من هذا ‪ ..‬تكرر اللقاء ‪ ،‬مرة فى الصباح وهى تغدو الى‬
‫األتيليه ومرة عند العصر وهى تئوب إلى شقتها حسب خطة برسوم ‪ .‬كثرة المصادفات أكدت مدى غباء‬
‫أدراكها ‪ .‬كان مترددا يخاف المغامرة ‪ ،‬أراد خيرى أن يستوثق من كل حركة ‪ ..‬بل من كل رغبة قبل أن يقدم‬
‫عليها ‪ ،‬كان يخشى أن ترده ‪ .‬لكن ‪ ،‬تحركت فى أعماقه شهوة جارفة للحياة ‪ ..‬لألمساك بها فى أية صورة‬
‫من الصور ربما هذا ما حذا به اليوم إلى الوقوف أمام مدخل األتيليه ‪ .‬ربما أراد أن يجرب اللعبة ويمشى‬
‫مع الخطر الى أقصى حد ‪ .‬ليتعرف على حقيقة عالقته بهذا الكون ‪.‬‬

‫طال وقوفه وهى تراقبه من قاعة األتيليه تستعد للخروج بعد أنتهاء فترتها األولى ‪ ..‬رسم أبتسامة وأرسلها‬
‫من خلف زجاج الباب فتلقتها وهى واقفة فى منتصف القاعة وقد بدت مالمحه فى عينيها كمالمح فارس‬
‫‪248‬‬
‫من فرسان الحواديت ‪ .‬بل أنها فى األغلب ترى فيه مالمح الهيبة والزعامة ‪ ..‬تغزوها نظراته ‪ ..‬سقط قلبها‬
‫فى قدميها وظلت ساكنة تنصت لدقاته ‪ ..‬كانت مستسلمة بينما هو يستعيد وجوده فى نظرته إليها ‪ ،‬وفى‬
‫وقفته خلف الباب الزمه خيال لم ينفصل عنه فراح يشيد قصورا ويهدمها ‪ ،‬فكان كلما صنع لنفسه فنجان‬
‫من القهوة ‪ ،‬تخيل أنها هى التى تصبه له ‪ ،‬جلس الى مائدة الطعام وتخيلها أمامه بمفردها تشاركه لقمته ‪،‬‬
‫سار فى الشارع وحلم بها تتأبط ذراعه ‪ ،‬قرأ كتابا وناقشه فى وحدته معها ‪ .‬لم يدرك أنه أستعاد مافقده‬
‫إال عندما ينظر إليها وكأن هناك قوة داخله تدفعه ناحيتها ‪ .‬كان يرى فيها صورة جديدة لـ " سميحة " أو‬
‫صورة مكررة منها ‪ ،‬أو أنها هى وقد بعثت من جديد فى لحظة اليتذكر تفاصيلها ‪ ..‬فى قلبه تنمو أمنية أن‬
‫تبادله نفس المشاعر ‪ ..‬أراد أزاحة هذه األمنية إلى درج الكم الهائل من األمنيات التى يعرف أنها باطلة ولن‬
‫تتحقق ‪ ،‬ولكنها النفس تشتهى !‪ ..‬بانت الدهشة فى عينيها وهى خارجة من باب األتيليه ‪ ..‬نظرت إليه فى‬
‫ذهول عندما أقترب منها وكانت األبتسامة مشنوقة فوق ثغرها ‪ ،‬يتبادالن نظرات خفية يزور فيها كل منهما‬
‫األخر متخفيا تحت كلمات الترحيب ‪ :‬ازيك يامدام هدى ‪ .‬نظرت إليه بمشاعر مدهوشة ‪ :‬الحمد للـه كويسة‬
‫ياأستاذ خيرى ‪ .‬لم تفارق عينه وجهها ‪ .‬يحاول التودد إليها بنظراته المحيرة ‪ :‬أنا حبيت أطمن عليكى‬
‫وعلى الوظيفة الجديدة ‪ .‬أتسعت أبتسامتها على شفتيها وأصطبغتا بلون الخجل ‪ :‬أنا الحمد للـه تمام‬
‫والوظيفة كمان كويسة ‪.‬‬

‫ــ ياريت تسمحيلى أبقى أجى وأطمن عليكى كل يومين تالتة !‪ .‬كان رقيقا وجريئا فى آن واحد ‪ ..‬سرعان‬
‫ماتالشت بسمتها خلف مسحة من قلق تماوج على البشرة الملتهبة بحمرة أنفعال تحاول مداراته ‪ .‬لم ترد ‪.‬‬
‫أتجهت ناحية درجات السلم صعودا دون أن تلتفت إليه ‪.‬‬

‫دخلت شقتها الغارقة فى السكون ‪ .‬يوسف وبسمة يؤديان أمتحان أخر السنة ونورا مازالت فى األتيليه‬
‫بينما أيات فى غرفتها بصحبة نعمة يتهامسان ويستحضرن حكايات الماضى كالعادة ‪.‬‬

‫من جديد تستعيد كلمات خيرى القليلة وتطلق العنان لخواطرها التى تتصارع فى أعماقها مؤنبة ومبررة !‪..‬‬
‫إنها التستطيع أن تقول فى حقه مايعيبه ‪ ،‬هو طيب يتطوع بخدماته لكل من يحتاج ويكفى موقفه النبيل مع‬
‫أوالدها ‪ .‬أتجهت ناحية غرفتها ‪ .‬أغلقت بابها وراءها كمن تريد أن تتوحد بالرغبة ‪ ،‬أنفلتت تغالب شعورا‬
‫عارما زايلها منذ هجرت تلك الليالى الدافئة فى تلك الحجرة مع الراحل " نديم " ‪ .‬ألقت نظرة فاحصة على‬
‫نفسها فى المرأة ‪ ..‬جسد مشدود فى تناسق بال نتوء ‪ ،‬صدر ربما يشرع قالعه اليوم أكثر ‪ ..‬تراجعت للخلف‬
‫خطوتين لتتسع رؤيتها ‪ ،‬أصطدمت بحافة السرير الممدد فى المرأة يحكى عن ليال تقلبت فيها على أتساعه‬
‫‪249‬‬
‫تحت وطأة رغبة قاهرة متجددة ‪ ،‬التنضب ‪ ،‬ثم ها هى األن وحيدة ‪ .‬أرتمت فى وسط السرير ‪ ..‬تقلبت على‬
‫أكثر من جانب قبل أن تسند وسادتها إلى ظهر السرير ثم تمددت بأسترخاء وسط الهدوء والسبات فى‬
‫لحظات مابعد العصر فى حين تجهل على وجه التحديد كيف ستقضى الساعتين القادمتين ‪ ..‬المهم عندها‬
‫هو الفرار من شبح الوحدة التى قد تباغتها فى أية لحظة ‪ .‬تحدق فى سقف الغرفة وتغوص فى كتلة الزمن‬
‫الكبيس قبل أن تعتدل جالسة حيث شجعها المكان المستكين على خلع الحذائين وتجميع القدمين ثم تقلبت‬
‫على جانبها األيمن وأنكمشت فى بعضها ومكثت محشورة فى مالبسها مشرعة العينين نائمة صاحية‬
‫كأرنب حذر ‪ .‬نبهتها موسيقى هادئة تتسلل من غرفة أيات ‪ ..‬تنهدت ثم جربت تحريك القدمين وكأن بهما‬
‫خدر من فرط األنكماش ‪ .‬أرخت جفناها ‪ ..‬نامت ‪ .‬أستطاعت الغفوة السريعة أن ترحل بها إلى مستنقع به‬
‫أحاديث كثيرة ومتشابكة ومتشعبة تؤذى مشاعرها تتقلب فى طينه عيون ترصدها وتحوم فوق وحشته‬
‫طيور جارحة ‪ .‬كان يتجسد أمامها رجال له شراع وقدرة ‪ ..‬أغراها باألقتراب والتدقيق ‪ ..‬كان كيانا مغريا‬
‫يدعوها إليه ‪ .‬رجل وسيم ‪ .‬أبتسامته الصعبة التفسير يحرك فى النفس فضول التأكد أكثر مما يتطلب‬
‫األبتعاد والهرب ‪ .‬وظل هذا الرجل ‪ ،‬الذى بدا أنه يقترب أكثر فأكثر ‪ ،‬يبتسم ‪ ،‬إال أنها وبتركيز شديد تفتش‬
‫عنه فى ذاكرتها ‪ .‬ربما قابلته ‪ ،‬غير أنها لم تستطع أن تهتدى الى ذلك حتى أقتربت أنفاسه من أنفاسها‪،‬‬
‫فتقذف بجسمها فيه وتشعر به يرجها من كل جانب كأنه كفان يدلكانها يضرب فيه بذراعيه ‪ ،‬فاذا به قويا‬
‫يطوف بها فى الفراغ وخبأها فى صدره فأرخت جفنيها وحجبت عينيها فى صدره وركبت معه فى حلمها‬
‫حصان يقود لجامه الفارس " خيرى" وطار بها ‪ ..‬على نور النهار الشاحب الذى يصلها منهكا من نافذة‬
‫الغرفة عاونها على العودة لألستيقاظ ‪ ..‬التزال تضع يدها على وجهها فى محاولة لفهم الحلم ‪ .‬تساءلت‬
‫بينها وبين نفسها عن معنى هذا الحلم الخاطف الذى جهلت من بدايته كم سيكون موجزا وجميال ‪ .‬لكن‬
‫حلمها الذى هزها بعنف وأدهشها أيضا أن هناك رأى عام داخلها يوافق على وجود خيرى فى أحالمها !‪..‬‬
‫أثار الحلم بادية على مالمح وجهها وكأنه ينام تحت موجة تغمره ثم تنحسر فتغسله ‪ ..‬بدا كما لو أن هذا‬
‫الحلم أمنية طردتها من ذهنها على صوت أيات الذى أنبعث من ركن من األركان مخترقا الصالة متلكئا إلى‬
‫غرفتها ‪ :‬أصحى ياهدى ‪ ..‬أنتى ماعندكيش شغل تانى فى األتيليه وال أيه ؟‪ ..‬قامت ببطء وشعرت برغبة‬
‫جامحة لمصالحة أخر النهار بقبلة ! ‪.‬‬

‫‪0000000000000000‬‬

‫‪250‬‬
‫فى أعقاب هزيمتها النكراء وأفشال مخططها على يد فايزة ‪ ،‬بقيت بعدها بدرية طريحة الفراش عدة أيام‬
‫تتمدد جثة التقوى على الحركة فوق سرير ضاعف من أوجاعها وعلى حشية تقلق مطباتها نومها ‪ ،‬فكان‬
‫أول مابدر منها داللة الحياة أن تململ وضع ركبتيها فى حين أنطبقت شفتاها على أسنانها قبل أن تتقلب فى‬
‫األنين كما لو كانت اليقظة عذابا يفوق قدرتها ‪ .‬جاهدت بكل قوة أن تتماسك أمام موجات الزائرين من أهل‬
‫الحارة بحجة األطمئنان عن صحتها وأن كان القصد معاينة أثار " العلقة " البادية فى قسمات وجهها‬
‫ورقبتها ‪ ،‬وكانت اخر الواصلين " سهير " زوجة " عوض اللـه " فراش بمدرسة " األجيال األبتدائية "‬
‫وقد أتخذت مظهر األسى فى جلستها بجوار سرير بدرية وكأنها فى جلسة عزاء بين سواد العباية وسواد‬
‫الطرحة ودهشة الصوت حين قالت ‪ :‬اللى يشوف وشك يابدرية ياختى يقول أن تروماى عدى عليه رايح‬
‫جاى ‪ .‬بينما ترفع بدرية يدها ببطء كمريض يتلو وصية ‪ :‬ربنا يشل أيدك يافايزة ويشل رجليكى ياقادر‬
‫ياكريم ‪ .‬أنحنت سهير تدنو وجهها فى الوجه المنتفخ ‪ :‬لكن ماتأخذنيش يابدرية ياختى أيه اللى يخليكى‬
‫توافقى على جوازة بنتك الوحيدة فى السر كده زى اللى ‪ ..‬والمالوش الزمة ‪ .‬قالتها بنبرة شماتة بينما مثل‬
‫هذه األسئلة ترددت فى سمعها أكثر من مرة على ألسنة الزوار ‪ ..‬توجهت بنظرتها لـ " سهير " المحنية‬
‫وصبت فى أذنها كلمات مرتبكة ‪ :‬الحكاية مش سر والحاجة ياسهير أحنا قلنا نعمل كتب كتاب لغاية الولية‬
‫أمه ماتهمد وتهدى شوية وبعد كده كنا حنعمل فرح كبير فى الحارة وكان سى عوض اللـه وأنتى أول‬
‫المدعوين ‪ ..‬بس حنقول أيه فى بختنا ‪ .‬قامت سهير " ملوية" المالمح وقد بدا لها هذا العذر على هذا النحو‬
‫واهيا ومريبا ‪ ..‬مصمصت شفتيها ‪ :‬معلش يابدرية ‪ ..‬شدى حيلك ياختى وكل علقة وأنت طيبة ‪ .‬أنتفض‬
‫صدرها من كلماتها ‪ :‬وأنتى طيبة ياختى ‪ .‬وعندما أستوحدت فى غرفتها بعد أن أنحسرت عنها عيون‬
‫الشامتين أمعنت النظر إلى السقف الذى تساقطت منه قطع متنوعة الحجم والمساحة كأنما هو مصاب بداء‬
‫يأكل اللحم ويكشف العظم ‪ ..‬تاهت بنظراتها وشردت وسرحت بعيدا ثم عادت فى ظل أبنتها الساهرة على‬
‫حطامها ‪ ..‬نظرت إليها تعاين الفشل والعجز وقلة الحيلة المنحوت فى وجه نوسة قبل أن تلمح ببصرها‬
‫الزائغ بقعة مخضرة ضاربة إلى الزرقة تسكن كتفها األيمن ‪ ،‬ماتكاد العين تلمح وجودها حتى تتبين بدرية‬
‫أنها ليست الوحيدة من نوعها فى الجسم األبيض فتحسستها ‪ :‬ده أنتى كمان يابنتى نابك من الحب جانب ‪.‬‬
‫أبتسامة باهتة ‪ :‬أنا وانتى على الحلوة والمرة ياما ‪ .‬قالتها وشعرت فجأة بأنها الترتبط بالحياة إال بروابط‬
‫غامضة وغير مفهومة وتردد فى أعماقها السؤال مهزوما ‪ :‬كل اللى كنت بأحلم بيه راح ياما ‪ .‬تقولها‬
‫والتنتظر ردا من أم باتت فى عداد العاجزين جسما وتفكيرا بل راحت تدفن فى راحتيها عويال كأرتطام‬
‫الموج ‪ .‬وساد صمت قصير ثقيل قبل أن تستجمع بدرية أحبالها الصوتية ‪ :‬منصور ماأتصلش بيكى يابت ؟ ‪.‬‬

‫‪251‬‬
‫ــ أبدا ياما ‪ ..‬ده حتى موبايله مقفول على طول من يومها ‪.‬‬

‫ــ اللـه يكسفك ياأبن فايزة بقى دى برضه رجولة تسيبنا كده من غير كلمة والحتى سؤال ‪ ..‬أخييه ‪ ..‬واذا‬
‫بالسؤال يبزغ من أعماقها دون قصد والنية ‪ :‬يعنى لحد كده وخالص ياما ‪ ..‬أشيل منصور من دماغى ‪.‬‬
‫سحبت نفسا طويال نتج عنه وجعا فى قفصها الصدرى فأعتصرت عينيها ألما ‪ :‬ماحدش قال كده يابت ‪..‬‬
‫أصبرى شوية لما األمور تهدى وبعد كده نشوف أيه اللى يتعمل ‪.‬‬

‫ــ تانى ياما ‪ .‬قالتها بيأس ‪.‬‬

‫ــ تانى وتالت بس المرة الجاية حنعمل حسابنا كويس فى كل خطوة وأدينا أتعلمنا من اللى حصل وعرفنا‬
‫وبصمنا بالعشرة أن المرى فايزة دى قادرة وفاجرة وقوية القلب وعالجها الوحيد أنك تحافظى على‬
‫منصور زى عينيكى ويفضل عجينه طرية فى أيدك وخليكى وراه وحاصريه وماتحسسهوش بخيبته‬
‫والضعفه ومن تحت لتحت سخنيه وخليه يسترجل عشان يتصدر ألمه ويوقفها عند حدها ‪ ..‬فهمانى يابت‪.‬‬

‫ــ طب لو أمه ركبت دماغها وعاندت حنعمل أيه ساعتها ‪ .‬أشاحت بوجهها ‪ :‬واللـه ما أنا عارفة يابنتى ‪..‬‬
‫بس ساعتها حنكون عملنا اللى علينا وادى اللـه وادى حكمته ويبقى نصيبك مش معاه يانوسه ‪ .‬زلزل كالم‬
‫أمها قناعتها بأنها ستحصل على منصور وأحست أن الحجرة تضيق أمام عينيها ‪ ..‬كانت تتوالد بداخلها‬
‫رغبات متشابكة ‪ ..‬تضاعفت فقاقيع الخوف وأمتزجت بالكلمات القديمة ‪ :‬هى شكلها باين من األول اللى‬
‫زيى ياما مكتوب عليها عيشة الفقر بقية عمرها ؟!‪ .‬قالتها وألتفتت ألمها الحزينة وضمت يداها كتفيها‬
‫وأراحت حزنها فى حزن أمها ولمعت عيناها لمعانا خافتا وسط ضعفها وهى تربت برفق على صدر أمها‬
‫المترهل بال محبس ‪ :‬المهم دلوقتى أرتاحى ياما وإن شاء اللـه لما تشدى حيلك نبقى نشوف حنعمل أيه ‪.‬‬
‫أبتسمت األخيرة فى عينيها وهاجت فى نفسها لوحة قديمة كما تفور من باطن النفس فجأة رواسب منسية‬
‫قبل أن تستدعى مشهدا مشابها ‪ :‬عارفة يانوسة الحالة اللى أنا فيها دى من عضم متكسر وجسم متفكك‬
‫بتفكرنى بأول طريقى مع الفن ‪ ..‬كان يومها " محمد صبحى " بيعرض مسرحيته على مسرح سيد درويش‬
‫ويومها المتعهد طلبنى وقال حتشتغلى فى المسرحية بعشرين جنيه فى الليلة ولما رحت المسرح لقيت شلة‬
‫كبيرة من الكومبارس جايين مع صبحى من القاهرة وساعتها خدنى مسئول األنتاج على جنب وقالى‬
‫متشكرين مش عاوزين كومبارس من أسكندرية ‪ ..‬بعيد عنك يابت الكلمة دى وجعتنى وماسكتش وقلت‬
‫بعلو صوتى ياأشتغل ياتدونى العشرين جنيه وفرجت عليهم الدنيا وأتفتحت ماتقفلتش غير بعلقة أخت دى‬
‫بالظبط !! ‪.‬‬
‫‪252‬‬
‫ــ بجد ياما ‪.‬‬

‫ــ أى واللـه يانوسة ولو واحدة غيرى حصلها اللى حصل ده كان زمنها كرهت الفن واللى فيه لكن أمك‬
‫بعون اللـه أصرت وكملت طريقى لغاية األخر عشان الفن ده رسالة ‪ .‬كررت نوسة خلفها نفس الكلمات‬
‫األخيرة بنبرة قلق وتخوف ‪ :‬كملتى طريقك والفن رسالة ياما ‪ ..‬باين عليها الولية المفترية فايزة كانت‬
‫أيدها تقيلة على دماغها وال أيه ؟! ‪.‬‬

‫‪00000000000000‬‬

‫يبدو المقهى خاليا فى تلك الساعة بين العصر والمغرب ‪ ،‬فى الخارج مائدتين مضمومتان الى بعضهما‬
‫يجلس عليهما صنايعية معمار بدت أياديهم ناعمة من قلة الشغل بينما جلس عبده صامتا يدخن شيشته‬
‫بجوار أبنه الذى أغمض عينيه وشبك أصابعه تحت رأسه المسنودة على حافة الكرسى فاردا رجليه أمامه‬
‫سابحا فى كتلة من الهم واليأس بينما عبده أخفى قلقه وصنع لنفسه وهما من األسترخاء قبل أن تتدافع‬
‫فجأة الكلمات على لسانه ‪ :‬ماتزعلش يامنصور وسلمها للـه وكل شيىء حيتصلح ويبقى تمام بس أنت‬
‫ماتشلش فى نفسك لحسن يمسك فيك المرض ‪ .‬قال ذلك وقد شعر فى قرارته بأن هذه األزمة تقرب بينهما‬
‫بطريقة ما ‪ ..‬فى حين تنهد منصور وأرتد إلى حزنه وإلى عوالمه المعقدة ‪ ،‬الصاعدة ‪ ،‬بكآبة السبيل‬
‫لصرفها ‪ .‬وأمام مثل هذا الحجم من الكآبة الينفع تشجيع واليفيد أستفزاز ‪ .‬سكنته قلة الحيلة وأستغرقته ‪،‬‬
‫حتى أنه لم يسأل نفسه ذلك السؤال البسيط الذى يرد فى مثل هذه الحالة ‪ :‬الجوازة أتفركشت وشكلى بقى‬
‫قدام نوسة عامل زى اللى ماشربش بريل ‪ ..‬يعنى البت راحت منى وأمى خالص حطتنى فى دماغها وبقت‬
‫الخسارة من الناحيتين ‪ ..‬أعمل أيه ياربى ؟!‪ ..‬فى حين كان عبده صامتا يتابع أبنه الذى بدا تائها فى‬
‫ملكوته ‪ ،‬فأزاح طاقيته وهرش رأسه ‪ ..‬يستعيد أحساس الماضى أيام الجبروت والفتونة وشعر كمن يخرج‬
‫من حال لحال ‪ ..‬يغادر مهانته ‪ .‬كان مؤرقا بكيفية التخلص من تسلط فايزة وحصارها له والتى تنضج داخله‬
‫فى صمت ‪ ..‬شعر فى وجودها بأنه تضاءل مثل فأر وتحول وجودها إلى مارد فى حين تكبر الضغينة وتلتف‬
‫بقلبه مثل أفعى ‪ .‬سحب نفسا شديدا من الشيشة كى الينام الحجر الجديد فى بدايته قبل أن يرفع رأسه وهو‬
‫يطلق الدخان فى وجه منصور ‪ :‬أنت حتفضل سحنة أمك مقلوبة كده على طول وال أيه ؟‪ .‬مد رجليه‬
‫مستسلما ‪ :‬وحأعمل أيه بس يابا ‪ ..‬أمى دمرتنى وحرمتنى من نوسة وسودت الدنيا كلها فى عينيه ‪ .‬أزاح‬
‫المبسم ‪ :‬ماتبقاش طرى كده وخفيف كل مشكلة ولها حل ‪ .‬بدا منصور وكأنه يعانى أعراض مرض‬
‫غامض‪ :‬طب ماتقولى على الحل يابا ‪ .‬نكس رأسه ‪ .‬وحين ينخفض بصره فأن دماغه يزداد‬
‫‪253‬‬
‫نشاطاوأسترجع عبده قصة حياته مع فايزة التى مرت أبرز محطاتها امام عينيه ‪ ..‬وفى ضوء تلك اللحظة ‪،‬‬
‫أبصر خالل األعوام الطويلة تكرارا لعينا لموقف واحد تعس ؟‪ ،‬موقف رجل اليكاد يمسك بشيىء حتى يفلت‬
‫منه‪ ،‬خرج يفكر هذه المرة فى شيىء يمكن أن يبقى طويال فى يده ‪ ..‬هو على يقين بأن فايزة قريبا‬
‫ستكتشف االعيبه فى حسابات المقهى وحتما ستجرده من كل شيىء بدءا من وجوده فى المقهى وهو‬
‫مايعنى سحب لقب " المعلم " منه وإنتهاءابتحديد إقامته والتى سيترتب عليها خلال فى قواه العقلية ومن‬
‫بعدها يتحول إلى مجذوب فى حارة المنجى ‪.‬‬

‫تابعه منصور فى ملل ‪ :‬هو أنا يابا كل ماأقولك شوفلى حل تتوه منى وتسرح فى دنيا تانيه ! ‪.‬‬

‫ــ أنا مش سرحان والتايه منظرك هو اللى قلب على المواجع ‪ ..‬أنا بقالى خمسة وعشرين سنة عايش مع‬
‫أمك ماشفتش يوم واحد عدل والحسيت أنى عايش فى أمان زى بقية الخلق وأوعى تبقى غشيم زى الناس‬
‫وتقولى أنها عملتك بنى أدم وخلتك صاحب قهوة ‪ ..‬ال يابنى أوعى تصدق الحكاية كلها كانت ماشية مع‬
‫مزاجها وعلى كيفها وهيه اللى سعت من البداية عشان ترسمنى الرسمة دى كانت عايزانى منظر عشان‬
‫يليق ببنت المعلم وأنا الوحيد اللى كنت على أد أيديهم ‪ ..‬أبوها كان عيان والقهوة كانت محتاجة لواحد زيى‬
‫يعرف يسد مع األوباش اللى هنا ‪ ..‬ضحكة مكتومة ثم تابع بمرارة ‪ :‬عارف لو كان الورث ده دكانة‬
‫وال مصنع والحتة أرض كانت أمك قلبتنى من زمان وطلعتنى معاش من بدرى ‪ .‬نفخ من جوفه كبتا ‪:‬‬
‫الخالصة يابنى اللى أنت شفته من أمك فى بيت بدرية دى عينه شر محندقة ‪ ..‬أمك جواها مخزن غباوه‬
‫وجبروت ولو طلعت اللى جواه عليك ساعتها الحتعرف صلة رحم والحيشفعلك أنك الحيلة عشان كده‬
‫أسترجل وأنشف بدل الخيبة اللى أنت فيها دى البتاكل والبتشرب والزق فى القهوة ليل ونهار ‪.‬‬

‫ــ ماليش عين يابا أورى وشى للناس وكفاية المهزأة اللى خرمت ودانى فى الرايحة والجاية ‪ ..‬تلفت‬
‫متساءال وعينيه لم تستقر بعد ‪ :‬هو الوله جمال النونو ماظهرش ‪.‬‬

‫ــ ماشفتش خلقته النهارده ‪ .‬أجابة منصور أشعرته باألمان فقرب كرسيه وهمس ‪ :‬بذمتك يامنصور لما‬
‫أمك كانت فى السجن مش كانت أمورنا أنا وأنت ماشية تمام وأيامنا كلها كانت بتضحك وكنا عايشين أخر‬
‫مزاج وفرفشة ‪ .‬مستغربا ‪ :‬قصدك أيه يابا ؟!‪ .‬يضغط على الكلمات ‪ :‬جاوبنى بس ‪.‬‬

‫ــ أيوه صح ‪.‬‬

‫ــ يعنى كنا أحنا الجوز أخر أنبساط ومصروفك كنت بتاخده بالزيادة و اللى نفسك فيه بتعمله ‪ ..‬صح الكالم ؟‬
‫‪254‬‬
‫ــ تمام بس مش لوحدى أنت كمان كنت واخد راحتك ع األخر وكل يوم والتانى دايس فى جوازة عرفى‬
‫وماحدش بيقولك تلت التالتة كام ‪ .‬يسحب أنفاس قصيرة الهثة ‪ :‬مش حأنكر وأقولك أل ‪ ..‬ثم صمت وبدا‬
‫عليه أن فكرة قد أشرقت فى ذهنه وخرجت منه نبرة كنبرة الخالص ‪ :‬الولية دى الزم تختفى من حياتنا‬
‫عشان نعرف نعيش تانى زى األول بدل عيشة المطاريد دى ‪ .‬وكأنما ومضت الفكرة برأسه وهتف دون‬
‫وعى ‪ :‬هو ده الحل الوحيد اللى يريحنا ويريحها ‪ .‬توقظ كلماته صدى داخله وزاد أنتباهه فجأة ‪ :‬أيه اللى‬
‫بتقوله ده يابا ؟! ‪.‬‬

‫ــ ماتخليش دماغك تروح لبعيد أنا مش قصدى شر الحكاية ومافيها أن فى صنف من البشر لما يتمكن‬
‫ويحس أن الدنيا بقت فى أيده وأدتله من وسع مايحمدش ربنا ويزيد أفترى ويتعب اللى حواليه وفى صنف‬
‫تانى لما تلجمه وتحبسه يهمد ويرتاح ويريح اللى حواليه وأمك بقى من الصنف ده وعلى يدك وقدام عينك‬
‫لما كانت فى السجن كانت بالصال ع النبى زى الوردة المفتحة وصحتها زى الفل وشرها كان ملموم !!‪ .‬ثم‬
‫مال برأسه يدس بوز الشيشة فى بوزه قبل أن يقلب عينيه فى وجه منصور مستطلعا سريان الكالم فى‬
‫مالمحه ‪ .‬بينما أبنه هرش بأصبعه ذقنه ‪ :‬معنى كالمك أن أمى الزم ترجع السجن تانى عشان أحنا نرتاح ‪.‬‬
‫خفض من صوته وظلت دعوات الشر ‪ ،‬تنطلق من أعماق أعماقه ‪ ،‬تغسل دعوات الصبر ‪ ،‬التى كانت ‪،‬‬
‫باألمس القريب ‪ .‬همس فى ضيق ‪ :‬ماأنا قلتلك ياغبى ياأبن الكلب أمك مصلحتها وراحتها لما تكون أسيرة‬
‫فى السجن وأنا وأنت مصلحتنا وراحتنا لما تكون هى بعيد عننا ‪ .‬حاول أبعاد عينه عن عينى أبوه طمعا فى‬
‫لحظة تركيز وتخفيفا لوطأة الكالم على دماغه فرجع بظهره إلى ظهر الكرسى يتأمل العابرين أمام مدخل‬
‫المقهى فى حين شعر عبده أن أبنه الزال فى حاجة لجرعة أخرى ‪ :‬وعهد على لو ده حصل أول حاجة‬
‫حأعملها أروح معاك بنفسى عند بدرية كومبارس وأجوزك البت نوسة ‪ .‬أستراح منصور للجملة األخيرة ‪.‬‬

‫مرت ساعة حتى أفرغ عبده مايبطن ‪ ،‬ويصب فى دماغ أبنه المذهول كالما يعجز عنه أى شيطان أوداهية ‪..‬‬
‫شعر بكلمات أبوه تحتمل تفسيرات متعددة ‪ ،‬أكتسبت أجنحة شيطانية تحلق به فى سمائه الغائمة ‪ .‬إال أنه‬
‫تمتم بأرتباك ‪ :‬طب ماتشوف حل تانى يكون مبلوع ومن غير أذية ‪ ..‬دى برضه أمى ‪ .‬عاجله قبل أن يشرع‬
‫فى تخيل جديد ‪ :‬ياوله أحنا مش حنأذيها أحنا زى ماتقول كده حنحافظ عليها ونحميها من نفسها وتبقى‬
‫قدام عنينا فى مكان أمين ‪ ..‬ثم عال صوته نسبيا كى اليشرد منه ‪ :‬وإياك تقولى أننا ممكن نعيش براحتنا‬
‫وهيه موجودة فى وسطينا ‪ ..‬ده أنت لمؤاخذة تبقى أفا ياأفا ‪ ،‬أمك دى عاملة زى بتوع أمن الدولة عارفة‬
‫كل حاجة عننا يعنى ياحلو مش حينفع معاها ال لف وال دوران وال تلعب بديلك عشان كله مرصود وتحت‬

‫‪255‬‬
‫عينيها ‪ .‬ظلت كلماته تحفر لنفسها بئرا فى النفس يزداد عمقا ‪ ،‬حتى أستوطنت وأستقرت ‪ ،‬تقطع صوته‬
‫بالخوف وهو جالس فى حيرته كالمطارد ‪ :‬والكالم ده أزاى يحصل يابا ‪ .‬بدأت األحتماالت الشريرة‬
‫والسيناريوهات الخبيثة تسبح فى ذهنه كالذباب على القمامة فأختصرها فى جملة عائمة ‪ :‬أتقل لغاية‬
‫مالفكرة تتخمر فى دماغى ‪ .‬نظر فى وجه أبوه ثم نظر أمامه ساهما ‪ ..‬أدخلته الفكرة الى عالم الال معقول ‪..‬‬
‫كان ذلك يفوق أستيعابه ‪.‬‬

‫بينما على الجانب األخر لم تتأخر خطط فايزة كثيرا ‪ .‬سارت بخطوات ثابتة بصحبة أفكار طموحة ‪ ..‬نموذج‬
‫لحالة بشرية تحمل كل المتناقضات فكانت زيارتها الخاطفة والمهمة لمكتب " محمود المحامى " بداية عهد‬
‫جديد تستعد له ‪ ..‬أستقبلها من وراء مكتبه بهيأة عصر الستينات نضارة بأطار أسود عريض وجسد ملفوف‬
‫ببدلة " فيرانى " قماشها متصلب تعوق حركته ‪ ،‬يحاول أن يظهر األبتسامة من بين ثنايا مالمحه الجامدة ‪،‬‬
‫أشار لها بيده ‪ :‬أستريحى ياست فايزة ‪ .‬وضعت ساقا فوق ساق تتفحص المكان طويال ثم نظرت إليه‬
‫بأقتضاب ‪ :‬مكتبك زى ماهوه مافيش حاجة أتغيرت فيه من أربع سنين ‪ .‬سحب سيجارة من علبته حتى‬
‫منتصفها وقدمها لفايزة التى سلتتها ثم دار بعينيه معها فى المكان ‪ :‬واللـه مافيش وقت ياست فايزة بس‬
‫أنا ناوى قريب أعمل عمرة كبيرة ‪ .‬قالها ومد يده داخل درج مكتبه وأخرج ملفا وراح يحدثها وهو يعبث‬
‫بأوراق مطوية داخله ‪ :‬أدى حجة البيت بتاعة حارة أبن شكر ودول عقود األيجار بتوع األربع شقق وآدى‬
‫العقدين بتوع المحلين ‪ ..‬تناولتهم من يده ثم ألقت عليهم نظرة فى حين سحب شهيقا عميقا دليل الحيرة‬
‫الشديدة قبل أن تعيد له األوراق ‪ :‬هى دى كل األوراق اللى تخص بيت أبن شكر ‪ ..‬فهمنى بقى أيه الحكاية‬
‫وبتفكرى فى أيه ؟ ‪ .‬نظرت له طويال وكأنها تستعد ألظهار مفاجأة ‪ :‬أنا نويت أهد البيت وأجيب عاليه‬
‫واطيه ‪ .‬خفت صوته وأستغرق نظره كل مالمحها ‪ .‬كرر ‪ :‬تهدى البيت !‪ ..‬طب أزاى ؟‪ .‬تهز رجلها‬
‫المعلقة ‪ :‬بأى طريقة يامتر ‪..‬أمال أنا جايالك ليه مش عشان تفكر معايا وتشور علي ‪ .‬يرفع حاجبيه‬
‫وأضاءت السيجارة المعلقة على شفتيه فى أعقاب نفس طويل سحبه بعمق يحاول لملمة أجابته ‪:‬‬
‫المفروض أول حاجة نعملها نقعد مع السكان األول نجس النبض وبعد كده نشوف طلباتهم أيه ونتفاوض‬
‫معاهم وربنا يقدم اللى فيه الخير ‪ .‬بدا واضحا العناء فى مالمحها ‪ :‬خالص أبدأ على طول ياأستاذ محمود‬
‫وشوف ميتهم أيه ‪ ..‬بالذوق بالتراضى ماشى بقلة األدب والعافية برضه ماشى ‪ .‬مبتسما ‪ :‬الصراحة ياست‬
‫فايزة فكرتك دى صح أوى وجديدة عليكى وأنا شايف أنها حتبقى فتحة خير ورزقها حيبقى واسع خصوصا‬
‫وأن مساحة البيت كويسه وممكن تطلع عمارة محترمة ‪.‬‬

‫‪256‬‬
‫ــ أنت مش غريب ياأستاذ محمود أنا فكرت فى الموضوع ده من مدة بس كنت تقالنة شوية لما أشوف أولى‬
‫من أخرى وآهو كل شيىء بأوان وأنا شايفة أن اليومين دول همه عز األوان وقلت ألحق والدنيا لسه كده‬
‫فكة وسايبة ماحدش عارف بعد كده اللى جاى ‪ ..‬وأدينى أتكلت على اللـه وبدأت من أمبارح و أتفقت مع‬
‫مقاول من حبايبنا وخليت مهندس من الحى يطل ع البيت فى الكتمان ‪ .‬تصدى لها بضحكة ذات صدى ‪ :‬طب‬
‫مش األول يامعلمه نتفق مع السكان ونراضيهم عشان ماحدش فيهم يعاكسنا ‪ .‬بادلته ضحكة منغمة لها طعم‬
‫السخرية ‪ :‬أيه الحكاية يامتر أنت مش واخد بالك وال أيه ‪ ..‬أنا المعلمة فايزة عبد المقصود ‪ .‬يتفحص‬
‫عينيها ثم ينكس رأسه ومالمح األبتسام ترتسم داخل عينيه ‪ :‬عندك حق فاتتنى دى وع العموم ماتشغليش‬
‫بالك من بكره حأبدأ أتكلم مع السكان وحأتصرف معاهم ‪.‬‬

‫ــ أتصرف زى ماأنت عايز ‪ ..‬لكن لغاية الولية اللى أسمها بدرية وبنتها مالكش دعوة بيهم بلغهم بس أن‬
‫الكالم حيبقى معايا أنا ‪ .‬أمتزجت كلماته بضحكاته ‪ :‬كرموز كلها بتتكلم على العلقة اللى أخدتها بدرية‬
‫كومبارس ‪ .‬قامت من مكانها تضبط طرحتها ‪ :‬وحياتك عندى ده لسه دورها معايا ماخلصش ‪ ..‬بسالمتها‬
‫فاكرة انها تقدر هى والسنكوحة بنتها تكعبل الوله منصور وتدبسه فى جوازة ‪ ..‬شوف ونبى المرى الهبلة ‪.‬‬
‫أنهت جملتها بضحكة ثم مدت يدها تصافحه بينما أبدى هو مالحظة واجبة ‪ :‬واحدة واحدة ياست فايزة‬
‫منصور كبر وبقى راجل أمشى معاه بالنصيحة واألقناع عشان مايركبش دماغه حاولى تكسبيه بدل‬
‫ماتخسريه ‪ .‬أنسحبت ناحية الباب قبل أن تناوله نظرة ركنية ‪ :‬المهم أبدأ أنت بس وركز معايا وعايزة أسمع‬
‫أخبار كويسة عشان أنا كمان حأديك حاجات كويسة ‪ .‬أبتسم وسبقها يفتح الباب ‪ :‬ربنا يعمل اللى فيه‬
‫الخير ‪ ..‬مع ألف سالمة ياست فايزة ‪ .‬بينما كان جمال النونو يقف فى وسط حجرة األستقبال فأردا أبتسامة‬
‫ويفرك كفيه وهو يتسلم فايزة عند عتبة الباب ‪ :‬أتفقتى على كل حاجة يامعلمة ‪.‬‬

‫ــ أصبر يامنيل ماتبقاش لحوح كده ‪ .‬ثم سحبته وخرجت ‪.‬‬

‫‪0000000000000‬‬

‫خيرى ‪ ..‬الزالت أرادته ماثلة كلها فى رغبته فى ترويض الواقع وتشكيله ‪ ،‬ال فى األنكماش أمام صدمة‬
‫الواقع والقبول به ‪ ..‬بدا له فى السنوات الماضية التى قضاها مع زوجته ‪ ،‬أنه سبق له أن عاش حياته كلها‬
‫وأنه عرف كل شيىء ‪ ..‬التعاسة ‪ ،‬والمهانة ‪ ،‬والكرامة والحب واللذة ‪ ..‬وأنه أعتزل العالم كناسك أرمل‬
‫وأنه لم يعد ينتظر أى شيىء ‪ ،‬كان يعتقد أن عاطفته ماتت تجاه النساء ‪ .‬وهاهى ذى الحياة الدنيا تبدو له‬

‫‪257‬‬
‫فجأة من جديد فى عينى هدى ‪ .‬ولم يكن سوى عزم أنتهت إليه حيرته وأوحى إلى نفسه أن تستريح إليه ‪،‬‬
‫أن يتعرض لهدى أن أتاحت له المصادفة لقاء معها ويكلمها كى يظهر له الخيط األبيض من الخيط‬
‫األسود ‪ ..‬مر أسبوع وقد لمحها فيه ثالث مرات فى ظروف لم تكن تسمح للكالم بينهما ‪ ،‬وأن كاد يتكلم فى‬
‫مرة لكن نفسه لم تطاوعه ‪ .‬عند باب األتيليه كان ينتظر خروجها ‪ .‬قرر أن يحادثها ‪ ..‬جهز نفسه لبضع‬
‫كلمات يقولها ويفجرها أمامها ‪ ،‬كان كل مايسعى أليه هو تحديد موعد يجمعهما ‪ ..‬وبدا له وهو واقف على‬
‫عتبة األتيليه أنه أشبه بمن يقف على قمة جبل ‪ ..‬الصعود مستحيل وتحت قدميه هاوية ليس لها قرار ‪.‬‬
‫حاول األحتفاظ بأكبر قدر من الجرأة ‪ ،‬ذلك القدر سيمكنه من خوض مواجهة غير محسوبة العواقب ‪ .‬وقف‬
‫منزويا حتى لمحها تفتح الباب وتخرج ‪ .‬أندفع نحوها ‪ ..‬تسمرت فى مكانها ‪ ..‬مد يده لها مصافحا ‪ ..‬قبض‬
‫على أصابع ساحرته المرتعدة التى بدت كتمثال ‪ ،‬لم يكن هناك مجال لحديث طويل أو تمهيد وقال لها بأعذب‬
‫صوت سمعته ‪ :‬محتاج أشوفك ضرورى !!‪ .‬جف ريقها وهى تنظر إليه والدهشة تقتلها ‪ :‬خير ‪ ..‬ليه؟ ‪.‬‬

‫ــ فى موضوع ضرورى الزم أخد رأيك فيه ‪ .‬لم تحدد موقفا ‪ ،‬بدا ذلك من أضطرابها ‪ ،‬لم تبد رغبة‬
‫والفضول ‪ .‬فكان سؤالها محايدا وضعها فى منتصف المسافة بين الرفض والقبول ‪ :‬ماينفعش يعنى تقولى‬
‫اللى أنت عايزه هنا ؟‪ ..‬التقط ترددها ‪ :‬ماينفعش ‪ .‬حاولت أن تصل إلى سبب أو تفسير ‪ :‬موضوع‬
‫مهم أوى؟ ‪.‬‬

‫ــ جــدا ‪.‬‬

‫ــ طب قولى بخصوص أيه ؟‪ .‬قصرت الكلمات وطالت بينهما النظرات وأستشف منها الرضا فى ومضة‬
‫العين وأندفع يؤكد أال تضن عليه بالموعد ‪ ،‬فما تقع المعجزات كل يوم ! ‪ .‬قالت وعينيها فى عينيه ‪ :‬ربنا‬
‫يسهل ‪ .‬هدى لها قدرة على كبت عواطفها وتلك البسمة المعلقة على شفتيها ‪ ،‬فى الرفض ‪ ،‬وفى الرضا !‬

‫ــ حأستناكى يوم الخميس فى نفس الوقت ده فى كافتيريا سان أستفانو اللى قدام محطة الترام ‪ .‬لم ترد‬
‫وظلت تصعد درجات السلم وهو بجوارها ‪ .‬وما أن وصال إلى " بسطة " طابقهما أتجهت بعينيها نحوه ‪..‬‬
‫هزت رأسها بالموافقة ثم أندفعت إلى شقتها كالطائر الرشيق ‪ ،‬فتلقت ببدنها المنتفض كله وقع نظرته‬
‫الظافرة الفاهمة التى رأى فيها أنثى يرتاح الرجل لعشرتها ‪ ،‬فهى للحق مخدة من ريش يغطس فيها ‪ ،‬ينام‬
‫عليها ويحس النعومة من تحته وفوقه ‪ .‬نكست رأسها ودخلت ‪ .‬أما هو فما من عبد فى تاريخ األنسانية‬
‫كلها كان أسعد منه بعبوديته ‪ .‬إذ هو واقف وقفة البطولة أمام باب شقته غير مصدق جرأته ‪ .‬أنه فى تلك‬
‫اللحظة أعتقد أن األقدار لم تضع تلك المرأة البيضاء الوردية فى طريقه عبثا ‪ .‬ثمة ما هو مقدر ومرسوم‬
‫‪258‬‬
‫ومدبر وال حيلة لنا به ‪ .‬بينما هى لم تكن تعلم أنه تغلغل فى كيانها إلى هذه الدرجة رغم فرارها كل صباح‬
‫من تلك األحالم التى يظهر فيها خيرى ‪ ،‬كانت تراها من جديد تتجسد فى خيالها فى ساعات الراحة بين‬
‫العصر والمغرب تسحبها من عالمها وتدخلها الى أحاسيس ومشاعر متناقضة وكأنه فى المنام قدرها الذى‬
‫يلزم أن تتحاشاه ‪.‬‬

‫فى المساء كانت قد أنهت هدى أخر جوالتها األستكشافية داخل األتيليه تلقت خاللها تشجيعا منقطع النظير‬
‫من زيزيت ‪ ،‬كما تلقت تأنيبا مقتضبا على لسان نورا التى أستوقفتها بجوار حجرة البروفات عاقدة يديها‬
‫على صدرها وتهتز فى وقفتها بعصبية ‪ :‬مش كفاية لحد كده ياماما أنتى أتأخرتى أوى على يوسف‬
‫وبسمة‪ .‬ترددت للحظات قبل أن تستسلم لرأيها ‪ :‬عندك حق يانورا أنا نسيت نفسى وكمان أنا جايبة شوية‬
‫حاجات من السوق حتعجبك أوى ‪ .‬نطقت جملتها بسعادة وتوجهت لمكتب زيزيت الخالى حيث خرجت من‬
‫ساعة لحضور حفلة زواج تلبية لدعوة أحد المتعاملين الكبارمع األتيليه ‪ ،‬أضطرت للذهاب منفردة بعد‬
‫رفض نورا القاطع السماح ألمها بمرافقتها بحجة ضرورة تواجدها مع يوسف وبسمة أثناء المذاكرة ‪.‬‬
‫سحبت حقيبتها من على المكتب ومرت تحت رعاية نظرات نورا التى تتبعتها بينما نظرت هدى فى عينيها‬
‫مبتسمة ‪ :‬تحبى أعملك حاجة حلوة جنب العشا وال تسبينى أنا أعمل حاجة على مزاجى ‪ .‬قالتها وأقتربت‬
‫منها تكتم فرحة تالعبت فى عينيها ‪ :‬أمك أتحينت أمبارح ورحت السوق لميت شوية حاجات حتعجبك ‪ .‬ألف‬
‫جنيه كانت كافية لصنع كيان منافس وان كان اليزال وليدا ‪ .‬أرادت زيزيت أن تشعل حماستها وتشعرها‬
‫بقيمتها فمدت لها عشر ورقات مطوية من فئة المائة جنيه ‪ :‬خدى دول ياهدى أصرفى منهم وجيبى كل اللى‬
‫نفسك فيه وأول الشهر فى كمان زيهم ‪ .‬فور سماعها الخبر أنتاب نورا قلق أحاط رأسها كعمامة تخفى‬
‫تحتها حيرة وتضع أمامها عالمات أستفهام عند نهايات أسئلة بدت شاذة فى محتواها ‪ ،‬إال أنها أخفتها‬
‫وراء أنفراجة مصطنعة رسمتها على شفتيها ‪ :‬أى حاجة تعمليها ‪ ..‬مافيش مشكلة ‪.‬‬

‫ــ خالص ياحبيبتى زى ماتحبى ‪ .‬رددتها وهى تمشى ناحية الباب التى دفعته وأنسلتت منه للخارج وأعتلت‬
‫أول درجة سلم بينما توقفت نظرات نورا عن اللحاق بها حين أختفت مع دوران السلم قبل أن تعود أدراجها‬
‫للداخل متجهة لحجرتها محميتها الخاصة وحاضنة أفكارها ‪ ..‬فور دخولها أزاحت جو الطموح الساكن فى‬
‫فراغ الحجرة بتنهيدة ممتدة يتقافز منها شيطان أمرد صغير يدعوها لفرض حصار الغرض منه تحجيم‬
‫طموح أمها المتصاعد قبل أن تتجسد أمامها ‪ ،‬أمرأة قوية تثبت وجودها فى األتيليه وتصعد درجات السلم‬
‫التى سبقتها فيها وهو ما يعنى قوة لوجودها فى األتيليه والبيت ‪.‬‬

‫‪259‬‬
‫لم تجلس خلف الماكينة كعادتها بل أحتمت بكرسى صغير أنحشرت فيه كما أنحشرت أفكارها داخل رأسها‬
‫تتصارع فيما بينها لفترة ليست بالقصيرة تفتش عن أجابة لسؤال ينهشها ‪ :‬أيه اللى جرالك يانورا وخالكى‬
‫قلقانة كده ومتوترة ؟‪ ..‬الزم تعرفى أن وضعك مافيهوش فصال ومستحيل ألى حد مهما كان يقدر يتخطى‬
‫دورك ويقلل من وضعك ‪ ..‬لم تكن أجابة بل أستنتاجا ‪ ..‬أضافت تدلل لنفسها ‪ :‬أنتى نورا اللى نص شغل‬
‫األتيليه بيطلع من تحت أيدها وال نسيتى ‪ ..‬أنتى نورا صاحبة البيت اللى ماحدش يقدر يتحرك خطوة اللى‬
‫بموافقتى ‪ .‬أدلت رأسها وضمت ساقيها وهزت ركبتيها ‪ :‬طب يبقى خايفة من أيه ؟!‪ ..‬إال أنها لم تدرك‬
‫ماينبغى عليها فعله ‪ ،‬الزالت الصورة غائمة ‪ ..‬تطاردها أفكار مجنونة تدور فى عقلها عن خسارة فادحة‬
‫تنتظرها ‪ ،‬لم يكن من السهل عليها معرفة حجم الخسارة المنتظرة وأن كانت على يقين تام بأنها ستكون‬
‫على يد أمها ‪ .‬أغمضت عينيها وكأن شيىء خفى داخلها يقاوم مخاوفها ‪ .‬تذكرت مواقف وأفعال وأشياء‬
‫وباتت تباعد شبح األم عن دماغها ‪ ،‬الذى ألتهب باسترجاعات الماضى منذ لحظة تصديها لمسئولية البيت‬
‫وأخوتها وعمتها ‪ .‬إال أنها فتحتهما بسرعة بعدما حسمت األختيار ‪ ..‬فقدأن الذاكرة أفضل !! ‪.‬‬

‫فى تلك اللحظات ‪ ..‬فقدت بسمة روح الدعابة مؤقتا ولبست قناع الجدية حين أحتل وجهها وجوما لم تفلح‬
‫فى أخفاءه عن عينى أخوها يوسف الذى تراكم إلى جوارها على كنبة األنتريه يتابعها بمالمح من أصيب‬
‫بنوع نادر من األضطراب حين طرحت عليه سؤاال بدت أجابته بالنسبة له محل شكوك وغموض ‪ :‬يعنى‬
‫أنت عايز تفهمنى أن من يوم ماهدير جت هنا البيت لغاية دلوقتى ماعلقتش على أى حاجة وال لمحتلك بأى‬
‫كلمة عن اللى ماما قالته ‪ .‬كرر على أسماعها محاوالته الفاشلة فىأستنطاقها وسحبها لموضع تظهر فيه‬
‫ماتبطن ‪ ،‬إال أنها لم تبد مرونة وتعللت بضغط األمتحانات قبل أن تقلل من مخاوفه بكلمات بدت طبيعية ‪:‬‬
‫أنت اللى فى أيه يايوسف ‪ ..‬كل يوم والتانى تسألنى مالك مالك ‪ ..‬أنا زى ما أنا كويسة أنت اللى مش طبيعى‬
‫وأسئلتك بقت غريبة أوى ومش مفهومة وياريت تبطل ألغازك اليومين دول لغاية ما نخلص أمتحانات وبعد‬
‫كده نسأل بعض زى ماأنت عايز ‪ .‬بدت غريبة وهى تتقمص دور الحكمة فقالت بسمة رأيها ببطء ‪ :‬متهيألى‬
‫يبقى مافيش داعى للقلق يايوسف ‪ ..‬لو هدير كانت خدت بالها من أى حاجة أو حتى شكت فى كالم ماما أكيد‬
‫كانت حتسألك ومش حتعديها ‪.‬‬

‫ــ هو ده اللى محيرنى أنها ال سألتنى وال حاولت تفهم منى أى حاجة وكأنها ماجتش عندنا البيت أصال ‪.‬‬
‫رفعت رجليها المدالة على الكنبة وطوتهما تحتها ‪ :‬مع أنى شايفه أن األمر ده غريب ومايدخلش الدماغ‬
‫بس ممكن يعدى خصوصا أن هدير من النوع اللى ماياخدش باله من األمور دى ‪ .‬هز رأسه متفهما وجهة‬

‫‪260‬‬
‫نظرها كأنه يبعد عن رأسه آفة الشك ‪ .‬فتابعت‪ :‬يبقى خالص كبر دماغك وماتشغلش نفسك وكفايه عليك‬
‫أنها بتعبدك عبادة وبتموت فيك ده غير أنها أنسانة سهلة ومش معقدة ومافيش حاجة بتفرق معاها يعنى‬
‫بالبلدى أنت واقع واقف وحاطط بنت الحاج أحمد الشهاوى فى جيبك الصغير مش زى ناس واقعين فى‬
‫ورطة سوده ومش عارفين يطلعوا منها ‪ .‬أنكمشت عينيه مبديا الدهشة ‪ :‬ورطة أيه يابسمة ‪ .‬خبطت‬
‫فخذيها بكفيها تتمايل فى جلستها كالمعددة ‪ :‬أختك اللى قاعدة جنبك خيبتها كبيرة أوى يايوسف ‪ .‬بحث فى‬
‫عينيها يترقب ‪ :‬أيه اللى حصل ؟ ‪.‬‬

‫ــ أمجد راكب دماغه وعايز يتقدملى وناوى يقابل ماما أول مايتخرج ‪.‬‬

‫ــ أنتى يابنتى مش قلتى أن ظروفه متنيلة وأحواله صعبة ‪ .‬دارت ضحكتها خلف أصابعها ‪ :‬ماهو عايز‬
‫يطلب من ماما تشوفله عقد عمل فى الخليج !‪ .‬تحسس كلماتها ثم تداوال فيما بينهما نظرات ساهمة‬
‫حتى بادر بأبتسامة باهتةأتبعها بضحكة مذعورة ‪ :‬وكمان عايز ماما اللى تسفره ‪ .‬رمقته وأكتفت بجملة‬
‫ساخرة ‪ :‬شفت بقى الوكسة اللى أختك فيها ‪.‬‬

‫ــ الوكسة والحاجة الحل كله فى أيدك ‪.‬‬

‫ــ أيدى على كتفك ‪.‬‬

‫ــ أبعدى عنه وأنسيه والخسارة القريبة أحسن ‪ . !..‬شاع التوتر فى مالمحها وأمتصت شحنات القلق‬
‫المنبعثة من عينيه لتمتزج بقلقها وتوترها ليصنعا سويا كيانا متجانسا بينما هى صارت تتوزع بين النوازع‬
‫والنواهى ‪ ..‬حاولت لملمة صدمة كلماته ‪ :‬بس ‪ ..‬سكتت ‪ .‬تربص بنظراته ‪ .‬فتابعت ‪ :‬أبعد عنه أزاى‬
‫يايوسف والمشكلة أصال مش فى أمجد ‪ ..‬هوه كان صريح معايا من البداية وماخباش عنى أى حاجة‬
‫وشرحلى ظروفه التعبانة من غير تجميل ‪ ..‬المشكلة فى أختك أنا اللى ماقدرتش أصارحه والحتى ألمحله‬
‫عن أى حاجة‪ ..‬كنت خايفه وجبانة وبدل ماأراجع نفسى لقيتنى كل يوم والتانى بأغرز فى الكدبة أكتر‬
‫وعمالة أخترع فى حكايات عن ماما وياما حكيتله على مدارس األمارات اللى بتتخانق عليها عشان‬
‫يتعاقدوا معاها ‪ ..‬ومطت شفتيها ‪ .‬أردفت ‪ :‬بالش نضحك على بعض يايوسف أحنا اللى قررنا باألجماع أننا‬
‫نكدب على الناس ونخدعهم وبقينا عاملين زى البضاعة المضروبة اللى صاحبها مش عارف يصرفها ‪.‬‬
‫أبتلعت ريقها بصعوبة وكأنها لم تدرك السؤال وال أجابته فتحركت الكلمات على لسانها ببطء ‪ :‬أنت عارف‬
‫أنى بحب أمجد وحتى لوسمعت كالمك وقررت أنى أبعد عنه وقلت زى مابتقول كده الخسارة القريبة‬
‫‪261‬‬
‫أحسن ‪ ..‬تقدر تقولى أحنا حنعمل أيه بعد كده فى مستقبلنا ؟ حنفضل لغاية أمتى خايفين ومتهددين‬
‫وعايشين بوشين مع الناس ؟! ‪ ..‬طالته المخاوف وأصفر لونه وتهدلت شفته وأصبح المجهول يتداعى‬
‫متزاحما يفرض سياجا حولهما ال فكاك منه ‪ ..‬باتا يدركان أن مصيبتهما بالحياة تجاوزت الحد المسموح به‬
‫للبشر ‪ .‬ماكان يخطر لهما ببال أنها عميقة هذا العمق كله فى حين لم يطرح أحد منهما السؤال البديهى عن‬
‫حقهما فى مستقبل آمن خالى من تهديدات الماضى ‪ ،‬ومايزال نفس السؤال معلقا فوق رأسيهما اليدخل‬
‫العقل واليخرج من اللسان ‪ .‬توقفا يائسين عن الكالم حين علقت عيناهما بالباب على صوت مفتاح يدور فى‬
‫الكالون ‪ ..‬ثوان وتصدرت هدى المشهد ‪ ..‬دخلت منحنية الرأس حتى أستشعرت وجودهما فأرسلت لهما‬
‫نظرة تتبعها أبتسامة ‪ :‬أيه ده حبايبى قاعدين كده ليه ‪ .‬رسما أبتسامة خاوية حين أقتربت منهما ووجهت‬
‫كالمها ليوسف ‪ :‬األمتحانات أخبارها أيه ياباشمهندس ؟ سألت وأنتظرت منه نبرة فرح ‪ ،‬إال أنه مسح‬
‫وجهه بكفه ‪ :‬هانت ياماما ‪ .‬لم تفهم أجابته فتحولت لبسمة ‪ :‬وأنتى ياحبيبتى األخبار أيه طمنينى ؟ ‪.‬‬

‫ــ الحمد للـه األمتحانات حلوة السنة دى ‪ .‬أرخت رموشها وأطلقت نفسا مستريحا ‪ :‬الحمد للـه ريحتينى ‪..‬‬
‫أنا حأغير هدومى بسرعة وحأدخل المطبخ بس أدونى نص ساعة بالظبط وحتالقو حتة عشوة ماحصلتش‬
‫على ماتكون نورا رجعت كل حاجة حتبقى جاهزة ‪ .‬أنهت كالمها وهى تتحرك ناحية غرفتها ‪ .‬لم ينعما‬
‫بلحظة صمت حين خرجت أيات من زنزانتها تتسكع فى الصالة وكأنه غير مسموح لها بالخروج إال فى‬
‫مواعيد الطعام ‪ .‬أقتربت منهما تتفحصهما ثم شدت حزام الروب فأحكمت طرفيه حول وسطها وجلست‬
‫صامتة حتى أستقبلت جملة بسمة ‪ :‬كفارة ياعمتى ! مسحت الروب بأصابعها من ناحية الصدر عادة‬
‫تالزمها منذ زمن وردت بصوت خالى من أى تعبير ‪ :‬يعنى لما أطلع للصالة يبقى كده أفراج ‪ ..‬ماشى‬
‫يابسمة ع العموم كله محصل بعضه جوه زى بره ‪.‬‬

‫ظلوا صامتين وكأنهم فى جلسة " يوجا " حتى أحتضنت عينى بسمة وجه نورا المرهق بكل أنواع‬
‫المتاعب لحظة دخولها ‪ .‬طافت بعينيها فى الصالة كأمين مخزن يتمم على عهدته قبل أن تبدى أستغرابا‬
‫حين أكتشفت موقعهم فى األنتريه ‪ .‬لفت أنتباهها وضعية أختها المنكمشة فى ركن الكنبة يجاورها يوسف‬
‫محنطا فى مكانه وكأنهما فى نهاية مشهد مسرحى ينتظران تحية الجمهور ‪ .‬أظهرت قلقا وهى تتجه‬
‫ناحيتهما ‪ :‬مالكو قاعدين كده ليه زى اللى عاملين عاملة ؟!‪.‬‬

‫ــ مستنين ماما بتجهز العشاء ‪ .‬أجابة مختصرة من بسمة لم تهضمها نورا ‪ .‬فتشت فيهما بنظراتها ‪ :‬جديدة‬
‫دى !! ‪.‬‬
‫‪262‬‬
‫ــ آهو بقى ‪ .‬رددها يوسف بتراخى مما أستلزم منها نظرة طويلة فى وجهه أكتفت بعدها بهزة من رأسها‬
‫وكررت خلفه بأستنكار ‪ :‬آهو بقى ‪ ..‬مالهم دول ياعمتى ‪.‬‬

‫ــ أنا خرجت من أوضتى لقيتهم عاملين كده زى زرعة الصبار ‪.‬‬

‫ــ ده يبقى الموضوع كبير أوى ‪ ..‬ماشى أنا حأدخل أوضتى أغير هدومى وآخد حمام سخن ع السريع وآجى‬
‫أشوف أيه حكايتكم ‪ .‬أدلت بسمة برأسها متحاشية النظر فى عينى أختها قبل أن تسحب األخيرة نفسها‬
‫من الصالة قاصدة غرفتها بينما تنبهت أيات لمالحظات نورا التى أستشفتها ‪ .‬على غير العادة ‪ .‬أظهرت‬
‫أهتماما ‪ :‬فى حاجة ياوالد ‪ ..‬شكلكم كده مش مظبوط ‪ .‬رمقها يوسف بأستخفاف ‪ :‬ماتشغليش بالك ياعمتى‬
‫كلها حاجات تافهة ‪ .‬بذلت جهدا ضعيفا حين سمعت جملته فى محاولة للفهم لكنها لم تحصل سوى على‬
‫عبارات مبهمة التجدى نفعا ‪.‬‬

‫لم تستطع نورا الغياب ألكثر من عشر دقائق قضتها مابين تغيير مالبسها والوقوف تحت دش ساخن‬
‫أشتهته من بداية اليوم ‪ .‬ظهرت لهم داخل برنس أبيض وخصالت شعر ملتصقة بالخدين وتحمل بين كفيها‬
‫عتادها المعتاد بعد كل حمام ‪ ..‬مشط وفرشاة ومجموعة زيوت وكريم بشرة وطالء أظافر ‪ ،‬أفرغت حمولتها‬
‫بحذر على منضدة األنتريه كبائع متجول يعرض بضاعته ثم تممت بعينيها على بضاعتها وعلى الموجودين‬
‫وشرعت فى إدارة حديث بنكهة وكيل نيابة ‪ :‬أيه بقى الحكاية بالظبط أنا عايزة أفهم ؟!‪ .‬لم تحصل على‬
‫أجابات واضحة إال بعد أن ألحت بعصبية فأضطرت بسمة لسرد مشكلتها بإيجاز ووضعتها على الطاولة‬
‫لتكون محل بحث وتداول فى حين أنصتت لها نورا بأضطراب خفيف ظهرت أعراضه فى حركة أناملها‬
‫المتشنجة التى تحجز بها نصف شعرها بعدما فرقته لنصفين وعالجته بـ " فركة " زيت من يديها حتى‬
‫خضع للفرشاة دون عناد وأنسدل أمام وجهها كستارة تخفى دوران حدقتيها فى محجريهما بعصبية ‪ :‬أنت‬
‫اللى غلطانة من األول يابسمة ‪ ..‬كبرتى الموضوع من غير لزمة وخليتى واحد زى أمجد ده يحلم ويرسم‬
‫ويخطط وفاكر أنه لما يفاتح ماما تبقى دى بطولة منه وجراءة ‪.‬‬

‫ــ يعنى أنا اللى قلتله يفكر فى الكالم ده ‪.‬‬

‫ــ كان الزم من البداية تفهميه أنك مش بتفكرى فى المواضيع دى و تعرفيه أنك لسه صغيرة وأهم حاجة‬
‫عندك مستقبلك ‪ ..‬مش مشكلة عويصة يعنى كان قدامك مليون حاجة تقدرى تقوليها ده أن كان لسيادتك‬
‫مزاج لحل المشكلة دى ‪ .‬سحبت نفسا ومشت بيدها المعروقة بالزيت ماسحة مقدمة رأسها حتى أطراف‬
‫‪263‬‬
‫شعرها قبل أن تقبض عليه بعنف ثم لفته حول رأسها كرباط ضاغط حول موضع ألم ‪ .‬فأردفت ‪ :‬وبعدبن أيه‬
‫أمجد ده أصال اللى أنتى عامله له ألف حساب وقلقانة منه ‪ ..‬حتة عيل الراح والجه وفاكر نفسه بقى الواد‬
‫المخلص األنتهازى اللى واقع على مزة هبلة طمعان فيها وفى أهلها ‪ ..‬أصحى بقى من العبط اللى أنتى‬
‫فيه ده ‪ .‬أفرجت أيات عن أول جملة حين سمعت كالم نورا ‪ :‬كالم أختك صح يابسمة أزاى سمحتى لنفسك‬
‫تخلى واحد زى ده ال له أصل والفصل يربكك بالشكل ده ويخليكى مرعوبة أمال لو كان أبن ناس وال من‬
‫عيلة كبيرة كان حصلك أيه ‪ .‬شعرت بسمة أنها قدمت حبيبها فريسة سهلة دون قصد بين مخالب العمة‬
‫وأنياب األخت فتقبلت الهجوم الكاسح وأرتضت به قبل أن تستأصل منه الجزء الذى يظهر فيه أمجد كطماع‬
‫أنتهازى ‪ .‬تحفظت ‪ :‬أنا معاكى يانورا أنه فقير وواقع ويادوب بيأكل عيش حاف هو و أهله وزى ماأنتى‬
‫عايزة قولى فى الحتة دى لكن واللـه ورحمة بابا ال هو طماع وال أنتهازى ‪ .‬كان رأيا قاطعا أستندت فيه ‪،‬‬
‫لمواقف ووقائع عديدة ‪ .‬لم يعجب قولها أيات فتحرك شيىء داخلها غير مأمون العواقب حين أنفعلت تجتر‬
‫صفحة من مذكراتها وكأنها تقرأ منها سطورا أليمة شرحت بعصبية وأستفاضة سمات الزوج الغادر حين‬
‫تعرفت عليه فى البداية عندما كان ميزان الخجل والشهامة والرجولة مساويا لـ " شاكر " قبل أن تنحسر‬
‫داخله وتزول بعد ماسيطر وتمكن فأستبدلها بطباع رديئة من األنتهازية والندالة واألنانية نالت منها أيات‬
‫الجزء األكبر ‪ .‬ترمقها بسمة بنظرة باهتة ال تخلو من مقارنة سريعة تدور فى رأسها عن أوجه الشبه‬
‫واألختالف بين ماضى عمتها وحاضرها مصحوبا بخوف شديد يزداد يوميا مع تهديدات أمجد التى يطلقها‬
‫كقذائف تضرب كيانها كله بعشوائية حين تتملكه سخونة الموقف العاطفى ويتحول " لثورجى " الغرام ‪.‬‬
‫يهتف ‪ :‬أنا بقى حأتصرف بنفسى يابسمة حأروح لمامتك البيت من غير أذن وال أستأذان وحأفاتحها فى‬
‫موضوعنا بكل صراحة وحأفهمها ظروفى كلها بالتفصيل وأنا متأكد مليون فى الميه أنها حتسمعنى كويس‬
‫وحتحترم صراحتى وأكيد حتقف معايا لما تتأكد أنى بحبك فعال وبأخاف عليكى و أنا مش قلقان من المقابلة‬
‫دى خالص عشان ببساطة كده مامتك ست مدرسة وفاهمة أزاى تتعامل مع الناس ‪ .‬كان رده جاهزا حين‬
‫قاطعته بذعر ‪ :‬ماما طباعها صعبة ياأمجد أزاى ممكن تقابلها من غير تمهيد وال أذن !! ‪.‬‬

‫ــ ماعنديش حلول تانية أنت رافضة تعرفينى عليها والحتى عايزانى أتكلم معاها فى التليفون ‪ ..‬قوليلى بقى‬
‫أعمل أيه ؟!‪ .‬كلماته جعلتها وألول مرة تحجز لنفسها مكانا بين القلقين والمضطربين وسكنتها التهيؤات‬
‫والهواجس وخيل إليها فى كل لحظة عن اصابة بالغة بقطع فى األحبال الصوتية يؤدى بهاإلى الخرس حين‬
‫تفاجىء بوجود أمجد إلى جوارها على كنبة الصالون يربكها ويربك الجميع أو محشورا منكمشا على نفسه‬
‫أمام نورا تسوطه بكلماتها القاسية بالتبادل مع عمتها التى تذكره بجذوره الغير نقية ‪ ..‬أوحتى الذاك وال‬
‫‪264‬‬
‫تلك حين تصله المعلومة القاتلة عن األم المكافحة فى بالد الخليج فيكتشف لحظتها أن كفاحها لم يكن على‬
‫أرض خليجية ‪ ..‬أنما على أرض القناطر ! أوشكت تلك التكهنات والتهيؤات أن تقتلع قلبها من مكانه ‪..‬‬
‫أندفعت دماء صاخبة إلى وجهها وأذنيها كأمواج البحر ‪ .‬مالمح الفزع المرسوم على وجه بسمة أمتالت به‬
‫عينى نورا فأشفقت عليها ‪ :‬مش عايزاكى تقلقى خالص يابسمة ‪ ..‬توقف الكالم على لسانها حين حضرت‬
‫هدى من المطبخ ملطخة بالمياه والصلصة على الصدروالخصر بينما تنوء يديها بكيس خضار ولفة لحمة‬
‫زنة أتنين كيلو ترافقها فرحة تشيع فى عينيها و أبتسامة وهى تتقدم ناحيتهم وقد بدت أمامهم كقطة تتمسح‬
‫فى أقدامهم ‪ :‬الحاجات دى كلها جبتها أمبارح ‪ ..‬أصبروا على شوية كمان وحأظبط لكم عشوة تحلفوا بيها ‪.‬‬
‫لم تتلق أى رد فحاولت مع نورا ‪ :‬أنا حأعملك بامية باللحمة الضانى اللى أنتى بتحبيها وحأعمل ليوسف‬
‫بسلة عشان هو مابيحبش البامية ‪ .‬ثم أفرغت حمولتها أمامهم تعرض بضاعتها ‪ .‬لم يصلها مديحا والثناءا‬
‫بل تلقت نظرة واجمة من عين نورا التى أنفعلت أصابعها وهى تسوى ظفرها بالمبرد ‪ .‬لم تستطع كتم‬
‫مايفور داخلها فنفثت أبخرة غضب ‪ :‬لزمتها أيه الحاجات اللى أنت جايباها دى ‪ ..‬طلبات البيت أنا بأجيبها‬
‫أول بأول ‪ .‬مسحت يديها فى جلبابها ‪ :‬عادى يانورا مافيش فرق ياحبيبتى بينى وبينك وبعدين أنا حأعمل‬
‫أيه بالفلوس اللى معايا دى ‪.‬‬

‫ــ ماعرفش أعملى بيها اللى تعمليه ‪ .‬شعرت بكلماتها تعتقل فرحتها فأنقبض قلبها ولملمت بضاعتها‬
‫وفقدت الرغبة فى التودد إليهم وأولتهم ظهرها وهى تردد كتحصيل حاصل ‪ :‬أنا حأدخل بسرعة أجهز األكل‪.‬‬
‫سحبت نفسا أخيرا وأنصرفت بينما واصلت نورا ماقطعته من كالم بوتيرة منخفضة ‪ :‬أنا الزم أشوف حل‬
‫فى كل اللى بيحص ده ‪ ..‬مش حتنفع عيشة القلق والتوتر دى ‪ .‬تطوعت أيات بالرد مبدية قدر من الدهشة ‪:‬‬
‫األمور دى مافيهاش حلول اللى حصل ألمكم خالص ده بقى تاريخ مكتوب يعنى الينفع يتمسح واليتغير‬
‫والحتى الناس حتنساه ‪ .‬تأثرت نورا بالجملة األخيرة ولم يتبق سوى صراع يدور فى رأسها حول تعريف‬
‫مفهوم الخطر الذى يحوم حولهم قبل أن تستدعيها بسمة بموضوعية طارئة ‪ :‬ماحدش قال ياعمتى أننا‬
‫عايزين نشطب التاريخ والحتى نغيره ‪ ..‬أحنا بس مش عايزين فضايح وال عايزين حد يعايرنا ‪ .‬أدهشها‬
‫ماقالته فتجاوبت نورا ‪ :‬الناس لما بتسمع عن فالن سرق جنيه واحد بتسميه حرامى وتفضل دى صفته فى‬
‫نظر الناس طول عمره لغاية مايموت وعمرهم ماحيغيروا رأيهم فيه أبدا وال حتى حيكلفوا نفسهم يعرفوا‬
‫هو سرق الجنيه ده ليه ونفس الناس برضه لما حيعرفوا أن أمنا دخلت السجن عشان جريمة قتل مش‬
‫حيالقو أسم تانى يقولوه غير أنها قاتلة !‪ .‬صمتت ودارت بعينيها فى وجوههم ‪ .‬ثم تابعت ‪ :‬والتفتكروا أنكم‬
‫حتالقو حد يتعاطف معاها ويقول أنها كانت مظلومة أو ماتقصدش أو كانت بتجيب حق ضايع ‪ .‬تساءلت‬
‫‪265‬‬
‫بأبتسامة بائسة ‪ .‬وتولت األجابة ‪ :‬أشك ‪ ..‬فى بلدنا هنا الراجل لما يقتل عشان شرفه وعرضه بيالقى اللى‬
‫يقف جنبه ويسانده ويدافع عنه كمان ‪ ..‬لكن برضه بيسموه قاتل ‪ .‬أردفت وهى تحنو بنظرتها المبتسمة‬
‫على حيرة أختها ‪ :‬مش عايزاكم تقلقوا وال تخافوا أبدا أنا جنبكم وزى ماعدينا سوا من كل اللى‬
‫فات ومافيش حدفينا أنكسر والوقع برضه حنعدى المرة دى كمان ‪ .‬هزت بسمة رأسها تبدى موافقة‬
‫ضمنية إال أن عينيها تحمل عبارات قاسية وكاشفة مفادها ‪ :‬ان الماضى قد يغيب فترة أو فترات لكنه أبدا‬
‫اليضيع وتظل أنيابه مغروسة فى لحم الحاضر الحى !!‪ ..‬قام يوسف من جلسته مهموما وهو ينفخ ‪ :‬ربنا‬
‫يستر بقى ‪ .‬أستوقفته نورا قبل أن يدخل مكتئبا ‪ :‬أنت بالذات مافيش قلق بالنسبة لك خالص ولو كان فى‬
‫أى حاجة كانت ظهرت ‪ .‬ثم قامت تواجهه كأنها تردع مخاوفه ‪ :‬عشان خاطرى ياحبيبى مش عايزاك تشغل‬
‫بالك بأى حاجة دلوقتى خلص نفسك اليومين دول وركز فى أمتحاناتك ‪ ..‬مستقبلك أهم عندى من أى مشكلة‬
‫ألنى ساعتها حأتأكد أن تعبى مارحش فى الهوا وأفتكر كمان أنى وعدتك بعربية أول ماتتخرج ‪ ..‬هيه حتبقى‬
‫مستعملة وبالتقسيط بس آهى أسمها عربية وال أيه رأيك ياباشمهندس ‪ .‬أستجاب ببطء‪ :‬حاضر يانورا‬
‫ماتقلقيش األمتحانات ماشية معايا كويس ‪ .‬فردت أبتسامتها ووزعتها عليهم غير أنها لم تملك القدرة على‬
‫تفكيك مالمحهم المضطربة أو نيل نظرة هادئة خالية من الفزع ‪.‬‬

‫‪0000000000000‬‬

‫الخميس ‪ ..‬الثالثة والنصف عصرا ‪..‬‬

‫سحبت هدى نفسها من داخل التاكسى وتدفقت إلى الشارع بمنطقة " سان أستفانو" وقبل موقع اللقاء‬
‫بمائتى متر ‪ .‬كانت الشمس وقحة تسوط الشوارع بلهيبها ‪ ..‬مسحت الطريق بعينيها خلفها وحواليها ‪،‬‬
‫تمشى بخطوات مترنحة وملتوية كمن تتجنب فخاخا منصوبة فى األرض ‪ .‬صعدت بنظراتها إلى الشرفات‬
‫المطلة على الكورنيش وأمعنت فى وجوه المارين بجوارها غير أنها ظلت تدهس فى نهم ظل سور‬
‫الكورنيش ولعلها وهى تمشى تأخذ وراءها الى هوة اللقاء المجهول ـ الجرىء فوق العادة ـ كل من يعترض‬
‫طريق أنوثتها الفائضة عن طاقة أمراة واحدة وان حاولت لجمها داخل ثوب فضفاض بسيط فى تصميمه‬
‫بالغ األناقة من مقتنيات زيزيت التى أعلنت حالة الطوارىء القصوى بدعم من " فضيلة " لتجهيزها فى‬
‫‪266‬‬
‫وقت قياسى لتلحق بالموعد المشهود وأستغالال لفرصة غياب نورا فى حجرة التفصيل بصحبة " رضا " ‪،‬‬
‫فأختارت لها الفستان المناسب وأرغمتها على تحرير خصلتين كثيفتين من شعرها تنسدالن حول خديها‬
‫مثل ستارتين تحضنان برقة وجهها وردت بقيته وربطته كذيل مهرة فبدت أكثر سحرا ‪ ،‬كما حرضتها‬
‫زيزيت على أستعادة جرأتها المفقودة ثم توجت كالمها بنصيحة أخيرة عند عتبة باب األتيليه قبل خروجها‪:‬‬
‫عايزاكى تبقى هادية خالص وماتبقيش متوترة وبالش ردود جافة وخليكى طبيعية ‪ .‬هزت رأسها‬
‫وأبتسمت فأطمأنت زيزيت وأعطتها تأشيرة خروج ‪.‬‬

‫كلما أقتربت خطواتها من كافيتريا " سان أستفانو" شعرت بنفسها وكأنها تؤدى دورالبطولة فى حلم من‬
‫سلسلة أحالم مابعد العصر التى تالزمها منذ فترة إال إنه قفز محموما من دفء العقل الباطن إلى الطريق‬
‫وها هو يصاحبها حتى مدخل الكافتيريا ‪.‬‬

‫فى تلك األثناء وتحت السماء المفتوحة داخل الكافتيريا حيث الجزء المطل على كورنيش البحر أختار‬
‫خيرى كعادته ركنا قصيا ‪ .‬أستنشق الهواء ومأل الرئتين وأستزاد ‪ .‬تحديده للموعد ولمكان اللقاء ‪ ،‬كانت‬
‫تلك فكرة ‪ ،‬اليدرى حتى اللحظة كيف صدرت عنه ‪.‬‬

‫ــ هل ستحضر هدى أم ال ؟ خطر على باله هذا السؤال ‪ ،‬وسرعان ماتطوع عقله لوضع كافة األحتماالت‬
‫وأن أنتابه أحساس قوى بأنها لن تحضر ‪ ،‬إذ لم يكن هناك تخطيط أو أستدراج كافى يقنعها ‪ .‬غير أنه أعد‬
‫نفسه لكل مكروه محتمل الوقوع ‪ ،‬كأن التأتى ‪ ،‬وماذا سيحدث بعدها ؟ عدم حضورها هو أعنف ما قد يصدر‬
‫عنها ‪ ..‬وقتها سينسحب إلى األبد ‪ ..‬أما أن تقبلت جرأته وحضرت وهو ماله فيه بصيص من أمل ‪ ،‬فسيكون‬
‫له معها شأن أخر ‪ .‬توتر فجأة وأغلق حواره الداخلى اذ لمح هدى وهى تتهادى إليه عن بعد وكأنها هناك‬
‫على البعد التزال حقيقة غير مؤكدة ‪ .‬تأملت المكان من حولها قبل أن تحدد موقعه بينما تأهب هو واقفا‬
‫حين أقتربت منه ‪ ..‬تزدحم صورتها فى عينيه ‪ .‬تحرك خطوتين وبادر بأبتسامة ومد يده مصافحا فمدت هى‬
‫يدها فى شيىء من األرتباك وشيىء من وهلة الفزع ‪ ..‬شعر برعشة أناملها ‪ ،‬هل كان ذلك رعشة اللقاء‪ ،‬أم‬
‫رجفة خوف ‪ ،‬لم يتبينه ‪ .‬تبادال نظرات خفية تزور فيها كل منهما األخر ‪ ..‬أفسح لها مكانا وأزاح‬
‫الكرسى ‪ ..‬وقفت أمامه تهم بالجلوس ‪ ..‬تأملها ‪ ،‬نظر فى عينيها ثم أنزوت أبتسامة على زاوية فمها‬
‫فأحدثت أنفراجة مائلة " خبلته " ‪ .‬جلس متفحصا ساحرته التى وضعت يدها على المائدة فأزاح الصمت‬
‫قبل أن يعثر على بداية تليق بالحدث الجلل ‪ :‬كتر خيرك أنك جيتى ‪ .‬تسارعت أنفاسها حين أستقرت عينه‬
‫فى عينيها ‪ :‬ال ‪ ..‬أبدا ‪ .‬بدت وكأنها تصارع لحظة الصمت بينما عيناه تدوران فى المكان تبحثان عن‬
‫‪267‬‬
‫الجرسون الذى ظهر فجأة ‪ :‬أوامرك ياباشا ؟ سأله ولم ينتظر أجابة ‪ .‬صحب السؤال بأشارة لمساعده أقل‬
‫فى الحجم وفى الرتبة الذى أنقض عليهم بنشاط غير عادى ‪ :‬تأمر بأيه حضرتك ؟ تردد ‪ :‬أنا حآخد قهوة‬
‫مضبوطة ‪.‬‬

‫ــ وأنا كمان ‪ .‬قالتها وأبتعدت هربا من عينيه ‪ .‬رحال الجرسون ومساعده بعد أن أربكا المشهد ‪ .‬أستعاد‬
‫تركيز اللحظة ‪ :‬الحقيقة مش عارف أوصفلك أد أيه سعادتى لدرجة أنى مش مصدق لغاية دلوقتى أنك‬
‫قاعدة قدامى ‪ .‬قال كالمه وتملى بوضوح من الوجه والقوام ‪ .‬أستسلمت لنظراته لكن قرأ فى عينيها نداء‬
‫رجاء لم يفهمه ‪ .‬أنقضت لحظات قبل أن تستوعب وجودها منفردة أمام رجل فى كافتيريا ‪ ،‬حالة تذكرها‬
‫بلقاءات قديمة رحلت كما رحل صاحبها ‪ .‬أسدلت جفنيها وتوقفت نظراته حين وصل الرجل اآللى ومساعده‬
‫يتبعه يحمل صينية فضية ‪ ،‬تعلقت عيناه بالجرسون وهو يصب القهوة بينما تسربت منها نظرة عاينت بها‬
‫وسامته وحمرة وجهه وقميصه السمنى ‪ .‬أن صرفا ‪ ..‬خرجت منه كلمات وقورة وهويسأل ‪ :‬يضايقك لو‬
‫دخنت سيجارة ‪ .‬هزت رأسها نافية بأداء شيك ‪ .‬أشعل سيجارته وأطلق دخانا مرتعش تبخر مع الهواء‬
‫القادم من البحر ‪ .‬هيئتهما وحركة العينين وشكل الجلسة وصياغة الكلمات كانت كلها تشير الى أنهما فى‬
‫لقاء خارج الزمن ‪ ،‬الداخل فى تلك اللحظة للكافتيريا يتبادر لذهنه أنه أمام لقاء يجمع بين " شكرى سرحان‬
‫ومريم فخر الدين " فى فيلم " رد قلبى " بدا وكأن المكان غريبا عنهما حين أكتشفا أنهما سقطا داخل‬
‫حوش جامعة ‪ ،‬ثنائيات شبابية على كل مائدة من جيل الالمعقول ووكالء البنطلونات الساقطة والتيشرتات‬
‫الحمراء ‪ .‬خلع عن ذهنه خلفية المكان وتنصل من الوجوه المكشوفة والحركات التافهة وأستجمع ماتدرب‬
‫عليه فى اليومين الماضيين ‪ :‬من يوم ماطلبت مقابلتك وأنا عمال أرتب الكالم اللى حأقوله لكن دلوقتى بس‬
‫حأتكلم معاكى من غير قلق وال تحفظ عشان أحنا أصال مش غرب عن بعض ‪ ..‬دى جيرة طويلة عمرها‬
‫سنين ‪.‬‬

‫بعفوية وتماسك ‪ :‬مش جيرة وبس أنت كمان صاحب فضل على والدى طول فترة غيابى ‪.‬‬

‫ــ تصدقينى لو قلتلك أنك أنتى صاحبة أكبر فضل على أنا ‪ .‬أبتسمت وتناولت الفنجان بربكة فتاة صغيرة‬
‫بينما سحب هو رشفة طويلة كمن يبحث عن لحظة شجاعة ‪ :‬بجد أنتى صاحبة فضل على وعشان أكون‬
‫صريح معاكى أنا قبل زيارتى لكى فى البيت أنا وشريف كنت تقريبا زى المحبوس ‪ ..‬محبوس بمعنى الكلمة‬
‫مابين الشغل والبيت والقراية بالليل قبل النوم ‪ ..‬بعد المرحومة سميحة ماعرفش أيه اللى حصلى ‪ ..‬فجأة‬
‫لقيت حياتى بقت واقفة واأليام ماعدش لها طعم وبقيت عايش زى اللى بيأدى واجب ومافيش غير‬
‫‪268‬‬
‫التليفزيون اللى ربطنى بالدنيا من القناة دى للقناة دى وتقريبا مابتكلمش تالت أربع كلمات على بعض طول‬
‫اليوم ‪ ..‬الوحدة صعبة جدا نادر فى أمريكا زى ما أنتى عارفة وشريف معظم اليوم بره البيت وأنا قاعد زى‬
‫اللى بيقضى حكم محبوس بين أربع حيطان ‪ .‬أكتسى وجهها بحرج يتبعه أسى ‪ :‬بتقول محبوس ‪ ..‬أمال اللى‬
‫كانوا محبوسين بجد يقولوا أيه ؟! ‪.‬‬

‫أخيرا نجح فى فتح ثغرة فى جدار خجلها حين أنحصرت أعراض البداية وأنتهت مرحلة جس النبض ‪ .‬فبادر‬
‫بنشاط ‪ :‬يقولوا الحمد للـه وان اللى جاى حيبقى أحسن بشرط أننا نحط الماضى ورا ضهرنا ونبص على‬
‫المستقبل حتى ولو كان فاضل فى العمر أيام وعن نفسى أنا قررت من يوم ماشفتك أنى مش حأفكر فى اللى‬
‫فات أبدا وحيبقى كل تفكيرى فى اللى جاى ‪ ..‬ألنى بصراحة شايف قدامى خير كتيروحاجات أجمل‬
‫مستنيانى ‪ .‬قال جملته األخيرة وهو ينظر فى عينيها طويال بينما الذت هى بالصمت وقد أدركت أنها المعنية‬
‫قبل أن تنفرج شفتاها بأبتسامة صبر وجملة رضا ‪ :‬أن شاء اللـه ربنا حيعوضك بخير كتير ‪ .‬أراد ترجمة‬
‫كالمه بتوضيح أكثر ‪ :‬ممكن تسمحيلى أتكلم بصراحة أكتر ‪ .‬ردت بحرج اليخلو من حذر ‪ :‬أتفضل ‪.‬‬

‫ــ أنا قلتلك من يوم ماسميحة أتوفت وحياتى كلها بقت فاضية وماسخة وده قدرى وأنا راضى بيه وماكنش‬
‫عندى أمل أن ممكن تحصلى معجزة تغير الجدول الممل اللى أنا ماشى عليه ‪ ..‬لغاية ماشفتك ‪ .‬سكت لحظة‬
‫ثم تابع وما أن بدأ كلماته حتى تأهبت حواسها لسماع أعترافاته ‪.‬‬

‫ــ حسيت بحاجة غريبة محتار فيها لغاية دلوقتى ومش عارف أالقى لها أسم وال وصف لكن اللى متأكد منه‬
‫أن ربنا سبحانه وتعالى رجعنى تانى للدنيا فى الوقت المناسب و كأنه بيفكرنى أنى لسه عايش وموجود زى‬
‫البنى أدمين ‪ .‬أقترب بصدره من المنضدة يبحث فى خريطة وجهها عن أثر لكلماته ‪ .‬ضغطت شفتيها ثم‬
‫عادت تتكسر الحروف على طرف لسانها ‪ :‬مش عارفة أرد أقول أيه ‪ .‬تلفتت بتوتر ‪ :‬بصراحة أنا خايفة‬
‫وقلقانة و ‪ ..‬كان حاسما‪ :‬من أيه ياهدى ؟ أحنا مش بنعمل حاجة غلط السمح اللـه وكمان أحنا مش‬
‫صغيرين يعنى ماينفعش أننا نخاف من أى حد وعن نفسى أنا فاهم كويس بأقول أيه وعارف أنا موجود هنا‬
‫ليه ؟!‪ ..‬كانت مشدودة ‪ ،‬ربما ‪ ،‬ألن كمية الزفير التى حملتها كلماته فضحت أنفعاله ‪ .‬عادت األبتسامة إلى‬
‫وجهها ‪ ،‬لكن كان لها رسم المرارة ‪ :‬أنت عارف كويس أنا أد أيه بأحترمك وبأقدرك وده السبب اللى‬
‫خالنى آجى النهاردة ‪ .‬مبتسما ‪ :‬جيتى عشان بتحترمينى بس ؟! وقفا عند هذه العبارة األخيرة دون أن‬
‫يهربا من عناق العيون ‪ .‬هى تعلم فى داخلها ‪ ،‬أنها طيلة تسع سنوات منعزلة وبعيدة عن الحياة اليبلغها‬
‫منها إلىإنعكاساتها ‪ ..‬تجهل حتى عواطفها الحقيقية ‪.‬‬
‫‪269‬‬
‫تغيرت نبرتها وسألت نفسها قبل أن تسأله ‪ :‬أنا مش قادرة أصدق اللى أنا بأعمله دلوقتى ؟ ‪.‬‬

‫ــ وأيه اللى أنتى بتعمليه دلوقتى ‪.‬‬

‫ــ قاعدة معاك ومش عارفة ليه ؟ ‪.‬‬

‫ــ مستحيل تكونى مش عارفة ‪ .‬قبل أن تستوضح مايقصده ‪ ،‬كان خيرى يشرح لها ‪ :‬أنا فاهم ظروفك‬
‫كويس جدا وعارف وضعك فى البيت وعارف أمورك ماشية ازاى مع والدك ‪ ..‬أنا مقدر الحالة دى كويس‬
‫بعد تجربتك الصعبة اللى عشتيها فى السجن ‪ .‬غطى وجهها حزن مفاجىء ‪ :‬فى حاجات كتيرة ياأستاذ‬
‫خيرى أنت ماتعرفهاش ‪ ..‬أنا لغاية دلوقتى لسه حاسة بوحدة وبغربة فى بيتى تايهة ومش قادرة أالقى‬
‫نفسى مع والدى ‪ ..‬كل دقيقة بتعدى بأحاول فيها أتقرب منهم وأعوض اللى فات بحاول أتكلم معاهم كتير‬
‫وأبقى موجودة فى وسطيهم عشان يحسوا بوجودى ويعرفوا أن أمهم رجعت ‪ ..‬ألنى حاسة أنهم فقدوا‬
‫الذاكرة ونسيونى ‪ ..‬وآهو الحمد للـه األمور بدأت تتحسن ونجحت كتير مع يوسف وبسمة وبقت عالقتنا‬
‫معقولة ‪ ..‬لكن ‪ .‬أنزلقت عيناها ألسفل تبحث عن صياغة تصلح لما ستقوله‪ :‬مشكلتى الكبيرة اللى أنا واقعة‬
‫فيها تصرفات نورا الجافة معايا بتعاملنى دايما على أنى واحدة غريبة أو متطفلة بتفرض نفسها عليهم أو‬
‫ضيفة تقيلة حتأخد وقتها وتمشى ‪ ..‬مابقتش فاهمة هيه ليه بتعمل كده وال عارفة حتى أيه اللى مطلوب‬
‫منى عشان ترضى عنى ‪ ..‬تعبت أوى معاها ياأستاذ خيرى ‪ ..‬أحساس صعب لما تكون جوه بيتك وشايف‬
‫أقرب الناس لك مش طايق وجودك ‪ ..‬واللـه السجن وأيامه السودة أهون ألف مرة من األحساس ده ‪ .‬ظل‬
‫جسدها يهتز مع دموعها الحبيسة ومالمحها تئن مع كل كلمة كأنها تنزع أشياء أستقرت زمنا فى‬
‫أحشاءها ‪ .‬لم ينس ماقرأه فى تلك النظرة الخاطفة ‪ ،‬لكنه لم يدعها تحول بينه وبين أستمرار التجاوب‬
‫المتفاءل ‪ .‬فأجأها بأبتسامة قبل أن يتلو عليها تبريرا ‪ :‬كل اللى قلتيه عن تصرفات نورا معاكى هو تقريبا‬
‫بالظبط نفس تصرفاتها مع شريف بس الدوافع مختلفة ‪ ..‬نورا بنتك كبرت أدام عينى يوم بيوم وسنة بسنة‬
‫وعمرى ماحسيت أبدا أنها طفلة صغيرة أو مراهقة أولها تصرفات تافهة زى بنات كتير فى سنها كنت دايما‬
‫بأشوفها عاقلة زيادة عن اللزوم وأكبر من سنها ‪ .‬دون قصد منها قاطعته بعفوية ‪ :‬وده سببه أيه ؟‬
‫ــ الظروف اللى بنتك عاشتها خلتها نضجت بسرعة ‪ ..‬حطى نفسك مكانها بنت صغيرة فجأة مالقيتش‬
‫حواليها عيلة تحميها وال فى حد واقف جنبها حتى عمتها اللى كان المفروض تتحمل المسئولية وتبقى‬
‫كبيرة البيت ‪ ..‬لآلسف أتخلت عنهم وغرقت فى عزلتها وعاشت فى مشاكلها وكل اللى قدرت عليه أنها‬
‫رمت لهم كل أول شهر قرشين عشان تخلى مسئوليتها وتشترى دماغها ‪ .‬أنصتت له بشغف وهو يكشف‬
‫‪270‬‬
‫لها عن كواليس نشأة زعامة صنعتها الظروف وشكلتها وكان ألختفاءها القصرى دورا حاسما فى تكوين‬
‫سلطة جديدة بأنياب صغيرة ‪ .‬تابعته بخوف أن يتحول عليها ويحملها المسئولية ‪ .‬فأختبرته ‪ :‬يعنى أنت‬
‫عايز تقول أن أيات هى المسئولة عن التغيير اللى حصل لنورا ‪ .‬فهم السؤال بطريقته وأجابها كمحاضر‬
‫بارع ‪ :‬لما بنتك لقت نفسها مسئولة عن البيت كله باللى فيه وخصوصا لما أخوتها أتلموا حواليها وحسوا‬
‫باألمان فى حضنها ساعتها بس حست بحجم المسئولية وقررت أنها تشيل الليلة لوحدها وده اللى حصل‬
‫بالفعل لغاية ما بقت كيان كبير جوه البيت وقاست نجاحها بنجاح أخواتها فى الدراسة وكانت مستمتعة جدا‬
‫بأنها بتدير البيت لوحدها وده اللى خالها تحس بقيمتها خصوصا لما شافت نظرات األعجاب من كل اللى‬
‫حواليها وأنا كنت واحد منهم ‪ ..‬مشكلة نورا بأختصار أنها مش قادرة تفصل بين دور فرضته عليها‬
‫الظروف وبين تمسكها الشديد بنفس الدور مع أن الظروف أتغيرت لدرجه أنها مش عايزة تتنازل عنه‬
‫حتى لصاحبة الحق األصيل اللى هو أنتى ياهدى وأعتبرت وجودك حيلغى دورها وحتحصدى كل اللى هيه‬
‫زرعته ‪ .‬سكت ليلتقط أنفاسه ونظر إليها نظرة سريعة كانت كافية ليرى األنفعال فى عينيها ‪ ،‬كانت مرتبكة‬
‫أرتباكا أخذ فى التراجع كلما تغلغلت كلماته فى خالياها ‪ ،‬أحست أنه يكبرها بعشرات السنوات نضجا وتمكنا‪.‬‬
‫تأملها صامتا حين أستند بمرفقيه على مسندى كرسيه ورجع بظهره للوراء وكأنه أراد أن يأخذ لها لقطة‬
‫بعيدة نسبيا لعله يقرأ فيها كل األنطباعات من كل المسافات ‪ .‬فرض سطوته الكالمية ومنطقه الهادىء على‬
‫كيانها كله فصار كل جزء فيها أذان تسمع قبل أن ينتقل بها بنعومة إالى عالمه الشخصى فحكى لها عن‬
‫تفاصيل حياته المملة النمطية وعن عمله وأنتماءه السياسى وأجتماعه األسبوعى بمقر جريدة أسكندرية‬
‫قبل أن يستغرق فى أحوال أبنه شريف من خالل وجهة نظر عامة عن جيل الشباب ‪ .‬ربع ساعة كاملة من‬
‫الكالم المتواصل سمحت له بألقاء الضوء على معظم جوانب حياته اليومية مختتما جولته بتصريح أخير ‪:‬‬
‫تقريبا هو ده يومى من ساعة ماأصحى لغاية ماأنام ‪ ..‬الجديد بقى هو أنتى ياهدى ‪ .‬كانت جملة صاحبة‬
‫أيادى بيضاء على وجهها ‪ .‬لم تخف نظراتها وكأنها تطلب المزيد ‪ .‬فلبى متابعا ‪ :‬أنتى ظهرتى فى وقت‬
‫غريب أوى كنت تقريبا حددت بقية أيامى حأقضيها أزاى وحتنتهى على أيه ‪ ..‬لكن سبحان مغير األحوال‬
‫دخلتى حياتى فجأة بكل بساطة وغيرتيها كلها ‪.‬‬

‫ــ غيرتها أليه ؟ كانت تتكلم وكأن صوتها تفتحت فى نبراته طاقات خفية ‪ ..‬غيرتيها من أيام مملة وبطيئة‬
‫ومالهاش طعم أليام حأفضل أشكر ربنا عليها طول ماأنا عايش مش حأقدر أوصفلك طعمها واللونها وال‬
‫حأقدر أقولك هى أد أيه فرقت معايا ‪ .‬دون أن تدرى أختصرت أجابتها فى قسوة عاقلة ووضعته فى الحال‬
‫أمام واقع اليفهم مشاعره ‪ :‬ياأستاذ خيرى أنا ظروفى حساسة وصعبة ان كان فى البيت وال برة البيت‬
‫‪271‬‬
‫متهيألى أنت فاهم الكالم ده كويس وماتنساش أنى أم ولى ظروف مكعبلة وأنت كمان مش الزم تنسى أنك‬
‫أب ووضعك زى وضعى برضه مكعبل ‪ .‬خرجت منه النظرة الواجمة ‪ :‬مكعبل ازاى يعنى ‪.‬‬

‫ــ يعنى أنت تبقى أبو شريف وأنا أبقى أم نورا وأنت عارف أن األتنين بيحبوا بعض والخوف أن الصورة‬
‫توصلهم غلط وساعتها حيكون رد الفعل عليهم وعلينا مش كويس ‪ .‬قالت كلمتها األخيرة وبدت مرتجفة‬
‫ومنفعلة وساد صمت اللحظات العميقة التى تعقب كل أنفعال صادق ‪ ..‬كانت مرتبكة وكان توترها قويا‬
‫بألحاح عينين عميقتين تتعرفان فى صراحة إليها ‪ .‬شعر بسخونة كلماتها ‪ .‬هز رأسه يوافقها على‬
‫هواجسها ‪ :‬كالمك لحد كبير حقيقى ومنطقى بس مش لدرجة التشاؤم دى ‪ ..‬ياريت تشوفى األمور بنظرة‬
‫تانية ‪ ..‬نظرة متفاءلة وساعتها كل اللى قلتيه وخايفة منه حتالقى قصاده ألف سبب يطمنك بس بشرط أن‬
‫يبقى عندك قناعة أنك مابتعمليش حاجة غلط ‪ .‬تعامل كما ينبغى لرجل ناضج أن يتعامل فى ظل ظروف‬
‫صعبة ومعقدة ‪ .‬كانت لنبرته الواثقة مساحة فى رأسها تحتفظ فيها بمشاهد قديمة لزمن زيارات خيرى‬
‫وزوجته سميحة حين أستقبلتهما هى ونديم بعد زواجها بشهر ‪ ..‬رددت فى نفسها "سبحان اللـه فى‬
‫حكمته " رحال أثنان وبقيا مثلهما وكأنها أمامه فى مشهد قدرى يصعب تصديقه ‪ .‬لم يمهلها الوقت الكافى‬
‫لألسترجاع واألندهاش حين أمتدت يده وأمسك بيدها وأطبق عليها دون مقدمات وال تمهيد ‪ ..‬لم تسحب‬
‫يدها تركتها نائمة فى يده ونظراتها الحائرة تتساءل عن تفسير لما يحدث داخلها ‪ .‬سرت بينهما تلك‬
‫الرعشة غير المنظورة والتى تفتح الطريق إلى الرغبة ‪ ،‬هكذا يدرك تماما ‪ ..‬تهدج األنفاس تشى بمثل هذه‬
‫األمور ‪ ..‬أضطراب الصدر بومضات متحشرجة تشى هى ــ أيضا ــ بمثل هذه األمور ‪ ..‬الخدر الذى يصيب‬
‫البدن بالوهن هو ـ أيضا ـ يشى بمثل هذه األمور ‪ ..‬دعوة المرأة التى تنطق بها سكتاتها ولفتاتها ‪ ..‬هى‬
‫محرك كل تلك األمور حينها توقف عن كل مايدركه فيها وتساءل ‪ :‬هل يجوز أن ينشطر األنسان إلى‬
‫نصفين ‪ ،‬نصف يرغب ونصف يتحفظ ؟ فاذا كلمة بين العينين ‪ ،‬ناطقة واضحة ال لبس فيها وال مجال لظن‬
‫وتأويل !‪ ..‬انها ‪ ،‬هى األخرى ‪ ،‬يجتاحها نفس األحساس ‪.‬‬

‫وسع الحوار البسيط الدافىء فأثرى المشهد ومنحه ألفة عبرت بهما الحواجز وألغت المسافات ‪ .‬بدا حالما‬
‫وهو يجتر ذكريات الزمن الجميل ‪ ،‬أستوحاها كلها من أفالم األبيض واألسود وهو يقيس ذلك الزمان بمدى‬
‫نعومته وصدقه ‪ ،‬ولما ال وهو زمن الوضوح مابين األبيض واألسود ‪ .‬فنادى فيها متحمسا ‪ :‬أنا لما بأشوف‬
‫كل حاجة قديمة تخص زمن الخمسينات والستينات بأدعى ربنا أن يطلع علينا حد بأختراع يخلى األنسان‬

‫‪272‬‬
‫ممكن يرجع ولو يوم واحد يعيش فى وسط الناس دى ويمشى فى شوارعهم ويأكل من أكلهم ويتكلم‬
‫زيهم ‪ ..‬حتستغربى لوقلتلك أيه اللى بيعجبنى فى الزمن ده ‪ .‬أبتسمت ‪ :‬أيه ؟ ‪.‬‬

‫ــ بحب أوى أتفرج على الرجالة والستات بتوع زمان ‪ ..‬تحسى كده أن الست كانت مليانة أنوثة فى لبسها‬
‫وفى كالمها وفى حركتها ‪ ..‬كانوا أد أيه متحضرين ومحترمين حتى وهمه قاعدين فى حفلة بيسمعوا أغنية‬
‫ألم كلثوم ‪ ..‬حتى الرجولة كان لها ميزان تانى فى الزمن الجميل أما دلوقتى فأحنا بعد السنين دى كلها وبعد‬
‫التطور والتكنولوجيا بقينا متخلفين عنهم فى كل حاجة ‪ ..‬فى كالمنا وفى حركاتنا وفى عيشتنا وفى لبسنا‬
‫لدرجة أنك ماتقدريش تفرقى فى الشكل بين شاب وبنت لو أنت ماشية وراهم كلها بقت بنطلونات وكله‬
‫بيلبس من بعضه وبقت حاجة تأرف ‪ .‬غسلت وجهها بضحكة ‪ :‬واللـه أنازيك تمام دايما بأحلم بزمن سهل‬
‫وبسيط مش معقد وتكون كل مشكلة ولها حل ‪ .‬تنهدت وأبتسمت ‪ :‬ومش معنى كالمى ده أنى رافضة‬
‫الموجود دلوقتى وال محنوقة منه بالعكس أنا شايفة حاجات حلوة لسه فيها ريحة األيام الجميلة ‪.‬‬

‫ــ زى أيه ؟ سكتت وكأنها تخجل من األجابة ‪ ،‬إال أنها نطقت حين أستحثتها نظراته المترقبة ‪.‬‬

‫ــ زى صوت اليمام اللى بيغنى أول النهار مايطلع على الشجرة الكبيرة اللى قدام البيت ‪ ..‬هو نفس صوته‬
‫بتاع زمان وكأنه بيتحدى الفوضى والمأسى ومافكرش يهرب وفضل ثابت فى مكانه وحافظ على أغنيته‬
‫وما أتغيرش ‪ ..‬بيفكرنى بأيات ونعمة والخواجة كرم وعم نوح ‪ ..‬دول كمان ماأتغيروش فضلوا زى‬
‫ماهمه وكأنهم صحاب الزمن الجميل ورث وبيحافظو عليه ‪ .‬تفحصها دون أن ينطق ‪ ،‬لمحت فيه دهشة‬
‫وأستغراب وأشياء كثيرة لم تفهمها ‪ .‬فعاجلته بعد أن شعرت بأنها كشفت عن حالة شعورية تالزمها طويال‬
‫ولم تفصح عنها إال فى تلك اللحظة ‪ :‬طبعا أنت أكيد بتقول على عبيطة ؟!‪.‬‬

‫ــ اللى عندها أحساس عالى كده لدرجة أن صوت اليمام بيرجعها للزمن الجميل مستحيل يتقال عليها أى‬
‫حاجة المدح وال ذم ‪ ..‬كفاية بس أن الواحد يفضل يتأملها وهو ساكت ويدعى ربنا فى سره أنها تشوف فيه‬
‫حاجة من الزمن الجميل عشان ترضى عنه !! ‪.‬‬

‫ــ كتير أوى كده ‪ .‬قالتها وهى تدارى فرحتها ‪.‬‬

‫ــ أكيد أنتى رومانسية ‪.‬‬

‫ــ أنا ‪ ..‬نطقتها ساخرة ‪ .‬ثم قالت ‪ :‬الرومانسية ممكن تركب على أى حد اللى على اللى قاعدة قدامك دى ‪.‬‬

‫‪273‬‬
‫ــ أشمعنى ؟ ‪.‬‬

‫ــ عمرك سمعت عن واحدة عاشت مأساة لمدة تالتشر سنة منهم تسع سنين فى السجن وخرجت‬
‫رومانسية أو حتى طبيعية مش محطمة ‪ .‬أنصت لها وهو يسأل نفسه ‪ :‬أزاى محطمة وصوت يمامة بيأثر‬
‫فيها ‪ .‬أستشفت حيرته ‪ :‬يا أستاذ خيرى أنا لسه عايشة فى حالة تقدر تسميها كده مرحلة النقاهة ‪.‬‬

‫ــ طب خدى بالك المرحلة دى بالذات محتاجة حد جتبك تكونى مرتاحة له ‪ .‬كانت أبتسامة رائعة جعلته‬
‫ينطق بعفوية ‪ :‬أنتى ما حصلتيش ‪ .‬تفتحت شفتيها عن ضحكة راضية بدالل يفصح عن أنوثتها ‪ .‬سكتا‬
‫فجأة ‪ ..‬ربما يدور فى ذهنها مايدور فى ذهنه ‪ ..‬يقال أن هناك صلة خفية وخطوط أتصال غير مرئية‬
‫تصل مابين وجدان الناس ‪..‬نظرت فى ساعتها ثم أرتبكت وهى تعلنه ‪ :‬أنا الزم أمشى عشان ألحق أرجع‬
‫األتيليه ‪ .‬أحترم رغبتها ثم نظرت أليه طويال وهو يضع نقودا على المائدة ‪ ،‬راقبت حركته المتأنية وهاتف‬
‫يدعوها أن تشده إليها من جديد ‪ ،‬لم تجبه وهو يسأل ‪ :‬حتمشى لوحدك ؟ قامت من مكانها وكمن تعلن أن‬
‫هذا الذى يختلط سواد شعره بالبياض ‪ ،‬هو فتاها ‪ ،‬بدا لها أكثر الحاضرين شبابا وتألقا ‪.‬‬

‫أفصحت له عن معلومة واجبة ‪ :‬مش حينفع نمشى مع بعض ‪ ..‬أنا حأمشى األول ‪ .‬فى مكانه لبث واقفا لتمر‬
‫من أمامه قبل أن يهمس لها ‪ :‬بكرة الصبح حأستناكى عند باب األتيليه عشان فى حاجة مهمة الزم تاخديها‪.‬‬
‫رمشت بعينيها ‪ :‬حاحة أيه ؟ ‪.‬‬

‫ــ بكرة تعرفى ‪ .‬أدلت رأسها بأبتسامة وأنصرفت ‪ .‬لم يتبعها ‪ ..‬تركها تغيب حتى تاهت فى الزحام ‪ ..‬جلس‬
‫إلى كرسيه ويده المرتعدة تبحث فى جيوبه عن علبة السجاير التى فى يده األخرى !!‪.‬‬

‫الفصل التاسع‬

‫فى طريق عودتها أستقلت تاكسيا كئيبا تحت قيادة سائق يحمل وجهه كل أعراض الشر ‪ :‬اللـه يخربيت أم‬
‫دى عيشة سودة كل طلب أخده أتذل فيه ساعتين بسبب أم الزحمة دى ‪ ..‬حاجة تأرف ‪.‬‬

‫جلست فى الخلف هادئة تحاشت التجاوب معه ‪ ،‬الزالت محاطة بأجواء اللقاء الذى يسرى أيقاعه فى رأسها‬
‫بطيئا تسترجع كل مقاطعه بالصوت والصورة ‪ ..‬تبعثرت أبتسامتها فى وجهها حين مر بها مقطع خيرى‬
‫وهو يدلى بأعترافه ‪ :‬أنتى الحاجة الجديدة اللى فى حياتى ‪ .‬لجمت أبتسامتها سريعا كى اليتهمها السائق‬
‫‪274‬‬
‫الذى يتابعها من المرأة بالجنون ‪ .‬مرت ساعة قضتها بين التقييم المنطقى وحالة التوهان التى تتخطفها بين‬
‫كلماته ووسامته حتى تلقت خبر وصولها بنبرة غليظة على لسان السائق ‪ :‬حتنزلى أول شارع شامبليون‬
‫وال أخره ‪ .‬أفزعتها كلماته وتابعت الشارع عبر النافذة ‪ :‬حأنزل هنا ‪.‬‬

‫تسلمتها زيزيت قبل أن تلتقط أنفاسها وهى على نفس الحال من الصمت والتوهان ‪ .‬لم يردها الى هذا‬
‫الواقع سوى كلمات زيزيت الملهوفة التى قطعت عليها الطريق وقادتها للداخل ‪ :‬تعالى أحكيلى بالتفصيل‬
‫أيه اللى حصل ؟ مشت معها حتى عتبة مكتبها كأنها تحت تأثير تنويم مغناطيسى ‪ :‬كان بيكلمنى عن نفسه‬
‫وعن مشاكل الوالد ‪ .‬ثم سحبت نفسا بطيئا بينما زيزيت تقرأ أفكارها دوما حسب الصورة التى تراها ‪.‬‬

‫ــ دى مش مالمح واحدة كانت بتتكلم عن مشاكل والد أبدا!! ‪.‬‬

‫ــ مش فاهمة تقصدى أيه ؟ ‪.‬‬

‫ــ أقصد أنى شايفة قدامى واحدة طايرة من على األرض وغرقانة لشوشتها ‪ .‬جاهدت أن تحبس أبتسامتها ‪:‬‬
‫طب أدينى فرصة أطلع البيت أرتاح شوية وبعد كده حأقولك على كل حاجة ‪.‬‬

‫ــ ماشى ياهدى ‪ .‬قالتها وهى تضحك ‪ .‬ثم مرت األخيرة أمام عينيها بخفة راقصة باليه حتى بلغت الباب قبل‬
‫أن تتوقف فجأة حين أستعادت وعيها وتلفتت ‪ :‬نورا سألت عنى ؟ ‪.‬‬

‫ــ سألت ‪ .‬فزعت ‪ :‬وقلتى لها أيه ؟ ‪.‬‬

‫ــ ماتقلقيش قلتلها أنكى رحتى للحاج سالمة تديله دفعة من حساب القماش ‪ .‬تحررت مخاوفها ثم عادت‬
‫إلى عالمها ‪.‬‬

‫دخلت شقتها ‪ ..‬ساعدها جو الهدوء أن تحتفظ بحالتها ‪ ..‬أحتضنت مشاعرها حتى باب غرفتها وأوصدته‬
‫خلفها ‪ .‬عتمة الستارة تنشر صمتا فى الغرفة ‪ .‬أضاءت النور فظهر السكون من حولها فأحالها معبدا‬
‫ترتاح فيه روحها ‪ .‬خلعت حذائها وألقت بحقيبتها فوق كرسى التسريحة ‪ ،‬جلست على حافة السرير‬
‫مفسحة ساقيها قبل أن تدلى رأسها تسترجع كل مادار فى لقائها ‪ ..‬شعرت أنه أستولى على وعيها كامال ‪،‬‬
‫تنتابها حالة شجن تتكثف فى كل كلمة قالها ‪ .‬بينما عقلها يطوف داخله سؤال كبير ‪ :‬كيف سلبها الحماس‬
‫للمقاومة ؟!‪ ..‬خضعت بسهولة ‪ ..‬نفذ اليها وتسلل الى عالمها ‪ .‬مسحت الغرفة بعينيها قبل أن ترتد نظرتها‬
‫حين قلبت كفيها ‪ ..‬تذكرت رغم عنها لمسة يده القوية ‪ ،‬تتبعت بخيالها رحلة أصابعها بين أصابعه التى‬
‫‪275‬‬
‫التزال تحمل بصماته كأنه وشم منحوت على جلدها ‪ .‬شعرت بوقع كلماته على بدنها المستسلم وتسربت‬
‫إليها فتكشف أن قلبها المعلق فى صدرها يتلوى ويتشكل من جديد‪.‬‬

‫فى اليوم التالى ‪ .‬أنتهى خيرى من شرب الشاى واقفا ‪ ..‬يزرر قميصه ثم أطفأ سيجارته وفتح باب الشقة ‪.‬‬
‫هبط للساللم مترددا ‪ ..‬كان مقلقال فى مكانه أمام باب األتيليه ‪ ،‬يتحين الفرصة لظهور هدى واألنفراد بها ‪.‬‬
‫عليه أن ينتظر ‪ .‬لم يفكر فى أمر هذا األنتظار لكنه البد أن ينتظر ‪ ،‬فان حبيبته التى عشقها ولمس دفء‬
‫أصابعها باألمس تستحق األنتظار ‪.‬‬

‫تدلت من يده علبة مستطيلة مرسوم عليها جهاز محمول عليه شعار " سامسونج " ‪ .‬عشر دقائق نخر فيها‬
‫األنتظار قد ميه راقب خاللها بحذر تحركات " رضا وفضيلة " ذهابا وأيابا فى القاعة كأنهما فى دورية‬
‫حراسة إلى أن ظهرت زيزيت بحيويتها التى تسبقها ‪ ،‬تتبعها هدى بجمالها اآلسر ومن وراءهما نورا‬
‫تحتضن مجموعة أقمشة وهى تعلن ‪ :‬أنا عايزة توب من كل لون يامدام ‪ .‬ألتفتت إليها األخيرة قبل أن تدخل‬
‫مكتبها مبدية موافقة إال أنها لمحت هذا الكيان المبتسم الواقف أمام المدخل ‪ ،‬أنحرفت ناحية هدى التى‬
‫أنتبهت على أثر لكزة فى جنبها ‪ :‬شوفى مين اللى واقف عند الباب ‪ .‬ينظر إليها من خلف الزجاج ‪ ،‬أحمرت‬
‫وجنتاها ‪ ..‬توترت وخفضت رأسها قليال بينما هو اليكف عن التطلع إليها ‪ ..‬أبتسمت له دون أن تتحرك‬
‫فأظهرت لها زيزيت نظرة تشجيع للخروج إليه ‪ .‬أقتربت نورا منهما تراقب المشهد قبل أن تستعيد هدى‬
‫تماسكها على صوت أبنتها المتابعة للحظات البوح الصامت ‪ :‬هو عمو خيرى واقف ليه كده ‪ .‬لم تنتظر‬
‫توضيحا وتحركت ناحية الباب تفتحه فتقدم منها خطوتين ‪ :‬صباح الخير ياعمو خيرى ‪.‬‬

‫ــ صباح الخير يانورا ‪ ..‬أخبارك أيه ‪.‬‬

‫ــ الحمد للـه ‪ .‬ثم رفع يده ملوحا لهدى من فوق رأس نورا التى تراجعت للوراء ناحية أمها تواجهها ‪ :‬عمو‬
‫خيرى بيشاورلك ياماما ‪ ..‬عايزك ‪ .‬أضطربت وهمست كأنها تتوجس منها ‪ :‬أروح أشوف يمكن عايز‬
‫يسألنى عن حاجة ‪ .‬إال أنها ظلت متجمدة فى مكانها ‪ ..‬ثوان وتحركت رغم أهتزازها الواضح ‪ ..‬أجتازت‬
‫مدخل األتيليه فتقدم منها خطوة ‪ ..‬رمقته بأرتباك فنظر إليها طويال ‪ ..‬يحاورها بعينيه ‪ .‬أكتسى وجهها‬
‫بتعبير مرتبك ‪ ..‬بادر بنبرته الجذابة ‪ :‬أزيك ياهدى‬

‫ــ الحمد للـه كويسه ‪ .‬قالتها وهى تتلفت فى حرج ناحية زيزيت ونورا ‪.‬‬

‫ــ أنا جايبلك حاجة معايا ‪ .‬نظرت للعلبة ‪ ..‬أتسعت حدقتا عينيها ‪ :‬حاجة أيه ؟‪.‬‬
‫‪276‬‬
‫ــ ده موبايل ومعاه خط تشغيله النهاردة عشان حأكلمك أول ماتخلصى شغل ‪ .‬أحست برجفة وبدا صوتها‬
‫متقطعا ‪ :‬مش حأقدر ‪ ..‬قاطعها قبل أن تكمل أعتراضها ‪ :‬أرجوكى ياهدى أنا محتاج أتكلم معاكى كتير ‪.‬‬
‫صمتت مترددة ثم تناولت هديته بأصابع باردة وكل منهما يخطف من وجه األخر نظرة مستشفة بينما الجو‬
‫بينهما مشحون بكهرباء خفية ‪.‬‬

‫حولت نورا بصرها نحوهما فاذا بها تواجه مشهدا حيا يعجز العقل عن التسليم بواقعيته ‪ .‬جاهدت تحبس‬
‫دهشة كاد يفلتها لسانها ‪ ،‬التفتت لزيزيت ‪ :‬أيه اللى أخدته ماما من عمو خيرى ؟ ! تجاوزت سؤالها ‪ :‬مش‬
‫حتدخلى تجهزى شغل النهاردة ؟ حيرة نورا أخذت قوة صوتها ‪ :‬أنا بأسأل عن اللى ماما أخدته ؟! بدا‬
‫وكأنها تسمع أجابة زيزيت بال أمل كبير حين ردت بملل وبصوت رخو وهى تدقق فيها بنظرة قصدت منها‬
‫أن توحى لها بأنها فارغة المعانى ‪ :‬مش فاهمة أيه يانورا ‪ ..‬تالقيه بيديها أى حاجة ‪.‬‬

‫ــ أى حاجة يعنى أيه ؟ ! ضاقت بها ‪ :‬أيه حكايتك يانورا ده أنا بأقول عليكى لماحة !! رمت بكلماتها كى‬
‫تفهم ‪ .‬ظلت نورا تتأملها مليأ ! ‪ ..‬خيل إليها وهى تتأملها أن فى نظرتها لوما على غباء لم يخطر لها ‪.‬‬

‫كانت درجات السلم خلف خيرى بخطوة أو خطوتين فصعدهما متراجعا بينما ينظر بطرف عينه اليسرى إلى‬
‫هدى وهى تدخل األتيليه ‪.‬‬

‫فور دخولها ‪ ،‬أقتحمتها نورا متساءلة ‪ :‬أيه اللى أنت أخدتيه من عمو خيرى ده ؟ همهمت وحولت‬
‫نظراتها لآلرض ‪ :‬ده موبايل ! قالتها وهى تحتفظ بعينيها منخفضتين ‪ .‬ولم ترد على ماقالته ‪ .‬فهى تدرك‬
‫أن األنطباع األول تتوقف عليه بقية األستجواب ‪ .‬راحت تفتش عن تبريرات بينما تابعت نورا ‪:‬‬
‫وعمو خيرى يجيبلك موبايل ليه ؟ حاولت هدى أن تتجاوز لغة العيون إلى الكالم ‪ .‬لكنها كانت تتراجع‬
‫أمام صفع نظرات أبنتها المحملة بالشكوك فأضطرت لخلق موقف ‪ :‬األستاذ خيرى قابلنى من كام يوم‬
‫على السلم وعجبنى الموبايل بتاعه ‪ ..‬قبل أن تتابع روايتها قرأت فى عينى أبنتها أتهامات قاسية أدناها‬
‫" طب ليه تقبلى منه الموبايل " ‪ ..‬تابعت ‪ :‬ولما سألته أنى محتاجة أشترى موبايل فعرض أنه حيجيبلى‬
‫واحد وبعد كده حأحاسبه ! ‪.‬‬

‫ــ برضه مش قادرة أفهم ‪ ..‬لما أنتى محتاجة موبايل ياماما كنتى قلتيلى ‪ .‬كانت نبرتها تأنيبية‪ .‬أرادت أن‬
‫تسمع أجابة شافية من أمها حتى اليصيبها خبل من كثرة األسئلة التى تحتوى دهشة وحيرة ‪ ،‬بينما لم‬
‫تفصح هدى عن نفسها إذ لم تكن لها القدرة على الظهور والسيطرة وأخذ زمام الموقف فى حين تولت‬
‫‪277‬‬
‫زيزيت مهمة الدفاع وصارت تحدث نفسها وتحدثها وهى تسحبها ناحية مكتبها بعيدا عن األم الخائفة ‪ :‬أيه‬
‫األسئلة الخايبة دى يانورا ؟! ‪.‬‬

‫ــ تقصدى أيه يعنى يامدام زيزيت ‪.‬‬

‫ــ أنا ماقصدش حاجة يانورا بس عايزاكى تهدى شوية على مامتك !‪ .‬أنصتت لمناشدتها وخطر لها هاجس‬
‫سكنها ال تعلم له سببا محددا يتردد بقوة داخلها ‪ :‬أكيد فى حاجة غريبة أنا مش فهماها بين ماما وعمو‬
‫خيرى !!‪ ..‬تداعت مخيلتها تستعيد قراءات سابقة ذات صلة ‪ :‬عشان كده بأشوف عمو خيرى كتير عند باب‬
‫األتيليه ‪ ..‬آه ‪ .‬كانت كعادتها تختزن المشهد فتفرد له تفاصيل فى ذهنها ثم أتجهت ناحية حجرة التفصيل‬
‫بحماسة ‪ ،‬تتوق إلى األنفراد بنفسها لتدرس وتحلل مارأت ومافهمت ‪ .‬فتتعادل أمامها فرص الوصول مع‬
‫أمها الى حل أو أزمة ‪ ،‬فهى ال تتبين أيا منهما حتى تحزم أمرها على األختيار ‪.‬‬

‫فى تلك اللحظة أقتربت زيزيت من صديقتها المرتبكة وأنتزعتها من هذا األرتباك ورافقتها حتى المكتب‬
‫تهدىء مخاوفها تجاه أى رد فعل محتمل من نورا التى ظلت طيلة النهار تفكر فى المشهد ومعانيه كأنما‬
‫فتحت بابا فى رأسها للهواجس ‪.‬‬

‫‪0000000000‬‬

‫بعد ماهدأت الحياة ظاهريا فى منزل "بدرية" وأستقرار حالتها الصحية بعد أن خفت أوجاعها ورحل الورم‬
‫من تحت عينها مخلفا هالة زرقاء باهتة بفعل دهانات ومسكنات بترشيح من طبيب الطوارىء‬
‫بـ " مستوصف المبرة " والذى تابع حالتها لمدة أسبوع حتى شارفت مرحلة الترميم على األنتهاء فى‬
‫حضور شبه يومى من " منصور" الذى تكفل بكل المصاريف تقربا منه لنيل مغفرة وعفو عن موقفه‬
‫الباهت وقت " العلقة " فأظهر تعاطفا شديدا وخجال مضاعفا خصوصا أمام " نوسة " التى واجهته فى‬
‫البداية بمشاعر غضب مستعرة أزكاها أبتعاده عنها أسبوعا كامال منزويا خلف خجله ‪ .‬غير أنه تمكن‬
‫وبفهلوة بلدى بأحتواء هجومها المتصاعد شارحا موقفه بصراحة وباللغة التى تفهمها مبديا تحفظا على‬
‫مقولتها ‪ :‬أنا مش شايفة قدامى غير واحد بيتلبش من أمه وبيترعب من خيالها وأنا ياأبن الناس يلزمنى‬
‫راجل يحمينى مش خـ ‪ !! ..‬تصدى لرأيها بما يحفظ له رجولته ‪ :‬أنتى شايفة الحكاية كلها من زاوية‬
‫الجدعنه والرجولة أنا بقى شايفها من ناحية تانية ‪ .‬وصلت جملته منقوصة إلى حجر بدرية فترنحت فى‬
‫جلستها على الكنبة ‪ :‬حتة أيه اللى أنت شايفها يامنصور وسايب أمك عمالة تجرى ورانا زى الرهوان‬
‫‪278‬‬
‫وكلها كام يوم ياأبن فايزة وحنبقى أنا والبت دى مرميين فى الشارع من غير متوى ‪ .‬قصدت من وراء‬
‫كالمها زيارة أمه للحارة منذ يومين حين لمحتها من وراء الشيش تداهم الحارة كريح عاتية وسط كوكبة‬
‫من البلطجية تتقدمهم كالغزاة تعاين واجهة البيت وهى تصعد بعينيها ألعاله فظهرت مالمحها مخيفة لعينى‬
‫بدرية المتابعة من فتحات الشيش ‪ ،‬فأرتعدت وأصاب قدميها تنميل وكأنها تتعرض لصدمة عصبية بعد أن‬
‫سيطرت عليها " فوبيا فايزة " ‪ .‬لم تنتظم أنفاسها ولم تهدأ ضربات قلبها إال بعد أن راقبتها وهى تنسحب‬
‫من الحارة خافضة الرأس كثورهائج تنطح مايعترض طريقها ‪ .‬رحلت وبصحبتها الحاج " محمد " مقاول‬
‫هدد الذى عاين الموقع فى أنتظار أشارة البدء التى أقتربت لحظتها بعد أن أوشك األستاذ محمود المحامى‬
‫على صياغة أتفاق مع سكان البيت وأصحاب المحالت بعد عدة جلسات منفردة عبروا فيها عن توجسهم‬
‫حين أستهل محمود المحامى لقاءاته معهم بجمل الترغيب وعرض مبالغ الترضية قبل أن يذكرهم فى نهاية‬
‫كل جلسة بعبارة تهديد ووعيد أستوحى مفرداتها من حديث موكلته ‪ :‬اللى عايز يتراضى ويتكل على اللـه‬
‫بالذوق واألدب أنا تحت أمره أما اللى عايز يركب دماغه ويسوق فيها ويحط العقدة فى المنشار أحنا‬
‫حنتكفل بيه وحنعمل معاه الصح ومايجيش بعد كده يعيط ‪ .‬أطلق وعيده وترك لهم أسبوعا لمراجعة‬
‫المواقف على أن يكون اللقاء القادم فى مكتبه هو األخير ألنهاء كافة األجراءات ‪ .‬فى نفس اللحظة بدت‬
‫بدرية عاجزة عن أستيعاب مايحدث حين شعرت بوجود مؤامرة تستهدفها بعد أن تم أقصاءها من أى‬
‫مفاوضات ولم تتلق أى دعوة كباقى السكان مما دفع نوسة الجراء أتصال سريع بـ "منصور " لتفهم منه‬
‫مايدبر ‪ ..‬أثقل كالم بدرية كاهله حين زارهما لتهدأة مخاوفهما موضحا وجهة نظره ‪ :‬ده أنا بقول عليكى‬
‫ياست بدرية دماغك كبيرة وخبرة ‪ ..‬فكرى معايا واحدة واحدة ‪ ،‬قالها وألتفت لنوسة التى أحكمت أناملها‬
‫حول ذقنها ‪ :‬أحضرينا يانوسة ‪.‬‬

‫ــ أدينى قاعدة متلقحة وسامعة ‪.‬‬

‫ــ أمى عايزة تراضى السكان وتطلعهم من البيت عشان تهده وتجيب عاليه واطيه وده حقها وهى حرة فيه‬
‫وناويه تطلع ببرج خمستاشر ستاشر دور وبرضه ده كالم حلو ومعقول وكمان مصلحة للكل ‪.‬‬

‫أنتفضت بدرية وألتحقت حيرتها بكلماتها ‪ :‬مصلحة لمين يامنصور و المصلحة كلها حتبقى فى كرش أمك‬
‫اللى مسلطة البلطجية على السكان ليل ونهار عشان يقبلو غصب عنهم بقرشين مايجيبوش أوضة فى‬
‫حارة سد وهى تلهف البيت خالص مخلص زى التفاحة المقشرة ‪ .‬تأمل وجهيهما ‪ :‬كالمك كله صح من‬
‫أوله ألخره وحأزود كمان فوقيهم كلمتين ‪ :‬البيت حيتهد والسكان حيمشوا بس أمى مش حتحط جنيه واحد‬
‫‪279‬‬
‫فى كرشها ‪ ..‬الخير كله اللى عندها وكمان اللى حييجى بعد كده حيتحط كله فى كرشى أنا وأبويا لوحدينا ‪.‬‬
‫تراكمت الدهشة فى عينى نوسة وأمها التى أنشقت شفتيها عن رغبة محمومه ‪ :‬يعنى أيه الكالم ده ؟ ‪.‬‬

‫ــ يعنى الفلوس والقهوة والمخزن والبيتين كل دى أمالك أمى وبأسمها وهى حرة تتصرف فيها زى ماهى‬
‫عايزة ‪ ..‬الكالم ده ممكن يحصل فى حالة وجودها ! قالها وخفض رأسه قليال رافعا عينيه ألعلى فى لقطة‬
‫شريرة وتابع بنبرة تصلح لكل األحتماالت ‪ :‬أما لوماكنتش موجودة ‪ ..‬يعنى سافرت مثال أو حتى رجعت‬
‫السجن تانى حتبقى الغنيمة دى كلها بتاعتى أنا وأبويا حنقسمها سوا وكل واحد يأخد نصيبه ‪ .‬تصلبت‬
‫مالمح بدرية قبل أن تهاجمها خياالت سوداء مصحوبة بذكرى ماحدث لها على يد فايزة ‪ :‬تانى يامنصور‬
‫تخطيطات وحركات حلق حوش بتاعتك وتعملى فيها فريد شوقى وبعد كده تطلع حنجرة بس وأخرتها أالقى‬
‫نفسى أنا والبت اليتيمة دى اللى بنتاخد فى الرجلين ‪ ..‬ال ياعم كفاية اللى حصلنا وكتر خيرك لحد كده وروح‬
‫أتصرف مع أمك بعيد عننا ‪.‬‬

‫ــ هو أنا طلبت منك حاجة ياست بدرية وال قلتلك ساعدينى ‪ ..‬المرة دى أنتى ونوسة بعاد خالص والموال‬
‫كله من أوله ألخره أنا اللى مسئول عنه والعبد للـه اللى قدامك هو اللى حيشيل الليله كلها ‪.‬‬

‫بينما الح فى عينى نوسة أضطراب وفزع سقطا مدويان على لسانها ‪ :‬أسمعنى كويس يامنصور وحط‬
‫الكلمتين دول حلقة فى ودانك أنا بحبك وشارياك وعندى أستعداد أتحمل معاك أد اللى أحنا فيه ده عشر‬
‫مرات ‪ ..‬لكن كله إال الدم ؟! تفقد منصور وجهها بنظرة ذاهلة ‪ :‬أيه الجنان اللى بتقوليه ده يابت دم أيه‬
‫وزفت أيه على دماغك أنتى تفكيرك راح لفين ‪ ..‬ماتنسيش يانوسة أنى اللى بأكلمك عنها دى تبقى أمى‬
‫عارفة يعنى أيه أمى ‪ ..‬يعنى األم بتاعة الدين اللى هى أمك ثم أمك ثم أمك ‪ .‬بدل حدته بأخرى هادئة ‪ :‬اللى‬
‫بأقصده وبأخطط له أن أمى تأخد لها كام سنة هدنة ترتاح شوية وتبعد عننا كأنها فى أعارة وال فى أجازة‬
‫مفتوحة لغاية مانشم نفسنا ونقف على رجلينا وتكون المسائل أتظبطت ‪ .‬رنة فرح بانت فى صوت بدرية ‪:‬‬
‫وإن شاء اللـه حتودى أمك أعارة فين ‪.‬‬

‫ــ فى أي حتة تريحها وتريحنا ‪ .‬جملته األخيرة كانت تحوم فى عقله بقوة حين تملكته الفكرة القاسية التى‬
‫صبغت تفكيره حتى تجسدت داخله عمال قابال للتنفيذ بعد أن شفيت أوجاع الضمير وصار السؤال داخله‬
‫مهزوما ‪ :‬أزاى حتعمل كده يامنصور مع أمك ؟ أزاى قلبك حيطاوعك لما تأذيها ‪ ..‬ده أنت لو أبن حرام مش‬
‫حتعمل كده ‪ .‬وقبل أن يخلف السؤال صداه باغتته مالمح أمه بصوتها الذى يجلجل فى أذنيه يحمل كالعادة‬
‫فى طياته تلونا واستهجانا وتهديدا ‪ :‬أبقى بلغ حبيبة القلب لما تشوفها أنى حأهد البيت على دماغها ودماغ‬
‫‪280‬‬
‫العالمة أمها ‪ ..‬ورحمة أبويا يامنصور ألخليهم عشا لكالب السكك وبكره تقول أمى قالت ‪ .‬صوتها يحمل له‬
‫تشاؤما وينصب له فخا وأيقن أن مابداخلها بركانا من الغضب ولن تهدأ ثورته إال بردم فوهته ‪ .‬حين أدرك‬
‫منصور أن ال تراجع والتردد من تدخل جراحى ‪ ..‬أنها لحظة القرار الصعب حيث ال شاهد وال مشهود فأندفع‬
‫بأعصاب ثائرة وأطلق مقولة غضب فى لحظة يأس فى وجه أبوه ‪ :‬أنت خالص يابا راحت عليك ‪ ..‬أنت لسه‬
‫ماشى على أديمه وكل حاجه عندك براحة وبالبطيىء ونظام أصبر وأتقل شوية ماعدش يأكل فى الزمن ده‪.‬‬
‫تمتم بقلة حيلة ‪ :‬السربعة اللى أنت فيها دى مش حتنفع يامنصور ‪ ..‬ماتودناش فى داهية أعمل معروف ‪.‬‬
‫دبدب بقدميه ‪ :‬هو فيه أكتر من كده داهية بقولك أمى خالص شرخت وفتحت ع الرابع وأنا وأنت قاعدين‬
‫زى جوز الطرابيش مش فاهمين حاجة فى أى حاجة وهيه حطت رجليها فى شغل المقاوالت حتهد وتبنى‬
‫وحتبقى من صحاب العمارات يعنى كلها سنة وال أتنين وحتلعب بالماليين وحتبقى شوكتها أقوى من‬
‫دلوقتى عشر مرات وبعدها حتتسلى علينا وحتفوقلنا وحتخلعنا أحنا الجوز من غير ما تسمى علينا ‪ ..‬أنا‬
‫حترمينى فى الشارع من غير ال أبيض والأسود وحتقولى ساعتها بالهنا والشفا عليك نوسة وأمها وأنت‬
‫بقى حتعملك لعبتها يابا وحتحطك فى البيت زى المقام ال تروح وال تيجى وأن كان عاجبك ‪ .‬أحمرت عينه‬
‫وواصل أنفعاله ‪ :‬وأياك تقولى ده كالم فارغ وال مش حيحصل وأنا فاهم وأنت فاهم أن أمى ماعندهاش‬
‫غالى ‪ .‬قالها وأقتحمه بنظراته متساءال ‪ :‬تقدر تقولى أمى زارت المخزن كام مرة الشهر ده ‪ .‬أخفى قلقه‬
‫وتمتم بصوت خفيض ‪ :‬بتاع ثالث أربع مرات ‪.‬‬

‫ــ هى دى البداية ودى الرسمة اللى هى بتكتك لها وأفتكر كويس كالمها اللى بتقوله كل يوم والتانى عن‬
‫القهوة اللى مابتجيبش مصاريفها ومش شايفة من وراها حاجة ‪ .‬قبض على يد أبوه ينقل إليه توتره ‪.‬‬
‫متابعا ‪ :‬أمى بتحط السم فى وسط الكالم والزم تفهم أنها مش حتستنى علينا كتير هى خالص رسمت‬
‫طريقها ومشت فيه وأحنا بالنسبة لها الحول لنا والقوة وماعندهاش أى قلق من ناحيتنا أحنا فى نظرها زى‬
‫خيبتها بالظبط ‪ .‬قابل كلمات أبنه بنظرات مهزومة وأعتراه ضعف سرح فى هيئته ‪ ،‬ولم ينتشله سوى‬
‫مناشدة منصور ‪ :‬عشان خاطرى يابا أركن شويه أنت على جنب وسيبنى أنا أتصرف بدماغى ‪.‬‬

‫ــ تتصرف أزاى يعنى ‪.‬‬

‫ــ ماتقلقش حتبقى كل حاجة تحت عينك ماهو أنت برضه اللى نورتلى الطريق وكالمك هو اللى صحانى من‬
‫غفلتى ‪ ..‬خالص يابا أنا قررت ماتبقاش نهايتى زى نهايتك كده متلقح ليل ونهار على كرسى فى قهوة‬

‫‪281‬‬
‫عشان أخر الليل أالقى تالتين أربعين جنيه مايكملوش معايا يوم ‪ .‬أطلق عبده نفسا أهتز له شاربه‬
‫وأزدحمت فى رأسه عالمات األستفهام وبات طموحه يتخطى حدود الممكن ويشرد فى متاهات المستحيل !‪.‬‬

‫فى اليوم التالى دخل منصور القهوة بخطوات حثيثة تركبه مالمح نشطة بالرغم من حالة األرهاق البادية‬
‫تحت العينين من طول السهر بعدما أحتشد بالفكرة ولم يعد ينام من ألحاحها وتأجج ذهنه كخلية نحل ‪ ..‬مر‬
‫بين أناس على مقاعدهم مجمدين فى أستسالم تام ‪ ،‬يبدون كأنهم هنا منذ بدء الخليقة ‪ .‬سحب كرسيا وجلس‬
‫صامتا يتشمم عاصفة الدخان المتصاعدة من فم أبوه الذى واجهه بعينين ضاقتا أستغرابا ! ‪.‬‬

‫ــ أيه اللى جابك بدرى ‪ ..‬أمك عطتك الجرعة ‪.‬بأقتضاب ‪ :‬خرجت من بدرى ‪ ..‬جه الوله النونو خدها‬
‫ومشى وال حتى قالت رايحة فين ‪.‬‬

‫ــ حقها ياسيدى مش بقت سيدة أعمال ‪ ..‬مرى مالهاش كبير ‪ .‬قال وأعتدل ثم كرر تساؤله ‪ :‬برضه أيه اللى‬
‫جابك بدرى ‪..‬‬

‫ــ عندى ميعاد ‪.‬‬

‫ــ حتى أنت كمان بقيت مهم ‪ .‬تجاهله ومسح القهوة بنظرة قبل أن يهمس ‪ :‬مش قلتلك أمبارح أركن على‬
‫جنب وسيبنى أنا أتصرف عشان ماعدش فى وقت ‪ .‬لعب بلالى الشيشة بين أنامله كأنه يغازل لمجهول ‪:‬‬
‫ماتنورنى يامنصور ناوى على أيه ؟ ‪.‬‬

‫ــ أنا مواعد الوله سليم دلوقتى حأشوره فى الموال بتاعنا ‪ .‬أحتج بعفوية ‪ :‬سليم الشمام ‪ .‬قالها وأغلق‬
‫عينيه وهز رأسه غير مصدق ‪ :‬أنت جرى فى دماغك حاجة ياوله ‪ ..‬أنت عايز تودينا فى داهية ‪ .‬لملم‬
‫منصور أفكاره وعرض حيثياته ‪ :‬الشمام ده يابا لما بيشغل دماغه بيجيب نتيجة صح دى أول حاجة‬
‫والتانية سليم صاحبى وبيحب لى المصلحة عشان هو هارش أنه حينوبه من الحب جانب واللى يهمنا أنا‬
‫وأنت أزاى نخلص من الليلة دى وبسرعة والوله سليم شهادة حق تتقال هو دايس فى مشوار الصياعة من‬
‫زمان وعارف أزاى يخلصنا من الليلة دى من غير مايبقى لنا يد فى أى حاجة ده غير أن مصاريفه على أد‬
‫أيدينا يعنى مش حتجرحنا وال حتكلفنا وكمان سليم مافيش من وراه أى قلق وحيبقى تحت عنينا ‪ .‬أنهى‬
‫كالمه وتوقع رفضا قاطعا وتأنيبا عنيفا ‪ .‬لكنه وجد مرونة وشعر به يقلب ماسمعه حتى أستقرت مالمحه‬
‫على سخرية ظاهرة قبل أن يعاود منصور‪ :‬قولى أيه رأيك فى كالمى ؟ يبدو كقلعة على وشك التسليم إال أنه‬
‫رأى فى أبنه عمال ناقصا يحتاج أتماما ‪ :‬مش عارف أقولك أيه ‪ ..‬بس لو أنت مالى أيدك من الوله ده يبقى‬
‫‪282‬‬
‫خالص ع البركة المهم جس نبضه األول قبل ماتكشف ورقك وأتقل وماتجيبش اللى فى بطنك إال لما تعرف‬
‫هو حيعمل أيه وحيتصرف أزاى وخلى بالك يابنى ليشترى منك ببالش ويروح من وراك يبيعك بفلوس ‪.‬‬

‫ــ ماتقلقش أنا عارف حأجيبه سكة أزاى ‪ .‬رأى فى كالمه تطورا ألفكاره القديمة وأستشعر فيه جرأة‬
‫وأصرار فأبدى موافقة بهزة رأس صامتة ‪.‬‬

‫ظهر " سليم " متخطيا عتبة المقهى بمشية مترنحة ومالمح عكرة ‪ ..‬أخترق الممر األمن بين الموائد باحثا‬
‫بنظراته الضائعة عن مكان منصور الذى لمحه فقام من كرسيه ‪ :‬الوله سليم وصل ‪ ..‬حأقوم أشوف الدنيا‬
‫حتمشى أزاى ‪ .‬نبرة حذرة تحرسها نصيحة أخيرة على لسان عبده ‪ :‬خد بالك يامنصور الوله ده خفيف‬
‫خلى كالمك معاه بحساب ‪.‬‬

‫ــ ماتقلقش أنا عامل حسابى ‪ .‬قالها وأهداه نظرة ثقة ثم أنصرف وتركه يصارع ذلك الكم الهائل من‬
‫المخاوف والقلق ثم قام من مكانه وأحتل كرسيا بموقع متقدم يصلح للمراقبة ‪.‬‬

‫وسع منصور خطوته وقابل سليم قرب النصبة وأستوقفه ‪ :‬تعالى نقعد جنب الشباك ‪ .‬تبعه فى صمت‬
‫بشخصه الصعلوك المختال ‪ .‬جلسا صامتين وأخرج سليم علبه سجاير " كليوباترا" بدت فى يده مهدمة‬
‫إال من سيجارتين كأنه أنتشلها من تحت األنقاض ‪ .‬علق واحدة على شفتيه وناول األخرى لمنصور الذى‬
‫تسلمها ساهما يتملى فى ذلك الوجه الهزيل الذى تغشاه صفرة فأستجمع نفسه حين هبط عليه‬
‫إلهام البداية‪ :‬تشرب أيه ياسليم ‪ ،‬تلفت ناحية جمعة المرابض خلف النصبة قبل أن يعود بعينيه ‪ :‬الصحيان‬
‫بدرى يلزمه واحد قهوة دبل ‪.‬‬

‫ــ بدرى أيه اللـه يخر بيت أمك ده أحنا داخلين ع العصر ‪.‬‬

‫ــ الخالصة مصلحة أيه اللى أنت عايزنى فيها ‪ .‬وسع عينيه وأستدعى جدية مطلوبة ‪ :‬أعدلى وشك عندى‬
‫وفوق لى كده وسلك ودانك ‪ .‬أستجاب ببطء ‪ :‬باين عليها مصلحة كبيرة أوى ‪ .‬بدأ منصور كالمه حذرا‬
‫ومغلفا ‪ :‬لو فى حد ياسليم مضايقنى وواقف فى طريقى وقاطع عنى نعمة ربنا وقافل فى وشى كل الببان‬
‫وأنا من جوايه مش طايقه وعايز أخفيه من قدامى ‪ ..‬نورنى بقى ياأبو المفهومية أعمل أيه ؟! مر بأصابعه‬
‫تحت أنفه كعادته قبل أن تظهر أسنانه الصفراء بفعل ضحكة سمجة ‪ :‬ماتعملش حاجة ‪ ..‬تقوله بخ !! مشى‬
‫منصور بكفه ماسحا شعره من المقدمة حتى المؤخرة يحبس غيظه ‪ :‬حلوة ولطيفة ‪ .‬ثم أشار بيده لجمعه ‪:‬‬

‫‪283‬‬
‫هات يابنى واحد قهوة دبل عشان الخفيف يتقل ‪ ..‬أعدلى دماغك ياسليم أنا اللى عايزه منك تشيل من سكتى‬
‫اللى واقف قدامى ومانع عنى رحمة ربنا ‪.‬‬

‫ــ سهلة ياصاحبى ‪.‬‬

‫ــ عارف أنك جدع وأدها المهم أبقى أنا بعيد وبره الصورة وماليش دعوة بأى حاجة ‪.‬‬

‫ــ وال تشغل بالك ‪ .‬قالها واثقا بدا وأن نفحة من طيب ثورة يناير قد بلغته فتمتع بكل الجرأة التى الحدود‬
‫والسقف لها ‪ .‬أردف ‪ :‬مش عايزك تقلق خالص والتعمل حساب ألى حاجة وأنت أدرى منى وشايف بعينيك‬
‫كله بقى سهل والدنيا بقت سايبة ومافيش حد بيحاسب حد وكل واحد بشوقه يعمل اللى على مزاجه ‪ .‬كلماته‬
‫حركت فى نفس منصور نوازع كامنة ‪ :‬واللـه كالمك أخر صح ‪ .‬هذه المرة فهم المعنى وأطمأن ثم سحبه‬
‫من يده المرتخية على الطاولة فمال معه سليم بصدره ‪ :‬قربلى وأسمعنى ‪ .‬أودع منصور فى أذنه همسات لم‬
‫تلبث أن تكشف عن أضطراب مالمحه ‪ :‬مش فاهم يامنصور ‪ .‬كرر األخير وهو يجاهد غضبته ‪ .‬أن تتوضح‬
‫فى وجهه وفى صوته ‪ :‬كالمى واضح ياحمار وع المكشوف عايزك تشوفلى تصريفه مع أمى وماتشغلش‬
‫بالك بأى مصاريف ‪ .‬كان يطعنه بعينيه ‪ ،‬يحك ذقنه بطرف أبهامه ونظرة كافية ليدرك منصور فداحة طلبه ‪.‬‬
‫رجع بظهره للوراء مشبكا يديه مبديا دهشة بدت صريحة على عينه اليمنى التى تحمل تحتها ورما من‬
‫طول السهر ‪ .‬بينما فى تلك اللحظة كان عبده كامنا فى مكانه ‪ ،‬عقله قد توقف عن التفكيرمنذ لحظة أنفراد‬
‫أبنه بسليم بينما عينيه تعمالن بأجتهاد حين صرف عبده عفريت القلق وحل مكانه مارد التوتر وهو يتابع‬
‫جلستهما ‪ ،‬كأن يراقب انعكاسات الحوار على مالمح أبنه فى حين وجد صعوبة فى قراءة أى عنوان على‬
‫وجه سليم الذى ال يملك أصال سوى مالمح مشتتة بفعل المكيفات ‪ ..‬رفع سليم جفنيه بصعوبة ‪ :‬مش واخد‬
‫بالى ‪ ..‬قول كمان !‪ ..‬أعاد منصور ماسبق ‪ :‬بأقولك اللى عايز أزيحها من سكتى هى أمى ‪ .‬لم يستوعب‬
‫الكلمة األخيرة لكنه أفاق من ذهوله وأسترد لسانه قدرته على النطق عندما أستقرت ثالث ورقات من فئة‬
‫المائة جنيه فى راحة يمناه وهو يتلقى تنويها ‪ :‬دول حاجة ع الخفيف كده عشان تركز معايا وبعدها حتأخد‬
‫منى بالعبيط بس قرينى األول حتبدأ أزاى وحتعمل أيه عشان أنا عايز أخلص بسرعة ‪ .‬كان ذلك أخر‬
‫مايتوقعه سليم ‪ ..‬ظل يرمقه بعينيه الغائمتين قبل أن يجيب برأسه ‪ :‬ماشى ياأبو حجاج ‪.‬‬

‫ــ طب ماتنورنى حتدير األمر أزاى ‪ .‬هرش جبينه التى تقطعها ضربة سنجة قبل أن يتوه بعينيه فى وجوه‬
‫الجالسين محاوال أيجاد أجابة ترضى منصور ‪ :‬أنت عايز أمك تختفى خالص وانهيلك الليلة بشادر‬
‫وعزا والعايزها معززة مكرمة على سريرها مشلولة والضريرة ‪.‬‬
‫‪284‬‬
‫أستنكر كلماته ورد بنرفذة ‪ :‬عزا أيه ومشلولة أيه دى أمى ياأبن الحرام أنا اللى عايزه حاجة كده‬
‫على األد ‪ ..‬رحلة صغيرة مسافة كام سنة بس ‪.‬‬

‫ــ آه أنت عايزها ترجع زنزانتها ‪ ..‬وماله يامنصور زى ماأنت عايز والتزعل نفسك أطلب لى شيشه بقى ‪.‬‬

‫لم ينتشل عبده من متابعة نهاية المشهد إال عندما أنقطع حبله البصرى الموصول حتى طاولة أبنه حين‬
‫حضر " تشكك " وصنع حاجزا بجسده أمام عبده ‪ :‬مساء الفل يامعلم عبده ‪ ..‬مالك قاعد سرحان ليه ؟! مال‬
‫برأسه متجنبا وقفته ‪ :‬مش سرحان والحاجة ‪ ..‬تعالى أقعد هنا جنبى بدل ماأنت واقف فى خلقتى كده ‪ .‬مر‬
‫أمامه ببطء وجر كرسيا قبل أن يشير لجمعة ‪ :‬واحد شاى هنا يابنى عند المعلم عبده ‪ .‬رماه األخير بنظرة‬
‫تأفف سريعة ولم يعقب سوى بنفخة قابلها تشكك بأبتسامة باردة ‪ :‬يدوم يامعلم عبده‪ .‬ثم مارس هوايته‬
‫وأستعرض نشرة أخباره التى ال يعلم أحد مصدرها ‪ :‬بيقولك القمح اللى موجود فى الصوامع يادوب يكفى‬
‫شهرين وبعدها مش حنالقى اللقمة الحاف ده غير كمان الرز والزيت بيقولك أخرهم شهر ‪ . .‬يعنى بالصال‬
‫عالنبى كده األيام اللى جابة حتبقى كلها سواد فى سواد ‪ .‬بدت كلماته كألة تعذيب تسوط رأس عبده‬
‫وتشوش تركيزه فتلوى فى جلسته ‪ :‬ياعم أسكت شوية أعمل معروف ‪.‬‬

‫ــ يعنى أنا غلطان اللى بأفهمك الدنيا رايحة على فين ‪ ..‬الكالم اللى أنا بأقوله ده زى الدهب بيتوزن‬
‫بالجرام ‪ .‬كان ذلك كافيا ألستنفاذ صبر عبده ‪ :‬ياعم أنا مش عايز أفهم دماغى مصدعة وخربانة ‪ .‬صمت‬
‫بعدها تشكك حتى تسلم من جمعة كوب الشاى فأتشغل به فى حين الزال عبده منشغال بمتابعة عمود الدخان‬
‫المنبعث من فتحتى أنف سليم الذى كان يحاول جاهدا العثور على أجابة شافية ترضى طموح منصور الذى‬
‫تبادل معه حديثا هامسا كتبادل المنشورات فى زمن األحتالل بينما تمر الكلمات بينهما فى توتر فأستدعت‬
‫الحالة من سليم تعديل وضعية الفحم قبل أن يسحب نفسا طويال ممتدا و أطلقه فى وجه منصور كقنبلة‬
‫غاز ‪ :‬سيبنى تالت أربع أيام وأنا حأخلصك من المشوار ده كله من طقطق لسالمو عليكو بس أنت تقل‬
‫جيبك عشان الحكاية دى مصاريفها كتير وكل مايتصرف عليها صح حتخلص صح ‪.‬‬

‫أستغرقت جلستهما قرابة تسع سجاير أحتل دخانها رئتى منصور ونفوق حجرين معسل فى صدر سليم‬
‫الذى رمش بعينيه داخل ساعته قبل أن يعلن عن رحيله تاركا جملته األخيرة تدور فى رأس منصور ‪:‬‬
‫ماتشغلش بالك ياصحبى بعون اللـه ومن غير مقاطعة أمك حتعتكف فى السجن أقله خمس سنين وبعدها‬
‫تخرج منه ماتسمعلهاش صوت ده غير مكافأة السجن اللى حتاخدها وهى طالعة شوية سكر على ضغط‬

‫‪285‬‬
‫على ألتهاب مفاصل وبسالمتك تروح تستلمها متسندة ويكون فى أيدك بالصال ع النبى حمادة الصغير اللى‬
‫حيقولها كفارة يانانا !! ‪.‬‬

‫‪0000000000000‬‬

‫حين مشت " هدى " مع التيار الهادر الذى يقوده خيرى ‪ ،‬أذهلتها كلماته وسلبت ماتبقى لها من مقاومة ‪،‬‬
‫لقد غير خيرى من أعماقها الكثير ‪ ،‬بدد خوفها وحررها من صمتها ‪ .‬لم تكن مغامرة لكنها الرغبة األكيدة‬
‫فى تغيير واقع تعيشه فى جفاء ‪ ،‬كى تدخل عالما جديدا لتغير من شروط الحياة ‪ ..‬لم تمر أيام على لقائهما‬
‫األول حتى تحول أقترابهما إلى لزمة من لزوم وجودهما معا ‪ . ،‬حكت له الكثير عن همومها ‪ .‬كان يجد لذة‬
‫فى المشاركة ‪ ،‬لم تنقطع أتصاالتهما فى ساعات النهار والفى سكون الليل ‪ .‬أصبح أكثر أهتماما بتفاصيل‬
‫حياتها وخصوصا عالقتها المتوترة بنورا ‪ .‬أحست بكل هذا الحب تجاه خيرى وأنها تورطت ‪ ،‬فلم تعد تجدى‬
‫صورة " نديم " وهو يسقط تحت ضربات المرض وال طيف ذكريات حبها القديم ‪ .‬ليس هناك من يوقف‬
‫زحف روحها اليه فأستقبلت كلماته مطروحة على ظهرها تنصت له وهى تفتش عن سبب واحد جعلها‬
‫جزءا من عالمه وهو يحكى لها عن صعود نجمه داخل الحركة السياسية فى حين كانت نورا حاضرة يوميا‬
‫وبوفرة فى مكالمتهما كما حكت له بشغف عن نجاحاتها المتوالية فى األتيليه ودورها المتنامى فى تسيير‬
‫إدارته بايعاز من زيزيت التى تحفظ لها الفضل فى تلك النقلة المفصلية وهى تنوه بسخط مجترة عذابات‬
‫تحفظها فى الذاكرة عن سنوات صعبة وظلم فادح ‪ ،‬أنصت لها وشاركها مرارة الذكرى إال أنه بدا واثقا فى‬
‫عالج أثار الماضى مستخدما كعادته أسلوبه السهل الحالم فجعلها تعيش الصورة قبل الصوت ‪ ..‬هكذا تبدأ‬
‫مكالمتهما أشبه بمذكرات يومية البد من تدوينها هاتفيا قبل أن ينهيها هو دائما بجملة رومانسية‬
‫صريحةالمكان فيها للكلمات الغامضة أو العبارات المبهمه متعمدا أن يرفعها من قاموس حواره ‪ ..‬لم يعد‬
‫األمر بينهما مخفيا وراء مصطلحات غائمة ‪ ،‬فراح يطرح أفكارا غير مكتملة تاركا لها الحرية فى وضع‬
‫نهايتها حسب مايتوافق مع مشاعرها ‪ .‬فصارت مكالمتهما الليلية ـ دون قصد منه ـ كجرعة دواء تبقيه حيا‬
‫ليوم قادم ‪ .‬نجح بجدارة فى خطف ثالث مواعيد فى غضون أسبوع واحد كانت كافية لتطهيرنفسيتها من‬
‫األرتباك والخجل وتحررت نسبيا من ماضيها العصيب وصارت هى شغله الشاغل ‪.‬‬

‫باألمس كان لقاءهما الرابع بعد ألحاح شديد أثار دهشتها فقبلت رغم تخوفاتها من نورا أن تلحظ شيئا ‪.‬‬
‫أستقل خيرى سيارته الـ " هيونداى " الزرقاء موديل ‪ . 2010‬كان قد عقد العزم على مصارحتها بضرورة‬
‫أرتباطهما بعدما منع نفسه من عرض األمر عليها هاتفيا كى يضيق عليها حصاره ويضعف حجتها وينتزع‬
‫‪286‬‬
‫منها موافقة ‪ .‬لم يكن متسرعا فقد أدار األمر فى رأسه عدة مرات ومن كل الوجوه قبل أن يطوقه أحساس‬
‫من يدرك أنه على وشك ضياع مرحلة أخيرة من حياته ‪ ،‬فتصاعد داخله صوت محرض الزمه بعد كل‬
‫مكالمة ‪ :‬مش فاضل فى العمر كتير ومافيش معنى للتردد ‪ ..‬أنا بحبها ومش قادر أعيش من غيرها ‪ .‬حشد‬
‫للفكرة ‪ .‬ردد بتعقل ‪ :‬الخطوة دى محتاجه جرأة وشجاعة ‪ .‬أحتار فى الطريقة التى يفاتحها ليعرض ماعزم‬
‫عليه ‪ ،‬حاول أن يتخيل موقفها وسط لحظات قلقه المتواترة ‪ :‬هل تقبل مايعرض عليها أم ستفضل الرفض‬
‫أو التأجيل ؟ كان يرى توزعها بين رغبتها نحوه وخوفها من أوالدها وخاصة نورا ‪ .‬إال أن مابينهما كان‬
‫غامضا ومثيرا فكلما حاول فك رموز نفسه أمامها كانت ظروفها تمنع ذلك مما يطيل لحظات األنتظار‬
‫والترقب فى حين كان لهدى من النباهة مايعينها على حسن التقدير ‪ ،‬فشاءت حكمتها أن تؤجل تسمية‬
‫عالقتها به مالم يتدخل عنصر رغم أرادتها ‪ .‬فظل خيرى يتحين الفرصة محبوسا فى فكرته حتى قرر‬
‫أعالنها اليوم ‪ .‬لم يعد األنتظار حال ‪ ،‬فأستنفر شجاعته وقرر القيام بخطوة أستباقية حين ضغط السؤال‬
‫المشرع فوق رقبته مثل نصل حاد ‪ :‬كيف سيتدبر أمره مع أبنه ويفاتحه ؟! ‪ .‬لم يأخذ وقتا طويال للتفكير ‪.‬‬
‫راح يجمع شتات كلماته حين أستوقف أبنه قبل خروجه ‪ :‬لو مش مستعجل ياشريف أنا عايز أتكلم معاك‬
‫شويه ‪ .‬وضع يده على كتفه وتمشيا سويا حتى المدفأة قبل أن يبادره أبنه بضحكة وتعليق ‪ :‬أنت ناوى‬
‫تجندنى فى الحركة بتاعة عم برسوم ‪ .‬تلقى تعليقه بأبتسامة مصطنعة قبل أن يجلس ‪ :‬تعالى أقعد قدامى‬
‫وبطل تريقة ‪ .‬جلسا متقابلين ولم تفارق عيناه وجه أبنه الذى أستغرب نظراته ‪ :‬أيه الحكاية ‪ ..‬خير يابابا ‪.‬‬
‫تردد ثم هم بالكالم ‪ :‬بقالنا كتير ماقعدناش مع بعض ‪.‬‬

‫ــ أنت الصبح بتبقى فى الشغل وأنا نايم ولما حضرتك بترجع يادوب بناكل لقمة ع الواقف وبأروح شغلى‬
‫ولما بأرجع بالليل بأالقيك فى سابع نومه ‪ .‬ألتقط خيرى الخيط ووجد فى كالمه بداية تصلح ‪ :‬واللـه عندك‬
‫حق يابنى ‪ ..‬عشان كده أنا زهقت ومليت من قعدتى لوحدى طول اليوم من ساعة مابرجع من الشغل لغاية‬
‫تانى يوم الصبح ‪ .‬بحث فى عينى أبوه فوجد نظرة حذرة ‪ :‬الكالم ده معناه أيه يابابا ؟! نقلته تلك الجملة فى‬
‫عمق األرتباك ‪ :‬معناه ‪ ..‬سكت ‪ .‬كان يبحث عن كلمات ذات وقع وتأثير إال أنه أصدر نبرة مخنوقة ‪ :‬معناه‬
‫أنى عايش فى زهق وملل ووحدة والليل بقى شبه النهار وكله محصل بعضه ‪ .‬ظهرت أبتسامة فى عينى‬
‫شريف وفراسة فى غير موضعها ‪ :‬فهمتك يابابا شكلك كده عايز تسافر أمريكا عند نادر وقلقان تسيبنى‬
‫لوحدى ‪ .‬أغمض عينيه مبتسما ‪ :‬أمريكة أيه يابنى ‪ ..‬أنت دماغك راحت بعيد أوى ‪ .‬مال برأسه لألمام‬
‫وقرب عينيه يتأمله ‪ :‬طب فهمنى ؟ ‪.‬‬

‫‪287‬‬
‫ــ أنا محتاج يابنى حد يقعد معايا ‪ ..‬حد يكلمنى وأكلمه ‪ ..‬حد يشاركنى فى لقمتى و لو تعبت أالقيه جنبى ‪،‬‬
‫أنا دلوقتى بكبر مش بصغر ‪.‬‬

‫ــ هى أيه الحكاية بالظبط ؟ سأل شريف نفسه وهو ينظر لألمام متخطيا موقع أبوه الذى تابع ‪ :‬أنا بأفكر‬
‫أتجوز ياشريف ‪ .‬بهت األخيروكأن الدماء أنسحبت كلها فجأه من جسمه فأرتخت مالمحه ‪ ..‬صاحبته تلك‬
‫الحالة لدقيقة كاملة قبل أن يطرح سؤاال سيبنى عليه رأيا فيما بعد ‪ :‬يعنى حضرتك بتفكر وال خالص‬
‫قررت ‪ .‬تبخر الحذر واألرتباك ‪ :‬قررت ياشريف ‪ .‬قالها وأختلس نظرة فى وجهه عاين بها أثر جملته‪،‬‬
‫فوجده مغيبا شاردا ‪ .‬ساد بينهما صمت ‪ ..‬أدلى شريف برأسه لآلرض كردة فعل عفوية بينما تفهم خيرى‬
‫وجومه ومالمح الصدمة التى غزت وجهه ‪ ..‬أنتظر خيرى منه تصريحا أو تعقيبا ‪ ،‬بينما حبس شريف‬
‫أندهاشه وأشاح بوجهه ناحية صورة أمه فى إطارها العتيق و صوت والده يتعقبه‪ :‬أنا مقدر شعورك‬
‫وعارف أن كالمى ده مش سهل عليك ‪ .‬لم يعقب أو ربما لم يسمع فهو اآلن يعيد أحداثا أختزنها بكل‬
‫تفاصيلها ‪ ،‬فأخذته طائفة من المشاهد القديمة فى سرعة البرق ‪ ،‬حاول أن يستوقف بعضها ‪ .‬فها هى أمه‬
‫تتمدد على فراش مرضها فى أيامها األخيرة فاردة ساقيها تتململ ‪ :‬أنا خالص ياوالد اللى فاضلى مش‬
‫كتير ‪ ..‬بس واللـه أنا حأبقى ماشية مرتاحة ومطمنة عليكوعشان معاكم أب عمركم ماحتالقوا زيه فى‬
‫أخالصه وخوفه عليكم وأنا متأكدة أنه حيكمل معاكم الرسالة لغاية األخر ‪.‬‬

‫أنتظر لحظات قبل أن يصرح ‪ :‬حضرتك فكرت كويس فى الموضوع ده ‪ .‬أنشقت شفتيه عن أبتسامة ‪ :‬فكرت‬
‫كتير وأقتنعت ولما حتعرف مين هيه الخنقة اللى أنا شايفها فى وشك دى حتروح فورا ‪ .‬أنتابه فضول‬
‫لمعرفة ماتحمله الجملة القادمة لكنه أيقن أن باألمر مفاجأة ‪ .‬حبس أنفاسه ‪ .‬فأسرع خيرى ألختصار‬
‫الموقف ‪ :‬هدى ‪ ..‬اللى عن قريب حتبقى حماتك !! فلما سمع األسم يجرى على لسان أبوه أصابته هزة‬
‫تسللت إلى كيانه ‪ ،‬وليس يدرى آهو حلم أو حقيقة أم هما معا يصاحبانه وهو يتابع كلمات أبوه ‪ :‬عارف‬
‫أنها مفاجأة كبيرة بالنسبة لك ‪ ..‬بس مش بأيدى ده قدر مكتوب وماليش يد فيه ‪ .‬شاع فى وجهه كومة من‬
‫الذهول دفعته إلى أستغراب يحرك تساؤال حول العالقة بين أبوه وهدى ‪ :‬أزاى وفين وأمتى حصل كل ده‬
‫يابابا ‪ .‬أبتسم خجال ؟ هل تلخص هذه البشاشة الظاهرة مايريد أن يفهمه شريف ؟! ‪.‬‬

‫ــ يعنى ‪ ..‬وده سؤال برضه يتسأل حصل زى ماحصل ‪ .‬ردد عبارته األخيرة تتخللها ضحكة متصلة ‪ .‬فى‬
‫حين أحتقن وجه أبنه وسكنه التوتر وتولته الدهشة وأيقن األن أن أبوه مقبل على حياة أخرى وباغته‬
‫شعور مفاجىء لم يعرف مصدره ‪ :‬هل هو من قلبه أم عقله حين شعر فى تلك اللحظة باليتم !! ‪.‬‬
‫‪288‬‬
‫كان ينتظرها بسيارته بجوار سور مكتبة األسكندرية قبل أن يضطر لألنتقال إلى الرصيف المقابل حين أشار‬
‫له أمن المكتبة باألنصراف لدواعى أمنية ‪ .‬مكث متربصا بالطريق لعشر دقائق داخل سيارته برفقة صوت‬
‫" فيروز" إلى أن الحت له بخطوتها المرتبكة تحاذى سور المكتبة ‪ . .‬أستعمل موبايله لتوجيهها فتلقت‬
‫رنته بفزع ‪ :‬أنا راكن على الرصيف التانى ‪ .‬رفعت وجهها كأنها تتشمم موقعه كأنثى غزال فى موسم‬
‫التزاوج ‪ ..‬ضاقت عينيها حتى تبينته ‪ .‬أخرج لها يده ملوحا ‪ ..‬تأهبت لعبور الشارع وتصدت بطراوة‬
‫جسدها لغارة هوائية أتية من البحر كشفت عن مقاييس نموذجية تجعلها بأمتياز فى صدارة أحالم أى‬
‫رجل ‪ ،‬مشيتها اللينة تشى بمفاتن تعمل جاهدة على أحتوائها ‪ ..‬أسرعت بخطوتها تقتحم طابور سيارات‬
‫يمر ببطء وسط نظرات تطاردها من داخل السيارات ‪ ،‬تتحرك عيون الشهوة صعودا و نزوال مع أنتفاضة‬
‫صدرها المنتظمة ‪ ،‬شعرت بأنها هدفا لكل العيون قبل أن تفلت بجسدها وتجتاز الحارة األولى تاركة‬
‫مؤخرتها المرتجة داخل الجيب األسود نهبا لنظرات ثاقبة من الخلف ‪ :‬ربنا يباركلك فيهم ‪ .‬وسعت خطوتها‬
‫حين أقتربت من باب السيارة تلوذ بها كمن يهرب من مالحقة ‪ .‬تنفست الصعداء فور دخولها ‪ :‬يعنى‬
‫مالقتش غير الحتة دى تستنانى فيها ‪ .‬قطع خيرى أضطرابها وأنتشلها من توترها ‪ :‬أنتى بتاكلى أيه بالظبط‬
‫كل يوم بتزيدى جمال عن اللى قبله ‪ .‬أشاحت بوجهها مبتسمة قبل أن ترد خصلة شعر ألتصقت بحاجبها ‪:‬‬
‫بطل وطلعنا من هنا ‪ .‬نظرة غير بريئه طالتها من عينيه قبل أن يحرر " الفتيس" ‪ :‬حنروح نادى التطبقيين‬
‫اللى ع البحر مكان هادى حيعجبك ‪ .‬خافضة الرأس ‪ :‬ماشى ‪ .‬أنتبه للطريق وأنطلق بينما تعمدت هى‬
‫األنكماش فى جلستها تجنبا لحصول مصادقة صاعقة تكون مصدرا لمشكلة عويصة ‪ .‬خفض صوت‬
‫" فيروز" التى ترثى "شادى" ‪ :‬قلتى لنورا أنت رايحة فين ؟ ‪.‬‬

‫ــ زى كل مرة زيزيت عملت الواجب ‪ .‬أبتسم للطريق ‪ :‬بصراحة زيزيت دى ست مالهاش حل ‪.‬‬

‫ــ ربنا عوضنى بيها لو تعرف أد أيه هى فرقت معايا ‪ ..‬ده لوالها كان زمان األيام كلها كئيبة ‪ .‬رمقها بنظرة‬
‫سريعة عاين بها جلستها المنكمشة ‪ :‬مالك قاعدة محشورة كده ليه ؟ ‪.‬‬

‫ــ بصراحة أنا خايفة ‪ ..‬يوسف وبسمة مش فى البيت يعنى ممكن أوى حد فيهم يشوفنى وساعتها حيبقى‬
‫شكلى أيه ؟! ‪.‬‬

‫ــ ماتقلقيش ياهدى وتوترى نفسك وبعدين يوسف وبسمة مافيش من ناحيتهم قلق خالص أنتى مشكلتك‬
‫كلها مع نورا ‪ .‬فتح تابلوه السيارة وسحب علبة سجائره تناول منها واحدة وأشعلها ‪ .‬راقبته ‪ :‬عندك حق‬

‫‪289‬‬
‫مشكلتى كلها مع نورا ‪ .‬قالتها بمرارة ‪ ،‬فالعالقة بينهما على كف عفريت ‪ ..‬معلقة ومتوقفة تقريبا لكنها‬
‫تمضى فى سكون وبال مشاكل والتزال هدى غير مدركة حتى اآلن لسر تغيرها ‪.‬‬

‫أنتظرت لثوان قبل أن تضيف خبرا صادما ‪ :‬الحاجة الغريبة اليومين دول أنها مش عاجبها لبسى‬
‫وال شكلى ‪ .‬أستقبل جملتها بتجهم ‪ :‬شكلك ولبسك ‪ ..‬أزاى يعنى ؟ أنحرف يسارا قبل أن يختم أستفساره‬
‫مهدئا سرعته مفسحا الطريق لميكروباص قادما خلفه كالصاروخ ‪ :‬بتقولى مافيش حد دلوقتى معرى شعره‬
‫والبيلبس فساتين أو جيبات كله بقى محجب ماعدا المسيحيين والممثالت ‪ .‬رفع حاجبيه حين توصل لرد ‪:‬‬
‫يعنى عايزاكى تتحجبى ‪ .‬هزت رأسها باأليجاب ‪ ..‬لم يلمحها فتابع ‪ :‬دى حرية شخصية ‪ ..‬وأنتى حرة فى‬
‫اللى تلبسيه ومن باب أولى كانت بدأت بنفسها ‪.‬‬

‫ــ بصراحة أنا مش عارفة هى عايزة أيه بالظبط ‪ .‬لمحت فى جانب وجهه أصرارا حين قاطعها ‪ :‬أنا عارف‬
‫هى عايزة أيه ‪ ..‬بنتك عايزةتحجمك و تلغى شخصيتك ويبقى ال عندك كلمة وال رأى ‪ ،‬نورا بتعاقبك عشان‬
‫أشتغلتى فى األتيليه وبدأتى تثبتى وجودك وطبعا هيه مش عارفة تطفشك منه قالت فيه نفسها مابدهاش‬
‫حأشتغلها فى األزرق وأنتى قلتيلى بعضمة لسانك أزاى بتعاملك من يوم ماشفتنى وأنا بأديك الموبايل ‪.‬‬
‫تأخرت فى التعقيب حين شعرت بنفسها محاصرة وسط صفين من السيارات عند أشارة األبراهيمية فأدلت‬
‫برأسها فى محاولة للتمويه فبدا صوتها مكتوما ‪ :‬من يوم حكاية الموبايل دى وأنا حاسة أنها مش طايقانى‬
‫وعصبيتها زادت أوى مع أنها مافتحتش معايا الموضوع ده تانى ‪ .‬أستفزته نبرة األستسالم فقاطعها وخرج‬
‫عن هدوءه ‪ :‬عايزة الصراحة أنتى المسئولة عن اللى نورا وصلتله ده أنتى اللى أدتيها الفرصة تفرد‬
‫عضالتها عليكى وتعاملك بالشكل المهين ده ‪ .‬تداخلت رأسها بين كتفيها وأنكمشت ‪ :‬أنا ؟! ‪.‬‬

‫ــ أيوه أنتى ‪ ..‬طول ماهيه شايفاكى بالضعف ده والغلب ده ومابتاخديش منها موقف حتزيد كل يوم فى‬
‫هجومها عليكى لغاية ماتخليكى تستسلمى وتوصلك لحالة عمتها أيات يعنى التهش والتنش ‪ .‬أبتسمت‬
‫بأستخفاف دون أن تنظر إليه ‪ :‬والمطلوب منى طبعا أنى أوقفها عند حدها وأشدها من ودانها وأقولها عيب‬
‫اللى بتعمليه ده أنا مامتك مش بنت صغيرة بتلعب معاكى ‪ .‬تابعها مدهوشا حين أضافت ‪ :‬هو ده اللى‬
‫أنت عايزه ‪.‬‬

‫ــ هو ده اللى المفروض تعمليه وتجبريها على أحترام خصوصياتك وتعرفيها أن دورها فى البيت هى أنها‬
‫بنتك وبس مش األمر الناهى فى البيت ‪ .‬قصدت الصمت وفضلت الوجوم بينما تابع خيرى يساره بنظرة‬
‫يائسة حين أصطفت السيارات وتكدست أمامه وخلفه فأعتصر عجلة القيادة بكفيه ‪ :‬الدنيا شكلها كده أخر‬
‫‪290‬‬
‫كعبلة ‪ .‬جالت بنظراتها خارج النافذة ‪ :‬طب وبعدين حنعمل أيه أنا الزم أرجع األتيليه ع الساعة خمسة ‪.‬‬
‫كانت نظرة طويلة فى أنتظارها حين ألتفتت ناحيته ‪ :‬خالص مش الزم نادى التطبقيين كفاية على أنك قاعدة‬
‫جنبى ‪ .‬تجنبت نظرته ولم تجد ردا مناسبا على تلك الجملة وكأنها مربوطة معه بعالقة ليس لها هوية‬
‫أوشكل واضح ‪ .‬ربع ساعة مرت ولم تتزحزح سيارة خيرى قيد أنملة عن مكانها التى أنحشرت فى داخل‬
‫بركة راكدة من السيارات‪ .‬بدا وكأنهما بمنفى أختيارى أصطحبا فيه " فيروز " كرهينة يساومان بصوتها‬
‫الوقت فأضفت عليهما ماتضفيه نار مدفأه فى ليلة شتاء باردة ‪ .‬بشاير حركة تنبض فى الحديد الممدد على‬
‫الطريق فأنفرجت مالمحه حين بدأ طابور السيارات يحبو ببطء كسلحفاة عجوز فأستدعت منه اللحظة أن‬
‫يتلو دعاء الطريق ‪ :‬يامسهل يارب ‪ ..‬أمتار قليلة وألتصقت العجالت باألسفلت وصار كل شيىء محنطا مرة‬
‫أخرى ‪ .‬نفذ صبره وهو ينظر لساعته ‪ :‬مابدهاش بقى ‪ .‬ألتفت اليها متأمال ثم مال بجانبه األيمن كأنه يهم‬
‫بأحتضانها ‪ .‬غادر صمته بعدما لملم شعورا فر منه فى الزحام ‪ :‬ماسألتنيش يعنى أنا ليه طلبت أقابلك‬
‫النهاردة ‪ .‬أشارة نفى من رأسها مشفوعة بأبتسامة كانت هى األروع وسط هذا الحصار ‪ :‬مش عارفة ! فرد‬
‫ذراعه وأحتضن مسند كرسيها ‪ :‬أنا بحبك و‪ ..‬ثبتت عينيها بنظرة جانبية فطالت عينيه ومضة بريق ‪ :‬وأيه‬
‫ياخيرى ؟ ‪.‬‬

‫ــ وعايز أتجوزك ‪ .‬مرت لحظة تجمدت فيها هدى جمود صنم‪ ،‬وجمد الزمن نفسه خاللها كأنه يستجمع قواه‬
‫كلها كى يعتدل حول محوره قبل أن ينفضها زلزال الدهشة ‪ ،‬لم تستطع أخفاء صدمة العرض ‪ :‬أيه اللى‬
‫بتقوله ده ياخيرى ‪.‬‬

‫ــ اللى سمعتيه ياهدى ‪ ..‬أنا فكرت كتير قبل ماأقولك كالمى ده ‪ ..‬مش شايف أى سبب يمنعنى أنا وأنتى من‬
‫األرتباط بالعكس كل الظروف اللى حوالينا بتقول أن هو ده الحل الوحيد ‪ ..‬تقريبا أنا عايش لوحدى وأنتى‬
‫كمان زى حاالتى حتى لو كان والدك حواليكى ‪ ..‬أنامحتاجلك جنبى ومن غير ماتكابرى أنتى كمان‬
‫محتاجانى ‪ ..‬مالوش لزمة ياهدى نضيع وقت أكتر من كده ‪ ..‬العمر ماعدش باقى فيه كتير ‪ .‬أنحنى بجبهته‬
‫حتى ضاقت المسافة بينهما وأحتقن وجهه وتابع متحمسا ‪ :‬تعالى نلحق اللى فاضلنا ‪ .‬أنهى جملته ثم راح‬
‫يقرأ فى هاتين العينين األنتظار ـ فلما بلغت نظرتها عينيه حاولت الصمود أمامهما ‪ ،‬شعرت بعمق كلماته‬
‫التى أصابتها بدوار ‪ .‬تمتمت وسط شرودها ‪ :‬مش عارفة !! ‪.‬‬

‫أستجوبها ‪ :‬مش عارفة أيه ياهدى ‪ ..‬أنا بحبك وعايز أعرف دلوقتى أنتى عايزانى وال أل ؟! سؤاله سقط‬
‫على رأسها كجبل !‪ .‬كانا فى داخل السيارة فى عالم منفصل ومختلف تماما عما يدور فى الخارج من سباب‬
‫‪291‬‬
‫ولعنات وغبار وأبخرة عوادم ‪ .‬بينما فى تلك اللحظة المصيرية أصبح وجهها عنوانا لنظرته بينما فى‬
‫نظرتها أستغاثة وأستفسار وفى بسمتها تودد وانكسار ‪ ،‬وفى حركات يديها بطء وتعب ‪ :‬أنا ‪ ..‬بدت الكلمات‬
‫على لسانها كوالدة متعسرة ‪ .‬نظر فى أعماق عينيها فرأى األعتراف ناضجا ينتظر القطاف ‪ .‬أنقذتها عدالة‬
‫السماء حين نزلت على طريق الكورنيش وتحركت السيارات تباعا فألتفت إليها معاتبا ‪ :‬يعنى مش عايزة‬
‫تجاوبينى ‪ .‬ضغطت على لسانها العنيد أن يلين وينطق ‪ ،‬إال إنها تداركت لحظة الضعف وترجته ‪ :‬معلش‬
‫ياخيرى لمانتكلم بالليل حأقولك ‪ .‬أعقبت أقتراحها بأبتسامة ضعيفة ‪ .‬أردفت وهى تتابع الشارع ‪ :‬ياريت‬
‫نرجع عشان مانتأخرش ‪.‬‬

‫ــ حاضر ياهدى زى ماأنتى عايزة ‪ .‬قالها ثم أنطلق فى األتجاه الذى جاء منه ‪ .‬أستعان بسيجارة ثانية تعينه‬
‫على لجم مشاعره ‪ ..‬نصف ساعة كانت هى تكلفة العودة ‪ ،‬مضت هادئة بسيطة تشاركهما فيروز الطريق‬
‫كرفيق ثالث ‪ .‬نظرة أخيرة فى وجهه مصحوبة بأبتسامة حين توقف بسيارته عند نفس نقطة اللقاء‬
‫أمام المكتبة ‪ .‬لم يتمالك نفسه ولم يجد لرصانته أثر أمام تلك العيون وعند ذلك الوجه الذى ينزف حمرة ‪:‬‬
‫حتوحشينى لغاية ما أسمع صوتك بالليل ‪ .‬جملة كانت خارج النص وغير متداولة بينهما فقابلتها بصمت‬
‫زاد من جمالها قبل أن تسلت نفسها من داخل السيارة ومشت أمامه لبضعة أمتار بينما ظل واقفا بسيارته‬
‫فألتفتت تستطلع فوجدته ساهما يتفحص خلفيتها ‪ ،‬شعرت بنظراته تجردها من مالبسها فزاد أرتباكها‬
‫وتلعثمت فى مشيتها فأشفق عليها قبل أن تنفرج شفتيه عن أبتسامة وتحرك بسيارته ومر بحذاها فلمحته‬
‫بنظرة ركنية حتى تخطاها ‪ ،‬فهدأ الجسد المنتفض وأسترخت خطوتها وسرحت مع خيالها ‪ ..‬ظلت أفكار‬
‫تنسج أمامها موقفا ‪ .‬رأت فيه تحول مفاجىء فى عالقتها بخيرى ‪ ،‬فهى اليوم أشد عجزا من أن تفهم هذا‬
‫التطور فى سلوكه ‪ " ..‬بحبك وعايز أتجوزك" جملة صارت تالزمها كأنفاسها طول الطريق ‪ .‬أنتابها شعور‬
‫بالخوف طردته بسرعة ‪ ،‬فهى التريد أن يتملكها مثل هذا الشعور يوما ‪ ،‬تريد أن تنبذ الخوف من‬
‫حياتها ‪ .‬لكنها رغم عنف الدعوة المتسلطة لم تجرؤ أن تستجيب والزال عقلها حتى اللحظة يبدى مقاومة ‪.‬‬

‫تلقت هدى مفاجأة أذهلتها حين أجتازت عتبة األتيليه بحثا عن زيزيت قبل أن تعثر عليها داخل مكتبها‬
‫الزجاجى فأسرعت إليها متسللة وبادرتها بسؤالها المعتاد قبل أن تلتقط أنفاسها‪ :‬نورا سألت عنى ؟ ‪.‬‬

‫ــ يوسف أتصل بيها من شوية وطلعت بسرعة ع الشقة من غير ماتفهمنى حاجة ‪ .‬أجابة غير متوقعة ظهر‬

‫تأثيرها فوريا على مالمح هدى التى تقطعت كلماتها ‪ :‬ليه ‪ ..‬فى أيه ؟ ‪.‬‬

‫‪292‬‬
‫ــ الحقيقة مش عارفة ده أنا حتى أتصلت بيها من عشر دقايق عشان أطمن لقيت موبايلها مقفول ‪ .‬سمعت‬
‫تلك العبارة فأنسحبت مرتعشة ناحية الباب وهى تردد ‪ :‬أنا حأطلع أشوف أيه الحكاية ‪ ..‬أستر يارب ‪.‬‬

‫خطفت الساللم خطفا حتى بلغت باب شقتها ‪ .‬أنتظرت لثوان تنصت قبل أن تفتحه ببطء ‪ ..‬أطلت برأسها‬
‫فواجهت ضجة بدأت بهمهمة قبل أن ترتفع صخبا ‪ ،‬كان مصدرها كل من فى البيت الذين تحلقوا حول‬
‫يوسف بمافيهم نعمة يتلقى التبريكات على دفعات وبعشوائية ‪ ..‬تخطت الباب ساهمة حين أحتل المشهد كل‬
‫مالمحها ‪ ..‬أقتربت بتمهل تدس نظرتها فى الدائرة المنصوبة حول أبنها ‪ ،‬فأنطلقت منها نبرة متفاءلة ‪ :‬فى‬
‫أيه ياوالد ؟ قالتها وهى تبحث عن أجابة فى عيونهم قبل أن تصلها على لسان يوسف الذى أنفلت‬
‫من حصار الدائرة المنسوجة حوله وقابلها مندفعا عند منتصف الصالة بفرحته وضحك ضحكته الواسعة‬
‫التى مايزال محتفظا بها منذ طفولته ‪ .‬فصرخ ‪ :‬نجحت ياماما ‪ ..‬خالص أتخرجت ‪ .‬صرخت معه وقفزت‬
‫وصفقت ‪ :‬بقيت مهندس يايوسف ‪ ..‬ألف حمد وشكر لك يارب ‪ .‬أحاطته بذراعيها وأحتضنته وهى تردد‬
‫تمأل فراغ الصالة ‪ :‬خالص بقيت مهندس ياحبيبى ‪ ..‬بقيت مهندس يايوسف ‪ .‬وكأنها تتأكد من صحة الخبر‬
‫ولم تجد أفضل من رد فعل أتت به نعمة على هيئة زغرودة أطلقتها فأبهرت الجميع ‪ .‬ولم تكن هدى لتعبر‬
‫عن الفرح الهابط عليها مثل ليلة القدر المنتظرة إال دمع ينحدر على خدها فال تستطيع أن تمسكه ‪ .‬تهدج‬
‫صوتها ‪ :‬ياسبحان اللـه دى أول فرحة تدخل قلبى من سنين ‪ .‬أنزاحت ببطء تسحب نفسها حتى المست‬
‫بأناملها سور الكنبة تجاهد نوبة بكاء تلح عليها فشلت فى حبسها ورافقتها حتى جلست تتخطفها رعشة‬
‫فرح ‪ ،‬فأحاطت وجهها بين كفيها ليمتزج فى راحتيها بكاء ضاحك ‪ ،‬فتحرك لها وتأمل الرأس المدفونة بين‬
‫الكفين فنزل على ركبتيه حتى صار فى مستوى رأسها ‪ :‬النهاردة بالذات ياماما مش محتاجين دموع ‪..‬‬
‫النهاردة الزم تفرحى وكلنا نفرح ‪ .‬أنشق كفيها عن وجه غارق فى الدموع ‪ :‬عندك حق ياحبيبى ‪ .‬أنحنى‬
‫بجبهته يقبل يدها المبتلة ‪ ..‬لحظات من الرضا العزيز عن النفس وعن العالم حين يمضى كل شيىء فى‬
‫طريقه سهال دون عقبات ‪ ..‬بدا عليه األرتياح وكأنه أدى واجبا ثقيال كان يجب أن يتمه ‪ ..‬أقتربت منه أيات‬
‫تختال فى مشيتها ورأسها المرفوع يحمل بصمات أعجاب وتقدير ‪ ..‬وضعت يدها على كتفه فألتفت إليها‬
‫قبل أن ينتصب واقفا مبديا أبتسامة حين أنصت لعبارات عمته األتية من قلب الماضى ترددها بأيقاعها‬
‫البطيىء ‪ .‬تسجل موقفا ‪ :‬مبروك يايوسف ياحبيبى خالص بقيت دلوقتى الباشمهندس يوسف نديم خليل‬
‫السبروتى ‪ .‬كانت تنطق األسم واللقب وجسدها يهتز منتشيا تذكره نظراتها المتطلعة لوجهه بأنه الذكر‬
‫الوحيد الباقى من عائلة منقرضة لم يعد لها وجود سوى فى لقب يتعلق فى ذيل تسلسل األسماء وفى بعض‬
‫المصطلحات التى تجرى على لسان أيات وبعض من النواهى والمحاذير واألوامر التى تصبغ دائما‬
‫‪293‬‬
‫كلماتها ‪ :‬خد بالك يايوسف الزم تعرف أنك الوحيد اللى حيحافظ على أسم عيلة السبروتى ‪ ..‬أنا عايزة‬
‫أسمك كده يجلجل فى كل الدنيا وتبقى مهندس مشهور ومعروف ألن ساعتها الناس كلها حتعرف أصلك‬
‫وفصلك وحتشاور عليك وتقول ده حفيد البهوات والباشوات ‪ ..‬سامعنى يايوسف ‪ .‬كانت عنيدة على غير‬
‫العادة صارمة فى نطقها وكأنها تنتزعه من فرحته لتحمله ماهو أكثر من الفرح نفسه ‪ .‬أستسلم لحماسها‬
‫الجارف مبديا موافقة صامتة عبرت عنها أبتسامته ‪ ،‬لم تمهله نورا فرصة التعقيب حين تسلمته قبل أن‬
‫تعتلى يدها كتفه فتوجه إليها بفرحته وعانقها فضغطت بيديها حول ظهره بعدما تنحت أيات جانبا‬
‫حين تالشت فرصتها فى الحديث عن الزمن الذى لم يعد زمنا ‪ .‬أبتعدت عنه نورا قليال دون أن تفارق يديها‬
‫كتفيه ‪ ..‬تتأمله صامتة ‪ ،‬ينتابها يقين اليقبل المجادلة بأنها فقط الوحيدة صاحبة الحق الحصرى فى‬
‫نجاحه ‪ ..‬المشاركة ‪ ..‬ال تلميح وال تعقيب ‪ .‬تملكتها رعشة كان لها صدى فى جسده فأصابه ماأصابها‬
‫فأرتج فى وقفته يتابع كلماتها وقد قاربت عينيها أن تلفظ دموعا ‪ :‬الحمد للـه وألف شكر لك يارب النهاردة‬
‫بس شفت نتيجة تعبى ‪ .‬سكتت لثوان ترصد فى مالمحه أنتصارا كان صنيعتها ‪ .‬أستخرجت من أعماقها‬
‫نفسا طويال تمهيدا للحظة أسترخاء حين أراحت رأسها على صدره تتحسس بنظراتها من خلف كتفيه طول‬
‫الصالة وعمقها التى تجرها لسنوات خلت ‪ ،‬لعلها خمس سنوات ‪ ،‬تذكرت عينيه وهى تعلنان عن شاب له‬
‫أصرار وطموح يطل من السنين القادمة ‪ .‬أستعادت مقولته المنتفضة بأداء المظفر ‪ :‬نتيجة التنسيق طلعت‬
‫وقبلت فى كلية الهندسة يانورا ‪ .‬وحين بادرت بضمه لصدرها تشاركه فرحته سارع يكمل جملته بعد أن‬
‫هدأت عاصفة الفرح التى أجتاحتة ‪ :‬بس كلية الهندسة حتحتاج مصاريف كتيرة أوى يانورا ‪ .‬لم تثنها‬
‫كلماته أو تربك حساباتها فسحبته إلى صدرها فى عنف وأصرار ‪ :‬ماتشغلش بالك بأى حاجة أنت مسئوليتى‬
‫ولوحناكل طقة واحدة فى اليوم لو حأشتغل ليل ونهار ‪ ..‬كله يهون لغاية ماتتخرج وتبقى مهندس يايوسف‪.‬‬
‫أعادها للحظة النجاح يربت على ظهرها ‪ :‬أنتى صاحبة الفضل على بعد ربنا وحأفضل طول عمرى مديون‬
‫لكى وإن شاء اللـه لما أشتغل حتعرفى أن كل اللى عملتيه دين فى رقبتى وربنا يقدرنى على رد جميلك ‪.‬‬
‫فرحت بكلماته وشعرت بالمباهاة ‪ :‬الياحبيبى أنا مش عايزة أى حاجة كل اللى عايزاه أنك تحط رجلك على‬
‫أول الطريق و تثبت وجودك عشان اللى جاى صعب وزى ماأتحملت مسئوليتك طول السنين اللى فاتت‬
‫وكنت لوحدى حأفضل برضه فى ضهرك لغاية ماتبقى أحسن مهندس فى أسكندرية ‪ .‬أبدى موافقة‬
‫غيرمشروطة حين عانقها ودار بها دورة كاملة بينما راقبت بسمة بفضول نظرات أمها المنكسرة وهى‬
‫تتابع مشهد البطولة المطلقة التى تلعبه نورا ‪ .‬فهرب لونها حين أستشعرت بأنها المعنية وراء كل كلمة‬
‫رددتها أبنتها التى أعتادت على تلك التلميحات التى تقفز منها فجأة كأتهامات تغذيها نظرات جانبية كانت‬

‫‪294‬‬
‫تخفى فى طيأتها لوما ومعايرة ‪ .‬نظرات أفلحت لجعلها تقلب فى رأسها صفحات قاتمة تحمل تواريخ صماء‬
‫تدون على الجدران حين كان كل شيىء محبوسا ‪ ،‬الصراخ بال صوت والبكاء بال دمع ولحظات الفرح‬
‫تعيشها خياال الواقعا ‪.‬فأهتزت شفتيها حين عدلت من وضعيتها المنكمشة فأشهرت كلماتها على رؤوس‬
‫األشهاد ‪ :‬أنا يمكن يايوسف ماعملتش اللى عملته معاك نورا وال حتى عشت معاكم يوم بيوم وال شفت‬
‫بعينى فرحكم وحزنكم لكن يعلم ربنا أنى عشتها كلها لحظة بلحظة كأنى شايفاكم قدام عينى ‪ ..‬أيام أمتحانات‬
‫الثانوية كنت شايفاك وأنت قاعد فى اللجنة بتمتحن وكنت شايفاك وحاسة بيك وأنت بتتنطط من الفرحة لما‬
‫النتيجة طلعت وكنت شايفة كل واحد فيكم لدرجة أنى كنت بأتخيل كمان شكل الهدوم اللى أنتو البسنها‬
‫وشكل الضحكة وطريقة الكالم وبالليل وأنا نايمه كنت بأحس بأنفاسكم وأنتو نايمين ‪ ..‬الفرق اللى كان بينى‬
‫وبينكم ‪ .‬سكتت لتوزع عليهم نظرة شملتهم جميعا ‪ .‬ثم عادت بصوت مخنوق ‪ :‬الفرحة كنتو بتوزعوها على‬
‫بعض وحزنكم كنتو بتشيلوه سوا أما أنا فكان فرحى زى فرح المجانين أضحك لوحدى وأتنطط لوحدى‬
‫وأكلم صوركم لوحدى ولما كان الصبر يفارقنى و السجن يضيق على لما أقعد أحسبها وأالقى أن لسه‬
‫قدامى فى الحبس سنين كتيرة أكتر من اللى عدت كانت تجيلى حالة هيجان أفضل أخبط بأيديه على الجدران‬
‫لغاية مايغمى على ويفوقونى وكنت أول ماأفتح عينى أدور فى الوشوش اللى حواليه ما أالقيش حد فيكو‬
‫وساعتها بعرف أنى لسه موجودة فى السجن ‪ ..‬لو أنتو تعبتم قيراط أنا أتعذبت سنين ‪ .‬أنهت كلماتها بسيل‬
‫من الدموع كان لها تأثير بالغ أصابهم بالجمود وقلب المشهد رأسا على عقب ‪ ،‬أما نورا فلم يزعجها سوى‬
‫أعراض التأثر التى أنتشرت فى وجه يوسف فأرادت أن تدخل فى صراع كلمات مع أمها وأن تبحث فى‬
‫قاموسها عن مصطلحات تكون أشد وقعا وتأثيرا إال أنها أمتنعت حين أتجه يوسف ناحية أمه يمسح‬
‫دموعها مبديا لها بعض الثقة ‪ :‬واللـه ياماما فرحتنا من غيرك كانت دايما ناقصة ومالهاش طعم وكنا بنعد‬
‫الساعات عشان نستنى يوم الزيارة ومافيش يوم كان بيعدى إال وأنتى حاضرة معانا ‪ .‬أمنت نعمة على‬
‫كالمه حين حضرت تحجل على قدمها ‪ :‬ده أنتى الخير والبركة ياست هدى والنهاردة يوم فرح مش يوم‬
‫دموع ‪ .‬بينما أستنفرت بسمة بقايا صخبها الذى بدأته منذ نصف ساعة وهرولت إليها ‪ :‬الياست ماما أنت‬
‫بتعملى الحبتين دول عشان تهربى من الحاجة الحلوة ‪.‬‬

‫ــ الياحبيبتى شوفوا أنتو عايزين أيه وأنا أعمله ‪ .‬أندفعت تجثم على صدر يوسف ‪ :‬قول ياعريس نفسك فى‬
‫أيه ؟ تعلقت فى رقبة أخيها الذى دفعها بأبتسامة ثقة ‪ :‬ماتلزقيش فى كده أنا دلوقتى بقيت الباشمهندس‬
‫يوسف وخدى بالك مش أى مهندس أنا تلميذ مكتب المهندس ناجى يعنى راس براس مع أى مهندس شغال‬
‫بقاله عشر سنين ‪ .‬لفتت جملته أنتباه نورا ‪ :‬يعنى ممكن يايوسف تشتغل عنده فى المكتب ‪ .‬تصنع مشية‬
‫‪295‬‬
‫الواثق قبل أن يجلس بجوار أمه على كنبة األنتريه فاردا ذراعيه يتمايل برأسه ‪ .‬لحد دلوقتى لسه مش‬
‫عارف مستنى هدير لما ترجع من السفر ونشوف حنعمل أيه ؟! أجابته كانت سببا لقيام ثورة تفاؤل عبرت‬
‫عنها بسمة ‪ :‬يعنى فى كل األحوال شغلك مضمون ‪ .‬بحكم الغريزة قاطعتها هدى ‪ :‬سيبى كل حاجة على‬
‫ربنا وبطلى زن ! ‪.‬‬

‫ـ أل ماتقلقيش من الناحية دى ياماما يوسف وراه البرنسيسة هدير ‪ ..‬يعنى الخير كله ! ‪.‬‬

‫طعم النجاح اليوم له حالوة الينقصها هذه المرة سوى وجود هدير بجواره ‪ ،‬كان سفرها لتركيا مفاجئا‬
‫بالنسبة له ‪ ..‬أتصل بها فور أعالن النتيجة أبلغها بنجاحه غير أنه أعتقد داخله بأن فرحتها لم تكن كاملة‬
‫كما عهدها وان أجتهد لفهم ذلك إال أنه رجح أن يكون عدم وجودها إلى جواره هو السبب األصيل وراء‬
‫أحساسه ‪.‬‬

‫فاجأتهم هدى تسحب نفسها ببطء وجفونها تقاوم األنكسار قبل أن تعلق حقيبة يدها على كتفها ‪ :‬أنا حاروح‬
‫أجيب جاتوه وحاجة ساقعة عشان نفرح كلنا مع بعض ‪ .‬قفز يوسف من مكانه معترضا طريقها ‪ :‬ال ياماما‬
‫خليكى أنتى أنا حأروح بسرعة أجيب اللى أنتى عايزاه ‪ .‬راوغته ومرت بجواره ‪ :‬أنت النهاردة العريس‬
‫خليك مستريح والواجب ده عندى ‪ .‬قبل أن تبلغ باب الشقة صرخت فيها بسمة ‪ :‬ونبى ياماما زودى الجاتوه‬
‫أبو شوكالته ‪.‬‬

‫ــ ماشى يابسمة أنا عارفة طلبك ‪ .‬طمأنتها وأغلقت الباب خلفها ‪ .‬خرجت وشبحها يظلل همساتهم ‪.‬‬
‫فأفصحت بسمة ‪ :‬واللـه ماما بتصعب على أوى ‪.‬‬

‫ــ ليه بقى ؟ أستفسارا جافا أبدته نورا ‪.‬‬

‫ــ مش عارفة بس بأحسها كده حزينة ومكسورة كان نفسها ياعينى تبقى موجودة معانا وتشوفنا وأحنا‬
‫بنكبر قدامها ‪.‬‬

‫ــ يعنى هو كان بأيدينا ‪ .‬كان تعقيبا أخيرا من نورا تجاوزته سريعا حين طرحت سؤالها البسيط الذى فتح‬
‫بعده حوارا ممتدا ‪ :‬لما أتصلت بهدير وبلغتها بالنتيجة قالتلك حترجع أمتى ؟ ‪.‬‬

‫ــ يوم األتنين مع باباها ومامتها ‪ .‬ثم أنتظر للحظات قبل أن يكسب وجهه مالمح المفكر ‪ .‬أردف ‪ :‬فيه حاجة‬
‫غريبة قالتهالى فى أخر مكالمة أن باباها حيستنانى يوم التالت عندهم فى البيت ‪ .‬لم تخف نورا دهشتها ‪:‬‬
‫‪296‬‬
‫أبوها عايز يقابلك ليه ؟! ‪ ..‬أنتعش بأمل اليعلم له سببا!‪ ..‬ذهب مع منطق بدا له شاذا ‪ ،‬غير أنه راهن عليه‬
‫حين قال فى نفسه ‪ :‬أحساسى بيقوللى أن الحاج أحمد حيعرض على أنى أشتغل عنده فى الشركة ‪ .‬هو‬
‫مايزال يتذكر ذلك اليوم الذى أستقر فى ذاكرته مثل حرج حين أفضت له هدير بعبارات محددة عقب زيارته‬
‫األخيرة لها فى الفيال ‪ :‬بابا عمره مارفض لى طلب أبدا هو كل اللى يهمه فى الدنيا دى أنى أبقى سعيدة‬
‫ومبسوطة وهو عارف كل اللى بينى وبينك وماعندهوش أى أعتراض مادام حبيبى أبن ناس وبيحبنى‬
‫وكمان مهندس زيى ‪ .‬قابل أعترافها بوجه ضاحك تشهد عليه حجرة التصميمات فى مكتب المهندس ناجى‬
‫قبل أن تميل بصدرها على مكتبه تتحسس خده ‪ :‬يعنى بالبلدى كده ياسى يوسف مامتك داعيالك عروسة‬
‫غنية وزى القمر وبتحبك كمان ولما حتتجوز حتعيش مع بابا فى الفيالوكمان الزم تعرف سياتك أن مكانك‬
‫محجوز فى الشركة ‪ .‬قربت وجهها تداعب بأبهامها أرنبة أنفه ‪ :‬يبقى المفروض حبيبى يسمينى أيه ؟‬
‫توارت نظرته ‪ :‬مش عارف ؟! ‪.‬‬

‫ــ سمينى الفانوس السحرى هى دى محتاجة تفكير ‪ .‬أحس بالمهانة ومط شفتيه ‪ .‬الحظت تغيره وأدركت‬
‫مالحقته كلماتها من تأثير بدا سلبيا ‪ ..‬تذكرت أنه دائما وأبدا يرفض هذا المنطق فى التفكير وأن أبدى فى‬
‫مرات كثيرة موافقته على العمل عند والدها ‪ .‬طأطأت رأسها وأمسكت بشحمة أذنه وأبتسمت خجال ‪ :‬نسيت‬
‫يايوسف أنك مابتحبش طريقة الكالم دى والبترتاح حتى لتفكير بابا ‪ .‬كان يرى أن عمله كمهندس فى شركة‬
‫والدها فكرة مشروعة حيث أنه سيحاول جاهدا أن يثبت كفاءة ويحقق نجاح مما سيسهل عليه تحقيق بقية‬
‫أحالمه وأولها أرتباطه الرسمى بهدير ‪.‬‬

‫عاجلته عمته التى تتبعت شروده بسؤال فضولى ‪ :‬وهدير مالمحتلكش بأى حاجة ؟ ‪.‬‬

‫ــ واللـه أبدا ياعمتى ‪ .‬شاركها حالة الفضول وهو يجرجر من الذاكرة مواقف وأفعال ‪ ..‬كان أمرها غريبا ‪،‬‬
‫لم تتطرق على األطالق لموضوع زيارتها المفاجئة ليوسف فى البيت حتى إذا بادرها واصفا أعجاب أمه‬
‫بها وبهديتها ‪ ،‬كانت تبتسم دون تعليق وعندما يمازحها ‪ :‬حماتك بتسلم عليكى وبتقولك خلى بالك من‬
‫أبنها ‪ .‬كانت لها أجابة مختصرة ‪ :‬اللـه يسلمها !!‪ .‬كان غريبا أن يستعيد تلك المواقف فى تلك اللحظة حتى‬
‫أنه مضى يستعيد ذلك مرات كطالب يستعد لألمتحان ‪.‬‬

‫تتوالى المشاهد ذهابا وعودة ‪ ،‬ماذا توحى ليوسف ‪ ،‬وماذا يرى وأى مشاهد عليها أن تمر فوق شريط‬
‫ذاكرته ‪ ،‬كى يدرك ‪ ،‬يحس القادم ‪ ،‬والقادم ماخاطب به نفسه ‪ :‬مصيبة لتكون هدير عرفت حاجة عن‬
‫موضوع ماما ؟! لم يستطع أخفاء ذلك الهاجس وصرح به لنورا التى صدته ‪ :‬أبعد األفكار الهبلة دى عن‬
‫‪297‬‬
‫دماغك يايوسف ‪ ..‬لو هدير كانت عرفت أى حاجة عن ماما ماكنتش سكتت كل الوقت ده والدليل على كده‬
‫أنها قالتلك على ميعاد سفرها لتركيا ‪.‬‬

‫ــ كالمك معقول يانورا ‪ .‬سكتت مخاوفه ؟‪ ،‬إال أن ذاكرته لم تهدأ وأسترجع لقائه بها فى المكتب الهندسى‬
‫فى اليوم التالى لزيارتها ‪ ،‬لم يلحظ عليها أى تغير سوى أنها ترفع حاجبيها المقوسين فيما اليعرف يوسف‬
‫أن كانت قد فعلت ذلك لغضب وربما لدهشة أو أرتياح ‪ .‬أقحمت بسمة نفسها بهمجية معتادة ‪ :‬ماتكبرش‬
‫المسائل بقى وتبقى قلوق ‪ ..‬هدير بتحبك وبتموت فيك وخد منى الكلمتين دول لوجه اللـه يابنى ‪ ..‬أبوها لما‬
‫حيقابلك يوم التالت حيقولك روح أستلم شغلك ياباشمهندس فى الشركة !!‪ .‬أكتفى يوسف بتلك األراء ودخل‬
‫غرفته تلحق به بسمة تتابع معه بشغف نتائج شلته المقربة حين علقت عيناه بشاشة الكمبيوتر يطالع‬
‫صفحة التعليم العالى التى أخبرته بأن أيمن وأحمد ورضوى بات تخرجهم مؤجال لعام أخر بينما تراقب أخته‬
‫بأضطراب ‪ :‬أنتو السابقون ونحن الالحقون ‪ .‬تابعت مايحدث كبروفة أخيرة لما سيكون عليه حالها بعد‬
‫يومين عندما تظهر نتيجتها ‪ .‬توقف يوسف عن المتابعة حين سمع أمه تزرع ضجيجا فى الصالة‬
‫كمسحراتى لحوح ‪ :‬الجاتوه وصل ياأهل البيت ‪.‬‬

‫مر بقية اليوم أسريا هادئا بأمتياز ‪ ..‬بدت جلسة أستثنائية ‪ .‬دارت أحاديث عشوائية بال ترتيب ‪ ،‬عرجت‬
‫فيها أيات إلى زمن العلم األصيل ‪ ،‬كما تعتقد حين أشارت بشجن لعصر كان فيه العلم منظومة مقدسة مبدية‬
‫أعتراضها الشديد على مايتم تداوله حاليا تحت رقابة ورعاية مايسمى بوزارة التربية والتعليم التى تعتقد‬
‫بل تجزم بأنه أسما حركيا للتمويه حيث الصلة له بالتربية وال التعليم ‪ ،‬ثم أدارت نورا الحوار فترة ليست‬
‫بالقصيرة حين أسترجعت مجموعة مواقف لمشوار يوسف التعليمى ‪ ،‬ذكرته وذكرت المستمعين بمرحلة‬
‫صباه حين كان يمتلك جسدا تكسو فيه العظام لحمه فكان أقرب لصورة الهيكل العظمى المتصدرة غالف‬
‫كتاب العلوم األعدادية فترتفع ضحكاتهم إلى سماء الصالة تقطع صمت يوسف وتنزعة من تتبع أحالمه‬
‫التى باتت قاب قوسين ‪ :‬هى الحفلة دى لى وال علي ‪.‬‬

‫ــ الياحبيبى دى لك ‪ ..‬ده أنت النهاردة فرحتنا الكبيرة ‪ .‬رأى أبدته أيات بينما أنتبه الجميع لنعمة التى رددت‬
‫بجدية ‪ :‬ماحدش ينسى النهاردة وأنتو فرحانين كده فضل األستاذ خيرى على يوسف لما كان كل يوم‬
‫ياعينى يقعد يذاكر له بالساعات ‪ .‬فقدت هدى ثباتها حين سمعت أسمه ‪ ..‬ضحك وجهها وتمنت من قرارة‬
‫قلبها أن يدوم الحديث عنه إال أن بسمة بددت أمنيتها حيث سحبتهم ألمر ثانوى ‪ :‬أنا حأشغل أغانى ‪..‬‬
‫عايزين نفرح ‪ .‬ثم وقفت فى وسطهم كمقدم األفراح ‪ :‬تحبوأشغلكم أيه ؟ سبقتهم هدى بعفويه ‪ :‬فيروز !‪.‬‬
‫‪298‬‬
‫كان أختيارا مريبا أدخلهم فى حالة دهشة عبرت عنها نورا حين توقفت عن هز رجلها ‪ :‬فيروز ‪ ..‬وأنتى‬
‫تعرفى فيروز منين ياماما ‪ ..‬أقصد من أمتى بتسمعى فيروز ؟ ! ‪ .‬أدركت تسرعها فى األختيار فدارت‬
‫موقفها بتقمص حالة السذاجة ‪ :‬مش عارفة هيه جت كده !‪ .‬مالت نعمة تهمس فى أذن أيات ‪ :‬هى فيروز‬
‫دى بتاعة أغنية معايا لاير ‪ .‬ضحكت أيات وردت بسمة ‪ :‬دى بتاعة حبيتك بالصيف يانعمة ‪.‬‬

‫أنتصف الليل ورفع النوم شعاره وهتفت الحناجر بالتثاؤب فأنفرط عقدهم وتسربوا فرادى قبل أن يسجل كل‬
‫منهم كلمته األخيرة ‪ :‬مبروك يايوسف ‪ .‬فى تلك اللحظة رن موبايل هدى على أستحياء من داخل جيبها‬
‫فأصابها بفزع نشطت على أثره حدقتيها حين تزاحمت عليها العيون كالجانى تحاصره األتهامات فأضطربت‬
‫كلماتها وهى تنظر فى الموبايل ‪ :‬دى زيزيت ‪ ..‬مش حارد عليها لحسن تمسك دماغى وأنا تعبانه وعايزة‬
‫أنام ‪ .‬كان المتصل خيرى ‪ ،‬أحتوت أرتباكها ونجحت فى األفالت من ردود محتملة فأختصرت الموقف ‪:‬‬
‫تصبحو على خير ‪ .‬قالتها وهى تتجه لغرفتها ‪ ..‬فتحت الباب بسرعة وأضاءت النور قبل أن تلصق ظهرها‬
‫به وأغمضت عينيها أغماضة طويلة ‪ :‬الحمد اللـه عدت على خير ‪ .‬ثم فتحتهما على هاجس ينمو داخلها ‪:‬‬
‫كانت حتبقى مصيبة لو نورا قالتلى هاتى الموبايل أرد على زيزيت ‪ .‬هزت رأسها حمدا للـه على نجاتها‬
‫وسارت بخطوات ثقيلة نحو سريرها والزمتها مقولة‪ :‬الحمد للـه ‪ ..‬الحمد للـه ‪ .‬تمددت وشردت لدقائق‬
‫تستعيد أحداث يومها الحافل المثير ‪ .‬حاولت ترتيبها حسب أهميتها ‪ .‬لم تسعفها اللحظة حين أرتفع صراخ‬
‫" السامسونج " الجاثم على بطنها ‪ ..‬أخرسته بضغطة متوترة قبل أن تتهيأ بوضعية األستعداد ‪ ،‬زحزحت‬
‫جسدها للوراء فى نصف جلسة وأول مانطقت به ‪ :‬خليك معايا دقيقة واحدة ياخيرى ‪ .‬قامت بهدوء وتوخت‬
‫الحذر حين هبطت السرير وتسللت حتى باب الغرفة ‪ ،‬فتحته ببطء ‪ ..‬جالت بعينيها فى أتجاه الصالة‬
‫والطرقة ‪ ،‬لم تجد أحدا فأوصدته بتأنى ووجهها يتصاعد فيه القلق ‪ ..‬عادت لوضعيتها مرة أخرى ‪ ..‬همست‬
‫قبل أن يعتلى " السامسونج " أذنها ‪ :‬معلش ياخيرى كنت بطمن فى حد صاحى من الوالد ‪ .‬كتمت ضحكة‬
‫كادت أن تفلت منها حين طرح سؤاله األول ‪ :‬العروسة قررت أيه ؟!‪ .‬بحثت عن أجابة تصلح ‪ .‬النهاردة‬
‫بالذات العروسة ماقررتش حاجة ‪ ..‬يوسف نتيجته طلعت والحمد للـه نجح ‪ .‬أبدى فرحة ‪:‬الزم ينجح ده‬
‫تلميذى ‪ ..‬ربنا يوفقه فى اللى جاى إن شاء اللـه ‪ .‬عزز الخبر من قوة طرحه ‪ :‬متهيألى كده األمور‬
‫حتبقى أسهل كتير ‪ .‬أصابها الهمس بحشرجة مفاجئة حين كررت كلمة " أرجوك " فأعادت صياغتها بنبرة‬
‫أوضح ‪ :‬عشان خاطرى ياخيرى خلى األمور تمشى واحدة واحدة ‪ ..‬هو أنت مش قلتلى أنك بتفهم كويس‬
‫فى السياسة يعنى أكيد عارف أن فى حاجة أسمها المرحلة األنتقالية ‪ .‬أرسل لها ضحكته المثالية قابلتها‬

‫‪299‬‬
‫بأبتسامة وتابعت ‪ :‬أنا بقى لسه فى المرحلة دى ووضعى لسه ماأستقرش فى البيت ده يادوب لسه بأقول‬
‫ياهادى يعنى ماينفعش أخد خطوة زى دى من غير ماأعرف نتيجتها حتكون أيه ‪.‬‬

‫لم يجادلها كثيرا ‪ ،‬كان قد أتخذ قرارا مسبقا بأتباع سياسة الخطوة خطوة وأن يتسلل إليها بهدوء كى يتمكن‬
‫من فك شفراتها دون أن يصطدم بظروفها الملتبسة ‪ :‬ع العموم أنا مش حأستعجلك ياهدى لسه قدامنا وقت‬
‫لغاية مااللى أنا عايزه يحصل ‪.‬‬

‫ــ وأيه اللى أنت مستنيه يحصل ‪.‬‬

‫ــ اللى طلبته منك النهاردة ‪ .‬دقائق وبدأ مفعول كلماته يسرى فى جسدها كمخدر فأستسلمت مطروحة على‬
‫ظهرها وتباطأت عيناها عن الدوران فى الغرفة تحشد نظراتها فى بياض السقف كأنه شاشة عرض ترى‬
‫من خاللها صورته ‪ ،‬فتحاصرها عيناه الموغلتين فى العمق ونبرات صوته الرتيب تنخر فى كيانها فتصيبها‬
‫بالتنميل بينما هو فى طريقه لخسارة معظم صفاته الوراثية والمكتسبة وكأن فيروسا ال فكاك منه يهاجم‬
‫عواطفه المحسوبة ورصانته المعهودة وبات مقتنعا بأنه مستهدف من قوى قاهرة أجتمعت عليه فى‬
‫ضحكتها وسكونها ‪ ..‬فى نظرتها وفى خجلها ‪ ..‬بات ضعيفا وأيقن أنه فى حالة متأخرة وبات عاجزا عن‬
‫ترويض أندفاعاته ‪.‬‬

‫فى تلك األثناء وعلى غير العادة أنشق جفنى نورا تحت الحاح أنتفاخ المثانة التى أقلقتها من نومها وقامت‬
‫مجبرة تتخبط سعيا وراء أفراغ حمولتها ‪ ..‬خرجت من غرفتها تهم برفع جلبابها فى طريقها للحمام مارة‬
‫بباب غرفة أمها الموصود ‪ ،‬غير أنها توقفت فجأة حين أستقبلت قرون أستشعارها لهمسات صادرة خلف‬
‫الباب ‪ ،‬فكانت دعوة صريحة للتصنت فأنجذبت كالمغناطيس وإلتصقت بالباب ‪ ..‬تجمدت فى وقفتها وبدا‬
‫وجهها عاريا من الدماء حين إلتقطت صوت أمها ‪ :‬أنا مش عايزة مشاكل مع والدى كفاية اللى أنا فيه ‪.‬‬
‫أنقطع الصوت للحظات قبل أن يعاود األرسال بثه وسط هدوء اليعكره سوى صوت أنفاسها ‪ :‬واللـه أنا‬
‫بأتكلم معاك دلوقتى وخايفة لحسن حد من والدى يصحى ويسمعنى ‪ ..‬ياريت تقدر ظروفى ياخيرى ‪ .‬حين‬
‫أخترق أسم " خيرى " أسماعها كتمت أنفاسها وفتحت فمها بدهشة أطاحت بأتزانها فأغمضت عينيها‬
‫لدرجة أوهمتها بأنها قد أصيبت بـ " جلطة " ‪ .‬تجاهد للحفاظ على وقفتها قبل أن تدلى برأسها لألرض‬
‫تبحث عن فهم ‪ ،‬فأستقلت أفكار تروح وتجىء وهى تتحسس وجهها فى محاولة ألستيقاف أى منها‬
‫والتركيزعليها ‪ .‬دقائق غير معلومة ظلت واقفة غير قادرة على األستيعاب إال أنها نفضت رأسها وأختارت‬
‫المواجهة وهمت بفتح الباب ‪ ،‬لكن شيئا منعها فى اللحظة األخيرة ‪ ..‬تحررت أنفاسها وأولت الباب ظهرها‬
‫‪300‬‬
‫وعدلت من وجهتها وأتخذت طريقها للصالة وأنهارت عند أول كرسى ‪ .‬جلست واجمة ‪ ..‬بدت لها الصالة‬
‫على سعتها بقعة ضيقة بينما الصداع يضغط على رأسها فأزاحت خصالت شعرها عن وجهها وضغطت‬
‫بأصبعيها على جبينها ‪ ،‬أصبح رأسها مزدحما بتحليالت وتخيالت ‪ ،‬فأصداء المكالمة تحولت فى رأسها‬
‫لقضية رئيسية تشاورت فيها مع نفسها عن كيفية إدارتها ‪ ..‬كان من أوجه األختالف لديها أتسام المشهد‬
‫فى آن واحد بالتنافر واألنسجام عندما بدأت الرؤية تتضح وتنكشف بعدما أستشفت مايدور ‪ .‬أبتسمت نصف‬
‫أبتسامة مائلة وهى تجز على أسنانها ‪ :‬هى الحكاية كدة ؟! شعرت بنفسها أمام معادلة جديدة ‪ ..‬بدت حائرة‬
‫وغير مستقرة ‪ ،‬مفكرة بالطريقة التى يجب أن تخرج بها من المولد بما يكفى من حمص ‪ .‬صارت تلك‬
‫المكالمة تحبسها فى دائرة من الترقب لخطوة قادمة ‪.‬‬

‫‪000000000000‬‬

‫قرر يوسف أن يعفى نفسه من هم التخمين وقلق األنتظار حين تهيأ للخروج من غرفته أستعدادا للذهاب‬
‫إلى فيال هدير تلبية لدعوة والدها التى وجهتها نيابة عنه فى آخر مكالمة ‪ .‬وطأت قدميه حدود الصالة‬
‫تتصاعد منه أبخرة الـ " وان مان شو" ‪ .‬بدا وسيما كفارس أحالم ‪ ،‬ترجل مستعرضا طوله وعرضه اللذان‬
‫سترهما بقميص أبيض مفتوح تقطعه خطوط زرقاء نحيفة طالقا سراحه خارج " كمر" بنطلونه الجينز‬
‫الضيق الذى أضفى عليه لمسة شبابية وهو من ترشيحات بسمة الذى أستقر عليه ‪ .‬حين بلغ منتصف‬
‫الصالة وجد موكبا ينتظره ‪ .‬تواترت عليه نظرات عمته أيات ونعمة وبسمة التى ترمقه فأغتبط بنظراتها‬
‫وأحس بأنتفاضة سعادة حين تفحصته بعناية ‪ :‬مالبستش القميص الكاروهات الكحلى ليه ؟ ‪ .‬تحركت ناحية‬
‫مرآة " الكونسول" وألتفت اليها بنفور قبل أن يهتز بقامته الطويلة يضم طرفى قميصه فى معاينة دقيقة‬
‫يتداول تفاصيلها مع المرأة ‪ :‬الطقم كله اليق على بعضه ياجاهلة ‪ .‬شعر بالخجل من وقفتهم خلفه ‪،‬‬
‫فأستدار لهم متصنعا هيئة الواثق ‪ :‬بتبحلقوا في كده ليه ‪ ..‬أنتو محسسنى أنى رايح أقابل أوباما ‪ .‬قالها‬
‫وعاد للمرآة ‪ ،‬طبطب على شعره األسود الناعم الذى ورثه عن أبوه ‪ ..‬ومن خالل المرآة كانت عمته أيات‬
‫تبدو األقرب خلفه ‪ ،‬شبكت يديها على بطنها وتملته ‪ ..‬بدت مشوشة فى وقفتها ‪ ..‬لمحها قبل أن تفض‬
‫أشتباك يديها فأنتظرها فى المرآة حين أقتربت منه حتى أصبحت كظله ‪ ..‬رفعت يمناها فوق كتفه لتجعله‬
‫يلتفت إليها بعدما أستقر رأيها على تالوة بيان مقتضب ‪ .‬أستدار إليها مبتسما بوضعية األستماع ‪ :‬عايزاك‬
‫تسوق بهدوء وعقل لسه بدرى على ميعادك ‪ .‬كان ذلك أول بند فى برنامج التحذيرات واجهه يوسف‬
‫بالحجة ‪ :‬عربيتك أصال ياعمتى يادوب بتمشى لسه ماتعلمتش الجرى ‪ .‬لم تعلق وأنتقلت لفقرة ثانية ‪ :‬أى‬

‫‪301‬‬
‫حاجة باباها يعرضها عليك ماتقبلش بتسرع ولهفة خليك تقيل وبينله أنك متردد مرتبك كأنك بتفكر يعنى‬
‫خليك رزين فى ردودك وأياك تنسى أن أبوك هو المرحوم نديم وجدك خليل السبروتى يعنى الزم همه كمان‬
‫يفهموا الكالم ده كويس ويحطوه فى أعتبارهم ‪ .‬أبتسم ولم يعقب وأستمر فى تظبيط شعره ‪ .‬أحس بكلمات‬
‫عمته تستقر داخله حين غاص بنظرته فى المرآة فبدت له مالمحها تناوشه ‪ ،‬تقترب وتبتعد وكأنها تنبع‬
‫من ذاكرة مشوشة ‪ ،‬كان يستعيد مالمحها يوم ذهابه للمدرسة أول مرة عقب دخول أمه السجن ‪ ،‬كانت‬
‫نفس الوقفة ونفس النبرة المتحمسة المتباهية ‪ :‬ماتخجلش من أى حاجة يايوسف وأياك تحس بمهانة‬
‫والضعف خليك فاكرأنك أبن نديم وحفيد خليل السبروتى ‪ .‬شجعته الذكرى فألتفت اليها وأنتزع من وجهه‬
‫أبتسامة وهو يتفرس مالمحها ‪ :‬حاضر ياعمتى ‪ ..‬بس المهم دلوقتى العربية بتاعتك دى حتوصلنى لغاية‬
‫سموحة وال أل ؟! قالها وعاد للمرآة مرة أخرى باحثا عن تفصيلة تستحق التنظيم حين رجع للخلف فى‬
‫مراجعة نهائية ‪ ..‬كاد يصطدم بأمه التى هرولت خارجة من غرفتها تجر قدميها ومن خلفها أطراف‬
‫" الروب " ‪ .‬أقتحمته ودارت حوله تتفصحه من قدميه حتى رأسه ‪ :‬بسم اللـه ماشاء اللـه ياحبيبى ‪ ..‬زى‬
‫القمر ‪ .‬أعتدل لها مبتسما ‪ ..‬الح لها وجهه ‪ ،‬تأملته ورات على صفحته ماكانت تظنه مفقودا ‪ .‬تراقصت فى‬
‫عينيها آمال جديدة طالما أنتظرتها ‪ .‬كانت بجانبه تطوقه بنظرة حين مدت يدها داخل جيب " الروب"‬
‫وأخرجت مصحفا صغيرا حاولت أن تدسه فى جيب بنطلونه الضيق ‪ ،‬فشلت محاولتها فتناوله منها ووضعه‬
‫فى جيب قميصه ‪ :‬خليه فى جيبك ماتشلهوش يايوسف حيحفظك فى كل خطوة ‪.‬‬

‫ــ حاضر ياماما ‪ .‬تنحنحت بسمة وهى تنقربأصبعيها على كتفه ‪ :‬هو أنت يابنى حتروح كده أيد ورا وأيد‬
‫قدام مش حتأخد معاك هدية تدخل بيها ؟ كانت مالحظة هشة أفضت إلى سؤال القيمة له فأرادت أن تبدى‬
‫مالحظة أخرى فكان عقابها صرخة أطلقها يوسف فى وجهها وهو ينظر فى ساعته ‪ :‬كفاية بقى يابسمة أنا‬
‫أتأخرت ‪.‬‬

‫ــ ماشى ياعم المهندس حقك ‪ .‬مسح تحت عينيه غير مبالى ‪ :‬نفسى تطلعى منها ‪.‬‬

‫ــ بقى كده يايوسف ده أحنا لسه فى أولها وبتقولى أطلعى منها ‪ ..‬ربنا يدينا زيك ‪ .‬ناولها أبتسامة‬
‫مصطنعة ‪ :‬ماشى يابسمة لما أرجع ‪ .‬أستوقفته نعمة حين فكت أسر لسانها قبل أن يتخذ طريقه للباب ‪.‬‬
‫نطقت بجدية التتناسب مع وهن نظراتها وثقل لسانها ‪ :‬أول ماتدخل عتبتهم تقول فى سرك قل هو اللـه أحد‬
‫تالت مرات ‪ .‬أضافت عليها أيات‪ :‬وأنت داخل من باب الفيال خليك فارد كتافك وخلى خطوتك هادية ‪.‬‬

‫‪302‬‬
‫ــ حاضر ياعمتى ‪ .‬قالها وأنسحب من بينهم وقد تالشت عنه القدرة على األصغاء ‪ .‬بينما عيونهم تتابعه‬
‫وتالحقه حتى فتح باب الشقة ليصطدم صدره العريض بباقة زهور بنفسجية تصدرت مدخل الباب ‪ .‬مال‬
‫برأسه يمينا ويسارا ثم أطل من فوقه ليجد أبتسامة عريضة تنتظره مصدرها وجه نورا التى دفعته بيدها‬
‫للداخل وبصوت الهث ‪ :‬تعالى أدخل ‪ .‬تراجع خطوتين ‪ :‬أيه بوكيه الورد الجامد ده ‪.‬‬

‫ــ ده ياحبيبى تأخده معاك ‪ ..‬ده حيبقى قيمتك وأنت داخل ‪ .‬تسلمه منها بيدين متصلبتين وكأنه فى‬
‫مراسم تكريم ‪.‬‬

‫كانت مفاجأة بالنسبة له وجد فيها أضافة وحضور راقى ‪ .‬وضعت يدها داخل شنطتها ومازالت تحتجزه‬
‫بجسدها بينما هو يرقبها وهى تطوى ورقة بمائتين جنيه وتحشرها فى جيبه ‪ :‬خليهم معاك ماتعرفش‬
‫الظروف حتبقى أيه ‪ .‬كانت الجملة الواقعية الوحيدة وسط زحام الكلمات منذ خرج من غرفته ‪ .‬أستوقفته‬
‫بعينيها ‪ :‬أول ماتوصل عند باب الفيال رن على عشان أطمن أنك وصلت ‪ .‬تلك كانت أخر أمنية أبدتها نورا‬
‫قبل أن يتخلص يوسف من كوكبة الحريم موليا ظهره لهن خارجا كمتهم أخلى سبيله بكفالة ‪ .‬خرج برأس‬
‫تحوى كمية ال بأس بها من النصائح والمحاذير والتوجيهات تاركهم نهبا لمناخ تصاعدت فيه األمال‬
‫وصارت األحالم مشروعة ‪ ..‬أيقن الجميع أنهم على أعتاب عصر جديد ‪.‬‬

‫أستقل يوسف المصعد حفاظا على هيئته ‪ ..‬لحظات وكان متدفقا بخطواته فى وسط المدخل حين أستوقفه‬
‫نوح بأبتسامة ‪ :‬مبروك ياباشمهندس واللـه فرحتلك فرح كبير أوى وأن شاء اللـه تبقى زى المهندزين‬
‫العظام اللى بنسمع عنهم زى المهندس حسن فتحى وأمثاله ‪ .‬أبتسم دون تعليق تعمد الصمت لعله يحصل‬
‫على ختام سريع لكلمة نوح الذى فاجأه بمواصلة الحديث مستدعيا أمورا باتت فى ذمة التاريخ ‪ :‬زمان كان‬
‫الشاب اللى بيتخرج من الهندسة كان الزعيم عبد الناصر أبو خالد اللـه يرحمه يسحبه على طول ويعينه‬
‫عندنا فى أسوان يشتغل فى السد ‪ .‬كان يتحدث بال توقف بينما يوسف بات القلق والضيق شبحان يتحركان‬
‫فى وجهه متملمال فى وقفته وينقل بوكيه الورد من اليمنى لليسرى لعلى نوح يتوقف الذى مازال يتابع ‪:‬‬
‫عشان كده يابنى المهندس المصرى سمعته سابقاه فى كل مكان ‪ ..‬لحقه يوسف بنبرة صارمة حين تراجعت‬
‫مالمحه ‪ :‬الياعم نوح لغاية كده وحلو أوى أنا ورايا ميعاد مهم دلوقتى وبكرة أن شاء اللـه نتقابل عند‬
‫الخواجة كرم ونشوف حكاية المهندسين دى ‪ .‬أنهى كالمه ولم ينتظر ردا وأنطلق من أمامه تاركه يتساءل‬
‫فى دهشة ‪ :‬ماقالش حنتقابل بكرة الساعة كام ‪.‬‬

‫‪303‬‬
‫فى تلك األثناء أنفض مولد المودعين ‪ ،‬أنسحبت بسمة تشد نورا من يدها وصحبتها الى غرفتهما وهى‬
‫تنوه ‪ :‬عايزاكى تساعدينى فى تظبيط طقم شيك عشان بكره عندى ميعاد مهم جدا جدا فى الكلية ‪..‬‬
‫تفحصتها بتنهيدة ونظرة حادة ‪ ،‬فأمسكت بسمة لسانها عن مزيد من التفاصيل ودخلتا الغرفة ‪ .‬فى حين‬
‫توجهت هدى أيضا لغرفتها تردد أثناء مشيتها ‪ :‬ربنا يوفقك يايوسف وترجع مجبور الخاطر ‪ .‬ثم أغلقت‬
‫بابها فأحدث صريره المعتاد ‪ .‬بينما أنحرفت نعمة ناحية المطبخ لعمل فنجان قهوة كما طلبت منها أيات التى‬
‫دخلت غرفتها تحمل ذكريات تنبض من جديد ‪ .‬بدت هذه الليلة على شاشة الذاكرة تعيدها لزمن " معهد‬
‫الكونسرفتوار " زمن قديم يستقر فى قاع رأسها ‪ .‬مسحت وجهها بكفيها وألصقت ظهرها بظهر كرسيها‬
‫الهزاز وأغمضت عينيها ببطء وقبل أن تنزلق الى هاوية الذكريات فتحتهما حين دخلت نعمة فأردفت أيات‬
‫وكأنها تسجل موقفا ‪ :‬ياه يانعمة ‪ ..‬الواد يوسف النهاردة فكرنى بالذى مضى أيام ماكنت بأروح المعهد لما‬
‫كان شاكر لسه مدرس بيانو على أده وكنت بأخرج من البيت على سنجة عشرة ‪ .‬مصمصت نعمة شفتيها‬
‫وصوت هزهزة فنجان القهوة فى طبقه يتراقص بفعل يديها المرتعشة فيضفى موسيقى تصويرية لمشهد‬
‫أسترجاع أيات ‪ ..‬هى ترى أنها نفس الحكاية لكن فى زمن مختلف ‪.‬‬

‫ــ واللـه عندك حق ياست أيات ‪ ..‬هو كان فى حد أدك لما كنتى تلبسى التايير المشجر والحزام األحمر‬
‫أبو وردة كبيرة ماسك على وسطك اللى كان زى العجمية ‪.‬‬

‫ــ آه يانعمة ‪ ..‬زمن ! تناولت الفنجان الذى لم يتطلب منها سوى أربع رشفات لتنهيه قبل أن تتسلمه منها‬
‫نعمة كالعادة مكفيا فى طبقه لتتقمص كعادتها دور قارئة الفنجان بينما تتابعها أيات وهى تلملم نظراتها‬
‫داخل الفنجان بانتظار التشكل األخير لبقايا البن فى القاع ‪ ،‬راحت نعمة تدير الفنجان فى كفها مغرقة فيه‬
‫نظراتها ‪ ،‬ولكأن وجه أيات قد صار كله حاسة واحدة كبيرة تنتظر الكلمات التى ستفرج عنها هذه الشفاه‬
‫الداكنة السمرة ‪ .‬أختلست نعمة نظرة فى أتجاهها بطرف عينها النائمة ‪ :‬بعد الخسارة مكسب كبير‬
‫ياست أيات !!‪ .‬قالت عبارتها المبهمة ثم غاصت ثانية إلى قاعه تفك طالسمه ‪ .‬ثم أردفت ‪ :‬اللى باين قدامى‬
‫أن فى خسارة قريبة حتحصل هنا فى البيت ‪ .‬لكن بعد نقطتين تالتة حيبقى فيه خير كتير ‪ ..‬والزعل حينزاح‬
‫على جنب هوه باين ومنور فى الفنجان وكله فى علم الغيب ‪ .‬أستقبلت أيات كلماتها بنفخة ضيق وخيبة‬
‫أمل ‪ :‬هو أحنا لسه فينا حيل يانعمة نتحمل خسارة ؟ ‪.‬‬

‫ــ ده أحنا زى الفل ياست أيات واللى جاى بإذن اللـه حيبقى أحسن ‪ .‬تأملت مالمحها التى ذابت بفعل الزمن‬
‫تتسرب منها نبرة ضعيفة مصحوبة بنظرة يأس ‪ :‬هيه لسه فيها اللى جاى ‪ ..‬ماخالص يانعمة ماعدش فى‬
‫‪304‬‬
‫وقت ما راحت علينا وكتر خير الدنيا ‪ ..‬يعنى بالبلدى كده أحنا ماعدش لنا لزمة الجوه البيت وال براه ‪.‬‬
‫أرخت جفنيها على ضحكة ساخرة ‪ .‬أردفت ‪ :‬أنا وأنتى يانعمة عاملين زى اللى راكبين حنطور على طريق‬
‫سريع الكل بيجرى من جنبنا بعربيات زى الصاروخ وأحنا أصال مش عارفين إن كانت حزمة البرسيم اللى‬
‫أكلها الحصان حتوصلنا لغاية فين ‪ .‬أطلقت ضحكة على تعبيرها األخير لكنها ضحكة لها طعم المرارة ‪..‬‬
‫رفعت نظرها للسقف تئن ‪ :‬آه ‪ ..‬بقيت كركوبة وماليش عازة ‪ .‬أبتسمت لها نعمة وبحثت عن رد مناسب‬
‫حين أعتدلت فى ركنها ‪ :‬أيه اللى بتقوليه ده ياست أيات‪ ..‬ده أحنا لنا لزمة ونص أحنا زى الملح فى األكل‬
‫يعنى لومالناش عازة مش حتبقى فى حاجة أبدا لها طعم !! ‪.‬‬

‫شعورها كان هادرا حين تضاعف ألم الخسارة فى نفسها بينما عينيها تتخذ طريقها ناحية النافذة مستجمعة‬
‫ذكريات صارت كلها فى بطن األرض ‪ .‬غامت فى رأسها كل الذكريات واألمنيات واألحالم وباخت أرادة‬
‫الحياة ‪ ،‬و أن كل ماكان يخصها ككأئن حى فى تلك الدنيا كان قد أوشك على األنتهاء ‪.‬‬

‫سحبها خيالها إلى بقعة مظلمة تخترق عتمتها شعاع أبيض كثيف أرتطم بوجهها فأعتصرت عينيها‬
‫تتحاشاه ‪ ..‬صارت فى وقفتها ككتلة صماء واجمة إال من عينين تتحركان بصعوبة تحت ضغط الشعاع‬
‫الوقح الذى تتبعت مصدره بصعوبة حتى أنتهت إلى شاشة عرض سينمائى من طراز الرعيل األول ‪ ..‬بدت‬
‫أبتسامتها مكسورة حين أجتاحت رأسها مشاهد تنساب فى ترتيب عجيب كفيلم تسجيلى يلخص مواقف‬
‫تاريخية عن شخصية مهمة ‪ ..‬عبر الشاشة العتيقة وقفت مشدوهه حين بدأ العرض ‪ ..‬صورة غائمة‬
‫تكشف عن شريط سينمائى ردىء يؤرخ لمرحلة الحرب العالمية الثانية ‪ ..‬صور باهتة ووجوه قديمة‬
‫تطمس مالمحهم نمنمات بيضاء كبقع فطرية تطفح على الشاشة وخطوط طولية متقطعة تظهر وتختفى ‪،‬‬
‫صورة أجبرتها على كرمشة عينيها وهى تجول فى الوجوه كمعاينة مبدئية حتى الح لها وجه أمها المندس‬
‫بين الوجوه وقد لصقت على جبينها الفتة صغيرة كتب عليها " العام ‪ " 47‬تتحرك بثقة فى الهول الكبير‬
‫تدهس بأقدامها سجادة فارسية أصيلة المنشأ وصوتها الراقى يصدح فى البيت الكبير ‪ :‬يانعمان الغدا‬
‫حيكون أيه النهاردة ؟ ‪.‬أبتسمت أيات الصغيرة وأنتفضت بشعرها المجعد فى زمن برىء من األستشوار‬
‫"والبيبى ليس" والكرياتين حين أجاب نعمان الطباخ النوبى ‪ :‬النهاردة ياسوت هانم الغدا شركسية‬
‫وكوشك الماظية والحلو كراميل ‪ .‬صدى صوته يتردد فى أذنيها حتى اللحظة ‪ ،‬كان لسواد وجهه سكينة‬
‫تنبع من أنعكاس بياض أسنانه حين يطالعهم كل صباح بأبتسامتة التى تصنع فيهم أمانا غير مفهوم ‪..‬‬
‫قفزت أيات بعينيها للقطة كانت فى خلفية الصورة دون إرادتها لحظة ظهور الستارة الزيتى الضخمة التى‬

‫‪305‬‬
‫تحبس خلفها نافذة عمالقة ‪ ،‬تأملت حركتها الرتيبة وكأنه عصر ربيعى بال رياح وال عواصف ‪ .‬ألتئمت‬
‫شفتيها بعدما فارقتها األبتسامة حين أنفصلت عيناها عن خلفية الصورة إلى مركزها متتبعة ببطء جسد‬
‫أمها المسجى وأبوها إلى جوارها بوضعية األنحناء يمسح بيده الجبين الذى فقد السخونة ‪ ..‬أتسعت عينى‬
‫أيات حين أختلطت أمامها التفاصيل بين الجسد المسجى ودموع األب المكلوم ودهشة " نديم " الصغير‬
‫حين توقفت أمه عن أحتضانه عندما قررت إال تجيبه أبدا وهو يلح عليها ‪ :‬ماتسيبنيش ياماما ‪ .‬أصابها‬
‫المنظر بتسارع النبض وذبول المالمح حين رافقت عيناها المشهد حتى لحظة التسليم والتسلم التى تمت‬
‫بهدوء بين أمها وعزرائيل فى حضور مؤثر لوالدها الذى فرد ذراعيه يطوى تحتهما نديم وأيات ‪ .‬صوت‬
‫مبهم لم تتبينه كان مصاحبا للمشاهد يعلق على األحداث التى تمر أمامها عبر الشاشة ‪ ،‬إال إنها بعد تركيز‬
‫وتدقيق تمكنت من األمساك بتالبيبه عندما كرر الصوت العريض لزمة رافقته مع بداية كل مشهد‬
‫" ولما كان " صوت منغم جلى النبرات ‪ ..‬مالت برأسها قليال موجهة أذنها ألعلى لتقوم بوظيفتها لتتأكد من‬
‫شخصية صاحب الصوت تزامنا مع حركة شفتيها البطيئة المترددة بعدما توصلت لهوية المتحدث الذى‬
‫تمثل أمامها على شكل خيال ضخم يتحرك قادما من أعلى الصورة تصحبه رهبة وخطوة مزلزلة ‪ ..‬ظل‬
‫يتقدم حتى أمتألت به الشاشة ‪ ،‬فأطبقت أيات على خديها بكفيها ككماشة كرد فعل مفاجىء حين أنسحب‬
‫الخيال للوراء إلى وسط بقعة الضوء التى أظهرتة جزءا جزءا بدءا من القدمين وحتى العنق بينما أيات‬
‫الزالت تحت طائلة األنتظار والترقب منتظرة ظهور الوجه ‪ ..‬نشطت حدقتيها تواكب كلماتها المرتبكة ‪:‬‬
‫ياربى ‪ ..‬أم كلثوم ‪ .‬قالت جملتها بذهول وفتحت فرجة صغيرة فى شفتيها المطبقتين ‪ :‬أنتى ياست اللى‬
‫بتعلقى على الفيلم بتاعنا ‪ .‬أجابة توضيحية بصوتها الرخيم ‪ :‬التاريخ مش بتاع حد ياأيات ده تاريخ يعنى‬
‫يخصنا كلنا وأجدادك ماعاشوش منعزلين فى زمن لوحدهم ده كان زمن يخص بلد بحالها يعنى الكل كان‬
‫مشارك فيه من أول محمد على وأحمد عرابى وسيد درويش والسعداوى وعم سليمان ومصطفى كامل‬
‫والسالطين واألمراء والملوك وعبد الناصر والسادات كل دول كانوا جوه الزمن فى ماكينة التاريخ اللى كان‬
‫كل واحد منهم يادوب ترس صغير جواها ‪ .‬تلقت أذنيها تلك الجرعة الفلسفية بمالمح مدهوشة وأستفسار‬
‫برىء ‪ :‬قوليلى ياست مين السعداوى وعم سليمان دول ‪ .‬طرحت سؤالها وأقتنصت أبتسامة من وجه الست‬
‫حملت كل األجابات والمعانى ‪ :‬السعداوى ده راجل فالح بسيط عنده تالت قراريط فى قريتى بيزرعهم‬
‫خضار وعم سليمان ده بواب العمارة اللى أنا ساكنة فيها فى القاهرة وماتستغربيش أنى قلت أساميهم وسط‬
‫مشاهير التاريخ ألنهم ببساطة كانوا برضه موجودين معاهم فى نفس مشهد الزمن وجوه التاريخ والحكاية‬
‫بس شوية فروق بسيطة فى األدوار واحد بيلعب دور السلطان والتانى بواب الكل موجود ومشارك وعشان‬

‫‪306‬‬
‫كده ماينفعش أقول مثال زمن أم كلثوم لوحدها من غير ماأحط فيه شندى الجزمجى اللى كان بيلمع جزم‬
‫الفرقة بتاعتى قبل ماتطلع على المسرح ‪ .‬حاولت أيات أسكات كل األسئلة واألستفسارات قبل أن تختار‬
‫واحدة منها ‪ :‬والكالم ده معناه أيه ياست ؟ ‪.‬‬

‫ــ معناه أن كل واحد كان موجود فى الوقت ده هو كان مساهم فى شكل وطعم الزمن بس فيهم اللى كان‬
‫واضح أوى فى الصورة وفيهم اللى كان مخفى عن العين لكن المحصلة أن كله كان موجود فى الصورة ‪..‬‬
‫فهمتينى ياأيات ‪ .‬خلعت دهشتها ‪ :‬صح كالمك ياست ‪ .‬غادرت أم كلثوم بكيانها الفارع يتبعها ظلها حتى‬
‫أختفت من المشهد تاركة صوتها يكرر ‪ :‬ولما كان ‪ ..‬أنشق قاع الشاشة معلنا عن ظهور مهيب لوالدها‬
‫الذى خرج برأسه أوال ثم بقية جسده صعودا حتى أكتمل بنيانه شامخا فى وقفته ‪ .‬مرت عليه أيات تطوف‬
‫حوله تتحسسه بأناملها كأنها تقيس طولها بطوله الذى أحتواه داخل بدلة صوف أنجليزى وصديرى لميع‬
‫أشبه بواقى رصاص يتدلى من جيبه الصغير ساعة " زوديك" معلقة فى سلسلة ذهبية أضفت عليه وقارا‬
‫فوق وقار رأسه التى يسندها طربوش أحمر يحفظ توازنه ‪ ..‬تداعت الصور بأيقاع أسرع وصارت الشاشة‬
‫خالية من الغيوم وفى تحسن مستمر وهى تطوى السنوات وتأكل مراحل وحقب ‪ ،‬بدت أكثر حداثة حين ظهر‬
‫والدها وقد طار طربوشه وراء زمنه ورحل الصوف األنجليزى مع أصحابه إلى أن حانت لحظة التاريخ‬
‫المضطربة التى وقع فيها أسيرا داخل بوتقة زمن أنقلبت فيها الثوابت وتبدلت األوضاع حتى برزت لقطته‬
‫األخيرة فى ركن الشاشة والتى توقفت أمامها أيات طويال حين منحها بقايا نظرة قبل أن يرخى جفنيه‬
‫مستسلما لقدر حام حوله لساعة كاملة تخللتها وصيته األخيرة ‪ :‬خلى بالك من نديم ومن نفسك ‪ .‬ثم أبتسم‬
‫أبتسامة أخيرة حين صرح قبل أن تنهار وظائف جسمه ‪ :‬أحنا يابنتى ساللة أصيلة ‪ ..‬بس ياخسارة بقينا‬
‫نتعد على الصوابع وياريت لما تتجوزى أنتى وأخوكى تبقوا تخلفوا عيال كتير أوى عشان ‪ .‬لم يكمل ولم‬
‫تعرف أسبابه فتحاشت النظر اليه وهو يرحل ‪ " ..‬ولما كان " ‪ ..‬كانت مصحوبة هذه المرة بعينى أيات التى‬
‫أمعنت فى وجه جديد تراه ألول مرة مع منتصف السبعينات فكان بجدارة أفرازا حقيقيا لمجتمع‬
‫" معاك جنيه تساوى جنيه " كان أنعكاس لمرحلة أنزوت فيها الرومانسية وأنحسرت قيم الرجولة‬
‫والشهامة ككماليات غير ضرورية فى زمن طفحت فيه األنتهازية والوصولية كفقاقيع فى مرحلة أحالل‬
‫وتبوير للشخصية المصرية وتحولت إلى سمة من سمات هذا العصر وصمت الجميع بطباعها ‪ ،‬فكان‬
‫" شاكر" واحد من أقطابها ‪ .‬ظهرت مترنحة فى وقفتها تصرخ منفعلة فى وجهه ‪ ..‬كان مثار دهشتها أن‬
‫صرختها بال صوت ومازاد أستغرابها وتوترها حين وجدت نفسها محشورة داخل بدن " أم كلثوم " تقف‬
‫وقفتها وتهتز هزتها حتى األيشارب كان معلقا فى يدها بينما الصوت الذى أنفجر منها وخرج مشروخا كان‬
‫‪307‬‬
‫صوتها ‪ ..‬كانتت تعتلى مسرح سينما " ريفولى" رفعت رأسها لتقابل الميكروفون النازل من أعلى ‪ ،‬كانت‬
‫تهتف" ياظالمنى " بدت كأستغاثة أطلقتها بكل ماتبقى لها من قوة ‪ ..‬زلزلتها المفاجأة حين هدأت صرخاتها‬
‫وأنفعاالتها لتجد قاعة خاوية إال من نفر واحد له نظرة مكسورة ووقفة خجولة ‪ ..‬ضاقت عينيها حتى كشفت‬
‫مالمحه ‪ ..‬شاكر! ‪ .‬لم يقدم لها التحية بل أستدار هربا من نظرتها التى سبقته والحقته حتى رحل مذعورا ‪.‬‬

‫جرت المشاهد فى تتابع بين لحظات فرح عاشتها مع نديم أيام نجاحه وزواجه ولحظات أنكسار تجرعتها‬
‫فى طالقها وماتالها من مرحلة الحبس األنفرادى التى أختارتها مرورا بوفاة األخ الوحيد ‪ ..‬وفجأة وقبل أن‬
‫تنزل كلمة " النهاية " أنطفأت شاشة العرض وأظلمت قاعة التاريخ ‪ .‬أتخذ األمر من نعمة نداءين ملحين‬
‫كى تعود أيات من رحلتها داخل آلة الزمن وهى تنادى فيها ‪ :‬أيه التوهان ده كله ياست أيات ‪ .‬بدت األخيرة‬
‫كمجذوبة ندهتها النداهة وهى تردد ساهمة ‪ :‬ولما كان ‪ ..‬ولما كان ! ‪.‬‬

‫الزالت بسمة فى تلك اللحظة واقفة أمام دوالبها واضعة يديها حول خصرها تتفحص فى حيرة مالبسها‬
‫المعلقة كأضحية العيد باحثة عن طقم ترتديه لمقابلة الغد بينما نورا على سريرها ممددة بجسد مسترخى‬
‫وعين تضيق وتتسع بغضب مكبوت وهى تتابع ظهر أختها الذى يميل ثم يعتدل أمام الدوالب‬
‫فكان جزاء ترددها صيحة أنفعال صدرت عن أختها ‪ :‬بقالك ساعة واقفة قدام الدوالب محتارة عشان‬
‫تختارى حتلبسى أيه ‪ ..‬يكونش فرحك بكره وأنا مش واخدة بالى ‪ .‬أنهت أنفعالها مشموال بنظرة حادة‬
‫كانت رادعة لفض األشتباك بين أختها والدوالب قبل أن توارب ضلفتيه ثم سارت بحذر حتى أستقرت‬
‫أمامها ‪ :‬طب قومى ساعدينى يانورا وأختاريلى طقم على مزاجك عشان رايحه بكرة مع أمجد الكلية‬
‫حيسحب شهادة التخرج بتاعته ‪ .‬قالت عبارتها بأستحياء ‪ ..‬واجهتها نورا ساخرة ‪ :‬شهادة التخرج ‪..‬‬
‫بسم اللـه ماشاء اللـه ‪ ..‬واألستاذ أمجد ده ماقالش لسيادتك خطوته الجايه أيه ؟ بعفويه ‪ :‬مش فاهمة ؟! ‪.‬‬

‫ــ يعنى بيخطط أليه وال ناوى يهبب أيه ‪ ..‬فى مشروع حيعمله مثال وال وظيفة مستنياه وال حيكملها صياعة‬
‫وحيلف بيكى فى الشوارع ‪ .‬أشاحت بعينيها مبتعدة عن وجه كساه الغضب ‪ :‬بكرة حأعرف يانورا ‪.‬‬
‫أنتزعت األخيرة ظهرها من ظهر السرير ومالت بصدرها حتى باتت فى مواجهتها ‪ :‬هيه لسه فيها بكرة ‪..‬‬
‫ماتسيبك بقى من الهبل والعبط اللى أنت عايشه فيه ده ‪ ..‬أنا نفسى أعرف أنتى عاجبك أيه فى البنى أدم ده ‪،‬‬
‫شاب عادى وأقل من العادى كمان ال له مستقبل والعنده حاجة يتسند عليها ظروفه متنيلة ماحيلتهوش أى‬
‫حاجة يوحد بها ربنا يبقى أنتى متمسكة بيه ليه وعلى خيبة أيه ؟ ثم نظرت فى عينيها طويال كأنها تنتزع‬
‫منها أعترافا ‪ :‬ماتجاوبينى يابسمة ؟ لم تعترف ‪ ..‬شردت لثوان ‪ .‬كانت دائما ما تدخل فى صراع مع عقلها‬
‫‪308‬‬
‫حول تركيبة شخصيته ومفردات طباعه الذى دائما ينتهى لصالحه ‪ .‬كم تكره هجوم أختها المفاجىء‬
‫وتدخلها السافر فى عواطفها وترفض بأصرار منطق الوصاية وفكرة كونها غبية ومغرر بها ‪ ،‬أنها تدرك‬
‫تماما أيجابيات أمجد وسلبياته التى أصبحت محل نفور جميع من أقترب منه ‪ .‬كان على قناعة بأنه سيتبدل‬
‫متى أستقامت أحواله ‪ ،‬وأن مافى أذهان األخرين عنه بأنه أنتهازى ومنافق ليس ناشئا إال عن لبس‪،‬‬
‫وبالرغم من ذلك فان شيئا ماكان يدفعه فى عناد عن أدراك الحقيقة كاملة ‪ ،‬بينما هى تعلم جيدا أن له طموح‬
‫عابر ألمكانياته وقدراته ‪ ،‬فهو اليقبل الحياة على نحو ماتعرض له ‪ ..‬كان ينتظر من الحياة شيئا أخر غير‬
‫هذا الفقر وهذا النقص ‪.‬‬

‫قاطعت نورا شرودها ‪ :‬سؤالى صعب للدرجة دى وال مش القيه رد ! أرتعشت بنبرتها ‪ :‬أنا بحبه يانورا وكل‬
‫اللى قلتيه عنه مايعيبهوش بالعكس أمجد طموح جدا وعنده أحالم كتيرة ومستنى الفرصة عشان يحققها‬
‫كلها وآهو على األقل أحسن من شباب كتير ‪ ..‬تعالى عندنا الكلية وشوفيهم عاملين أزاى وال بيفكروا فى‬
‫أى حاجة ‪ ..‬نصهم تافهين والنص التانى عقله ضارب ‪ ،‬واللـه يانورا أمجد كويس جدا وبيحبنى بجد ‪.‬‬
‫تعالت أنفاس األخيرة ولم تتفوه بكلمة وأكتفت بنظرة " أرف" تجاهلتها بسمة وواصلت دفاعها ‪ :‬تقدرى‬
‫تقوليلى أيه الفرق بين أمجد وشريف ؟! سؤال مباغت غير متوقع أرتطم برأسها مباشرة ‪ ،‬حاولت أستيعابه‬
‫بهدوء مبالغ فيه وتحاشت الرد وأنسحبت بعينيها بعيدا عن وجه أختها المتحدى التى تولت األجابة ‪:‬‬
‫األتنين تقريبا زى بعض متخرجين من نفس الجامعة ومستقبلهم همه األتنين فى علم الغيب واألتنين‬
‫ماحيلتهومش حاجة ال ورث والفلوس وال أى حاجة ‪ .‬خرجت جملتها األخيرة بأنفعال ثم سكتت ألتاحة‬
‫الفرصة لنورا كى تعقب أو تدافع ‪ ،‬إال أنها أكتفت بنظرة غاضبة كانت محرضة لبسمة لمواصلة هجومها ‪:‬‬
‫لو عايزة الصراحة ومن غير زعل أمجد فى نظرى أحسن من شريف بكتير على األقل مش ساكت عايز‬
‫يعمل حاجة بيفكر ويخطط عشان يثبت وجوده بعكس شريف اللى مصدق لقى شغالنة أى كالم فى مول‬
‫لزق فيها وقال أحمدك يارب وراضى بيها ومبسوط مادام عمو خيرى بيصرف على البيت ومعونة أخوه‬
‫نادر مظبطاه ‪ ..‬يبقى بذمتك ودينك مين األحسن شريف وال أمجد ؟! ‪ .‬ضغطت نورا أضراسها فأصدرت‬
‫صوتا يشبه " الخربشة" كمن يمضغ رمال فتحرر لسانها المحبوس كثور هائج مطلق السراح ‪ :‬بالبساطة‬
‫دى وبالبجاحة دى بتقارنى شريف أبن سميحة هانم واألستاذ خيرى علم الدين بحتتة عيل كله على بعضه‬
‫مايساويش أتنين جنيه ‪ ..‬أنتى خالص عقلك ضرب وأتهبلتى بقيتى مش عارفة أيه اللى يفيدك وأيه اللى‬
‫يضرك ‪ ،‬الواد ده بيلعب بيكى وبيشتغلك وواخدك سلمة وأنتى زى الهبلة ماشية وراه معمية ال قادرة‬
‫تشوفيه على حقيقته وال تفهمى حتى شخصيته الطماعة ‪ ..‬ياخسارة ‪ .‬أنهت هجومها الحاد ثم نظرت لها‬
‫‪309‬‬
‫نفس النظرة التى كانت تحذرها بها من األخطاء دون أن تنطق بحرف ‪ .‬كان عليها أن تعود لبداية الحديث‬
‫حين شرعت تتهمها ‪ :‬أنا مش قادرة أصدق أيه التغيير الفظيع ده من أمتى يابسمة بتردى على الكلمة‬
‫بكلمتها وبتجادلينى بالبجاحة دى وكمان عايزة تطلعينى غلطانة وأنتى عارفة كويس أوى أنى أنا الصح ‪..‬‬
‫كل ده عشان سى أمجد ‪ ..‬معقولة ؟! سكتت بعد كلمتها األخيرة ترسم ذهوال وأنسحبت للوراء وعينيها لم‬
‫تفارق وجهها تدقق وتنفحص كمن يشخص مرضا قبل أن تلقى عليها أستنتاجا توصلت اليه ‪ .‬أردفت ‪ :‬أنا‬
‫عارفة كويس مين اللى لعب فى دماغك كده وغيرك وخالكى تتكلمى معايا بالطريقة دى ‪ .‬بدت كلماتها‬
‫كلكمات قوية قضت تماما على مظاهر األحتجاج فتراجعت بسمة وغطى وجهها خجل وأرتباك ‪ :‬واللـه‬
‫ماكان قصدى أزعلك أنتى فهمتينى غلط ده كان يبقى أخر يوم فى عمرى لو قصدت أضايقك ‪ .‬ثم مالت‬
‫عليها تدلك ركبتيها طمعا فى أبتسامة رضا لم يحن وقتها ‪ .‬فتابعت توضح سالمة موقفها ‪ :‬ومين فى الدنيا‬
‫دى بحالها يقدر والحتى يفكر يلعب فى دماغى " ‪ " SORRY‬يانورا فى النقطة دى بالذات أستنتاجك مش أد‬
‫كده ده أنتى حبيبتى وأختى وأمى وصاحبتى وكل حاجة لى فى الدنيا ‪ .‬سحبتها تلك الكلمات إلى منطقة هدوء‬
‫وأرتياح ‪ ،‬فأطبقت عينيها فى أغماضة طويلة جعلتها تسكن وتطمأن لوضعيتها فى نفس أختها ‪ ..‬فقط‬
‫مايعنيها أن تحتفظ لنفسها بالقدر الكافى الذى يضمن لها الصدارة دون أدنى مشاركة من أى طرف يهدد‬
‫سلطتها أومكانتها ‪ ،‬دون ذلك فترى فيه تهديدا صارخا ويسحب ماتبقى لها من أسباب الحياة ‪ .‬أخيرا نالت‬
‫بسمة نظرة رضا عبرت عنها أبتسامة واسعة من نورا قبل أن تجذبها بعفوبة إلى صدرها فأستسلمت لها‬
‫دون مقاومة وعادت لسيرتها األولى فأراحت رأسها على نهدى أختها التى مرت بأصابعها على الشعر‬
‫الهش تعبث فى خصالته فأصابها خدر كاد يسلمها لغفوة إال أنها أبت األستسالم حين أنتفضت ترفع رأسها‬
‫فجأة كمن أستعاد ذاكرة مفقودة ‪ :‬إال قوليلى يانورا أنتى عايزة ماما تتحجب ليه ؟! سؤال طرحته بال‬
‫مقدمات وعلقت عينيها فى وجه أختها التى أنزاحت للوراء وطرحت رأسها على الوسادة فاردة ساقيها‬
‫ونبرة مسترخية ‪ :‬كل الستات اللى فى سنها محجبات مش عجبة يعنى ‪ ..‬هيه أشتكيتلك ؟ كأنها تنفى تهمة ‪:‬‬
‫ال واللـه دى كانت بتسألنى عن محالت طرح كويسة عشان حأخرج معاها نشترى كام حاجة ‪ .‬صمتت كأنها‬
‫تتدبر أمرا ‪ .‬أفصحت ‪ :‬وحتخرجوا أمتى ؟ ‪.‬‬

‫ــ يعنى يومين تالتة ‪ .‬بدا جوابها مهما لها وكأنها ستبنى عليه الحقا ترتيبات هامة فى أطار خطة وضعت‬
‫تكتيكاتها عقب سماعها للمكالمة الليلية التى دارت بين أمها وخيرى بعدما أختلت بنفسها فى غرفتها‬
‫ودرست الحدث المفاجىء من كل جوانبه ‪ ..‬كانت تحتاج بشدة لخلق أزمة لتهيئة األجواء لما ستقدم عليه ‪،‬‬
‫فبدأت بتنفيذ أول بند فى خطتها حين سددت عدة نظرات لتليفونها المحمول وهى فى وضعية التأمل‬
‫‪310‬‬
‫واألستنفار وكأنها تستلهم منه الخطوة القادمة بعدما عبثت به للحظات قبل أن ترفعه فى مواجهة عيناها‬
‫تتدبر فكرة راسمة قوسين بحاجبيها ثم أتجهت بأبهامها فى ضغطة مفاجئة أظهرت لها قائمة األسماء‬
‫فأختارت منها دون تردد أسم " شريف " ‪ .‬وجهت نورا نبرة تحذيرية خاطبت بها أختها ‪ :‬عايزاكى تبلغينى‬
‫بالظبط حتخرجى أمتى مع ماما ‪ .‬تجاوزت عالمة األستفهام وأستفسرت بفضول ‪ :‬ليه يانورا ؟! ‪.‬‬

‫ــ من غير ليه هو أنا مش من حقى أعرف حتخرجوا أمتى !‪ .‬ردها سمح لها بأبداء دهشة‪ :‬أنا مش فهماكى‬
‫ماتقولى فى أيه بالظبط ‪.‬‬

‫ــ بصراحة كده بفكر فى حاجة حتعرفيها بعدين بس ياريت ماتكونش ماما موجودة فى البيت فى الوقت‬
‫ده !‪ .‬خبطت الكلمات رأسها ورغم محاولتها الحفاظ على مساحة األحترام إال أنها طرحت تساؤال ‪ :‬أنتى‬
‫متضايقة من ماما ليه يانورا ‪ ..‬حاسة بيكى كده أنك مش مبسوطة من وجودها معانا وده باين أوى فى‬

‫معاملتك معاها البتكلميها والبتقربى منها والحتى بتشاركيها فى أى حاجة ودايما معاملتك معاها ناشفة ‪.‬‬
‫كان عليها أن تتظاهر بطبيعتها ‪ :‬يعنى عشان مابتكلمش كتير معاها والبأقرب منها يبقى ده معناه أنى‬
‫متضايقة من وجودها ‪ ..‬طبعا أل يامتخلفة ‪ ،‬بس كمان هى الزم تفهم أن وضعنا وظروفنا كلها أتغيرت‬
‫دلوقتى وبقى كل واحد فينا عارف دوره ومسئوليته فى البيت يعنى ماينفعش حد يظهر لنا فجأة ويبقى عايز‬
‫يغير لنا النظام اللى مشينا عليه كل السنين اللى فاتت ‪.‬‬

‫ــ بس ماما ماقالتش أبدا أنها عايزة تغير نظامنا والتقلب حياتنا دى حتى أصال مابتتدخلش فى أمورنا‬
‫خالص المن قريب والمن بعيد ‪.‬‬

‫ــ من غير ماهى تقول والتحاول المفروض أنها تمشى معانا زى ماأحنا ماشيين ‪ .‬قالتها بأداء من يتبنى‬
‫نظرية فاشية أقصائية بينما شعرت بسمة أنها فقدت القدرة على التواصل والفهم ‪ :‬طب هى أيه اللى عملته‬
‫بالظبط خالكى تقلقى كده ‪.‬‬

‫ــ أنا فاهمة ماما كويس وعارفة أيه اللى بيدور فى دماغها ‪ ..‬هيه عايزة ترجع الزمن بضهره عايزة‬
‫ترجعنا زى ماكنا من تسع سنين ضعاف الحول لنا والقوة عشان ترجع تتحكم فينا وتخلينا محتاجين لها‬
‫ويبقى مصيرنا فى أيديها تانى عشان ترجع تدمرنا زى مادمرتنا وحطمتنا قبل كده بسبب تصرفاتها‬
‫المجنونة واللى كلنا بندفع فيها تمن لغاية دلوقتى من سمعتنا وكرامتنا وكفاية أنها حرمتنا من وجود األم‬
‫فى وسطينا فى وقت كنا محتاجين لوجودها ‪ .‬سكتت اللتقاط أنفاسها المتهدجة ‪ .‬ثم تابعت بنظرة ثابتة فى‬
‫‪311‬‬
‫عينى أختها ‪ :‬عشان كده مش مسموح لها أبدا ترجع تتحكم فينا تانى ‪ ..‬خالص هى خدت فرصتها كاملة ‪.‬‬
‫لم تتفوه بسمة بكلمة واحدة تاهت فى المفردات والمعانى بينما تستعيد نورا بعصبية مابدأته ‪ :‬تقدرى‬
‫تقوليلى هى فكرت ليه فى حكاية الشغل فى الوقت ده بالذات ؟ أبتلعت ريقها بصعوبة‪ :‬يعنى تغيير بدل ماهى‬
‫قاعدة لوحدها طول اليوم ‪.‬‬

‫ــ أل طبعا مش ده السبب عشان المنطق بيقول أن األنسان اللى بيبعد عن بيته سنين طويلة لما بيرجع تانى‬
‫بيبقى ماسك فيه بأيديه وسنانه ويبقى مش عايز يفارقه لحظة واحدة عشان يعوض سنين البعاد ‪.‬‬

‫ــ تقصدى أيه يعنى ؟! ‪.‬‬

‫ــ ماما كل اللى بتفكر فيه أزاى ترجع زى األول وتبقى مسيطرة ع البيت وعلينا وترجع تتحكم فينا والكل‬
‫يسمع كالمها من غير مناقشة وده طبعا ماينفعش يتحقق إال لما يكون عندها شخصية قوية وعشان ده‬
‫يحصل الزم يبقى معاها فلوس عشان كلمتها تتسمع ‪ .‬هرشت جبينها كأنها تستغيث ‪ :‬حأفترض معاكى أن‬
‫ماما هو ده تفكيرها وهى دى خطتها ‪ ..‬أنا برضه شايفاه عادى جدا وطبيعى هيه حرة فى تفكيرها ‪ .‬قالت‬
‫وجهة نظرها ثم سحبت قدميها وهبطت إلى أرضية الغرفة وقد أشتعلت مالمحها بحالة من التعمق والتأمل‬
‫وهى تقيم الحجة ‪ :‬يانورا ياحبيبتى أحنا مش قصر عشان حد يتحكم فينا بالبساطة دى ولو فرضنا حتى أن‬
‫ده حصل ماتنسيش برضه أنها أمنا ومن حقها تعمل أى حاجة هيه شايفاها‪ ..‬حاجة واحدة بس اللى عايزة‬
‫أفهمها ‪ ..‬ليه متخيلة أن ماما عايزة تتحكم فينا ؟!‪ .‬أدركت نورا ماتخفيه أختها من غصة فى صدرها جراء‬
‫هجومها الغير مبررعلى أمها فهزت رأسها بتفهم قبل أن تحتوى حنقها ‪ :‬من األخر كده ومن غير لف‬
‫ودوران ماما كل اللى بتعمله ده عشان تحقق حاجة واحدة بس ‪ ..‬أنها تبعدكم عنى بأى طريقة مهما أن‬
‫كانت والدليل على كده أنها بتحاول تقلدنى فى كل حاجة ‪ ..‬بدأت بخطوة الشغل وأختارت أتيليه زيزيت‬
‫بالذات ودى طبعا مش صدفة أبدا هيه قاصدة أنها تكون فى نفس المكان اللى أنا فيه عشان تثبتلى أنها‬
‫ممكن تبقى زيى وتقدر تنجح وتكسب فلوس ومش كده وبس دى كمان بتخطط لحاجة تانية أكبر بكتير من‬
‫حكاية الشغل والصدفة بس هى اللى كشفتها ‪ ..‬لكن لألسف مش حأقدر أقولك عليها دلوقتى ‪ .‬تهدل فك‬
‫بسمة السفلى فى دهشة وغمرها شعور بأنها تسكن مكانا تنشط فيه المؤامرات وتعشش فى أركانه‬
‫الدسائس فمسحت وجهها بكفيها تنفض عن نفسها حالة أكتئاب زرعتها نورا وكلماتها فى الغرفة فحاولت‬
‫أن تستعيد طبيعتها ‪ :‬ياترى يوسف يكون وصل وال لسه ؟ ‪.‬‬

‫‪312‬‬
‫ــ مش عارفه بس لو الطريق سالك يبقى يادوب على وصول وبينى وبينك مش عايزة أتصل بيه دلوقتى‬
‫عشان مايتلبش وهو بيسوق ‪.‬‬

‫الفصل العاشر‬

‫البد لمن يسعى من محل أقامته بمنطقة محطة الرمل إلى مقصده بمنطقة سموحة حيث موقع فيال‬
‫" أحمد الشهاوى" والد هدير أن يخلف وراء ظهره شارع بورسعيد قبل أن ينحرف إلى داخل شارع‬
‫" الجتيه" مجتازا طرفه الجنوبى قاطعا شارع أبى قير بأتجاه كوبرى األبراهيمية قبل أن تستقبله منطقة‬
‫سموحة من أول نقطة فيها حين تظهر " عزبة سعد" كومباوند للفقراء والذى مر بها يوسف كمنطقة عبور‬
‫إجبارية تستوجب من كل سائق أن يظهر براعة وجسارة عند مروره بتلك المنطقة التى تنشط فيها المطبات‬
‫والبرك والمستنقعات ‪ ..‬أجتازها يوسف مترنحا داخل سيارة عمته التى أطلقت كل الصرخات من كل‬
‫أجزاءها كمريض تجرى له عملية جراحية بدون " بنج " ثم ينتهى بالساعى المسير إلى وسط سموحة‬
‫منطقة " هاى كالس" تجتمع فيها أحياء األثرياء وتتمترس خلف محالت فخمة وموالت تغطى حاجاتهم‬
‫تطل على شوارع عريضة تسكنها األشجار والتفارقها األضاءة طوال اليوم ‪ ..‬منطقة أستثنائية تعد موطنا‬
‫لنوعية متميزة من البشر بنت نفسها على الطراز الحديث وحسب المقاييس العالمية المعمول بها من حيث‬
‫األحجام والمقاسات وسحنة الوجوه التى تطفح بالنعمة ‪ .‬الحت أمام عينيه أسوار الفيال التى أزدحمت‬
‫بفوانيس مضيئة ‪ ،‬فتباطأ بالسيارة حتى بلغ بوابتها الكبيرة الموصدة ‪ ،‬توقف كمن اليملك تأشيرة دخول ‪،‬‬
‫أطل برأسه من نافذة السيارة قبل أن يرفع يده ملوحا لعم " سالم " الذى أسرع مقتربا يهتز بجسده الخالى‬
‫من العظم ‪ .‬فتح البوابة ‪ :‬أتفضل يابيه ‪ .‬عبر يوسف البوابة فى حراسة نظرات مشمئزة من عينى‬
‫"سالم " الذى مط شفتيه مرددا فى أسى ‪ :‬دى عمرها ماحصلت عربية عدمانة زى دى تدخل الفيال ‪ .‬لم‬
‫يشعر يوسف بالرجفة العابرة التى أجتاحته فى الزيارة األخيرة‪ .‬هبط من السيارة ملخوما ببوكيه الورد ‪،‬‬
‫تالشى أرتباكه سريعا وأتزن فى مشيته حتى صعد السلم فكانت " نجاة " الشغالة أول مستقبليه التى‬
‫تسلمت منه البوكيه بحرص زائد وأحتضنته كطفل رضيع وأشارت له بالدخول ‪ ..‬مشى خطوات قليلة حتى‬
‫قطعت عليه هدير ممر الوصول الممتد إلى " الريسبشن " الرئيسى كقاطع طريق لم يتقن مفاجأة فريسته ‪.‬‬
‫بأبتسامة والدته التى حظى بها دون أخوته قابلها فى همة وحماس ‪ :‬حمد اللـه على السالمة ‪ ..‬وحشتينى‬
‫أوى أوى أوى !‪ .‬أراد أن يحتوى أصابعها ‪ ،‬سحبتها ببطء وهى مهزوزة كالحجر فى غير موضعه ‪ :‬اللـه‬
‫يسلمك يايوسف ‪ .‬شيىء فيها لم يكن يألفه ‪ ..‬ال وهج العينين وال أشراقة الوجه والتورد الحياة ‪ .‬شيىء ما‬
‫‪313‬‬
‫فيها بدا حزينا ‪ .‬أبتسمت أبتسامة باهتة ثم تجاوزته بنظرتها كأنها ترى فيما وراءه شيئا اليراه ‪ .‬لكنه كان‬
‫بالقطع شيئا صادما رأه فى تحير عينيها ورعشة جفنيها ‪ ..‬تحرك للداخل وسارت الى جواره بقامتها‬
‫المتوسطة تنظر ناحيته بنظرات مستغربة وكأنها تراه ألول مرة ‪.‬‬

‫لم تعالج سفرية تركيا الجروح الدامية التى لحقت بها وأن بدت ظاهريا متماسكة ‪ ،‬غير أن ألمها كان ينبع‬
‫من خالياها وكلما حاولت أن تطمس ذاكرتها وتتناسى كانت تتجدد داخلها أنسجة الحزن والمرارة ‪.‬‬

‫مصدر تلك الحالة المريعة القاسية كان تقريرا وافيا موضوعا على مكتب الحاج " أحمد " والدها الذى لم‬
‫يعد لديه لسانا ينطق به مكتفيا بمالمح مصدومة وأعضاء متصلبة حين تلقى ردود " صبرى" سكرتيره‬
‫الخاص التى كانت حاسمة وقاطعة ‪ :‬أسمها هدى عبد الفتاح أسماعيل وبطريقتى زى ما أنت فاهم سألت‬
‫حبايبنا فى الجوازات وأتأكدت أن الست دى عمرها ماخرجت بره مصر بمتر واحد ‪ .‬أستطال وجه الحاج‬
‫أحمد وأهتزت أصابعه تنقر على المكتب فى عصبية وترقب حين سكت " صبرى " أللتقاط أنفاسه ليستعيد‬
‫بعدها قوة دفع تشى بمفاجأة قادمة ‪ :‬رحت ولفيت نواحى البيت بتاعها فى محطة الرمل ‪ ..‬وسبحان اللـه‬
‫ربنا رزقنى بسرعة بشاب فالح أسمه أنور شغال حارس فى العمارة بالليل الغيته براحة وخدته على جنب‬
‫وبرزت له الخمسيينايه وسألته عن يوسف وأمه وأيه قصة الناس دى ‪ .‬أستند الحاج بظهره إلى الكرسى‬
‫الجلدى ‪ .‬بنفاذ صبر ‪ :‬قاللك أيه أخلص ؟ ‪.‬‬

‫ــ قالى الناس دى من عيلة كبيرة أوى أصلهم باشاوات زى مابيسمع عنهم وهمه ناس فى حالهم بس الست‬
‫هدى أم يوسف كانت فى السجن ولسة خارجة ‪ .‬تجمدت حدقتيه على وجه " صبرى" كالذى يجلس فى‬
‫أستوديو تصوير موديل الستينات حيث الوجه المتصلب والعيون الميتة ‪ ،‬بحركة بطيئةولسان مرتجف ‪ :‬فى‬
‫السجن ياصبرى ؟! ‪ .‬مارس األخير وظيفته وسرد تفاصيل غير مهمة حتى أنتهى الى الخالصة ‪ :‬قتلت‬
‫شريك جوزها اللى نصب عليها بعد جوزها مامات ‪ ..‬لم يتبق فى وجه الحاج اال صدمة تعادل صدمته عقب‬
‫أعالن نتيجة أنتخابات الرئاسة !!‪.‬‬

‫أنحشرت الكلمات فى حلقه وهو يعلن زوجته بما ورده من معلومات التى أهتزت لها كجبل من "جيلى"‬
‫مصحوبا بدوخة وعدم أتزان ‪ ،‬لم تصبر عليه وتهالكت على كرسى وهى تعيد وتكرر بنبرة من تخرج روحه‬
‫من حلقه ‪ :‬قاتلة ‪ ..‬قاتلة ‪ ..‬يانهار أسود ومنيل ‪.‬بقيت مرتبكة وغير مصدقة لمدة عشر دقائق قبل أن تعود‬
‫لطبيعتها بكمية ال بأس بها من السباب واللعنات طالت يوسف بشخصه وصوال لباقى شجرة العائلة ‪ .‬بينما‬
‫أستقبلت هدير حكاية يوسف وأمه على لسان أمها التى زاد فيها الحبكة الدرامية وعنصر المفاجأة خالف‬
‫‪314‬‬
‫المط والتطويل والدعاء عليه وعلى أمه عند نهاية كل تفصيلة ‪ ،‬راحت تمط وتمط كمسلسل من ثالث أجزاء‬
‫فى حين أن هدير تهوى وتهوىتحت ضربات عنيفة على شكل كلمات قاسية ومتصلة لم تسكت أمها عن‬
‫الكالم ولو أللتقاط األنفاس أو حتى لفقرة أعالنية طارئة ‪ ،‬بل كانت تستعيد وتسترجع كل عباراتها السابقة ‪:‬‬
‫أنا قلتلك ياهدير بدل المرة عشر مرات ‪ ..‬الواد ده أنا مش مطمنه له أبدا شكله مش سهل عينيه جريئة كده‬
‫وبيتلون زى الحية ‪ ..‬واللـه كان قلبى حاسس أن الواد ده وراه مصيبة والحمد للـه ربنا كشف سترهم‬
‫ولوال زيارتك لهم فى البيت هى اللى كشفتهم كان زمانك لسه مضحوك عليكى لغاية دلوقتى ومش عارفة‬
‫حاجة مع أنى كنت زعالنة من حكاية الزيارة دى عشان مايصحش بنت الحاج أحمد الشهاوى تعمل حاجة‬
‫زى كده وترخص نفسها لكن أرجع وأقول الحمد للـه كانت سبب عشان تكشفى أرتباكهم وتعرفى حقيقتهم‬
‫وخير ماعملتى أنك بلغتى أبوكى بشكوكك ومن اللى سمعتيه منهم ‪ .‬الشيى فى عينيها أو مالمحها يوحى‬
‫بأنها حاضرة ‪ .‬توقفت الكلمات فى أذنيها ‪ ..‬ضمت خديها بين كفيها ‪ ،‬حاصرها صداع بدا كالمسامير يدق‬
‫فى مؤخرة رأسها ‪ .‬بح صوتها وهى تصرخ بما تبقى لديها من عافية ‪ ،‬كفاية ياماما ‪ ..‬كفاية مش عايزة‬
‫أسمع حاجة تانى ‪ .‬كان ذلك فوق طاقتها ‪ ..‬لم تتماسك ‪ ،‬حاولت أستيعاب اللكمة القاضية التى أطاحت بها‬
‫فقامت تستند على مقعدها ‪ ..‬ترنحت ثم بركت على األرض منهارة دون وعى ‪ ،‬تلك كانت البشارة بأرتفاع‬
‫ضغط الدم فجأة فى رأسها ‪.‬‬

‫بعد أجتماع طارىء جمع أبوها وأمها فى حضور الطبيب المتابع ‪ ،‬قرروا فيما بينهم بحتمية أبعادها عن‬
‫األسكندرية مكان الخديعة الكبرى التى خصمت من عمرها خمس سنوات ‪ .‬فكانت بالد أتاتورك سابقا‬
‫" أردوغان " حاليا هى المشفى األختيارى لحالتها ‪.‬‬

‫أستغرقت رحلة النسيان والتعافى فى تركيا أسبوعين كاملين تظاهرت بالثبات والتماسك خاللهما ‪ ،‬كانت‬
‫تشعرهما بتحسن حالتها خاصة بعد األسبوع األول الذى مر قاسيا عليها كمدمن الزال فى مرحلة أنسحاب‬
‫المخدر من دمه ‪ .‬لم تجد هدير غير تلك الخلفية فى ذهنها ‪ ..‬جملة رددتها أمها فى مطار أسطنبول قبل‬
‫الصعود للطائرة ‪ :‬من األول وأنا مش مطمنه للولد ده ‪ ،‬شكله كده عامل زى اللغز ولد أبن حرام عرف أزاى‬
‫يلفك ويضحك عليكى ‪ .‬بينما كانت أجابات هدير دائما حاضرة وجاهزة ‪ ،‬لم تكن كلمات أنما دموع ونظرات ‪.‬‬
‫لم تستطع أسكات أمها التى واصلت بال توقف ‪ :‬أنا حأتجنن ياناس أزاى فى بنى أدم فى الدنيا ممكن يكدب‬
‫ويعيش خمس سنين من غير مايراجع نفسه ولو مرة واحدة مهما كانت الحقيقة مرة !! ‪.‬‬

‫‪315‬‬
‫ــ أحنا قلنا أيه ياثريا مش عايزين كالم فى الموضوع ده تانى ‪ .‬كانت نبرة تحذيرية أصدرها الحاج أحمد‬
‫أسكتت زوجته مؤقتا وأراحت هدير من لسان أمها المنفلت ‪ .‬تقدمت المضيفة البيضاء من هدير تحيطها‬
‫بذراعيها وتحتضنها بحزام األمان وهى تبتسم فى وجهها بينما الحزام المربوط على وسط أمها لم يمنعها‬
‫من تكرار محاولة " اللت والعجن " فكان صوت قائد الطائرة هو صوت الرحمة حين هنأ الركاب ‪ :‬حمداللـه‬
‫ع السالمة ‪.‬‬

‫سبقته هدير بخطوة بأتجاه الصالون بينما هو خلفها يتبعها فأنزلقت نظرته دون قصد إلى مؤخرتها فرأى‬
‫فيها ضعفا وهزاال ‪ ،‬حاول فهم الجدية واألرتباك اللذان لحقابها ‪ :‬هى أيه الحكاية ياهدير هو أحنا متراقبين‬
‫وال أيه ؟! لم يفلح فى أنتزاع أى كلمة منها قبل أن يدلف إلى الصالون المهيب ‪ ،‬تركته وتراجعت الى الممر‬
‫دون كلمة واحدة قبل أن ترميه بنظرة أستكشافية تبحث فى مالمحه عن الوصف الذى توصل إليه والدها ‪:‬‬
‫الصنف اللى زى ده يابنتى اللى يخدع الناس بالطريقة دى يبقى مالوش أمان وعمر عشرته ماتبقى‬
‫مضمونة ده بيبقى عامل زى الجاسوس العنده أخالق والضمير ‪ .‬جلس يوسف متوترا وقد غاصت قدميه‬
‫بسجادة عليها عرش من األزهار يحف بكرسيه ‪ ،‬لحظات ودخلت " نجاة" بالشاى وضعته أمامه‬
‫وأنسحبت‪.‬‬

‫كان الصالون أقل بهجة ‪ ،‬تشيع به المخاوف الطارئة وبدا باردا ‪.‬‬

‫دخل الحاج " احمد " يرتدى بدلة رمادية وقميص سماوى ومالمح جافة يسحب خلفه زوجته التى تلتصق‬
‫بظهره تترجرج داخل بلوزة سوداء وبنطلون من نفس اللون رافعة حاجبيها ألقصى أرتفاع تحمل تحتهما‬
‫عين تستدعى شرا ال تخفيه ومن خلفهما هدير منكسة الرأس وكأنهم فى طابور جنائزى ‪ ،‬شد يوسف‬
‫جسده فأردا طوله إلتزاما بنصيحة عمته ‪ ،‬مد يده مصافحا " الحاج " الذى بادرة بأبتسامة جليدية ‪ :‬أهال‬
‫يايوسف أتفضل أقعد ‪ .‬تجاوزته أمها دون تحية وجلست فى مواجهته كنمرة فى وضعية الترقب أستعداد‬
‫للهجوم ‪ ،‬أستقبل يوسف عدم مصافحتها له وكان حجرا سقط على أم رأسه ‪ ،‬حاول أن يفهم السبب من‬
‫خالل نظرة خاطفة لهدير التى توارت داخل كرسيها وغاصت معها رأسها بين كتفيها ‪ ،‬فنظرت له فى وهن‬
‫وهى تهز رأسها فى يأس من يدرك أن النهاية تقترب ‪ .‬حين ساد الصمت فى الصالون الذى بدا كصمت‬
‫الموتى أرسل يوسف نظراته مستطلعا الوجوه لعله يستكشف مجهوال ‪ ،‬أستوقفه منظر هدير حين رأى‬
‫أصابعها وهى تتشابك وتنفرج ‪ ،‬تتالحم فى عنف ثم تتباعد وهزهزات الساقين التتباطأ ‪ ،‬فأنتظر لحظات‬
‫يفرك أصابعه بلهفة المترقب فى وجه الحاج أحمد الذى أستهل حديثه مبديا هدوءا ينم عن خبرة ماكرة‬
‫‪316‬‬
‫فى فنون التعامل مع كل المواقف ‪ :‬أخبار الست الوالدة أيه ؟!‪ .‬جفت شفتيه بسرعة متصنعا ثباتا‬
‫مزيفا ‪ :‬الحمد للـه كويسة ‪ .‬تابع الحاج حين أعد المقدمة المطلوبة ‪ :‬الصدق يابنى فضيلة ربنا بيزرعها‬
‫جوه األنسان عشان يتعامل بيها مع الناس ويبقى واضح وصريح معاهم وتخليه يكسب أحترام اللى‬
‫حواليه ‪ ..‬كالمى ده مظبوط والعندك أعتراض عليه ‪ .‬بهت يوسف ‪ ،‬لم يكن ذلك الوجه الذى رآه فى‬
‫الزيارة السابقة وأردف بعد أن لوى رقبته ثم رشقه بنظرة صقر ‪ :‬فيه عالقات يابنى بتبقى عابرة بين‬
‫الناس وبعضها ودى مش مطلوب فيها أن األنسان يكشف فيها عن أسراره أو حتى عن ظروفه‬
‫الشخصية ‪ ،‬لكن فى عالقات بتتبنى أساسا على الحب واألرتياح والعشرة وفى الحالة دى بالذات لو‬
‫مافيش فيها صدق وصراحة تبقى العالقة مش سليمة ومزيفة مش حقيقية ‪ .‬بينما أمها تتمعن فى النظر‬
‫إليه وهى ترصد أنطباعاته ‪ ،‬لم يكن غيظا ذلك الذى تكظمه ‪ ،‬كان شيئا أخر كهجير فرن محمى يلهب‬
‫داخلها ‪ ،‬بدت كفوهة بركان توشك أن تلفظ حممها ‪ .‬واصل الحاج أحمد مابداه من تمهيد قبل أن يميل‬
‫بجبهته مستندا بمرفقيه على ركبتيه رافعاعينيه ببطء فى وجه يوسف ‪ :‬أسمع يابنى أنا طلبت من هدير‬
‫أنها تجيبك هنا عشان أقولك كلمتين فضلت أنى أنا اللى أقولهملك بنفسى ‪ ..‬ياريت من النهاردة تبعد عن‬
‫هدير وتسيبها فى حالها وأنتبه أنت لمستقبلك عشان ده فى مصلحتك ومصلحتها وده مش قرارى‬
‫لوحدى ده قرارنا كلنا ‪ .‬أحس يوسف بأقتراب فساد جلسته حين ألتقت عيونهم تستطلع وقع الخبر دون‬
‫أن تدرى هدير ماتقدم أو تؤخر ‪ ..‬أختصر يوسف تخبطه وأضطرابه وأرتفاع كمية الدم المندفعة الى‬
‫وجهه الذى بدا مشتعال بحمرة قانية بسؤال ‪ :‬ليه ؟! ‪ .‬أختصر أيضا رده ‪ :‬ظروفك يابنى غير ظروفنا ‪.‬‬
‫تعمدت هدير أن التنظر له فى تلك اللحظة إلى وجهه ‪ .‬وأنتظرت صوته ‪ :‬مش فاهم حاجة حضرتك ‪.‬‬

‫ــ أنا عايز أسألك يابنى عمرك سمعت عن منطق فى الدنيا يخلى أنسان يكدب خمس سنين على أنسانة‬
‫بيقول أنه بيحبها ومافكرش ولو مرة واحدة يراجع فيها نفسه ويصارحها بحقيقته ؟ تساؤله لم يدم‬
‫طويال ‪ ،‬أعطى لنفسه حق الرد نيابة عنه ‪ :‬متهيألى البنى أدم اللى يتقن الكدب بالشكل ده ويتنفسه زى‬
‫الهوا ‪ ..‬يبقى أكيد جزء منه وصعب أوى على أى حد أنه يثق فيه وال يأمنله ! بينما زوجته فى تلك‬
‫اللحظة تتسع حدقتيها حتى تصبحا كقرصى شمس الهبة ‪ :‬اللى يضحك على بنات الناس يبقى ندل‬
‫وخسيس وبنات األصول ماينفعش معاهم الصنف ده ‪ .‬كانت مباغتة وصادمة ‪ .‬فتسلم منها زوجها‬
‫الحديث كى التنساق ألبعد من ذلك ‪ :‬مافيش حاجة بتتدارى على طول يايوسف وكل كدبة ولها أخر ‪ ..‬لما‬
‫والدتك كانت فى السجن ليه ماصارحتش هدير من البداية ؟‪ .‬تمددت مالمح يوسف وتهدلت ‪ .‬أردف حين‬
‫لم يجد مقاطعة ‪ :‬بالش من البداية بعدها بسنة وال أتنين لما أتأكدت فعال أنك بتحبها وهى بتحبك ليه‬
‫‪317‬‬
‫أصريت على الكدب وأتماديت فيه مع أنك كان قدامك فرصة كبيرة تشرح لها وجهة نظرك بكل صراحة‬
‫وتحكى وتفهمها ظروفك وبعد كده سيب الطرف التانى يقرر بنفسه يكمل معاك والمايكملش ‪ ..‬لكن‬
‫أصرارك على الخداع والكدب ده معناه أنك أنسان غير مؤتمن ‪ .‬األمر بالنسبة إليه كان سهال ‪ ،‬لهذا‬
‫قالها بجرأة اليستطيع أن يدعى أنها ذلة لسان ‪ ،‬مثله اليذل لسانه أبدا هو يعرف كيف يصوغ مايريد‬
‫بالقالب الذى يريد فى الوقت الذى يسمح ‪.‬‬

‫أغمض يوسف عينيه محاوال طرد نوبة طرق مفاجىء زلزلت رأسه ‪ ،‬كان ذلك فوق طاقته ‪ ،‬أجتاحه‬
‫التوتر ‪ .‬تداعت فى مخيلته الجمل المنتظرة التى تقال فى مثل هذه المناسبات والتى ألف رؤيتها‬
‫وسماعها فى الدراما المصرية ‪ :‬أطلع برة بيتى ياكلب ‪ ..‬أياك تقرب من بنتى مرة تانية ياكداب ياحقير ‪.‬‬
‫تحسس جبهته دون وعى فى حين أكملت هدير فحصه حين نطق ‪ :‬فى الحقيقة أنا كنت حأشرح لهدير‬
‫كل حاجة ‪ ..‬بس كنت مستنى الوقت المناسب عشان أفهمها الظروف كلها ‪ .‬أنتظرتفهما أو أستجابة ‪،‬‬
‫هرب من نظراتهم إلى الصينية ‪ ،‬رفع كوب الماء يتجرعه ‪ ،‬أهتزت أصابعه وشفتيه وتناثرت بقايا الماء‬
‫حول فمه بينما أستقبلت أمها كلماته بنفخة ضيق قبل أن تصدر صوتا يعلوه تحد وال يخلو من نزعة‬
‫أستعراضية ‪ :‬كنت قبل ماتشرح لها وتفهمها كنت فهمت نفسك األول هدير تبقى بنت مين وأبوها يبقى‬
‫أيه عشان كل واحد يعرف حجمه ووضعه ‪ .‬أنهت كالمها وعيناها ثابتة فى وجهه وهو جالس بال حيلة‬
‫يبتلع فى بطء مرارة الكلمات بعد أن أصبح محاصرا بضرورة الكالم أو الفعل ‪ ،‬فأضطر وهو يرتعش أن‬
‫يتعرى كليا من بقايا كرامته ‪ :‬ماكانش فى حل قدامى غير أنى أخبى عليها مع أنى واللـه حاولت أكتر‬
‫من مرة أصارحها ‪ ،‬بس لآلسف ماقدرتش كانت كل يوم الكدبة بتكبر وبتكبر ‪ ..‬فى البداية خفت أخسرها‬
‫وتضيع منى وبعد كده حسيت أن الحقيقة حتبقى صعبة وحتحرجها وتجرحنى ‪ .‬أحس بنظراتهم تعريه ‪.‬‬
‫أردف ‪ :‬وع العموم أنا حأشرح لحضرتك الظروف اللى دخلت أمى السجن ‪ .‬أجابه بنظرة من حسم‬
‫أمره ‪ :‬األمور دى يابنى مش محتاجة شرح أحنا ناس لنا وضعنا وأنا راجل لى سمعتى فى أسكندرية‬
‫كلها يعنى بالمختصر كده ماينفعش شرح والتفسير الناس لها الظاهر ‪ .‬شعر يوسف بالمرارة ‪ ..‬كانت‬
‫مرارة من نوع أخر مختلف ‪ ،‬ربما كان الخوف من العجز عن عرض قضيته أمامهم يحاصره ‪ ،‬لكن كان‬
‫على أستعداد للدفاع عن نفسه فأوشك على التحول من أحساسه بالدهشة والمفاجأة الى أحساسه بشيىء‬
‫من الخوف السابق لحالة األستنفار المضاد واألستماتة من أجل البقاء ‪.‬‬

‫‪318‬‬
‫ــ اللى حضرتك الزم تعرفه أن أمى مادخلتش السجن بسبب حاجة وحشة أمى كانت بتدافع عن حقنا‬
‫وعن فلوسنا من أيد نصاب عديم الضمير وماكانش قصدها أبدا أنها تأذيه والدليل على كده أنها خدت‬
‫حكم مخفف وكمان خرجت فى عفو ‪ .‬هاهى أم هدير تستخدم الفخم والغليظ من األلفاظ ‪ :‬أحنا هنا مش‬
‫فى محكمة بنسمع مرافعة عن قتالين القتلة والحاج قالك كلمته األخيرة أحنا ناس لنا سمعتنا ووضعنا‬
‫ولحد كده كفاية وأتكل على اللـه بعيد عننا ‪ .‬هكذا حاولت أستئصاله كأنه ورم خبيث علق بأسرتها‬
‫السليمة النقية فى حين بدا يوسف فى جلسته كصنم ‪ .‬تساءل داخله ‪ :‬كيف لم يدركوا مايحس به ‪،‬‬
‫أستمعوا لكلماته بال أذان كأنه يتحدث لغة اليعرفوها ‪ ،‬صوته الداخلى المنفعل يضيع فى مساحات‬
‫التوجس والقلق التى تمألهم فى حين بقى صوت أمها يتردد فى خلفية أهتمامه لدى متابعته نظرات هدير‬
‫لعله يستوضح رد فعلها حين تكلمت وهى تشفق عليه من ذهوله ‪ :‬كفاية يايوسف لحد كده !‪ .‬قام الحاج‬
‫أحمد من مكانه معلنا أنتهاء الزيارة مبديا بعض الرحمة ‪ :‬من بكرة تقدر تكمل تدريباتك فى مكتب‬
‫المهندس ناجى وأنا حكلمه بنفسى عشان تكمل معاه زى أى مهندس عنده وبمرتب محترم ‪ ..‬أنا أب‬
‫يابنى وتهمنى مصلحتك ‪ .‬ثم مد يده يصافحه ليعجل بأنصرافه ‪ ..‬خرج من الصالون حين أدرك أنه لم‬
‫يبق له مايفعله وأن اليقين قد فارق عالمه فى تلك اللحظة وفارقته الكلمات دون أخطار ‪ ..‬أحس أن‬
‫جميعهم فرسان مزيفون ‪ ..‬أتجه ناحية الباب تتقدمه هدير بخطوات مريضة ‪ ..‬توقفت عند الباب المفتوح‬
‫وهى تنقل إليه من خالل حدقتين غسلتهما الدموع ‪ ..‬توجهت إليه بوجه منفعل وصوت أكل الغضب‬
‫رتابته ‪ :‬ليه كدبت على يايوسف ؟! حاول أن يخفى أضطرابه خلف نظراته المرتعشة ‪ ،‬نقل إليها شحنة‬
‫من األضطراب ‪ :‬ماتجاوبنى ؟! همت أن تخرج من شفتيه كلمة أو أعتذار ‪ ،‬لكنه حبسها وألقى عليها‬
‫نظرة أخيرة قبل أن يواجهها بجسده ومد يده ‪ ،‬لكنه لم يجرؤ على لمسها حين شعر أن مصيره قد تقرر‬
‫فترك يده تسقط بجانبه ‪ ،‬بمالمح متراجعة وعيون حمر مر أمامها مدليا رأسه قبل أن يخرج من حيث‬
‫أتى ‪ .‬رحل من هذا المكان ‪ ،‬الذى ذبح فيه من غير موضع الذبح ‪ .‬تعلقت بالباب ومشت به حتى أوصدته‬
‫ثم ألصقت ظهرها بظهر الباب ‪ ..‬أدلت رأسها لالرض ‪ ،‬أحست بنفس اللهفة والضياع اللذين أحس هو‬
‫بهما ‪ .‬أعتصرت عينيها بقوة فى أغماضة طويلة ‪ ،‬أستبد بها بكاء ‪ ،‬كلما حاولت أن تكتمه أنفلت منها‬
‫وبدا وكأنها توشك على الوقوع ‪ ..‬تحملت على نفسها حتى هوت على كرسى ضخم بجوار الباب ‪.‬‬

‫هبط ساللم الفيال يتخبط كسكير ‪ ..‬بالكاد كان يتنفس ‪ .‬قاوم أهتزازه فى طريقه للسيارة الذى سبقه إليها‬
‫" سالم " الحارس منتظرا وصوله ليبلغه رسالة كان نصها مختصرا ‪ :‬الهانم بتقولك شكرا أحنا عندنا‬
‫ورد كتير ‪ .‬ثم ناوله البوكيه ‪ ،‬نقل عيناه إلى الورد يرثيه بينما لم يتح له سالم فرصة األستغراق فى‬
‫‪319‬‬
‫صدمة أخرى وقام بنفسه بفتح باب السيارة ورمى بالبوكيه على الكرسى األمامى ثم توجه مسرعا ناحية‬
‫البوابة ‪ ..‬بصعوبة بالغة دخل يوسف السيارة قبل أن يتلق أشارة من " سالم " يوجهه للخروج ‪:‬‬
‫تعالى ‪ ..‬تجاهله وتحرك ببطء ‪ ،‬أجتاز البوابة كمبتدىء فى مدرسة قيادة ‪ .‬قاد سيارته محاذيا الرصيف‬
‫حتى أبتعد ‪ ..‬تابع الشارع بحدقتين ثابتتين ‪ ..‬ينظر من غير أن يرى كالذى يسير نائما حتى غشت‬
‫الدموع عينيه فأضطر أن يبطء كى يستجمع شتاته ‪ ..‬توقف أمام شجرة عجوز تطل على شارع مظلم‬
‫اليسمع فيها إال نفير سيارات تمر بجواره ‪ .‬ظل ساهما متهالك المالمح كمدمن فات موعد جرعته ‪،‬‬
‫أغمض عينيه فتسربت دفعة كبيرة من دموعه أصلحت أمامه الرؤية ‪ ..‬كانت الدموع سالحه الوحيد‬
‫الذى يملكه حين غلظت يد القهر وأستطالت وتحولت كل األمنيات الطيبة إلى وهم ‪ ..‬صارت كأحالم‬
‫عبثية وحب باطل ‪ ،‬حتى الغضب ‪ ،‬أنحبس وزالت عنه القدرة ألطالق صرخة مظلوم أو حتى رسم أنفعال‬
‫عشوائى يواكب لحظة المأساة ‪ .‬لم تعد كلمة " صدمة " كافية لشرح حالته التى تجاوزت حدود‬
‫المصطلحات والتعريفات ‪.‬أستمر على وضعيته واجما يتابع الشارع دون أن ينتبه لتفاصيل المكان‬
‫ينجرف خلف صراع داخلى الزمه من لحظة خروجه من بوابة الفيال ‪ :‬هو اللى حصل ده كان حلم وال‬
‫حقيقة ؟!‪ .‬نظرة واحدة لبوكيه الورد المسجى إلى جواره كانت كافية ليدرك أن قصة حيه قد فارقتها‬
‫الحياة وأن حبيبته التى أعتادها خمس سنوات ولت فجأة وخرجت من عالمه الى األبد ‪.‬‬

‫فى تلك األثناء دب قلق مفاجىء فى مالمح نورا التى خرجت من غرفتها تتبعها بسمة فى ذيلها تكرر‬
‫محاولتها الخامسة باألتصال بـ " يوسف " ‪ .‬أحتوتهما كنبة األنتريه " ‪ ،‬فأستفهمت بسمة وهى تراقب‬
‫توترها ‪ :‬ماردش عليكى برضه ؟ هزت رأسها بالنفى فأردفت ‪ :‬تالقيه قاعد مزنوق ومش عارف يرد ‪.‬‬

‫ــ أنا مش فاهمة أيه الخيابة اللى أخوكى فيها دى ‪ .‬شعرت هدى بوجودهما ففتحت فرجة صغيرة فى‬
‫باب غرفتها " كناضورجى" يراقب الطريق ثم خرجت بتمهل تنقل نظرتها بين أبنتيها فلمحت فيهما‬
‫توترا ‪ ..‬أقتربت ‪ :‬مالكو فى أيه ؟ رمقتها نورا بنظرة ركنية دون أن ترد فتطوعت بسمة ‪ :‬نورا أتصلت‬
‫ك تير بيوسف ومابيردش ‪ .‬جلست تشاركهما القلق ‪ :‬يمكن تليفونة فاصل شحن ! ضيقت نورا عينها فى‬
‫نفور ‪ :‬بنقول تليفونه بيرن ومابيردش ‪ .‬تضاربت مالمحها ‪ :‬آه صحيح أيه اللى أنا بأقوله ده ‪ .‬ثم مالت‬
‫على أبنتها بسمة وتداوال حديثا باهتا استهالكا للوقت دار فى مجمله حول هدير ووضعها األجتماعى‬
‫والمادى وماسيجنيه يوسف من غنائم حال أرتباطه بها ‪ ،‬فى حين الزالت نورا تكرر محاوالتها اليائسة‬
‫قبل أن ينفذ صبرها وترميه جانبا تزامنا مع خروج عمتها من غرفتها ساحبة نعمة من يدها كأنهما فى‬

‫‪320‬‬
‫نزهة ليلية بدار مسنين ‪ ،‬لمحت عيناها جلسة متوترة فتخلت عن يد نعمة التى تطوحت خلفها ‪ :‬أيه‬
‫األجتماع ده ‪.‬‬

‫ــ مستنين يوسف ‪ ..‬ربنا يسهل آهو على وصول ‪ .‬كان ردا مقتضبا على لسان هدى التى أفسحت لها‬
‫مكانا ‪.‬‬

‫ــ أنا أتصلت بيه ياعمتى كتير ومابيردش ‪ .‬نشطت تخمينات مشروعة ترددت على لسان أيات ‪ :‬ربنا‬
‫يستر لتكون البطارية عملتها معاه وال تكون الكهربا قطعت ‪.‬‬

‫ساد صمت مفاجىء حين سمعوا مفتاحا يولج فى الباب ‪ .‬كانت نورا أول المنتفضين من مكانها كمن‬
‫أصابها مس ثم رمشت فى ذهول حين ألتقطت عيناها يوسف ومنظر بوكيه الورد المتدلى من يده‬
‫كالمعدوم شنقا ‪ :‬أنت مارحتش عند هدير ؟!‪ .‬بوجه محتقن أغلق الباب خلفه معتصما بالصمت ‪ ..‬مشى‬
‫نحوهم مرتجفا قبل أن يتدافعوا حوله تباعا وسط تكهنات أفضت إلى أسئلة عاجلة ‪ :‬فى أيه يايوسف ؟‬
‫سؤال مباشر من بسمة قالته بفزع بينما حالته التسمح سوى بنظرة شاردة من عين ملتهبة ‪ .‬كانت‬
‫مالمحه تحمل رموزا غير مفهومة لنظراتهم المتفحصة ‪ .‬أخترقهم واجما حتى سلم نفسه لكنبة األنتريه‬
‫فتعقبته أمه وأنحنت حتى مستوى رأسه تتحسس وجهه المتفجر ‪ :‬مالك يايوسف شكلك عامل كده ليه ؟‬
‫تحلقوا حوله حين نطق أولى كلماته ‪ :‬خالص ‪ .‬أنتظروا توضيحا لم يأتى ‪ .‬فعاجلته عمته ‪ :‬هو أيه اللى‬
‫خالص يايوسف ؟ غرس أصابعه فى شعر رأسه يسحبه للخلف بعنف ‪ :‬يعنى كل حاجة خالص‬
‫ياعمتى ‪ ..‬عرفوا حكاية ماما كلها من أولها ألخرها ‪ .‬قابلت نورا كالمه بأنفعال شديد ‪ :‬وأنت ليه‬
‫تقولهم حاجة زى دى ! مبديا دهشة ‪ :‬أنا ماقلتش أى حاجة همه اللى عرفوا ‪ .‬أجتاح هدى توتر شديد‬
‫حين تدافعت عليها النظرات ‪ ..‬تصلب لسانها داخل فمها ورفعت الصمت شعارا وهى تتراجع ببطء‬
‫للخلف كمن يتوارى بفعلته ‪ .‬فى حين وقعت المعلومة التى أفضى بها يوسف على رؤسهم كالصاعقة‬
‫فتفرقوا منكسى الرأس كأناس فرغوا من دفن ميت وتناثروا فى األنتريه وأستولى كل منهم على كرسى‬
‫أحتوى مؤخرته وأحباطه‪ .‬لحظات وجاءه صوت نورا التى بدت حيرتها مضاعفة بالرغم من محاولتها‬
‫ترويض ماينتابها من مشاعر ‪ .‬أحكيلى اللى حصل يايوسف ؟ أستغرق األمر منه ربع ساعة ‪ ..‬سرد‬
‫مأساته مختزلة يتخللها رعشة من حين ألخر فى حين لم تفارق عينى هدى وجه أبنها المضطرب‬
‫تصدمها كلماته المتسربة من بين شفتيه تحوم حولها كدوامة تبتلعها ‪ .‬أنسحبت الدماء من وجهها فور‬
‫أنتهاءه ‪ ..‬دارت بها الدنيا ‪ ،‬لم تمتلك القدرة على أى تعقيب ‪ ،‬كان عليها السكوت بعد محاولة فاشلة‬
‫‪321‬‬
‫لسحب أنفعاله ‪ :‬ليه عملوا معاك كده ‪ ..‬أكيد فى سبب تانى غير اللى قالوه ده ؟! طرحت رؤيتها ونالت‬
‫عليها نظرة نارية مصدرها عينى نورا بينما أكتفى يوسف برد يائس ‪ :‬السبب تانىوال تالت هو تمن‬
‫والزم كلنا ندفعه ‪ .‬مشت نورا بمؤخرتها على كنبه األنتريه حتى ألتصقت به ‪ ،‬مدت ذراعها حول كتفه ‪:‬‬
‫ماتزعلش يايوسف كل حاجة حتتصلح ‪ .‬دفن وجهه بين كفيه ‪ .‬فأكملت ‪ :‬مش عايزاك تقلق ياحبيبى كل‬
‫حاجة حترجع زى ماكانت ‪.‬‬

‫ــ مافيش حاجة حترجع زى ماكانت ‪ .‬دارت بجسدها وسحبته إلى صدرها فيخفى وجهه فى حضنها‬
‫منكسرا مستدفئا بهزيمته ولم يقو على التماسك فأنفجر باكيا على صدرها ‪ :‬أنا أتهانت يانورا وكرامتى‬
‫راحت وخرجت زى المطرود ‪ .‬مسحت رأسه بأناملها ترسل من فوقه نظرة تحمل كبتا وغيظا وضعفا ‪:‬‬
‫معلش خليك راجل وأتحمل وأنا متأكدة أنك حتعدى من األزمة دى وحتخرج منها أحسن من األول ‪.‬‬
‫أثرت نعمة المشهد حين تعايشت فجأة مع الحدث بنظرية الدعاء على الظالم ‪ :‬ربنا ينتقم منهم ويكسر‬
‫بخاطرهم زى ماكسروا فرحتك وبهدلوك ‪ ..‬أخس على ده زمن اللى يتهان فيه والد األصول ‪.‬‬

‫تململت هدى فى جلستها سجينة مكانها التعرف بأىالكلمات تواسى يوسف أو تواسى حالها بعد ماأيقنت‬
‫أن شيئا ما بداخلها يحترق حين بدا طيف الماضى ينسج خيوطه على الموجودين الذين أدلوا بعبارات‬
‫كثيرة قيلت له على سبيل التعزية ‪ ،‬لكنها لم تواسيه ‪ .‬فى حين بدأت الوساوس تداعب صدر أيات ‪ ،‬فلم‬
‫تكن تنصت إلى عبارات المواساة التى تطوف حوله فأستشعرت خطرا مدركة ضرورة أن يتخذ حديثهم‬
‫منحنى أخر أستهلته ‪ :‬أنا اللى يهمنى دلوقتى يايوسف أنك تبقى راجل وترمى كل حاجة ورا ضهرك‬
‫وتكون عندك أرادة وتخرج بسرعة من األزمة دى ‪ ..‬سامعنى ‪ .‬ثم رفعت صوتها لتشد أنتباهه‪ :‬أياك‬
‫تستسلم للحصل ده خلى عندك ثقة فى نفسك وبص لمستقبلك أنت دلوقتى بقيت مهندس يعنى الزم تفكر‬
‫فى اللى جاى وأوعى تغلط غلطتى وتدفن نفسك جوه أحزانك ‪ ..‬لسه بدرى أوى ياحبيبى اللى جاى أكتر‬
‫وحتقابل األحسن واألجمل وبكرة تقول عمتى قالت ‪ .‬ألهبت كلماتها حماسة بسمة التى ثارت لدموع‬
‫أخيها ‪ :‬واليهمك يايوسف اللى يبيعك بيعه ودوس عليه وبكره اللى أسمها هدير حتعرف قيمتك كويس‬
‫وحتندم هى وأهلها على أهانتهم ليك وكلها كام يوم وحترجع تجرى وراك وتقولك سامحنى تتابع هدى‬
‫األنفعال المتصاعد فى وجوههم بمالمح هزيلة تسبقها تصورات عن ردود فعل محتملة ستطالها حتما‬
‫وتحملها مسئولية ماحدث ‪ ..‬دان صمت كئيب يواكب حجم الصدمة ‪ ،‬حاولت لملمت مخاوفها وسط جو‬
‫مشحون بفداحة المأساة حين أستعادت بعض الثبات كأجراء دفاعى عفوى ألبعاد التهمة عنها ‪ :‬يايوسف‬

‫‪322‬‬
‫أنا ماليش ذنب فى اللى حصل ده مش عايزاك يابنى تحملنى فوق طاقتى ‪ ،‬مش عارفة أقولك أيه بس‬
‫كمان ماينفعش كل مصيبة تحصلكم تحطوها على دماغى لوحدى ‪ ..‬ليه مافيش حد فيكم عايز ينصفنى‬
‫ويبقى صريح مع نفسه ويقول أن أختياره هو اللى غلط أو حتى على األقل يواجه فشله ‪ .‬سكتت للحظات‬
‫ثم واجهتهم بنظرة تحمل مرارة وزعتها على الوجوه المتأهبة ثم خصته بنبرة تحد ‪ :‬مش هى دى هدير‬
‫اللى كنت بتحكيلى عنها فى كل زيارة وتقولى أد أيه بتحبك وهى الوحيدة اللى فى الدنيا اللى فهماك‬
‫وحاسة بيك وأنكم متفقين على كل خطوة حتعملوها سوا ‪ ..‬فجأة كده وبالبساطة دى باعتك ونسيت كل‬
‫اللى كان بينكو فى خمس سنين ‪ ..‬معقولة ‪ .‬توقفت كى تتيح له فرصة المقاطعة أو الرد ‪ ،‬لم يتقدم بأى‬
‫طعن سوى بنظرة ذليلة منكسرة ‪ .‬فتابعت ‪ :‬حتى لو كان أهلها رافضينك ومعترضين على أن أمك دخلت‬
‫السجن وماكانش فى قلوبهم رحمة وماقدروش يعذروا واليغفروا وال يقدروا الظروف اللى خلتنى عملت‬
‫كده ‪ ..‬أنا عن نفسى ممكن أعذرهم فى تفكيرهم ده وأفهم وجهة نظرهم ‪ ..‬بس اللىمش قادرة أفهمه‬
‫موقف هدير نفسها اللى هيه المفروض بتحبك ومش قادرة تعيش من غيرك ‪ ..‬أزاى ماوقفتش معاك‬
‫وأقنعت أهلها ‪ ..‬ماكانتش قادرة تقولهم ماتاخدوش ذنب يوسف بذنب أمه ‪ ..‬ماقالتلهومش ليه أن‬
‫يوسف ده أنسان كويس وماشافتش منه حاجة وحشة ‪ ..‬ليه ماعملتش كده يايوسف ؟! ‪ .‬لم يتقدم أحد‬
‫للدفاع أو الهجوم فحبست دموعها ‪ .‬أصبحت األن األمور أكثر وضوحا ‪ ،‬هى متهمة فى قضية التعلم‬
‫أبعادها ‪ .‬كانت تبحث فى عيونهم عن نظرة رحمة تخصها ‪ ،‬فلم تجد سوى عبارات تخرج على أستحياء‬
‫أفتتحتها نعمة بنبرة قدرية ‪ :‬معلش ياست هدى بكره كل حاجة تتصلح ‪ ..‬واللـه دى عين وصابت‬
‫البيت ‪ .‬بينما زفرت نورا بملل ‪ :‬مش وقته الكالم ده خالص أحنا اللى يهمنا دلوقتى يوسف وكالمك‬
‫ياماما الحيقدم وال حيأخر ‪ .‬دعمت أيات وجهة نظرها ‪ :‬نورا عندها حق ياهدى مش وقته خالص مين‬
‫الظالم والمظلوم ‪.‬‬

‫فى تلك اللحظة حول يوسف حزنه إلى جفوة مفاجئة وقام من مكانه متحامال على نفسه حين أنتابته‬
‫رغبة جارفة فى أنهاء الكالم واألنسحاب فأستوقفته نورا وطرحت عليه سؤالها األخير ‪ :‬حتدخل تنام ‪.‬‬

‫ــ أيوه ‪ .‬قالها وأتجه لغرفته مارا بكل العيون المتفحصة بعدما ترك عالمات أستفهام تأكل رأس بسمة‬
‫وهى تهمس لنفسها بخوف ‪ :‬واضح كده أن مافيش حاجة بتستخبى فى البلد دى ؟! بينما كان منظر‬
‫يوسف مدعاة لتنشيط حالة المظلومية الكامنة فى نفس أيات وتصاعدت مأساتها فجأة إلى ذاكرتها لتبلغ‬
‫مالمحها قبل أن تتشكل على لسانها كلما تتعبر بها عن مدى تشابه اللحظة بين الحاضر والماضى ‪:‬‬

‫‪323‬‬
‫نفس القصة بتتكرر بحذافيرها يانعمة نفس اللى حصل مع يوسف النهاردة هو نفسه اللى حصلى مع‬
‫شاكر من تالتين سنة ‪ .‬لما كان بينى وبين الحلم خطوة وكنت فاكرة أنى خالص ملكت الدنيا بأيديه‬
‫وفجأة لقيت نفسى ماسكه سراب وكل حاجة أسودت حواليه زى اللى حصل ليوسف النهاردة كان رايح‬
‫ياعينى وواخد حلمه معاه وفاكر أنه محظوظ وبينه وبين المستقبل خطوة واحدة وفى لحظة كل حاجة‬
‫أتهدت ولقى نفسه ضايع ومجروح ‪ ..‬سبحان اللـه ‪ .‬أراحت نعمة ذقنها على كفها لتفنيد المقارنة بين‬
‫الحالتين ‪ :‬الياست أيات حكايتك مع اللى مايتسمى شاكر حاجة وحكاية يوسف النهاردة حاجة تانية‬
‫خالص ‪ ،‬األوالنى كان طماع وطلع على كتافك أما يوسف فمالوش ذنب أتاخد ياعينى بذنب أمه ‪.‬‬
‫أستقبلت أيات وجهة النظر بتنهيدة طويلة ‪ :‬فيه فرق وال مافيش آهى النتيجة واحدة يانعمة ‪.‬‬

‫دفع يوسف الباب الموارب فأستقبله الهدوء بينما الظالم سادل نقابه ‪ ..‬أضاء النور ‪ ..‬أستلقى الفراش‬
‫أمامه كنعش فى مرآة مسحورة ‪ .‬تحرك مهزوزا حتى جلس على حافة السرير ثم أدلى برأسه لألرض‬
‫قبل أن يرفعها ببطء حين دخلت أمه ‪ ..‬لم يكترث بدخولها ‪ ،‬فأقتربت منه وأصبحت فى مواجهته وبحثت‬
‫عيناها فى عينيه بينما كان هو يتجنب نظرتها ‪ .‬نزلت على ركبتيها أمامه وكأنها فى قاع بئر عاجزة عن‬
‫أنقاذه وخيل لها أنها تختنق ‪ .‬شعرت بمصيبته حين قرأتها فى عينيه ‪ .‬تمتمت قبل أن تنضج كلماتها ‪:‬‬
‫أنت شايفنى أزاى يايوسف ؟!‪ ..‬أضافت وهى تمسك يده تسحبه كى ينتبه وينصت لها ‪ :‬أنت حاسس أنى‬
‫ظلمتك ؟ كان قد أتحنى قليال ولكنه حين سمع قولها األخير أنتصب فجأة واقفا وكأنه مصنوع من فوالذ‬
‫فأضطرت للوقوف معه ‪ ،‬لقد أصابته أمه فى الصميم ‪ ،‬أجل ‪ ،‬أنه خالل هذه الساعة كلها ‪ ،‬ساعة‬
‫الوساوس والهواجس التى قضاها من لحظة خروجة من فيال هدير وحتى اللحظة لم يكن يفكر إال فى‬
‫نفسه وفى أحالمه المتصدعة ‪ ،‬حاول أن يسحب يده من يدها الجافة الباردة ‪ ،‬لكنه شعر بها تضغط‬
‫عليها بعزم وأحس أنه مقيد ومعتقل ‪ .‬لم يرد ‪ ..‬تركت يده ‪ :‬هى دى أخرتها يايوسف ‪ ..‬بقى هو ده أبنى‬
‫الوحيد اللى المفروض حيكون سندى وعكازى فى السنين اللى جاية ‪ ..‬ياخسارة ‪.‬‬

‫أحست أنها شهيدة ‪ ..‬وحيدة ‪ .‬بدأت تدرك أنها فقدت كل شيىء ‪ ..‬كل شيىء بال ثمن ‪ ..‬بال كلمة عزاء ‪.‬‬
‫تماسكت أمامه وعاندت دموعها ‪ ،‬نفضت ضعفها وسارت بحزم وعزم وكأنها أرادت له أن يشعر بها‬
‫وأن يعلم أن خطوتها الواثقة تعبر عن ثباتها ‪ .‬خرجت من الغرفة ‪ ..‬مرت بالصالة وفشلت فى تجنب‬
‫نظرة متجهمة سددتها نورا دون مواربة ‪ .‬دخلت حجرتها وأغلقت الباب خلفها ‪ ،‬لتصبح تلك الليلة رقما‬

‫‪324‬‬
‫فى موسوعة لياليها الدامية !!‪ ..‬بينما يوسف أظلم غرفته ومدد جثته ومضى يرخى جفنيه ويغمض‬
‫عينيه حيث تطمس له الظلمة ماحدث وماعساه يحدث ‪.‬‬

‫‪0000000000‬‬

‫العاشرة صباحا ‪..‬‬

‫توسطت فايزة جلسة ذكورية بأمتياز ‪ ..‬أمامها منضدة صغيرة وحولها فى دائرة مفتوحة محمود المحامى‬
‫وجمال النونو على يمينها والحاج محمد المقاول بجوارخضر على يسارها ومن خلفهم أنتشرت مجموعة‬
‫خضر القتالية فى ضيافة مدخل بيت " حميدة القاضى" بحارة أبن شكر المواجه لبيتها الجارى أخالئه ‪..‬‬
‫لحظة تاريخية تشهدها فايزة من موقعها ‪ ،‬لحظة ستكون فارقة فى مستقبلها المعمارى الواعد ‪ .‬بدت فى‬
‫وجوههم جدية حين قام محمود المحامى من كرسيه ساحبا حقيبته متجها ناحية " شعبان البقال" الواقف‬
‫منكسرا بجوار دكانه الخالى بعدما أخرج أحشاءه على الرصيف ‪ ،‬لم يتبق سوى بوابة صاج متأكلة سرح‬
‫فيها الصدأ بكل درجاته تعلوها الفتة مطموسة هرب لونها منذ سنوات ‪.‬كان مرتجفا مهتزا فى وقفته كمن‬
‫يتلقى العزاء فى رفيق عمره ‪ .‬واجهه محمود المحامى متحاشيا النظر فى عينيه ‪ :‬دول عشرة تالف جنيه‬
‫ياعم شعبان يبقى كده وصلك المبلغ كله تمانتاشر ألف بالتمام والكمال ‪ .‬أستلم المبلغ صامتا حزينا فتابع‬
‫المحامى ‪ :‬خضر حيحملك شوية الكراكيب دول على النص نقل وحيوصلك لغاية البيت ‪ .‬دبت فيه الروح‬
‫فجأة معترضا ‪ :‬أنا عايز اليافطة المتعلقة فوق الدكان ‪ .‬قطب جبينه حين رفع عينيه مندهشا ‪ :‬اليافطة دى ‪.‬‬
‫بعناد طفولى ‪ :‬أيوه هى دى ‪ ..‬اليافطة المتعلقة دى أنا عملتها عمولة سنة ستة وستين و كانت شاهدة على‬
‫دخولى وخروجى يوماتى الكتر من خمسة وأربعين سنة ‪ ..‬دى عشرة عمر ‪ .‬أحتوى عصبيته بأبتسامة ‪:‬‬
‫اللى أنت عايزه ياعم شعبان والتزعل نفسك ‪ .‬قالها وأشار لخضر الذى قام من مكانه فى حراسة أتنين من‬
‫صبيانه وقد تطوع أحدهما وأعتلى سلم خشبى حتى بلغها ‪ ،‬خلخلها من الجانبين قبل أن يحسم أمرها‬
‫وينزعها من مكانها نزعا بال رحمة فأرتدت عليه فعلته بغباروأتربة كأنما يواجه عاصفة خماسينية شديدة‪،‬‬
‫وحين هم بالنزول ظهرت له عائلة كاملة من الفئران أنكشف سترها كانت تعشش خلف الالفتة فتصدى لهم‬
‫الواقفون والقاعدون كل منهم بحسب لياقته على المالحقة ‪ .‬تسلمها شعبان بتأثر وأسندها للجدار قبل أن‬
‫تمتد إليها أنامله ينفض عنها أوساخا تراكمت عبر عقود حتى تصلبت كالحصى ‪ .‬لحظات ورفع صبيان‬
‫خضر مخلفاته على النص نقل ثم صعد شعبان خلفها واقفا وقفته األخيرة مستأسدا وسط كراكيبة متكئا على‬
‫الفتته يتجول بعينيه مودعا البيوت والوجوه وعشرة السنين منهيا جولته المؤثرة فى عينى فايزة التى‬
‫‪325‬‬
‫تراقب رحيله بفارغ الصبر ‪ .‬أستغرق فى النظر إليها بحدة ثم خبط صدره بقبضته منوحا كشيعة العراق ‪:‬‬
‫حسبى اللـه ونعم الوكيل فى الظالم ‪ .‬قالها دامعا تعصف به األحزان حتى فارقت الحارة عينيه ‪ .‬رحل عم‬
‫شعبان مخلفا وراءه مشهدا جديدا فى حارة أبن شكر حين بدت واجهة الدكان ألول مرة صلعاء بال الفتة‬
‫تعلوه ‪ .‬مال محمود المحامى هامسا فى صدغ فايزة بأريحية ‪ :‬ياساتر أخيرا أتكل على اللـه كان محجرأوى ‪.‬‬
‫أظهرت أبتسامة مائلة ‪ :‬هانت يامتر كده مش فاضل غير أم ماهر ودى حتخلع بالليل وكده تبقى األمور أخر‬
‫تمام ونقول يامسهل يارب ونبدأ شغل ‪ .‬فلتت منه نظرة محايدة قبل أن يرفع رأسه ألعلى ‪ :‬أل لسه فيه ناس‬
‫فوق ماتكلمناش معاهم والتراضوا زى الباقيين ‪ .‬تابعت اتجاه عينيه ‪ :‬أه ‪ ..‬تقصد اللى ماتتسمى‬
‫هى وبنتها‪.‬‬

‫ــ تمام ‪.‬‬

‫ــ ماتشغلش بالك بالليلة دى ‪ ..‬علقة تانية تأخدها بدرية كومبارس وحتطلع من البيت بجالبية وشبشب‬
‫بس أنا تقالنه عشان لى مزاج أذل فيها ‪ .‬مد " النونو" بوزه الناشف مقتحما الحوار ‪ :‬وحياتك يامعلمة أحنا‬
‫بعون اللـه نطلعها من البيت ده وهى قاطعة تذكرة خروج من الدنيا ‪ .‬أحتد محمود المحامى ‪ :‬تعرف تسكت‬
‫أنت ‪ ..‬ثم ألتفت اليها مستعمال نبرة هادئة ‪ :‬الكالم مايبقاش كده يامعلمة ‪ .‬رجعت برأسها للوراء لتتبين‬
‫تفاصيل وجهه ‪ :‬الكالم يبقى أزاى نورنى ‪ .‬شعر أن اللحظة التكفى ليفسر لها تكتيكه فمال برأسه لآلمام‬
‫متحاشيا رأسها الملفوفة بطرحة زهرى موجها حديثه للحاج محمد المقاول ‪ :‬خالص ياحجيج أحنا حيبقى‬
‫ميعادنا بكرة فى المكتب عشان نتفق حنبدأ أمتى و بالمرة أكون جهزتلك العربون ‪.‬‬

‫ــ أنا طوع األمر وربنا يسهل األحوال‪ .‬قالها واقفا قبل أن يسحب النونو رجليه مفسحا له مكانا للمرور‬
‫فتابع ‪ :‬حأتكل على اللـه يامعلمة وبكرة حأظبط مع األستاذ ‪.‬‬

‫ــ ماشى ياحاج ‪ ..‬أسحب الكرسى وتعالى هنا جنبى ياوله ‪ .‬أخذ النونو موقعه مختبئا خلف كتفها ثم أردفت ‪:‬‬
‫عايز تقول أيه يامتر ؟ سؤاال طرحته حين أعطاها الحاج محمد ظهره ‪.‬‬

‫ــ مش ده الوقت اللى نعمل فيه مشاكل مع بدرية ‪ ،‬الزم تتراضى زى بقية السكان ال أقل وال أزيد ‪ .‬هز‬
‫صوتها منطقه ‪ :‬وأيه اللى حأكسبه وأنت عارف كويس أنى بعد أذن ربنا على أستعداد أطلعها من البيت‬
‫بنظرة عين ‪.‬‬

‫‪326‬‬
‫ــ تكسبى كتير أوى ‪ ..‬أولها حنشوف شغلنا من غير شوشرة والوجع دماغ وتانى حاجة وده اللى يهمنى‬
‫أنه ماينفعش تظهرى فى سوق المقاوالت من أول عملية بمشاكل وكالم كتير والعيار اللى مايصيبش يدوش‬
‫وأحنا يهمنا أن الزبون اللى حييجى يكون مطمن على نفسه وعلى فلوسه مش قلقان وخايف ويقول فى‬
‫نفسه ده ممكن اللى أتعمل مع بدرية يتعمل معايا ‪.‬‬

‫ــ يعنى أنت عايزنى أنخ مع المرى دى ‪ .‬أنهت جملتها وقد زادت صرامة وجهها ‪ .‬طل النونو برأسه مجددا‬
‫بدا وأن فكرة مفاجئة قد أشرقت فى ذهنه فخرج صوته بلهجة مظفرة ‪ :‬كالم األستاذ صح ولو مشينا‬
‫باألصول مع الولية دى حتكسبى كمان بونت معتبر مع أبنك منصور والمثل بيقول اللى مايجيش بالشدة‬
‫بيجى باللين ‪ .‬تحركت له برأسها فى أستغراب وكأنها فوجئت بوجوده ‪ :‬وأيه كمان ياحكيم زمانك ! تدخل‬
‫المتر مصححا جملته األخيرة بعدما أعاد صياغتها ‪ :‬أبنك منصور طلع وال نزل لسه برضه صغير ولو‬
‫سديتى قدامه كل الببان يبقى ربنا وحده هو اللى أعلم حيتصرف أزاى وال حيعمل إيه عشان ساعتها مش‬
‫حتبقى فيه حاجة فارقة معاه خالص وكله محصل بعضه ‪ .‬راقب مالمحها قبل أن يستعمل وقاره وحسن من‬
‫رتابة صوته كى يدفعها ألعادة النظر ‪ .‬تابع ‪ :‬أكسبى أبنك يامعلمة وهاتيه فى صفك ‪ ،‬األسوة والعند مش‬
‫حتنفع معاه والحتجيب نتيجة بالعكس دى حتخليه يغرز أكتر مع بنت بدرية وأنتى ست المفهومية يامعلمة‬
‫وعارفة أنك كل ماتقفلى معاه سكة الكالم والتفاهم بتخليه غصب عنه يقرب من أبوه أكتر وأنتى أدرى‬
‫منى بعبده الجن وهو الوحيد المستفيد من خصامك ألبنك ‪ .‬ضربت كلماته الجزء المسئول عن التركيز فى‬
‫عقلها ‪ .‬دوامة الفكر تدور عاصفة تحت غطاء الرأس ‪ ،‬أشاحت بوجهها تبحث عن رد من وسط أفكار‬
‫ملتبسة ‪ :‬مش عارفة أقولك أيه لكن كالمك عاقل ومظبوط ‪ .‬سحبت نفسا ثم أطلقته بمرارة فى وجه النونو‬
‫الذى كان يتابع بدهشة لحظة ضعف نادرة طغت فجأة فى وجه فايزة حين خفتت نبرتها ‪ :‬ده أنا لسه أمبارح‬
‫مسودة عيشته ‪.‬‬

‫ــ ملحوقة يامعلمة وكله يتدبر ‪ .‬عبارة رددها النونو بحماسة ثم صمت كى يفسح لها الوقت لتسترجع مادار‬
‫مع أبنها وبصيص من ندم يظهر خافتا فى حركة عينيها ‪ .‬باألمس كان منصور حريصا على أن يفهم ويتأكد‬
‫فأدار معها نقاشا ‪ ،‬كان يعلم مسبقا أن طريقه مسدود ‪ ،‬لكنه نقاش الرجاء األخير ‪ .‬كلم فيها نفسه بأكثر مما‬
‫تكلم معها حين دخل مناورا بكيسين موز وتفاح أحمر ‪ :‬خدى ياما شوية الفاكهة دول أتسلى بيهم وبالهنا‬
‫والشفا ‪ .‬نظرة ركنية وهى ممددة على السرير عاينت بها بضاعته ‪ :‬ودول بمناسبة أيه ياحيلة ‪.‬‬

‫‪327‬‬
‫ــ هو اللى يجيب فاكهة ألمه يبقى وراها مناسبة ‪ ..‬هو فى أغلى منك ياما ‪ .‬أستندت على مرفقيها تسحب‬
‫جسدها ألعلى مستندة الى ظهر السرير ‪ :‬أنت عايز أيه ياوله بالظبط ‪ .‬أفرغ حمولته على طرف السرير‬
‫وجلس بجوارها يتحسس ظهريديها المشبوكتين على بطنها ‪ :‬مش عايز حاجة منك غير رضاكى عنى‬
‫وتقفى جنبى وتريحينى فى اللى أنا عايزه ‪ .‬حاول أحتوائها حين جفت مالمحها فأفرج عن أمنية هائمة‬
‫داخله ليس لها مستقر ‪ :‬هو أنا مش أبنك الوحيد ياما ‪ .‬ناولته نظرة دون أى تعبير فأضاف ‪ :‬خلينى أيدك‬
‫اليمين شورينى ياما ودخلينى معاكى فى زوارقك ‪ ،‬ياما الناس كلت وشى فى الحارة وفى القهوة وهمه‬
‫شايفنى ليل ونهار متلقح فى القهوة قاعد زى خيبتها بأعد اللى داخل واللى خارج وأنتى بالصال ع النبى‬
‫بتجرى ورا مصلحة هنا وبتخلصى حكاية هناك ‪ ..‬يرضيكى الكالم ده ‪ .‬قامت برأسها تنطحه بأستعالء‬
‫وأصرار ‪ :‬أه يرضينى هو ده جزاء اللى يعاندنى ويخرج عن طوعى ‪ ،‬وبراحتك ياحبيب أبوك وأبقى خلى‬
‫نوسة وأمها ينفعوك ‪ .‬قالتها ثم مدت يدها تخبطه بأناملها فى جانب رأسه مهددة ‪ :‬كلمتين تحطهم فى رأسك‬
‫الوسخة دى ياأبن بطنى ياحيلة ‪ ،‬أبوك اللى أسمه أبوك من يوم ماشفت خلقته وأتجوزته من خمسة‬
‫وعشرين سنة كان راسم ومخطط أنه يطوينى فى يومين تالتة تحت جناحه ويلهف اللى ورايا واللى قدامى‬
‫جرب كل حاجة ‪ ..‬لئم التعالب شوية على حبة حنان وضحك على الدقون شويتين وجرب البلطجة وقلة‬
‫األدب ماخالش حاجة وأخرتها سلم نمر وماعرفش يكسرنى والقدر يطول منى مليم واحد غصب عنى ‪..‬‬
‫كله بمزاجى !! أراحت رأسها للخلف تسندها ثم تابعت بنبرة أنتصار ‪ :‬وآهو فيك عينين تندب فيهم رصاصة‬
‫شوف أمك بقت فين واللى مايتسمى أبوك بقى فين واللى أن شاء اللـه من غير مقاطعة بسالمتك حتحصله‬
‫وعقلك فى راسك بقى ‪ ..‬أنسى البنت دى وأبعد عنها وأنا مستنياك وساعتها حأمشيك أنا على مزاجى ‪.‬‬
‫نظرة ضعف ونبرة مشروخة هما ماواجه بهما أمه ‪ :‬ليه ياما كل ده واللـه حرام عليكى ده يبقى أفترى‬
‫وظلم‪ .‬قالها منكمشا وأحتمال أستضافة صدغه لصفعة من كفها كان أقرب إال أنها فاجأته على غير العادة‬
‫بهدوء ‪ :‬كل واحد ياحبيبى ينام ع الجنب اللى يريحه ‪ .‬كان يحاول الفهم قبل التسليم بأن ماسيقدم عليه‬
‫أصبح قدرا المفر منه بعدما أيقن أنها مغامرة قدرية بأحتماالت مهلكة ‪.‬‬

‫ــ أيه يامعلمة روحتى فين ‪ .‬جملة رددها النونو أعادتها مهمومة ‪ .‬بدت متراجعة على غير العادة مبتعدة‬
‫بعينيها كى تتيح ألفكارها فرصة الهدوء والتأمل ‪ ،‬لم تفكر بآلية العناد كما أعتادت ‪ ..‬شردت للحظات وسط‬
‫دخان متصاعد من حولها بنفسية سيئة ‪ :‬مارحتش يانونو ‪ .‬كلمات محمود المحامى هزت شيئا بداخلها‬
‫وسحبتها إلى منطقة ضعف نائية الزالت تتحسس حدودها بحذر ‪ :‬ع العموم كتر خيرك يامتر نصيحتك على‬
‫راسى من فوق ومهما حصل من منصور طلع والنزل هو أبنى الوحيد وأنا عارفة كويس أن السكينة‬
‫‪328‬‬
‫سارقاه والزن شغال على ودانه من كل حتة ومفهمينه أن أمه بتكرهه وواقفة فى طريقه مع أنى واللـه‬
‫العظيم مافيش حد فى الدنيا دى بحالها بيخاف عليه واليحبه أدى ويعلم ربنا أن كل اللى بأعمله ده عشان‬
‫فى األخر يفضله ويكبره من بعدى ‪ ..‬بس ده مش معناه أنى أعوم على عومه وأمشى على هواه ‪ ،‬الزم‬
‫يبقى كله باألصول والعقل ‪ .‬أبدى تفهما ‪ :‬عداكى العيب يامعلمة ‪ .‬فى حين طرح النونو رأيا كأثبات وجود ‪:‬‬
‫وأنا من ناحيتى يامعلمة ممكن أتدخل وأصلح األمور ‪ .‬أحتوته فايزة بنظرة كان لها مفعول السحر‪ ،‬جعلته‬
‫صامتا وكأنه مغيب عن العالم ‪.‬‬

‫ماكان عليها إال أن تنتظر ماسوف تسفر عنه األيام ‪ ،‬وبغريزة األنثى األسطورية حجبت مايفور فى ذهنها‬
‫من تخطيط ‪ ..‬قررت فايزة بينها وبين نفسها المهادنة والمرونة ‪ ..‬هذا هو التكتيك ‪ ،‬خطوة تتبعها خطوة ثم‬
‫خطوة أخيرة حتى بلوغ الهدف ‪ .‬قامت تتحامل على كتف صبيها ‪ :‬ياله بينا ياوله ‪ .‬قالتها بـ " كرشة "‬
‫نفس‪.‬‬

‫ــ ماقلتيش يامعلمة حنعمل أيه مع بدرية ؟ قال سؤاله واقفا بعدما سحب حقيبته بينما لم تجد فايزة أجابة‬
‫حاسمة وسط فوضى مشاعر متخبطة وظالل باهتة من التردد ‪ :‬حأبقى أكلمك بالليل وأقولك تعمل أيه ‪.‬‬
‫المعاينة المبدئية لنبرة صوتها تفسر تراجعا فى حدة الخطاب مع وجود شبهة تعاطف وتفهم ‪ .‬رحلت مع‬
‫النونو قبل أن تلقى نظرة أخيرة على واجهة البيت الذى صار مهجورا كبيوت األشباح إال من عينين‬
‫تتحركان فى األعلى خلف ضلفتى شيش موارب قبل أن تضمهما بدرية وتسحب نفسها للداخل بعد ماراقبت‬
‫رحيل فايزة وفرقتها ‪ ..‬القلق والتوتر هو شعار المرحلة التى تعيشها بدرية وأبنتها وهى تتابع بلهفة عملية‬
‫التهجير اليومى للسكان بأحساس مريض أجرب محتجز فى غرفة حجر صحى ‪ .‬حصار وعزلة قطعا عنهما‬
‫التواصل وباتت المعلومات شحيحة فبادرت بدرية تحت الحاح المعرفة بزيارة وداعية أستطالعية ألم ماهر‬
‫التى أستقبلتها مجهدة ومنشغلة تحزم أمتعتها تحت أشراف " عبد العاطى " الزوج الجديد عن طريق‬
‫أشارات شفوية يلوح بها بين الحين والحين مكتفيا بما قدمه من جهد خالل مفاوضاته مع محمود المحامى‬
‫التى أثمرت عن عشرين ألف جنيه قيمة الترضية المتفق عليها والتى صادرها كلها مقتطعا منها جزءا‬
‫بسيطا ألستئجار شقة قانون جديد على أطراف منطقة كرموز خلف المدافن بعدما أقنع أم ماهر بأنه بصدد‬
‫دراسة مشروع جديد سيتولى هو أدارته منفردا فخضعت لرؤيته وأستجابت لفكرته بعد تهديد صريح لها‬
‫بأنها ستحمل لقب مطلقة فى حال رفضها ‪ .‬بينما يتابع ماهر تطورات الوضع وهو اليملك من أمره شيئا ‪،‬‬
‫بدا مهموما ومنطويا على نفسه ينتظر عن قناعة نهاية درامية سيكون حتما هو بطلها ‪ .‬هبطت بدرية من‬

‫‪329‬‬
‫شقتها تجر لحمها خلفها قبل أن تتوقف أمام " بسطـة " أم ماهر التى أزدحمت بأمتعة وصناديق كرتون‬
‫وكومة كراكيب ومالبس قديمة تخص الزوج الراحل ستكون من نصيب عم " رمضان " سريح روبابكيا‬
‫وبجوار باب الشقة تالجة أيديال طاعنة فى السن ضرب الصدأ أسفلها بعدما تم أجالءها من ركنها التاريخى‬
‫على يمين الصالة حتى صارت رسمتها مطبوعة فى الركن وعلى األرضية من طول العشرة ‪ .‬طلت بدرية‬
‫برأسها من باب الشقة ثم شمرت جلبابها حتى بلغ ركبتيها قبل أن تفتح ساقيها عن أخرهما معلنة عن وثبة‬
‫عظيمة متخطية حاجز المتر متحاشية مستنقع من الحقائب الصغيرة تنوء بها أرضية الصالة ‪ ..‬سارت‬
‫بحذر وسط أثاث مفكك ومراتب مطوية وبوتجاز وغسالة وحلل ألمونيوم وحقيبة سفر ضخمة تجاهد أم‬
‫ماهر خلفها تدفعها بكل ماأوتيت من قوة تدفعها بكلتا يديها وهى تمشى على ركبتيها بينما الحقيبة مستقرة‬
‫فى مكانها كصخرة تأبى األنصياع فى حين كان عبد المعطى مستغرقا فى العبث بموبايله غاطسا فى قعر‬
‫كرسى فاردا أبتسامة باردة حين تقطع أنات صوتها الموجوع أنسجامه ‪ :‬أنتى عجزتى وال أيه ياولية ؟!‪..‬‬
‫ألتقطت أنفاسها الآلهثة قبل أن تزيح عن جبينها خطوط عرق متشابكة فاضت حتى تجمعت عند منبت‬
‫الحاجبين ‪ :‬تعبت ياخويا ‪ ..‬من أمبارح عمالة أشيل وأحط أنا والوله ماهر لما ضهرى أتقطم ‪ .‬أستنفر‬
‫منظرها حمية بدرية حين دخلت الطرقة المؤدية لغرفة النوم ‪ :‬ماتقوم ساعدها شوية ياسى عبد العاطى ‪.‬‬

‫ــ أنا ماليش فى حكاية الشيل والحط ‪،‬وبعدين خالص هانت كلها كام ساعة وتيجى العربية تلم الليلة دى‬
‫كلها ‪.‬‬

‫مسحت بدرية من موقعها الغرفة والطرقة والصالة بنظرة تأثر ‪ :‬خالص حتمشى ياأم ماهر وتسيبينا ‪.‬‬

‫ــ عقبالك يابدرية ياختى ‪.‬‬

‫ــ عقبالى فين وأنا لغاية دلوقتى مش فاهمة أولى من أخرى والفيه حد كلمنى والحد عبرنى ‪ .‬قالت جملتها‬
‫ثم واجهتها تفصل بينهما الحقيبة فأردفت بجرأة ‪ :‬أخدتى كام من الوليه المفترية اللى أسمها فايزة ‪.‬ثبتت‬
‫كفيها فوق حقيبتها العنيدة ‪ :‬حأقولك يابدرية بس أيدك معايا نسحب الشنطة الداهية دى ‪ .‬همست لها‬
‫بصوت خافت ‪ :‬هو بسالمته جوزك حالف بالطالق مايساعدك ‪ .‬قالتها وأنحنت فوق الحقيبة بينما رسمت أم‬
‫ماهر أبتسامة هزيلة ‪ :‬آهو بقى دلع رجالة يابدرية ‪ .‬أحتقن وجه األخيرة وأنتفخ حين أرتكزت على قدميها‬
‫وكتمت أنفاسها تدفع الحقيبة بأتجاه الباب التى لم تتزحزح إال مليمترات قليلة عن مكانها ‪ .‬فرفعت رأسها‬
‫تلتمس نفسا جديدا وبصوت متقطع ‪ :‬أنتى حاطة أيه ياولية فى الشنطة دى ‪ ..‬أوعى يكون جوزك عملها‬

‫‪330‬‬
‫وحبس الوله ماهر فى الشنطة ‪ .‬ضحكت ولم تعلق حين ألحت عليها بسؤالها المشروع ‪ :‬ماتقولى ياولية‬
‫أخدتى كام من فايزة ‪.‬‬

‫ــ يوه بقى عليكى ساعدينى األول فى الحوسة اللى أنا فيها دى وبعدين حأقولك على كل حاجة ‪ .‬أحست فى‬
‫نبرتها تلونا ومراوغة فأستندت بكفيها على األرض وقامت منتفضة ‪ :‬كان على عينى ونبى من يوم عركة‬
‫المفضوحة فايزة وأنا ضهرى بينأح على ‪ .‬أنهت كالمها وخرجت من الغرفة متجهة ناحية الباب قبل أن‬
‫تلتفت إليها ‪ :‬مبروك عليكى اللى أنتى أخدتيه ياأم ماهر ‪ ..‬قصدى اللى سى عبد العاطى خده ‪ .‬ذيلت جملتها‬

‫صهلولة هزت جدران البيت الخاوى ‪ .‬صعدت شقتها خالية الوفاض التحمل سوى أحباطا ويأسا ‪ ..‬لم تجد‬
‫كالما مقنعا تصيغه ألبنتها التى سحبتها إلى الداخل يتداوال فى خوف عن مصير قادم بات وشيكا ‪.‬‬

‫‪0000000000000‬‬

‫" أنتخ يامنصور ‪ ..‬نعيم حيخلصلك الليلة كلها من أولها آلخرها " عبارة أطلقها سليم وظل يرددها بألحاح‬
‫فى أذن منصور طيلة ثالثة أيام حتى صارت لزمة على لسانه ترافقه كلما أستفرد بصديقه ‪ .‬جملة كان لها‬
‫عظيم األثر فى فقدان منصور طاقته تدريجيا حين قاده سليم من حارة إلى حارة ومن زقاق إلى عطفة‬
‫وكأنهما يسيران داخل نفق تتصاعد منه روائح عفنة تشبه رائحة الجثث المتحللة ‪ ..‬سارا بين أزقة ضيقة‬
‫تلتف وتدور وتنعطف كدود األرض ‪ ،‬تحاصرهما بيوت من الصفيح على أعتابها كائنات تحسبهم للوهلة‬
‫األولى بشرا ‪ ،‬ملتصقين فى أماكنهم اليتحركون فأطمأن الذباب للمبيت على وجوههم دون خوف والتوتر ‪.‬‬
‫أنتفخت عروق منصور وزاد أضطرابا كلما سحبه سليم إلى أدغال منطقة " الدخيلة " فيفصح وهو ينهج ‪:‬‬
‫كده برضه ياسليم دى منطقة تجيبنا فيها ‪.‬‬

‫ــ مشى حالك ياعم أن كان لك عند الكلب حاجة ‪.‬‬

‫ــ تالت تيام بتزن على دماغى لما ورمتها عشان آجى معاك أقابل اللى أسمه نعيم ده ‪ ،‬كنا أتنيلنا وقابلناه فى‬
‫أى داهية بعيد عن األرف ده ‪ .‬حاول سحب غضبه وانعاش معنوياته ‪ :‬هو فى أيه ياعم منصور أحنا كل اللى‬
‫يهمنا مصلحتنا تخلص وعديها بقى وماتلكش كتير ‪ ..‬نعيم ده صاحب مبدأ لما يحب ينجز أى مصلحة الزم‬
‫األتفاق يتم عنده فى البيت ‪ ..‬هيه دماغه كده ‪ .‬كان توضيحا ضروريا قبل أن يزف اليه بشارة الوصول حين‬
‫أبتسم ‪ :‬أدخل شمال يامنصور من اللى جاى هو ساكن فى أول بيت ‪ .‬زحف بعينيه مستطلعا ‪ :‬وساكن برضه‬
‫فى صفيح ‪.‬‬
‫‪331‬‬
‫ــ عيب ياجدع ده راجل مالى مركزه فى المنطقة بحالها وله كلمة ‪ ،‬نعيم ده كان قبل كعبلة يناير والثورة‬
‫والحوارات دى كان شغال مرشد تحت أيد الحكومة والشغل اللى يجيبه كان يرفع بيه ظابط المنطقة رتبة‬
‫وترقية ‪ ..‬كان بالصال ع النبى يخلق القضية من العدم يلفقها ويظبطها ويسلمها بناسها بيضة مقشرة ‪..‬‬
‫راجل بصحيح حتتكيف منه أوى يامنصور ‪ .‬أنخفضت معنوياته فجأة وهو ينصت لـ " السى فى " سار‬
‫صامتا شاردا حتى توقف سليم أمام مدخل بيت يطل على مستنقع مياه راكدةيستضيف ثالثة أطفال حفاة‬
‫يتقافزون حوله ‪ ،‬فأشار له بالدخول فتعقبته الرائحة والرذاذ حين تخطى المستنقع وثبا مجتازا المدخل‬
‫فأصدر صرخة أرف رددها بتململ ‪ :‬دى شورة أمك سودة ‪ ..‬اللـه يحرقك ‪ .‬صدمت كلماته المتوترة مؤخرة‬
‫سليم الذى أعتلى قبله درجات السلم ‪ ،‬ثالث طوابق على ضوء والعة منصور قادتهما إلى سطح صغير ‪،‬‬
‫جزء منه مكشوف تشهد عليه السماء بينما تحتل غرفة خشبية مساحته الباقية ‪ ،‬حين داس بقدميه بالط‬
‫السطوح أرسل نظرة فضولية طاف بها فى المكان قبل أن ينحرف ببصره يمينا ناحية سطح الجيران فتتبع‬
‫أمرأة تملك " كرشا" باهظا ومؤخرة جبارة تركض بهما خلف رجل بجسد متواضع شاهرة شبشب بالستيك‬
‫صناعة محلية تالحقه بضربات تفادى معظمها قبل أن تسيطر عليه وتأسره فى ركن مظلم ثم قامت بتكريمه‬
‫كما يكرم الصرصار حين يمر أمام حذائك ‪ .‬سبقه سليم بخطوة ناحية باب الغرفة ‪ ..‬طرقتين بيده الناشفة ثم‬
‫أرتد للوراء منتظرا ومن خلفه منصور الذى ألتصق بظهره متابعا بقلق مشهدا لم يتوقعه ‪ .‬وقفا صامتين‬
‫تشهد عليهما ظالل البيوت التى أزدادت طوال على أرضية السطح ‪ .‬شيئا مرهقا يجثم على صدره زادت‬
‫وطأته حين سمع نداءا أفزعه ‪ :‬زق الباب يااللى بتخبط ‪ .‬بدا كصوت يستغيث من داخل مقبرة ‪ .‬دفعة واحدة‬
‫للباب فأنفتح وأهتز معه سقف الغرفة ‪ .‬دخال ملتحمين حين أجتازا مدخلها المصمم لعبور فرد واحد ‪..‬‬
‫تحررا من بعضهما ليطالع منصور غرفة مستطيلة بها كنبة خشبية تستولى على نصف المساحة وتلعب‬
‫جميع األدوار ‪ ..‬نوم وصالة وسفرة مكفنة بفروة خروف غالبا ماتم خطفه وأغتياله ثم سلخه على‬
‫يد نعيم !‪ .‬من أى زاوية يمكنك أن تتعرف على خريطة المكان ‪ ،‬فى المواجهة طرقة نحيفة بحجم رجل‬
‫مسلول فى نهايتها مطبخ شحيح التفاصيل كل مافيه بوتجاز " أطلس " فقدت عيونه األبصار عدا عين‬
‫واحدة ال تصلح سوى لتدفئة كنكة قهوة ‪ .‬أصاب منصور األكتئاب الينتشله سوى رائحة بول مركزة وصوت‬
‫سليم ‪ :‬تعالى نقعد على الكنبة ‪ .‬جلس ومال بعينيه قبل أن تميل بهما لألمام ‪ :‬أنا حاسس أنى قاعد جوه‬
‫عشة فراخ ‪ .‬ثبت سليم مؤخرته فى فروة الخروف بحثا عن توازن خشية األنزالق ‪ :‬ماتاخدش الناس‬
‫بالمظاهر ياأخى ‪.‬‬

‫‪332‬‬
‫ــ أمال أخدهم بأيه ياأبن الوسخة ‪ .‬قالها منصور وصمت حين خرج رجل من زاوية مهجورة بجانب المطبخ‬
‫يمسك بطرفى بنطلونه المفتوح قبل أن يضمهما ‪ ..‬طويل عريض بذقن مدببة وعينين بارزتين عكرتين‬
‫زاد جحوظهما حين أقترب منهما يزحف بشبشبه ‪ .‬أفزعه منظر الرجل فوقف منصور متحامال على صديقه‬
‫الذى بادر بالتحية ‪ :‬أيه ياعم نعيم أنت كنت نايم وال أيه ؟ قالها ومد يده مصافحا قبل أن يمسح األخيريده‬
‫فى بنطلونه ‪ :‬ال واللـه كنت بأعمل زى الناس ‪ .‬برزت أسنانه السوداء حين أنشقت شفتيه عن أبتسامة ‪.‬‬
‫أردف ‪ :‬متهيألى ده منصور ‪ .‬تولى سليم األجابة ‪ :‬هو منصور صاحب المصلحة ‪ .‬مد يده المبتلة ‪:‬‬
‫يامرحبا ‪ ..‬ماتأخذنيش ياأخ منصور المكان هنا على أده بس مكنون ‪ .‬كان تنويها أستباقيا قابله األخير‬
‫بجملة مقتضبة ‪ :‬المكان كبير بصحابه ‪ .‬فى نبرته رائحة ريفية لمن يدقق ‪ ،‬لكن مع جحود الوطن وحاجة‬
‫البطن حين طال رقاده بمركز " الدلنجات " محافظة البحيرة بال عمل فضاقت يده فخلع الطاقية والجلباب‬
‫وجاء لالسكندرية غازيا منذ عشر سنوات ‪.‬‬

‫ــ مش كنا أتقابلنا فى حتة تانية يانعيم بدل الكتمة دى ‪ .‬أمنية رددها منصور وهو يتلفت حوله ‪ ،‬حاول أن‬
‫بفرض أحترامه على نعيم الذى تحرش به بنظرة من تحت شعر حاجبيه الكثيفان كانت كافية لينصاع‬
‫ألشارته ‪ :‬أقعد يافندى المكان هنا ملموم وتحت السيطرة ‪ .‬قالها قبل أن يسقط داخل كرسى بالستيك مشقوقا‬
‫ظهره ثم دس يده فى جيب قميصه وأخرج علبة " كليوباترا" سلت منها واحدة أشهرها فى وجه منصور‬
‫الذى تسلمها مكرها ثم ألقى بواحدة فى حجر سليم ‪ :‬عشت يانعيم ‪ .‬ثم مر عليهما بشعلته ‪.‬‬

‫بدا أن جسده لم ينكشف على ماء منذ زمن ‪ ،‬بقع سوداء تسكن رقبته كهباب فرن بلدى يتعامل معها بعفوية‬
‫عن طريق الهرش والفرك ‪.‬‬

‫ــ أنا تحت أمرك يامنصور شوف طلبك أيه وإن شاء اللـه كله يتدبر ‪ .‬طارت منه الكلمات وأصبح أمامه‬
‫خالى الرأس ‪ .‬فأختصر رده ‪ :‬مش أنت اللى طلبت تشوفنى ‪ ..‬أؤمر ‪.‬‬

‫ــ المؤاخذة فى دى الكلمة حكاية زى دى الزم أقعد مع صاحب المصلحة عشان أفهم العبارة من أولها‬
‫ألخرها وهيه دى أصول الشغل ‪ .‬داهمته حدة غير مبررة ‪ :‬هو مش سليم قالك على المطلوب ‪.‬‬

‫ــ من ناحية قالى هو قالى ‪ ..‬بس ‪ .‬سكت سكوت التعالب ‪ .‬فعاجله منصور ‪ :‬بس أيه ‪ ..‬قول ياسيدى ‪.‬‬

‫ــ المواضيع دى ياأخ منصور ماتخلصش فى كلمتين فيه تفاصيل رفيعة الزم أفهمها من صاحبها عشان‬
‫أعرف أظبط رسمتى وكمان األتفاق الزم يبقى مع صاحب الشأن عشان الحكاية حيبقى فيها هات وخد يعنى‬
‫‪333‬‬
‫ماينفعش يتصدرفيها سليم لوحده ‪ .‬أنتاب األخير أضطراب المقهورين ‪ :‬ليه يا عم نعيم هو أنا مش أد‬
‫األتفاق وال أيه ‪ .‬تصنع بعدها غضبا وأنكفأ بوجهه لألرض ‪.‬‬

‫ــ ماتتأمصش كده زى النسوان هى دى أصول الشغل والزم أفهم الخيط أوله منين وأخره فين ‪ ..‬سامحنى‬
‫ياصاحبى دى حاجة ماتزعلش ‪ .‬ثالث سجاير مشعة بالدخان كانت كافية لطمس مالمحهم ‪ .‬يجثم صوته‬
‫الذى يخرج كله عن طريق حبل صوتى واحد على صدر منصور الذى يطمح ألنهاء األمر سريعا ‪ :‬كالمك‬
‫مظبوط يانعيم وأنا سامعك وتحت أمرك ‪ .‬دفع بدخان سيجارته من بين شفتيه فى عزم كمن يقضى حاجته‬
‫بعد نوبة مغص ‪ :‬اللى أنا فهمته من سليم أن فى حتة محجرة معاك وعايز تودعها فى األمانات كام سنة‬
‫عشان الدنيا تمشى والمصالح تسير وعشان ده يحصل يا أبن الناس الزم أظبط قضية صح يعنى الزم أفهم‬
‫كل كبيرة وصغيرة غير اللى سليم قالهولى ‪.‬‬

‫ــ وسليم قالك أيه ؟ ‪.‬‬

‫ــ قال أنها مقتدرة ودايسة فى سكة التجارة وعندها ملك فى كرموز ولسه مستجدة فى شغل المقاوالت‬
‫والكالم ده كله والمؤاخذة يعنى اليقدم وال يأخر ‪ ..‬الحسنة الوحيدة اللى طلعت بيها من كالم سليم أن الحتة‬
‫دى دخلت السجن قبل كده يعنى سوابق وده حيساعدنى فى الرسمة اللى بأخمرها فى دماغى ‪ .‬تابعه‬
‫منصور بضيق ال يعلم له سببا ‪ ..‬خبط األرض بقدميه ‪ :‬الخالصة أيه يانعيم ؟ ‪.‬‬

‫ــ أنا شايف أن الليلة دى تخلص بتربة حشيش ‪ ..‬قضية مخدرات ع السريع تريح وترتاح وقطمه أحسن من‬
‫نحته ‪ .‬قطب جبينه وركبته رهبة حين سمع كلمته األخيرة فيعيدها ممطوطة ‪ :‬حشيش ‪.‬‬

‫ــ آه حشيش مع شوية سالطات ‪ ،‬لفة بانجو على كام شريط برشام ‪.‬‬

‫ــ مش واسعة شوية الحكاية دى ‪.‬‬

‫ــ لو عايز تخلص نفسك وتنجز هى دى السكة الصح ‪ ..‬البضاعة والتحابيش أمرها سهل وتندس فى وسط‬
‫حاجتها وبعد كده كله حيبقى فى أيدينا‪ ..‬األخبارية والتظبيط والتوقيت حتكون بأشارة من العبد للـه‬
‫وساعتها حتالقى رجال المكافحة بيخلصوا الحكاية فى مينت ومبروك عليك وكل عام وأنتم بخير ‪ .‬ترنحت‬
‫نظرات منصور أمام نظرة نعيم التى بدت وكأنها تبتلع كل ماتصادفه ‪.‬‬

‫‪334‬‬
‫ــ حشيش وبانجو وبرشام دول يدخلوا السجن ومنه على الترب ‪ .‬ترافع دفاعا عن وجهة نظره مبديا ألتزاما‬
‫بمبادىء يحتفظ بها ‪ :‬عشان أريح ضميرى قدام ربنا أنا مش ضامن هيه ممكن تاخد فيها كام ‪ ..‬شلن‬
‫والبريزة وممكن أوى لو وقعت تحت أيد اللى مايرحمش يطسها ربع جنيه مخروم ومطرح مايسرى‬
‫يمرى ‪ .‬عبارته هاجمت أذنيه بضراوة أبقته ساهما قبل أن يدلو سليم بدلوه حين أستشعر ضيقا وتأثرا فى‬
‫وجه منصور ‪ :‬أيه ياعم نعيم أنت نسيت الكالم اللى قلناه سوا ‪ ،‬أنا مش رسيتك على اللى فيها وفهمتك أن‬
‫الحتة اللى الكالم عليها تبقى أمه يعنى ماينفعش بريزة وربع جنيه بناقصها حكاية الحشيش دى وخلينا فى‬
‫حاجة كده على أد األيد تالت أربع سنين وتبقى مرضية ‪ .‬حاول منصور تمرير كلماته بينهما ‪ :‬أنا عايز‬
‫حاجة مضمونة أبقى فاهم حتبدأ أزاى وتنتهى على أيه ‪.‬‬

‫ــ ع العموم يأفندى سيبنى لبكرة أخد وأدى مع نفسى وأكون دبرتلك حكاية تانية تبسطك وتكيفك وتخلى‬
‫الوالدة تروح مشوارها مسافة تالت سنين وترجع ‪.‬‬

‫ــ ماشى يانعيم ‪ .‬قام ينفض بنطلونه شاعرا بضيق فى النفس ‪ .‬كان رأسه مزدحما بخوف وأضطراب‬
‫وبتردد مراهق حين ينقلب المزاح جد ‪ .‬فأشار لسليم برأسه أشارة تعنى أنتهاء الزيارة فأصطف نعيم أمامه‬
‫يحاصره بجسده ‪ :‬ياريت بكرة وأنت جاى تبقى تجيب معاك خمس بواكى ربط كالم عشان الدنيا تمشى‬
‫بسرعة ‪.‬‬

‫ــ هو أنا لسه فهمت أنت ناوى على أيه ‪.‬‬

‫ــ ماتشغلش بالك أنا وعدتك حأخلصك وكلمتى زى السيف ‪ .‬نظرة شك تلقاها األخير من عين منصور ‪ :‬ربنا‬
‫يسهل ‪ .‬قالها وفر من أمامه مجتازا رقعة السطوح الى سلم األشباح ومنه للشارع يتبعه سليم ‪.‬‬

‫مشى صامتا كمن خرج بكفالة على ذمة قضية ‪ ..‬نظرات ملتبسة واجه بها بيوت الصفيح مصحوبة بوجع‬
‫يتصاعد من ناحية الصدر ‪ .‬شعر بنفسه يعد اللقاء كالذى هتك عرضه بأصبعه ‪ ..‬هو الجانى والمجنى‬
‫عليه ‪ .‬قطع سكوته وخلصه من صراعه النفسى ذلك الكائن المستفز الذى يزداد أقترابا منه ‪ :‬شفت الراجل‬
‫القفل عايز يطس أمك تأبيدة ‪ ..‬أما واللـه ده بغل صحيح !‪ .‬أبطأ خطوته ولم يعلق وكأنه أبتلع لسانه فتابع‬
‫سليم متصنعا جدية التتناسب مع مشيته المترنحة ‪ :‬حتجهز له الخمس بواكى أزاى ‪ .‬شعر بأنقباض قفصه‬
‫الصدرى ‪ ..‬شهيق متقطع وزفير مبتور ‪ .‬تشنجت مالمحه حين ألتفت ناحيته ‪ :‬مش عايز رغى فى‬
‫الموضوع ده ‪ .‬قالها بحدة ثم توقف فجأة كمن رأى الفتة " أحذر منطقة ألغام "‪.‬‬
‫‪335‬‬
‫ــ فى أيه وقفت ليه كده زى المتكهرب ‪.‬‬

‫ــ طلعنا من مخزن الصفيح ده اللى أحنا ماشيين فيه ‪ ..‬وقف لنا تاكسى وغورنا من هنا ‪ .‬دفعة سعال نشطة‬
‫سبقت تعقيبه ‪ :‬فى أيه ياجدع مالك متعصب ليه ومش على بعضك ‪ ..‬مش شغالنة يعنى أخدنا قعدتنا مع‬
‫نعيم ماعجبناش كالمه أدينا قصرنا القعدة وخدنا بعضنا ومشينا ‪ ..‬عادى يعنى فى مية طريقة تانية ‪.‬‬

‫فى نفس الوقت زاد توتر عبده وقلقه ‪ ،‬لم تنعم مؤخرته بطعم الراحة ولم يحتضنها قعر كرسى منذ ساعة‬
‫تقريبا ‪ ،‬قطع القهوة طوال وعرضا مارا بين الموائد كمراقب فى لجنة أمتحانات ‪ ،‬يتابع النداءات ومطحنة‬
‫الكالم الدائرة حوله بال تركيز ‪ ..‬حوارات مكررة ومعادة ووجوه محفوظة ‪ ،‬بينما عبده الذى كان وعيه فى‬
‫تلك الساعة مستغرقا فى تعقب تكهنات وأحتماالت ماسيسفر عنه لقاء أبنه مع نعيم ‪ ،‬ينتظر عودته بفارغ‬
‫الصبر ‪ ..‬شغل نفسه بمتابعة برنامج لـ " محمود سعد " الذى يستضيف ضيفا ببدلة " بيج" يحاوره حول‬
‫قضية مثارة تتناولها بالتحليل كل فئات المجتمع من نخب الفزلكة وأرزقية البرامج أنتهاءا ببائعى الفاكهة‬
‫والخضار وعمال اليومية والباعة الجائلين الذى يرجع لهم عظيم الفضل والفخر الى تحويل مصر لسوق‬
‫كبير مفتوح ليصبح " بائع متجول لكل مواطن " طرح األعالمى القديرسؤاله بصعوبه بالغة بعد فك‬
‫وتركيب ونسيان وأرتباك اعقبه حالة توهان كعادته فى المرحلة األخيرة ‪ :‬هل محمد مرسى يحكم مصر‬
‫فعليا أم مكتب األرشاد ؟ لعبت المصادفة دورا عجيبا فى أيقاع الحلقة حين بداالضيف هو األخر يتمتع بنفس‬
‫السمات التى أصابت المذيع مؤخرا فظهر بطيئا تائها تخلت عنه مفردات الكالم ؟‪ .‬فكان حوارا بائسا‬
‫مروعا ‪ ..‬جمل غير مكتملة وأسئلة بصيغة حواديت يتصدى لها الضيف بأجابات يصعب فهمها أو ترتيبها ‪.‬‬
‫وصل منصور وتابعه ‪ ،‬وجد أبوه منتظرا بالقرب من موقع التليفزيون ‪ .‬لمحه عبده من زاويته فترك المذيع‬
‫وضيفه ملخومين وسط تخبط ومقاطعة يبحث كل منهماعن أصل السؤال وكأنهما فقدا الذاكرة ‪ ..‬بينما ردد‬
‫عبده وهو يمشى ‪ :‬الراجل ده ماكنش كده ‪ ..‬الحول اللـه يارب ! فى طريقه قرأ عبارات ذعر تمأل وجه‬
‫أبنه ‪ ،‬وسع خطوته وهو يطوى جلبابه حول وسطه مقتربا من ذلك المذعور ‪.‬‬

‫ــ أيه ياوله عملت أيه ؟ تخطاهما سليم ‪ :‬أنا حأشرب شاى وكرسى معسل ‪.‬‬

‫ــ أسبقنى وأنا جاى وراك ‪ .‬قالها وألتفت ناحية أبوه مضطربا فأستشف األخير فشل المهمة بينما لخص‬
‫منصور أحداث الزيارة فى كلمة واحدة ‪ :‬فطشة !!‪ .‬أصدر بعدها عبده صوتا مكتوما ساخرا قبل أن يفصح‬
‫عما توقعه ‪ :‬أنا قلت كده برضه ‪ ..‬الوله سليم ده ماتجيش من وراه مصلحة أبدا ‪ .‬ثم أدلى رأسه لألرض‬
‫وهم يوليه ظهره ‪.‬‬
‫‪336‬‬
‫ــ رايح فين يابا ؟ ‪.‬‬

‫ــ تعبان ومصدع حأروح البيت أتخمد أحسن ‪.‬‬

‫ــ ماشى وبكره لما أشوفك نبقى نتكلم‪ .‬هز رأسه دون أكتراث ‪ .‬هرش منصور مؤخرة رأسه فى طريقه الى‬
‫سليم قبل أن يرسل صوته لجمعه حين مر بالنصبة ‪ :‬هات لى واحد بن تقيل يابنى ‪ .‬لملم سليم رجليه حين‬
‫وصل منصور الذى رمقه بنظرة أستخفاف قبل أن يهم بالجلوس ‪ :‬هو ده اللى بناخده منك شاى ومعسل ‪.‬‬
‫أستشعر تمردا فى نبرته ‪ :‬شكلك كده حاطط على ‪ .‬تنويه كان سببا ألنتفاضة غضب حرص منصور على أن‬
‫تخرج منه خافتة لضرورات األمان ‪ :‬على الحرام من دينى أنت البلبعة كلت دماغك وخلتك زى عم جزر‬
‫بتاع حارة فرهود اللى سارح فى حوارى كرموز باللباس والفانلة ‪ ،‬جايبلى واحد لبش دماغه لسعة تقعدنى‬
‫معاه وماقالش كلمة عدلة توحد ربنا تقول أنه فاهم وال فيه قمارةتبين أنه رسيم وبيخطط كل اللى طلعت بيه‬
‫من القعدة السودة دى حنجرة أمه الخربانة وهو بيقول تربة حشيش ‪ .‬أستياء صريح أظهره منصور جعل‬
‫سليم فى موقف اليحسد عليه فابدى تحفظا ‪ :‬يعنى هو أنا خطفتك وإال أخدتك غصب عنك ‪ ،‬من األول وأنا‬
‫مقريك قصة نعيم وأدينا لسه ع البر ياسيدى الدفعنا أبيض وال أسود ‪ .‬سكتا عن السجال المتبادل حين‬
‫حضر جمعه محتضنا صينية أنحنى بها أمامهما شارحا كمرشد سياحى ‪ :‬قهوتك يامنصور وشاى وشيشة‬
‫لسليم باشا ‪.‬‬

‫ــ الباشا ده تحطه فى‪ ..‬أفرغ جمعه حمولته بعد ماسمع الوصفة التى تخص مؤخرته ورحل متمتما ‪ :‬شكرا‬
‫ياأبو لسان زفر ‪ .‬أستند منصور بظهره وواجه الحارة بعينيه من خالل المدخل ‪ ،‬رجع برأسه للوراء متأمال‬
‫الموقف بهدوء ‪ ..‬سرح لدقائق ‪ .‬قطب جبينه حين مرت أمام عينيه سيارة نقل كبيرة تسير بحذر خشية‬
‫األصطدام ببيت أو األحتكاك بشرفة ‪ ،‬تحمل أمتعة وأثاث متواضع يتصدره أنتريه مقلم تحاصره غرفة نوم‬
‫مفككة ونيش وترابيزة سفرة بدون كراسى يحدها من ناحية الشمال مرتبة عتيقة خرجت أحشاءها وأمامها‬
‫" كومودينو " عليه تليفزيون صينى ماركة " شونج بونج " يسنده ماهر الذى بدا وكأن ال دور له فى‬
‫الحياة سوى أنه مع العفش ‪ .‬كل متر يقطعه السائق تعقبه جملة ندم يلفظها حين يطل برأسه من نافذة‬
‫السيارة صارخا ‪ :‬واللـه العظيم أنا اللى أستاهل ضرب الجزمة اللى حطيت نفسى فى الزنقة السوده دى ‪..‬‬
‫نقلة منيلة مايعلم بها إال ربنا ‪ .‬بينما فى ذيل الشاحنة " توك توك " يزحف خلفها كنملة تتبع فيل يحمل فى‬
‫جوفه " أم ماهر " التى تجلس بشموخ بجوار عبد العاطى كملك وملكة فى جولة تفقدية ألحوال الرعية ‪.‬‬

‫‪337‬‬
‫أنتاب منصور شعور بالخجل وتملكه القهر كالذى يداهم رجال لحظة فشله بأداء مهمته فى ليلة الدخلة ‪،‬‬
‫فشن هجوما حادا على رجولته الفاشلة ‪ :‬السكان كلهم مشيوا من البيت ومافضلش غير البت نوسة وأمها ‪.‬‬
‫رمقه سليم حين ألتقطت أذناه صوته المجروح ‪ :‬ربنا يتوالهم بقى ‪ .‬أنتفض أنتفاضة قزم ‪ :‬أزاى بس ياسليم‬
‫الناس دى بقت فى رقبتى سمعوا كالمى وقاعدين مستنين منى تصريفة ‪ ..‬أسيبهم كده وأقعد أتفرج عليهم‬
‫زى األكتع لغاية ماأمى ترميهم فى الشارع والتهد البيت على دماغهم ‪ .‬مد سليم بوزه وسحب رشفة عنيفة‬
‫من كوب الشاى حتى أنكشف قاعها كشفاط البرك ‪ :‬ماهو أنت اللى بتدلع العاجبك نعيم وال مرتاح لكالمه ‪..‬‬
‫طب عايز أيه بقى ؟! جفت مالمحه وأظلمت أفكاره دفعة واحدة ‪ :‬أنا مابقتش عارف عايز أيه‪ ..‬كنت‬
‫فاكر أنى حأقدر أنفذ اللى فى دماغى ببساطة كده ومن غير وجع قلب ‪ .‬نزل بوجهه بين كفيه المفتوحين‬
‫وأردف ‪ :‬لقيت الحكاية صعبة أوى ومش حابة سكة معايا ‪ .‬دس األخير نظرة من عينه الغائمة فوق رأس‬
‫صاحبه المدفونة فى كفيه ‪ :‬مش فاهمك ياصاحبى ‪ .‬فتح يديه وسحب رأسه ببطء يرفعها‪ :‬أنت بالذات‬
‫مش حتفهم ‪ ..‬ياريت تقوم تتكل على اللـه وسيبنى مع نفسى شوية ‪ .‬قام يحجل بقدمه بعدما أزاح الشيشة‬
‫مصدرا غضبة مكتومة ‪ :‬براحتك ‪ .‬رجع برأسه ثانية يتابع ظهر صديقه المقوس تتالشى من المكان‬
‫مرددا ‪ :‬روح ياأخى داهية تحرقك ‪ .‬أستشعر سخونة فى وجهه حين بدأت المشاعر المتضاربة تالحقه ‪،‬‬
‫تحولت كل ضغينة وجفوة الى شعور عارم بالخجل ‪ ،‬تحاصره مواقف وذكريات طفت فجأة لسطح ذاكرته‬
‫فأستقبلها ساهما كالتيس تعلو شفتيه رعشة حين قال ‪ :‬أفرجها يارب ! ‪.‬‬

‫فى طريقه للبيت سار عبده عبر حوارى معلومة كرر السير فيها كما يفعل الحمار ‪ .‬مشى بطاقة متدنية ‪،‬‬
‫محبطا مهموما ‪ ،‬األمور تزداد تعقيدا وبأسا ‪ ..‬أولج مفتاحه ودخل الشقة ‪ ،‬تلقت أذنيه قبل عينيه صوت‬
‫فايزة التى أفترشت الكنبة ‪ ،‬لم تسعفه فراسته على تبين تفاصيل المكالمة التى تجريها ‪ .‬دارى صدمته حين‬
‫رآها ‪ ..‬بأبتسامة مترددة أقترب منها يستعيذ فى سره من الشيطان الرجيم ‪ .‬رفعت عينيها تتجول فى وجهه‬
‫بمالمح تعج باألرف ‪ .‬أختصرت زمن المكالمة حين جاورها على الكنبة ‪ :‬مش حينفع دلوقتى يامتر بكرة‬
‫حأعدى عليك أنا والنونو ‪ .‬وضعت الموبايل فى حجرها وقطبت جبينها حين ألتفت إليه ‪ :‬خير ياسبع أيه‬
‫اللى جابك بدرى ‪ .‬دعك جبهته ‪ :‬تعبان ومصدع ماقدرتش أكمل سيبت منصور وجيت ‪ .‬أستقبلت وعكته‬
‫بأبتسامة ‪ :‬يامسهل يارب ‪.‬‬

‫ــ ياوليه حرام عليكى أنتى البترحمى والبتسيبى رحمة ربنا ‪ .‬تراجع لحم خديها ‪ :‬بسم اللـه ماشاء اللـه ده‬
‫أنت دلوقتى بتعرف ربنا ورحمته‪.‬‬

‫‪338‬‬
‫ــ هو أنتى ياستى شفتى منى حاجة وحشة من يوم ماطلعتى من السجن ماأنا فى حالى وسايبك براحتك‬
‫والبأقولك وال بأسألك أنتى بتسوى أيه وال بتعملى أيه ‪ .‬ترجرج جسدها على أثر ضحكة أطلقتها فىوجهه ‪:‬‬
‫معلش سامحنى نسيت أقدملك تقرير على اللى بأعمله لكن أن شاء اللـه من بكرة حأبقى أخد األذن منك ‪.‬‬
‫كانت تمضغ الكلمات قبل أن تنطقها ‪ " .‬مافيش فايدة " جملة كانت تتردد داخله وهى تالحقه بنظراتها ‪ .‬هى‬
‫بالنسبة له مثل الصقر ‪ ،‬مهما حلق بعيدا عن غريمه ‪ ،‬فهو مداهمه المحالة وماعليها سوى أنتظاراللحظة ‪.‬‬
‫عثر على نبرة تليق بصداعه ‪ ،‬خافتة واهنة ‪ :‬أنا ياستى العايز تقارير والطالب منك حاجة كل غرضى يابت‬
‫الناس أنى أنا والوله أبنك نكون سندك فى الدنيا أحنا ناسك وأهلك وأولى بيكى من الغريب يافايزة والصح‬
‫بيقول أننا نبقى معاكى وواقفين جنبك ومصلحتك هى مصلحتنا ‪ .‬رفعت رجليها وتربعت على الكنبة وشبكت‬
‫أصابعها حول بطنها ‪ :‬بأمارة أيه ياسيد المعلمين ‪.‬‬

‫ــ من غير أمارات أنا جوزك وهو أبنك الوحيد وال أنتى فاكرة محمود المحامى والنونو وخضر وشوية‬
‫المقاطيع اللى حواليكى همة ناسك ورجالتك وأحنا مالناش الزمة ‪..‬ماتأخذنيش بقى فى دى حتبقى غلطانة‬
‫أوى يافايزة راجعى نفسك وأحنا أولى من الغريب ‪.‬‬

‫أبتسامة مائلة ‪ :‬جديدة األسطوانة دى وع العموم من عينيه األتنين حأراجع نفسى ‪ .‬ثم ضيقت عينيها تبحث‬
‫فى وجهه عن عالمات تكتيكه الجديد ‪ .‬تابعت ‪ :‬وال على أيه من غير مراجعة والوجع قلب من بكرة حأعدى‬
‫على محمود المحامى وأقوله ماعطلكش خالص أنا نويت أخلى جوزى حبيبى راجلى وسندى هو اللى‬
‫حيمسكلى حساباتى كلها ويدير بنفسه تجارتى وشغل المقاوالت الجديد ‪ ..‬ياسالم هو أنا أالقى فى الدنيا‬
‫أمانة زى أمانتك والحد يخاف على فلوسى غير راجلى وبالمرة كمان أقول للنونو وخضر والصبيان خالص‬
‫بح يارجالة جوزى وأبنى همه اللى حيبقوا فى ضهرى ويسندونى ‪ ..‬ده أنت تؤمر ياسيد المعلمين وأنا على‬
‫التنفيذ ‪.‬‬

‫صعدت الدماء إلى رأسه التى ألتهبت ‪ ،‬دخل منطقتها المحرمة بعفوية حين قال بخشونة ‪ :‬أنتى بتتمسخرى‬
‫على يافايزة الهو أنتى فاكرة نفسك أيه بكرة تندمى وتدفعى التمن ونصيحة لوجه اللـه ألحقى نفسك وفوقى‬
‫وماتتغريش الدنيا غدارة والزمن خاين واأليام دول ‪ .‬صرخت فيه صرخة قفزت به حتى كاد ينكفىء ‪:‬‬
‫أيه ‪ ..‬أسمع ياراجل ياناقص ‪ .‬تسمرت مالمحه وتسمرت معه ‪ :‬مش أنا اللى محتاجة أفوق أنا عارفه‬
‫كويس بأعمل أيه وفاهمة بأحط رجلى فين قبل كل خطوة وفر ياخويا كالمك وبص لنفسك ياموكوس ياعرة‬
‫يافصيلة التعالب أنصح نفسك بدل ماأنت عايش على أفايا وبتمص فى دمى ‪ .‬أنتفض واقفا يغالب ضيقا فى‬
‫‪339‬‬
‫التنفس ‪ :‬أنا مش عايش على أفا حد أنا شقيان ليل ونهار وقاعد مقطوع فى القهوة راضى بقليله حد غيرى‬
‫كان سابهالك مخروبة على دماغك ‪ ..‬بس ده مش طبعى ‪ .‬أنتزعته من مكانه بأظافرها المسنونة تدفعه‬
‫أمامها ‪ :‬حرقة لماتحرقك يابعيد قهوتى هى اللى عملتلك قيمة وسعر وسط الناس ومش فايزة عبد المقصود‬
‫اللى تتهدد ياروح أمك ‪ ،‬لو عندك دم ورجولة روح غور فى داهية بعيد عنى يابارد وأبعد عن قهوتى اللى‬
‫أنت عمال تشفط منها ياحرامى ياعديم األمانة ‪ .‬تتعثر خطاه وهى تتبعه كمدرعة حربية تدفعه بيديها وهو‬
‫يحاول الصمود ‪ :‬ياست كفاية حرام عليكى أنا تعبان سيبينى أدخل أنام ‪ .‬ظل يمضى بقوة الدفع ‪ ،‬حاول‬
‫مرات أن يتوقف ناحيتها ويلتفت اليها ليعلن أعتذاره وتوبته ‪ ..‬خارت قواه تاركا النمرة المفترسة خلفه‬
‫تشيع ماشاءت لها ثورة السباب واللعنات واطار من الضوء المنسكب الذى فتح له على مصراعيه ‪ :‬ياله‬
‫أتكل على اللـه أطلع بره شوفلك حته تانية أتخمد فيها ‪ .‬لكنه ظل ـ مع هذا ـ يردد ‪ :‬ياوليه أنتى فهمتينى غلط‬
‫مش قصدى يافايزة ‪ .‬تدفعه وهو يمضى كالعجل المربوط حتى شيعته بكف على ظهره ‪ .‬أحتوى السلم بدنه‬
‫المندفع قبل أن تصم أذنيه صوت أرتطام الباب الذى أوصدته خلفه ‪ .‬تفور فى صدرها أنفعاالت ثورة لم تهدأ‬
‫بعد ‪ ،‬تحدث نفسها وهى تدك أرض الصالة بخطواتها وأصابع قدميها المطلة من فتحة الشبشب تشى عن‬
‫عصبية التزال مختزنة فى أطرافها ‪ :‬فاكرنى كرودية جاى يسمعنى أسطوانة عشان ينيمنى ويلهف كل‬
‫حاجة ‪ .‬حملت أنفعاالتها واتجهت بها لغرفتها ‪ .‬جلست على سريرها صامتة ‪ ..‬واجمة ومتأثرة ‪ .‬أدمعت‬
‫عينيها فجأة بال مقدمات على غير العادة ثم تمددت لساعة كاملة دون حراك وكأنها مجمدة ‪ ،‬جافاها النوم ‪..‬‬
‫راقبت فراغ الغرفة بنصف عين ‪ ،‬تصحو فى داخلها دعوة لم تتبينها ‪ .‬وسرعان ماسحبها النوم إلى أعماقه‬
‫التى تزاحمت بتداعيات من الماضى والحاضر ‪ ،‬صنع تشابكها كابوسا ظهرت عالماته على مالمحها‬
‫المفزوعة وهى نائمة ‪.‬‬

‫الفصل الحادى عشر‬

‫كانت تنتظره داخل الجامعة أمام مبنى الشئون األدارية وسط مشهد مروع من الطلبة ‪ ،‬تراجعت بسمة‬
‫للوراء تسحب نفسها من بين سياج األجساد المحيط بها حين خرج عليهم أحد الموظفين بوجه لم يضخ فيه‬
‫دم السماحة والبشاشة قطرة واحدة ‪ :‬ياريت تبعدوا شوية عن المكتب مافيش حد حيدخل غير لما زمايلكم‬
‫اللى جوه يطلعوا ‪.‬‬

‫ــ أحنا بقالنا ساعة واقفين وماحدش بيطلع من جوه ‪ .‬كان ذلك واحد من شباب مصر المتحمسين ‪ .‬شب‬
‫الموظف على أطراف أصابعة يستطلع مكان الصوت ‪ :‬أقف ساكت يابنى ‪ ..‬حرام عليكو أحنا بشر ولنا طاقة‬
‫‪340‬‬
‫مش الزم يعنى كله يستلم شهادته النهاردة ‪ ،‬على خيبة أيه فاكرين الشغل فى البلد مقطع بعضه ومستنى‬
‫حضراتكم ؟! كعادة كل خريج يمسك شهادته ويرى فى نفسه أمال ربما يبزغ يوما ‪ .‬فى تلك اللحظة خرج‬
‫عليها أمجد رافعا شهادته بيمناه تفاديا لتلفها أو ينالها مكروه السمح اللـه من فرط الزحام القادر بسهولة‬
‫على فرمها وفرمه ‪ .‬كان صوته معبئا ومشحونا حين قنصها بنظرته تقف خلف دائرة الزحام تترقب ‪:‬‬
‫بسمة ‪ ..‬يابسمة ‪ .‬كانت خطوته أسرع من صوته حين أنزرع أمامها بفرحته ‪ :‬خالص يابسمة أخيرا‬
‫شهادتى فى أيدى آهيه خريج جامعة أد الدنيا ‪.‬‬

‫ــ مبروك ياأمجد ‪ ..‬ألف مبروك ‪ ،‬أنتو السابقون ونحن الالحقون ‪ .‬أنسلتا من مولد الطلبة ‪ ..‬سارت إلى‬
‫جواره تميل برأسها فيميل شعرها تتفحص مالمحه ‪ ،‬كان يبدو أنسانا جديدا ‪ ،‬اليكف عن الحركة والضحك ‪.‬‬

‫ــ أخيرا أتخرجت ياأمجد ‪ .‬ألتفت إليها وقد صغرت أبتسامته ‪ :‬الحمد للـه من النهاردة المهنة حتتغير فى‬
‫البطاقة من طالب لعاطل ‪ ،‬خالص أسمى حيتحط رسمى فى كشوف العواطليه ‪ .‬وألن أحساسها كان قويا بأن‬
‫وراء فرحته جدارا هشا يخفى يأسا ومرارة ‪ ،‬فقد تعاملت معه بحذر كى اليتطرق الى أحالمه المستحيلة‬
‫وتفريعاتها ‪ :‬الصبر ياأمجد ده أنت لسه بتقول ياهادى ‪ .‬قالت حكمتها وسارت صامتة ‪ ،‬عزفت عن الكالم‬
‫عزوف فأر عن قط شرس ‪ .‬غلبته الفرحة ثانية وتخلص من أحباطه فجأة ‪ :‬أنا ناوى أفسحك النهاردة‬
‫فسحة على البحر حأخليكى بعدها تروحى بيتكم مش قادرة تدوسى على األرض ‪ ..‬حأمشيكى مشى ‪ .‬تبادال‬
‫أخبارا عادية ثم قفز بها إلى أمنياته القديمة التى يختزنها فى صدره ‪ :‬مش حتنوريلى بقى األشارة الخضرا‬
‫عشان أدخل ع الخطوة الجاية ‪.‬‬

‫ــ يابنى أنا قلتلك خلينا عايشين سننا من غير تعقيدات والكالم كبير وكفاية على أنى بحبك ‪.‬‬

‫ــ يابنتى يابسمة فى حكمة كان دايما جدى اللـه يرحمه يقولها ‪ ..‬مافيش حاجة أسمها حب البنت زى‬
‫الرصاصة تخرج من بطن أمها عشان تدخل بيت جوزها ‪ .‬فهمت مايعنيه وماينتظره منها ‪ ،‬إال أنها فى‬
‫الساعات األخيرة من ليلة أمس كانت الفكرة قد أستقرت فى رأسها حين قررت مكافحة آفة التردد والخوف‬
‫وأتخذت قرارا جريئا بمصارحة أمجد بحقيقة أمها ‪ .‬كان قرارا مفاجئا ساهم فى الوصول إليه ماأصاب‬
‫يوسف من مأساة فرفعت مجبرة شعار " بيدى البيدى عمرو " لم تفلح مخاوفها أن تثنيها ‪ ،‬سحقت عناد‬
‫عقلها ‪ ..‬النت مكرهة على أن يكون اليوم هو نزول كلمة " النهاية " على فيلم " الكدبة الكبرى " ‪ .‬أختارت‬
‫بعد تفكير يوم تخرجه لعلى فرحته تمتص فجاجة الحقيقة ‪ ..‬هى تعلم بأنها ستكون لحظة فارقة بالنسبة‬
‫لها ‪ .‬أما بداية جديدة أو نهاية متوقعة ‪ .‬سارا بأتجاه بوابة الجامعة ‪..‬إال أنها تباطأت فى خطوتها‬
‫‪341‬‬
‫فأستدارإليها ‪ :‬مالك يابسمة أنتى تعبانه وال أيه ؟ قالها وأنتظر ليتأمل وجهها ‪ ..‬كرمش عينيه دهشة حين‬
‫رأى جفنيها برتعشان ويرمشان كالذى ينظر لقرص الشمس فى عز الضهر ‪.‬‬

‫ــ فى حاجة مهمة عايزة أقولهالك والزم تسمعها منى ‪.‬‬

‫ــ عارفها بتحبينى أوى أوى أكتر من األول ‪ ..‬قديمة قولى غيرها ‪.‬‬

‫ــ أمبارح طول الليل وأنا قاعدة أفكر فى اللى حأقوله النهاردة ‪ ..‬بصراحة كنت مترددة وخايفة لكن بعد‬
‫تفكير طويل قلت لنفسى مابدهاش وقررت أنى أصارحك بكل حاجة‪ .‬نمت قرون األستشعار عنده ‪ ،‬وأصبح‬
‫أكثر أنصاتا وتحفزا ‪ :‬أنا أول مرة أشوفك متوترة كده ‪ ..‬قولى فى أيه ؟‪ .‬ناولته نظرة طويله رشقتها‬
‫صريحة فى عينيه فتحيره وتقلقه‪ :‬ماما ماكانتش فى الخليج وعمرها أصال ماسافرت ‪ .‬تجمدت حدقتيه فى‬
‫عينيه كالمتوفى ‪ .‬عالمات أستفهام وتعجب بطعم الريبة هما أول مابدر منه ‪ :‬مش فاهم ؟ أدلت رأسها‬
‫لألرض ‪ :‬من عشرسنين تقريبا كانت الظروف كلها متلخبطة وحطت ماما غصب عنها فى وضع مش‬
‫عارفة لو أى حد تانى فى مكانها كان حيعمل نفس اللى هى عملته وال أل ؟ ‪ .‬تهدلت شفته السفلى بأنتظار‬
‫جملة صاعقة على وشك أن تفجرها فى وجهه ‪ .‬تابعت ‪ :‬بأختصار ياأمجد أمى قضت عشر سنين من‬
‫عمرها فى الــ ‪ ..‬سكتت ‪ .‬زاد وجوما ‪ :‬فين ؟ ‪.‬‬

‫ــ فى السجن ‪ .‬أرتفع فيه كل شيىء وأنخفض عشرات المرات ‪ ،‬قلبه وصدره وأنفاسه ثم صوته ‪ :‬السجن ‪..‬‬
‫أزاى يعنى ‪ .‬نطقها تائها ‪ .‬صارت كمتهم ضاق الخناق عليه فأنهار معترفا ‪ :‬شريك بابا سرق كل اللى حيلتنا‬
‫وأتهرب مننا ورفض يدينا حقنا وماما حاولت معاه كتير بس لألسف كان عديم الضمير واألخالق وفى أخر‬
‫مرة لما ماما راحت له عشان تطالبه بحقنا أنفعل عليها وحاول يضربها ‪ ..‬دافعت عن نفسها وخبطته بفازة‬
‫جت فى دماغه غصب عنها وقع ميت ‪ .‬بهتت عيناه كأنهما مصنوعتان من ثلج ‪ :‬قتلته ‪ .‬قالها وأظهر‬
‫أبتسامة مهتزة ثم أغلق عينيه يسترجع كلماتها قبل أن يفتحهما بعدما عثر على فهم مقبول ‪ :‬فى حد‬
‫يابسمة لما يهزر يقول عن مامته الكالم األهبل ده ‪.‬‬

‫ــ ده مش هبل وال هزار واللـه دى الحقيقة اللى كنت مخبياهه عنك ‪ .‬هز رأسه وأنتكست نظراته ‪.‬‬

‫لم يكن الكالم الذى يتردد داخله بقادر على أن يتخذ طريقه للسانه ‪ ،‬يقف عند صدره مثل كل هزائمه ‪.‬‬
‫أتسعت عينيه بينما شبكت مرفقيها تحت صدرها تنتظر الحكم ‪.‬‬

‫‪342‬‬
‫ــ أديك ياسيدى عرفت السر الخطير ‪ ..‬أتفضل بقى قول اللى عندك ‪ .‬أستجمع شتاته وهو يتصدى لها فى‬
‫هجمة مزعجة ‪ :‬عايزانى أقول أيه يعنى ؟ ‪.‬‬

‫ــ أى حاجة ‪ ..‬زعالن مصدوم أرفان مش عايز تشوف وشى تانى ‪.‬‬

‫ــ وال حاجة من دول ‪ .‬قالها بمالمح لم ترها فى خريطة وجهه من قبل ‪ .‬كان كالمخدر أو المضروب على‬
‫رأسه ‪ ،‬ثم أدارلها ظهره يستكمل طريقه بأتجاه البوابة ‪ .‬هرولت خلفه وشعرها تهزه األرض على كتفيها ‪:‬‬
‫أستنى ياأمجد أقف ‪ .‬تلهث وراءه كما لو أن سى " السيد عبد الجواد " هو الذى يمشى فتتبعه ‪ .‬نادته ‪:‬‬
‫أستنى ياأمجد ‪ .‬ألتفت لها رغم وهن الصوت ‪ ،‬فنالت منه نظرة كانت خليطا من الغضب واليأس والثورة ‪:‬‬
‫عايزة أيه منى ؟ قالها وأشاح بيده حتى أجتاز بوابة الخروج ‪ ..‬لم يتبين تفاصيل المكان وظل أسير ذاته‬
‫تأكله األسئلة ‪ ..‬يجرى مراجعة قاسية وكشف حساب لقصة حافلة أصبحت األن فى مهب الريح كأحالمه ‪.‬‬
‫وسع من خطوته حين لمح ميكروباص يهدىء من سرعته مقتربا من كومة بشر أمام البوابة ‪ ،‬فغاص‬
‫وسطهم بصدمته وأنحشر مع الصاعدين بينما هى التزال على أسفلت الطريق مع الذين فشلوا فى حسم‬
‫صراع الركوب‪ ،‬تخشبت فى وقفتها أمام الميكروباص ‪ .‬بدت منكمشة وأصبحت شيئا محدودا كأنها نقطة‬
‫باهتة فى ورقة بالية ‪ .‬أنطلق به الميكروباص أمام عينيها ولم ترمنه سوى شعارا مكتوب على خلفيته‬
‫" اللى باعك بيعه ياجميل " وسارت متعمدة المشى البطيىء ‪ ،‬سير التفكير والتأمل كسحلفاه حكيمة ‪..‬‬
‫مشت كمن يمضى إلى طريق ال يعرف الى أين ينتهى ‪ .‬اال أنها مالبثت تقول لنفسها بأبتسامة راضية ‪:‬‬
‫مافيش أحسن من الصراحة واللى يحصل يحصل ‪ .‬فى قلبها هدوء بصراط الحقيقة الذى تمشى عليه‬
‫منجذبة إلى طريقها ومنصهرة فى عالمها ‪ ،‬ولتحدثها كلماتها أنها قضت لحظة صدق مع نفسها ومع أمجد‬
‫كانت مخاضا لصراع دام سنتين ‪ .‬لحظتها هبت ريح محايدة ‪ ،‬الهى باردة والساخنة ‪ .‬أحست بها تالمس‬
‫وجهها ‪ ،‬لم تتطاير خصالت شعرها ‪ ،‬كانت منسدلة صامدة على جبينها وكان الصمود بات هو شعار‬
‫مرحلتها القادمة ‪ .‬شعرت بوجع فى عضالت ساقيها فأشارت لتاكسى ‪ .‬وكما دخلته ساهمة خرجت منه‬
‫واجمة عندما توقف بها بمحاذاة مدخل البيت ‪ ..‬هبطت منه ‪ ..‬كان العصر هو األخر يهبط معها ‪ .‬دخلت‬
‫الشقة منحنية بطيئة ‪ ..‬تفحصت المكان فى أستغراب وكأنها أخطأت الشقة ‪ ..‬الصالة أمامها كجثمان مسجى‬
‫وسط سكون تام وكأنها قاعة للموتى ‪ ،‬تكاد تسمع همس أنفاسها ‪ ،‬تململت خطواتها وسط أجواء كئيبة‬
‫وأبواب موصدة ‪ ..‬مأساة خلف كل باب !‪ ..‬يوسف فى غرفته اليبارحها من لحظة أزمته ‪ ،‬هدى مع وحدتها‬
‫يرافقها شعور بالغربة والمتاهة ‪ ،‬أيات أختارت الماضى أن يكون حاضرها ومستقبلها ‪ .‬مشهد حزين‬

‫‪343‬‬
‫بأمتياز ‪ .‬فتحت باب غرفتها ‪ ..‬أستقبلتها ظلمة باهتة ثم أوصدت الباب خلفها لينضم لمجموعة األبواب‬
‫المغلقة ‪ ..‬تمددت على السرير تنتظر البكاء ‪.‬‬

‫‪000000000000‬‬

‫يومان وثالث ليال مرت على يوسف وهو على نفس الحال من العزلة والوحدة واألرق ‪ ،‬نسى أن له أعضاء‬
‫تتحرك ‪ ..‬اليفعل شيئا ‪ ..‬أى شيىء ‪ ،‬فقط أصبح مجرد رأس مشحون بالذكريات ‪ ..‬صار محدد األقامة وهذا‬
‫قرار أتخذه بمحض أرادته ‪ .‬صحيح أن بعض األمور المعقدة يحلها الزمن وبعض الحقوق تسقط بمضى‬
‫الوقت ‪ ،‬لكن هذه األزمة ـ كما بدت له ـ من نوع خاص ‪ .‬لم يكن قادرا على أستيعاب ماحدث ‪ .‬لكن هذه‬
‫ليست مشكلته وحده ‪ .‬المشكلة صنعتها أمه ‪ ،‬وطلبت منه أن يخرج منها برأى محدد ‪ ..‬هذا الرأى يجب أن‬
‫يكون هو الرأى األخير وال رأى غيره حين ألحت عليه بتساؤلها العظيم ‪.‬‬

‫ــ جاوبنى يايوسف وريحنى أنا ظلمتك ؟ أنا اللى ضيعت أحالمك ؟ فهمنى يابنى ؟ أنا لوحدى اللى مسئولة‬
‫عن مشكلتك مع هدير ‪ ..‬رد على ؟ ‪ .‬كان كالمومياء فى تابوت ‪ ..‬محنط فى مكانه جاف المالمح ‪ .‬أستحثته‪:‬‬
‫خليك صريح مع نفسك ومعايا وأعترف أنك غلط من البداية ‪ .‬تحركت عينيه داخل وجهه المتخشب ناحية‬
‫الوجه الشاحب المتشبث بأمل النجاة ‪ :‬أيوه يايوسف أنت غلط غلطة كبيرة أوى يابنى ‪ ،‬كان الزم تصارحها‬
‫بكل حاجة لما أتأكدت أنها فعال صادقة معاك وبتحبك ‪ ،‬ليه ياحبيبى عايز تشيلنى الذنب الكبير ده لوحدى ‪.‬‬
‫مسحت عينيها ومسحت أنفها وأختارت مدخال أخر لعلها تجد فيه حال يعالج صمته ‪.‬‬

‫ــ تحب أتصل بيها وأكلمها أو حتى أروح لها البيت وأفهمها كل حاجة وأحكيلها ظروفى بكل صراحة ويمكن‬
‫كالمى معاها يقنعها ويخليها تراجع نفسها وعشان خاطرك كمان حأقولها أنى أنا اللى طلبت منك‬
‫ماتصارحهاش بحكايتى وحأقنعها أن دى غلطتى وأنا متأكدة أنها حتفهم وحتقدر و‪ ..‬دبت الحياة فجأة فى‬
‫الجسد الميت وصرخ بصوته كالذى قام من نومه مفزوعا من كابوس يالحقه ‪.‬‬

‫ــ كفاية ياماما ‪ ..‬مش عايز أسمع حاجة عن الموضوع ده خالص ‪ ،‬أنا خالص نسيته وشيلته من دماغى‬
‫وعشان خاطرى ماتفتحيش الموضوع ده تانى ‪ ..‬لو سمحتى ‪.‬‬

‫لم يبق له غير عيون مجهدة ‪ ..‬الغرفة أمامه مخنوقة ‪ .‬التنفرج أبدا وكأنها فتحة كهف منحوت فى جبل ‪..‬‬
‫مجرد مكان مهجور خال من األحياء ‪ ..‬أقرب شيىء الى نظره يمكن أن يراه ‪ ،‬وجهه الشاحب فى المرآه ‪.‬‬

‫‪344‬‬
‫لم تنس هدى أن توقظه كما أوصاها فى الليلة الماضية بعد أن رضخ مكرها لوجهة النظر القائلة ‪ :‬شغلك‬
‫فى مكتب المهند س ناجى مالوش دعوة بمشكلتك مع هدير ‪ ..‬شق طريقك وأثبت وجودك وخلى الدنيا كلها‬
‫تعرف أنك جدير بوظيفتك فى المكتب ‪ ..‬الرجولة يايوسف أنك ماتنكسرش قدام أول صدمة خليك‬
‫أد المسئولية ‪ .‬كانت نصيحة فى شكل بيان وقع عليها الجميع تأييدا ومناشدة ‪.‬‬

‫فتح عينيه ‪ .‬على أنه ماكان ينهض حتى جلس ثانية خائر القوى ‪ .‬كأن يشعر بأنه اليتحكم فى أعضائه ‪ ،‬قام‬
‫من جديد وشيئا فشيئا تحامل على نفسه وفرد طوله ‪ .‬فتح النافذة ألول مرة منذ ثالثة أيام وهو يغمض‬
‫عينيه ويفتتحهما فى ضوء النهار القوى الذى كشف عن هاالت سوداء تحت عينيه ‪ .‬تبع هذا حالة من‬
‫التأمل الصامت ‪ .‬لم يكن يرى شيئا فى الخارج ‪ .‬أقترب بحذر من المرآةثم مالبث أن أبتعد عنها سريعا ‪.‬‬
‫الجدوى من الهرب ‪ ،‬فقد كانت صورة هدير وأمها وأبيها بداخله تنعكس مع صورته فى المرأه ‪ ،‬ولو أنه‬
‫أستطاع أن يحطم نفسه الى ألف قطعة ألحتفظت كل قطعة منها بصورة كاملة ‪.‬‬

‫اليمكن أن تمسح المحنة العقل ‪ ،‬فيبدو بريئا كالطفل أو أبيض كالحليب ‪ ،‬اليمكن !! ‪.‬‬

‫بدأ يرتدى مالبسه ‪ ،‬بنطلون وقميص بعدما أجرى عملية مونتاج سريعة حذف ذقنه وهذب سوالفه محاوال‬
‫األيحاء بتحسن حالته ‪ .‬دخلت أمه غرفته تتصنع أبتسامة مشجعة ‪ :‬صباح الخير يايوسف ‪ ..‬شايف وشك‬
‫بقى منور أزاى لما حلقت دقنك ‪ .‬تحاشى أن ينظر إليها ‪ ،‬ولم يرد عليها ‪ ،‬بدا وكأنه مستغرق فى األستعداد‬
‫للخروج ثم أدار لها ظهره خارجا من محبسه وكأنما يفر من البيت فى حين بقيت هى فى مكانها كتمثال من‬
‫الخشب ‪ .‬بدالها وكأنه خرج إلى غير رجعة ‪.‬‬

‫مرمن الصالة بسرعة ‪ ..‬فتح باب الشقة وهبط درجات السلم كأنسان آلى يتحسس بقدميه درجة درجة‬
‫يسمع نبض عروقه النافرة التى أختلطت مع صوت طقطقة الفقرات ومفاصل الركبة ‪ .‬تخطى المدخل‬
‫مرتجفا ‪ ..‬بعد خمس دقائق من وقفته المتشنجة أفرغ نظرته فى تاكسى " الدا" قادم يتهادى ‪ ،‬أشار له‬
‫فأنصاع ألشارته ‪ .‬فتح الباب ‪ ..‬بدا ناقص الوزن وهو يطوى نفسه داخله ‪ .‬كان فاقدا للنطق ولم ينبس‬
‫بكلمة طول الطريق ‪ .‬شرد فى المارة وفى أنعكاس ظالل البيوت على األسفلت الباهت ‪ ،‬حاول " السائق "‬
‫أستدراجه لحديث لكنه لم يجد تجاوبا ‪ .‬أنقضت ربع ساعة قبل أن تظهر بشاير العمارة بأدوارها العليا ‪:‬‬
‫لحظات ونزل ثم أتخذ طريقه الى المدخل صاعدا سبع درجات رفعته حتى باب األسانسير ليجد عم "جودة"‬
‫البواب واقفا بجوار بابه ففتحه حين أقترب يوسف ‪ :‬عاش من شافك ياباشمهندس ‪.‬‬

‫‪345‬‬
‫ــ مشاغل ياعم جودة ‪ .‬دخل األسانسير الذى حمله للطابق الثانى ‪..‬تباطأت خطوته ‪ ،‬قدم رجال وتلكأ بالثانية‬
‫وقف على مدخل المكتب كالواقف أمام ضريح ثابت فى مكانه يتلقى دفعات من الهواء البارد المنبعث من‬
‫الداخل حيث التكييف يعمل بنشاط ‪ .‬أهتز فيه كل شيىء حين وطأت قدمه أول بالطة داخل المكتب يغالب‬
‫شعورا بالوحدة واحساسا بالضعف بأنه أصبح بال سند ودون دعم ‪ .‬أال أنه أبدى رغبة فى المقاومة فأظهر‬
‫أبتسامة متماسكة رسمها حين مر بمكتب المهندسة " أيمان " ‪ :‬صباح الخير ياباشمهندسة ‪.‬‬

‫ــ حمد للـه على السالمة نورت المكتب يايوسف ‪ ..‬أنت من النهاردة بقيت مهندس رسمى فى المكتب‪..‬‬
‫أستعد بقى يابطل ‪ ..‬شغل التدريب خالص أنتهى وحندخل فى الجد ‪ ..‬أدخل مكتبك وظبط نفسك وأخر النهار‬
‫حأقعد معاك عشان نحدد طريقة الشغل حتبقى أزاى ‪ .‬تلقى كلماتها بنفسية راضية ثم أتجه للداخل ناحية‬
‫مكتبه ‪ ..‬فتح الباب ‪ .‬مفاجأة مذهلة كانت تنتظره ‪ ..‬هدير تجلس خلف مكتبها ‪ ..‬ولما رأها ‪ ،‬هيستريا هائلة‬
‫عصفت برأسه فألهبت وجهه بحمرة ‪ .‬أنقطع حبله الصوتى للحظات وهربت نبراته ‪ ..‬دخل مهتزا ‪ ،‬رأى‬
‫دموعا شفافة ووجه أحمر خالى من المكياج وشعر مشدود للخلف ‪ .‬كان باديا أن عيناها خاصمت النوم ‪.‬‬
‫ردد كلمات مبتسرة تكسرت مخارجها حين أقترب من مكتبه المواجــه لمكتبــها ‪ .‬لم يعرف ماذا يقــول‬
‫سوى ‪ :‬صباح الخير ‪ .‬عيناها متحجرتان يؤلمان منظره ‪ :‬صباح الخير ‪.‬‬

‫جاهد أن يستجمع شتات ذهنه وأرتباكه ‪ ،‬جلس فى هدوء على كرسيه ‪ .‬مرت لحظة ‪ .‬مر دهر ‪ .‬لم ترتفع‬
‫يده لتمسك باألوراق ولم تبدأ أصابعه المرتجفة فى التسلل ألدواته بينما هى تتابع حركاته ‪ .‬ثم لم يلبث أن‬
‫دس يده فى جيب قميصه وأخرج تليفونه المحمول ‪ ،‬راح يقلبه بين أصابعه فترة ‪ .‬راحت تقلده وهى تقلب‬
‫عينيها وأصابعها بمحتويات المكتب ‪ ،‬حتى لم تعد تحتمل ‪ .‬خرج صوتها من أعماق أنهيار كامل ‪ .‬اذا كان‬
‫ألعماق األنهيار صوت ‪ :‬الباشمهندسة أيمان أتفقت معاك على حاجة ؟ أستمر بالعبث فى موبايله وكأن‬
‫صوتها لم يصله ‪ .‬كانت تعرف طباعه ‪ ،‬خاصة كبرياءه وعزة نفسه ‪ ..‬تفهمت دوافعه وقدرت حقه فى‬
‫تجاهلها ‪ .‬حاولت ثانية ‪ :‬تقريبا المهندسة أيمان حتخليك تمضى على عقد التعيين وحتحدد لك مرتب‬
‫وحوافز‪ .‬لم يبد تجاوبا ولو بسيطا ‪ .‬بقيت على حالها فى مواجهة صنم أدمى تنتظر أن تدب فيه الروح ‪.‬‬
‫تعالت نبرتها نسبيا ‪ :‬بقالك تالت تيام ماجيتش المكتب ‪.‬‬

‫ــ كنت مسافر ‪ .‬قالها بنبرة قاسية متحاشيا النظر اليها ‪ .‬أكاذيبه دائما تعريها عينيه ‪.‬‬

‫‪346‬‬
‫ــ ع العموم حمد للـه على السالمة ‪ .‬سبقت جملتها أبتسامه ضعيفة ‪ .‬جلسا صامتين مثل جزيرتين منعزلتين‬
‫تفصلهما سجادة " موف" بين المكتبين ‪ ،‬أمتد الصمت بينهما كأنه رفيق ثالث بينما ظلت هى داخل حالة‬
‫التأمل الذى بدأ يتحول الى شرود وأسترجاع مع مضى الوقت ‪.‬‬

‫ــ أوعى يابنتى تضعفى قدامه أو تخليه يضحك عليكى وأياك تديله فرصة يبرمجلك دماغك مرة تانية ‪،‬‬
‫كالمى ده مش سببه أنه طلع كداب وغشاش ‪ ،‬أل ده عشان سبب أكبر يخصك ويخص مستقبلك ومستقبل‬
‫أبوكى وسمعته وأوعى حد يقنعك ويدخل فى دماغك أن الدنيا دلوقتى أتغيرت وماعدتش زى زمان ومافيش‬
‫حد بياخد باله من حاجة وأننا بقينا فى زمن غير الزمن ‪ ..‬أل يابنتى كل ده عبط وكدب والناس هيه الناس‬
‫والزمن هو الزمن والدليل على كده أن لما حد بيشوفك فى مكان ويكون عارفك بيشاور عليكى وأول حاجة‬
‫بيقولها دى بنت أكبر مقاول فى أسكندرية وهمه برضه نفس الناس اللى حيشاوروا عليكى بعد كده‬
‫وحيقولوا بنت أكبر مقاول أرتبطت براجل أمه كانت فى السجن وساعتها حتبدأ األسئلة هيه دخلت السجن‬
‫ليه ؟ عشان حادثة عربية وال مخالفة مرور ‪ ..‬الصدمة يابنتى حتبقى كبيرة أوى لما يعرفوا أنها كانت‬
‫مجرمة وقاتلة ؟!‪ .‬هذا هو أبوها ‪ ..‬هى تعرف تماما هذه المقدمة التى أراد أن يدخل من خاللها إلى قلبها‬
‫قبل عقلها ‪ ،‬واليبقى بعدها سوى أقناعها ‪ ،‬رسالته كانت تحملها كجنين فى أحشاءها ‪ ،‬كما حملت معه‬
‫سؤاال كبيرا يفرض نفسه على المشهد ‪ .‬هل الجنين سيتغذى على عصارة الواقع وحساباته حتى يكتمل‬
‫بنيانه ويصير كائن مصنوع بال روح يكبرويكبر حتى يسد مابينها وبينه ‪ ،‬أم أن حبها المشروع سيكمل‬
‫دورته الطبيعية المعتادة كافرا بشرعية الواقع وحساباته ؟!‪ .‬أستمرت عيناها تتمليانه ‪ ..‬وللمفاجأة ظلت‬
‫عيناه تنظر فى وجهها مباشرة ‪ .‬لم تخجل أو تخفض نظرها ‪ ،‬أحس أن نظراته قد طالت ‪ ،‬لكنه أصر إال‬
‫يخفض بصره إال بعدها ‪ .‬لكنها لم تفعل ‪ .‬وطالت النظرة ‪ ،‬حتى أمتثل وأدار بصره عنها ‪ .‬تسللت يدها‬
‫وقبضت على القلم وهو يتأمل مالمحها وهى ترسم خطوطا على الورق ‪ ،‬حاول أن يبحث فى عينيها عما‬
‫تفكر فيه ‪ ..‬أى شيىء فى رأسها ؟‪ . .‬أنفها الصغير ينبض كالهمس مع حركة أنفاسها ‪ ،‬كانت تركز على‬
‫أعصابها فى يدها ‪ .‬بعثت اليه فقط بنظرة وشبح أبتسامة ‪ ..‬هى التملك أكثر من هذا وهو غير قادر على أن‬
‫يفهم شيئا ‪ .‬أضطرت هى لآلنتقال الى درجة أخرى أكثر مواجهة محاولة أن تثقب جدار الصمت ‪ :‬أنا مش‬
‫عارفة أنت ساكت ليه وشكلك مش طبيعى ‪ ..‬هو مين فينا اللى المفروض يبقى زعالن أنا وال أنت ‪ ..‬مين‬
‫السبب فى كل اللى حصل ده ومين اللى عقد األمور وضيع كل حاجة ‪ ..‬أنساب الكالم منها مؤلما ‪ ..‬فضفضة‬
‫أو عتاب أو تبرير ! ‪.‬‬

‫‪347‬‬
‫ــ كده بالبساطة دى أنا اللى عقدت األمور وضيعت كل حاجة وال أنتى وأهلك اللى أصال معقدين ومغمضين‬
‫عينيكم وسدين ودانكم ومش عايزين تشوفوا وال تسمعوا غيراللى على مزاجكم وبس وأولهم أنتى بالذات‬
‫ماصدقتى ولقيتى حجة خايبة وأتعلقتى فيها وعومتى على عومهم مع أن كان فى أيدك تسألينى وتواجهينى‬
‫لما حسيتى أنى مخبى عنك حاجة وكان سهل أوى تعملى كده ده طبعا لو أنتى فعال بتحبينى وكنت ساعتها‬
‫حأعذرك وحأتحملك لوزعلتى منى أو حتى بعدتى عنى أو عملتى أى حاجة كنت حأقبلها منك وكان حيبقى‬
‫معاكى كل الحق بس بعدما تواجهينى وتسمعينى وتعاتبينى زى ماكنا دايما بنتعاتب ونتحاسب ‪ ..‬أشمعنى‬
‫المرة دى ‪ ..‬ليه أشتكيتى ألهلك قبل ماتسألينى وتدينى فرصة أدافع عن نفسى ‪ ..‬ليه عملتى كده ؟ قال‬
‫جملته األخيرة ثم دق المكتب بقبضته فأنتفضت ‪ ..‬تابع بنبرة متحشرجة ‪ :‬ولما قلتلهم وأكتشفوا السر‬
‫الخطير وعرفتوا حقيقة ماما ليه ماكلمتنيش فى التليفون ونهيتى كل حاجة ‪ ..‬جملة واحده كنتى حتقوليها‬
‫ومش حتاخد من وقت حضرتك نص دقيقة أبعد عنى أنت بنى أدم كداب وغشاش ‪ ..‬قولى كل اللى فى نفسك‬
‫وكنت ساعتها حأعذرك وحأنسحب بهدوء ‪ ..‬لكن دلوقتى وبعد ماقتلتى القتيل عايزه تعيشى دور‬
‫المظلومة‪ ..‬ماعدش ينفع ألعبى غيرها ‪ .‬بقيت مسمرة فى مكانها تعيش كابوس اللحظة بدت غارقة فى‬
‫بحار من الهواجس وأفكارها مشتغلة بالعثور على طريقة ما ألنقاذ نفسها من هذا الشرك ‪.‬‬

‫ــ قبل ماتحاسبنى وتهاجمنى ياريت تحاسب نفسك األول أنا لغاية دلوقتى مصدومة فيك ومش مصدقة أنك‬
‫كدبت على كل السنين اللى فاتت دى وماحاولتش ولو لمرة واحدة تقف مع نفسك وتقول كفايه كدب لحد كده‬
‫‪ ..‬ماجاش فى دماغك أبدا أن حييجى وقت والكدبه حتنكشف ‪ ،‬أنا مش قادرة أفهم أنت كنت بتفكر أزاى‬
‫لدرجة أنى مابقتش عارفة أنت كنت عايز منى أيه بالظبط وال كنت ناوى على أيه ‪ ..‬أكيد كنت عايز تكمل‬
‫الكدبة لغاية األخر ‪ ..‬لغاية ماتتجوزنى وتحطنى أنا وأهلى أدام األمر الواقع ‪ ..‬هو ده اللى أنت كنت عايزه ‪.‬‬
‫طرحت تحليلها وتوقفت عن الكالم ‪ ،‬فلم يتبين أن كانت قد أستراحت أم أفرغت مالديها ‪ ،‬لكنه أحس أن‬
‫قرارها نهائى وكالم والدها المقتضب الذى وجهه له فى زيارته األخيرة لم يكن سوى القرار الحاسم ‪ .‬قام‬
‫من كرسيه يضغط أضراسه ‪ ،‬غير أنه حين تأهب لها ‪ ،‬تقلص وجهها رهبة ‪ ،‬كسى الفزع مالمحها حتى‬
‫سرى فى أطرافها المشدودة تحت المكتب ‪ ..‬أقترب منها متحامال على نفسه ليقف أمامها كثائر يرمقها‬
‫بنظرة تكاد تقتلها ‪.‬‬

‫ــ من يوم ماعرفتك عمرى مافكرت لحظة أنى ممكن أجرحك أو أضايقك والكانت نيتى أبدا وحشة من‬
‫ناحيتك والكنت طمعان فيكى والعايز منك حاجة أصال والحمد للـه دلوقتى كل واحد فينا ظهر على حقيقته ‪..‬‬

‫‪348‬‬
‫أنا غشاش وكداب زى ماأنتى وأهلك حكمتو على ‪ ،‬لكن كمان أنتى وأهلك طلعتوا ماعندكمش ضمير‬
‫وال أخالق والبتعرفوا تقدروا ظروف الناس والتعذروهم !‪ .‬راقبته وكأنها تراقب وجه شخص آخر ‪ ،‬عينان‬
‫ناريتان تطالن من وجه محتقن ‪ .‬قامت من مكانها ‪ ..‬أمسكت بذراعه وبعبارات تتوتر باألنفعال ‪ :‬الزم نتكلم‬
‫يايوسف ‪.‬‬

‫ــ هو لسه فى كالم ماخالص كل حاجة أتقالت وماعدش فى كالم تانى يتقال ونصيحتى لكى عيب أوى واحدة‬
‫زيك وبنت مقاول كبير تعرف واحد زى حاالتى أمه سوابق ربة سجون ‪ .‬واجهته بعينين وكأنما هى حبلى‬
‫بدموع البراكين ‪.‬‬

‫ــ هو مين فينا الظالم ومين المظلوم ‪.‬‬

‫أنت خلتنى فقدت الثقة فى كل حاجة حتى فى نفسى وفى اللى حواليه‪.‬‬

‫ــ أنتى اللى كسرتينى وجرحتينى ودبحتينى بسكينة باردة ‪ .‬أنهى جملته وخلص ذراعه من يدها‬
‫التى سقطت إلى جوارها كأنما لفظت النفس األخير فتهدل شعرها على وجهها كقناع تخفى خلفه أرتباكا‬
‫وأحباطا ‪ .‬خرج دون أن ينظر إليها وقد قرر إال يعود هنا مرة أخرى ‪ ،‬ليبدأ مرحلة جديدة فى حياته ‪..‬‬
‫مرحلة األنطواء والمتاعب النفسية ‪ .‬سلك طريقه خارج المكتب ولم يستطع أن يدرك ‪ ،‬بماذا كان يفكر‬
‫أو ماهو الشعور الذى طمس عقله حين حدثها ‪ .‬حاول أن يستوعب ماجرى حين تلقى أستفسارا على‬
‫لسان المهندسة أيمان ‪ :‬رايح فين ياباشمهندس ‪ .‬أنتزعه السؤال من دائرة السرحان ‪ ،‬لم يرد وتابع‬
‫مسيرة الفرار منهيا رحلة عمل سريعة دامت ساعة تقريبا قبل أن يعلن داخله قرارا بالتقاعد ‪ .‬خرجت‬
‫هدير تبحث عنه بعينيها فلم تجد له أثرا ‪ ،‬سحبت نفسا بطيئا ثم رجعت لمكتبها تعانى برودة فى كل‬
‫جسمها وكأنها وسط عاصفة أتية من القطب الشمالى ‪.‬‬

‫أعتدلت بسمه فى جلستها بركن الصالة حين فتح يوسف باب الشقة ودخل ‪ ،‬كان عابساوبائسا‪ ،‬قرأت فى‬
‫وجهه صدمة جديدة فلوحت له قبل تطلق سراح تليفونها المحمول المعتقل منذ األمس بين يديها أنتظارا‬
‫لمكالمة موعودة ستحدد بشكل نهائى مسارعالقتها المحتضرة بأمجد وإن كانت الشواهد حتى اللحظة‬
‫المستحيلة ‪.‬‬ ‫تضع تخيلها فى خانه األمنيات‬

‫ــ خيريايوسف رجعت بدرى ليه؟ مسح وجهه حين مرامامها فى طريقه لغرفته ‪ :‬حسيت أنى تعبان شويه‪.‬‬
‫استقبلت كلماته بتفهم متبنية نظرية " أن هناك خطأ وخطيئة وفاتورة البد من سدادها " تتبعته بنظرة‬
‫‪349‬‬
‫تحمل عنوان ( كلنا فى الهواسوا ) حتى دخل غرفته ‪ ..‬ألقى نظرة مهزومة ثم رمى تليفونه وسلسلة‬
‫مفاتيحه‪ .‬أغمض عينيه بعدما أستلقى على السريرالذى الزال يحمل خريطة جسمه ‪ ..‬تمدد بمالبسه دون‬
‫حراك كميت حانت لحظة غسله ‪ .‬أختارت عينيه التى طلقهما النوم أيقاعا بطيئا فى الحركة والدوران‬
‫مسترجعا مادارفى المكتب واضعا نفسه فى وضعية المتهم المدان تارة وبين األندماج داخل حالة من‬
‫المظلومية الحسينية كمجنى عليه تم اغتياله معنويا ومصادرة أحالمه بال رحمة وفق مخطط جهنمى أداره‬
‫وأشرف على تنفيذه فلول التقاليد ومنتحلى الحكمة ‪ .‬أغمض عينيه حتى غرق فى هواجسه تتقاذفه حقائق‬
‫وأوهام ‪ ،‬حقيقة واحدة مسلطة عليه‪ ..‬حياة قادمة بالهديروبين وهم محنة عارضة فى طريقها للزوال ‪ .‬لم‬
‫يدر كم مرعليه من وقت فى الدفاع عن نفسه وإظهار براءته وسط يقين مطلق أحتل عقله بأنه ذاهب حتما‬
‫لتنفيذ حكمابات نافذا ّ دون أستئناف أوإلتماس ‪ .‬أستمرساكنا حتى العصريتنقل بذهنه بين مواقف وذكريات‬
‫صار يحملها وتالزمه كأنفاسه ‪ .‬شعر بالرغبة فى التعبيروالكالم فأستقل فجأة حذائه المركون تحت‬
‫السريرخارجا من غرفته إلى الصاله الخالية ومنها لباب الشقه بعدما قرران تكون وجهته هى شقه‬
‫الخواجه " كرم ‪" .‬‬

‫لحظات وكان متصدرا ّّباب شقة الخواجه الذى أستقبله بفرحة مرتديا تيشرت أحمرفشل فى أحتواء لحمه‬
‫المتهدل ‪ ،‬عانقه بصعوبة يفصلهما صدرمفرطح ينام على كرش مهيب تنوء أردافه بحمله والتى أنحشرت‬
‫داخل بنطلون جينز سماوى يحمل عددا كبيراّمن الـ "×××× " حمرة وجهه الزالت سرا ّ مخفيا عن كل من‬
‫اقترب منه ‪ ،‬بدا فى هندامه قريب الشبه من الفنان " يحيى الفخرانى " صافحه وأمسك بيده حتى أدخله ثم‬
‫رافقه إلى غرفة األستقبال السابحة فى بحرمن ضوء النهارمصدره النافذة الضخمة التى نزع شيشها منذ‬
‫سنوات وتركها فى حماية زجاج أبيض يفضح أكثرمما يسترقاصدا ّ أن تعيش الغرفة فى حالة نهارية‬
‫متواصلة ‪ ..‬أنحط صامتا على الكنبة الجلدية بعدما جال ببصره فى الغرفة ‪ ،‬لم يلحظ تغييرا ّ بينما‬
‫أظهرالخواجه ضعفا شديدا ّ فى اللياقة البدنية حين جلس إلى جواره مرتميا ّ كأنه سقط من جبل ‪.‬‬

‫ــ ياه يايوسف من كام سنه ماجيتش زرتنى هنا ‪.‬قالها والزالت انفاسه الهثة‪.‬‬

‫ــ سامحنى ياخواجه أنت عارف ظروف الدراسة خدتنى وأتلهيت فى الدنيا والمشاكل ‪ .‬أستوقفته الجملة‬
‫األخيرة وأدار له رقبته قبل أن يتزحزح بجسده ‪ :‬الدنيا والمشاكل حتة واحدة كده ‪ ..‬لسه بدرى أوى‬
‫ياحبيبى على الكلمتين دول ‪ .‬تدريجيا بدأت مالمحه تتجه لألنقباض ‪ :‬متهيألك ‪ ..‬أحنا دلوقتى فى‬
‫عصرالسرعه مافيش لسه بدرى كله أوام أوام‪.‬‬
‫‪350‬‬
‫ــ آه ‪ ..‬أنا كده فهمت ؟! ‪.‬‬

‫ــ فهمت إيه ياخواجه ‪ .‬توجع حين أستند بكفيه على الكنبه رافعا ّ كتلة اللحم تأهبا للنهوض ‪ :‬حأقولك بعد‬
‫ما أشربك واحد كابتشينوفريش حيخليك تحلف أنك كنت قاعد مع خواجه بجد ‪ ..‬ماكينة أيطالى محترمة‬
‫أخدتها هدية من ماريا‪ ..‬دى واحدة صاحبتى أتعرفت عليها فى النادى اليونانى ‪.‬‬

‫ــ ياخواجه ياشقى ‪.‬أبتسامة سحبته ناحية المطبخ‪ :‬ماريا دى أكبرمن نوح ‪.‬‬

‫ــ طب أستنى خدنى معاك أساعدك ‪.‬‬

‫ــ خليك مكانك ماتتعبش نفسك الحكايه كلها تالت دقايق ‪.‬حك جبهته ساهما ّ قبل ان يصله صوت الخواجه‬
‫من المطبخ ‪ :‬كام معلقة سكريايوسف‪.‬‬

‫ــ أتنين تالته أى حاجة ‪.‬لحظات صمت وتأمل فى الالشيىء‪ ،‬أستحسن ضوء النهارالهارب الذى يداعب‬
‫وجهه بنوره البرونزى وكأنه مرتديا ماسكا ذهبيا أفاق عندما سمع ذلك الصخب القادم من ناحية المطبخ‬
‫حين دهس كرم بقدميه باركيه الغرفة التى أصدرت أنينا ّ خشنا ّ ولوال أنه مصنوع فى زمن " الزان"‬
‫لتحولت تحت قدميه ترابا ‪.‬‬

‫ــ قولى بقى مالك شكلك مش عاجبنى يايوسف ‪.‬قالها واقفا ّ بينما أستسلم األخير لتنهيــده طويلة ‪ :‬مخنوق‬
‫وزهقان وأرفان وحاسس أن الدنيا كلها واقفه ضدى وكأنى عدوبتكرهنى وتعاندنى ‪ .‬سكت وأحمرت عيناه‬
‫حين ألتئمت شفتيه على مرارة ‪ .‬تأمله حتى صارت مالمح يوسف شغله الشاغل وكعادته رقيق النفس‬
‫سريع التأثر جاهزالدمع ‪ ،‬أطال النظرفى وجهه قبل أن ينطق مبتسما أبتسامته الهادئة ‪ :‬حأروح المطبخ‬
‫كده ‪ .‬قال عبارته‬ ‫أجيب األتنين كابوتشينو وأقعد أسمع منك حكاية الدنيا بنت الكلب دى اللى عامله فيك‬
‫وظل واقفا ّ ‪ .‬ثم أردف بعدما أنتظرلحظات ‪ :‬بس لى طلب صغيرعندك ‪ .‬أرخى جفنيه فتابع الخواجه ‪ :‬أنسى‬
‫الزهق واألرف خمس دقايق بس وعايزك كده تركزشويه وتراجع فى دماغك شريط حياتى ‪ .‬أتسعت عينيه‬
‫أمام الطلب الغامض ‪ :‬حياتك أنت ياخواجة ‪.‬‬

‫ــ أيوه يا يوسف حياتى أنا ‪ ..‬عشان خاطرى شغل الذاكرة وأفتكركل حاجه تعرفها عنى و شفتها بنفسك‬
‫أواللى سمعتها عنى ‪ ..‬حاسيبك تسرح شويه وبعد كده لنا كالم تانى ‪ .‬أبتسم يوسف فى صمت حتى رحل‬
‫كرم إلى المطبخ تاركا ّ األخير بصحبة سؤال كبير ‪ :‬أيه الطلب الغريب ده ‪ .‬غيرأنه لبى مطلبه بالرغم من‬
‫‪351‬‬
‫دهشته وهويحاول أن يستجمع مشاهد ومواقف فى شكل بانوراما مختصرة عن حياة كرم التى يعتقد من‬
‫وجهة نظره وبحكم الجيرة التستحق التأمل أوتنشيط الذاكرة ‪ ،‬له حياة روتينية تخصه‪ ..‬يعرف أن الخواجه‬
‫يتعايش مع الوحدة منذ زمن ‪ ،‬راضيا أو مضطرا ّ اليدرى ‪ ،‬عالمه ضيق فى حدود مجلة أنجليزية يقرأها‬
‫أسبوعيا ّ ومجموعه صور قديمة له وألسرته وتليفزيون " توشيبا " نادرا ّ مايتابعه مع بعض الوجبات‬
‫البسيطة ليس فى قائمتها طبيخ والظفر بخالف فنجانين قهوه يوميا وبعض الحكايات المكررة والمعادة‬
‫كمنولوجات بسيطة يتداولها مع نوح مرتين أسبوعيا وزيارة واحدة كل أسبوعين للنادى اليونانى كى‬
‫يستعيد لغته األم مع بقايا جالية كانت يوما تمثل ربع سكان األسكندريه ‪ ..‬فى الفترة األخيرة سقط بند رحلة‬
‫الصيد األسبوعية من قائمة روتين حياته بعدما أجبر على األعتزال عقب ثورة يناير بعد أن تحولت‬
‫شواطىء األسكندرية إلى وكرللمجرمين والبلطجية‪.‬‬

‫دقائق ووصل كرم قادما من المطبخ برفقة أتنين كابوتشينو صناعة أيطالى برغوة مبالغ فيها ‪ ،‬وقف مهتزا ّ‬
‫عند عتبة الغرفة ثم نادى ‪ :‬يوسف ‪ ..‬لم ينتبه لصوته فكرر ‪ :‬يوسف ‪ ..‬أيه يابنى دى حياتى بسيطة أوى‬
‫مش محتاجة أكترمن دقيقتين ‪ .‬سحب نفسا ّ ثم قام ليتسلم منه الصينية التى تحف بكرشه ‪.‬‬

‫ــ بالعكس ده أنا ماخدتش بالى أن حياتك صعبة إال دلوقتى ‪.‬قالها حين وضع الصينية على المنضدة ثم‬
‫جلسا سويا ‪.‬تابع أكتشافه ‪ :‬عايش لوحدك معظم الوقت وقافل عليك باب شقتك وفى بلد مش بلدك يعنى‬
‫ال أهل والصحاب وكمان ظروف مادية مش أد كده ‪ .‬هز رأسه مستعيرا بنبرة ذاهلة ‪ :‬ده غير سنك‬
‫ياخواجه‪ .‬ضيق عينيه مستفهما ‪ .‬فأوضح يوسف ‪ :‬يعنى ‪ ..‬سنك كبير وأكيد محتاج لرعايه وحد يبقى‬
‫جنبك‪ ..‬تخيل بقى ياخواجه كل الظروف دى متجمعه فى وقت واحد مع بنى أدم واحد ‪ .‬قابل الملحوظة‬
‫بأبتسامة عريضة تورمت لها خديه ‪.‬فتابع يوسف تنقيبه ‪ :‬أكيد فى ناس كتير ظروفها شبه ظروفك بس‬
‫متهيألى مستحيل يكون لسه فيهم حد بيضحك أومتفاءل وراضى عن عيشته الغريبه دى من غيرحتى‬
‫شكوى واحدة ‪ ..‬مستحيل ياخواجة تكون دى حياه بسيطة أبدا ّ ‪ .‬نظرة تواضع ‪ :‬طب أشرب يايوسف ‪.‬‬
‫سحب رشفة طويلة من الكابوتشينو الذى ظهرت بصماته على شفتيه التى لوثتها الرغوه ‪ :‬ياسالم‬
‫كابوتشينو ماحصلش ‪ ..‬أبقى أشكرلنا ماريا كتير ‪ .‬أنهى كرم رشفته األولى متجها بوجهه ليوسف ‪ :‬أحكيلى‬
‫بقى أيه اللى مضايقك ‪.‬‬

‫ــ لما تقولى أنت األول ليه طلبت منى أفكرفى حياتك وأراجعها فى دماغى ‪.‬‬

‫‪352‬‬
‫ــ حتعرف لماتحكيلى ‪ .‬حسم أمره وأستغنى عن تحفظه‪ .‬همس مترددا ّّحين أستهل البداية بضحكة فى‬
‫عينيه مجترا ذكريات عمرها خمس سنوات ‪ ،‬شجعته مالمح كرم المنتبهة والمتأهبة لألصغاء ‪ .‬قال ‪ :‬أول‬
‫مادخلت الكلية كنت فى حالى وأنطوائى وحذرجدا ّ فى تعامالتى مش عشان ده طبعى ‪ ..‬كان بسبب نصيحة‬
‫نورا وعمتى ‪ ..‬ماتحاولش تعمل صحبيه زيادة عن اللزوم ماتخليش حد يعرف عنك أى حاجه خليك حريص‬
‫أوى فى كالمك ‪ .‬كان البد للخواجه من مقاطعة ‪ :‬ليه كل ده؟ ‪.‬‬

‫ــ كانوا خايفين على جدا ّ أنى أقرب من حد أوى وأقع بلسانى بكلمه كده والكده يعرف منها ظروف ماما اللى‬
‫أنت فاهمها واللى ممكن تسببلى مشكله كبيرة بعد كده زى اللى حصل معايا فى أعدادى وثانوى‪ ..‬وفعال‬
‫عملت بنصيحتهم وأخدت أحتياطاتى ‪ ..‬مافيش كالم كتيرمع حد ماليش دعوه بأى حاجه غيرمحاضراتى‬
‫وبس وحتى لماعملت كده ماعرفتش برضه أكون لوحدى بالعكس لقيت نفسى معروف جدا فى الكلية‬
‫بحالها بعدما جبت تقديرفى أول سنة وكمان ‪..‬صمت ثم أغمض عينيه وأكمل بحرج ‪ :‬كانوابيقولواعلى أنى‬
‫وسيم وأنت فاهم بقى شغل بنات الكليات لغاية ماجت اللحظة وشفت هدير‪ ..‬كانت طباعها غريبه زيى‬
‫بالظبط ‪ ..‬بنت أبوها غنى جدا ّ وفى نفس الوقت متواضعة بنت وحيدة لكنها جد أوى ومش متدلعة ماكانتش‬
‫محتاجة أبدا ّ أنها تتعب عشان تثبت وجودها لكن عمرها مأتأخرت عن محاضرة وال طلعت بمادة ‪ ..‬وكأننا‬
‫كنا أتنين تايهين جوة الكلية لغاية ما لقينا بعض و كل يوم كان بيقربنا أكتر‪ ..‬ماكناش أتنين عاديين لدرجة‬
‫أنى مش عارف كنا أيه ‪ ..‬لكن اللى تأكدت منه أن الرومانسية مش مجرد كلمة بتتقال أنا لمستها فى كالمها‬
‫وشفتها فى أفعالها ‪ .‬كان يتكلم ويتابع من خالل النافذه ضوء النهارالهارب بينما يراقب كرم أنتفاضاته حين‬
‫كست مالمحه حسرة وهو يسترجع ‪ :‬خلقنا عالم صغير يخصنا أحنا األتنين رتبناه على مزاجنا ‪ ..‬كان يومنا‬
‫جميل سهل مافيش فيه ملل ماكناش بنشغل دماغنا بأى حاجة كان عندنا زى ماتقول كده أكتفاء ذاتى‬
‫عالقتنا باللى حوالينا كانت تأديه واجب ‪ ..‬جايزتكون الظروف هى اللى ساعدتنا مافيش أى ضغط علينا من‬
‫أى نوع ماعندناش مشاكل عويصة زى اللى بتقابل كل الشباب ‪ ..‬هى بتحبنى وأهلها أغنيا ومستقبلى‬
‫وشغلى مضمونين عند باباها بعد التخرج يعنى تقدر تقول كده حاجة خيالية زى األحالم ‪ ..‬سكت حين‬
‫أصابته رعشة قبل أن يتحول غاضبا ناقما عندما شرح مأساته مختزال لحظة المواجهة الدرامية التى فقد‬
‫فيها عذريته البريئة وأحالمه الرومانسية ‪ ،‬لم يقاطعه الخواجه إال حين يبتلع دهشته عند كل فاصل ‪:‬‬
‫وبعدين !! أكمل حتى بلغ لحظة األنفجار‪ :‬أتهانت وأطردت زى اللى عامل عاملة وحسيت أنى ماليش لزمة‬
‫فى الدنيا ومافيش حاجة نفعتنى الشهادة والأخالق والحتى شكل وأتأكدت ساعتها أن كل ده مش مهم‬
‫وأن فى حسابات تانية أكبر وأهم منى بكتيروماكنتش واخد بالى منها ‪ .‬هدأ للحظات ألتقط فيها أنفاسه قبل‬
‫‪353‬‬
‫أن يردد مقتطفات أقتبسها من أقوال والدها لتى حسمت أمرعالقته بأبنته ‪ .‬كان ذلك أخرسطر فى روايته‬
‫الحزينة أنهاه وشيىء من األهتزازعلق بمالمحه بينما كتلة اللحم المكدسة بجواره باتت هشة كقنطارالقطن‬
‫وهو يرصد دموعا فى عينى يوسف بدت كالوميض لها بريق وهو اليكاد يصدق أن هذا الجالس بجواره قد‬
‫سحقته الدنيا إلى هذا الحد‪ ..‬شعر بمأساة الصغير‪ .‬كان عليه أن يتخذ قرارا ّ أما التماسك أوأن يشاركه‬
‫البكاء ‪ .‬عرض عليه بهدوء مشوب بالحذر ‪ :‬أناعايزك تهدى شوية وتاخد نفسك براحه وتسمعنى بعقلك‬
‫قبل قلبك ‪ .‬منحه نظرة موافقة وأستسلم منصتا ّ ‪ :‬عايز أسألك سؤال وتردعلى بصراحه ‪ ..‬بعد‬
‫األمورماهديت شويه حاسس بأيه دلوقتى من ناحيه هدير؟ ‪.‬‬

‫ــ لغاية دلوقتى مش مصدق أى حاجه من اللى حصلت لدرجة أنى لما بأصحى من النوم بأدعى ربنا أن اللى‬
‫حصل ده كله يطلع حلم مش حقيقة ‪ .‬بس لألسف باالقى نفسى عايش جوه كابوس وأن كل حاجة راحت‬
‫منى وحأبقى فى الدنيا لوحدى من غيرهديرمن غيرما أكلمها وال أشوفها وال أحلم معاها ‪ ..‬أنا بأموت‬
‫ياخواجه ‪ .‬خرجت جملته األخيرة ببطء ثم سكت كى يتيح لنفسه فرصة الصمود والتماسك بعد أن أوشك‬
‫على النحيب واألنهيار ‪ .‬وضع كرم يده على كتفه حتى شعر يوسف برعشة تسربت إليه من خالل كف‬
‫لما األنسان‬ ‫الخواجه المرتجفة الذى رمقه بنظرة تعاطف ومواساة ‪ :‬حاسس بيك أوى وعارف يعنى إيه‬
‫يحس فجأة أن كل حاجة ضاعت منه وعايش فى الدنيا من غير هدف وماعندهوش أى حاجه يبكى عليها‬
‫وحياته كلها تبقى طولها زى عرضها‪ ،‬كل ده يايوسف مرعلي وعايش فيه لغايه دلوقتى وزى ما أنت‬
‫شايف كده راجل عجوز قدامك من غيرست والوالد ‪ .‬تنهد ثم تابع ‪ :‬حاجه كده مالهاش معنى ‪ ..‬حياة فاضية‬
‫مملة مافيهاش تفاصيل وال لها طعم وفى الغالب حتكون نهايتى تافهة وخايبة زى حياتى كلها ‪ ..‬تقريبا‬
‫حتبقى موته بسيطة وأنا واقف فى المطبخ أونايم على السريرأوحتى واقف قدام الشباك ده بأتفرج على‬
‫زرقة البحر‪ ..‬موته مافيهاش أكشن وأحتمال كبير يعدى كام يوم لغاية مانوح يكتشف أنى مت ! ‪ .‬أنهى‬
‫جملته بضحكة ثم أطال النظرفى عينى يوسف قبل أن ينتزعه األخيرمن تخيالته عن لحظة الموت القادمة‬
‫بسؤال عارض ليس فى السياق رماه فى وجهه ‪ :‬أنت ما أتجوزتش ليه لغاية دلوقتى ؟ سؤاله أصابه بهزة‬
‫بدت فى مالمحه ‪ ..‬يجاهد توترا ّ حين نطق بنبرة مقهورة ‪ :‬سؤالك ده يايوسف هواللى خالنى طلبت منك‬
‫تراجع شريط حياتى كله فى دماغك كنت قاصد أوصلك معلومة مهمة‪ .‬بدا متأهبا لسماعه ‪ .‬أردف ‪ :‬فى‬
‫أنسان يايوسف لما يتعب و يجيله شويه صداع مثال والمغص والوجع فى ضرس بيبقى مش قادر يتحمل‬
‫والدنيا بتسود فى وشه وبيفضل ع الحال ده لغاية مايقابل واحد عنده مرض خطير زى السرطان مثال‬
‫وأيامه فى الدنيا معدودة ‪ ..‬تقدرتقولى ساعتها حيحس بأيه؟ عض شفتيه ولم يجب ‪ .‬فتولى كرم ‪ :‬حيحس‬
‫‪354‬‬
‫أنه صغيرأوى و حينكسف من نفسه عشان كده الزم تفهم أن الفشل مش مشكلة كبيرة بالعكس سهل جدا ّ‬
‫ترجع تانى وتقف على رجليك وتنجح وتبقى بداية جديدة و كمان يايوسف فى فشل تانى بطعم األعدام زى‬
‫حالتى أنا لما أكتشفت من زمان أنى ما أنفعش أتجوز و ال حتى أقدر ألمس أى ست ‪ .‬أدلى باعترافه منكس‬
‫الرأس بينما أتسعت حدقتى يوسف قبل أن يسدل عليهما جفنيه قابضا ّ خلفهما على صدمة باهظة أفضت‬
‫إلى أزاحة أزمته من موقع الصدارة و أستبدالها بمصيبة الخواجه ‪ ،‬تحرك إليه بجسده ثم مال عليه يقبل‬
‫جبهته ‪ :‬أنا مش عارف أقولك أيه ؟ أنا ماكنش قصدى أنى أجرحك ‪ .‬وضع أبتسامة على شفتيه و بثبات‬
‫ظاهرى ‪ :‬الحكايه دى أنا نسيتها من زمان أنت اللى أضطرتنى أحكيها عشان أنا يهمنى تعرف أن اللى‬
‫حصلك ده مش أخر العالم ودى صدمة يا يوسف والزم تعديها أنت لسه قدامك فرص كتيرة مستنياك و مش‬
‫حأناقشك فى موضوع هديروالحأحملك مسئولية الغلط لما خبيت عليها حكاية مامتك و حرمتها من فرصة‬
‫األختيار وكمان مش حأغلطها فى معالجتها للموضوع و خلتك تيجى عندهم البيت وسمحت لباباها يتدخل‬
‫وينهى الموضوع بطريقته ‪ ..‬مش هو ده اللى عايز أوصله ‪ ..‬ماعدش يفرق مين فيكم الغلطان ‪ ..‬سيب‬
‫األيام تعالج كل حاجة بطريقتها عيش شبابك و ركز فى مستقبلك ‪.‬أنفرجت مالمح يوسف المنقبضة بعدما‬
‫زال توتره فجأة وأسترخى بهدوء يتأمل مأساة أعظم من مأساته ‪ .‬شعر بفزع حين رن هاتفه كمن عاد‬
‫لتوه من غيبوبة يتلمس بعينيه شاشة الموبايل ليتبين الرقم الظاهر ‪ .‬رفعه ألذنه ‪ :‬أيوه يا نورا ‪ .‬سكت‬
‫يتلقى سؤالها ‪ .‬ثم أجاب ‪ :‬أنا عند الخواجه كرم ‪.‬‬

‫ــ طب تعالى بسرعة عشان شريف زمانه جاى ‪ .‬وجم فجأة ‪ :‬شريف أبن عمو خيرى ‪.‬‬

‫‪ -‬أيوه يابنى هو فى شريف غيره ‪ ..‬أخلص بقى أنا مستنياك ‪.‬‬

‫ــ حاضر ‪ .‬أزاح الموبايل عن أذنه ثم رسم أبتسامة أستغلها كرم فى طرح سؤاله ‪ :‬هى حاجة غريبه‬
‫يعنى أن شريف يزوركم ‪ .‬هز رأسه نافيا ّ و ال زال مبتسما ‪ :‬ألطبعا مش غريبة بس أشمعنى النهارده‬
‫بالذات ‪ .‬قالها ووقف ممتنا ‪ :‬أنا قلبت دماغك و صدعتك ‪ .‬قام كرم هو األخر بصعوبة و ناوله خبطة‬
‫رقيقة على صدره ‪ :‬ياريت تبقى تيجى كل يوم تصدعنى ‪ .‬لم يجد أفضل من ذراعيه يفتحهما و يعانق‬
‫الخواجه بشدة ثم خرج من الغرفة قاطعا ّ الصالة يتبعه كرم حتى أستدار يوسف حين بلغ باب الشقه ‪ :‬لو‬
‫حسيت أنى متضايق و ال مخنوق حأبقى اّجى أقعد معاك تانى ‪ .‬نظرة أخيره مع أبتسامة ثم أدار له ظهره‬
‫محتضنا السلم ‪.‬‬

‫‪355‬‬
‫بعد مكالمة قصيرة أجرتها نورا مع شريف ‪ ،‬بدت له غامضة كاللغز ‪.‬‬
‫‪ -‬أنت فين دلوقتى ؟ ‪.‬‬

‫‪ -‬فى الشغل ‪.‬‬

‫‪ -‬يعنى أنا معطالك ‪.‬‬

‫‪ -‬مش أوى ‪.‬‬

‫‪ -‬عايزة أتكلم معاك ‪.‬‬

‫‪ -‬قولى عايزة أيه ؟ ‪.‬‬

‫‪ -‬مش حينفع فى التليفون ‪.‬‬

‫‪ -‬ياه غريبة أوى ‪.‬‬

‫‪ -‬أيه الغريب فيها ‪.‬‬

‫‪ -‬يعنى بقالنا شهرين ما بنتكلمش و فجأة تتصلى بى و عايزة تتكلمى معايا و كمان مش فى التليفون‬

‫‪ -‬المهم عشان ما أعطلكش أنت فاضى أمتى ؟ ‪.‬‬

‫‪ -‬بكره عندى وردية حتخلص الساعة ستة ‪.‬‬

‫‪ -‬تمام يبقى حأقابلك بكرة الساعة سبعة عندنا فى البيت ‪.‬‬

‫‪ -‬و ليه مش بره ‪.‬‬

‫‪ -‬ماما و بسمة مش حيبقوا موجودين و فرصة نتكلم براحتنا ‪ .‬أنصاع ووافق على طلبها بعدما‬
‫تصنع رفضا ‪.‬‬

‫‪ -‬خالص مادام أنتى مصممة ‪ ..‬ماشى ‪.‬‬

‫‪ -‬سالم لبكرة ‪ .‬كانت دعوة غير متوقعة دارت بعدها فى رأسه عدة أحتماالت أحتار فيها كلها‪ ،‬فأكتفى‬
‫باألنتظار للغد قانعا فقط برؤيتها ‪.‬‬

‫وصل فى موعده تماما ّ بكامل وسامته حين أستقبلته نعمة بموشح قصير‪ :‬كده برضه يا شريف يا بنى‬
‫فين و فين لما نشوفك ‪ ،‬ده حتى عيب أحنا اللى بينا و بينكم حيطه ‪ .‬أبتسم و هو الزال على العتبة ‪ :‬طب‬

‫‪356‬‬
‫دخلينى األول يا نعمة و بعد كده نشوف الحكاية دى ‪ .‬أفسحت له ‪ ..‬أخذت عينيه تمشى ببطء فى الصالة‬
‫ومن خلفه نعمة تنهج ‪ :‬نورت واللـه يابنى ‪.‬‬

‫كان يستعيد ألفته بالمكان على مهل ‪ .‬ظهرت نورا قادمة من ناحية الطرقة تزفها أبتسامة تضيىء‬
‫شفتيها ‪ ،‬عقدت شعرها فى حزمة و أطلقته ذيل حصان ‪ ..‬مستوية على عودها ‪ ،‬لكن شراسة مشيتها‬
‫تحذر دائما من األستهانة بها ‪.‬‬

‫دخلت بحضورها العالى الذى أفتقده منذ شهرين ‪ ،‬لم يخطئها ‪ ،‬ما كان له أن يفعل و لو كانت قادمة من‬
‫خلفه ‪ ..‬عطرها البسيط و سحرها و بروز شفتيها مكتنزتين دعوة صريحة لشريف الذى أستسلم‬
‫ألحباطات القطيعة و تباعد فترات اللقاء ‪ .‬نظرتها أيقظت أحاسيس بداخله كادت تصدأ‪.‬‬

‫قالت وهى تقترب ‪ :‬واللـه كتر خيرك أن سيادتك أتنازلت و جيت لغاية هنا ‪.‬‬

‫ــ مقبولة منك يا نورا ‪ .‬صافحها و كأنه أول مرة يشعر بملمسها ‪ ،‬تسرى اليه رسائل ملغزة عبر هذا‬
‫الكف فنظر فى عينيها التى راحت ترتخى عليها األجفان فى خضوع للموقف العاطفى ‪ .‬ها هما يلتقيان‬
‫بعد أيام طويلة ‪ ،‬رأها خاللها تتغير كما رأته يتغير ‪.‬‬

‫ظلت مبتسمة حتى جلست أمامه ‪ ..‬كانا مرتبكان كأنهما فى بداية تعارف ‪ .‬أنتظر كل منهما األخر أن يبدأ‬
‫بالكالم ‪.‬‬

‫ــ أنتى أجازة النهاردة من األتيليه ‪.‬‬

‫ــ ال أبدا ّ أنا جيت من ساعه تقريبا ‪ .‬منذ فترة كان شريف قد سلم الراية ‪ .‬لم يعد ذلك الفتى الذى شاهدته‬
‫شوارع األسكندرية أيام كان ثوريا متمردا ّ فى يناير ‪ ،‬زمان مضى و أخذ معه حومة األنفعاالت و حدة‬
‫الغضب و أنصاع ذليال ّ أمام ماكينة " الكاشير " ‪ .‬أجابها مستظرفا حين سألته عن أوضاعه فى المول ‪:‬‬
‫أهى شغالنه أحسن من اللف فى الشوارع ‪ .‬قالها بأحساس من مل أنتظار الحل الثورى ‪ .‬و حين ساد‬
‫الصمت فى الصالون عقب أجابته المستسلمة رأى أناملها وهى تتشابك و تنفرج ‪ ،‬تتالحم فى عنف ثم‬
‫تتباعد وهزهزات الساقين ال تتباطأ‪ ..‬بينما بدا هو قلقا مسكونا بأفكاره و أستفساراته عن سبب منطقى‬
‫وراء تلك الدعوة المباغتة ‪ ،‬فكان يتخير الكلمات المناسبة فيطول سكوته قبل أن ينطق ‪ .‬فحرضته على‬
‫الكالم ‪ :‬مش عوايدك يعنى تبقى ساكت كده ‪ ..‬أتغيرت أوى يا شريف ! ‪.‬نشط لسانه وكأنها فتحت له‬
‫بعبارتها بابا كان يحسبه مسكوكا ‪ :‬أنا أتكلمت كتير قبل كده وماوصلتش لحاجة و ال فهمت أصالّ أى‬
‫‪357‬‬
‫حاجة و دلوقتى سعادتك أفتكرتينى فجأة و طلبتينى عشان أجى و ده معناه أن فى حاجة مهمة عايزة‬
‫تقوليها ‪ ..‬ياريت تجيبى من األخر و تفهمينى أيه الحكاية ؟! طرح سؤاله و ثبت عليها نظرته ‪ ..‬بينما‬
‫شعرت أن أمرها صار مكشوفا ّ ‪ ..‬كان محقا تماما ّ فى أستنتاجه ‪ .‬لم تعد نورا تتحمل األوضاع الجديدة‬
‫فى البيت و األتيليه ‪ ..‬أجتهدت كى تتحول األفكار و الخطط التى تهيم فى رأسها إلى خطوات متدرجة‬
‫حتى تحسم معركتها ‪ .‬تقترح على نفسها أمورا ثم تكتشف عيوبا فتستنكر و ترفض ‪ ،‬يهديها العقل إلى‬
‫فكرة جديدة فتفرح بها ‪ ،‬إلى أن وجدتها و رضيت عنها و باتت الليل تزين فيها و تعد لها‪.‬أرادت أن‬
‫تلحق نفسها قبل أن يأتى يوم تجد فيه عرشها خاويا ‪ ..‬بدأت خطتها بدعوة شريف للبيت ‪.‬‬

‫فى تلك اللحظة سمعا صوت باب الشقة ينغلق ‪ ..‬أبتسامة متقطعة دخل بها يوسف حتى بلغ حجرة‬
‫الصالون قبل أن تستقر منفرجة على شفتيه حين رمق شريف الذى ألتفت إليه بغتة فوقف مصافحا ثم‬
‫معانقا عناقا شبابيا أعقبه تبادل للقبالت على الخدين لها صوت طرقعة ‪ :‬واللـه أنا لما نورا قالتلى‬
‫شريف جاى ما صدقتش ‪.‬‬

‫‪ -‬أنت عارف يا يوسف نظام الشغل و الورديات ‪ .‬قالها حين جلس بينما أستراح األخيرعلى " بوف "‬
‫بين الكرسيين ما مكنت له رؤية متميزة ‪.‬‬

‫‪ -‬مبروك يا يوسف ‪ ..‬هى متأخرة شوية بس أعذرنى ‪.‬‬

‫‪ -‬اللـه يبارك فيك هى متأخرة شويتين ‪.‬‬

‫ـ أخبار عمو خيرى أيه ؟ كان سؤاال ّ تمهيديا أطلقته نورا كبالونة أختبار ‪.‬‬

‫‪ -‬كويس الحمد للــه ‪.‬‬

‫‪ -‬كويس أوى وال نص نص ‪ .‬قالتها و غرست نظرتها فى عينيه ‪ .‬حاول أن يستشف ماوراء نظرتها ‪:‬‬
‫يعنى أيه مش فاهم ؟ أدركت توجسه وقالت ‪ :‬يعنى سعيد كده ومبسوط وحاسس أن الدنيا بقى لونها‬
‫بمبى ‪ .‬أنفك لسانه عن كلمات تحمل نبرة تأمرية ‪ :‬هى أيه الحكاية بالظبط ‪ .‬بحذر استهلت كالمها ‪:‬أصل‬
‫أنا حاسه كده بحاجة بتحصل بين ماما و عمو خيرى ‪.‬‬

‫‪ -‬حاجة زى أيه يعنى ؟ ‪.‬‬

‫‪358‬‬
‫‪ -‬أستلطاف أعجاب و يمكن حب ‪ .‬تاهت عينى يوسف بينهما حين سمع الكلمة األخيرة قبل أن يخرج عن‬
‫صمته مدهوشا ّ ‪ :‬أيه اللى بتقوليه ده يا نورا ‪.‬‬

‫‪ -‬عادى يعنى ما قلتش حاجة غلط ‪ .‬دفع يوسف عنه المفاجأة و أستبدلها بحالة من الحرج ‪ :‬أنتى جبتى‬
‫الكالم ده منين أصالّ ؟ تأملت فوضى مالمحه فأرادت أن توضح ‪ :‬عمو خيرى أنسان محترم و هو‬
‫بالنسبة لنا ما يعتبرش راجل غريب ده كان معانا لحظة بلحظة و صاحب الفضل بعد ربنا فى نجاحنا‬
‫فى الدراسة ‪ ،‬وكمان ماما مش صغيرة وفاهمة كويس هى بتعمل أيه ‪ .‬كرمش يوسف عينيه ‪ :‬أنا مش‬
‫مصدق اللى أنتى بتقوليه ده ‪ .‬قالها بتحد ‪ ،‬فأحتوته بنظرة يعرفها جيدا ّ أنطلقت من عينيها كأنها طلقة‬
‫تحذيرية ‪ ..‬لم يجادل بعدها ‪ .‬بينما أصطنع شريف مالمح مندهشة ‪ :‬أنتى متأكده من اللى بتقوليه ده ‪.‬‬

‫‪ -‬ما كنتش قلته‪ ..‬مفاجأة طبعا ‪ .‬أسترخى بظهره للوراء مبديا أبتسامة ثقة ‪ :‬أل مش مفاجأة خالص ‪،‬‬
‫بابا فاتحنى فى الموضوع ده من أسبوع ‪ .‬أنتابها أستغرابا ّ شديدا قبل أن تمط شفتيها مستنكرة تعتيمه‬
‫على األمر ‪ :‬و ما قلتليش ليه ؟! تظاهر بالالمباالة ساخرا ّ ‪ :‬ده على أساس يعنى أن أنا و أنتى بنتكلم كل‬
‫يوم مع بعض ساعتين تالتة ‪ .‬تخطت جملته و ركزت فى طرح سؤال جديد ‪ :‬و أنت رأيك أيه ؟‪ .‬أغلق‬
‫على أحباطاته داخل نفسه حين صدقت شكوكه حول دعوتها المغرضة ‪ ،‬هز رأسه مستنكرا ّ أقصاء كل‬
‫توقعاته ‪ :‬هو ده بقى السبب اللى كنتى عايزانى فيه ؟! ‪ .‬شعرت بالقلق حين لمحت تغييرا ّ فى وجهه ‪:‬‬
‫مش بالظبط كده ‪ ..‬فى حاجات تانية كمان ‪ .‬ثم نظرت ليوسف و كأنها تتعلل بوجوده ‪.‬‬

‫‪ -‬مش باين أن فى حاجة تانية خالص‪ .‬كنا أتكلمنا أحسن فى التليفون و قلتلك رأيى بدل ما كنتى عطلتى‬
‫نفسك النهاردة عن األتيليه ‪ .‬ظن فى البداية أنها ستتكلم معه عن توجساته التى يشقى بها ‪ ،‬لكنها‬
‫خذلته ‪ .‬بينما وجد يوسف نفسه داخل مناظرة بين قوتين ‪ .‬لم تسعفه فراسته على أستنتاج ما حصل‬
‫بينهما سابقا حتى وصال بهما األمر لتلك الجفوة فى الحديث ‪ ،‬بدا و كأنه أمام مسلسل يتابع حلقته‬
‫األخيرة ‪ .‬هكذا كان يشعر ‪ .‬أضطربت نظراته ‪ ..‬لم تخطىء عينيه مالمح أخته التى يعرف جيدا ّ أين‬
‫و متى تستعملها حين تحاصر فريسة قبل األجهاز عليها ‪ .‬ثم قام من بينهما ‪ :‬عن أذنك يا شريف لحظة‬
‫واحدة و جاى ‪ .‬شعر بنفسه داخل حالة غير طبيعية و أن هناك أمورا ّ تدار فى رأس أخته التى رمقته بال‬
‫كلمة و هو ينسحب من الصالون بأتجاه غرفته بينما تحرر شريف عن تحفظه ‪ :‬يعنى أنتى أفتكرتينى‬
‫بس لما حسيتى أنك محتاجة تتكلمى معايا عشان موضوع بابا و طنط هدى ‪ ..‬مش غريبة دى !! ‪.‬‬
‫أظهرت له أبتسامة كى تبرىء نفسها ‪ :‬أوال أنا ما نسيتكش عشان أفتكرك و ثانيا أنا كنت فعال ّ نفسى‬
‫‪359‬‬
‫أشوفك ثالثا موضوع ماما و عمو خيرى يخصنا أحنا األتنين مش أنا لوحدى ‪ .‬كان سردا ّ زائفا تخفى‬
‫وراءه حقيقة أخرى ‪ .‬تفحصته حين أبدى تذمرا ّ ‪ .‬تابعت ‪ :‬ماتسيبك بقى من الصورة اللى أنت راسمهالى‬
‫فى دماغك دى ‪.‬‬

‫‪ -‬صورة أيه أن شاء الـله ‪.‬‬

‫‪ -‬أنى مصلحجية و جبارة و مفترية و أنت ياعينى الشاب الغلبان اللى ال حول له و ال قوة ‪ .‬حك جبينه‬
‫مبتسما ‪ :‬أنا مش غلبان و ال ضعيف لكن أنتى فعال جبارة و مفترية و مادام حطيتى حاجة فى دماغك‬
‫و خططى لها يبقى خالص نويتى على التنفيذ ‪.‬‬

‫‪ -‬حاجة أيه دى اللى نويت على تنفيذها ‪.‬‬

‫‪ -‬واللـه ما أعرفش أبقى أسألى نفسك ‪ .‬قالها بضيق ‪.‬‬

‫‪ -‬أنا حاسه بيك كده أنك متضايق عشان جيت ‪.‬‬

‫‪ -‬أنتى شايفة كده ‪.‬‬

‫‪ -‬يعنى شايفاك زعالن و مش مبسوط و كأنك مش عايز تشوفنى ‪.‬‬

‫‪ -‬ال ابدا ّ أنا متضايق من نفسى بس ‪.‬‬

‫‪ -‬مش فهماك ‪.‬‬

‫‪ -‬أنا بقى فاهمك كويس يا نورا ‪.‬‬

‫‪ -‬أكيد الزم تكون فاهمنى دى عشرة سنين يا أستاذ ‪.‬‬

‫‪ -‬بالظبط ‪ ..‬بس ياريت تكونى أنتى كمان فاهمة نفسك ‪.‬‬

‫‪ -‬يعنى أيه ؟ ‪.‬‬

‫‪ -‬مش كل حاجة بتفكرى فيها وتخططى لها الزم تبقى صح ‪ ..‬ممكن أوى بعد فوات األوان و بعد التنفيذ‬
‫الواحد يكتشف أن كل اللى عمله كان غلط فى غلط و ساعتها الخسارة حتبقى كبيرة و ماتتعوضش ‪.‬‬

‫‪360‬‬
‫‪ -‬والنبى من غير فلسفة و ال ألغازالمكسب و الخسارة دول وجهة نظريعنى جايز اللى أنت شايفه‬
‫خسارة ممكن أكون أنا شايفاه مكسب ‪.‬‬

‫‪ -‬أكيد طبعا ! ‪.‬‬

‫‪ -‬هو أيه اللى أكيد طبعا ‪.‬‬

‫ـ متهيألى األمور بقت واضحة اللى أنتى شايفاه مكسب أنا شايفه خسارة ‪ .‬قاومت تلميحاته محاولة منها‬
‫للسيطرة على أى رد فعل غير متوقع منه بغرض أفساد الجلسة ‪ ،‬فكانت حذرة كما كان هو ‪ ..‬و ظل‬
‫األثنان يمضغان الكلمات المترددة التائهة و يتقاعسان عن األجابات الصريحة فباتا كورد النيل يعوق‬
‫التيار أكثر مما يزين المجرى ‪ .‬تعمدت تلطيف األجواء فصحبته فى جولة حكايات تخص تفاصيل عملها‬
‫باألتيليه وعالقتها بزيزيت مقابل أقوال بائسة لخص بها تفاصيل يومه فى" المول " ‪ .‬ووسط زحام‬
‫الكلمات وطوفان التفاصيل عادت مرة ثانية لموضوعها الرئيسى ‪ :‬بصراحة كده يا شريف أنت عندك‬
‫أعتراض على أرتباط ماما بعمو خيرى ؟ ‪.‬‬

‫‪ -‬مش مسألة أعتراض و ال موافقة بابا مش صغير وعارف كويس أزاى ياخد قراراته ‪ .‬توجست من‬
‫عبارته ‪ ،‬لكنها أستأنفت ‪ :‬قراره يخصك كمان و الزم يبقى لك رأى فيه ‪.‬‬

‫‪ -‬و يخصك أنتى كمان ‪ .‬بدت مرتبكة ‪ ،‬مضت تبحث عن أجابة ‪ :‬عشان كده أنا قلت الزم أتكلم معاك ‪ .‬لم‬
‫يكن يدرك حساباتها حين سألها ‪ :‬أنا نفسى أعرف أنتى متحمسة أوى ليه للموضوع ده والعايزة‬
‫تفهمينى يعنى ‪ ..‬لم يكمل الجملة و تركها معلقة ‪.‬‬

‫‪ -‬من غير يعنى الحكاية بسيطة ومش محتاجة تحليالت ‪ ،‬عمو خيرى و ماما محتاجين لبعض جدا ّ‬
‫وتقريبا ظروفهم اليقة على بعض ‪..‬أنت خالص كبرت وأعتمدت على نفسك يعنى مش محتاج لباباك وأنا‬
‫وأخواتى متعودين على أن ماما ماتبقاش موجودة معانا وبصراحة أنا شايفة أن ده حقهم علينا وعلى‬
‫األقل نسهلهم المواضيع وما نقفش فى طريقهم وأنا عن نفسى حأفاتح ماما و حأبلغها أنى موافقة ‪ .‬ثم‬
‫قربت وجهها من وجهه الذى الحظت فيه جمودا ّ وعدم تفاعل ‪ .‬فقالت فى أستغراب ‪ :‬مش حاسة أن‬
‫الموضوع يهمك وشكلك كده مكبر دماغك و ال أنت رافض الموضوع من أصله ‪.‬‬

‫‪ -‬و أنتى بقى موافقة ليه ‪ ..‬عشان خاطر سعادة مامتك ‪ .‬قالها و أكتفى بأبتسامة أستخفاف ‪.‬‬

‫‪361‬‬
‫ـ ده سبب والسبب التانى واألهم أن الموضوع ده لو تم حيبقى فيه مصلحة لنا كلنا ‪ .‬سقطت جملتها‬
‫األخيرة فوق دماغ شريف فطوحته الى مواقف قديمة حين كانت تستعمل تلك الجملة فى تبرير ما تراه‬
‫مناسبا لها ‪ .‬ظل صامتا للحظات حين شعر بها تناوره ‪ .‬كحة مصطنعة مصدرها حلق يوسف الواقف عند‬
‫عتبة الصالون كى يشعرهما بوجوده إال أنها لم تنتبه أو لعلها تعمدت عدم األنتباه ‪ .‬ما أن دخل حتى قام‬
‫شريف بهدوء ‪.‬‬

‫‪ -‬قمت ليه يا شريف ‪ .‬سألته و هى تواجهه بجسدها ‪ .‬أنسحبت كلماته و أختنقت مالمحه ‪ :‬معلش كفاية‬
‫كده محتاج أنام ‪ .‬قالها دون أن يحرك نظرته عنها ‪ .‬ثم أدار وجهه ناحية يوسف الذى ردد جملة تحصيل‬
‫حاصل ‪ :‬أنا لسه ما قعدتش معاك يابنى ‪.‬‬

‫‪ -‬معلش يا يوسف أعذرنى ‪ .‬خرج من الصالون فى حراسة نظراتها حتى بلغا سويا باب الشقة و قبل أن‬
‫يجتاز عتبته ألتفت اليها ‪ ..‬تأملها ‪ ..‬طالت نظرته فأبتسمت ‪ :‬فى أيه يا شريف ؟ ‪.‬‬

‫‪ -‬أنتى لسه بتحبينى يا نورا ؟ ‪ .‬جالت بعينيها فى وجهه ‪ ..‬شاورت نفسها للحظات ‪ ،‬فعاد يسأل‬
‫و يضغط على الحروف ألنتزاع فهم يخصه ‪ :‬لسه بتحبينى يا نورا ؟ ‪.‬‬

‫‪ -‬سؤال عبيط ماينفعش يتسأل ! ‪.‬‬

‫‪ -‬السؤال هو اللى عبيط وال أنا ‪ !! ..‬أنتهت المقابلة ‪ ..‬خرج مبتسما و أنشغل للحظات يبحث عن سبب‬
‫لتلك األبتسامة ‪ :‬هل هى ساخرة و هو يرى فى نفسه مطيةلمخطط تديره نورا ‪ ،‬أم حزينة على قصة حب‬
‫شاخت وهى فى مرحلة الشباب !‪ .‬الزمه البحث حتى باب شقته قبل أن يدفن مفتاحه فى كالون الباب ‪،‬‬
‫كان يعتريه شعور غير مريح بأن نورا طوته بسهولة و حركته فى أتجاه أرادتها غير عابئة بأرادته‬
‫وبأنه فى يديها عجينة ال صخرة ‪.‬‬

‫برأس محبطة دخل الشقة منوها بسلسلة مفاتيحه التى رماها على المنضدة لتصدر صيحتها المعروفة‬
‫معلنة خبر وصوله ‪.‬‬

‫أحتضنت مؤخرته مقعد فى أول الصالة ‪ ،‬تداعت أعضاءه فوق بعضها بتعب لم يتبين موقعه فى جسده ‪.‬‬
‫خرج خيرى من غرفته قاطعا المسافة إلى الصالة مهروال شغوفا كى يتعرف على فحوى اللقاء الذى‬
‫سبق و أن أشار له شريف شارحا تفاصيل المكالمة المفاجئة من نورا لعله يجد عنده تفسيرا أو تحليال ّ ‪.‬‬

‫‪362‬‬
‫جلس أمامه وواجهه بعينين تنتظران أخبارا ّ هامة ‪ :‬خير طمنى يا شريف ‪ .‬مط شفتيه ‪ :‬القعدة كلها من‬
‫أولها ألخرها كانت عليك أنت و طنط هدى ‪ .‬تجمد فى مكانه و كأنه فارق الحياة كما تجمدت نظرته‬
‫المفزوعة فى عين أبنه ‪ :‬عنى أنا وهدى ‪ ..‬ليه ؟ مسح وجهه بكفيه ‪ :‬نورا مرحبة أوى بحكاية جوازك‬
‫من مامتها ‪ .‬تتوالى عالمات الدهشة واألستغراب حتى أستقرتا بكثافة فى وجهه ‪ :‬جوازى أنا من‬
‫مامتها ‪ ..‬عرفت الكالم ده منين ! ‪.‬‬

‫‪ -‬ماعرفش ‪ ..‬يمكن من أمها ‪ .‬حرك رأسه ببطء نافيا ‪ :‬مستحيل ‪ ..‬المفروض أن نورا أصالّ ما تعرفش‬
‫حاجة خالص عن الموضوع ده ‪ .‬فرد شريف رجليه و شبك أصابعه خلف رأسه متصنعا عدم األكتراث ‪:‬‬
‫واللـ ه ماعرفش بقى ‪ ،‬المهم أنها ماعندهاش مانع و كمان بتطلب منى أنى أشجعك و تخلص الموضوع‬
‫ده بسرعة ‪ .‬بأرتباك و أستغراب سحب سيجارة من علبته ثم أشعلها قبل ان تفلت منه أبتسامة‬
‫مدهوشة ‪ :‬حاجة غريبة أوى و مش مفهومة ‪ .‬أستأنف بعد أن سحب نفسا طويالّ ‪ :‬ع العموم مش‬
‫مشكلة عرفت أزاى بس اللى أنا مش فاهمه وال مستوعبه حكاية أنها موافقة و مرحبة و كمان عايزاك‬
‫تشجعنى عشان أخلص الموضوع بسرعه ؟! ‪ .‬قالها و سحب نظرته كى يتخلص من أرتباكه ‪ ،‬بينما لملم‬
‫شريف رجليه المفرودة ملقيا جملة قصد منها زيادة أرتباك والده ‪ :‬نورا بتحرضنى على أقناعك و كأنك‬
‫يعنى متردد أو لسه بتفكر و مستنى منى تشجيع ‪ ..‬ماتعرفش أنك خالص خدت قرارك !! ‪ .‬قالها و طالت‬
‫النظرة بينهما ‪ ،‬فأستشف منها خيرى تأنيبا وعتابا ‪.‬‬

‫فى تلك اللحظه كانت هدى قد وصلت البيت بصحبة بسمة بعد جولة تسوق أجبارية تنفيذا لحكم‬
‫أصدرته نورا يقضى بأرتدائها الحجاب ‪ .‬دخلتا من الباب تحتضن كل منهن كيسا كبيرا يحمل أسم‬
‫" بريونى للمحجبات " ‪.‬‬

‫بادرتهما نورا قبل أن تلتقطا أنفاسهما ‪ :‬جبتوا أيه ‪ .‬سحبت هدى كيس بريونى من بسمة ‪ :‬جبت طقم‬
‫حلو أوى حيعجبك تايير و طرحة و كام بندانة على سبيل التجربة ‪.‬‬

‫‪ -‬فرجينى ‪.‬‬

‫‪ -‬حأدخل أوضتى أغير و ألبس و شوفيه على أحسن ‪ .‬أتجهت لغرفتها بسرعة و بدأت فى أجراءات خلع‬
‫مالبسها ‪ ..‬تفحصت الجسد العارى أمام المرآة قبل أن تؤدى مراسم أرتداء الطقم الجديد ‪ ..‬تايير‬
‫فضفاض يشوق النفس إلى كشف ما يخفيه متوجة رأسها بطرحة كنارى تنسدل على الكتفين بينما تجلى‬
‫‪363‬‬
‫وجهها فى المرآة بدون ماكياج ‪ ،‬فتفتحت على شفتيها أبتسامة ‪ ..‬راق لها الحجاب الذى ينتزعها إلى‬
‫واقع جديد ‪.‬‬

‫خرجت من غرفتها و قد أختفى شعرها تحت الطرحة و أختبأ جسمها داخل التايير الواسع ‪ .‬مرت أمام‬
‫عيونهم المتفحصة بوجه يحمل جماال من نوع خاص ‪ ،‬بدت أكثر تعبيرا و وضوحا و كأن حجابها أطارا‬
‫نورانيا يسكن داخله وجها أتقن صانعه صنيعته ‪ .‬و كطباع أهل هذا البيت فى ذلك الزمان ‪ ،‬اذا جد جديدا‬
‫أو شعروا بحركة أو سمعوا همهمة يخرجون من معاقلهم ‪ ،‬فظهر يوسف يستطلع و من بعده نعمة فى‬
‫ذيل أيات كأنهما فى طابور كشافة ‪ .‬هزت هدى رأسها بأبتسامة جديدة فتحركت لها بسمة تهندم حجابها‬
‫بينما ظلت نورا ترمقها بال كلمة ‪ .‬فأقتربت هدى منها تتمايل ‪ :‬أيه رأيك كده يا نورا ؟ عاينت الهيئة‬
‫الجديدة ‪ :‬جميل !! ‪ .‬مظهرها الجديد كان سببا لحالة نشاط مفاجىء دبت فى مفاصل نعمة التى سارت‬
‫دون ترنح تتحسس الطرحة ‪ :‬بسم اللـه ماشاء اللـه وشك زى القمر يا ست هدى ‪.‬‬

‫‪ -‬كتر خيرك يا نعمة ‪ .‬أبتسامة مجاملة أبداها يوسف الذى أستند بظهره بجوار غرفته حين توجهت إليه‬
‫بخطوة عارضة أزياء ‪ :‬أيه رأيك كده يا يوسف ؟‪ .‬بدا غير مهتم رغم محاولته أظهار جدية ‪ :‬كده أحلى‬
‫من األول ‪ .‬قالها و فى قرارة نفسه لم يلحظ جديدا ‪ .‬فرحت بتعليقه ‪ :‬لو أعرف أن ده رأيك كنت عملتها‬
‫من زمان ‪ .‬ألقت نظرة من وراء كتفه وقد أبتل جبينها عرقا تحت وطأة الحجاب الذى أحاط رأسها‬
‫و صدغيها ‪ :‬نور الصالون منور ليه كان عندنا ضيوف وال أيه ؟ لم يعلق و كأن السؤال ال يعنيه‬
‫فتطوعت نعمة ‪ :‬شريف أبن األستاذ خيرى كان هنا و لسه ماشى ‪ .‬رفعت حاجبيها ثم توجهت بغمزة‬
‫ناحية نورا ‪ :‬آه ‪ ..‬عشان كده أنتى زى القمر النهاردة ‪ .‬تصنعت خجال ‪ :‬وال قمر وال حاجة ‪ .‬ثم أشاحت‬
‫بوجهها لنعمة ‪ :‬محتاجة كباية شاى ضرورى ‪ .‬شعرت هدى بأنها أدت المطلوب منها كما أمرت أبنتها ‪،‬‬
‫فأنحرفت ناحيتها قبل أن تتوجه لغرفتها ‪ :‬مبسوطه كده يا نورا ‪.‬‬

‫‪ -‬آه كده حلو ‪ .‬تصريح مقتضب قابلته هدى بحالة من البحث الدائم عن سبب واحد منطقى يصلح لتبرير‬
‫تلك المعاملة الجافة رغم أنصياعها التام لكل شرط أو مالحظة أبدتها أبنتها دون جدال ‪ ..‬لم تجد تفسيرا‬
‫وال حتى فهما ‪ ،‬فكان الهم و األحباط هما رفيقاها حتى باب غرفتها محاطة بنظراتهم و كأنهم يكتشفوها‬
‫من جديد ‪ .‬أوصدت الباب خلفها بينما أنسحب يوسف الى غرفته يعانى من كل أنواع الفراغات ‪،‬‬
‫العاطفى والنفسىوالمعنوى بدا كمدمن فى بداية رحلة عالج حين يرافق األضطراب والعصبية وقلة النوم‬
‫مرحلة أنسحاب المخدر من الجسم‪.‬‬
‫‪364‬‬
‫تفرق الجميع كل لحال سبيله ‪ .‬نعمة فى مهمة رسمية لتحضير كوب شاى لنورا بينما سبقتها أيات‬
‫لغرفتها فى حين أدت بسمة المطلوب منها بحياد و كأنها تؤدى دورا وظيفيا بال أنحيازودون أبداء‬
‫رأى ‪ ..‬فى حين جلست نورا بمفردها فى الصالة بوضعية األسترخاء تقيم أحداث اليوم من كل جوانبه ‪.‬‬

‫بينما هدى فى غرفتها تحمل رأس تسحقه أفكاروخياالت ‪ ..‬لم تعد قادرة على التنبؤ واألستنتاج ‪ ..‬تاهت‬
‫التفسيرات وتداخلت األفكار فى عقلها بعدما الحظت اليوم تغييرا جذريا فى سلوك بسمة التى كانت‬
‫ساهمة مرهقة خاصمت الفرحة مالمحها بدت كعجوز بوجه فتاة ‪ ..‬لم تتكلم كثيرا كعادتها ‪ ،‬كانت حذرة‬
‫أو ربما متزنة ‪ ..‬أتزان غريب و غير مفهوم ‪ ،‬عبارات جليدية مختصرة هى اجمالى ما نطقته بسمة‬
‫طوال ثالث ساعات ‪ ..‬هاجمها شعور متنامى بأن أبنائها الثالثة أصابهم مرضا نادرا أعراضه ال تقبل‬
‫التأويل ‪ :‬أحساس بالغربة تجاهها‪ ،‬أصبحوا فى لحظة بعيدين عنها بالرغم من محاوالتها الحثيثة أن‬
‫تلغى هذه المسافة و تقترب منهم ‪ ،‬لكنهم ظلوا يتعاملون معها عن بعد ‪ ..‬شىء ما كانت تلحظه فى‬
‫أصواتهم ‪ ،‬و نظراتهم‪ ،‬شىء جديد ‪ ،‬كأنهم يرونها من خالل ستار يفصلها عنهم ‪ ..‬تذرعت بالصبر ‪..‬‬
‫أحتملت كالم نورا المتعجرف ثم ثوراتها التى تهب دون مقدمات و دون سبب ‪ ,‬أصبح الصمت ردها‬
‫الوحيد عليها ‪ .‬أصبحت تخشاهم ‪ ..‬كل همها أن تحتفظ بهم ‪ ..‬تخشى أن تفقدهم ‪ .‬تحولت للمرآة تنظر‬
‫فى عينيها قبل أن تعبث بطرحتها ‪ ،‬سحبت طرفها الملفوف خلف رأسها ثم طرفها الثانى فتحررت‬
‫وتركتها مدالة فوق نهديها ثم أعادت لفها ثانية حول رأسها لكن بصياغة قديمة حين جعلتها غير محكمة‬
‫حول أستدارة وجهها ‪ ،‬واجهت صورتها فى المرآة ‪ ..‬تراجعت خطوة للوراء عندما شعرت بالخوف‬
‫فنزعت طرحتها بعنف حين تجسدت أمام عينيها صورة حجابها أيام سجنها ‪.‬‬

‫مر عليها وقت غير معلوم وهى ممددة ‪ ..‬صعدت بعينيها مرات ومرات ‪..‬إلى السقف والنجفة والنافذة‬
‫قبل أن تزحف نزوال ناحية السجادة واألرضية وفردة حذاءها المقلوب فتحولت الى كتلة صماء من‬
‫الملل ‪ ..‬تقلبت على جنبها األيمن للمرة العاشرة قبل أن يرن هاتفها ‪ ،‬فأهتز جسدها وأنقضت عليه بكل‬
‫مافيها من تشوق كأنقضاض موظف حكومة على راتبه أخر الشهر ‪ ..‬أحساس الملهوف المكروب حين‬
‫يعثر على طوق نجاة ‪ ..‬هاهو المنقذ سمير الليل قاتل الوحدة ‪ ..‬نفس البداية همسات خافتة ونبرات‬
‫متحشرجة ‪ :‬أيوه ياخيرى ‪ .‬حيوية طارئة حين أجابته ‪ :‬أل مش نايمة ‪.‬‬

‫صوته الرتيب يحمل كلمته المعتادة يوميا ‪ :‬وحشتينى ‪ .‬بأبتسامة معتادة تلخص ردها يشعر بها من‬
‫خالل أنفاسها ‪.‬‬
‫‪365‬‬
‫ــ أشتريتى أيه النهاردة ‪ .‬فلتت منها ضحكة ‪ :‬تايير أسود وطرحة كنارى وشوية بندانات ‪.‬‬

‫ــ تمام ‪ ..‬األسود حيبقى خطير عليكى ‪.‬‬

‫ــ ده طقم كده على سبيل التجربة وبعد كده زيزيت حتظبطنى ‪.‬‬

‫ــ وشكلك عامل أزاى فى الحجاب ‪.‬‬

‫ــ لما تشوفنى أبقى أحكم أنت ‪.‬‬

‫ــ حجاب من غير حجاب عجبانى واللـه وماتفرقش معايا وكله دلوقتى بقى البس حجاب ‪.‬‬

‫ــ هو الحجاب عيب ‪ ..‬عقبالك بقى ؟! ضحكت ‪.‬‬

‫ــ أتحجب ‪.‬‬

‫ــ أل تربى دقنك هو مش رئيسك بدقن ‪.‬‬

‫ــ رئيسى مين ‪.‬‬

‫ــ الشيخ مرسى ‪.‬‬

‫ــ آه ‪.‬‬

‫ــ عارفة أنك مخنوق وجايب أخرك من وضع البلد ومن اللى بيحصل فيها والنهاردة بالذات أخدت‬
‫بالى أوى ‪.‬‬

‫ــ أشمعنى النهاردة ‪.‬‬

‫ــ وأنا بلف على المحالت مع بسمة لقيت الناس أرفانة وروحهم فى مناخيرهم ومش طايقين بعض وكله‬
‫بيشتكى من الحال الواقف والفوضى اللى فى كل حتة وتقريبا كلهم بيقولوا أن مرسى واألخوان حيودوا‬
‫البلد فى داهية ‪ .‬تسلم جملتها األخيرة وأنفتحت طاقة من الغضب ‪ :‬مرسى واألخوان خطفوا البلد فى‬
‫غمضة عين ومستحيل الناس حتسيبهم يكملوا سنة كمان ‪.‬‬

‫ــ بس الناس بتقول مادام الجماعة دول وصلوا للحكم مش حيسيبوه أبدا ‪.‬‬
‫‪366‬‬
‫ــ متهيألك الشعب بتاعنا ده أتحمل الفقر والمرض وقلة الشغل والبهدلة سنين طويلة وعايشين‬
‫ومتحملين وبيقولوا الصبر مفتاح الفرج وعندهم أمل األحوال تتصلح ومستعدين كمان يصبروا بقيت‬
‫عمرهم لكن مستحيل يصبروا أبدا على جماعة طلعتلهم من تحت األرض عايزه تشقلب تفكيرهم وتلغى‬
‫شخصيتهم ويزرعولهم عقول غير عقولهم وينصبوا عليهم بأسم الدين ويحشروا البلد كلها فى جالبية‬
‫ودقن ‪ ..‬مستحيل ‪ .‬كان أداؤه عصبيا ‪.‬‬

‫ــ طب خالص ماتزعلش أنا غلطانة ‪ ..‬غير الموضوع ‪.‬‬

‫ــ أنتى عرفتى أن شريف كان عندكم النهاردة ‪ .‬أحاطت جبينها بكفها ‪ :‬أول مادخلت نعمة قالتلى ده لسه‬
‫ماشى ‪ .‬أستعمل نبرة الفوازير ‪ :‬وعرفتى نورا قالتله أيه ؟‪ .‬عبثت بخصالت شعرها ‪ :‬بصراحة ماسألتش‬
‫ماحبتش أحرجها ‪.‬‬

‫ــ كالمهم كله كان علينا أحنا األتنين ‪ .‬قطبت جبينها مستغربة ‪ :‬على مين ؟‪ .‬رفع صوته ‪ :‬على أنا‬
‫وأنتى ‪.‬مشت بظهرها حتى ألصقته بظهر السرير ‪ :‬ليه ياخيرى ؟ ‪.‬‬

‫ــ نورا بنتك متحمسة أوى وموافقة على موضوع جوازنا ‪ .‬همد فجأة جسدها وهمد التليفون على أذنها‬
‫وبدا صوتها متوترا ‪ :‬وليه شريف ياخد رأيها فى حاجة زى دى وليه أنت أصال سمحتله يفاتحها فى‬
‫الموضوع ده ‪.‬‬

‫ــ ياستى ال أنا والشريف عملنا كده بنتك هى اللى فتحت الموضوع من نفسها ومش كده وبس دى كمان‬
‫شجعته أنه يقنعنى أخلص موضوع الجواز ده بسرعه وأبقى أسألى نفسك بنتك عرفت حكايتنا منين ؟!‬
‫نبرة عصبية كان يستخدمها ألول مرة مع هدى ‪ .‬أهتزت بها الغرفة حين أنهى تصريحه ‪ ..‬دقيقة كاملة‬
‫أنفصلت فيها عن العالم ‪ ،‬كانت قابعة فى ركن ما فى الكون قبل أن تعود بعقل معطل وعيون تدور فى‬
‫الغرفة تتبين مكان وجودها ‪ ..‬شعور غريب يتملكها ‪ ،‬بأنها عارية مكشوفة تتطلع اليها عشرات االالف‬
‫من العيون وكأنها تنام داخل " صينية " ميدان التحرير فى " مليونيه قندهار " ‪.‬‬

‫ــ هدى ‪ ..‬ياهدى ‪ .‬بدا لها نداءه كصوت ريح يتردد فى خلفية حلم تدور أحداثه حول أنسانة ضاعت فى‬
‫أحراش غابة فى ليلة ظلماء ‪ .‬أستعجلها ‪ :‬ماتردى على ياهدى ! ‪ .‬بالكاد خرج صوتها ‪ :‬نورا عرفت‬
‫منين ياخيرى ؟! ‪.‬‬

‫‪367‬‬
‫ــ واللـه ماأعرف لدرجة أن شريف لما سمع الكالم ده منها كانت مفاجأة بالنسبة له ده كان فاكر أنها‬
‫عايزاه عشان محتاجة تتكلم معاه فى مواضيع تخصهم همه ‪ ،‬أنا اللى بأسألك ياهدى بنتك عرفت‬
‫أزاى ؟!ّ زادت ضربات قلبها مع سؤاله األخير ‪ ،‬حاولت استرجاع وقائع أخر أسبوع لعلها تصل الى‬
‫الثغرة التى نفذت منها نورا الى سرها العظيم !!‪ .‬دار بعقلها عدة احتماالت ‪ :‬أستبعدت شريف بعد نفى‬
‫خيرى القاطع لها ‪ ،‬أجتهاد شخصى من أبنتها فرضته واقعة خيرى والموبايل حين أهداه لها أو ربما‬
‫سقط منها سهوا عبارة أو كلمة تخص خيرى أستفادت منها نورا وبنت عليها موقفها أو تكون قد‬
‫تصنتت عليها أثناء مكالماتها الليلية ‪ .‬مسكت فى رقبة هذا األحتمال ورجحته ‪.‬‬

‫ــ مش قادرة أفهم كالم نورا ده وراه أيه ؟‪ .‬أختنق صوته ‪ :‬وراه اللى وراه تفرق أيه يعنى ‪ ..‬خدى‬
‫األمور ببساطة من غير تعقيد ‪ ..‬ليه دايما بتنسى أن نورا بنتك وأنتى أمها وأكيد يهمها سعادتك ‪ .‬تعمدت‬
‫عدم الرد ‪ ..‬أى تعقيب سيكون جارحا لها وألبنتها ‪ ،‬هى التقدر أن تطرح أمامه ماتوصلت اليه من نتائج‬
‫موثقة باألفعال وفى مقدمتها نفسية أبنتها المتأزمة من وجودها فى البيت واالتيليه ‪ .‬جذبها الصمت وقلة‬
‫الحيلة إلى عدم التفكير بينما تفهم هو سكوتها ولم يفهم قلقها المفرط ‪.‬‬

‫ــ عارف أنك متضايقة ومرتبكة وفاهم أنك كنتى عايزة األمور تاخد وقتها بينى وبينك ‪ ،‬لكن قدر اللـه‬
‫ماشاء فعل ‪ ..‬حنعمل أيه بقى ‪ .‬حاول القفز بها الى مواضيع متفرقة قاصدا التقليل من قيمة الحدث‬
‫الذىهز كيان معشوقته التى عاودت اللف من جديد حول نقطة البداية حين فجرت سؤاال جديدا ‪ :‬طب هى‬
‫ليه عايزانى أتجوزوبسرعة مع أن جوازى منك ممكن يكون ضد مصلحتها؟!‪ .‬ربما تعرف لكنها واجهته‬
‫به‪.‬‬

‫ــ من غير شرح وال كالم كتير ياهدى أنتى فاهمة وأنا فاهم أن نورا مش طايقة وجودك فى البيت هى‬
‫شايفه أن جوازك حيبقى فيه مصلحة كبيرة بالنسبة لها ‪ .‬هزمتها كلماته ‪ ،‬كان صادما صارما ‪ .‬سكت‬
‫للحظات ثم تابع حين سمع صوت أنفاسها المضطربة كالذى يتهيأ لطعنة سكين ‪.‬‬

‫ــ أنا مش قصدى يعنى أنها بتكرهك والمتضايقة من وجودك بالمعنى اللى أنتى فهمتيه ‪ ..‬الحكاية كلها‬
‫أنها شايفة من وجهة نظرها أن البيت بأللى فيه ملكية خاصة لها ومش عايزة أى حد يتدخل وال يكون‬
‫له دور حتى لو كان الحد ده هو أمها ‪.‬‬

‫‪368‬‬
‫لم يصله سوى دموعها التى شعر بها من خالل شهقاتها ‪ .‬فتابع متأثرا بعد ما أستعاد رصانته التى‬
‫فارقته الليلة ‪ :‬أرجوكى ياهدى أنا مش عايزك تبقى ضعيفة ياريت تفكرى بعقلك مش بقلبك جوازنا‬
‫حيبقى حل منطقى لكل المشاكل وخليكى زى نورا فكرى بواقعية زيها هى شايفة ان جوازنا حيكون حل‬
‫سحرى بالنسبة لها وأنا متأكد أنك لما تبعدى شوية الكل حيرتاح أنتى وهمه ‪.‬‬

‫ــ عندك حق ‪ .‬قالتها مقهورة ثم نوهت بأقتضاب ‪ :‬أنا حأنام دلوقتى ياخيرى وبكرة نكمل كالمنا ‪.‬‬

‫ــ براحتك ياهدى مع أنى متأكد أن الليلة عينيكى مش حتغفل وال حتشوف النوم بس معلش كله حيعدى‪.‬‬

‫ــ تصبح على خير ‪ ..‬سقط التليفون من يدها واألحتقان يمأل خريطة وجهها وبدا الليل مثل وحش‬
‫اليرحم ‪ .‬شعرت أنها تعيش زمنا عصيبا غير مألوف ال هو بالحاضر‪ ،‬وال هو بالسالف ‪.‬‬

‫لم تسأل نفسها حين ضمت ركبتيها الى صدرها أن كانت تعبر كابوسا سرعان ماتصحو منه ‪ .‬ثم نظرت‬
‫حولها كأنها تلتمس العون ‪ .‬سيكون الليل حتما ضيفا ثقيال عليها ‪.‬‬

‫فى اليوم التالى كانت دعوة غريبة تلقتها " بسمة " حين رن هاتفها وهى تتابع بملل على الكمبيوتر‬
‫وصفات الماسكات التى تعالج البشرة على صفحة عالمة متخصصة خريجة معهد سياحة وفنادق !‪.‬‬
‫أنفصلت عن قرينها الذى ألتصقت به أكثر مما يلزم فى الفترة األخيرة ‪ ..‬نظرت فى شاشة الموبايل قبل‬
‫أن تجيب ‪ :‬أيوه يانورا ‪ ..‬مابعملش حاجة قاعدة ع النت ‪ .‬ضيقت عينيها ‪ :‬نخرج نروح فين ؟‪ .‬أخترق‬
‫صوت نورا نسيج الكآبة الذى يحاصرها ‪ :‬أى حتة نغير جو بدل قعدتك المنيلة دى ‪ ،‬المهم أنا قدامى‬
‫نص ساعة جهزى نفسك أنتى ويوسف وخليه ياخد مفاتيح العربية من عمتى ‪ .‬أنتهت المكالمة وفى‬
‫أعقابها نفضت رأسها من ماسك الباذنجان بالطحينة وقامت تتبع التعليمات كما تلقتها من اختها تحملها‬
‫بال تعبير لغرفة يوسف وهى تحدث نفسها ساخرة ‪ :‬هو فى تغيير أكتر من اللى أحنا فيه ده !!‪.‬‬

‫نصف ساعة بالتمام وكان يوسف يقود سيارة عمته بأتجاه " كارفور" بعدما وقع عليه األختيار كموقع‬
‫مناسب ووحيد فى الوقت الحالى لتغيير حالة الرتابة والذى صار قبلة السكندريين ومتنفسهم الشرعى‬
‫بعد أن تراجع الكورنيش وطريق البحر إلى مرتبة متدنية بعد ماأشهرت معظم الكافتيريات المطلة على‬
‫البحر أفالسها فى ظل وضع غريب وشاذ بعدما تحول طريق الكورنيش إلى مأساة تدرب النفس على‬
‫الصبر والسلوان وأختبارا قاسيا على قدرة التحمل حين تجد نفسك راكدا داخل أطول " جراج "‬

‫‪369‬‬
‫باالسكندرية تحيطك الظلمة من كل جانب اليضيئه سوى كشافات السيارات المستسلمة ووميض السجائر‬
‫التى تنشط على شفاه المحبوسين أنتظارا للحظة الفرج ‪.‬‬

‫هبطوا من جوف السيارة بمالمح جادة ‪ .‬كان يبدو عليهم انهم أزاء مهمة ‪ ..‬أقتضاب ووجوم وكأنهم‬
‫مدعوون ألجتماع يناقش أزمة ـ أتجهوا للبوابة الرئيسية لـ " كارفور " ‪ .‬دخلوا مع الداخلين قبل أن‬
‫ينحرفوا يسارا حيث مربع الكافيتريات وسط افواج الحجيج الذين جاءوا من كل حد وصوب احتفاال‬
‫بمولد سيدى " كارفور " العاشرة ‪.‬‬

‫عالم صاخب يديره الجيل الصاعد بأمال وأحالم كبيرة بحجم فتاة ضربها هرمون " الفراخ البيضا "‬
‫يتعقبها من الخلف من قنع بحلم صغير فى حدود " فرك " النهدين وأعتالء الردفين بما يمتلكه من‬
‫قدرات ال تتعدى فى أحسن األحوال تيشرت ملون بـ " زنط " ومؤخرة تتراقص فى بنطلون " جينز "‬
‫ساقط يطوى داخله ثورة وتمرد تتأرجح بين الجد والهزل ‪ .‬أنسلتوا من بين جموع الداخلين ناحية‬
‫كافيتريا " كارلوس " على يمين الممرالطويل المؤدى إلى الهيبر وسط جو عام من التفاهم والرضا جمع‬
‫بين فتيات األسك ندرية بشباب المحافظة ‪ .‬عند مدخل " كارلوس " لم تعقب بسمة حين سألتها نورا ‪:‬‬
‫نقعد بره والجوه ؟‪ .‬بالداخل كانت األضاءة خافتة تسمح بالخصوصية وتفسح مجاال واسعا لأليادى‬
‫المتوغلة كى تؤدى وظيفتها ‪ ..‬الجو مهيأ لكل فعل ‪ ..‬أنها ملحمة !! ‪ ..‬نظرة طويلة من يوسف قرأ‬
‫خاللها الفاتحة على روح األيام الخوالى ثم تولى األجابة متنهدا ‪ :‬خلينا بره أحسن ‪ .‬بينما تبحث نورا‬
‫بعينيها عن مكان يصلح ألدارة جلسة دون ضجيج ‪ .‬دقيقة واحدة كانت كافية ليستوى كل منهم على‬
‫مقعده حين هداهم جرسون نشيط صاحب أبتسامة مزيفة لمنضدة فى موقع متميز تطل على الداخل‬
‫والخارج ‪ ..‬تحلقوا حولها وفى حوزة كل منهم أوجاعا نفسية ونظرات غير مستقرة ‪ ،‬أستعجلت نورا‬
‫الجرسون باشارة من يدها لتنهى مقدمات الجلسة األجرائية قبل أن تشرع فى جدول األعمال ‪ .‬تجول‬
‫يوسف بعينيه حين رجع بظهره الى مسند كرسيه وهو يتابع فوج بنات تحت السن يتسابقن بخطوات‬
‫مدروسة على أيقاع " الواحدة ونص" تذكر حين حضر العام الماضى بصحبة هدير يوم عيد الحب ‪،‬‬
‫أشترى لها دبدوب أحمر مقابل زجاجة برفان فرنساوى حصل عليها مع قبلة خاطفة حين دلفا السيارة ‪.‬‬
‫تشكلت على شفتيه أبتسامة عندما داهمته الذكرى قبل أن ترحل على صوت أتاه من خلف رأسه ‪ :‬أؤمر‬
‫سعادتك ‪.‬‬

‫‪370‬‬
‫ــ أخد واحد كابوتشينو ‪ .‬تيمنا بجلسته األخيرة مع الخواجة ثم تلفت لبسمة التى اختارت ‪ :‬أى عصير‬
‫فريش ‪.‬‬

‫ــ وأنا قهوة مظبوط ‪ .‬دون المطلوب فى نوتة ورحل ‪.‬‬

‫دقائق بطيئة مرت قبل أن تفتتح نورا الجلسة ‪ :‬مالكو مسهمين كده ليه ‪ ..‬فى أيه ؟!‪.‬‬

‫كانا فاقدى النطق ‪ ..‬شيئا مابداخلها بدأ يفور ويطلق أبخرة غضب ‪ .‬أردفت ‪ :‬أنا نفسى أسألكوسؤال أنتو‬
‫األتنين ‪ ..‬هى أحالمكم كلها كانت واقفة على سى أمجد والست هدير ‪ ..‬هو ده المستقبل اللى كنتو‬
‫راسمينه هى دى الرجولة يايوسف ووعدك لى أنك حتبقى راجل البيت وتقف جنبى ودى الثقة بالنفس‬
‫اللى قلبتى بيها دماغنا ياست بسمة ‪ ..‬ياه واللـه العظيم أنا مامصدقة نفسى خيبتى فيكم مالهاش حدود ‪.‬‬
‫أدلى يوسف برأسه حين ذكر أسم هدير على لسان نورا بينما شردت بسمة للحظات‪ ..‬أثار منظرهما‬
‫حفيظة نورا التى زاد أنفعالها حين رأت أمامها كيانان غريبان ينخرهما اليأس بال أدنى مقاومة ‪..‬‬
‫يتابعان عصبيتها بحياد بارد ‪ .‬فأرتفع صوتها ‪ :‬ده مش وقت سرحان والتوهان كل واحد فيكم الزم يفوق‬
‫وينتبه لمستقبله ‪ ..‬أيه الوكسة اللى بقيتو فيها دى ‪ ..‬معقولة تبقوا بالضعف ده عاملين زى حته األزاز‬
‫أى خبطة وال صدمة تكسركم وتخليكم بالمنظر الكئيب ده وكأن خالص القيامة قامت والدنيا أنتهت ‪.‬‬
‫تابعت حين أرسلت نظرة خصت بها يوسف ‪ :‬هو أنت ذاكرت وتعبت وأتخرجت من كلية الهندسة ليه ‪..‬‬
‫عشان تقعد فى البيت وتطول دقنك وتعيش على الذكريات ‪ ،‬هى هدير بتاعتك حابسة نفسها زيك كده ليل‬
‫ونهار فى أوضتها وموقفة حياتها كلها عشان خاطر سيادتك ‪ ،‬أكيد أل وأنت شفت بعينيك لمارحت مكتب‬
‫ناجى كانت هيه موجودة وبتشتغل وعايزة تثبت وجودها مع انها أصال مش محتاجة أى حاجة ‪ ..‬كفاية‬
‫بقى يايوسف وفوق شوية وبص لمستقبلك وألحق نفسك وأرجع لمكتب المهندس ناجى قبل ماتخسر‬
‫مكانك فيه وتضيع فرصة حتندم عليها كتير ‪ .‬هز رأسه دون أن ينظر اليها ‪ :‬أنا أتصلت أمبارح‬
‫بالمهندسة أيمان وقلتلها أن كان عندى ظروف عائلية وحآجى يوم السبت ‪.‬‬

‫ــ طبعا قالتلك شكرا خليك مستريح فى بيتكم ‪ .‬جملة قالتها بسمة بأستخفاف ‪.‬‬

‫ــ بالعكس كانت رقيقة جدا معايا وقالتلى مافيش مشكلة ودى حاجة غريبة أنامش فاهمها لغاية دلوقتى ‪.‬‬

‫ــ وال غريبة وال حاجة دى تالقيها توصية ياباشا ‪ .‬كان ذلك تنويها من نورا ‪ .‬لمعت صورة هدير فى‬
‫ذهنه حين جرجرته كلماتها لبقايا أمل بتالعب فى أعماقه ‪ .‬هز رأسه وجسده مسجون فى عجزه عن‬
‫‪371‬‬
‫مقاومة غيابها ‪ ..‬لحظة صمت حين باغتهم الجرسون يفرغ حمولته ‪ ..‬كابوتشينو امام بسمة سحبه‬
‫يوسف مذكرا تلك األلة التى تقف فوق رءوسهم ‪ :‬ده بتاعى أنا ‪ .‬ثم نزل بعصير البرتقال امام نورا التى‬
‫ازاحته الى منطقة بسمة مرددة ‪ :‬أكيد حضرتك كده فهمت أن القهوة دى بتاعتى ‪ .‬أبتسامة غبية ‪ :‬صح‬
‫سيادتك ‪.‬سندت نورا مرفقيها على المنضدة وبينهما فنجان القهوة وتحولت ناحية أختها التى تنتظر‬
‫نصيبها من الهجوم ‪ :‬يعنى أنا ممكن أفهم الحالة اللى أخوكى فيها وأعذره مع أنى أرفانه من حالة‬
‫البؤس اللى هو فيها لكن اللى مش فهماه وحيجننى حالتك النيلة دى ‪ ..‬قافلة على نفسك وعايشة دور‬
‫المطلقة البتروحى والبتيجى عشان أيه كل ده ‪ ..‬عشان سى أمجد الشاب الهاى كالس أبن األكابر ‪..‬‬
‫أنتى أكيد حصلك حاجة فى دماغك ‪ .‬تنصت إليها وعيناها التفارقان شوب العصير ‪ .‬فأستأنفت ساخرة ‪:‬‬
‫ونبى مش مكسوفة من نفسك لما يبقى واحد فى مستوى أمجد ده وحالته العدمانة دى يبعد عنك ويهرب‬
‫بمجرد ماصارحتيه بحكاية ماما ‪ .‬جملة أطاحت بما تبقى لها من أعذار كانت تلتمسها له فسقطت نظرتها‬
‫أرضا حين أجهزت عليها نورا بحقيقة دامغة حاولت مرارا أن تتحاشاها ‪ :‬كده األمور بقت واضحة أوى‬
‫ومش محتاجة فتاكة سى أمجد بتاعك ده لما قرر يحبك كان عارف بالظبط هو عايز منك أيه ولما أتمكن‬
‫من عقلك وقلبك وعرف أنك فرصة بالنسبة له جهزخطته وكان عايز ييجى يكلم ماما ويتقدملك‬
‫ولما سيادتك صارحتيه بالحقيقة وعرف أن الليلة كلها كدبة كبيرة ومافيش خليج والعقود والفلوس خد‬
‫بعضه وقال يافكيك عشان اللى زى أمجد ده مايهمهوش غير مصلحته وبس ‪ .‬عضت شفتها فى أسف ‪:‬‬
‫عندك حق ‪ .‬قالتها بضعف وخجل بينما أبدى يوسف تأييدا وهو يداعب شوب الكابتشينو ‪ :‬خالص بقى‬
‫يانورااللى حصل حصل وده درس لنا أحنا األتنين أو على األقل لى أنا‪ .‬لم تتراجع أمام كلمات الندم‬
‫وظلت على حدتها ‪ :‬ماقلتش لنفسك الكالم ده ليه من األول كنت مستنى لما تسمع منى كلمتين تأنيب‬
‫ع شان تفوق من اللى أنت فيه ‪ .‬ظلت ترمقهما لثوان ثم أشاحت بوجهها مستنكرة وهى تردد جملة دائما‬
‫ماتقال فى مثل تلك الحالة ‪ :‬أيه لعب العيال ده !! ‪.‬‬

‫لحظات هدوء وتأمل ‪ ..‬أنشغل كل منهم بمشروبه ومتابعة الوفود الداخلة وكأنهم أمام شاشة عرض‬
‫سينمائى يتابعون فيلما شبابيا بأمتياز يتخلله بعض اللقطات لبعض كبار السن كضيوف شرف ‪ .‬أنهت‬
‫نورا رشفتها األخيرة من فنجان القهوة قبل أن تستعيد أنتباهما بكحة مصطنعة ثم مالت بصدرها وهى‬
‫تضع على وجهها قناعا من الجدية ‪ :‬ركزوا معايا شوية وخلونا نفكر مع بعض حنعمل أيه فى اللى‬
‫جاى ؟ ‪.‬‬

‫‪372‬‬
‫ــ فى أيه يانورا ؟ سأل يوسف قبل أن يفرغ الدفعة األخيرة من الكابتشينو فى جوفه ‪.‬‬

‫ــ فى موضوع ماما ‪ .‬بسذاجة علقت بسمة ‪ :‬هى مش أتحجبت خالص ‪.‬‬

‫ــ حجاب أيه اللى بتتكلمى عنه هو كل اللى أحنا فيه ده وعيشتكم المتكعبلة دى كانت واقفة بس على‬
‫حجاب ماما ‪ ..‬ياريت كانت تبقى بسيطة ‪ ..‬مش عايزين نضحك على بعض أنتو فاهمين كويس أن‬
‫مشكلتنا كبيرة ومايعلم بيها إال ربنا ظروفنا دلوقتى بقت غير األول ‪ ،‬يعنى الزم نشوف حنعمل أيه وندور‬
‫لنا على حل ‪.‬‬

‫ــ طب أنتى شايفة أيه ؟ ‪.‬‬

‫ــ أنا شايفه يايوسف أن مشكلتنا كلها بقت فى وجود ماما معانا ‪ .‬قالتها وكانت تنتفض وكأنها تستعيد‬
‫كل المعارك التى دخلتها ‪ ..‬ثم تهدأ للحظات كأنها تأبى األستسالم ‪ .‬تابعت فى أصرار ‪ :‬ماعدش ينفع‬
‫طبطبة والكالم مزوق الناس دلوقتى مابترحمش والعايزين ينسوا واليغفروا والحتى يسيبونا فى‬
‫حالنا ‪ ..‬ليه أحنا أصال ندفع تمن مالناش ذنب فيه وأنت وأختك جربتو بنفسكم وشفتو بعينيكم عند الجد‬
‫كله بيهرب مافيش حد بيعذر وال فى حد عنده أستعداد يقرب من ناس أمهم دخلت السجن عشر سنين فى‬
‫جريمة قتل !‪ ..‬كانت تتحدث بلسان ساخن تلسعه نار الخوف الشديد على مستقبل أصبح تحت سطوة‬
‫التهديد ‪ .‬تريد أن تقنعهما بأنهما أمام حالة وقضية ‪ ..‬تتطلبان حال ؟!‪.‬‬

‫ــ بتفكرى فى أيه يانورا ؟ سكتت للحظات قبل أن تجيب على سؤال بسمة رمقت خاللها يوسف الذى‬
‫أدرك أن تلك المقدمة ماهى اال تمهيدا لقرارات صعبة قادمة ‪.‬‬

‫ــ ماما حتتجوز عمو خيرى ‪.‬‬

‫ــ بصراحة أنا مش داخلة دماغى الحكاية دى خالص ‪ .‬بدا متحفظا عند ذكر كلمة " جواز " كان يجد‬
‫صعوبة فى تخيلها ‪.‬‬

‫ــ ال عيب والحرام ده جواز على سنة اللـه ورسوله ‪.‬‬

‫ــ يعنى أنتى متأكدة أن فيه أرتياح بين ماما وعمو خيرى ‪.‬‬

‫‪373‬‬
‫ــ يابنتى عمو خيرى عرض عليها الجواز فعال بس هى محتارة ومترددة شوية يعنى ممكن تقولى كده‬
‫خايفة أو قلقانه عشان كده طلبت منه التأجيل ‪.‬‬

‫ــ نفسى أعرف جبتى الكالم ده منين ‪ .‬قالتها بسمة بدهشة ‪.‬‬

‫ــ مش ده المهم أنا اللى يهمنى أننا نأخدخطوة لقدام ‪.‬‬

‫ــ قبل مانأخد خطوة يانورا أنا مش فاهم جواز ماما حيفرق معانا فى أيه ‪ ،‬اللى حيتغير فى حياتنا ؟!‪.‬‬

‫ــ جواز ماما هو اللى حينقذ حياتنا كلها ويأمن مستقبلكم ويكفينا ان ماما حتبقى فى رقبة حد تانى‬
‫ويتحمل مسئوليتها والناس ساعتها حيبقى لها الظاهروانتو حتحسو بالفرق الكبيرة لما تكون المشكلة‬
‫عايشة معاكوفى مكان واحد ونتحرق بنارها وبين لما تكون المشكلة بعيد عنكو‪ ..‬ماتنسوش كمان أن‬
‫عمو خيرى يعتبر فرصة كبيرة لماما ولنا بوضعه ووجاهته وبرستيجه وده طبعا حيجمل كتير من صورة‬
‫ماما وصورتنا وأكيد مع الوقت الناس حتنسى وحيتعاملوا معاها ومعانا على أنها لها حياتها الخاصة‬
‫وأحنا لنا حياتنا ‪ .‬نجحت فى سحبهما إلى منطقها ‪ .‬إال أنه نظر لها فى حيرة ‪ :‬يعنى معنى كالمك أن‬
‫ماضى ماما حيسبنا فى حالنا ومش حيجرى ورانا فى كل حتة ‪ .‬قالها بنبرة يعزى بها نفسه ثم تاه‬
‫بنظراته شاردا فأنتظرته بعينيها حين عاد من سرحته ‪ :‬أنا ماقلتش كده أنا اللى قلته مع الوقت كل حاجة‬
‫حتتغير ‪ ..‬أنا متأكده من كده ‪ .‬سحبت بسمة نظرتها من وجه نورا حين أنتهت مبدية وجهة نظر ‪:‬‬
‫وأفرضى ماما رفضت ؟! أبتسامة ثقة سبقت ردها ‪ :‬مش شايفة أى سبب يخليها ترفض ‪ ..‬أوال هى‬
‫وعمو خيرى متفاهمين جدا وتقريبا شبه متفقين ومحتاجين لبعض جدا جدا فى المرحلة دى ‪ ،‬هى ممكن‬
‫فى األول تحس باألحراج وتحاول تبين لنا أن الموضوع أصال مش فى دماغها وبكتيره يومين تالتة‬
‫وحتوافق ‪.‬‬

‫ــ أفرضى صممت على الرفض ‪ ..‬حتعملى أيه بقى ؟ ‪.‬‬

‫ــ صدقنى مش حيبقى فى حل تانى قدامها غير أنها توافق ‪.‬‬

‫ــ بالعافية يعنى ! ‪.‬‬

‫‪374‬‬
‫ــ أل طبعا ياأستاذ لكن فى خطوة أساسية الزم تتعمل األول قبل أى كالم عن الجواز‪ .‬حركات أصابعها‬
‫المنفعلة أستولت على تركيزهما وتحاصرهما فى خانة الترقب أنتظارا لما ستقوله ‪ :‬ماما الزم تبطل شغل‬
‫‪ ..‬قالتها وسكتت تاركة جملتها تتجول فى راسيهما ‪.‬‬

‫ــ يعنى أيه ‪ .‬قالها يوسف بفزع ‪.‬‬

‫ــ يعنى خالص مافيش شغل تانى ‪.‬‬

‫ــ وده دخله أيه فى موافقتها على الجواز ؟ سؤال مشروع ألقت به بسمه فى وجه أختها ‪.‬‬

‫ــ األتيليه وزيزيت بالنسبة لماما همه حياتها ووجودها وأنا عارفة أنها حتبقى خطوة صعبة أوى عليها‬
‫لكن ماباليد حيلة ‪ ،‬مرتبها من الشغل مقويها ومخليها متمسكة بالوضع اللى هى فيه ده ومش حاسة‬
‫خالص بالمصايب اللى كل يوم والتانى بتقابلنا بسببها ده غير زيزيت اللى واقفة جنبها ومشجعاها‬
‫ومفهماها أن الدنيا حتتظبط وكل حاجة حتبقى تمام بس هى مسألة وقت واألتنين طبعا مقضينها لت‬
‫وعجن طول اليوم روسهم فى روس بعض والدنيا أخر روقان معاهم ‪ ،‬لكن لما يبقى مافيش أتيليه وال‬
‫فى زيزيت ساعتها بس ماما حتقف وقفة مع نفسها وحتراجع حساباتها كلها ومش حتالقى قدامها غير‬
‫عمو خيرى ‪ .‬تابع يوسف تحليلها بأضطراب وهو يتحاشى أطالة النظر فى عينيها شاعرا بحرج بالغ من‬
‫تداول فكرة زواج أمه ‪ ..‬سكن منكمشا داخل كرسيه اليصدق تسارع المشهد بكامله ‪ ..‬أحداث سريعة‬
‫تدفعهم بال تردد للمجهول ‪ .‬مد نظره بعفوية لبسمة التى الزالت تتحسس طريقا لتكوين رأى قبل محاولة‬
‫نورا تبديد مشاعر ملتبسة سكنت مالمحهما ‪ :‬أنا بأحاول أنقذ مايمكن أنقاذه !‪ .‬أشاحت بسمة بوجهها‬
‫عنها باحثة عن مبرر تخفف عنها شعور متنامى بالذنب ‪.‬‬

‫ــ يعنى أن تى مش شايفة أننا كده بنضغط على ماما وبنخليها توافق على حاجة غصب عنها ‪ .‬بدلت‬
‫لهجتها محاولة أكتساب تأييدهما إال أنها بددته بأنفعالها ‪ :‬غصب عنها أزاى همه األتنين بيحبوا بعض‬
‫وكالم فى التليفون طول الليل ده غير مقابالت برة اللى كل يوم والتانى أنا كل اللى حأعمله أنى‬
‫حأستعجل األمور شوية عشان خالص ماعدش حد فينا متحمل ترددها ودلعها وال هيه فاكرة أن كل‬
‫حاجة عادى وتمام والدنيا وردى وكأننا عايشين لوحدينا ومافيش ناس حوالينا وال تكون لسة فاكرة أننا‬
‫قصر ومش حنعرف ندير حياتنا ‪ .‬حاولت بسمة الرد حين تلقت جملة صارمة من نورا ‪ :‬أنا مش‬
‫بأغصب حد على حاجة غلط ياست بسمة وال بأعمل كده عشان مصلحة تخصنى أنا كل اللى يهمنى فى‬
‫‪375‬‬
‫الدنيا دى مصلحتكو أنتو األتنين ومش حأسمح لحد أبدا يخليكو تتهانوا أكتر من كده ويخلى اللى‬
‫يسوىواللى مايسواش يعايركم ‪ .‬كلمات منفعلة أصابت بسمة بالحرج بينما بات يوسف صديقا للصمت‬
‫قبل أن تطالبه نورا بالتعقيب ‪ :‬وأنت كمان مافيش حاجة فى نفسك عايز تقولها ‪ .‬كبرت القضية وصارت‬
‫بحجم خوفهما ‪ .‬ثم تردد لحظات قبل أن يسأل ‪ :‬والحكاية دى مش حتسببلك مشاكل مع زيزيت ؟ ‪.‬‬

‫ــ ماتشغلش بالك بالحكاية دى زيزيت محتاجانى أكتر ما أنا محتاجاها ‪.‬‬

‫ــ طب بالنسبة لشريف وضعه حيبقى أيه يانورا ؟ قالت بسمة بفضول بينما دار السؤال حول رأس‬
‫األخيرة قبل أن يتوقف أمامها متحديا ينتظر ردا ‪ :‬متهيألى مش حتفرق معاه كتير مادمت أنا موافقة أكيد‬
‫مش حيبقى عنده مشكلة ‪ .‬قاطعت ‪ :‬أزاى مش حتفرق معاه ده موضوع يخصه هو وأبوه ومن حقه‬
‫يبقى له رأى وأمبارح وهو قاعد معاكى كان شكله مش مرتاح للحكاية دى خالص ‪ :‬ماتشغلش بالك ‪،‬‬
‫شريف أنا عارفه أزاى أتعامل معاه ‪.‬‬

‫ــ شريف مش أهبل يانورا وأكيد فاهم كويس أنتى بتفكرى فى أيه وماتنسيش أن لو الجوازة دى تمت‬
‫يبقى مستقبله راح فى الهوا ‪ ..‬يعنى حكاية الجواز دى حتبقى ضد مصلحته ‪ .‬أتسعت عينيها بقلق ‪:‬‬
‫أزاى يعنى ؟!‪.‬‬

‫ــ شريف دايما لما كان يتكلم معايا يقولى أنا مشكلتى بسيطة غير أى شاب ‪ ..‬مش ناقصنى غير شغالنة‬
‫محترمة والباقى كله حيبقى سهل كان مخطط أنه حيتجوز مع عمو خيرى فى الشقة عشان كده حطى فى‬
‫حسابك رد فعله ‪ .‬شعر بثقتها تنسحب من وجهها حين أختصرت ردها ‪ :‬قلتلكم أنا عارفة حأتصرف‬
‫أزاى مع شريف ‪.‬‬

‫ــ لو الكالم ده قلتيه من سنة كنت ممكن أصدق ‪ ،‬لكن اللى أنا شايفاه دلوقتى مايشجعش خالص ال هو‬
‫شريف بتاع زمان اللى أحنا عارفينه وال أنتى كمان نورا اللى كان شريف بالنسبة لها كل حاجة فى‬
‫الدنيا مع أنى مش فاهمة هو أيه اللى حصل بينكم بالظبط ‪ ..‬فيه حاجة بقت واقفة بينكم ‪ .‬كان أستنتاجا‬
‫لبسمة أكثر منه رأيا تلقته نورا بتردد وثقة مهزوزة بعدما أرتدت برأسها للوراء تاركة عينيها تدور‬
‫فى وجهيهما ‪ :‬الكالم ده مش وقته أنا اللى يهمنى أكمل رسالتى معاكم وأحميكم لغاية ماكل واحد‬
‫يقف على رجليه ‪.‬‬

‫‪376‬‬
‫ــ عشان خاطرى يانورا خدى بالك من رد فعل شريف عشان ماتدفعيش التمن زينا ‪ .‬مدت يدها ناحيته‬
‫ومشت بها تتحسس كتفه ‪ :‬ماتقلقش يايوسف ‪ .‬قالت جملتها وتركتهما مع سيناريو كئيب ينبأ عن‬
‫خسارة وشبكة لعالقة تاريخية ربطتها بشريف ‪.‬‬

‫ساعة مرت والزمن يضيق بهم قبل أن تعلن نورا أنتهاء الجلسة والتى أختزلتها فى جملة واحدة ‪ :‬يبقى‬
‫أحنا كده خالص أتفقنا على كل حاجة ‪ .‬تحذير أقرب منه لتنويه رددته بصرامة فأنصاعا صامتين‪ ..‬كانت‬
‫تلك أشارة بعدم الرفض ‪.‬‬

‫ــ يبقى من بكرة حأفاتح ماما فى حكاية الشغل وحأبلغ زيزيت بالكالم ده ‪ .‬يوسف وبسمة تبادال نظرات‬
‫مستسلمة تعادلت فيها مساحات الخطر واألمان ‪ .‬يوسف ال شيىء لديه ليخسره ‪ ،‬حتى بسمة تطاردها‬
‫نفس العدوى ‪ .‬لم تشأ نورا أن تزيد كلمة عما قيل ثم فتحت حقيبتها ودست يدها فى جوفها وأخرجت‬
‫خمسون جنيها طوتها ثم وارتها تحت الفاتورة ‪ .‬قاموا وعالمات األرهاق النفسى تطل من‬
‫العيون وحزمة من األسئلة تنشط فى الرؤوس ‪ :‬هل ستنجح نورا باجالء األم من البيت دون مشاكل أو‬
‫صدام ؟ أم لهدى رأى أخر سيفشل الخطة ويعقد األمور؟ موقف شريف الغامض سيكون حاسما فى‬
‫النصرأوالهزيمة عندما يعلن عن رأيه صراحة ‪ .‬كانت تساؤالت بال احتماالت وفى أحسن األحوال‬
‫باجابات مؤجلة ‪.‬‬

‫أنسحبوا من كافيتريا " كارلوس " بأتجاه بوابة الخروج قبل أن تنحشر نورا بينهما تسأل ‪ :‬عايزين‬
‫تروحوا مكان تانى وال على البيت ؟! ‪.‬‬

‫ــ ع البيت طبعا ‪ .‬الجملة الوحيدة التى قيلت على لسانهما فى وقت واحدوبنفس الحماسة منذ لحظة‬
‫خروجهم ‪ .‬ساقتهما خلفها إلى حيث " الباركينج " ‪.‬‬

‫الفصل الثانى عشر‬

‫نعمة النظر ‪ ..‬هى أخر مافقدته فايزة حين أغمضت عينيها قبل أن ترحل بصحبة سلطان النوم الذى‬
‫قادها الى سلطنته لتطالع حلم بدايته توحى بأنه من سلسلة أحالم " األكشن " ‪ ..‬تتر سريع له خلفية‬
‫سوداء يظهر فيه أسم فايزة منفردا كبطولة مطلقة تتساقط من حروفه نقاط حمراء ضخمة بلون الدم ثم‬
‫أظلمت الشاشة تدريجيا للحظات ‪ ،‬قبل أن يبزغ فى منتصفها أسماء بقية الشخصيات حسب الظهور ‪:‬‬

‫‪377‬‬
‫عبده الجن وبدرية ونوسة ثم منصور ‪ ..‬موسيقى أفريقية خجولة تتخللها دقات طبول ذات ايقاع منتظم‬
‫تصاحب خطوات سريعة الهثة لفايزة تقودها داخل حوارى متشابكة وملتفة ‪ ..‬تتفادى فى طريقها أجسام‬
‫بشرية غريبة ذات رؤوس صلعاء ووجوه بال مالمح سوى عين واحدة فى مقدمة الجبهة وجلود عارية‬
‫ال يسترعورتها الضخمة المنتفخة سوى مايشبه الكمامة ‪ ،‬يتحركون ببطء حولها فى دوائر تعوق‬
‫حركتها ‪ ،‬إال إنها نجحت فى األفالت منهم بأعجوبة ‪ ..‬سارت تائهة بال هدف ‪ ..‬تزداد خطوتها أتساعا‬
‫كلما شعرت بوقع أقدام تالحقها بأصرار فأرتفع ايقاع الطبول فجأة معلنا عن نهاية المشى كمرحلة أخيرة‬
‫قبل مرحلة الركض ‪ ..‬أندفعت تجرى كالمجنونة ثم ألتفتت مع منحنى عطفة لتتبين صاحب الخطوة ‪..‬‬
‫كانت بدرية هى من يتبعها تهتز بجسدها كجبل من اللحم رافعة يمناها ملوحة بشعلة تشبه شعلة‬
‫األولمبياد تتعارك فيها النيران بعنف ‪ .‬أجتازت فايزة بهلع كل الطرقات الخالية ركضا والتى مهدت‬
‫لدخولها عتبة بيت قديم مهجور يتبعها خيال بدرية الضخم ‪ ..‬وثبت للداخل ووثب خلفها الخيال ‪ ..‬خطفت‬
‫الساللم خطفا فى قفزات متصلة حتى تعثرت أمام باب شقة مفتوح فدفعت بجسدها للداخل ‪ ..‬تباطأت‬
‫خطوتها وسط صالة فارغة تبحث بعينيها عن مالذ أمن وأذنين ترصدان صدى الخطوات الصاعدة‬
‫خلفها ‪ ..‬تصلبت فى وقفتها بعدما تجمدت الدماء فى جسدها حين أبصرت نوسة فى نهاية الصالة تستند‬
‫بظهرها لجدار أسود وشعرها الثائر يحيط بوجهها الذى أضاءه أنعكاس اللهب المتصاعد من شعلة‬
‫تحملها هى األخرى فكشفت عن مالمح مخيفة ‪ ..‬عينان مستديرتان واسعتان أحتلت نصف مساحة‬
‫وجهها فبدت كعينى شبح فى وجه ساحرة شريرة ‪ ..‬تراجعت فايزة بقدميها للوراء مبتعدة بأتجاه الباب‬
‫حتى بلغته باهتة مرتعشة ثم أستدارت وسلتت نفسها منه تعتلى درجات السلم صاعدة للدور األعلى قبل‬
‫أن تصلها شعلة بدرية التى أقتربت منها لحظة خروجها إال أنها سبقتها بمتر واحد صعودا وهى خافضة‬
‫الرأس تأكل الدرجات حتى كادت تصطدم عند نهايته بكيان مرعب يسد أمامها طريق الهرب ‪ ..‬رفعت‬
‫رأسها ببطء تتمشى بنظراتها المنخفضة على فخذيه ثم لصدره وصوال إلى وجهه الضخم ‪ ..‬تفحصته‬
‫بخوف ‪ ،‬أرتعدت وتعالت أنفاسها ‪ ..‬لم تفكر حين أبت نظرتها أن تفارق وجهه ؟ كان يحمل مالمح عبده‬
‫الجن ‪ ،‬بدا وجهه كفروة رأسه مليئا بالشعر كأنما وجه غوريلال ‪ ،‬كلما أبتعدت برأسها أقترب منها ويده‬
‫قابضة على شعلة من النار ‪ ،‬قربها حتى المس لهيبها خصالت شعرها الذى أنتفض من جذوره من هول‬
‫المفاجأة ‪ ..‬تسللت عيناها الى عينيه رغم محاولتها أغماضهما ‪ ،‬كان يشق جفنيه بصعوبة من بين شعر‬
‫كثيف أحاطهما ‪ ..‬ظل يتأملها بنهم كأكلى لحوم البشر ‪ .‬تماسكت حين أوشكت بدرية للوصول اليها ‪ ،‬فلم‬
‫تجد أمامها اال أن تدفعه دفعة قوية دفاعا عن حق الحياة ‪ ،‬فأنزاح مترنحا للخلف فأنفلتت بخفة لتكمل‬

‫‪378‬‬
‫رحلة الهروب ألعلى بينما هو من خلفها ‪ ..‬كان يتبعها كظلها يهتف ويلعن ‪ ..‬بدت قفزته أسرع من‬
‫خطوتها الخائفة بعد أن صارت أنفاسها معلقة فوق صدرها وكأنها تتهيأ لخروج روحها ‪ .‬لم تسعفها‬
‫قدميها فنزلت على يديها وصعدت بقية الدرجات كالقردة حتى وصلت بأعياء شديد ألخر درجة فأستقبلها‬
‫باب شقة مفتوح أجتازته بصدرها كأنما تنهى سباقا قبل أن توصده خلفها وتلصق به ظهرها بكل ماتبقى‬
‫لها من قوة ‪ .‬بدت كصخرة تسد خطرا ‪ ..‬نهيجها يتصاعد فى المكان كقرع الطبول ‪ ..‬أرتج لحم خديها‬
‫مع كل نفس تسحبه وتصرفه كلما سمعت صوت أقدام تقترب من خلف الباب ‪ ..‬حدقتيها تدوران فى فزع‬
‫وسط لحظة سكون تشبه لحظات الموت ‪ .‬تحسن باذنيها فألتقطت همهمات سرعان ماتحولت لصرخات‬
‫تبث الرعب فيها قبل أن تتحول الى طرقات قوية ملحة أرتجفت لها شفتيها وأهتز جسدها بشدة مع كل‬
‫طرقة تكاد تنزعها نزعا من مكانها بينما ظهرها الملتصق بالباب صار كدرع يتلقى الضربات ‪ ..‬إال إنها‬
‫لم تصمد طويال ‪ ،‬خارت قواها فأرتخت ساقيها وأنزلقتا أمامها حتى أنهارت مرتطمة بمؤخرتها على‬
‫األرض وأستقرت على وضعيتها للحظات كمحاولة أخيرة لصد الباب الذى أصدر أنينا ينذر بالتسليم ‪،‬‬
‫غير أنها فى خضم الخوف واألنهيار نجحت فى العثور على جملة مفيدة كونتها بدافع النجاة ‪ :‬أنتو‬
‫عايزين منى أيه ‪ ..‬سيبونى فى حالى حرام عليكو ‪ .‬تكاثرت الطرقات فأزدادت عنفا وكانت من القوة‬
‫لتصنع شروخا فى الباب وتزحزح الصخرة عن مكانها حتى أنزاحت تمشى على مؤخرتها دون أرادة‬
‫منها كمن تجلس على جبل جليدى ‪ .‬لم تستطع التمسك بموقعها ‪ ،‬فأبتعدت عن الباب تحبو ‪ ..‬دخلوا‬
‫الثالثة بوجوه مضاءة بلهيب المشاعل حاصروها وأحاطوا بها فتكورت على نفسها مستسلمة ‪ ،‬طاف‬
‫حولها حملة المشاعل فى اللحظة التى كانت فيها فى نهاية العد التنازلى لتقبل فكرة الموت حرقا ‪ ،‬لم‬
‫تكن تملك أى ردة فعل اال التسليم بأن حسابها قد حانت لحظته ‪ .‬مر عبده من بينهما رمقها بنظرة تشفى‬
‫ثم أنحنى بوجهه المشعر ناحية أذنيها ‪ :‬النهاردة يوم الحساب يافايزة ‪ .‬كانت نبرته كالزئير ‪ ..‬تحسس‬
‫شعرها المنكوش ‪ :‬أول حاجة حأحرقها لسانك اللى عامل زى لسان الحية وبعد كده حأتسلى فى وشك‬
‫العكر ده حأخلى النار تسيحه وتشويه وبعدها ‪ ..‬قاطعته بدرية حين أقتربت ‪ :‬كفاية عليك دول ياعبده‬
‫وسيبلى الجسم المتختخ ده أنا حأخلى النار تأكل وتشبع ‪ .‬قالتها بملء فمها وهى تغرس أصبعها فى كتلة‬
‫اللحم المتكورة تحتها ‪ .‬عيون أمتألت بالشماتة أمام وجه يمأل المكان بصرخات األستغاثة وهى عاجزة‬
‫بال حيلة الت ملك سوى بدن يهتز يدفع بعشرات الصور فى رأسها عن نهايات محتملة ‪ .‬قرب عبده شعلته‬
‫منها فلسعتها سخونتها ‪ ،‬حاولت صدها بأنكماشة حتى تداخلت رأسها بين كتفيها حين تهيأ لتنفيذ‬
‫المهمة ‪ ،‬رفع شعلته بطيئا ليتيح للعذاب فرصة األستمتاع بخوفها بينما تتخلل صرخاتها جسده فيزداد‬

‫‪379‬‬
‫نشوة ‪ ،‬كان أحتياجها شديد لنفس أخير قبل أن تغمض عينيها تأهبا لحساب جهنم الذى يحمل فى يده‬
‫جزء منها ‪ ..‬ظلت تتمتم بكلمات من يودع الدنيا ‪ ..‬أستقبلت نار عبده ولم تبذل جهدا كى تبعده عنها ‪..‬‬
‫أدلت رأسها فى أستسالم لمصيرها المحتوم أنتظارا لتنفيذ حكم األعدام حرقا ‪ .‬صوت أقدام فى المكان‬
‫تخترق األذان ‪ ،‬كان بمثابة نقطة ضوء سقطت فى نفق مظلم ‪ .‬وقفت الصورة وتجمد المشهد وتسمر‬
‫الجميع فى أماكنهم حين دخل رجل مقنع بخوذة يرتدى زى المطافىء يجر خلفه خرطوم مياه ‪ ..‬سار‬
‫بخطوات واثقة ثم وقف مشدودا ‪ ،‬بدا فى وقفته كفرسان الحواديت ‪ ،‬تأمل الواقفين بنظرة حادة دار بها‬
‫فى السحنات المترقبة قبل أن يصوب خرطومه ناحية الماسكين بالنار ثم نزع عنه السدادة التى كانت‬
‫أشارة البدء ألندفاع المياه كشالل هادرمذكرا النائم بمشهد فتح الهويس على يد الفنانة " شادية " فى‬
‫فيلم " شيىء من الخوف " ‪ .‬تحرك ناحيتهم بخطوة واسعة يالحقهم بخرطومه وكأنه مدفعا ‪ ،‬لحظات‬
‫وأنطفأت النار فى المشاعل وتحولت فى لحظة ‘لى أسلحة بال ذخيرة وتسرب الدخان األسود متصاعدا‬
‫فأظلمت وجوههم ‪ ..‬فكوا حصارها وتراجعوا منسحبين برؤس منكسة كأسرى حرب ‪ .‬راقبت فايزة‬
‫رحيلهم شاردة تائهة غير مصدقة قبل أن تسحبها نظرتها ناحية الفارس القادم اليها ‪ ،‬أعتصرت عينيها‬
‫وهى الزالت مطوية على نفسها حين أقترب منها ‪ ،‬مال نحوها ومد يد آمنة تزيح الخوف المطبوع فى‬
‫قسماتها ثم رفعها لتقف فى أعياء ‪ ..‬بدت بين يديه هشة ضعيفة ‪ ،‬ظلت تتابعه فى ذهول وهى تنتفض‬
‫حتى خلع خوذته ببطء ـ لحظة فارقة فى سياق الحلم ـ أنبعجت مالمحها حين أضاء وجهه عينيها ‪..‬‬
‫تحسست خديه بيد مرتعشة ‪ .‬أهتز صوتها ‪ :‬منصور ‪ .‬قالتها بنبرة العائد من الموت ‪ .‬تفجرت منها‬
‫دموعا كنافورة مياه تردد بهستيرية ‪ :‬ربنا يخليك لى يامنصور ‪ ..‬ربنا يحميك يابنى ‪ .‬كررتها عدة مرات‬
‫بال توقف حتى كادت تفقد الوعى قبل أن تتماسك حين تشبثت بعنقه ثم أخفت وجهها فى صدره تردد‬
‫بصوت مكتوم ‪ :‬سامحنى يامنصور ‪ .‬غابت بعجزها وقلة حيلتها حتى نزول كلمة النهاية التى أفضت‬
‫لتقلص عضالت وجهها وهى تقاوم أنزالق جفنيها بعدما قررت أن تفتحهما ‪ .‬عادت من الحلم‬
‫" األكشن " بأعضاء مرهقة ونظرات تمشى فى جولة خاطفة فى أنحاء الغرفة للتأكد من حقيقة موقعها‬
‫فى الكون ‪ ..‬كفان مرتجفان كانا فى أنتظار وجهها الذى دفنته فيهما حين تحاملت على نفسها ورفعت‬
‫جسدها قبل أن يهدأ نبضها وتغزوها أعراض رغبة محمومة فى ترد يد جمل ايمانية ‪ :‬أعوذ باللـه من‬
‫الشيطان الرجيم ‪ ..‬يارب أرفع غضبك عنا ‪ .‬هدأت أنفاسها وهى تتابع سكون الغرفة بينما لسانها اليزال‬
‫يتلو كلمات نادرا ماأفصح عنها ‪ :‬ربنا يخليك لى يامنصور يابنى ‪ .‬تدريجيا خلعت مالمح الفزع‬
‫وأستبدلتها بأنفاس هادئة ‪ ..‬أستغرقت تتأمل حلمها ‪ ،‬جالت فى تفاصيله كادت تأكلها الدهشة بعدما أيقنت‬

‫‪380‬‬
‫حجم العداء والكراهية اللذان يحملهما هذا الممدد إلى جوارها ‪ ..‬نظرت لـ " عبده " بمالمح محتدمة‬
‫تتابعه بأشمئزاز وهو يخوض معركة شرسة ‪ ..‬تشخير متقطع يتصاعد لعنان السقف ‪ ،‬يعتقد أنه الجيل‬
‫الرابع من التشخير ينطلق مدويا من أنفه وفمه وكأنما يخرج من مارد ‪ .‬نظرت له طويال قبل أن تلكزه‬
‫فى صدغه المستفز الذى يهتز مع ريح أنفاسه ‪ ..‬لكزة لم تسفر عن نتيجة فناولته أخرى قوية على‬
‫صدره أنتفض على أثرها بعدما جذبته من الفانلة " الحماالت" ألزمته بفتح عينيه على الوجه المتربص‬
‫الذى يصرخ فوقه ‪ :‬أصحى ياراجل ياشر ياأبن الحرام عايز تحرقنى وتولع فى ياأبن المفضوحة ‪ .‬رمش‬
‫بعينيه قبل أن يرفع راسه مذعورا ‪ :‬فى أيه ياوليه ع الصبح ‪ .‬أستقبلت رأسه المرفوعة بكف على جبينه‬
‫فهوى ثانية على المخدة ‪ :‬عايز تموتنى محروقة ياأبن المحروقة عايز تخلص منى ياراجل ياناقص ‪.‬‬

‫ــ أيه اللى بتقوليه يافايزة عيب ياوليه ده أنا متلقح جنبك طول الليل ماأتحركتش ‪ .‬واجهته بثورتها‬
‫وهو ممدد بال حيلة ‪ :‬أتحركت ياعبده ياجن وجت لى زى الشيطان فى عز الليل أنت والمفضوحة‬
‫بدرية وبنتها جيتولى زى العفاريت فى الحلم عاملين عصابة زى قطاعين الطرق عايزين تخلصوا منى‬
‫ياراجل ياوسخ ‪.‬‬

‫ــ حلم ‪ ..‬قالها بأبتسامة ساخرة كما لوكانت طعنة ‪.‬أردف ‪ :‬ياوليه بالش خبل وأصتبحى ع الصبح‬
‫بتحاسبينى على حلم ‪ .‬أقتحمته ‪ :‬كل حلم وله أصل زى ماكل نار ولها دخان ‪ ..‬طول عمرك بتكرهنى‬
‫ونفسك تخلص منى النهاردة قبل بكرة ‪ ..‬لكن ودين النبى ألعرفك مين فينا حيخلص من التانى ‪ .‬أستسلم‬
‫تماما لهياجها قبل أن يخلص نفسه من حصارها ساحبا نفسه مهروال من الغرفة قبل أن يلهف جلبابه‬
‫المعلق خلف الباب ويطوى شبشبه تحت أبطه معلنا الفرار وهو يردد ‪ :‬المرى أتجننت خالص ‪.‬‬

‫تربعت فايزة وسط السرير بعد مارحل الحلم وترك الحزن يعاشر المرارة فى نفسها ليفرز قلقا ومشاعر‬
‫متناقضة تستقر فوق كل عضلة فى جسدها ‪ ..‬خرجت من حلمها بحقيقة ناصعة كانت غافلة عنها الزالت‬
‫تتفاعل داخلها ‪ " ..‬منصور " أصبح يفرض عليها واقعا جديدا ‪ ..‬بدت مالمحها متخمة بضعف نادرا‬
‫مايجد له طريقا فى سحنتها حين واجهت نفسها بأفعالها الحادة تجاه أبنها الوحيد ‪ ،‬أدركت فجأة ودون‬
‫ضغوط أن المصلحة لها فى مواصلة العناد وأظهار الخصومة بعد ماثبت لديها خطأ رؤيتها التى أدت‬
‫لنفور أبنها الذى سلم نفسه طواعية لنوسة وأمها وصار أبوه هو األقرب له ‪ .‬اآلن تعيش لحظة فارقة‬
‫فرضت عليها مجموعة تصورات تحيط برأسها الثائر ‪ ..‬لم ترجح أيا منها األصلح ‪ ،‬إال أنها قررت أن‬
‫تتوجه لمكتب محمود المحامى صاحب استراتيجية المهادنة ونظرية استمالة منصور بديال عن سياسة‬
‫‪381‬‬
‫المواجهة ‪ ،‬وليرسم لها دورا جديدا فى كيفية التعامل معه فى تلك المرحلة الدرامية الحادة كبداية لثورة‬
‫تصحيح ‪ ..‬لملمت نفسها وهبطت السرير مشحونة بعاطفة قوية وهى تردد أسم " منصور" فى جملة‬
‫مفيدة تنطقها بنبرة ملهوفة ‪ :‬ياحبيبى يابنى ‪ .‬قالتها بأحساس من وجد ثروة فى ظروف غامضة وهى‬
‫تضع قدميها داخل شبشبها ‪ .‬شيىء ما يتحرك داخلها مثل جنين يشق طريقه للحياة ‪ ..‬خرجت من‬
‫غرفتها كمولود جديد الزال يتحسس عالقته بالكون ‪.‬‬

‫ذهبت منفردة الى مكتب محمود المحامى بدت كشخصية مهمة تتحرك دون موكب ‪ .‬بقيت للحظات فى‬
‫حجرة األنتظار قبل أن يبلغه سكرتيره بوجودها ‪ .‬لم تنتظر أذنا بالدخول ‪ ..‬دخلت عليه بعباية سوداء‬
‫وطرحة تغطى جبهتها وصدغيها وغلظة فارقت وجهها ‪ ،‬قابلها واقفا بوجه باهت ‪ :‬خير يامعلمة أيه‬
‫الزيارة المفاجئة دى ؟ مرت أمامه حين أفسح لها مكانا للجلوس ‪ .‬لم تجب على سؤاله حتى ركنت‬
‫مؤخرتها على مقعد مالصق لمكتبه ‪ :‬مش جاية فى شغل أنا جاية أخد رأيك فى حاجة كده ‪ .‬ألتفت اليها‬
‫وهو يتأهب للجلوس ‪ :‬خير ان شاء اللـه ‪ .‬أستهلت كلماتها يحاصرها بعض األرتباك ‪ :‬أنا عايزة ‪..‬‬
‫عايزة أبدأ صفحة جديدة مع الوله منصور ‪ .‬حين سمع األسم أنفرجت أساريره ‪ :‬واللـه عين العقل ‪.‬‬

‫ــ زى ماأنت فاهم من يوم ماخرجت من السجن والوضع بينى وبينه مش تمام وقلت لنفسى كفاية لحد‬
‫كده مش عايزة أخسره وال عايزاه يضيع منى وأنت عارف يامتر ان منصور هو اللى فاضلى فى الدنيا‬
‫وماليش غيره ‪ .‬ثم أدلت رأسها وعالمات الحيرة تجوب وجهها ‪ .‬تابعت ‪ :‬وبصراحة أنا مش عارفة‬
‫أعمل أيه وأقرب منه أزاى وفى نفس الوقت خايفة منه يضيعنى ويضيع كل شقايا اللى عملته فى سنين‬
‫‪ ..‬الوله صغير وعقله مرجرج ‪ .‬لم تجتهد لتوصيل رؤيتها ‪ ،‬كلمات مختصرة أوجزت وجهةنظرها ‪.‬‬
‫فبادرها ‪ :‬فاهمك ‪.‬‬

‫ــ طب أيه المطلوب منى أعمله ؟ ‪ .‬بدت وكأنها تنتزع من داخلها أخر ماتبقى لها من عناد ومكابرة ‪..‬‬
‫التريد أن تجزىء مشاعرها ‪ ،‬فأختلطت عندها المعانى فال تفرق بين السالم واألستسالم !‪ .‬تلقف كلماتها‬
‫فهرول يمدها بنصيحته بعدما أشعل سيجارته ‪ :‬المطلوب منك مش كتير يامعلمة فايزة هى شوية حاجات‬
‫صغيره الزم تتعمل وبسرعة وأولها ترجعى منصور لحضنك وتكسبيه فى صفك وتصلحى غلطتك‬
‫الكبيرة‪.‬‬

‫ــ غلطة أيه ان شاء اللـه ‪ .‬قالتها حين ضيقت عينيها بأستنكار ‪.‬‬

‫‪382‬‬
‫ــ غلطتك كانت كبيرة أوى ياست فايزة ‪ ..‬أبنك منصور عاش مع أبوه ليل ونهار أربع سنين كاملين‬
‫لماكنتى فى السجن أطبع بطبعه ومشى على نظامه وأنتى ست العارفين بنظام عبده الجن يعنى مصلحته‬
‫فوق كل شيىء وأبنك طبعا معذور مالقاش حد يراجعه واليحاسبه وبقى مقضيها سرمحة وصياعةوأبوه‬
‫طبعا مكبر دماغه مش فاضيله وبقوا همه األتنين فى الهوا سوا وآخر تفاهم وكل واحد بيفوت للتانى‬
‫ومقضينها هلس ‪ ..‬واحد شغال فى العرفى والتانى سلم نفسه لنوسة وأمها وبارك اللـه فيما رزق ‪ .‬قالها‬
‫بأبتسامة صغيرة وهو يطفىء سيجارته قبل أن يستأنف ‪ :‬ولما أنتى طلعتى من السجن بقيتى فى نظرهم‬
‫زى البعبع وقفتلهم زى اللقمة فى الزور وطبعا المسائل نشفت فى القهوة وعبده لقى اللى واقفله فوق‬
‫راسه بيحاسبه بالمليم ومنصور طبعا الدنيا أسودت فى وشه لما فاتحك فى حكاية نوسة ‪ .‬قالها وسكت‬
‫للحظات كى يسحب نفسا طويال ثم أردف ‪ .‬بهدوء ‪..‬والنتيجة طبعا أن الوله وأبوه بقوا فى جنب وأنتى‬
‫فى جنب تانى خالص ‪ .‬أعتدلت فى جلستها حين قاطعت ‪ :‬يعنى لما أحافظ على فلوسى وأخاف على أبنى‬
‫أبقى زى البعبع واللقمة فى الزور ‪.‬‬

‫ــ مش ده قصدى ياست فايزة ‪ ،‬أنتى اللى عملتيه كان صح بس المشكلة كانت فى التنفيذ ‪.‬‬

‫ــ يعنى أيه مش فاهمة ‪.‬‬

‫ــ ده أنتى أم المفهومية المفروض كانت األمور تتاخد واحدة واحدة وبهداوة ولما تحبى تسدى باب الزم‬
‫تفتحى قصاده شباك ‪.‬‬

‫ــ والشباك ده يبقى أيه ‪ .‬قالتها وهى تحكم طرحتها حول راسها ‪.‬‬

‫ــ شغلك يامعلمة ‪ ..‬أسحبى منصور فى ملعبك ألهيه بالشغل حسسيه أنه بقى راجل وله أهميه ‪.‬‬

‫خدى رأيه فى أى مصلحة تعمليها خليه يمسك فلوس فى أيده ودخليه معاكى واحدة واحدة ‪ ..‬ساعتها‬
‫حيبقى مكسبك كبير أقلها أبنك جيبقى تحت عينك وطوع أمرك وحيبقى فى صفك ويبعد عن أبوه ‪ .‬رفعت‬
‫عينيها للسقف تقلب أقتراحه ‪ :‬والمطلوب منى أيه دلوقتى ‪ ..‬رددتها ساهمة وهى تنتظر حلوال صعبة ‪.‬‬

‫ــ أبدأى معاه بكام خطوة كبداية ‪ ،‬خليه يتابع مع النونو وخضر شغل التاكسى والنص نقل خليه هو اللى‬
‫يحاسبهم ويتابعهم وسيبيه يباشر محمد المقاول لما يبدأ هدد حسسيه أن دى فلوسه وحاجته وأديله ريق‬

‫‪383‬‬
‫حلو وشجعيه وأنسى خالص طريقتك القديمة معاه ‪.‬شعرت بأتهاماته كدائرة تضيق عليها ‪ .‬لم تدافع أو‬
‫تتنصل كعادتها ‪ .‬أستسلمت ‪ :‬يعنى أنت شايف كده ‪.‬‬

‫ــ مافيش غير كده ‪ .‬قالها بأصرار ثم أقترح ‪ :‬وعشان تبقى البداية صح فيه خطوة الزم تتعمل ‪ .‬تابعته‬
‫بعينيها فأردف ‪ :‬نبعت نجيب بدرية هنا فى المكتب ونراضيها زى بقية السكان وتاخد حقها على داير‬
‫مليم ‪ ..‬الخطوة دى حتفرق كتير مع أبنك وحيحس ساعتها أن فيه حاجة صح بتحصل ومع الوقت‬
‫حتالقى منصور واحد تانى خالص بيخاف على فلوسك وعلى حاجتك ويمكن أكتر منك كمان وحتالقيه‬
‫من نفسه ومن غير ضغط بيتغير وبينضف دماغه من األشكال اللى هو ملموم عليها زى البت اللى‬
‫ماشى معاها ‪ ..‬ده رأيى وأسمعى كالمى وأنتى الكسبانة ‪.‬‬

‫هزت راسها ‪ :‬عندك حق ‪ .‬قالتها كأقرار بسالمة رأيه ‪ .‬بينما أضاف محذرا ‪ :‬وده مايمنعش أن عينيكى‬
‫تبقى فى وسط رأسك وتفتحى كويس لعبده الجن ‪ ..‬ده راجل مش سهل ‪.‬‬

‫ــ ماتقلقش من الناحية دى أنا أعرف أزاى أصرفه وكل جن وله بخور ‪ ..‬شوف الصح وأعمله ‪ .‬قالتها‬
‫وهى تتهيأ للوقوف ‪ .‬لم تكن تملك خيارا أخر سوى تنفيذ ماأقترحه محمود المحامى سعيا وراء واقع‬
‫جديد تكون فيه العاطفة فعال وليست شعورا ‪ .‬خرجت من مكتبه وجزء من طباعها تعمدت أن تسقطه كى‬
‫التفسد بقية أجزاء حياتها ‪.‬‬

‫‪00000000000‬‬

‫عدا الرسالة المقتضبة التى وصلتها فى اليوم التالى على لسان سكرتير محمود المحامى الذى وقف‬
‫متشنجا عند عتبة باب شقة بدرية يتلو نصا أستمر فى ترديده طوال الطريق حتى حفظه ‪ :‬المتر‬
‫مستنيكى النهاردة فى مكتبه الساعة سبعة ! لم تستطع بدرية ومن خلفها أبنتها تحليل فحواها ‪ ،‬ساد جو‬
‫من الريبة والقلق ‪ .‬لم تجد نوسة حال لفك شفرة الرسالة إال باألتصال بمنصور الذى تلقى مكالمتها وهو‬
‫يجتاز مدخل البيت متجها للقهوة ‪ .‬هز رأسه شاردا وهو ينصت لكلماتها للمرة الثانية بعدما أنذرها فى‬
‫المرة األولى ‪ :‬واحدة واحدة وأتكلمى براحة عشان أفهم ‪ .‬حين كررت على أسماعه بتأنى رسالة‬
‫محمودالمحامى ‪ ،‬نفض راسه وأستفاق دون أتباع طقوس األصتباحة ‪ .‬ركز فى كلماتها وأعتصر ذهنه‬
‫بال فنجان قهوة بن تقيل والسيجارتين متصلتين كعادته ‪ ..‬سار زائع العينين وهو الزال ينصت لها‬
‫‪384‬‬
‫بدهشة قبل أن يتوقف بالقرب من كومة قمامة على وشك أن تصبح جبال ‪ :‬طب ماتعمليش أى حاجة‬
‫لغاية ماأنا أتصرف ‪.‬‬

‫ــ يعنى حتتصرف تعمل أيه ؟ ‪ .‬كانت صرخة أقرب منها لتساؤل ‪ ..‬وطى صوتك وأسمعى الكالم ‪ ،‬ساعة‬
‫زمن وحأتصل بيكى لغاية ماأفهم أيه الحكاية ‪ .‬غادر كومة القمامة بعدما مأل رئتيه من رائحتها مرددا‬
‫بينه وبين نفسه ‪ :‬أكيد محمود المحامى حيعرض عليهم مبلغ ترضية مضروب عشان يستلم الشقة‬
‫والعقد ‪ .‬تضامنا مع حالة القلق التى ظهرت فى صوت نوسة كان هو أيضا أشد قلقا ‪ :‬طب أزاى وأمى‬
‫راكبة دماغها ومش ناوية تديهم والمليم وحالفة لتطلعهم من البيت مواليا كما خلقتنى ‪ .‬زاد توجسه ولم‬
‫يكن لديه بوصلة ألستقبال مابين السطور خلف تلك الرسالة ‪.‬وطئت نظرته األرض وهو يستعيد حيوية‬
‫طارئة نادرا ماتنتابه فى مثل تلك األوقات ‪ ..‬أتسعت خطوته وهو يغادر حارة المناجيلى سالكا حارة‬
‫" فضل " حتى نهايتها باحثا عن خطوة البد من أتباعها قبل أن تظهر له عن بعد بوابة المقهى ‪.‬‬

‫أستقبله عبده بنظرة طويلة تابع منها مالمحه حين عبر المدخل ‪ ،‬لمح تغيرا فى سحنته ونبرته ‪ :‬صباح‬
‫الخير يابا ‪.‬‬

‫ــ صباح الخير ياسيدى ‪ ..‬مالك داخل كده بصدرك ‪.‬‬

‫ــ البت نوسة كلمتنى من شوية وبتقولى محمود المحامى مستنيهم النهاردة فى المكتب ‪ " .‬يسقط يسقط‬
‫حكم المرشد ‪ ..‬يسقط كل كالب المرشد " كان هتافا مدويا على ساللم نقابة الصحفيين تبثه على الهواء‬
‫قناة الـ " ‪ . " ontv‬سحب عبده الريموت كى يكتم الحناجر الصارخة ثم ألتفت ألبنه ‪ :‬ليه ؟ ‪.‬‬

‫ــ أكيد عشان حكاية الشقة ‪ .‬فرجة صغيرة فى شفتيه كى يفسح طريقا لمرور ضحكة ساخرة ‪ :‬خالص‬
‫الهانم أمك والمحامى بتاعها قرروا يفرجوا عن بدرية وبتها ‪ .‬تمعن فى وجه أبوه الساخر ‪ :‬مش عارف‬
‫يابا ‪ ..‬قالها بحيرة قبل أن يتابع ‪ :‬أنا بأقول أتصل بمحمود المحامى وأفهم الحكاية منه ‪ .‬أطلق نبرة فزع‬
‫ال أرادية ‪ :‬بالش أنت ‪ ..‬سيب األمور تمشى بدل ماتعقدها ‪ ،‬أمك لو خدت خبر حتبقى ليلة سودة عليك‬
‫وعليهم ‪ .‬وجهة نظر أخذها منصور مأخذ الجد قبل أن يبدى تحفظا ‪ :‬يعنى أسيبهم يروحوا على غماهم‬
‫وهمه ونصيبهم ياصابت ال خابت ‪ ..‬ماينفعش الكالم ده يابا ‪ .‬رجع عبده بظهره للوراء مسترخيا فى‬
‫مقعده قبل أن يشير له بملل ‪ :‬أنت حر أعمل اللى تعمله أنا قلتلك ع اللى فيها وعقلك فى رأسك بقى !‪.‬‬
‫أنهى تحذيره وألتقط الريموت ثانية فأستجاب له الصوت بعد ضغطتين على صرخة متصاعدة من أعماق‬
‫‪385‬‬
‫أمرأة صاحبة عينين ضاقتا كرها داخل صدغين هائلين " بره بره ياأبن سنية " ‪ .‬أنسحب منصور الى‬
‫ركن القهوة وأختلى بنفسه يبحث بتركيز شديد فى قائمة األسماء المسجلة على هاتفه ‪.‬‬

‫ــ حرف الميم ‪ ..‬الميم ‪ ..‬تمام ‪ ..‬محمود المحامى ‪ .‬تأهب فى جلسته حين أجرى األتصال ‪ ..‬أنتظر‬
‫مترقبا ‪.‬‬

‫ــ أيوه السالمو عليكو ‪.‬‬

‫ــ وعليكم السالم مين معايا ‪.‬‬

‫ــ أنا منصور أبن المعلمة فايزة يامتر ‪ .‬ثوان وسمع ترحيبا أصابه بالذهول ‪ :‬أهال أهال يامنصور ‪ ..‬أزيك‬
‫ياحبيبى أيه المكالمة الجميلة دى ‪.‬‬

‫ــ ربنا يكرمك يامتر ‪ ..‬أنا بس كنت عايز أسأل عن حاجة كده ‪.‬‬

‫ــ أتفضل ياحبيبى أنا تحت أمرك ‪.‬‬

‫ــ بخصوص الست بدرية ‪ .‬قاطعه قبل أن يكمل ‪ :‬أنا مستنيها النهاردة فى المكتب وأطمن وطمنها‬
‫يامنصور حأتكلم معاها شوية وان شاء اللـه حنريحها فى كل اللى هى عايزاه وماتقلقش خالص من أى‬
‫حاجة ‪.‬‬

‫ــ بجد يامتر ‪ .‬قالها متشككا ‪.‬‬

‫ــ عيب ولو مش مصدقنى ياريت تيجى معاها وتشوف بنفسك ‪ .‬غزت الفرحة وجهه ‪ :‬واللــه أنت متر‬
‫مية مية ‪.‬‬

‫ــ يامنصور أنت صاحب مصلحة والمال مالك واللى أنت شايفه صح أعمله وأنا معاك ولما أشوفك‬
‫النهاردة حنكمل كالمنا ‪ .‬كلمات أذهلته فشعر بصعوبة فى التواصل ‪ .‬فألح محمود المحامى ‪ :‬أنت‬
‫سامعنى وال رحت فين ؟! ‪.‬‬

‫ــ أنا موجود ‪ .‬قالها ممطوطة ‪.‬‬

‫ــ خالص أتفقنا يامنصور ‪ ..‬ميعادنا النهاردة ‪.‬‬

‫‪386‬‬
‫ــ أتفقنا يامتر ‪ .‬صعدت كل عالمات األستفهام فجأة الى رأسه حين أنهى المكالمة ‪ .‬حدث نفسه ‪ :‬هى‬
‫أيه الحكاية بالظبط ؟‪ .‬لم تعد للمعجزات مكانا فى رأسه ‪ ،‬كل شيىء وله ثمن ! كان األحتمال المرجح فى‬
‫عقله يتجه لوجود مؤامرة تحاك فى الخفاء وأن محمود المحامى ماهو إال العقل المدبر ‪ .‬أعتقلته األفكار‬
‫لربع ساعة فى كرسيه يداورها ويحاورها قبل أن يمتأل وجهه عبوسا الينسجم مع فرحته األولى التى‬
‫أنفجرت منه لحظة حديثه مع المحامى ‪ .‬حاول التضييق على مخاوفه فأجرى أتصاال بنوسة يزف اليها‬
‫أخباره السارة ‪ .‬أنتابته لحظة رجولة عابرة وبدا منتشيا وهو يخبرها بفحوى المكالمة التى أدارها‬
‫بأقتدار وحكمة كما صور لها ‪ ،‬فأتسعت منه العبارات وتضخمت عندما وصف لها موقفه المتشدد مع‬
‫محمود المحامى وكيف ضغط عليه حين أنفعل وأجبره طائعا خاضعا بالموافقة على حضوره كمراقب لما‬
‫سيتم ‪ ،‬أراد أن يشعرها بقيمته وأنه رقم صعب فى المعادلة اليمكن تجاوزه ‪ ..‬أنصتت له بذهول غير‬
‫مصدقة تحاول أبتالع مايقوله ‪ ..‬دقائق من الفشر ولذة البطولة المصطنعة عاشها منصور قبل أن ينهى‬
‫مكالمته بنبرة خشنة تنسجم تماما مع أداؤه ‪ :‬عايزة حاجة تانية يابت ‪ ..‬قولى ‪ .‬سمع منها مايرضيه‪:‬‬
‫ربنا مايحرمنى منك يادكرى !! ‪.‬‬

‫تطلع منصور للشارع من مدخل العقار أسفل مكتب محمود المحامى بنظرات موزعة بين ساعته‬
‫والشارع أنتظارا لوصول نوسة وأمها ‪ ،‬أطفأ سيجارته الثالثة بعنف سحقها تحت قدمه حين لمحهما‬
‫تتهاديان ‪ ،‬بدرية فى الخلف تجر وراءها ردفين تتركان فى نفسك أنطباعا أن مصر تعيش حالة أكتفاء‬
‫ذاتى من اللحمة ‪ ،‬بينما تتقدمها نوسة محشورة فى تيشرت " كمونى" وبنطلون أستريتش أسود‬
‫تراقصت داخله عندما أقتربت من موقع منصورالذى عاين بضاعتها بعين ذئب تشاركه مجموعة شبابية‬
‫من عابرى السبيل هالهم منظر المقدمة والمؤخرة فتطوع أحدهم معلقا ‪ :‬مزة عايزة شنيور !‪ .‬تحرك لها‬
‫منصور خطوتين مبديا خشونة المبرر لها ‪ :‬الساعة سبعة وربع الزم يعنى نمشى ندلع ونتأصع ‪ .‬أجابته‬
‫بعينيها فتولت أمها الرد حين وصلت بسالمة اللـه ‪ :‬هو ده وقته يامنصور ماتخلينا فى اللى أحنا فيه‬
‫لما نشوف الراجل المحامى ده عايز أيه ‪.‬‬

‫ــ ماتقلقيش أنا معاكم ‪ .‬قالها وأفسح لها طريقا للصعود بينما سحب نوسة من رسغها ثم أحاط‬
‫وسطها ‪ :‬تعالى أطلعى ‪ .‬كانت بدرية أول الصاعدين للمكتب ‪ .‬وقفت للحظات على عتبته تستكمل نهيجها‬
‫وهى تتأمل المكان قبل أن تتدحرج للداخل لتواجه السكرتير المتخشب الذى قام من كرسيه مرحبا ‪:‬‬
‫أتفضلى ياحاجة ‪ ..‬أهال وسهال ‪.‬‬

‫‪387‬‬
‫ــ أهال بيك ياخويا ‪ .‬ثم أنحطت على كرسى لحظة دخول منصور ونوسة فكرر السكرتير عليهما نفس‬
‫التحية دون أبداع ‪.‬‬

‫ــ عن أذنكم لحظة واحدة ‪ .‬قالها ورحل بأتجاه غرفة محمود المحامى فأنتهز منصور فرصة غيابه‬
‫ليلقن بدرية النصيحة األخيرة ‪ :‬الترفضى والتوافقى على أى حاجة إال بأشارة من راسى ‪ ..‬ماشى لكالم‬

‫ــ واللـه ما أنا عارفة قلبى مقبوض كده ومش مرتاحة ‪.‬‬

‫ــ ليــه ؟ ‪.‬‬

‫ــ أمك مش سهلة يامنصور واللى تلسع من الشوربة ‪..‬‬

‫ــ قدمى الخير ياما وسيبيها على اللـه ‪ .‬جملة مهدئة رددتها نوسة ثم مالت على منصور تهمس ‪ :‬هى‬
‫ممكن أمك تكون مدبرة لنا حاجة ‪ .‬مسح وجهه بكفيه ‪ :‬أنتى مش لسه قايلة نقدم الخير ‪ .‬قال جملته‬
‫بنبرة تحمل شكوكا وسط لحظة وجوم وترقب بددها صوت السكرتير الذى ظهر لهم بأبتسامة منزوعة‬
‫األحساس ‪ :‬أتفضلوا جوه ‪ .‬قاموا دفعة واحدة ‪ ..‬تقدمت بدرية الموكب فكانت أول الداخلين ‪ ،‬إال أنها لم‬
‫تستكمل طريقها ‪ ..‬توقفت فى مكانها فجأة وأصبح العثور على نبض فى عروقها أمرا صعبا حين وقعت‬
‫عينيها على فايزة التى جلست مستأسدة على كرسى مالصق لمكتب محمود الذى هب واقفا لتأدية‬
‫مراسم األستقبال بينما ظلت بدرية أسيرة الصدمة تحمل وجه مرتجف وعينان ترمشان قبل أن تتراجع‬
‫خطوة للوراء تبحث بيدها المتسللة خلف ظهرها عن قميص منصور والتى نجحت فى األمساك بطرفه‬
‫وشده حتى أقترب منها ثم دفعت به فى المواجهة ‪ ..‬برأس تترنح ولسان مربوط واجه منصور أمه التى‬
‫أستقبلته بحاجب مرفوع لحظة ظهوره ‪ .‬غير أنه أستعاد بعض التماسك حين طمأنه محمود بأبتسامة‬
‫هادئة ‪ :‬أدخل يامنصور ‪ ..‬أتفضلى ياست بدرية ‪ .‬وكأنها اشارة أمان دفعت بمنصور لشق طريقه للداخل‬
‫مارا أمام أمه متصنعا ثباتا ‪ :‬أزيك ياما ‪ .‬قالها دون أن ينظر إليها ‪.‬‬

‫ــ أهال ياحبيبى ‪ .‬جملة أربكته فقابلها بنظرة ركنية قبل أن يبلغ طرف المكتب محاوال أستكشاف‬
‫مالمحها ‪ ..‬نظرتها المرتخية كانت تحبسه داخل شعور مختلف ‪ ،‬لم يشعر بالخوف منها ‪ ،‬إال أنه أبدى‬
‫توجسا مشروعا حين سمعها ترد على تحية بدرية ‪.‬‬

‫ــ أزيك ياست فايزة ‪.‬‬

‫‪388‬‬
‫ــ أهال ياست بدرية ‪ .‬نظرت ألبنتها بأستغراب حين نزلت مرتطمة على مقعدها وكأنما تتأكد مما سمعته‬
‫فأسدلت لها األخيرة جفنيها قبل أن يخرج عليهم محمود المحامى بصوت ينسجم والحالة المزاجية‬
‫للموجودين ‪ :‬واللـه أنتو منورين المكتب ‪.‬‬

‫ــ منور بصحابه ‪ .‬ديباجة جاهزة رددتها بدرية التى الزالت تلملم دهشتها بينما ظل منصور واقفا وسط‬
‫دهشته ينقل نظراتة فوق الجالسين كأنه يراهم من أعلى ‪.‬‬

‫ــ أقعد يامنصور ‪ .‬قالها محمود وقدم له سيجارة لحظة جلوسه ‪ .‬كان الصمت والقلق هو شعار البداية‬
‫قبل أن يبدأ محمود بأجراءات الجلسة ‪ :‬ماتأخذناش ياست بدرية أتأخرنا عليكى شوية فى موضوع‬
‫الشقة معلش الظروف جت كده وع العموم المعلمة فايزة جهزتلك خمسة وعشرين ألف جنيه زى كل‬
‫ساكن ماأخذ ‪ .‬هزت رأسها بحذر فتابع محمود ‪ :‬وبكره ان شاء اللـه تيجى هنا تنورينى تستلمى فلوسك‬
‫وتسلمينا العقد وربنا يوفق إن شاء اللـه ‪ .‬جاهدت فايزة قمع عصبيتها حين رمت بدرية بنظرة حادة ‪:‬‬
‫أحنا مابناكلش حق حد ربنا يكفينا شر الحرام ‪ .‬داعبت الفرحة وجه منصور ‪ :‬اللـه يفتح عليكى ياما‬
‫طول عمرك تعرفى األصول ‪ .‬أتجهت اليه حين سمعته وكأنها أكتشفت فى وجوده أمرا غريبا ‪ :‬األستاذ‬
‫محمود يبقى المحامى بتاعى واللى بيخلصلى كل شغلى ‪ ،‬بسالمتك بقى جاى معاهم بصفة أيه ‪ .‬سؤالها‬
‫بدا كرصاصة أخترقت لسانه فتلعثم ‪ :‬بصفتى ‪ ..‬األستاذ محمود هو اللى طلب منى أجى معاهم ‪ .‬قالها‬
‫كمن يبعد عنه تهمة ‪ .‬رشقته نوسة بنظرة وهى تحدث نفسها ‪ :‬آه ياهجاص ! ‪.‬‬

‫ــ مش وقته الكالم ده ياست فايزة أبنك راجل وعارف كويس هو بيعمل أيه ‪ ..‬خلينا دلوقتى فى المهم ‪.‬‬
‫أتجه بعينيه لبدرية ‪ :‬خالص أتفقنا ياست بدرية ميعادنا حيبقى بكره زى دلوقتى ‪ .‬تململت فى جلستها‬
‫حين قفزت بنظرتها فى وجه منصور الذى أشار لها بهزة من رأسه ‪.‬‬

‫ــ ماشى يامتر أتفقنا ‪.‬‬

‫ــ يبقى على بركة اللــه ‪ .‬ثم وضح بعض األمور المتعلقة بتسليم العقد وأقرار التنازل وصوال ألخالء‬
‫الشقة ثم تسليمها ‪.‬‬

‫ربع ساعة متواصلة من وضع النقاط على الحروف ‪ ..‬بدا كآله ذكية تصيغ الكلمات بهدوء ‪.‬‬

‫‪389‬‬
‫ــ ألف شكر وكترخيرك ياأستاذ محمود ‪ .‬جملة عاطفية رددتها بدرية وقوفا بعدما ألقت‪:‬السالم عليكو‪.‬‬
‫فتحت بعدها نوسة الباب تتبعها أمها ثم منصور فى أخر الطابور قبل أن تستوقفه فايزة‪:‬أستنى عايزاك ‪.‬‬
‫تجمد فى مكانه للحظات ثم أستدار إليها ببطء ‪ ..‬ينتظر محاكمة ! ‪.‬‬

‫ــ أنت ماشى خالص عملت اللى عليك ياأبو الرجالة ‪ ..‬أقعد هنا قدامى ‪ .‬تحرك مجبرا وهو الزال يتعقب‬
‫بعينيه نوسة التى وقفت خارج الغرفة ترمقه فأشار اليها بعينيه أشارة تعنى الرحيل ‪ .‬أصطحبت أمها‬
‫وتركته يواجه مصيره بمفرده ‪ ..‬توجهت آلبنها بعدما راقبت خروجهن من المكتب ‪ :‬مبسوط كده‬
‫يامنصور ‪ .‬أرتخت عضالت وجهه ‪ :‬ماهو أنتى قلتى ياما أحنا مابناكلش حق حد ‪ .‬بأبتسامة مائلة ‪:‬‬
‫ماشى ياأبن بطنى ‪ .‬ظل الصمت مقيما بينهم للحظات قبل أن يكسره صوت محمود الرتيب ‪ :‬أنا زعالن‬
‫منك يامنصور ‪.‬‬

‫ــ ليه يامتر حصل منى إيه ؟ ناوله سيجارة ثم أشعل سيجارته ‪ ..‬سحب منها نفسا قصيرا وأطلقه‬
‫عريضا مع أنفراجة شفتيه بأبتسامة ‪ :‬شايفك كده بايع الليلة ومكبر دماغك من ناحية والدتك ‪.‬‬

‫ــ أنا ‪ ..‬أزاى يعنى ؟! ‪.‬‬

‫ــ سايبها لوحدها البتمد أيدك معاها فى شغل والواقف جنبها فى مصلحة والحتى بتسألها الدنيا ماشية‬
‫معاها أزاى وال أى حاجة خالص ‪ ..‬ينفع الكالم ده يامنصور ؟! ‪ .‬أنهى جملته مقطبا جبينه تاركا عالمات‬
‫الريبة تسرح فى مالمح منصور الذى تحسس ذقنه محاوال أيقاف دهشته ‪ :‬الكالم ده لى أنا يامتر ؟ ‪.‬‬

‫ــ أيوه لك أنت ‪ .‬عبارة قاطعة كالسيف بترت بها فايزة أستغرابه ‪.‬‬

‫ــ أزاى بس ياما وأنا كل يوم والتانى بأبوس أيدك عشان تشركينى معاكى وتدخلينى فى زوارقك ‪ .‬قالها‬
‫وكأنه يستغيث ‪.‬‬

‫ــ ع العموم مش دى قضيتنا دلوقتى أنا عايزك من بكرة تبقى بنى أدم تانى وتبدأ صفحة جديدة مع أمك‬
‫فلوسها هى فلوسك واللى عندها بتاعك وأنت أولى من الغريب ‪ .‬أكملت الدهشة والذهول طريقهما فى‬
‫وجهه قبل أن تتضاعف مساحتهما لتشمل كل خالياه حين أنتقلت به فايزة من مرحلة النصائح الى‬
‫الدخول مباشرة فى صلب الموضوع ‪ :‬أنت تقعد مع المتر وتركز معاه عشان يفهمك الليلة ماشية أزاى‬
‫ويعرفك حتعمل أيه فى بيت أبن شكر ‪ .‬نقل نظراته هائما لوجه محمود المحامى الذى تسلمه كالمغشى‬

‫‪390‬‬
‫عليه ‪ :‬بعد الست بدرية ماتأخد حقها وتسلمنا العقد والمفتاح حنقعد أنا وأنت مع الحاج محمد المقاول‬
‫نتفق معاه على كل التفاصيل عشان يبدأ هدد ونشوف حسابه حيمشى أزاى وأى حاجة تقف معانا أدينا‬
‫مع بعض والمعلمة فايزة حتبقى فى ضهرك لغاية ماتقف على رجليك ‪ .‬مسح وجهه بكفيه حين تكاثرت‬
‫عليه عالمات األستفهام ‪ .‬الحظت أمه صدمته ‪ :‬مالك يامنصور مش أدها وال أيه ؟‪ .‬جاهد لحفظ ماتبقى‬
‫له من أعصاب ‪ :‬أدها ياما ‪ .‬أدلت برأسها لألرض حين داهمتها لحظة ضعف قبل أن تعثر على ديباجة‬
‫قديمة دائما ماتقال فى مثل تلك المواقف ‪ :‬يابنى أنا ماليش غيرك فى الدنيا وأملى أنك تبقى أحسن واحد‬
‫وأنا عارفة أنك جدع وأد المسئولية ومش حتخذلنى ومن ناحيتى الحأبقى خايفة وال قلقانة منك لما تحط‬
‫أيدك فى الشغل ‪ ..‬عارف ليه يامنصور؟ تابعها بعينيه ‪ ..‬فواصلت ‪ :‬عشان دى فلوسك وحاجتك أنت‬
‫ومافيش حد عاقل فى الدنيا بيضيع فلوسه والمستقبله ‪ ..‬أثبت لى أنك راجل يامنصور وآهى الفرصة‬
‫جتلك لغاية عندك أمسك فيها وأثبت للناس كلها أنك أدها وأدود ‪ ..‬خلى كرموز كلها تشاور عليك وتقول‬
‫ده أبن المعلمة فايزة بجد ‪ .‬لم يفكر بعدما تأكد من هوية المتحدث فتحامل على نفسه ليستوعب حقيقة‬
‫المشهد الملتبس الذى لم يخرج منه سوى بشعور دامغ بأن زمن األستبعاد قد ولى من غير رجعة ‪..‬‬
‫تفرس فى مالمحها ‪ :‬عندك حق ياما فى كل اللى قلتيه وعداكى العيب والليلة كلها دلوقتى بقت فى‬
‫حجرى واأليام بينى وبينك هى اللى حتثبتلك أنك خلفتى راجل ‪ .‬بدا متحمسا ‪..‬ضربت الفرحة باطنه‬
‫وظاهره قبل أن تهدأ نبرته مبديا ترددا ‪ :‬بس فى حاجة كده يعنى ‪ .‬تابعه محمود بعيون ضيقة ‪ :‬حاجة‬
‫أيه يامنصور ‪.‬‬

‫ــ حكاية الهدد وبيت أبن شكر وشغل المقاوالت ‪ ..‬الحكاية دى جديدة على وما أضحكش عليك أنا مش‬
‫دايس فى الليلة دى ‪.‬‬

‫ــ ومين فينا فاهم يامنصور ‪ ..‬واحدة واحدة وكلنا حنتعلم مع بعض ‪ .‬تدخلت فايزة حين أطمأنت لحديثه‪:‬‬
‫ماتقلقش يامنصور أمك وراك ومن بكرة أنت مسئول قدامى عن حساب التاكسى والنص نقل وأنا حأفهم‬
‫النونو وخضر أنهم يعدوا عليك النهاردة فى القهوة حاسبهم بقى بطريقتك وشوف الدنيا ماشية أزاى ‪.‬‬
‫كلماتها نزلت على رأسه فأضاءت العالم فى عينيه وكأنه من شهود ليلة القدر ‪ .‬أقتربت بعينيها‬
‫تتفصحه‪ :‬سوى أمورك معاهم زى ماأنت عايز ‪ .‬لم يسمح وعيه المدهوش بفهم ذلك التغير الحاد ‪ ..‬مد‬
‫نظره فى وجه محمود المبتسم محاوال اسكات أسئلة تأكل عقله ‪ ،‬لم يجد سوى نظرة طمأنينة أرسلها كى‬
‫تهدأه ‪ .‬بينما أقتحمته فايزة حين الحظت وجومه ‪ :‬فى أيه تانى يامنصور ؟! ‪.‬‬

‫‪391‬‬
‫ــ مش مصدق كل اللى أتقال ده ياما ‪ ..‬أنتى لسه من كام يوم مبهدالنى ومفرجة الدنيا على وشايالنى‬
‫خالص من دماغك ‪ ..‬أيه اللى جد ماتفهمينى ؟ طرح سؤاله وشعورا قويا يتملكه بأن تلك العروض‬
‫وراءها شروطا تعجيزية ستفجرها فى وجهه بين لحظة وأخرى ‪ ..‬أنتظر منها توضيحا لم يحصل عليه ‪،‬‬
‫فتطوع محمود المحامى ‪ :‬الحكاية مش مستاهلة أسئلة وأستفسارات ‪ ..‬أم ومحتاجة أبنها يبقى جنبها‬
‫عايزاه يبقى راجل ويعتمد على نفسه عشان يقدر يريحها من تعب الشغل ووجع الدماغ ‪ ،‬وبصراحة أنا‬
‫شايف قدامى راجل جدع وملو هدومه وحيسد فى المسئولية والزم تفهم يامنصورأن الجدعنة مش كالم‬
‫والفشخرة بؤوالفرد عضالت الجدعنةالصح أزاى توسع الشغل وتكبره يعنى بدل البيت يبقى بيتين‬
‫والتاكسى والنص نقل والقهوة يبقوا أتنين وتالتة هى دى الشطارة وماتنساش أن تجارة أمك كبيرة فى‬
‫البيع والشرا ده غير شغل التقسيط اللى بيأكل الشهد ‪ ..‬أثبت وجودك يامنصور عشان تدخل على‬
‫التقيل ‪ .‬أنتفضت أبتساماته كثورة تحتاج وجهه ‪ :‬بكره حتشوفوا منصور حيعمل أيه ‪ .‬نظرة تفاؤل أبداها‬
‫محمود المحامى حين دار بكرسيه قبل أن يقف فى مكانه ‪ :‬يبقى على بركة اللـه ‪.‬‬

‫ــ ربنا يصلح األحوال ‪ .‬قالتها فايزة ووقفت كما وقف منصور الذى مد يده مصافحا المحامى ‪ :‬أنا بكره‬
‫حأروح من النجمة عند بيت أبن شكر وحأقابل محمد المقاول وأفهم منه كل حاجة وبعدها حأتصل بيك‬
‫نشوف حنعمل أيه ‪.‬‬

‫ــ ماشى كالمك ‪ .‬وضعت فايزة يدها على كتفه ‪ :‬تيجى توصلنى ياوله للبيت ‪.‬‬

‫ــ طبعا ياما ومن هنا ورايح مش حأسيبك لوحدك ‪ .‬سبقهم محمود لباب المكتب مودعا بينما سحب‬
‫منصور أمه ‪ .‬هبطا الساللم ‪ ..‬أجتازا المدخل ثم ترجال سويا ألول مرة منذ خروجها من السجن ‪ .‬سار‬
‫بجانبها واألرض تتراقص تحت قدميه حتى رن موبايله ‪ ،‬فلمح رقم نوسة على شاشته فتباطأ فى مشيته‬
‫كى يتمكن من الرد ‪ :‬مش حأعرف أتكلم دلوقتى حأوصل أمى للبيت وحأبقى أتصل عليكى ‪ .‬قالها هامسا‬
‫ثم وسع خطوته ليلحق بأمه التى فشلت فى أقتناص أى كلمة ‪ .‬أقترب وصار يحاذيها فأتاح لعينيها‬
‫فرصة نظرة ركنية مصحوبة بجملة ماكرة ‪ :‬األمورة بتطمن عليك ‪.‬‬

‫ــ أل ياما ده سليم ‪.‬‬

‫ــ وسليم بتاعك ده ماينفعش الكالم معاه غير بالوشوشة ‪ .‬لم يعقب مكتفيا بضحكة سمجة ‪ .‬فأردفت حين‬
‫أدلت رأسها لألرض ‪ :‬خلى بالك يامنصور أنا راهنت نفسى عليك ‪ .‬لم يستوعب الجملة ‪ :‬يعنى أيه ياما ‪.‬‬
‫‪392‬‬
‫ــ يعنى فى حتة جوايا بتقولى أن أبنك حيبقى راجل ويرفع رأسك وحيكون سندك فى الدنيا ‪ .‬ثم سكتت‬
‫لتطلق تنهيدة ‪ .‬أستأنفت وهى تتابع الشارع ‪ :‬وفى حتة تانية بتقوللى منصور مش حيقدر قيمة اللى‬
‫عملتيه معاه وحيخذلك ‪.‬‬

‫ــ واللـه ماتخافى ياما سيبى األيام تثبتلك وحتعرفى ساعتها أنك راهنتى على راجل ‪ .‬هزت رأسها‬
‫وأتخذا طريقهما بمحاذاة شارع الترام ومنه إلى شارع كرموز ثمإلى الداخل حيث سلسلة الحوارى‬
‫المتشابكة ‪ ..‬حاول منصور سحبها لحديث يتيح له فهم األسباب الحقيقية وراء " تسونامى " التغيير‬
‫الذى فرض عليه وجوما لم يفلح فى صرفه ‪ ..‬جمل عاطفية فضفاضة دخلت قاموس فايزة حديثا هو كل‬
‫ماتحصل عليه وهما يجتازا حارة بعد حارة اليقطع سيمفونية " الحنية " سوى تلويحها شماال ويمينا‬
‫ردا على تحية من صاحب محل أو من سيدة فى شرفة وكأنها فى جولة أنتخابية ‪ .‬عند رأس الحارة‬
‫تركها بصحبة كلمات أبن بار ‪ :‬ربنا مايحرمنى منك ياست الكل ويقدرنى أطول رقبتك وأشرفك فى‬
‫كرموز كلها ‪ .‬أبتسامة أخيرة ثم أوالها ظهره ‪ ..‬شعر الليلة بأنه حصل على أعتراف رسمى بوجوده‬
‫ككائن حى ‪ ،‬سار كطفل يهز جسده ينصت لفرحة تتقافز داخله تاركا ظله يزحف وراءه ‪ ..‬جاهد أن‬
‫يسابقه كأنما يتخلص من بقعة مظلمة تذكره بسنوات الضياع ولحظات القهر ‪ ..‬لم تسعفه خطوته الفرحة‬
‫أن يتخلص من خياله وكأنه رفيق " رذل " يتمدد ويقصر فارضا وجوده بأستماتة ‪ ..‬نسخة مزيفة‬
‫تالحق األصل بألحاح ‪ ،‬حركة بحركة ‪ ،‬خطوة بخطوة حتى تداخل بين قدميه ثم أنطلق من بينهما كمارد‬
‫مستعرضا طوله حتى تعادال فى الحجم بل زادت مساحته على األرض ‪ ..‬نظر منصور لظله كأنما يرى‬
‫شبحا ‪ ،‬بدا مواجها له أقرب منه مصاحبا ‪ ،‬تفحص وجهه المرسوم على األسفلت ‪ ،‬حدق فيه بأضطراب‬
‫حين ل مح شفتيه تتحركان تحسس لحمهما فوجدهما ثابتتين فأحكم أغالقهما بضغطة ‪ ..‬ثم وقف ولم‬
‫يتحرك ‪ ..‬أدلى رأسه لألرض حتى صارت تحت قدميه ‪ ..‬صوت هامس يتصاعد منها ألعلى حتى بلغ‬
‫أذنيه ‪ :‬شفت يامنصور أمك عملت معاك أيه ‪ ..‬ماهانش عليها تسيبك ضايع فى الدنيا مدت أيديها‬
‫ووقفت جنبك وأديتك فرصة عمرك عشان تبقى بنى أدم جديد ‪ .‬تضاعف الصوت حين بدل نبرته ‪:‬‬
‫أخييه‪ ..‬أنا وأنت بقى شكلنا وحش أوى ‪ .‬تمتم منصور بخوف حتى تشكلت كلمة " ليه " على لسانه ‪.‬‬

‫ــ أنت نسيت لما مشينا سوا ورحنا لغاية بيت نعيم عشان تدبر ألمك مصيبة تخلصك منها ‪ ..‬فاكر‬
‫والنسيت ‪ ..‬ياه يامنصور شفت أنا وأنت كنا عايزين نعمل أيه فى أمنا وهيه كانت بتفكر لنا فى أيه ؟‪.‬‬
‫شعر بسخونة األسفلت تحت قدميه ‪ ..‬دعك عينيه كى يستعيد ثباته بعدما أطلق نفسا طويال كنس به هما‬

‫‪393‬‬
‫كان جاثما على صدره مرددا بأرتياح ‪ :‬الحمد للـه أنى ماكملتش فى السكة السودة دى اللى كنت ماشى‬
‫فيها ‪ ..‬اللـه يخربيت أمك ياسليم أنت ونعيم ‪ .‬قالها ودموعه تراوح مكانها فاسدل حفنيه فغادرتهما إلى‬
‫خديه فمسحها بطرف ابهامه حين أستعاد خطوة نشطة بأتجاه القهوة قبل أن يتفادى بركة مياه بوثبة ‪..‬‬
‫دار حول نفسه بنظراته ‪ ..‬أختفى ظله وظن بعدها أنه قد لقى مصرعه غرقا !!‪.‬‬

‫دخل منصور المقهى بصدر يمتلىء نشوة ‪ ..‬تضامنت مالمحه مع حالة معنوية مرتفعة ‪ ،‬يهز كتفيه‬
‫مختاال يحبس أبتسامة حين لمح أبوه الذى أزاح رأس" سعيد تشكك " التى تترنح داخل جلسة حوارية‬
‫ضمت الحاج " تاج " وعم " كامل " بدوا منصتين له بأستغراب شديد وهو يهتف فى أذانهم مستعينا‬
‫بكل األلهة التى تصلح للقسم بأن " مبارك " الذى يحاكم حاليا داخل قفص المحكمة هو " دوبلير " ‪..‬‬
‫نظر عبده فى وجه أبنه قبل أن ينفض رأسه من تشككات " تشكك " فأنسلت من الجلسة يلملم جلبابه‬
‫متجها ناحيته ‪ .‬قابله منصور بوقفة المكلل بالنصر مفسحا ساقيه واضعا يديه فى جيب بنطلونه‬
‫كأقطاعى فى زمن الملكية يعاين أطيانه ‪ .‬كانت دعوة صريحة لعبده أن يستقبله أستقباال حذرا وهو‬
‫يتفحص هيئته المتشنجة ‪ ..‬رمقه منصور بطرف عينه ‪ :‬فى أيه يابا بتبصلى كده ليه ؟! ‪.‬‬

‫ــ أنت اللى فى أيه ياوله ؟ قالها منكمشا ‪ ..‬لم يتلق ردا بل سأله وهو يوزع نظراته على الموجودين ‪:‬‬
‫الوله نونو وخضر ماظهروش ؟ سأل بأستعالء بينما الزال عبده منتظرا توضيحا حين طرح أستفسارا ‪:‬‬
‫وبتسأل عنهم ليه ؟ ‪.‬‬

‫ــ عشان أحاسبهم على يومية التاكسى والنص نقل ‪.‬‬

‫ــ وأنت مالك !‪ .‬تخلص من القناع الخشبى الذى دخل به وألتفت ألبوه تتلبسه قوة خفية لم يعتادها‬
‫األخير‪ :‬مالى أزاى يعنى ‪ ..‬هيه دى مش فلوسى وحاجتى ‪ .‬فور سماعه لتلك العبارة ‪ ،‬لم يكن أمامه‬
‫سوى أن يقرب عينيه فى عينى منصور ‪ :‬ورينى عينيك ياوله ؟!‬

‫ــ أنت فاكرنى مبلبع وال أيه ‪ ..‬عيب عليك يابا ‪ ..‬اللى قدامك ده واحد تانى خالص ‪ ،‬النهاردة التاريخ‬
‫حيتكتب من جديد الليلة حتشوف بعينيك النونو وخضر وهمه قاعدين قدام العبد للــه زى األرانب وأنا‬
‫بأحاسبهم بالمليم والسحتوت وحتبقى ليلة أبوهم سودة لو حسيت أن فى حد فيهم بيلعب بديله ‪ .‬تعلق‬
‫نظره بأبنه كمن يحاول قراءة طلسم ‪ :‬أنا مش فاهم حاجة ‪.‬‬

‫‪394‬‬
‫ــ مش فزورة يعنى ده أنت أبو المفهومية يابا ‪ ..‬منصور دلوقتى زى ماتقول كده بقى معلم صغير أو‬
‫راجل أعمال فى أول الطريق ‪ ،‬شغل أمى أنا حأمسكه كله وحأبقى مسئول عنه وبكره من بدرى حأكون‬
‫مع الحاج محمد المقاول عند بيت أبن شكر عشان أباشر بنفسى الهدد لغاية مامحمود المحامى يجهز‬
‫ورق الترخيص من الحى ‪ .‬أخترقت الكلمات جسده كحقنة مخدر ‪ ..‬تيبست مالمحه وتهدل لحم وجهه‬
‫وسط لحظة غموض سلبته التركيز ‪ :‬أيه الجنان اللى بتقوله ده ‪.‬‬

‫ــ ده مش جنان ده أتفاق تم بينى وبين أمى فى مكتب محمود المحامى ودى البداية وبعدها حأدخل‬
‫معاها فى شغل التجارة اللى على أصوله ‪ .‬ألقى كلماته كقنبلة شديدة األنفجار اصابت عبده بسكتة كالمية‬
‫وحدقتان تترنحان ‪ ..‬طال صمته بعدها حتى قطعه منصور ‪ :‬أنت مش مصدقنى وال أيه ؟ رج رأسه كأنما‬
‫يقلب ماسمعه ‪ :‬مش عارف ‪ .‬قالها كالمسطول ‪.‬‬

‫ــ أل أعرف وكلها شوية وحتشوف بعينيك لما ييجى النونو وخضر ‪ .‬لم يجد عبده ريقا ليبتلعه فخرج منه‬
‫صوتا خشنا ‪ :‬واللى حصل ده سببه أيه ؟ ‪.‬‬

‫ــ من غير سبب ربنا عايز كده ‪ .‬جملة ألقاها بوجه متفاءل بينما تطلع أبوه إليه متماشيا مع خدر‬
‫اللحظة ‪ :‬طب أنا فين من الليلة دى ‪ .‬قالها كمقامر اليصدق خسارته ‪.‬‬

‫ــ ماأنت موجود آهوه فى القهوة وربنا يعينك بقى عشان أنا مش حأبقى فاضيلك ‪.‬‬

‫ــ مش حتبقى فاضيلى ‪ ..‬طب تعالى نقعد وفهمنى كده براحة الدنيا ماشية أزاى ‪.‬‬

‫ــ أسبقنى أنت حأعمل مكاملة ع السريع وآجى وراك ‪ .‬قلب منصور عينيه فى المكان والموجودين‬
‫كرجل مهم وهو يجرى أتصاال خاطفا بنوسة لم يستغرق سوى دقيقتين ‪ ،‬لم يتطرق للتفاصيل ‪ ..‬عناوين‬
‫مختصرة أفصح عنها بثقة متزايدة أصابت الحبيبة بثورة فرح قبل أن تحذره طيلة المكالمة ‪ :‬أوعى‬
‫تكون بتشتغلنى والبتهجص ‪ .‬كان حاسما حين شدد عليها بأنه فى الغد سيكون مقاتال على جبهة‬
‫" أبن شكر " ‪ .‬تخطت متشككة أخباره المفرحة وأستفسرت منه عن شكل الحياه المنتظرة بالنسبة لها‬
‫وألمها بعد تسليم الشقة ‪.‬‬

‫ــ ماتقلقيش يابت الليلة حأعدى على حباجة السمسار حيشوفلكو شقة هنا نواحينا ‪.‬‬

‫‪395‬‬
‫فى تلك اللحظة بلغ عبده ركنه فى انتظار أبنه لمعرفة الحيثيات التى أدت لتلك القرارات المفاجئة‬
‫وماسيترتب عليها من نتائج حتما ستطاله ‪ ،‬وان كان يشعر فى قرارة نفسه بأنه أصبح خارج حركة‬
‫التنقالت وباتت نهاية خدمته قرارا ينتظر توقيع فايزة ‪ .‬جلس مهموما تائها يبحث عن نهاية مقبولة‬
‫ألحداث بدت ملفقة ‪ .‬دعك جبينه بعنف كالذى ينتظر أن يخرج منه عفريتا تكون أمنيته الوحيدة بعد‬
‫سماعه مقدمة ‪ :‬شبيك لبيك عبدك بين أيديك " هى الولية فايزة بتفكر فى أيه بالظبط " ‪.‬‬

‫الفصل الثالث عشر‬

‫كان يوما مشهودا أيضا يضاف إلى حصيلة األيام التى شهدت أحداثا صغيرة تتراكم حتى يصبح لها فعلها‬
‫المؤثر‪ ..‬كان الوقت يقترب حثيثا من الحادية عشر ليال حين زحفت نورا ناحية مكتب زيزيت ‪ .‬دخلت‬
‫ولم يتبق لها سوى قدمين تحتاجان بشدة لمياه دافئة وملح وأنامل أحتقنت أطرافها بفعل مقص رافقها‬
‫طيلة تسع ساعات متواصلة ‪.‬‬

‫ــ آه ‪ ..‬صيحة ألم صاحبتها حتى سقوطها متهالكة على كرسى أمام مكتب زيزيت التى أنهمكت فى‬
‫مراجعة ايصاالت تسليم موديالت الصيف وسط فوضى وزحمة غير مبررة على المكتب ‪ ..‬منفضة‬
‫متخمة بأعقاب السجاير يجاورها فنجان قهوة على حافته بصمات روج تعود لشفايف زيزيت وعلى‬
‫يسارها كومة فلوس هى حصيلة ماتم جمعه كبداية مبشرة لـ " سيزون " الصيف وأمامها كشف طويل‬
‫ممدد لطلبات ال تنتهى من محالت كبرى ستتم دراستها الحقا مع نورا لتبدأ فى تنفيذها حسب أولويات‬
‫الكمية ‪ .‬لم يكن من الصعب أدراك أن نورا أصبحت فى الفترة األخيرة مصدرا رئيسيا لنجاح األتيليه‬
‫خاصة فى العامين األخيرين ‪ ،‬بل أنها الشريان الرئيسى لتدفق األموال لجيب زيزيت وصار شعار األتيليه‬
‫بفضل موهبتها لزمة تصاحب أفتتاح أيا من فروع محالت المالبس الكبرى مدعومة بخفوت نجم‬
‫المستورد فى ظل حالة الركود القاسية ‪ ،‬فأصبحت نورا أسما له وزنه فى عالم الموضة باالسكندرية‬
‫بفضل تصميمات واقعية وتكلفة مناسبة قفزت بها الى صدارة المشهد ‪.‬‬

‫رفعت زيزيت رأسها بتعب تعاين وجه نورا المتألم ‪ :‬أتقتلتى النهارده ‪ .‬دعكت ركبتها بعدما فردت‬
‫ساقيها ‪ :‬المهم أننا سلمنا كل الشغل ومافيش حاجة متأخرة بينما أرسلت زيزيت نظراتها الى خارج‬
‫المكتب حين سمعت صوت أقدام فضيلة التى مرت أمامهما بخطوات طافحة أستعدادا للرحيل قبل أن‬
‫تشير من الخارج ‪ :‬أنا مروحة يامدام ‪ ..‬طفيت األنوار جوه وشيلت فيش المكن ‪ ..‬عايزة منى حاجة ‪.‬‬

‫‪396‬‬
‫ــ بالسالمة يافضيلة ‪ .‬قالتها وأنسحبت بعينيها لدفتر األيصاالت قبل أن يستوقفها منظر نورا حين لمحت‬
‫فى وجهها عالمات تتجاوز األرهاق ‪ ،‬لمست فى مالمحها جمودا وخطوط مقتضبة بين الحاجبين ‪ .‬مدت‬
‫رأسها ‪ :‬مالك يانورا فى إيه ؟‪ .‬برأس متصلبة وعيون متحجرة ونظرات ثابتة لألمام دون ألتفات لمصدر‬
‫الصوت ‪ :‬ماما !! ‪.‬‬

‫ــ مالها ‪ .‬كلمة رددتها بفزع ‪.‬‬

‫ــ كفاية عليها شغل لحدكده فى األتيليه ‪.‬كلمات كاللكمات نالت من أتزانها ‪ :‬ليه ؟ ‪.‬‬

‫عالمة التعجب التى رسمتها على وجهها كانت كافية لتخفف نورا من نبرتها ‪ :‬الظروف بتحكم يامدام‬
‫وأنا وأخواتى قعدنا مع بعض وأتناقشنا كتير لغاية ما أتفقنا على القرار ده ‪ .‬أنشغلت فى قراءة مالمحها‬
‫التى تحفظها عنها حين تتشدد فى موقف ‪ :‬والقرار ده سببه أيه ؟ ‪ .‬تجاهلت نورا صدمتها المطبوعة‬
‫على وجهها وواصلت بنبرة واثقة ‪ :‬شايفين أن ده حيبقى فى مصلحتنا وأحنا أدرى بظروفنا ‪ .‬قالتها‬
‫بضيق ‪ .‬بينما زيزيت قد تعودت على مزاجها الحاد فى الفترة األخيرة وحساسيتها المفرطة تجاه وجود‬
‫أمها فى األتيليه ‪.‬‬

‫ــ بس قرارك ده حيبقى غلطة كبيرة أوى ‪.‬‬

‫ــ مش مهم لو حيمنع غلطة أكبر ‪.‬‬

‫ــ مافيش غلطة أكبر من الحكم على أنسانة بأنها تكمل حياتها زى لوح الخشب من غير روح وال حركة‬
‫وتفضل ليل ونهار محبوسة فى مكانها وكأنها لسه ماخرجتش من السجن ‪.‬‬

‫ــ فيه حاجات تانية أهم ألف مرة من الشغل وأنا ماقلتش تتحبس بالعكس هيه حرة تعيش حياتها زى‬
‫ماهى عايزة و بالطريقة اللى تحبها وال هوه يعنى الزم شغل األتيليه بالذات ‪ .‬أنهت جملتها وهى الزالت‬
‫على وضعيتها تنظر أمامها وكأنها تتحاشى المواجهة ‪ :‬وماله شغل األتيليه يانورا ‪.‬‬

‫ــ مالهوش ‪ ..‬بس بقى بيشغلها زيادة عن اللزوم وواخد كل وقتها لدرجة أنها بقت مش شايفة‬
‫حاجة غيره وبصراحة كده الوضع ده بقى مش فى مصلحتنا والمصلحتها ‪ .‬ظلت واجمة للحظات تتعقب‬
‫كلماتها ‪ ،‬أنسحبت للوراء تبحث عن فهم قبل أن تدخل إلى نفق طويل من األسباب الحقيقية المحتملة ‪.‬‬

‫‪397‬‬
‫ــ مع أنى مش فهماكى لحددلوقتى تقصدى أيه من ورا كالمك ده ‪ ،‬لكن ‪ ..‬سكتت لتستعيد من ذاكرتها‬
‫مواقف قديمة كانت كافية لجعل هدى حاضرة بقوة حين أعلنت موقفها ‪ :‬أرجوكى يانورا ماتطلبيش منى‬
‫المستحيل بالبساطة دى ‪ ،‬الزم تفهمى كويس أن أمك هيه الوحيدة اللى وقفت معايا وساعدتنى لما الدنيا‬
‫كلها اتخلت عنى ورمتنى ‪ ..‬أزاى بس عايزانى أقولها شكرا أنا مش محتاجاكى فى األتيليه ‪ .‬ألتفتت إليها‬
‫ألول مرة منذ بداية الحديث ‪ :‬أنا ماطلبتش منك تبلغيها بأى حاجة كل اللى أنا عايزاه أنك تكونى على‬
‫الحياد وسيبينى أنا أتصرف بطريقتى ‪ .‬قطبت جبينها حين سمعت عبارتها ‪ :‬ياه ‪ ..‬أتغيرتى يانورا بقيتى‬
‫أسية أوى ‪.‬‬

‫ــ أنا ‪ ..‬قالتها بأستنكار ‪.‬‬

‫ــ لما تطلبى منى أبقى على الحياد وأقف أتفرج على صاحبتى وصاحبة الفضل على يبقى ده أسمه أيه ‪،‬‬
‫عايزة تحكمى عليها بالسجن من تانى ومش عايزانى أتدخل وال أقف جنبها ‪ ..‬ليه عايزة تحرميها من‬
‫أنها تعيش حياتها بالطريقة اللى هيه شايفاها ‪ ..‬واللـه حرام يانورا وكمان مطلوب منى أعمل نفسى‬
‫مش واخدة بالى وأبقى على الحياد ‪ ..‬عرفتى أنك أتغيرتى وبقيتى واحدة تانية خالص ‪ .‬أنهت عبارتها‬
‫وهى تحمل مرارة كست مالمحها ‪.‬‬

‫ــ يا مدام اللى أ يده فى الميه مش زى اللى ايده فى النار ومن االخر كده ماما خالص مش هتنفع تكمل‬
‫فى االتيليه ‪ ..‬حد فينا الزم يفضل يا أنا يا هيه ؟! وقعت الجملة داخل زيزيت موقع الرعب ‪ ،‬أصابها‬
‫بهلع عندما أنتبهت إلى خطورة األحتمال وجديته ‪ ..‬لم تتخيل ذلك فكادت تنفجر فى وجهها بغضب‬
‫مجنون يقود إلى تعقيد الوضع أكثر مما يسهم فى حله ‪ ،‬لذا سارعت إلى تطويق ثورة غضب ربما تنفلت‬
‫منها إنفجارات يصعب حصر خسائرها ‪ .‬سيطرت على لسانها ونطقت بهدوء ‪ :‬ياريت يا نورا تقومى‬
‫تروحى دلوقتى وخدى حمام دافى ولما تهدى نبقى نكمل كالمنا بكره ‪ .‬قاطعتها وهى التزال على‬
‫حدتها ‪ :‬الموضوع مش محتاج كالم تانى ‪..‬أنا أسفه يامدام اللى قلته هو الحل الوحيد ‪.‬‬

‫ــ ليه يانورا بتحاولى تحرجينى مع مامتك وتطلعينى قدامها ماعنديش أصل وناكرة للجميل ‪ .‬كان‬
‫صوتها المتقطع دليال واضحا على وجود صراع نشب فجأة داخلها أربك كل حساباتها وهى تحاول‬
‫البحث عن معادلة توازن بين عاطفة مستقرة فى قلبها تجاه صديقة عمرها وبين باقة من المخاوف‬
‫المشروعة وكلها تدور حول خسارتها لنورا ‪.‬‬

‫‪398‬‬
‫‪ -‬الحسبة مش كده يامدام انا ال عايزة أحرجك وال أحرج نفسى الظروف هى اللى بتتحكم فينا ومتهيألى‬
‫أن ماما مش بتخبى عنك حاجة وأكيد قالتلك على اللى حصل ليوسف وبسمه فى حياتهم ‪ ..‬أنا مش‬
‫هقدر أستنى أكترمن كده لغاية ما كلنا نضيع بسببها مش ممكن هأسكت يا مدام وأنا شايفة أخواتى اللى‬
‫أنا تعبت وشقيت عشانهم بقوا ملطشة ومعايرة من اللى يسوى واللى مايسواش ‪..‬أسفه يا مدام مش‬
‫هسمح بالكالم ده تانى ‪ .‬سحبت زيزيت سيجارة وأشعلتها ونظرت لها نظرة طويلة من خالل دخانها‬
‫المتصاعد وكانها تختبىء وراءه‪ ..‬شعرت بعار لحق بها حين صمتت‪..‬أفصحت عن كلمات نحيلة بالكاد‬
‫تكفى موقفا ضبابيا ‪ :‬أنا مش عارفة أقولك أيه وال اتصرف أزاى ؟! لم تكن زيزيت على وعى بطبيعه‬
‫هذا الصراع الذى تديره نورا برغم ذكائها وقربها الشديد منها ‪.‬قامت نورا وهى أكثر صرامة ‪ :‬أنا‬
‫هأتصرف مع ماما‪ .‬أشارت بكلماتها قبل ان تلمح فى وجه زيزيت ضعفا وأرتباكا أستوجب منها‬
‫توضيحا ‪:‬ع العموم انا حاسة بيكى ومقدرة الوضع اللى أنتى فيه ‪ ..‬بس مش بأيدى ‪ ..‬تصبحى على خير‬
‫خرجت من المكتب تدهس األرض بقدميها بأتجاه الباب الذى وصل صوت أرتطامه ألذنى زيزيت التى‬
‫غاصت فى لحظه سكون قاتلة وسط ظالم يحاصرها من كل جانب ال يضيئه سوى بقعة الضوء المنبعثة‬
‫من كشاف "نيون" فى سقف مكتبها‪ ..‬أرخت رأسها للوراء تسندها على حافة مقعدها الجلدى تمشى‬
‫بنظراتها صعودا وكأنها تنتظر حال قد ينزل عليها من اعلى بعدما فرضت عليها نورا واقعا جديدا‬
‫وتركتها وجها لوجه أمام أختيار وحيد وصعب ‪ ،‬فى كل األحوال سيكون جريمة كاملةاألركان أما فى‬
‫حقها أوفى حق صديقة عمرها !‪ ..‬ظلت لدقائق شاخصة للسقف الذى هيأ لها بلمعانه فرصة األسترجاع‬
‫حين سحبت من ذاكرتها مشهد اول يوم لنورا فى األتيليه حين كان االلتزام والطاعة هما الشعار الرسمى‬
‫لشخصيتها ‪ ..‬تنهيدة طويلة بمالمح ساخرة حين عقدت مقارنة بين نورا اليوم و نورا األمس ‪ ..‬مطت‬
‫شفتيها بهمهمة بعدما أيقنت أنها فى زمن تتبدل فيه أوراق اللعبة ‪ ..‬وأن للقدر عالمه الخاص ‪. !..‬‬

‫فتحت نورا باب الشقة والزالت تحمل عنادا على مواصلة ما بدأته كما خططت ‪ .‬أتخذت طريقها من‬
‫الصاله حتى باب غرفة أمها ‪..‬دفعت الباب وهى متيقنة أنها ستجد أمها كامنة فى ظلمة غرفتها ‪،‬‬
‫واجهتها أول ما خطت الى الداخل وشبح األم فى المواجهة‪ ..‬أضاءت النور فأستقبلتها وهى ممددة على‬
‫السرير بعينين ترمشان ومالمح ضعف أعتادت أن تواجه بها الحياة منذ خروجها من السجن ‪.‬‬

‫خرجت منها فرحة ‪ :‬تعالى يا حبيبتى‪..‬مش عوايدك يعنى تيجى من األتيليه وتدخلى تشوفينى ‪ .‬سارت‬
‫ناحية السرير بتمهل وهى تشبك اصابعها حول خصرها ‪:‬عادى يعنى ‪ .‬زحزحت هدى جسدها حتى‬

‫‪399‬‬
‫لصقت ظهرها بظهرالسرير‪ :‬تعالى أقعدى جنبى ‪.‬أعلنت عن رغبتها التى حملتها معها إلى الغرفة‪:‬‬
‫عايزةأتكلم معاكى شويه يا ماما ‪.‬قالت جملتها و أقتربت منها ببطء ورمقتها من أعالها ‪ ..‬خيريا نورا‪.‬‬
‫طالت نظرتها فى عيني أمها التى تأهبت لها وتقلص وجهها رهبه ‪ ..‬زيارة غريبة فى توقيت أغرب ‪ ،‬لم‬
‫تعتاد منها ذلك الفعل ‪ .‬صعدت نورا رغبتها حتى بدت على شفتيها ‪:‬أنا أتفقت مع مدام زيزيت على ‪..‬‬
‫صمتت‪ ..‬أرخت جفنيها ثم أستأنفت بوتيرةأسرع ‪ :‬من بكره مفيش شغل ليكى فى األتيليه ‪ .‬لفحت كلماتها‬
‫وجه هدى كريح عاتية كأنها صفعات متتاليةعلى خد كائن ميت ‪ ..‬مالت بجسدها لألمام كى تكون على‬
‫مسافه كافية منها كمحاولة ألبتالع جملتها التى اتحشرت فى حلقها ‪ ،‬حاولت لفظها كى يتزن ادائها ‪:‬‬
‫ما فيش أتيليه‪ ..‬يعنى ايه؟! ‪.‬‬

‫ــ يعنى زى ما سمعتى يا ماما ‪ .‬قالتها ثم نظرت لها نظرة ترقب كأنها تستعد ألى رد فعل ‪ .‬أرتجفت‬
‫على شفتيها أبتسامة تائهة بزغت بعفوية ‪ :‬ليه يا نورا ؟! سألتها وهى تتحامل على نفسها حتى بلغت‬
‫طرف السرير‪ :‬من غير ليه يا ماما ‪.‬‬

‫‪ -‬مش من حقى اسأل ‪ .‬قالتها واقفة ‪.‬‬

‫ـ المصيبةأنك بتسألى كأنك مش فاهمة أو مش واخدة بالك ! ‪.‬‬

‫‪ -‬من أيه يانورا؟كادت أن تنفعل األخيرة حتى الحظت نظرة التوسل فى عينيها ‪:‬بصراحة أحنا وضعنا‬
‫بقى صعب جدا وأنا ويوسف وبسمة مش عارفين نالحقها منين وال منين ‪ ..‬مافيش حاجة بتستخبى‬
‫ياماما وأنتى شوفتى بعينيكى اللى حصل ليوسف وأزاى مستقبله اللى كان رسمه ضاع منه حتى بسمة‬
‫هى كمان ماسلمتش من البتاع ده اللى أسمه أمجد واللى أصال مايساويش ربع جنيه سابها وخلع لما‬
‫عرف حكاية السجن ‪..‬تخيلى‪ ..‬طبعا هى ماقالتلكيش على الحكاية دى عشان مش عايزه تزعلك وال‬
‫تحرجك ‪.‬كلمات مباشرةألجمتها وسحبتها بقسوة لدائرة صمت رهيبة بينما لم تكتف نورا وظلت تالحقها‬
‫‪:‬األتيليه زباينه كتيرة ياماما زى ما أنتى عارفة وفيهم كتير من المنطقة هنا وعارفين القصة بتاعتك‬
‫كلها من طأطأ لسالموعليكو ولألسف مافيش حد بينسى واللى فيهم نسى لما بيشوفوكى بيفتكروا كل‬
‫حاجة ‪ ..‬أرجوكى كفاية لحد كده وماتضيعناش ‪.‬‬

‫‪ -‬أنا يانورا ‪ .‬قالتها وسقطت جالسة بينما أعتدلت فى وقفتها لترسم تعبيرا صارما على وجهها ‪ :‬أيوه‬
‫أنتى يا ماما‪ ..‬ولو صحيح بتحبينا وخايفة علينا أسمعى الكالم وريحى نفسك وريحينا ‪.‬‬
‫‪400‬‬
‫‪ -‬يعنى كمان بتشككى فى خوفى عليكو‪..‬ده أنا اللى ‪ ..‬رفعت نورا يدها حتى ظللت بها وجه أمها التى‬
‫أنكمشت فى مكانها كالمحكوم عليه باألعدام بأشارة تعنى "كفى" مصحوبة بتحذيرقاسى ‪ :‬ال يا ماما مش‬
‫عايزة أسمع مرافعات وال حكايات قديمة أنا دلوقتى مش باناقشك فى اللى عملتيه أن كان صح‬
‫والغلط أنا كل اللى بأطلبه منك تنسى حكاية شغل األتيليه مادام حيجيب لنا مشاكل ووجع دماغ وآهو‬
‫موبايلك معاكى أبقى أتكلمى براحتك مع زيزيت وحكى معاها زى ماأنتى عايزة ولما تحبى تشوفيها أبقى‬
‫خليها تعدى عليكى هنا فى البيت فى أى وقت ‪.‬‬

‫ــ يعنى أنتى شايفة أنى لما أتحبس هنا فى البيت بين أربع حيطان حيبقى ده حل كويس ويريحك ‪.‬‬

‫ــ آه ‪ ..‬أمام أصرارها حاولت أن تفهم ‪ :‬وزيزيت رأيها كده زيك ‪.‬‬

‫ــ مش مستنية رأيها أنا أدرى بمصلحتى ومصلحة أخواتى ‪ .‬شعرت هدى بنبرتها القاسية تفتت داخلها‬
‫أشياء متماسكة ‪ ..‬تسحبها الى منطقة خوف التملك لها وصفا ‪ ..‬خوف كثير يهوى داخلها ‪ ..‬أحساس‬
‫متنامى بالظلم وجبروت قوة قاهرة تدفعها الى تسليم ويأس ‪ .‬طفحت من عينيها مرارة أنسالت على‬
‫خديها وتهيأت على شفتيها ‪ :‬أنا نفسى أعرف اللى بتقوليه ده من قلبك فعال وال أنتى عايزة تفهمينى أنك‬
‫خايفة على أخواتك أكترمنى وال دى تمثيلية وراها حاجة تانية أنا مش فهماها وال يمكن تكونى‬
‫بتكرهينى ‪ ..‬قولى ماتخبيش ‪ .‬طرحت أستفسارها بعينين أتسعتا حيرة وقلق ‪.‬‬

‫ــ مافيش حد فى الدنيا بيكره أمه ‪ .‬قالتها بمالمح التنسجم مع معنى الجملة ‪ :‬واللى بيحصل منك كل‬
‫يوم من ساعة ماطلعت من السجن ‪ ..‬تسميه أيه ؟!‪ .‬ضيقت عينيها ‪ :‬وهو أيه اللى حصل منى ؟ ‪.‬‬

‫ــ حاجات بسيطة أوى التذكر أقلها أنك مانعة الكالم معايا خالص وكأن فى تار بايت بينى وبينك ‪ ،‬لو‬
‫دخلت عليكى األوضه ولقيتك صاحية أول ماتشوفينى تبقى عايزة تنامى لو قربت منك وأنتى قاعدة وسط‬
‫أخواتك دقيقتين تالتة بالكتير وتقومى بأى حجة حتى فى األتيليه اللى بنقعد فيه مع بعض ساعات طويلة‬
‫مافيش كلمتين بتقوليهم معايا على بعض لغاية ماكل الموجودين معانا خدوا بالهم وبدأوا يسألونى فى‬
‫أيه بالظبط ولوال الحرج والكسوف كانوا سألونى هى دى بنتك وال أل ؟!‪ .‬كانت توجه لها الكلمات وهى‬
‫تطوف حولها بينما تابعتها نورا صامتة ولم تعقب حتى بلغت هدى كرسى التسريحة الصغير ‪ .‬جلست‬
‫أمام المرآة تواجه أبنتها من خاللها ‪ :‬أيه اللى أنا عملته معاكى بتعاقبينى عليه ‪ ..‬أيه الغلطة الكبيرة اللى‬
‫أنا غلطها ومخلياكى تبعدى عنى ومش طايقانى ‪ ،‬حأفترض أنى أذنبت ‪ ..‬حأفترض أنى مليانة ذنوب‬
‫‪401‬‬
‫وخطايا ‪ ..‬مين فى الدنيا خالى من الذنوب ومين اللى المفروض يقف جنبى ويسامحنى ويغفرلى غير‬
‫بنتى الكبيرة اللى طول عمرى بأتعامل معاها على أنها صاحبتى وأختى وحبيبتى ‪ .‬رددت جملتها وهى‬
‫تنتفض وصوت أنفاسها تجاوز الحد الطبيعى للدخول والخروج حين أقتربت نورا منها بخطوات بطيئة‬
‫وهى تعاين وجهها قبل أن تنفض عنها لحظة أرتباك ‪ :‬أنتى اللى حساسة زيادة عن اللزوم ياماما ‪..‬‬
‫مافيش حاجة من كل اللى قلتيه ده أنا قصدتها ‪ ..‬شيلى األوهام دى من دماغك ‪ .‬الذت بالصمت تخفى‬
‫فيه ضعف ها ‪ ..‬سرحت للحظات بدت فيها مالمحها تكتسى بسواد أيامها ‪ .‬لم تعد اال ويد نورا تستقر فوق‬
‫كتفها ‪ :‬خالص ياماما أتفقنا ‪ .‬نظرة صامتة أو ربما يائسة من عينيها أو نطق كلمة واحدة التؤدىإال‬
‫لمعنى واحد يؤكد على أستسالمها ‪ ..‬بقيت مكانها تزن كلمات أبنتها لعلى قبولها ‪ ،‬يسهل لها الوالدة‬
‫الثانية ‪ ..‬التخلى عن الماضى ودخول المستقبل بهوية بيضاء ‪.‬‬

‫ــ لو أنتى شايفة يانورا أن طلبك ده حيخلينا نرجع زى ماكنا ‪ ..‬أنا موافقة ‪ .‬وكأنها لم تسمع ماقالته ‪:‬‬
‫يعنى أتفقنا ياماما ‪ .‬هزت راسها شاردة كأنها فى عالم أخر ‪ ..‬عالم متواصل من المفاجأت والالمعقول ‪.‬‬
‫قامت بتعب تحت عينى أبنتها التى تحرسها فى لحظات سكوتها ‪ ..‬أيقنت هدى أن شمس الماضى أشد‬
‫فتكا بالنفس بأكثر مما توقعت ‪ ..‬هى تبزغ فجأة فتعرى الحقائق وتزيل عنها تلك الستائر الواهية ‪ .‬أسئلة‬
‫راحت تتمادى داخلها تتخللها مزاوجة بين الهدوء والهياج ‪ .‬سارت بأتجاه الباب ‪ ..‬بادرتها نورا ‪:‬‬
‫رايحة فين ياماما ؟ ‪.‬‬

‫ــ حاسة أنى مخنوقة ‪ ..‬حأقعد برة فى الصالة ‪ .‬لم تعقب وخرجتا سويا من الغرفة ‪ ..‬أتجهت هدى الى‬
‫الصالة المظلمة بينما أنحرفت نورا ناحية غرفتها ‪ ..‬وقفت تفتح الباب ‪ ،‬لينهال شريط من الضوء حادا‬
‫كالسيف يشرخ صدغها لنصفين حين ألتفتت ألمها ‪ :‬ماتزعليش منى ياماما ‪ ..‬مش بأيدى ‪ .‬دخلت بعدها‬
‫وأغلقت الباب خلفها تاركة أمها بنفسية سيئة بعدما كومت نفسها على مقعد الصالة ‪ ..‬مدت نظرها من‬
‫خالل الضوء الخافت المتسرب من تحت األبواب المغلقة الى مقاعد األنتريه التى بدت كشواهد القبور ‪..‬‬
‫المقارنة بين العزلة والسجن التفارق عقلها وكأنها تعيد أكتشاف وجودها من جديد ‪.‬‬

‫داهمها أحساس غريب بأنها فى عالم تسقط فيه كل اللغات ‪ ،‬حين تسقط كل العالقات وتستحيل الرغبات‬
‫البشرية الى رغبة واحدة المثيل لشراستها ‪ ..‬رغبة فى البقاء ‪ ،‬وكأن الحياة تزداد جماال كلما أزدادت‬
‫بشاعة وقسوة ‪ .‬فى هذا العالم الذى وقفت هدى على حدوده طيلة تسع سنوات متفرجة ذاهلة مروعة ‪،‬‬
‫كان أهون عليها من لحظة شعرت فيها بأن كل شيىء يفقد معناه ‪.‬‬
‫‪402‬‬
‫فى تلك اللحظة كانت الظلمة قد غمرت كل شيىء فى الغرفة حين جلست نورا قرفصاء فوق سريرها‬
‫بجوار أختها الممددة فى غيبوبة نوم ثقيل ‪ ،‬ركبتاها تالمسان صدرها ويداها معقودتان حول ساقيها‬
‫ورأسها يستند الى ظهر السرير البارد خلفها ‪ ..‬بدت فى غاية الدهشة من جلستها هذه ‪ ،‬فأنها لم تتمدد‬
‫فى فراشها لتنام كما تفعل كل ليلة أحست ساعتها بالكآبة وبأنها على وشك أن تبكى ‪ ..‬أحست شيئا ثقيال‬
‫يركب على صدرها ويكتم أنفاسها ‪ .‬فكرت طويال فيما فعلته ‪ ،‬هل هى رغبة جارفة تجاه وجود أمها التى‬
‫بدت أمامها ككائن غريب جاء يستعيد سطوة الماضى المتأكل على حياتهم القادمة ‪ .‬نظرية معقدة‬
‫تستفحل داخلها حين رأت فى رفضها لوجود األم بينهم رفض الحياة للموت والمستقبل للماضى واألحالم‬
‫لألوهام ‪.‬‬

‫الزالت هدى واجمة فى الصالة ‪ ..‬تقلصت فى مكانها فصارت كنقطة المساحة لها ‪ .‬أستقبلت عينيها‬
‫اضاءة متقطعة مصدرها غرفة أيات التى خرجت مدهونة بالروب الزهرى وخرج خلفها متسلال صوت"‬
‫عبد الحليم " المسجون معها منذ ساعة يهتف بـ " رسالة تحت الماء " قبل أن تعتقله ثانية حين أغلقت‬
‫الباب خلفها وتوجهت تستطلع ‪ .‬توقفت للحظات أمام هدى تحدق فيها ‪ ،‬لم تفتح معها حديثا اال حين رأت‬
‫أمامها بؤسا وأحباطا يتكتالن أمام عينيها فبرزت عنها نظرة شفقة لمالمح هدى التى حاولت ضبط‬
‫انكسارها ‪ ..‬تفقدتها بقلق ‪ :‬مالك ياهدى ‪ .‬قالتها بهدوء ينسجم مع سكون الليل واألضاءة الخافتة‪.‬‬

‫ــ ماليش ‪ .‬كلمة متخمة بالمرارة ‪ .‬جلست أمامها حين لمحت سحابة من الدموع تغطى عينيها على‬
‫وشك الهطول ‪ ،‬فتطوعت على غير العادة بفضول طارىء ‪ :‬مالكيش أزاى وأنتى قاعدة لوحدك فى‬
‫الضلمة وعينيكى مليانة دموع ‪ .‬مسحت أنفها الذى أحتقن ‪ :‬نورا حكمت على أنى ماروحش األتيليه‬
‫تانى ‪.‬‬

‫ــ أيه السبب ‪ .‬تنحنحت لتتخلص من حشرجة ألمت بها ‪ :‬هى بتقول أن ده حيبقى كويس وفى مصلحتنا‬
‫كلنا ‪ .‬قالتها وأعتدلت ثم أردفت ‪ :‬أنتى أيه رأيك ياأيات ؟ أرتبكت األخيرة ‪ ،‬أرادت أن تخرج نفسها من‬
‫حرج الفتوى ‪ :‬ماهو أنا مش عارفة أيه السبب الحقيقى اللى يخلى نورا تطلب منك تسيبى األتيليه ‪.‬‬

‫ــ واللـه ما فى سبب مقنع قالته ولحد دلوقتى أنا مش فاهمة أيه الحكاية بالظبط ‪ .‬خشت أيات أن تبدى‬
‫رأيا أو مالحظة تسحبها الى تعاسة مضاعفة فأنحازت لردود عائمة ‪ :‬ع العموم ياهدى المكسب القريب‬
‫أحسن من الخسارة البعيدة ‪ .‬ألحت عليها األخيرة للتوضيح ‪ :‬يعنى أيه مش فاهمة‪ .‬نقلت عينيها تتفحص‬
‫الليل الكئيب الخالى من نسمة أمل قبل أن تستقر على وجه هدى ‪ :‬أسمعينى كويس أنا مش حأتقل‬
‫‪403‬‬
‫عليكى وال حأقولك نصايح بس اللى حأقدر أقوله أنى سبقتك فى القعدة دى من سنين طويلة والكرسى‬
‫على كل يوم لما كانت دموعى مابتفارقش عينى والدنيا قدامى كانت‬
‫ّ‬ ‫اللى أنتى قاعدة عليه ده كان شاهد‬
‫أضيق من خرم األبرة ‪ ..‬عشان كده أنا عايزاكى تبصى حواليكى كويس ‪.‬‬

‫ــ أبص على أيه ياأيات ‪ .‬قالتها بال تركيز ‪.‬‬

‫ــ بصى على جدران البيت ده وعلى سقفه وأرضياته وببانه وشبابيكه أكيد حتحسى باللى أنا حاسه‬
‫بيه دلوقتى ‪ .‬أحتل الصمت كل خالياها حين بدأت كلمات أيات تتألق من خالل الليل ‪ ..‬دورت أسطوانة‬
‫البداية ‪ :‬البيت ده ياما جريت فيه ولعبت جواه لما كانت الضحكة مابتفارقش شفايفى لما أبويا وأمى‬
‫وأخويا كانوا حواليه ومدفيينى ‪ ..‬فرحتى بالدنيا وحالوتها كانت أد بحر أسكندرية كله وأنا لسه بنت‬
‫صغيرة طالعة والعيون كلها بتعاكسنى ‪ ،‬وقتها ياهدى كان الزمن غير الزمن والفرحة لها طعم ولون‬
‫الدنيا كانت رايقة وبتضحكلى وتزفنى كل يوم وأنا رايحة الكوتسرفتوار ‪ ..‬الشوارع أياميها كانت جميلة‬
‫وهادية ونضيفة أوى مغسولة بالميه والصابون والوشوش بتضحك وفيها تفاؤل ‪ ..‬أيام حلوة وطعمها‬
‫مسكر وبسذاجتى كنت فاكرة أن هو ده طعمها الحقيقى لغاية ماأمى ماتت وبعدها بابا وفجأة لقيت البيت‬
‫ده قدام عينى زى المدافن ريحة الموت والفراق مالية كل ركن فيه ‪ .‬سكتت بأبتسامة مترددة أتبعتها‬
‫بتعليق ساخر ‪ :‬وكأنها دورة وبتاخد وقتها ‪ ..‬ومن غير مقدمات أتغير لون البيت تانى فجأة من األسود‬
‫الحزاينى للوردى الفرايحى لما قابلت شاكر فى المعهد ساعتها حسيت أنى أتولدت من جديد حبيته‬
‫وحبيت نفسى وحبيت الدنيا كلها وأتجوزته بسرعة ووقفت جنبه وأعتبرته قضيتى وقررت أنى أكسبها‬
‫لغاية ماحط رجليه على أول السلم ونجح وأستنيت يشدنى معاه وياخدنى من أيدى لكن لألسف طلع‬
‫لوحده ورمانى وسابنى قدام حل واحد مافيش غيره ‪ ..‬أنى أنتقم منه فى نفسى وزى ماهو طلقنى‬
‫وطلعنى من دنيته أنا كمان طلقت الدنيا بالتالتة وأتجوزت الوحدة ورجعت للبيت ده تانى وللون األسود‬
‫الحزاينى تانى ‪ .‬قالت جملتها األخيرة بأستسالم ثم سكتت بعدها قبل أن تشرع فى نطق مأساة جديدة‬
‫تداولت خاللها مع هدى نظرة دامعة ‪ ..‬أردفت ‪ :‬الليل والوحدة والدموع بقوا همه عيلتى الجديدة عايشة‬
‫معاهم وعايشين معايا وفى نفس الوقت كانت فيه عين تانية بتشوف نفس البيت ده باللون الوردى‬
‫الفرايحى وبتعيش نفس األيام الجميلة اللى أنا عشتها فى البداية ‪ ..‬العين دى كانت أنتى ياهدى ‪ ،‬مش‬
‫حأنسى أبدا فرحتك والضحكتك فى أول يوم دخلتى فيه البيت ‪ ..‬فاكرة ياهدى ‪ .‬تراقبها األخيرة بعين‬
‫مفتوحة وهى تضغط على ذاكرتها لتواكب معها لحظة األسترجاع ‪ :‬فاكرة ياأيات ‪.‬‬

‫‪404‬‬
‫ــ فاكرة جرأتك وثقتك بنفسك ‪ ..‬فاكرة نصايحك لى لما كنتى تدخلى على أوضتى وتالقى عينيه حمرا‬
‫ودموعى على خدى ‪ ..‬كنتى دايما تقوليلى خليكى قوية وشجاعة ولما الدنيا تبصلك وتبرقلك وتخوفك‬
‫ماتنزليش عينك وخليها هى اللى تكش منك وتنزل عينيها ‪ .‬أنهت عبارتها بأبتسامة ثم مالت برأسها‬
‫حتى أصبح وجه هدى يحتل نظرتها الطويلة حين تساءلت ‪ :‬تفتكرى ياهدى أياميها وأنتى فى عز فرحتك‬
‫كان ممكن ييجى فى بالك ولو للحظة واحدة أن حبيبك اللى أختارتيه وحلمتى معاه وأتجوزتيه حيموت‬
‫فى عز شبابه ويسيبك لوحدك مع تالت عيال ويسيب كل ثروته وراس ماله فى أيد شيخ منصر حرامى ‪،‬‬
‫مستحيل كان خيالك حيوصل بيكى للدرجة دى مستحيل كان حد يصدق أن هدى الرقيقة المسالمة اللى‬
‫كانت بتخاف من الضلمة لما النور يقطع تالقى نفسها فجأة بتفقد أعصابها وبتضرب وبتموت وكمان‬
‫تدخل السجن وتعيش تسع سنين من عمرها فى زنزانة ‪ .‬تتابعها هدى وكأنها تعيش لحظة فاصلة بين‬
‫الحياة والموت ‪ ..‬نظرات ضيقة بحجم عينان منكمشتان هى كل ماأرسلته الى وجه أيات التى أستقرت‬
‫على شفتيها أبتسامة بطيئة تتخللها حكمة توصلت اليها حديثا ‪ :‬هى دى الدنيا ياهدى ‪ ..‬تفتح دراعتها‬
‫فى اللحظة اللى هى عايزاها عشان تحضنك وتحسسك باألمان وأول ماتطمنى لها وتقربى منها تقفل‬
‫دراعت ها وتصدك وتخليكى تحضنى الهوا ‪ ..‬فركت كفيها بعدما أستندت بمرفقيها على ركبتيها وهى‬
‫الزالت على حكمتها‪ :‬نصيحتى لكى ياهدى خلى عقلك كبير وأتحملى نورا ووافقى على طلبها وده مش‬
‫معناه ضعف منك بالعكس ده حيبقى عين العقل ومن مصلحتك يبقى قرارك بأيدك أحسن ‪.‬‬

‫ــ يعنى أيه ياأيات ؟!‪.‬‬

‫ــ أحسن مايبقى غصب عنك وأنتى أدرى الناس بنورا وعارفة أنها لما تحط حاجة فى دماغها يبقى‬
‫حتعملها ‪ ،‬خلى األمور تعدى وأحسبيها بالعقل وفكرى كمان فى صاحبتك زيزيت اللى وقفت جنبك كتير‬
‫وماتحاوليش تحرجيها أكتر من كده ألنها ببساطة مش حتقدر تخسر نورا ‪ .‬هزت رأسها بعد تنهيدة‬
‫طويلة ‪ :‬عندك حق ‪ .‬قالتها وضمت ساقيها ورفعتهما فوق الكرسى تحتويهما فى صدرها ‪ ،‬أصبحت‬
‫مطوية طيأ حين وضعت رأسها على ركبتيها وراحت تتأمل الليل وهى تطرف عينيها دون أن ترفع‬
‫رأسها ‪ ،‬تقلصت على نفسها كطفلة صغيرة تخاف أن تنال عليها الصفعات ‪ ..‬خوف عجيب ‪ ،‬خواطرها‬
‫التعيسة تشق لنفسها طريقا فى خالل الخوف ‪ .‬بينما أيات تستطيع فى تلك اللحظة أن تقرأ الخيبة فوق‬
‫مالمحها حين لمحت على خديها خيطين من الدموع أنساال بهدوء فى حماية الضوء الخافت ‪.‬‬

‫‪405‬‬
‫ــ كفاية عليكى قعدة لوحدك ‪ ..‬قومى ياهدى أدخلى أوضتك وريحى جسمك وأنسى كل حاجة ‪ .‬قالت‬
‫جملتها بنبرة تعاطف وبأداء لم تختبره من قبل ‪ .‬نهضت هدى ببطء فى محاولة لتهدئة نفسها ‪ ،‬تماسكت‬
‫فى خطوتها مثل عود صبار يواجه الريح رغم الرعشة التى أحتاجتها حتى بلغت باب غرفتها ‪ ..‬تسمرت‬
‫أمامه للحظات وهى على وشك التسليم بأن للبداية والنهاية قانونها الذى اليخطىء ‪ .‬دخلت وأغلقت‬
‫الباب خلفها كأنما تغلق على روحها كل الشرور التى تعبث بها ‪.‬‬

‫اليـــوم التالــى ‪ ..‬ظهيرة الجمعــة‬

‫ظلت هدى طوال الليل حذرة التنام والتغفو والتغادرها يقظة مجنونة محمومة أستنزفت كل طاقتها وكامل‬
‫قواها ‪ .‬لم تفطن أن الحالة أسوأ ‪ ،‬وان شيئا أنكسر فال سبيل إلى ترميمه ‪ .‬لم تفلح الحياة الجديدة‬
‫واألمان الذى سلمت به كثيرا مدة سجنها ‪ ،‬بل أن حالتها راحت تتدهور شيئا فشيئا حين راح الشك‬
‫ينشب فيها مخالبه ‪ ..‬هل هى فى حلم التصدقه أم أنها تصحوللواقع الجديد من حلم طويل عاشت فيه‬
‫يالزمها سنوات السجن ‪ ..‬فشلت طوال الليل وحتى طلوع النهار فى البحث لنفسها عن مسمى أو‬
‫تصنيف داخل البيت قبل أن يصبح قرار حظر العمل ساريا والتى تهيأت معه ألستقبال أيام طويلة‬
‫متشابهة خالية من التفاصيل ‪ ..‬األنطواء واليأس ‪ ،‬اليغيبا عن مخيلتها ‪ .‬وقفت بجوار النافذة كالصنم‬
‫تتابع الشارع الذى لم يعد شارعا ‪ ..‬تتابعه دون تمييز وبال توقف كمن يبحث عن مخرج أو مأوى ‪..‬‬
‫شردت تخفى ذنوبا سددت فاتورتها بالكامل وذاكرة تصورت أنها طوحت بها فى زنزانتها قبل لحظة‬
‫األفراج ‪ " .‬كفاية لحد كده ياماما ‪ ..‬ماتضيعناش " جملة تحذيرية أطلقتها نورا باألمس فى وجهها ‪..‬‬
‫العبارة فى ذهنها لم تبرحها ‪ ،‬اليمكن أن تسقط فى بؤرة النسيان ‪.‬‬

‫فتحت بسمة الباب لتجد أمها متخشبة أمام النافذة ‪ ..‬وقفت مكانها تتأملها قبل أن تقرر الدخول ‪ .‬أقتربت‬
‫من خلفها ثم همست ‪ :‬الجميل واقف بيعمل أيه فى الشباك ‪ .‬أضطربت وهى تلتفت أليها ‪ :‬أبدا بأتفرج‬
‫على الدنيا من فوق ‪ .‬تفحصت وجهها المتهالك بعدما تساوى نومها ويقظتها ‪ ..‬الفارق العينين‬
‫مفتوحتين فى الحالتين !‪ .‬بأبتسامة مصطنعة تخفى خلفها أنزعاجا ‪ :‬مافيش فرق كبير ياماما بين الدنيا‬
‫من فوق وال من تحت كله محصل بعضه ‪ .‬أنسحبت من النافذة تتبعها أبنتها ‪ :‬فيه فرق طبعا ‪ ،‬على‬
‫األقل من فوق بتشوفى كل التفاصيل وبتعرفى أنتى واقفة فين بالظبط ‪ .‬أبتسمت بعينيها ‪ :‬ده أنا فى أملة‬
‫بقى ومش واخدة بالى ‪ ..‬أمى فيلسوفة ‪ .‬حاولت أن تنتزع منها أبتسامة لكنها لم تجد وجه يصلح لهذا‬
‫‪406‬‬
‫الفعل ‪ .‬أعطتها هدى ظهرها ومشت حتى وسط الغرفة قبل أن تستدير لها وتواجهها بعيون غائرة‬
‫متربصة ‪ :‬أمك مش فيلسوفة وبس دى كمان ظالمة ومظلومة وقوية وضعيفة ‪ ..‬وكمان ربة سجون‬
‫ومجرمة ‪ .‬أربكتها التعريفات المتناقضة ‪ ،‬شعرت بنفسها تحت طائلة األتهام ‪ .‬فتلعثمت ‪ :‬أيه اللى‬
‫بتقوليه ده ياماما ‪.‬‬

‫ــ مش هى دى الحقيقة والحنضحك على بعض ‪ .‬تراجعت بسمة للوراء حتى جلست على حافة السرير‬
‫تتابع أمها التى أنكمشت داخل كرسى التسريحة وقد أرخت كفيها فى حجرها تحاول األحتفاظ بما تبقى‬
‫لها من دمع تحسبا أليام صعبة قادمة ‪ ..‬دقيقة أو دقيقتين أصبح خاللها الصمت رفيق ثالث قبل أن‬
‫تقطعه بسمة ‪ :‬عارفة أنك زعالنة من نورا ويمكن كمان منى أنا ويوسف ‪ .‬لم تمهلها األستطراد ‪ :‬أنا‬
‫مش زعالنة من حد ‪ ..‬أنا أرفانة من نفسى ومن حياتى ومن كل حاجة ‪ .‬قالتها دون أن تنظر اليها بينما‬
‫وضعت بسمة يديها على ركبتيها وأدلت بينهما رأسها لتخفى تأثرا ‪ ..‬غريب أمرها ‪ ،‬أستقبلت حالة أمها‬
‫بكمية ال بأس بها من التأثر وكأن القرار قد صدر فى غيبتها ‪ .‬رفعت رأسها ببطء قبل أن تتسلل عيناها‬
‫إلى الجسد المنهك ‪ :‬مش يمكن قعدتك معانا فى البيت تبقى فيها مصلحة ليكى ولينا وأنتى مش واخدة‬
‫بالك ‪ .‬عقدت يديها وزفرت ولم تعقب ‪ .‬فتابعت بسمة وهى أكثر ثقة بعدما قامت وأتجهت ناحيتها‬
‫بتمهل ‪ :‬مش يمكن ياماما شغلك فى األتيليه كان واخدك مننا ومخليكى مش واخدة بالك من حاجات‬
‫أهم ‪ .‬قالتها ودارت حولها قبل أن تقف خلفها تتحسس كتفيها فى حين بادرتها هدى بسؤال دون أن‬
‫تلتفت إليها ‪ :‬ده على أساس أنى مقصرة معاكم واألتيليه واخد كل وقتى وأنتو ياعينى محرومين منى‬
‫ومش بتشوفونى غير أخر الليل ع النوم ‪ .‬سكتت للحظات قبل أن تطلق مرارتها ‪ .‬أردفت ‪ :‬أنا من ساعة‬
‫ماجيت البيت ومش القيه حد أكلمه وال حد أقعد معاه والحد بيسمعنى وال بأسمع لحد ‪ .‬تساءلت‬
‫بأشمئزاز وهى تلتفت إليها ‪ :‬تقدرى تقوليلى كام مرة أتغدينا وال أتعشينا كلنا مع بعض ‪ ..‬كام مرة‬
‫خرجنا سوا وال حتى قعدنا وأتكلمنا ‪ ..‬كل حاجة بعملها لوحدى بأكل لوحدى وأشرب لوحدى وأتكلم مع‬
‫نفسى مالقيتش حد فيكو بيسمعنى واليسألنى ولو مرة واحدة مالك عاملة أيه فرحانة والزعالنة عايشة‬
‫والميتة ‪ .‬رمقتها بسمة بفزع وهى تتابع ثورتها التى أزدادت حدة ‪ :‬هو ده حالى يوماتى ودى عيشتى‬
‫ومافتحتش بؤى وال أشتكيت ‪ ..‬مافيش غير كلمتين همه بس اللى على لسانى ‪ ..‬حاضر ونعم ‪ .‬تابعت‬
‫وهى تنهج ‪ :‬أخوكى يكدب على هدير خمس سنين ويحملنى أنا المسئولية ماأعترضتش والنطقت‬
‫وشيلت جوايه وسكت وقلت معلش فى األول واألخر أنا المذنبة ‪ .‬وقفت مكانها متحفزة حين قربت‬
‫عيناها من وجه أبنتها الذى تقلص وتراجع وكأنها تصد هجوما ‪ :‬زميلك اللى أسمه أمجد واللى سيادتك‬
‫‪407‬‬
‫مابطلتيش كالم عنه وعن حبه ليكى حتى ده كمان سابك وبعد عنك وبرضه شيلتونى أنا المسئولية‬
‫وسكت وقلت مافيش مشكلة ومادافعتش عن نفسى والقلتلكم أن أختياراتكم أصال من البداية غلط ‪..‬‬
‫لبسك كده ماينفعش والزم تتحجبى قلت حاضر حتى األتيليه الحاجة الوحيدة اللى كان بيحسسنى أنى‬
‫عايشة زى البنى أدمين بأشتغل وأتكلم وأتحرك بدل ماأنا مدفونة هنا بالحيا حتى ده أستكترتوه على‬
‫وقررتم بكل أسوة أنى أترزع هنا فى البيت وأتحبس بين أربع حيطان ‪ .‬هدأت لتلتقط أنفاسها قبل أن‬
‫تنفرج مالمحها وتميل شفتيها بزاوية مائلة عندما أستأنفت ساخرة ‪ :‬وأيه المشكلة يعنى لما أتحبس فى‬
‫البيت مش حتفرق ما أنا واخدة على السجن والحبسة ‪ ..‬عادى بالنسبة لى ‪ .‬كلمات بدت كدخان يتصاعد‬
‫من حرائق تشتعل فى صدرها حتى علت نبرتها بعصبية ‪ :‬أنا نفسى أعرف أنتو عايزين منى أيه‬
‫بالظبط ‪ ..‬عايزين تموتونى والطفشونى ‪ ..‬عادى يعنى ده من حقكم مادمت أنا سبب كل المصايب‬
‫والبالوى اللى بتنزل على دماغكو ‪ .‬أنهت كلماتها وراحت تتجول بنظراتها فى فراغ الغرفة تصاحبها‬
‫رعشة حتى سكنت فى مكانها ‪ ،‬تاركة بسمة تتخبطها مشاعر كألتى تنتاب مجرم لحظة مواجهته بأداة‬
‫الجريمة ‪ .‬خيم عليها صمت وهى تشعر بالذنب ‪ ،‬رمقتها بخجل ثم أغمضت عينيها للحظات بحثا عن‬
‫جملة تعزية تخفف بها وطأة المرارة المنبعثة من الوجه المتساقط لألرض ‪ ..‬فتحتهما قبل أن تتحسس‬
‫بيدها شعر أمها التى جلست على حافة السرير ‪ :‬أهدى ياماما شوية واللـه كل حاجة حتتحل وحتبقى‬
‫أحسن من األول ‪ .‬نظرت لها بنفور ‪ :‬أعملى معروف مش عايزة أسمع حاجة وسبينى لوحدى شوية ‪.‬‬
‫أستعرضت سريعا مالمح أمها المنتفضة التى دفعتها للتخلى عن فكرة التهدئة فأثرت الرحيل بعدما‬
‫تأملتها بتعاطف ‪ :‬أنا حاسة بيكى ومش حأضايقك أكتر من كده حاسيبك تهدى شوية وبعد كده نكمل‬
‫كالمنا ‪ .‬أحتفظت هدى بثبات حدقتيها المركزتان لألرض حتى سمعت صوت الباب يوصد ‪.‬‬

‫بقيت فى مكانها لدقائق تواجه صداعا يسرى فى رأسها بطيئا ‪ ..‬أستبعدت دمعتين توقفتا تحت جفنيها‬
‫قبل أن تتمدد شاخصة للسقف ‪ .‬حاولت أغماض عينيها التى أبت حين جذبها تفكيرها الى عبارة بزغت‬
‫فجأة على طرف لسانها ‪ :‬كده برضه يازيزيت من أمبارح لغاية دلوقتى ماتتصليش بيه والحتى تقوليلى‬
‫كلمة واحدة ‪ .‬ياخسارة يازمن ‪.‬رددت عبارتها األخيرة بنفسية سيئة ‪.‬‬

‫ربع ساعة مرت وهى ساكنة بال حراك أدركت فيها عمق مأساتها حتى طمأنها قرأن الجمعة الذى‬
‫أنقذهامن أفكارها البائسة وكأنه نداء أمل أتكأت عليه حتى قامت يسحبها ناحية النافذة لتقف مستسلمة ‪،‬‬
‫تزحف بعينيها خلف الصوت ‪ .‬كانت تلمح مئذنة مسجد القائد ابراهيم من خالل البيوت ‪ ..‬يتعالى فى‬

‫‪408‬‬
‫األفاق ويتردد الصوت الرخيم لقارىء القرأن قبل أن يختم تالوته ويتسلم منه آخر قيادة المنبر أللقاء‬
‫خطبة الجمعة ‪ ..‬أصغت هدى فى وقفتها الى الصوت البتار وهو يلقى فى الوجوه الحاضرة والغائبة‬
‫سؤاله الرهيب ‪ ..‬مامدى قربنا أو بعدنا عن جوهر الدين ‪ ،‬وهل نحن حقا بفطرة هذا الجوهر عاملون ‪..‬‬
‫لن نبرح هذا السؤال اليوم حتى نهتك ستره ‪ ،‬نعانق مرارته !‪ ..‬شرح وأستفاض بعيدا عن جوهر‬
‫السؤال وخرج من سؤاله لسؤاالت قادته ألجابات العالقة لها أصال بالدين الى أن يبح صوته ويتعب من‬
‫خطبة الرضى والسخط والفرح والحزن والتأييد والمعارضة قبل أن يهتف بدعائة األخير أن تهدأ البلد‬
‫التى ركبها عفريت الفوضى وأن يوفق اللـه والة أمورنا أو والة أمورهم !!‪.‬‬

‫أنتهت صاله الجمعه كما أنتهت صاله العصر والمغرب والعشاء وهى حبيسة غرفتها تراقب كعالم‬
‫كونيات عملية التسليم والتسلم بين أخر النهار وأول الليل ‪ .‬ساعات قضتها بين الجلوس والرقود حتى‬
‫تيبست عضالتها قبل ان تدخل عليها نورا مساءا تستطلع نتيجة فعلتها ‪ ،‬أدارت معها حديثا هادئا‬
‫اليخلومن تلميحات مبطنة بعد دهانها بكلمات تنادى بحريتها الشخصية وحقها الكامل فى تقرير مصيرها‬
‫كيفما تشاء مصحوبة مقدما بموافقة ضمنية منها ومن أخوتها تجاه أى رغبةأو أختيار عدا األقتراب أو‬
‫التفكير من موضوع األتيليه مرة أخرى ‪ ..‬تحذير رادع منعت به نورا خط الرجعةأو ما تبقى ألمها من‬
‫أ مل ‪ ،‬لتدرك بعدها هدى انها امام خيار وحيد ال يعادله خيار سوى ارجاع الزمن إلى عصر ما قبل‬
‫السجن ‪.‬‬

‫انقضى اليوم األول قبل ان تستقر األمور داخل نفسية هدى التى تقبلت العزاء ليال على لسان خيرى من‬
‫خالل مكالمة مبكرة قبل موعدها األصلى بساعة ‪ ،‬لم تكن كلماته لتريحها فحسب أنما أستطاع أن يشرح‬
‫ويحلل الموقف كامال بعين مراقب وبشكل موضوعى ومباشر فكان بحق المالذ األخيرلها وقت الشدة‬
‫وساعة اليأس‪.‬‬

‫سكت خيرى سكتة طويلة حتى ظنت هدى أن "موبينيل " قطعت عنه الخدمة فجأة بعد ما حكت له عن‬
‫يومها العاصف الذى أنتهى بأحالتها للتقاعد على يد " نورا" ‪ ..‬كان سكوته شرودا أو تأمال قبل أن يعود‬
‫بغضبة مكتومة ‪ :‬مش حأعيدلك نفس الكالم تانى وال حأقولك أنك السبب فى كل اللى بيحصل كده ‪..‬‬
‫ضعفك وخوفك من بنتك واللى مش قادر أفهمه وال أستوعبه كانت نتيجته اللى أنتى فيه دلوقتى ‪ ،‬أديتيها‬
‫الفرصة أنها تتحكم فيكى وتفرض رأيها عليكى ورهنتى حياتك كلها على كلمة منها ‪ .‬أستقبلت حنقه‬
‫بنبرة منهكة ‪ :‬أعمل معروف أنا مش مستحملةأى كلمة وال مستنية نصايح أنا اللى فيى مكفينى ‪.‬‬
‫‪409‬‬
‫ــ يعز على اللى أنتى فيه ده بس لألسف اللى بينك وبين بنتك ما أقدرش أتدخل فيه ‪ ..‬المشكلة وحلها‬
‫فى أيدك انتى لوحدك ‪ ..‬إال إذا سيادتك أتكرمتى ونورتيلى األشارة الخضرا وحتالقينى فى لحظه واقف‬
‫جنبك وأخلصك من كل اللى أنتى فيه ده ‪ .‬ضحكة متعبة على وشك األحتضار سبقت ردها ‪ :‬تانى ياخيرى‬
‫حتقولى نتجوز ‪ ..‬يعنى أنت مش شايف الظروف المكعبلة اللى أنا فيها دى ‪.‬‬

‫ــ أوال أنتى مش فى ظروف مكعبلة والحاجة أنتى فى ظروف مفتعلة ‪.‬‬

‫ــ مفتعلة ‪ ..‬يعنى أنا مثال بأدور على المشاكل وبأجيبها لغاية عندى ‪.‬‬

‫ــ ماتضحكيش على نفسك أنتى عارفة أكتر منى أن والدك مش محتاجينك وحاسين أن وجودك معاهم‬
‫بقى عبء عليهم وعشان أكون صريح معاكى الحل الوحيد اللى قدامك ‪ ..‬تهيأت بعينيها التى تتأرجح‬
‫كبندول الساعة لسماع حله العبقرى الذى أقترحه بحماسة منقطعة النظير ‪ :‬أنسى اللى فات كله وأبداى‬
‫حياة جديدة النج مع البنى أدم اللى بيزن على دماغك ليالتى فى التليفون واللى بينك وبينه يادوب حيطه‬
‫واحدة وتكملى معاه بقية حياتك فى سالم من غير مشاكل وال وجع دماغ ومتهيألى أن ده حيبقى حل‬
‫مريح عشان تقدرى تعيشى حياتك بهدوء وده حل حيرضى كل األطراف وكمان والدك حيبقوا قدام‬
‫عينيكى وتقريبا حتبقى معاهم لحظة بلحظة مش حتتكلفى غير مشوار صغير مش حيزيد عن مترين من‬
‫باب شقتى لباب شقتكم ‪ .‬تخللت كلماته جسدها الذى صار كمبنى قائم على أرض اليملكها فأصبح هدفا‬
‫لكل مخالفة وكل أنتقاد بالرغم من أعتراف الجميع بأنه كيان موجود ! ‪.‬‬

‫ــ ده مش حل ياخيرى ‪ ..‬ده أسمه هروب ومش من طبعى أهرب من مسئوليتى مهما كان التمن ‪ ،‬دول‬
‫والدى وأنا قاد رة أرجعهم لحضنى تانى ‪ ..‬أنا مش غبية وال عايشة فى البيت ده مش فاهمة أيه اللى‬
‫بيحصل حواليه ‪ .. ،‬فاهمة كويس أوى نورا عايزة أيه وليه مش قابلة وجودى وليه بتضايقنى‬
‫وبتحاصرنى ‪..‬كل ده أنا فهماه كويس ومتأكدة أن ربنا حيقف معايا وحيقدرنى أحل كل المشاكل دى ‪.‬‬
‫كان يصله صوتها مثقال بالحسرة قبل أن يقاطعها مستغربا ‪ :‬لما أنتى فاهمة كل حاجة كده ومتأكدة أن‬
‫الحل فى أيدك تقدرى تفهمينى ليه حزينة كده ومقهورة ومستسلمة ‪.‬‬

‫ــ أنا أنسانة وأم ياخيرى ولألسف مشكلتى مش مع حد غريب دول والدى ‪ .‬تلقت منه تنهيدة ونبرة‬
‫حائرة ‪ :‬واللـه دى حكاية معقدة ومشكلة غريبة ‪ .‬قالها وصمت ‪.‬‬

‫ــ هى أيه اللى معقدة وغريبة ؟! ‪.‬‬


‫‪410‬‬
‫ــ الوضع اللى أنتى فيه ياهدى ‪ ..‬المشاكل دايما بين الناس وبعضها أو حتى اللى بتبقى جوه العيلة‬
‫الواحدة مابتخرجش أبداعن أختالف فى الرأى أو فى وجهات النظر أو أمور مادية أو حوالين فعل ورد‬
‫فعل أيا كان شكل الفعل ده خناقة وال شتيمة وال أى حاجة من األمور دى ‪ ،‬أما اللى بيحصل بينك وبين‬
‫بنتك هو ده اللى أمره غريب وعمرى ماشفته والسمعت عنه ‪ .‬بترقب ‪ :‬اللى هو أيه ياخيرى ؟ سألت‬
‫وأنتظرت منه تشخيصا ‪.‬‬

‫ــ بنت كارهة وجود أمها وبتحرض أخواتها ضدها وياريت فى سبب واحد منطقى عشان نقدر نالقيلها‬
‫عذر ونقول فعال هى عندها حق ‪ ..‬ال أنتى ياهدى ست لكى تصرفات السمح اللـه وحشة بتسيىء لهم وال‬
‫أنتى بتعامليهم بشدة وأسوة وكنت ساعتها حأقول أن ده رد فعل طبيعى منهم وال حتى أنتى ست مريضة‬
‫القدر اللـه محتاجة رعاية وعايزة اللى يخدمك وهمه مش قادرين يتحملوكى وقرروا يخلصوا منك ‪ .‬كل‬
‫ده مش موجود أصال ‪ .‬أستعادت هدى حضورها على السماعة حين طرحت مالحظة ‪ :‬أنت نسيت أنى‬
‫كنت مسجونة ويمكن يكون هو ده السبب ‪.‬‬

‫ــ قصدك يعنى بيستعروا منك ‪ ..‬الياهدى مش ده السبب الحقيقى ‪ ،‬أنتى عارفة طبعا عالقة شريف‬
‫بنورايعنى بالبلدى كده زيتنا فى دقيقنا ومش فارق معانا حكاية السجن دى أصال عشان أحنا فاهمين‬
‫أصل الحكاية يعنى السبب ده مايفرقش مع نورا أما يوسف وبسمة ومهما كان الضرر اللى حصلهم‬
‫بسببك مش كارثة كبيرة أوى زى ماأنتى متصورة همه من جواهم مقتنعين أن العيب فيهم همه وفى‬
‫أختياراتهم ‪ ..‬المشكلة كلها ياهدى مش فيهم المشكلة فى نورا اللى بتوظف كل مصيبة تحصلهم وتشيلك‬
‫أنتى المسئولية وتشحنهم ضدك وتقريبا هى نجحت فى تخويفهم منك وخلتهم قلقانين ومرعوبين على‬
‫مستقبلهم وحسستهم أن وجودك خطر على وجودهم ‪ ،‬بأختصار ياهدى الحرب اللى بنتك عمالها دى‬
‫كلها هدفها حاجة واحدة ‪ ..‬مين فيكو يلعب دور األم ! ‪.‬‬

‫زارتها رعشة وكأنها الحقيقة القاتلة ‪ ..‬أصاب خيرى مكمن الداء ‪ .‬زحفت عصبية على شفتيها ‪ :‬أنا‬
‫أمهم ياخيرى ونورا أختهم وبس ودورها أنتهى أول ما خرجت من السجن ‪ ..‬همه مسئوليتى لوحدى‬
‫قدام ربنا وقدام الناس يعنى من حقى أخاف عليهم وأفرح لفرحهم وأشاركهم فى كل كبيرة وصغيرة ‪..‬‬
‫دول قدرى وحياتى وماليش حد غيرهم فى الدنيا والحكاية كلها شوية وقت ونورا حتفهم أنى أمها مش‬
‫ضرتها ! كادت أنفاسها تصم أذانه ‪ ..‬النت نبرته فى محاولة لتهدأتها ‪ :‬كالمك مظبوط و ع العموم أنا‬
‫جنبك بأى وضع أنتى عايزاه ‪.‬‬
‫‪411‬‬
‫ــ كتر خيرك ياخيرى وأنا لى طلب عندك ‪.‬‬

‫ــ قولى ياهدى ‪ .‬قالها بلهفة ‪.‬‬

‫ــ ياريت تنصح شريف يقرب أكترمن نورا اليومين دول ويحاول يحتويها ويقلل الفجوة اللى بقت‬
‫بينهم ‪ ..‬أكيد ده حيساعدها ويساعدنى ‪.‬‬

‫أنتهت المكالمة وأصرارها على أستعادة كيانها كان شديدا وكأنها ترفض التخلى عن زمن تمدد فى‬
‫داخلها ‪.‬‬

‫فى صباح اليوم التالى تلقت النهار متسلال من فتحات الشيش ليرسم سطورا على أرضية الغرفة ‪ .‬دعكت‬
‫جفنيها بحثا عن رؤية أفضل مولية وجهها ناحية النافذة ‪ .‬لم يسعفها جسدها المنهك فى النهوض‬
‫السريع فقامت على مرحلتين بدأتها بالجلوس ألستعادة وعيها وهى تعبث بخصالت شعرها قبل أن‬
‫تغوص فيه بأناملها حتى جذوره تدلكه بعصبية وكأنه يعانى من حالة هياج حتى وقف على أطرافه ثائرا‬
‫فبدأ وجهها كأمرأة كهف فى العصر المطير ‪.‬‬

‫ثم قامت تدهس خطوط النهار وهى التدرى لما قامت أصال ‪ ..‬أضاءت نجفة غرفتها وأتجهت للمرأة‬
‫بعينين ترمشان كخفاش اليرى فى الضوء ‪ .‬بينما الجو خارج غرفتها كان مختلفا بعدما أنهى يوسف‬
‫مراسم حالقة الذقن وأرتداء مالبسه بعد ساعة من التردد والحيرة أمام دوالبه كى ينتقى طقم مناسب ‪،‬‬
‫حتى أقتنع أخيرا ببنطلون كاكى وقميص أسود وشوز بيج فى محاولة منه ألظهار قدر من الوسامة نجح‬
‫فى أستعادة جزء كبير منها ‪ .‬شعر بطاقته تتجدد حين تداعت فى رأسه التصورات وهو يتهيأ للخروج‬
‫ليبدأ أول يوم عمل فى مكتب المهندس ناجى منذ خروجه األخير غاضبا ‪ ..‬رحل بخياله للحظات يتوقع أو‬
‫ربما يتمنى حصولها حين تراه هدير لحظة دخوله عليها المكتب فتنتفض فى مكانها واقفة تستقبله بوجه‬
‫تنوء مالمحه بالضعف متخلية عن ثباتها وكبريائها خافضة الرأس تكسوها الهزيمة واألستسالم قبل أن‬
‫تهرول نحوه وتنحنى أمامه تقر وتعترف بالخطأ الفادح من خالل موجة بكاء مصحوبة بكلمات أستجداء‬
‫للصفح والمغفرة وعفى اللـه عما سلف ‪ ..‬شعر بنشوة ازاء هذا التصور فسحب نفسا قاسيا مأل به‬
‫صدره قبل أن تستوقفه نورا وهو فى طريقه من الصالة إلى الباب ‪ ،‬كان عليه أن يستمع لبعض النصائح‬
‫قبل خروجه حين ألحت عليه أن يثبت ويتماسك ويغسل رأسه من قصة هدير وأن يتفرغ فقط ألثبات‬
‫وجوده فى المكتب كمهندس ناجح وليس كحبيب يستعيد عرشه ‪.‬‬
‫‪412‬‬
‫أصطحبته حتى باب الشقة تودعه بجملة أخيرة تحذيرية ‪ :‬لما ترجع عايزة أسمع أنك بقيت راجل فى‬
‫شغلك وفى تصرفاتك والزم ت تحمل أى حاجة مهما كانت ‪ ..‬سامعنى يايوسف مهما كانت ‪ ..‬شغلك أوال‬
‫وأخيرا ‪.‬‬

‫ــ حاضر يانورا ماتقلقيش أنا خالص أتعلمت الدرس ‪ .‬قالها وشعورا خفيا كان يراوده أن تلك‬
‫ا لمرة مختلفة عن سابقتها ‪ .‬أغلق باب الشقة وفى حوزته دعوة تلقاها من أخته ‪ :‬ربنا معاك ويوفقك‬
‫ياحبيبى ‪ .‬أتجهت بعدها نورا لغرفتها تستعد هى األخرى للخروج لتبدأ يوما جديدا فى األتيليه ‪ ،‬إال أنها‬
‫توقفت لثوان تنظر للباب الموصود التىتتحصن خلفه أمها فتحركت ناحيته ببطء وأمام الباب المسكوك‬
‫ترددت قبل أن تتقهقر للوراء متراجعة عن قرار الدخول تجنبا لمواجهة صباحية التحمد عقباها وسيكون‬
‫لها أثرا سيئا على بقية يومها ‪.‬‬

‫نصف ساعة فى الطريق حتى وصل يوسف الى المكتب ‪ ،‬ليطالع وجه المهندسة " ايمان " الخمرى‬
‫الملفوف بحجاب مودرن يلف رأسها بثالث طبقات من ألوان مختلفة " بندانة " وتيشيرت رمادى حتى‬
‫الفخذين يستضيف تحته بنطلون أسود ضيق يستقر داخله جسد لم يستثمر جيدا !! سلطت عينيها بتركيز‬
‫على شاشة الكمبيوتر قبل أن تفارقها حين بادر يوسف ‪ :‬صباح الخير ياباشمهندسة‬

‫ــ صباح الخير يايوسف ‪ ..‬حمد اللـه على السالمة ‪ .‬قالتها ونظرت له بأبتسامة بعدما سحبت ملف على‬
‫يسارها ‪ ..‬مدته ‪ :‬خد الرسومات دى أتفرج عليها وخد فكرة عشان من بكره حتنزل الموقع مع زمايلك ‪.‬‬
‫قلبه بين يديه ثم ألقى عليه نظرة سريعة ‪ :‬ده كومباوند ‪.‬‬

‫ــ أيوه ‪ ..‬أرض كبيرة فى المعمورة والتفاصيل كلها عندك ‪.‬‬

‫ــ ماشى ياباشمهندسة ‪ .‬رسم أبتسامة مضطربة ثم أعطاها ظهره متجها للداخل ‪ .‬تسارع نبضه حين‬
‫سار فى الممر المؤدى لمكتبه ‪ ،‬لم يعد لديه أعصاب حين وقف أمام الباب ‪ ،‬أحتار فى أختيار شكل‬
‫التعبير الذى سيرسمه على وجهه لحظة دخوله على هدير ‪ ..‬دخل بعدما وقع أختياره على حاجب‬
‫مرفوع ونظرات حادة وشفتين مطبقتين فى حزم ‪ ..‬لحظات قليلة وفر عنه التعبير المرسوم فنزل حاجبه‬
‫وأنفرجت نظراته وفغرفاه حين صار وجهالوجه أمام مكتب هدير الخالى ‪ ..‬مشى بعينيه فى المكان الذى‬
‫بدا باردامهج ورا ‪ ..‬ظل على وقفته يتفحص كرسيها الفارغ ‪ ..‬لم يتخيل عدم وجودها ‪ .‬أستكان لصدمته‬
‫وأتجه لمكتبه ‪ .‬جلس واجما وعينيه معلقتان بمكتبها ‪ ..‬أجتهد بتفكيره للوصول إلى سبب منطقى لعدم‬
‫‪413‬‬
‫وجودها ‪ ،‬رجح أن تكون الزالت فى الطريق أو على أقصى تقدير أن يكون اليوم غيابا عارضا ‪ .‬فتح‬
‫الملف فى محاولة لشغل نفسه أنتظارا لحدث متوقع بين لحظة وأخرى ‪ ..‬بيد مهزوزة ونظرات غير‬
‫مستقرة تصفح أول ورقة فى " الكومباوند " بذهن مشوش وآذان تلتقط أى همسة فى الخارج ‪ .‬أنتصف‬
‫النهار وهو اليزال ممسكا بالملف ‪ ،‬لم تتغير نفسيته المحبطة كما لم تتغير الصفحة التى بين يديه ‪ .‬كان‬
‫طيفها حاضرا بقوة ‪ ،‬أستعاد كل الذكريات وتقمصت مالمحه كل المواقف التى جمعتهما سويا ‪ ،‬تارة‬
‫بمالمح منكسرة وقشعريرة تسرى فوق جلده حين تمر أمام عينيه لقطات الخصام ولحظة المواجهة‬
‫وساعة الفراق ‪ ،‬وتارة بعيون ضاحكة حين أستعادت ذاكرته مشهدا مسائيا عقب تناولهما‬
‫وجبة " كنتاكى " فى ماكدونالد بفرعه الكائن بطريق الكورنيش بعدها أستقال السيارة فى طريقهما‬
‫لمحطة الرمل كفعل يومى معتاد تؤديه هدير لتوصيله حتى باب البيت ‪ ،‬إال أنهما أتحشرا وسط موكب من‬
‫سيارات الميكروباص تؤدى واجبا فى زفة عروسين ‪ ،‬لم تنجح محاوالتها فى األفالت من الحصار‬
‫المضروب حولها فصارت جزءا أصيال من الزفة يومها داهمت يوسف نوبة ضحك شديدة دمعت لها‬
‫عينيه حين شاركت هدير بحماسة فى ثورة الضحك بعدما فقدت األمل فى النجاة من براثن الموكب‬
‫فأطلقت زغرودة ذواتى كتحية مجاملة للعروسين قبل أن يتم فك أسرهما أمام مدخل مسرح‬
‫" األنفوشى"‪ .‬تسكع يوسف بنظراته فى المكان ينتابه الملل قبل أن يصل لمسامعه صوت أقدام حريمى‬
‫تنقر على أرضية الممر بكعب " ‪ 3‬سم " تقترب بألحاح من المكتب ‪ ،‬أرتبك وأحمر وجهه ودفع بعينيه‬
‫لداخل الملف متمليا فى صفحته المفتوحة من طلعة النهار ‪ ،‬تقمص دور مهندس بارع حين سمع‬
‫طرقتين رقيقتين على الباب الذى أنفتح على صوت المهندسة أيمان ‪ :‬أيه األخبار ياباشمهندس طمنى ‪.‬‬
‫بصوت محبط ونظرة يا ئسة ‪ :‬تمام ‪ .‬أقتربت منه بحذر حتى أصبحت فى مواجهته اليفصلها عنه سوى‬
‫مكتبه ‪ :‬مش شايفة أنه تمام خالص ‪ .‬نظر لها بأبتسامة ‪ :‬ليه ياباشمهندسة ‪ ..‬بالعكس ده المهندس‬
‫ناجى مش سايب تفصيلة إال وموضحها ‪ .‬أستندت بكفيا على سطح المكتب وقربت رأسها حتى صار‬
‫وجهه فى مرمى عينيها ‪ :‬أنت متأكد يايوسف أنك شفت الرسومات وقريت التفاصيل ‪ .‬تأملها متخبطا‬
‫حين أستشعر أنه فى لحظة أختبار فتراجع عن جملته ‪ :‬شفت ورقتين بس ‪ .‬تقلصت مالمحها وهى‬
‫تلتفت ناحية كرسى يقع وحيدا فى الركن قبل أن تتجه إليه وتسحبه خلفها كالذبيحة ‪ ..‬جلست أمامه‬
‫فى الجهة المقابلة من مكتبه ‪ :‬أسمعنى يايوسف كويس ‪ .‬أستعد لها بخوف متوقعا نهاية درامية على‬
‫يديها ‪ .‬تابعت ‪ :‬لو أنت جديد هنا فى المكتب كنت حأقول أنك مش بتاع شغل وجاى تدلع لكن عشان أنا‬
‫متأكدة أنك أنت يوسف اللى أستلمته هنا بأيدى من تالت سنين وأتدرب قدام عينى وعرفته عن قرب‬
‫‪414‬‬
‫وشفت مجهوده وألتزامه كان حيبقى لى تصرف تانى ‪ ..‬عشان كده أسمحلى أتكلم معاك بصراحة ‪ ..‬أنت‬
‫لما جيت هنا مع هدير كنت جاى بتوصية من باباها وأنت فاهم طبعا نظام المجامالت ‪ ،‬لكن اللى أنت‬
‫ماتعرفهوش أنى أنا أول واحدة هنا زكيتك عن المهندس ناجى بعدما أختبرتك كذا مرة وده اللى خالنى‬
‫أراهن عليك وقلت بكل ثقة أنك حتبقى مهندس شاطر بس لو خدت فرصتك ‪ .‬طالع وجهها بنظرة‬
‫م هزومة بعدما شعر بأنه قد خذلها ‪ ،‬غير أنها فاجأته بأبتسامة رطبت من سخونة مخاوفه حين‬
‫صرحت ‪ :‬متهيألى أنت عارف أنى مطلقة ‪ .‬صدمه السؤال ثم هز رأسه باأليجاب ‪ .‬فتابعته ‪ :‬لكن طبعا‬
‫ماتعرفش التفاصيل ‪ .‬بنبرة خجولة ‪ :‬الحقيقة أل‪ .‬بمالمح صارمة أفزعته ‪ :‬والمفروض ال أنت وال غيرك‬
‫يعرف ألنه ببساطة دى تفاصيل تخصنى أنا لوحدى وماتخصش أى حد تانى ‪ ،‬لكن ممكن فى ظروف‬
‫معينة وفى وقت مناسب بيبقى مسموح فيها بالتدخل فى تفاصيل حياتك وكمان تسمع أراء أيا كانت بقى‬
‫صح وال غلط مش مشكلة والكالم ده يايوسف مش بيحصل إال لما يكون اللى قدامك محطم ومش قادر‬
‫يتجاوز أزمته لوحده وبقى مضر لنفسه وللحواليه وهنا بس بيحصل التدخل وغالبا بتكون نتيجته خسارة‬
‫من كل النواحى وأصعبها أنك بتتعرى قدام الناس وبتكشف ضعفك وفشلك وخيبتك ‪ .‬سكتت وهى تتابع‬
‫عينيه العميقتين ‪ ،‬سحبت نفسا طويال وكأنها تبتلع ذكريات أليمة قبل أن تعود بجدية زادتها وقارا ‪:‬‬
‫والحمد للـه يايوسف بأشكر ربنا أنى عديت من أزمتى من غير خسايروتقريبا ماحدش حس بضعفى‬
‫وصورتى ماأتهزتش وأخدت عهد على نفسى أنى الزم أنجح فى شغلى عشان أثبت وجودى وأعوض‬
‫فشلى ‪ .‬كأنما تنقب عن شيىء ما بعدما أستبدلت نبرتها وبدت أكثر أصرارا حين طرحت فكرة ‪ :‬أنت‬
‫كمان محتاج تقلدنى يايوسف وتبدأ من جديد ‪ ..‬وعشان كالمى يبقى له مصداقية عندك حأقولك حكايتى ‪.‬‬
‫أوجزت له قصة زواجها وطالقها فى خمس دقائق ثم أستفاضت فى التوابع وكيفية عبورها ألزمتها‬
‫مرورا بمرحلة التأهيل وأستعادة الثقة حتى أصبحت رقم واحد فى مكتب المهندس ناجى ‪ ..‬أقتربت منه‬
‫حين أستند بكيعانه على المكتب مدققا فى وجهها الخمرى وهو بالنسبة له لون جديد لم يعتاده من قبل ‪.‬‬
‫فبادرت حين لمحت فى عينيه استغرابا ‪ :‬طبعا أنت بتسأل نفسك أنا ليه حكيتلك عن أزمتى مع أنى لسة‬
‫قايلة مش الزم أى حد يعرف خصوصياتى ‪ .‬تحصلت منه على أبتسامة مندهشة دون أن ينطق ‪،‬‬
‫فأستمرت تنظر له ثم أفصحت ‪ :‬فيه فرق كبير أوى لما تحكى مأساتك بضعف عشان تكسب تعاطف وبين‬
‫أنك عايز توصل رسالة لشخص بعينه تقوله فيها أن أى مصيبة تتعرض لها ممكن تهزمها األرادة‪.‬‬
‫صوتها به رنة شجن تثير أحزانه ‪ ..‬فأتخذ قرارا مفاجئا أن يتعرى أمامها ‪ :‬مش حأخبى عليكى ‪ ..‬أنا‬
‫تعبان ومتلخبط ومش عارف أالقى نفسى ‪ .‬فاجأته حين كشفت له عن علمها بعالقته المنتهية بهدير ‪.‬‬

‫‪415‬‬
‫أرتعدت مالمحه حين راودته شكوك قوية بأنها تعرف أكثر من الالزم ‪ ..‬هل أصبح سره متداوال بمكتب‬
‫المهندس ناجى ‪ .‬أختبر معلوماتها ‪ :‬يعنى أنتى عارفة السبب ؟! ‪.‬‬

‫ــ الحكاية مش محتاجة نباهة ألن عمرها ماحتخرج عن بنت غنية بتحب شاب على أده ومن غير شرح‬
‫وال تطويل هيه وراها أهل ومش أى أهل ده الحاج أحمد الشهاوى بجاللة قدره وأكيد طبعا هو حاطط‬
‫مقاييس معينة وراسم صورة لعريس بنته الوحيدة وده حقه ومش عيب لكن العيب لما حضرتك تتوهم‬
‫وتصدق نفسك وتفتكر أن مادام هدير بتحبك تبقى الدنيا سهلة وبمبى وكل حاجة ممكنة وأنها تقدر بكل‬
‫بساطة تغير الواقع والمعادلة وخيال سيادتك الرومانسى صورلك بكل سذاجة أن هدير ممكن تقف قصاد‬
‫أهلها وتقولهم بعلو صوتها عايزة من ده ياحاموت نفسى ‪ .‬قالت عبارتها األخيرة بنبرة أستنكار ثم‬
‫أختلست من وجهه نظرة وهى تتابع ‪ :‬أسمحلى يعنى لو هو ده تفكيرك يبقى عبط منك ‪.‬‬

‫ــ ليه ‪ .‬صرخة أنحبست فى حلقه فأستبدلها ‪ :‬هو فعال عبط منى ‪ .‬أرتاحت مالمحها ألعترافه ‪ .‬مالت‬
‫بذرعها ‪ ..‬مدت يدها وضمت الملف المفتوح ورفعته لعينيه ‪ :‬خده معاك البيت وشوف الرسومات على‬
‫مهلك ولو فى أى مالحظة أحب أسمعها منك بكره الصبح عشان رأيك يهمنى وأنا متأكدة أنك حتهتم بكل‬
‫التفاصيل خصوصا لما تعرف أن الرسومات دى كلها من تصميمى أنا ‪ ..‬عض شفته حين عبث الحرج‬
‫بمالمحه فأبتسمت بعدما أزاحت الكرسى وقامت من مكانها لتعلن ‪ :‬وع العموم من بكرة أنا حأبقى‬
‫مسئولة عنك ‪ ..‬معلش بقى أستحملنى واللى أكبرمنك بيوم ‪ .‬قام هو األخر يحمل ضحكة ‪ :‬الحكاية كلها‬
‫تالت أربع سنين ‪ ،‬ثم بادلها نظرة طويلة وحين أنتهى من قراءة وجهها أدرك بأن وجوده فى المكتب‬
‫سيكون تحت حمايتها ‪ ..‬أبتسامة هادئة لخصت بها موقفها قبل أن تتجه ناحية الباب ‪ ..‬فتعقبها بسؤال‬
‫سريع باغتها به ‪ :‬هو أنا حأروح الموقع الجديد لوحدى ‪ .‬سألها وهو ينظر لمكتب هدير ‪ .‬تراجعت‬
‫شفتيها وهى على عتبة الباب ‪ :‬هدير خالص مشت من المكتب يايوسف شركة أبوها أولى بيها ‪ .‬غامت‬
‫الدنيا من حوله ‪ ،‬مرت لحظات شعر فيها أن العالم ينسحب من أمامه ‪ ..‬تخلى عنه األتزان لثوان‬
‫فمال لألمام قليال محاوال أحتواء المفاجأة قبل أن تبادره وهى تمسك مقبض الباب ‪ :‬عايز تقول حاجة‬
‫يايوسف ‪ .‬قالت جملتها كالقاتل الذى يخفى بصماته بعد أداء مهمته ‪ .‬برأس مهتزوأعصاب منهارة وسط‬
‫فوضى تموج داخله ‪ :‬أل أبدا ‪ .‬بدا صوته ضعيفا كأنه أستسلم لنهايته فجأة ‪ .‬فتحت الباب وخرجت ‪،‬‬
‫جلس مرتطما على كرسيه ‪ ..‬داست بكلماتها على أخر أمل كان يتمسح به ‪ ..‬شعر بخدر فى قدميه ‪..‬‬
‫أهتز كل مافيه عدا عينيه المتحجرتان على مكتب الراحلة ‪.‬‬

‫‪416‬‬
‫فى تلك ا ألثناء أستعدت أيات بصحبة الرفيقة نعمة لزيارة صباحية لغرفة هدى التى أنتفضت فى وقفتها‬
‫بجانب النافذة على أثر طرقتين مصدرها أصابع أيات التى دخلت عليها ملفوفة باليونيفورم المعتاد‬
‫" الروب الزهرى " ومن خلفها تتأرجح نعمة ‪.‬‬

‫ــ صباح الخير ياست هدى‬

‫ــ صباح الخير عليكو ‪ .‬قالتها حين تركت الخدمة بجوار النافذة وكأنها مكلفة بحراستها ‪ .‬فتحت أيات‬
‫الحديث بسؤال لهدى حين دققت فى عينيها وهى فى طريقها ناحية كرسى قابع بجوار الدوالب ‪:‬‬
‫مانمتيش كويس برضه ‪.‬‬

‫ــ نمت الحمد للـه ‪ .‬بينما أستهلت نعمة كالمها بعدما تربعت على األرض ‪ :‬معلش أزمة وتعدى ‪ .‬بدت‬
‫هدى قليلة الكالم شاردة أغلب الوقت فى حين لم تكن أيات سوى قنبلة كالمية موقوتة أنفجرت فى‬
‫الغرفة بمجرد جلوسها مخلفة فى المكان حكايات وقصص ترويها بشغف اليتوقف ‪ ،‬مواضيع متفرقة‬
‫وغير منتظمة راعت فيها استدعاء القديم بنبرة " قول للزمان أرجع يازمان " حين أستدعت سجل‬
‫الذكريات من رأسها على أسطوانة قديمة قدم عمرها من أيام الجد ‪ ،‬وقت أن كان الباشا الكبير والذى‬
‫يشاع أنه كان مهيبا ‪ ،‬التزال تذكر رغم بعد السنين ومشقة التذكر ‪ ،‬مجالس األسرة حول " فتة " العيد‬
‫وضحيتها ‪ ،‬أو فى ليالى السمر حين كان العم الكبير يتصدر مائدة طويلة يجلس رجال األسرة حولها‬
‫بترتيب تنازلى حتى أصغرهم ‪ ،‬وكان أبن خالة لها من نفس سنها أو يزيد مقررا لها أن تكون من‬
‫نصيبه ‪ ،‬أال أنه فيما بعد أحب راقصة من طنطا وهرب معها الى لبنان منفيا بأمر علوى من قادة األسرة‬
‫بعيدا عن موطنه ويقال وقتها ان حبيبته أعلنت التوبة على يديه وفتحت ناديا للقمار فى بيروت !‪.‬‬

‫فى ذلك الزمان ‪ ..‬تجلس النسوة فى حضرة العمة الكبرى بغطاء رأسها التى أعتمرته بعد زيارة الحجاز‬
‫وهى كبرى بنات " السبروتى " الكبير ‪ ،‬وقد ورثت امامة نساء العائلة بعد أمها التى توفيت فجأة حين‬
‫كانت تدير جلسة ثرثرة حول مايدور خلف الجدران والسواتر فى زمن كانت تساق األنثى الى نصيبها ‪،‬‬
‫تقترن برجل تسمع عنه والتراه حتى يغلق عليها بابه وينفرد بها ‪ .‬ثم وثبت دون توقف الى فصل‬
‫الستينات وماأدراك ما الستينات ‪ ..‬أستدعاء الذكريات بالنسبة لها متعة لم تحاول يوما التبرأ منها ‪،‬‬
‫تغرق فى التفاصيل حتى يرضخ لها الزمن طائعا حاضرا أمام عينيها كأنها تراه يمر أمامها ‪ ،‬تعلو بأنفها‬
‫تتشمم ‪ :‬هوا الستينات ياهدى كان هوا له ريحة ‪ ..‬لما تقربى من البحر تشمى اليود الطازة وفى وسط‬
‫البلد كانت ريحة الفل والريحان طالعة من الجناين تهفهف لما كانت أسكندرية عروسة بجد ولو دخلتى‬
‫‪417‬‬
‫لجوه ناحية األحياء الشعبية فى القبارى والورديان وكوم الدكة تشمى ريحة األكل الجميلة اللى أنقرضت‬
‫دلوقتى الكشك والكمونية والفولية والبصارة ‪ ،‬حتى الشمس كانت فى الزمن ده غير شمس دلوقتى‬
‫البتحرق والبتلسع كانت بتدفى بس ‪ .‬أنهت حقبة الستينيات بقفزة الى الجديد مصحوبة بكلمات غضب‬
‫وسخط ‪ ،‬اليمنعها من التوقف سوى بعض المالحظات التى تبديها نعمة من حين ألخر لتصليح أسماء‬
‫بعض األشخاص أو الدخول فى جدل الينتهى حول التواريخ واألماكن بينما سلمت هدى أمرها الى اللـه‬
‫تتابعهما بمزاج شارد تستعيده كل دقيقتين على صوت أيات حين تختم تفصيلة فى ذكرى قديمة ‪ :‬أيام‬
‫جميلة ماتتعوضش ‪ .‬مصائب قوم عند قوم ‪ ..‬وجدت أيات وتابعتها ضالتهما فى هدى التى أبتلعت‬
‫وجودهما كالدواء المر وأصبح حصولها على الهدوء أمرا مستحيال فى ظل صخب كلمات التتوقف ‪.‬‬
‫قاومت لساعة كاملة حتى غطى الصداع رأسها وفاض ‪ .‬لم يعد مكان أمن فى جسدها اال وضربه أعصار‬
‫القصص والذكريات ‪.‬‬

‫رن جرس الباب ‪ .‬فأشارت أيات بأستغراب لنعمة ‪ :‬مين حيجيلنا الوقت ده ‪ ..‬قومى شوفى يانعمة ‪.‬‬
‫قامت تحمل نفسها أو ماتبقى لها من حطام رجليها لتبدأ رحلة ثقيله بأتجاه الباب وهى تئن مع كل‬
‫خطوة ‪ :‬آه يانى ياما ‪ .‬لحظات ونهضت هدى ‪ ..‬سارت حتى عتبة الغرفة فى محاولة للتعرف على هوية‬
‫الفاعل لحظة فتح نعمة للباب ‪.‬‬

‫ــ أهال ياست سيست ‪.‬‬

‫ــ صباح الخير يانعمة ‪ .‬قالتها بحيوية كعادتها قبل أن تدلف للداخل ‪ ،‬بينما أخترق صوتها النشط المجال‬
‫الجوى للصالة متجها للعمق مقتحما كل خاليا هدى كجرعة منشطة ‪ .‬راقبتها أيات بأندهاش متأملة‬
‫الوجه الذى تورد فجأة وحالة التوتر التى أجتاحتها حين مسحت وجهها بكفيها لتنشيط دورة دموية‬
‫صارت بال عمل منذ يومين ‪ ،‬ضبطت جلبابها وحبست شعرها فى حزمة وتهيأت للخروج عندما تسرب‬
‫لها صوت زيزيت القادم من األنتريه ‪:‬هدى نايمة وال صاحية ؟ أضاعت األخيرة على نعمة فرصة ذهبية‬
‫للرد والتطويل حين خرجت من غرفتها تحت رقابة أيات المندهشة ‪ ..‬تصنعت خطوة قوية حين ظهر لها‬
‫وجه زيزيت السابح فى كل األلوان ‪ :‬صاحية من بدرى ياحبيبتى ‪ .‬ثم أقتحمتها فى عناق حار مشحونا‬
‫بتوقعات متفاءلة ‪ ،‬فى حين أفرغت زيزيت شحنة عاطفية مؤثرة فى بداية الجلسة كمقدمة واجبة بدءا‬
‫من ‪ :‬واللـه األتيليه ضلمة من غيرك وحاسة أنى وحيدة وكأنى فيه حاجة رايحة منى ‪ .‬نهاية إلى ‪ :‬وأن‬
‫شاء اللـه ربنا يصلح األحوال ‪ .‬قالتها دون التطرق إلى كيفية أصالحها ‪ .‬أستغرق األمر منهما بضع‬
‫‪418‬‬
‫دقائق حتى انحسرت الكلمات العائمة قبل أن تختلس زيزيت نظرة من مالمح هدى ‪ :‬أنتى زعالنة منى‪.‬‬
‫ترددت فى األجابة ‪ :‬ليه بتقولى كده ‪.‬‬

‫ــ أنا مش عبيطة عنك ياهدى ‪ ..‬شكلك باين ‪ .‬أدلت برأسها مكتفية بالصمت ‪ .‬فتابعت ‪ :‬أنتى عارفة‬
‫معزتك عندى ‪ ..‬أنتى أختى وصاحبتى وجمايلك على ماتتنسيش ‪ .‬سكتت ثم عاودت كالمها بحرج ‪:‬‬
‫ونورا كمان لها مكان كبير فى قلبى دى مش مجرد واحدة شغالة معايا دى بنتى ‪ ..‬أنا عارفة أنها‬
‫ساعات كتير بتأفش وتركب دماغها بس ده مايمنعش أنها طيبة وبتحبك ‪ .‬نظرت لها وكأنها تستطلع‬
‫نواياها ‪ :‬دى بنتى يازيزيت وأنا فاهمها كويس ‪.‬‬

‫ــ مش ده قصدى ياهدى أنا كل اللى عايزاه ماتبقاش فيه مشاكل بينك وبينها واألمور تمشى بينكو‬
‫بهدوء وتفاهم ‪ .‬صاغت كلماتها بعناية وحذر ‪ ،‬كأنها وسيط نزيه يتطهر من أية أنحيازات ‪.‬‬

‫ــ أنا ماعملتش حاجة أصال يازيزيت وأنتى عارفة كده كويس ‪ ،‬مشكلة نورا كلها فى تفكيرها وأنا لغاية‬
‫دلوقتى مش فاهمة هى عايزة أيه بالظبط ؟!‪ .‬تمردت على خوفها حين سجلت موقفا ‪ :‬مش يمكن عايزة‬
‫مصلحتك والتكون شايفة حاجة أنا وأنتى مش شايفنها ‪.‬‬

‫ــ حاجة أيه أن شاء اللـه ‪ .‬قالتها بأستنكار ‪.‬‬

‫ــ أى حاجة ياهدى ‪ ..‬ماتقعدوا مع بعض وأتناقشو وصفو سوء التفاهم ده وأنا عن نفسى ممكن أتدخل‬
‫بينكو وأقرب المسافات ‪ .‬لم يعجبها ذلك الطرح ‪ :‬نتناقش فى أيه ونحل أيه وأنا شايفة أن مافيش مشكلة‬
‫أصال ‪.‬‬

‫ــ فى مشكلة ياهدى ‪ .‬رددتها بمالمح متخبطة بينما أستشعرت األخيرة أشارات غامضة ورسائل ملغزة‬
‫حين لخصت لها زيزيت أحداث األمس ومادار بينها وبين نورا من حوارات فى شكل جمل ملغمة تضع‬
‫عالمات استفهام أقرب منها للرد ‪ :‬بنتك شايفة أنك مش الزم تشغلى بالك بحكاية األتيليه وال بمشاكل‬
‫البيت ‪ ..‬هيه بتقول أن همه بقالهم سنين بيعتمدوا على نفسهم ومش محتاجين حد ينظم لهم حياتهم ‪.‬‬
‫ختمت جمل تها بعبارة ‪ :‬ده طبعا من وجهة نظرها ‪ .‬قالتها وكأنها تتبرأ من المعنى ‪ .‬بينما غرقت هدى فى‬
‫ذهولها حين تراجع لحم خديها عن أبتسامة ساخرة ‪ :‬والمطلوب منى أشغل بالى بأيه ‪ ،‬بالمكياج مثال‬
‫وال أروح أجرى فى نادى وال أعمل أيه بالظبط ؟ ‪.‬‬

‫‪419‬‬
‫ــ أل طبعا ‪ ..‬فيه حاجات كتيرة تستاهل ‪ ،‬عيشى حياتك وأتمتعى بوقتك وعوضى السنين اللى فاتت وأنا‬
‫لو منك ماأضيعش فرصة خيرى من أيدى أبدا ‪ .‬تأملتها للحظات ثم عادت تتصنع حماسا ‪ :‬أتجوزيه‬
‫ياهدى وريحى نفسك من األرف اللى أنت فيه ده ‪ ،‬هو بيحبك وأنتى بتحبيه ‪.‬‬

‫ــ بس أنا بحب والدى وبيتى أكتر ومش حأتنازل عنهم وحأفضل أمهم مهما حصل ‪ .‬كانت فى أشد‬
‫األحتياج لهذا الشعور كى تتخلص من ضعفها ‪ .‬تلعثمت زيزيت حين طرحت سؤالها وهى تشعر بأن‬
‫وضعها ملتبس يثير الجدل وتحيط به شكوك هدى ‪ :‬والعند ده حيوصلك لحد فين ياهدى ؟! ‪.‬‬

‫ــ ده مش عند ‪ ..‬ده حقى ودى حياتى وأنا حرة فيها أختارها زى ماأنا عايزة بالطريقة اللى أنا شايفاها ‪.‬‬
‫أعلنت موقفها بتشدد أصاب صديقتها بأرتباك ملحوظ رمشت له عيناها بفزع ‪ .‬بدا أن هدى التعرف‬
‫ماينتظرها ‪ ،‬ربما لم تكن قطعت من قبل المسافة التى تفصل بين الخضوع والتمرد ‪.‬‬

‫ــ أنتى ليه عصبية كده ياهدى‪ ،‬اللى يسمعك وأنتى بتتكلمى يفتكر أن فيه حد بيجبرك على حاجة غصب‬
‫عنك ‪.‬‬

‫ــ ماحدش يقدر يغصبنى على حاجة أنا مش عايزاها ‪ .‬قالتها بنبرة قاتل الينوى التوبة ‪.‬‬

‫خفضت زيزيت رأسها تعبث بأظافرها ‪ ،‬بدت قليلة الحيلة مغلوبة على أمرها ‪ :‬راجعى نفسك تانى‬
‫ياهدى ‪ .‬زحزحت األخيرة نفسها تتقدم بصدرها لألمام ثم مطت رقبتها مقتربة من الوجه المرتبك ‪ :‬هى‬
‫نورا قالتلك أيه بالظبط ؟ رفعت اليها عينيها دون أن ترفع رأسها ‪ :‬عن أيه ؟‪.‬‬

‫ــ عنى أنا ‪ .‬حدقت فيها للحظات بعدما قررت األعتراف ‪ :‬بنتك عارفة كل حاجة بينك وبين خيرى وهى‬
‫شايفة أن أنسب وضع لكى أنك تتجوزيه ‪ .‬لم يتبق اال الذهول فى وجهها بينما أستمرت زيزيت تفرغ‬
‫مالديها كى تخلص نفسها من ذنب يالحقها ‪ :‬وعشان أكون صريحة معاكى ياهدى هو ده رأيها وهى‬
‫مصرة عليه ‪ .‬أرتدت بظهرها للوراء تضغط أضراسها ‪ :‬ولو رفضت أيه اللى حيحصل ‪ .‬هزت رأسها‬
‫بالنفى ‪ :‬ماأعرفش ‪.‬‬

‫ــ طب أنتى رأيك أيه ‪ ..‬موافقة على كالم نورا ده ‪ .‬شعرت بانها محشورة فى زاوية وكأنها كلما مددت‬
‫يدها لتتعلق بحبل ألتف حول رقبتها ‪ :‬بصراحة أنا مش عارفة أتصرف أزاى ‪ .‬قالتها باحساس متزايد‬
‫بالمرارة ‪ ،‬تلعن ضعف مقاومتها أمام ضغوط نورا ‪ ..‬تلعن كل الظروف التى جعلتها هى وصديقتها داخل‬

‫‪420‬‬
‫أزمة حلها خارج أرادتهما ‪ ..‬تعلمت زيزيت بالتجربة أن الشيىء ثابتا والقوى دائما يصنع المواقف كما‬
‫يراها ‪ .‬ثم قامت من مكانها ومساحات الخجل قد أتسعت فى وجهها ‪ ،‬فأرادت أن تخفى ضعف مواقفها‬
‫حين فتحت حقيبتها وأخرجت مبلغا ومدته لهدى ‪ :‬دول بقية مرتبك ياهدى ‪ .‬تأملت اليد الممدودة ثم‬
‫أغمضت عينيها تخفى نظرتها المصدومة خلف جفنيها ‪ :‬خليهم معاكى لما حأحتاجهم حأبقى أقولك ‪.‬‬
‫سحبت يدها ولم تلح عليها ‪ ..‬وقفت صامتة حين أظهرت هدى وجوما واشاحت بوجهها ضيقا وكأنها‬
‫أشارة تعنى " أرحلى " أعربت بعدها زيزيت عن رغبتها فى أنهاء الزيارة ‪ :‬معلش ياهدى مش حأقدر‬
‫أقعد معاكى أكتر من كده عندى حاجات كتيرة متأخرة فى األتيليه ‪ .‬قالتها وسارعت اليها تعتصرها فى‬
‫صدرها ثم سارتا سويا حتى أنفصلتا عند باب الشقة بعد وداع قصير شمل كلمات متواضعة قبل أن‬
‫تصرح زيزيت وهى فى لحظة العناق األخير ‪ :‬أنا متفاءلة وان شاء اللـه كل حاجة حتعدى بس أنتى‬
‫أهدى كده وراجعى نفسك ‪ .‬أبتسامة متحفظة لم تفلح فى بسط أقتضابها ‪ .‬ثم رحلت بهدوء بعدما سلمت‬
‫الرسالة كما تسلمتها من نورا بعد أن قبلت مجبرة اداء دور " عبد المأمور " بعدما قرر المأمور‬
‫إال يبقى الوضع على ماهو عليه ‪ ..‬لم تدم وقفتها طويال عند باب الشقة ‪ ،‬فى طريقها من الصالة لغرفتها‬
‫سار معها سؤاال كبيرا يتقافز فوق رأسها ‪ :‬هى الناس ممكن تتغير بسهولة كده عند أول أمتحان ؟!‪ .‬لم‬
‫يفارقها السؤال ‪ ،‬ظل يعلو ويعلو ‪ ،‬ويحفر فيها على طريقته ‪ ..‬األجابة عنه صعبة ‪ ،‬وربما مستحيلة ‪.‬‬
‫قبل أن تصل حدود غرفتها برزت عنها أبتسامة أعتادت عليها منذ لحظة خروجها من السجن ‪ ،‬دائما‬
‫ماتبديها برفقة جملة تالزمها كتوأم ملتصق " ياخسارة يازمن " رددتها ودخلت لتجد أيات ونعمة كما‬
‫تركتهما ‪ .‬أنضمت اليهن لتلتئم جلسة النساء البائسات ‪.‬‬

‫الفصل الرابع عشر‬

‫أستقر األمر نسبيا لمنصور بعد مرور عشرة أيام ‪ ،‬أظهر نجاحات متعددة بفضل توجيهات محمود‬
‫المحامى الذى أمده بالمعلومات والنصائح فأقتحم من خالله عالم أمه الخفى ‪ ،‬تعرف على خريطة‬
‫تجارتها وحجم التعامالت وعلى معظم التجار كما أطلع على كثير من األتفاقات ‪ .‬كان شغوفا ولحوحا‬
‫على فك كل الشفرات واألقتراب من كل الخطوط ‪ ،‬الحمراء والخضراء ‪ ،‬بداية من حسابها فى بنك مصر‬
‫والقيمة المادية أليصاالت األمانة المحررة لسكان كرموز والتى تقدر قيمتها بمئات األالف من‬
‫الجنيهات ‪ ،‬بخالف أرض"أبن شكر" نهاية بحسابات القهوة والتاكسى والنص نقل متقمصا فى تحركاته‬
‫شخصية "البسنس مان" كما خبرها على يد الفنان " نور الشريف " متأثرا بدوره فى فيلم‬
‫‪421‬‬
‫" زمن حاتم زهران " حركة دؤوبة بخطوة سريعة تستلزم لياقة عالية ضاعف من وتيرتها كلمات‬
‫موجزة يستخدمها رافعا شعار " المختصر المفيد " تحول جذرى رهيب ‪ ..‬سلوك متزن كرجل أربعينى‬
‫ينسجم مع مظهرا عمليا أختاره لنفسه ‪ ،‬قمصان ساده على بنطلونات " جبردين " أضفت عليه جدية‬
‫رجل أعمال مع بعض األكسسوارات لزوم الوجاهة كموبايل " جاالكسى " موديل السنة وسلسلة ذهبية‬
‫حبلها متين طوقت بها فايزة رقبته لتحفظه آية الكرسى المتدلية منها متعمدا فتح قميصه حتى قفصه‬
‫الصدرى ‪ .‬بدا مثار أهتمام معظم المراقبين والمتابعين من قاطنى حوارى كرموز ومرتادى المقاهى‬
‫وبعض المقربون ‪ ..‬الكل يتساءل ويأكله الفضول عن السبب الحقيقى خلف تلك الصحوة المثيرة للريبة ‪،‬‬
‫تطل من عيونهم أسئلة وتخمينات لم تفلح واحدة منها فى الوصول إلى السرالعظيم ‪ ،‬وإن كانت هناك‬
‫بعض األقاويل التى تنتشر بقوة فى حارتى " المنجى وأبن شكر " عن وجود شخصية مهمة ذات قدر‬
‫وتأثير على فايزة دفعتها لتغيير موقفها تجاه أبنها ‪ ،‬بينما فى نفس الوقت أفاد مصدر مطلع قريب الصلة‬
‫من " مديحة " بنت عم " كحالوى " المنجد وهى صديقة قديمة لفايزة ‪ ،‬أشارت لوجود صفقة تمت‬
‫سرا بين فايزة وأبنها شريطة أن يبتعد األخير عن نوسة بنت بدرية مقابل تمكينه من بعض‬
‫األعمال والصالحيات ‪ .‬أيام قليلة وهدأت ضجة األجتهادات وأغلق الملف برمته وتعامل الجميع معه‬
‫كوليا للعهد ‪.‬‬

‫أدرك منصور بفطرته أهمية اللحظات ودقتها وإن مصيره يتوقف على أجتهاده ودعم أمه المتنامى التى‬
‫أعادت أكتشافه ‪ ،‬ليغادر بأصرار مرحلة التهميش وعصر الصعلكة ‪ ..‬أصبح األن صاحب قضية ‪ ..‬قضية‬
‫المستقبل والمصير ‪ .‬أحساس قوى وشعور عام ‪ ،‬بأنه على الطريق الصحيح ألستعادة ثروته التى كانت‬
‫لسبب أو ألخر قيد الحراسة أو التأميم ‪.‬‬

‫دخل المقهى وقد سطر لنفسه كيانا جديدا ‪.‬‬

‫ــ بقى شايف نفسه أوى وأخره كلمتين من طراطيف لسانه وعلى طول مستعجل ‪ ،‬شكله كده طلع ولد‬
‫أرارى وأبن سوق ‪ .‬كانت تلك واحدة من الجمل التى يتداولها همسا مساجين القهوة لحظة دخوله ‪،‬‬
‫أتجه إلى ركنه مباشرة بجانب النافذة مستدعيا جمعة بفنجان قهوة تزامنا مع نظرة خاطفة وأبتسامة‬
‫ضيقة توجه بهما ألبوه ترافقهما ديباجة رجل اليملك وقتا حين أقترب منه األخير ‪ :‬أزى األحوال يابا ‪..‬‬
‫الشغل تمام ‪ .‬قالها جالسا قبل أن يشرع فى اجراء بعض األتصاالت السريعة يتخللها تسجيل بعض‬
‫المالحظات السريعة فى " نوتة " صغيرة تالزمه كنبضه ‪ .‬اليقطع أنشغاله سوى صوت أبوه الذى فشل‬
‫‪422‬‬
‫فى أستيعاب اللحظة وتسارع األحداث وكأنما يتابع فيلما سينمائيا قصد مخرجه أن تكون المسافة بين‬
‫لحظة البداية والنهاية التتعدى دقائق !‪ .‬الزال عبده واقفا فوق رأسه يتابعه ‪ :‬اللى عطاك بالجزمة‬
‫يدينا ‪ ..‬طوى النوتة ‪ .‬ثم رفع له عينيه ‪ :‬معلش يابا شغل والزم أقفله ‪ .‬وضع عبده جثته على كرسى‬
‫أمامه والدهشة لم تفارقه ‪ :‬سبحان مغير األحوال ‪ ،‬يعنى أنت من عشر تيام بس كنت متلقح هنا قدامى‬
‫مافيش حد بيعبرك غير دبان القهوة ودلوقتى بالصال ع النبى مش مالحق ‪ ،‬ناس داخلة وناس خارجة‬
‫وقعدات وأجتماعات فى القهوة لبعد نص الليل وبتجرى شمال ويمين زى الرهوان وعينى عليك باردة‬
‫بقيت دايس فى كل حاجة ‪ .‬مالحظات لم يعيرها منصور أهتماما ‪ ،‬تخطاها بهزة من رأسه قابلها عبده‬
‫بتنهيده ‪ :‬واللـه براوة عليك يامنصور عملت اللى أنا ماعرفتش أعمله فى خمسة وعشرين سنة ‪ ،‬كلفت‬
‫الولية أمك فى كام يوم وكلت دماغها وشكلك كده آزح وداخل بصدرك على الغميق وباين عليك حتبقى‬
‫بطل المرحلة ‪ .‬قالها ضاحكا حين وضع جمعة صينية القهوة ‪ ..‬رشفة طويلة من فنجانه قبل أن يرسم‬
‫على وجهه قناع الحكمة ‪ :‬عارف يابا أنت لو عشت فوق عمرك كمان عمر مش حتوصل ألى حاجة‬
‫مع أمى ‪ ..‬عارف ليه ؟ طرح سؤاله وغرس نظرته فى عينيه مستأنفا ‪ :‬عشان أنت كل اللى يهمك‬
‫مزاجك وبس ومش شايف غير تحت رجليك وكل تفكيرك أزاى تخطف وتجرى ‪ ،‬عمرك مافكرت لقدام‬
‫وال فكرت مرة واحدة فى حياتك أن فلوس أمى هى فلوسك ومصلحتها تبقى مصلحتك ‪ ..‬عارف أنت‬
‫بتفكرنى بأيه ؟ ‪.‬‬

‫ــ بأيه ياباشا ‪ .‬قالها ساخرا ‪ .‬بالظبط زى موظف الحكومة ماتفرقش معاه المصلحة اللى شغال فيها‬
‫تخرب تفلس والتروح فى ستين داهية المهم أنه أخر الشهر يلهف مرتبه ‪ ..‬أنا بقى ‪ .‬أشار لنفسه ‪ :‬كنت‬
‫متأكد من األول أن كل اللى عند أمى بتاعى وملكى لوحدى ‪ ،‬يعنى ال قدر اللـه لو أمى أتكعبلت فى‬
‫تجارتها وال أتاكلت فى السوق كنت حأبقى أول الخسرانين ‪ ..‬وماتاخذنيش يعنى فى الكلمة دى ‪ ،‬أنت‬
‫وأمى مش حتعيشوا أكتر ماعشتو ‪ .‬سكت يداعب فنجان القهوة ‪ ،‬ليعود بنبرة حاسمة ‪ :‬اللى جاى كله‬
‫بتاعى أنا والحق يتقال أمى طلعت حدأة ولحقت نفسها فى الوقت الصح ودخلتنى معاها فى زوارأها‬
‫عشان هى ست أدارجيه وعارفة فين تحط رجليها ‪ .‬أنصت له عبده بأهتمام ثم قام مدلكا أفاه بكفه مكتفيا‬
‫بماتلقاه من محاضرة تركت على وجهه أنطباعا مبهرا وطيف أبتسامة حين قال ‪ :‬ع العموم خدها منى‬
‫نصيحة وحطها حلقة فى ودنك ‪ ..‬اللى يقرب من فايزة الزم يعمل حسابه كويس ويبقى عارف أنها زى‬
‫ماحترفعه لسابع سما ممكن فى لحظة تخسفه لسابع أرض ‪ ..‬خد بالك يامنصور !‪ .‬قالها ورحل زاحفا‬
‫نحو ركنه كمنفى أختيارى انتظارا لقضاء اللـه وقدره ‪ ..‬جلس فى كرسيه صامتا مستغرقا فيما آل إليه‬
‫‪423‬‬
‫مصيره ‪ ،‬ذل من بعد عز ‪ .‬تأمل يديه اللتان تستريحان على فخذيه بعدما باغته شعورا بأنه ضحية‬
‫لمؤامرة كونية ‪.‬‬

‫فى تلك اللحظة كانت عالمات الترقب منقوشة على مالمح سليم الذى أنتظر منكمشا داخل كرسيه حتى‬
‫رحل عبده فأنتهز الفرصة السانحة وقام يحجل متجها ناحية صديقه الذى لم يتمكن من األنفراد به سوى‬
‫بضع دقائق خالل أسبوع كامل بعدما أصبح سليم بالنسبة له كائنا تخطاه الزمن ‪ .‬سار يتطوح حتى بلغ‬
‫طاولته ‪ ..‬وقف أمامه يهز كتفيه كبلطجى يستعيد ذاكرته معلقا سيجارة " كليوباترا " بين شفتيه‪..‬‬
‫أجرى معاينة على صديقه من أعلى وكأنه سيشتريه بينما طالته نظرة منصور التى أستقرت على وجهه‬
‫يقرأ مالمحه ‪ .‬فبادره ساخرا ‪ :‬أنت شغال مصوراتى اليومين دول ‪ ،‬حتاخدنى صورة من فوق وال أيه ؟ ‪.‬‬
‫سحب كرسيا ‪ :‬والحأخدك من فوق والمن تحت أنا كفاية على أبقى جنب منصور بيه الراجل المهم ‪.‬‬
‫قالها وهو يجلس ‪.‬‬

‫ــ والمهم والحاجة ياخويا أنا مش ماسك مصنع وال بأدير شركة ده مالى ياجدع يعنى لو مافتحتش عينى‬
‫كويس وبقيت مصحصح أبقى مش راجل وال أدها ‪ .‬عمود دخان اطلقه سليم بعدما أستند بمرفقيه على‬
‫الطاولة مقتربا بوجهه األصفر ‪ :‬طب ياعم المهم أنا فين من الليلة دى ‪ .‬مضيقا عينيه بأرف ‪ :‬أنت فين‬
‫يعنى أيه ؟ ‪.‬‬

‫ــ هو أنا مش صاحبك برضه وال أنت نسيت ‪ ،‬مش أنا سليم بتاع األيام الناشفة والجيوب الفاضية وقلة‬
‫الحيلة وال هو يعنى فى الحزن مدعين وفى الفرح منسين ‪ .‬نافخا فى وجهه معلنا عن ضيق فى صدره ‪:‬‬
‫أنت عبيط يابنى ‪ ،‬فرح أيه وحزن أيه أنت بتتكلم على عزومة والفرح على سطوح ده شغل وفلوس‬
‫ناس ‪ .‬قالها بعصبية تلقاها صديقه ببرود ‪ :‬طب وماله شغلنى معاك هو مش أنت ماسك الليلة كلها ‪.‬‬

‫ــ أنا مش فاضى للخبل بتاعك ده ‪.‬‬

‫ــ خبل أيه يامنصور هو أنا طلبت أشاركك ‪ ،‬أنا بأقولك شغلنى معاك ‪.‬‬

‫ــ تشتغل أيه ياالسع ‪ ..‬أنت آخرك شمة وبرشامتين وبارك اللـه فيما رزق ‪ .‬قالها وهب واقفا كمن‬
‫يتطهر من أوساخ علقت به بينما أصطبغ وجه سليم بتركيبة مريرة ‪ ،‬أمتزجت فيها الغيرة بالحنق ‪..‬‬
‫كانت تلك ماتحمله نفسية سليم ‪.‬‬

‫‪424‬‬
‫ــ ماشى يامنصور براحتك ياصاحبى ‪.‬‬

‫ــ طبعا براحتى ‪.‬‬

‫ــ طب شوفلى خمسين جنيه معاك ‪ .‬قالها بصيغة أمر ‪.‬‬

‫ــ فلوس مامعييش ‪ ..‬جدعنة منى بس طلباتك عندى ‪ .‬جملة رددها حين أتاه جمعه مهروال بعد أشارة‬
‫من منصور ‪ :‬حساب البنى أدم ده عندى ‪ ..‬خد بالك من القهوة ربع ساعة وجاى ‪.‬‬

‫ــ ماشى يامعلم منصور ‪ .‬قالها بملء فمه وهو يودعه قبل أن يمر بعينيه فى أشمئزاز على سليم الذى‬
‫أنكمش يأكل فى نفسه ‪ :‬وأنتبقى مش تتلحلح كده وتشوفلك مصلحة تعملها بدل ماأنت عايش على‬
‫التبرعات ‪ .‬لوى رقبته يعاين المتحدث بنظرة ساخرة ‪ :‬حتى أنت ياجمعة ‪.‬‬

‫خرج منصور من القهوة بأتجاه حارة " عويضة " قاصدا بيت " سيد الونش " الموطن الجديد لبدرية‬
‫وكريمتها ‪ ..‬فى طريقه توقف أمام دكانة " أبو سامية " فكهانى فاخرـ لديه أحدث موديالت الفاكهة ـ‬
‫فأنحاز منصور ألتنين كيلو موز مستورد من طراز الطول المديد ‪ ،‬ثم اشار بيده صانعا عالمة النصر‬
‫فوق صندوق تفاح يعانى حمرة شديدة وتعنى أتنين كيلو قبل أن يقتحمه " أبو سامية " بأبتسامة‬
‫سمجة ‪ :‬ماتجرب األصفر كمان ياأبوحجاج ‪ .‬أدار له األخير ظهره حين رن هاتفه فهز رأسه موافقاكى‬
‫يبعده ‪.‬‬

‫ــ أيوه يانوسة ‪ ..‬حأجيب شوية فاكهة وآجى على طول ‪ ،‬صاحيين وال حتنامو ‪ ..‬طب مسافة السكة ‪.‬‬
‫أغلق تليفونه على صوت أبو سامية ‪ :‬أجيبلك أيه تانى يامنصور ‪.‬‬

‫ــ كفاية كده ‪ .‬قولى حسابك كام ‪ .‬رحل بعدها متجهما حين أستظرف أبو سامية ‪ :‬ماتقولنا الوجاهة‬
‫والشياكة دى جت أزاى عشان نعمل زيك ‪ .‬كافأه مشمئزا ‪ :‬أبقى أسأل سامية لما ترجع البيت !‪ .‬أكمل‬
‫منصور مسيرته حتى بلغ بيت " سيد الونش " ‪ ..‬بناء حديث أتم عامه الخامس منذ شهرين ‪ ،‬بوابة‬
‫حديد وساللم رخام وواجهة متعددة األلوان ‪ ،‬أختار كل ساكن لونه المفضل بحرية تامة وديمقراطية عدا‬
‫الدور األول سكن المدعو " فرجانى " الذى زين شرفته بعبارة " اللـه أكبر " يجاورها رسمة كبيرة‬
‫للكعبة المشرفة وبينهما بصمة كف لخرق عيون الحاسدين ‪ .‬أستقبلته نوسة عند باب الشقة ببنطلون‬
‫ضيق وتيشيرت قبل أن يرمى فى حضنها الموز والتفاح ثم دخل خلفها ‪ ..‬ضرب صرير باب الشقة وهو‬

‫‪425‬‬
‫يدفعه متقدما الى الصالة المستطيلة المضاءة بلمبة عارية فضحت بيوت العناكب التى أخذت لنفسها‬
‫وضعا فى السقف تستقبل به الداخل ‪ .‬شقة متواضعة غرفتين وصالة بأيجار شهرى خمسمائة جنيه‬
‫حسب األتفاق المبرم بين منصور والونش لمدة عام قابلة للتجديد لحين العودة إلى حارة ابن شكر بعد‬
‫أنتهاء البناء كما خطط منصور باألشتراك مع بدرية التى سارعت بايداع مبلغ التعويض التى تحصلت‬
‫عليه من ف ايزة فى وديعة بالبنك األهلى ‪ .‬رافقته نوسة حتى ركن الصالة بأتجاه الكنبة العتيقة تزامنا مع‬
‫لحظة وصول بدرية من المطبخ التى أنقضت عليه وأبتلعته فى صدرها بحفاوة بالغة مع قبلتين على‬
‫خديه كأنا لهما صوتا مؤثرا ‪ :‬أهال ياحبيب قلبى ‪ ..‬نورت بيتك ‪.‬‬

‫ــ منور بصحابه ياست بدرية ‪ .‬جلست كما جلس هامدا بعدما أوشكت طاقته على النفاذ بعد يوم‬
‫عمل شاق ‪.‬‬

‫مدد رجليه مسترخيا ومستدفئا بالسخونة المنبعثة من كتلة اللحم التى تجاوره ‪ .‬لم يدم صمته طويال حين‬
‫علق متفاخرا على مالحظة وردت على لسان بدرية ‪ :‬بسم اللـه ماشاء اللـه شكلك بقى منور عامل زى‬
‫الناس المهمة اللى بيطلعوا فى المسلسالت ويبقوا مشغولين على طول ‪.‬‬

‫ــ حنعمل أيه بقى ياست بدرية مسئولية وأتحطت على كتافى والزم أبقى أدها ‪ .‬تقصعت نوسة فى‬
‫مشيتها حتى تخطت رجليه المفرودتين ثم مدت أصابعها لكتفيه مدلكة ‪ :‬طبعا أدها ‪ ،‬ده كفاية عليك أن‬
‫نو سة بجاللة قدرها واقفة جنبك ‪ .‬لم تلحظ أى تعبير على وجهه فلكزته فى صدره ‪ :‬أيه ‪ ..‬كالمى مش‬
‫جاى سكة معاك ‪ .‬أبتسامة مجهدة ‪ :‬ياعبيطة يعنى لو أنتى مش جاية سكة كنت جيت لغاية هنا فى‬
‫الوقت ده وأنا مقتول تعب ‪ .‬دارت حوله ثم أستقرت خلفه وعقدت ذراعيها حول رقبته ونامت بصدرها‬
‫الطرى على ظهره المقوص ‪ :‬ماأنا عارفة يامنصور بس بطمن أوى لما بسمع منك الكالم ده ‪.‬‬

‫ــ أطمنى يابت وحطى فى بطنك بطيخة صيفى ‪ ،‬منصور راجل وجدع وبيشيل الناس اللى بيحبوه فى‬
‫قلبه وعينيه ومهما كبر مش حيكبر عليكى ‪ .‬كانت جملة أستباقية من بدرية وضعته أمام مسئولية‬
‫أخالقية عبر عنها حين سحب نوسة من رسغها ليجعلها أمامه ‪ :‬كالمك كله صح ياست بدرية نوسة دى‬
‫حته منى وكل اللى بأعمله دلوقتى واللى حأعمله بعدين كله حيبقى لها ‪ ..‬بس واحدة واحدة أنا مش‬
‫عايز قلق خالص اليومين دول أنا ماصدقت أمى رضيت عنى وأطمنتلى وأدينى حطيت رجلى على أول‬
‫السلم وربنا يسهل بالباقى والصابرين بخير ‪.‬‬

‫‪426‬‬
‫أنقباضات أعترت مالمحها عندما ولت وجهها شطر الحائط تخطو لألمام بخطوات قلقة ‪ :‬ياخوفى‬
‫يامنصور ‪ ..‬توقفت نظرته فى عينيها حين أستدارت ‪ :‬مالك يابت ‪ ..‬خايفة من أيه ؟ ‪.‬‬

‫ــ تنشغل عنى زيادة عن اللزوم وسكة الفلوس تأخدك لدنيا تانية وتنسى نفسك وتنسانى وتدورلك على‬
‫حاجة تليق ‪ .‬أهتم بمخاوفها حين قرر أن يهدأها كى التتمادى فى جو التأنيب والعكننة ‪ :‬آهو ده بقى‬
‫اللى بيسموه العبط والجنان الرسمى ‪ ..‬أنتى نسيتى يابت كالمك معايا ‪ ..‬نسيتى لماكنتى بتعايرنى‬
‫وتقوليلى أزاى أمك راكناك ع الرف وشايالك من دماغها وأنت أبنها الوحيد وسايباك كده من غير شغلة‬
‫وال مشغلة ‪ .‬قام متجها إليها ‪ : .‬ولما ربنا يكرمنا وأمى ترضى عنى وتمسكنى شغلها نتبطر ع النعمة‬
‫ونقول الكالم الخايب ده اللى ال يجيب واليودى ‪ .‬خفضت رأسها على وقع كلماته حين تحسس بكفه‬
‫خدها ‪ ،‬فخرجت كلماتها مع أنفاسها ‪ :‬ياخبر بفلوس بكره ‪ ..‬أهتزت بدرية فى جلستها وهى تتابع بترقب‬
‫الحوار الدائر وكأنها تؤدى دور حكم اللقاء التفوتها كبيرة والصغيرة ‪ .‬فأستشعرت بأن األمر يحتاج منها‬
‫تدخال ‪ :‬ماتزودهاش بقى يابت ‪ ،‬منصور بيحبك وأنا مالية أيدى منه وكلها كام شهر وحيظبط نفسه‬
‫وحتبقى معاه فى بيت واحد ‪ .‬جذبها منصور لصدره ‪ :‬واللـه ماتقلقى كالم أمك كله صح والصبر جميل‬
‫وأنا وعدتك حأرجعك على شقة محترمة فى بيت أبن شكر ودى هديتى لكى بس أتقلى على شوية‬
‫وأفرديها بقى ‪ .‬أبتسامة تخفى خلفها قلقا حين أراحت رأسها على صدره ‪ :‬واللـه بحبك أوى يامنصور ‪.‬‬

‫ــ قديمة ‪ ..‬سيبك من الكالم ده وقوليلى ظبطى أوضتك وال لسه ‪.‬‬

‫آه ‪ ..‬حطيت الدوالب ونصبت السرير اللى أنت جبتهولى وفرشت السجادة وبقت أوضة آخر‬ ‫ــ‬
‫رومانسيبة ‪ .‬من فوق الكنبة أرسلت بدرية غمزة ألبنتها ‪ :‬خديه فرجيه خليه يشوف التظبيط ‪ .‬تراجعت‬
‫خطوة مستعرضة خريطة جسمها ‪ :‬تعالى أفرجك ‪ .‬سحبته خلفها وخطا أول خطوة إلى جوف الشقة‬
‫مجتازا الطرقة الطويلة يتعقبها بيده يقيس ويوزن مبديا مالحظة إيجابية ‪ :‬بالصال ع النبى صحتك ردت‬
‫أوى فى بيت الونش ‪.‬‬

‫ــ ال ياخويا طول عمرى صحتى حلوة ‪ .‬قالتها وأزاحت يده الداخلة بال أستئذان ‪ .‬لحظات ووجد نفسه‬
‫داخل غرفتها وأمام سريرها ‪ ،‬أنقضت دقيقة وهما فى وضعية األلتحام ‪ ..‬أعتصرها فى صدره يعالج‬
‫بدفئها رطوبة يومه قبل أن ترتج بهما الغرفة حين باغتهما صوت بدرية ‪ :‬فرجتيه وال لسه يابت ‪.‬‬
‫حاولت الفكاك منه ‪ :‬خالص ياما ‪ .‬قاطعها بصوت الهث وهو يمشى بشفتيه على رقبتها ‪ :‬أللسه !‪.‬‬
‫سلتت نفسها منه عند سماعها حركة فى الصالة مصدرها الكنبة ‪ .‬أزاحته بصوت خفيض ‪ :‬لم نفسك‬
‫‪427‬‬
‫أمى حتيجى علينا ‪ .‬وثبت الى خارج الغرفة يتبعها محبطا إلى الصالة ‪ .‬جلس مترددا أمام بدرية حين‬
‫طرحت عليه سؤالها ‪ :‬حتتعشى معانا يامنصور ؟ ‪.‬‬

‫ــ مش حينفع الزم ألحق أمى قبل ماتنام فى شوية حاجات فى الشغل الزم أخد فيها رأيها ‪ .‬قطبت نوسة‬
‫جبينها ‪ :‬أيه رأيك بقى مش حتنزل من هنا إال لما تأكل معانا ‪ .‬تذكرأنه لم يضع لقمة فى فمه منذ‬
‫الصباح ‪ ،‬تفحص الجسم الطرى الواقف أمامه ‪ :‬مش حينفع يانوسة مش عايز أعمل مشاكل مع أمى ‪.‬‬
‫قال ها وتمنى لو يفرغ طاقته المستعرة عندها فالذى يدركه األن أن صراخ العاطفة هو أعلى من‬
‫صراخ المعدة ‪.‬‬

‫ــ ماشى ياخواف ياأبن أمك ‪.‬‬

‫ــ مقبولة منك ياأبيض ‪ .‬صانعا ضحكة قبل أن ينتفض واقفا حين نظر فى ساعة يده ‪ :‬أتأخرت أوى ‪..‬‬
‫حأكلمك الصبح ‪ .‬قالها وهو يتجه ناحية الباب قبل أن يقف عند عتبته يتأملها للحظات ‪ :‬أبقى أتعشى‬
‫تفاح ياتفاح ‪.‬‬

‫ــ والموز ؟! قالتها بضحكة مكتومة أحتراما لسكون الليل ‪.‬‬

‫ــ أبقى أديه ألمك ‪ .‬لم ينتظر نهاية ضحكتها ورحل مسرعا كالمطارد ‪ .‬وقفت مكانها ولم تتحرك بعدما‬
‫تالشت ضحكتها حين حام حولها ذلك الخاطر الذى الزمها فى الفترة األخيرة ‪ ..‬ماذا لو نجح منصور‬
‫وأثبت وجوده وتمكن من ثروة أمه وأصبح له كلمة وكيانا قويا ‪ ..‬هل سيقبل وقتها بالزواج من نوسة‬
‫بنت بدرية كومبارس ؟!‪.‬‬

‫دون أن يلتقط أنفاسه ‪ ،‬دخل منصور من باب الشقة بعد أن قطع حوارى كرموز كالسهم اليميل يسارا‬
‫واليمينا حتى مدخل البيت ومنه إلى السلم صعودا يخطف كل ثالث درجات فى قفزة ‪ ،‬بخطوات مسرعة‬
‫اتجه الى غرفة أمه ‪ ..‬فتح الباب ودخل مستعيرا وجها مرهقا حين طالعته فايزة بنصف عين وهى‬
‫ممددة على السرير تنصت بأسترخاء لنداء النوم ‪ ،‬توجه اليها بعدما أستخرج من بين شفتيه ابتسامة‬
‫راعى فيها أن تبدو مجهدة ‪ :‬الجميل حينام وال أيه ؟ أشاحت بوجهها ‪ :‬الجميل بقاله ساعتين مستنيك‬
‫ياروح أمك ‪ ..‬كنت بتتسرمح فين ‪ .‬ضم شفتيه تأهبا لوضع قبلة على جبينها حين أنحنى ‪ :‬خالص ياما‬
‫زمن السرمحة ولى ‪ ..‬دلوقتى شغل وبس ‪ .‬أنزاحت لوسط السرير مفسحة له مكانا ليستقر بجوارها ‪.‬‬
‫عشر دقائق كاملة ‪ ،‬أستعرض فيها منصور تقريره اليومى مع شرح مفصل لخريطة يومه المنصرم منذ‬
‫‪428‬‬
‫خروجه فى الصباح وحتى اللحظة مع مراعاة حذف المشهد األخير الخاص بزيارته لنوسة ‪ ..‬كان منظما‬
‫فى سرده وأقنعها بترتيبه لالحداث ‪ ..‬أذهلها بحماسه وألحاحه على الفهم وسعيه خلف التفاصيل‬
‫فأطمأنت لجديته قبل أن تستعيد تركيزها حين أستهل برنامجه للغد وماينوى فعله مبديا وجهة نظر ‪:‬‬
‫بكرة حاقابل المهندس اللى أسمه أسامة بتاع رسومات العمارة فى مكتب محمود المحامى واللى وصلنى‬
‫أنه مجهز الرسم بتاعه على أربع شقق أرضى وأربع محالت وبينى وبينك ياما النظام ده مش عاجبنى ‪.‬‬

‫ــ ليه يامنصور ‪ ..‬أنت عارف سعر المحل كام وكمان الشقق األرضى لها زبونها عيادات ومكاتب ‪.‬‬

‫ــ أنا بقى عندى تفكيرة تانية أحسن من الكالم ده بأقول يعنى لو أخدنا الدور األرضى كله وكمان الدور‬
‫األول ونعمل عليهم مول كبير يتحط فيه كل حاجة من األبرة للصاروخ ‪.‬‬

‫ــ مول ‪ ..‬ده زى بتاع كارفور ‪.‬‬

‫ــ مش أوى كده ياما ‪ ..‬حاجة شبهه بس على شعبى حبتين يمشى مع البشر اللى هنا ويناسب زبونك‬
‫وكمان مساحة األرض الكبيرة حتفرق معاكى أوى وتخليكى تتوسعى وتشكلى وتحطى كل األصناف اللى‬
‫تخطر على بالك ‪ ،‬أكل وشرب وأقمشة ومالبس وأدوات منزلية وقطع غيار وكمان مايمنعش تطلعى‬
‫جزء من بضاعتك بالتقسيط لزباينك وحبايبك وجزء تانى تطلعيه جملة ‪ ،‬ده غير أنه حيبقى المركز‬
‫بتاعك اللى تقابلى فيه المعلمين وصحاب المصلحة ‪ .‬قلبت أقتراحه فى رأسها ثم غابت بعينيها ناحية‬
‫السقف قبل أن تعود ساهمة مبهورة كمن تنصت لهاتف يصرخ فيها " فكرة بمليون جنيه " ‪ .‬عبرت عن‬
‫أعجابها بنبرة ممطوطة بعدما قامت من رقدتها ‪ :‬واللـه براوة عليك ياوله ‪ ..‬أنت كده أبن فايزة بصحيح‪.‬‬

‫ــ بجد ياما يعنى مبسوطة من فكرتى ‪.‬‬

‫ــ الحق يتقال دماغك نضيفه والفكرة عجبانى وعشان كده أنا حأجى معاك بكرة نقابل المهندس اللى‬
‫أسمه أسامة نعرض عليه الموضوع ونشوف رأيه أيه ‪ .‬ترك مكانه بعد مقولة " تصبحى على خير "‬
‫رافعا رأسه منتشيا يهز كتفيه يمشى ملكا بعدما أحرز هدفا ذهبيا فى رأس أمه التى فر منها النوم‬
‫وراحت تسرح بخيالها خلف المول وهى تتنقل بذهنها فى أقسامه وتدور بعينيها حول رفوفه الممتألة‬
‫عن أخرها ببضائع من كل صنف ونوع يحرسها شباب بقمصان سماوى عليها " بادجات " تحمل أسم‬
‫فايزة وجموع من البشر التعد والتحصى تفضح أعدادها اضاءة قوية مبهرة وسط حركة نشطة من البيع‬
‫والشراء ‪ ،‬وركام من الفلوس كالتالل الصغيرة تنتظر أصابع فايزة الجاهزة للعد والتى تجلس خلف‬
‫‪429‬‬
‫مكتب فخيم تباشر منه سير العمل وتراقب كل التفاصيل من خالل وجه متوهج وجسد يتألأل داخل عباءة‬
‫سوداء مشغولة بالترتر واللولى ‪ .‬كان خياال سعيدا وهى تتابع حلم المول ‪ ،‬شاخصة للسقف بوجه‬
‫طموح قبل أن يهزمها النوم ويقهر جفنيها ويتسلمها ألول مرة مبتسمة منذ ليلة األفراج عنها ‪.‬‬

‫دخل منصور غرفته بمالمح الفاتحين ‪ ..‬أضاء النور ليطالع " ترينج " النوم الذى مازال ملقى على‬
‫السرير كما تركه فى الصباح وشبشب يرقد نصف مقلوب ‪ ،‬جلس على طرف السرير منحنيا بجزعه‬
‫ناظرا لألرض بعدما طوح بالعلبة " المارلبورو " والمفاتيح والموبايل قبل أن يسحب نفسه متراجعا‬
‫لظهر السرير تعلو وجهه أنفراجة ونظرة أنتصار تطل من عينيه رافقته للحظات حتى سحب علبة‬
‫سجائره وسلت منها واحدة وأشعلها ‪ ..‬شبك قدميه كالمقص حين أخرج النوتة من جيب قميصه وسحب‬
‫قلمه الصغير وتهيأ لكتابة أول سطر ــ عادة أستهوته فى األيام األخيرة ــ بدأ يرص قائمة ألفكاره‬
‫ومالحظاته ‪.‬‬

‫ــ أرض أبن شكر بقت جاهزة ‪ ..‬محمد المقاول دوره خالص أنتهى ‪ .‬كتب منصور ثم ذيل جملته بعالمة‬
‫صح قبل أن يضيق عينيه متحاشيا عمود الدخان المتصاعد من سيجارته المعلقة على شفتيه ‪ ،‬ثم رفع‬
‫رأسه ماسحا الغرفة بنظرة عاد بعدها ليدون ‪ :‬النونو وخضر بقوا تحت السيطرة وبين أيدى ودول كمان‬
‫خالص ‪ .‬جملة أتبعها بعالمة صح ثم تالها ‪ :‬والمهندس أسامة بقى أمره سهل ‪ ..‬مش فاضل غير أبويا‬
‫وحساب القهوة ودى شغالنة قدامها شهر بالكتير وتبقى تحت أيدى ‪ .‬أنتزع سيجارته من فمه ساحبا‬
‫منها نفسا أخيرا قبل أن يواريها فى مطفأة بجواره على " الكومودينو " ‪ .‬عاد منكفئا على النوتة ‪..‬‬
‫توقف شاردا عن التدوين ‪ ،‬أمعن فى سكون الليل كمن ينتظر الوحى ‪ .‬دق بسن القلم صفحة النوتة قبل‬
‫أن تتنازعه فكرة ترجمها مكتوبة بخط مرتعش ‪ :‬مش فاضل غير محمود المحامى ؟!‪ .‬كتبها وشعر‬
‫برهبة كالذى تجاوز المسموح به ‪ .‬إال أن أصرارا يولد ثقة تأكل تردده الذى تساقط داخله حين رسم‬
‫كلماته بهدوء ‪ :‬لومافيش محمود المحامى حتبقى كل حاجة تحت أيدى فلوس أمى اللى فى البنك‬
‫وإيصاالت األمانة اللى بالهبل ده غير أنى حأبقى نمرة واحد عندها ‪ .‬بدا كمارد خرج من فانوسه توا ‪.‬‬
‫اليتوقف نهمه إلى كل شيىء ‪ ،‬سيناريوهات عدة الزالت تحبو فى رأسه حين أشتبك مع ذهنه للحظات‬
‫فى البحث عن طريقة فعالة ‪ ،‬لم يكن هناك من مفر سوى طى النوتة ودفنها تحت المخدة مرددا ‪ :‬يبقى‬
‫الزم محمود المحامى ‪ ..‬كتم بقية المعنى فى صدره وسكت حين تمدد على السرير أخذا فى األعتبار أنه‬
‫اليملك سوى مقولة تؤجل طموحه الكاسح " أتقل على الرز" ‪ .‬قرار النوم كان حاسما بينما لم يكن قادرا‬

‫‪430‬‬
‫على حسم األجابة عندما سأل نفسه ‪ :‬هل هو أصبح مصدر ثقة كاملة بالنسبة ألمه ؟ أم الزال موضع‬
‫مالحظة منها ؟ ‪ .‬شكوك سقطت مع سقوطه صريعا أمام ألحاح النوم ‪.‬‬

‫‪00000000‬‬

‫شريف ‪ ..‬يومه يبدأ بالصداع وهو لم يبرح بعد فراشه ‪ .‬قوة أقوى منه كانت تقف فوق رأسه تدعوه‬
‫للتحرك بأيجابية تجاه نورا وأحتواءها أو باألحرى أشغالها بعيدا عن أمها التى فاض بها الكيل وأشتكت‬
‫لخيرى بمرارة فى مكالمتها األخيرة تطلب دعمه ومعاونته ‪ ،‬فبدا متحمسا حين نقل له تلك الرسالة واقفا‬
‫فوق رأسه ‪ :‬حاول تقعد معاها ياشريف ‪ ..‬أتكلموا مع بعض وشوفوا مستقبلكو أنتو األتنين حيمشى‬
‫أزاى ‪ ..‬أتناقش معاها يا أخى وأدخل جوه دماغها وأعرف هى عايزة أيه بالظبط والبتفكر فى أيه ‪،‬‬
‫أطلب منها بصراحة تسيب أمها فى حالها وتخليها هيه فى حياتها وفى مستقبلها ‪.‬‬

‫ــ حاضر ‪ .‬قالها وهو الزال بعماصه ‪.‬‬

‫ــ حاول تظبط لها دماغها ياشريف ‪.‬‬

‫ــ حاضر ‪.‬‬

‫ــ وال أنت خالص راحت عليك وحكاية الحب األول ماعدش لها تأثير ‪.‬‬

‫ــ حاضر ‪ .‬قالها هذه المرة مشحونا يزفر فى ضيق ‪ .‬فأكتفى خيرى بماقاله وخرج متعجال ليلحق‬
‫بأجتماع مصيرى سيعقد فى مقر جريدة " أسكندرية " برفقة صديقه " برسوم " يحضره وألول مرة‬
‫بعض النشطاء السياسيين المعروفين باألسكندرية يصطحبون معهم واحدا من الوجوه المعروفة على‬
‫نفس الشاكلة الثورية ‪ ،‬جاء خصيصا من القاهرة تلبية لدعوة أحد رجاالت الحركة لتبادل وجهات النظر‬
‫والتعرف عن قرب ألفكارهم فى التغيير ‪.‬‬

‫الزال شريف ممددا فى سريره وسط لحظة ركود ‪ ..‬توقف طويال أمام عبارة أبوه " الحب األول ماعدش‬
‫له تأثير " !‪ " ..‬ليس هناك حب أول وحب أخير ‪ ،‬هناك حب تحكمه المقدرة وحب يسقط من العجز "‬
‫كلمات مرت بذهنه قرأها فى أحدى صفحات " النت " رسمت على وجهه تعبيرا ساخرا الزمه حتى طرد‬
‫الوخم ‪ ،‬ثم قام وجلس على كرسى بجوار السرير ‪ .‬أسند رأسه على حافته ‪ .‬أدرك اليوم وألول مرة أن‬
‫أبوه ينقاد خلف عاطفة قوية تجاه هدى التى باتت هى المحرك الوحيد آلفكاره ‪ ،‬وان ترتيبه فى قلبه‬
‫‪431‬‬
‫تراجع للمرتبة الثانية ‪ ..‬مشاعر محبطة تلك التى نقلته الى صفوف المقهورين حين أيقن أن والده‬
‫يؤسس لحياة جديدة على هواه ‪ ،‬فتخلت عنه تلك الطمأنينة الزائفة التى كان يصنعها وجود األب ‪ .‬كان‬
‫متيقنا منذ البداية أن دخول هدى إلى شرنقة والده ستنسج حوله عالما من الخيوط سيفصله حتما عن‬
‫محيطه وستغزل ساترا متينا يحول بينه وبين شريكه الوحيد فى البيت منذ سنوات ‪ ..‬أعترف أمام نفسه‬
‫بأن أحالمه قد تبددت ومعها أنهارت تطلعاته ‪ ،‬وبالرغم من ذلك تجنب المواجهة أو حتى الدخول معه فى‬
‫جدل أو نقاش ‪ .‬لكن الفأس لم تقع إال على دماغه هو فقط ‪ ،‬شجت رأسه فأنشطرت جميع الرؤى‬
‫واألحالم ‪ ،‬تداعت واجهة األب الذى أعتاده ‪ ،‬لم يملك إال أن يسجل أعتراضاته داخل نفسه بعيدا عن‬
‫مظلة الحصانة األبوية كى التأخذه القضية إلى طابور المتهمين بأنهم جيل عاق وقليل التربية ! ‪ .‬الفجوة‬
‫الهائلة التى يعانيها بين اآلمال المنهارة والواقع الجديد ‪ ،‬لم تغب نورا فيها عن مجال العقل والمنطق‬
‫حين يرد تلك التغيرات الجذرية واألزمات التى يقاسيها األن لشخصها ـ هى ـ لكونها رافدا أصيال لكل‬
‫التطورات وخلف كل القرارات الحادة التى أتخذتها تجاه أمها ‪ ،‬ولوالها ماكانت حسمت النتيجة مسبقا ‪:‬‬
‫التفكيربجدية فى الخالص من جحيم أبنتها الى جنة والده على أنقاض طموحة هو!!‪ ..‬انها تصيغ‬
‫األحداث بيد خفية وتتواصل معها كتواصل المعلول بالعلة والنتيجة باألسباب ‪ ،‬وربما هو يحملها كل‬
‫المسئولية عن كفره بما أمن به طويال ‪ ،‬واألن هو يحاكمها بلغة العصر ويصنفها كعضو فعال فى خلية‬
‫أرهابية تبغى تدميره ‪.‬‬

‫أجرى أتصاال خاطفا بها ‪ ..‬تواعدا على اللقاء وتوافقا على الخامسة مساءا كموعد يناسب ظروف كل‬
‫منهما ‪ ،‬حددلها كافيتريا مجهولة على أطراف منطقة " أستانلى " لقربها من محل عمله كى يلحق‬
‫بوردية السابعة ‪ ..‬ماالذى يدعوها الى أن تنساق وراء دعوته ‪ ،‬أستعرضت جميع األفكار واألحتماالت‬
‫بعد اصراره على اللقاء موضحا ذلك فى نهاية المكالمة ‪ :‬الزم نتكلم مع بعض يانورا ‪ .‬جملة أثارت قلقها‬
‫لتلجأ بعدها للتوقعات والتخمينات قبل أن تحوم حول رأسها أسئلة لم تجد لها أجابة ‪ :‬سبب المكالمة‬
‫وتوقيتها ؟!‪.‬‬

‫ترك شريف غرفته وخرج يمضغ انفعاله وهو يحاول أن ينفلت هاربا من تلك األفكار التى تضغط على‬
‫أعصابه ويكاد يورثه جنونا ‪ ..‬نورا أصبحت بالنسبة له لغزا محيرا قبل أن يصبح هو ايضا لغزا أكثر‬
‫حيرة حين واجه نفسه ‪ :‬هل أعانى ضعفا أمامها ؟ ‪.‬‬

‫ــ ربما ‪ ..‬هل عدم القدرة على مواجهتها وتحديها ‪ ،‬ضعف ؟ ‪.‬‬
‫‪432‬‬
‫ــ جايز ‪ ..‬حبى لها ‪ ،‬هل هو ضعف ؟ مؤكد ‪.‬‬

‫ــ األستسالم لها والخضوع لمخططاتها ‪ ،‬ضعف ؟ طبعا ‪.‬‬

‫ــ اذن أنت بالقطع أنسان ضعيف !! ‪.‬‬

‫وقف على الرصيف بجوار مدخل الكافيتريا ينتظر ‪ .‬بحث فى كل الوجوه القادمة عن وجه يشبهها ‪ .‬لم‬
‫يعد وجه يبتسم ‪ .‬أنزوى للوراء قليال يترصد الطريق يراقب مقدمها ‪ ،‬ترك وجهه للشمس تلونه قبل أن‬
‫يظلل ه بكف يده حين لمحها ‪ ،‬فشد صدره ورفع رأسه ‪ ،‬تلك هى الوقفة التى يحتفظ بها لنفسه ‪ ..‬شعور‬
‫متوثب باللذة كان يسيطر عليها وهى تراه ينتظر ‪ ،‬أعتلت الرصيف بخطوة متمهلة بينما بدا شريف ثابتا‬
‫لدرجة الصرامة ‪ .‬أستقبلها متقدما لالمام بخطوة أنيقة ‪ .‬أرادت أن تمارس معه لهوا أنثويا ‪ .‬فبادرته ‪:‬‬
‫فى حد يبقى مستنى الجو بتاعه ويقف مكشر كده ‪ .‬الزال صارما حين تقدمها ‪ :‬تعالى ندخل ‪ .‬تبعته‬
‫والتصقت بكتفه ودخال فيما أتفق ـ زورا ــ على تسميته كافيتريا التى لم تتوفر فيها سوى مجموعة‬
‫طاوالت رصت فى صفين حولها كراسى بالستيك وبينهما ممر يتمشى فيه ذهابا وأيابا شاب نحيف يؤدى‬
‫دور الجرسون ‪ .‬أطلقت نفخة تزامنت مع دخولهما ‪ :‬أيه المكان العجيب ده ؟! جلسا ‪ ..‬سأل النحيف وهو‬
‫يطل من فوق رأسه ‪ :‬تأخدوا أيه ؟ أختار لنفسه حاجة ساقعة ‪ .‬كاد الجرسون أن يستريب فيها ‪ ،‬من‬
‫كثرة ماتلفتت يمينا ويسارا ‪.‬سألت فى نفور ‪ :‬أنتو بتعملوهنا قهوة ‪.‬‬

‫ــ طبعا يافندم ‪.‬‬

‫ــ يبقى فنجان مظبوط ‪ .‬هز رأسه مبتسما وسحب هيكله العظمى ورحل ‪ .‬أنهمك شريف بنظرة طويلة فى‬
‫وجهها وكأنه يتقصى أحوالها بمالمح تفصح نيته ‪ ،‬التى تنبىء بما اليسر واليطمئن ‪ .‬أبدت قلقا من‬
‫نظرته ‪ .‬فأفصحت ‪ :‬البيه بيشبه على وال حاجة ؟!‪.‬‬

‫ــ فعال بأشبه عليكى ياريت تجاوبينى وتقوليلى أنتى مين وال أيه وال أزاى ؟ قالها بحرقة جاهل محروم‬
‫من المعرفة ‪.‬‬

‫مبتسمة ‪ :‬أنا واحدة بتحبك من زمان لما كنت لسه بضفيرتين وسيادتك كان صوتك بيبدأ يخشن ومن‬
‫وقتها وأنا زى ماأنا ماأتغيرتش وأحالمنا القديمة اللى حلمناها سوا معايا كل ليله ومابتفارقنيش ‪.‬‬
‫حاولت بكلماتها سد الباب الذى قد يجىء منه الريح ‪ .‬لم يكن ردا مقنعا بالنسبة له ‪.‬‬

‫‪433‬‬
‫ــ أنتى كل يوم بتتغيرى عن اللى قبله وكمان لألسوأ وماعدش فيه أحالم بتجمعنا ‪ ،‬ده لو أنتى أصال‬
‫لسه فاكرة حاجة منها ‪ ..‬سيادتك مش شايفه غير حلمك أنتى وبس ومش فارق معاكى مين حيدفع التمن‬
‫وال على حساب مين ‪ ..‬المهم أنك توصلى للى أنتى عايزاه !! ‪.‬‬

‫لماذا يكيل كل هذه األتهامات لها ‪ ،‬هل هو أنسان فاشل أو مهزوم ؟ وهل هو مهزوم فعال ؟ ربما ال ‪.‬‬
‫ربما يكون فى قمة انتصاره ! ‪.‬‬

‫ــ أنت متأكد أنك بتكلمنى عن حلم ‪ ..‬ده كابوس يابنى !‪ .‬كانت تتحاشى الدخول فى دروب نقاش وعـــرة‬

‫ــ هو فعال كابوس ‪ ..‬لكن لألسف الخيال المريض بيجمله ويسميه حلم ‪ .‬قالها وسكت ‪ ..‬أحست بخوف‬
‫من هذا الصمت ومن تلك النظرات أكثر من خوفها من كالمه المجنون ومن عصبيته ‪.‬‬

‫ــ أنت طلبت تقابلنى ليه ياشريف ؟ ‪.‬‬

‫ــ عشان أسألك ‪ .‬قالها بحدة فأنزعجت من حمرة أنفعاله ‪ .‬أستأنف وبصحبته أحباطات سنين مضت ‪،‬‬
‫حاول أن يستعيد نفسه ‪ :‬أنتى عايزة منى أيه بالظبط وعايزة أيه من مامتك ومن حياتك كلها ؟ سألها‬
‫وتولى الرد ‪ :‬أقولك أنا أنتى عايزة أيه ؟ عايزة تعيشى بقية عمرك فى مرحلة التضحية والبطولة وتبقى‬
‫صاحبة األمروالنهى ‪ ..‬ماحدش يتنفس واليتكلم واليعمل أى حاجة إال بموافقتك ورضاكى ‪ ..‬طبعا‬
‫برضاكى ماهو أنتى صاحبة المهمة المقدسة اللى مابقتش مقدسة والحاجة ‪ ..‬ممنوع أى حد يعترض‬
‫ومين المجنون اللى يقدريعترض وأنتى اللى ربيتى وكبرتى وعلمتى ودلوقتى بسم اللـه ماشاء اللـه‬
‫بقيتى صاحبة مال وبتصرفى يعنى كل حاجة بقت تحت أيدك وبتتحكمى فى حياة كل اللى حواليكى زى‬
‫ماأنتى عايزة ‪ ..‬ترضى عن ده وتغضبى من ده حتى لو كان المغضوب عليه ده هو مامتك عشان تفكير‬
‫حضرتك المكعبل قالك مش حينفع تكونى صاحبة األمر والنهى فى وجودها ‪ .‬يلمع وجهها المراوغ وعلى‬
‫زاوية فمها تعبير ثابت الهى أبتسامة والهى أنحراف ‪ ،‬بينما حاصرها يفرغ فى دماغها لعناته ‪ :‬يبقى‬
‫الحل الوحيد الزم الست دى تخرج بره البيت ‪ ..‬بس المشكلة هنا تخرج أزاى وبأى طريقة ؟ الخطة‬
‫كانت جهنمية ‪ ..‬مامتك تتجوز من أبويا وتخلع من البيت وكده تبقى األمور ماشية تمام التمام وآهى جت‬
‫من عند ربنا ‪.‬‬

‫شجبت أتهاماته التى يلقيها بال تدبر على من اليستحق ‪ :‬أنت ليه عايز تحملنى المسئولية ‪ ..‬هو أنا اللى‬
‫قلتلهم يحبوا بعض وال خلتهم يفكروا فى حكاية الجوازدى ‪.‬‬
‫‪434‬‬
‫ــ كالمك صح أنتى فعال ماقلتيش لكن خططتى ودبرتى وقررتى أنك تسودى أيامها وتخلى البيت بالنسبة‬
‫لها جحيم وحاصرتيها من كل حتة وضيقتى عليها ‪.‬‬

‫ــ وهيه طبعا ياعينى لما زهقت من الجحيم اللى عايشة فيه قالت مابدهاش بقى أتجوز خيرى ‪..‬أيه كالم‬
‫العيال اللى أنت بتقوله ده ‪ ،‬ماما وعمو خيرى مش قصر وال مستنين من أى حد موافقة وال رفض‬
‫والحد يسود عيشة واليبيضها دول ناس كبيرة وفاهمين أحسن منى ومنك وعارفين همه عايزين أيه‬
‫بالظبط ‪..‬المشكلة مش فى أنا والفيهم همه المشكلة عندك أنت ياشريف ‪.‬‬

‫ــ عندى أنا ‪ ..‬بأمارة أيه ؟ ‪.‬‬

‫ــ بأمارة أنك بتلف وتدور حوالين المشكلة اللى أنت عايشها وماعندكش الجرأة وال الشجاعة أنك‬
‫تواجه بيها نفسك ‪ ..‬أنت مش قادر تصدق والعايز تستوعب فكرة أن باباك حيتجوز وأن فى حد‬
‫حيشاركك فيه ‪ ..‬أنت أنانى مابتحبش غير نفسك وأنا فهماك كويس جدا وعارفة أن جواز باباك حيبوظ‬
‫الرسمة اللى أنت كنت راسمها بخصوص الشقة واللى ياما كلمتنى عنها وال دى كمان نسيتها ‪ ..‬دايما‬
‫كنت تقولى لما نتجوز أنا وأنتى حتبقى الشقة كلها بتاعتنا ماعدا أوضة واحدة لبابا ‪ ..‬مش ده كالمك‬
‫معايا ‪ .‬تابعها غارقا فى ذهوله ‪ :‬برافو ‪ ..‬واللـه برافو عليكى ‪ ،‬بالبساطة دى عايزة تطلعى نفسك‬
‫مظلومة وضحية وأنك مالكيش ذنب فى أى حاجة ‪ .‬قالها بوجه ساخر قبل أن يستعيد جديته مكمال ‪:‬‬
‫ألمعلش الكالم ده مايدخلش على أنا ده تضحكى بى على حد تانى عشان أنا أكتر واحد فى الدنيا دى‬
‫فاهمك كويس وعارف أن متعتك الوحيدة لما تتحكمى فى مصير اللى حواليكى وترسمى لهم حياتهم زى‬
‫ماأنتى عايزة ‪ ..‬هو ده المرض اللى عندك وبدل ماتفكرى أزاى تعالجى نفسك عايزة تقنعينى أنى انا اللى‬
‫مريض ومحتاج عالج ‪ .‬أصبحت المعانى أكثر حدة وأكثر توصيفا ‪ .‬كانت تتعلق عينيها بالقائل الذى‬
‫سكت ‪ ..‬بدا عليها األضطراب بعدما سقط عنها قناع الثقة الذى كان يسترها ‪.‬‬

‫ــ كالمك مش مظبوط ياشريف ولو أنا فعال زى ماأنت بتقول مريضة بالسيطرة والتحكم فى اللىحواليه ‪..‬‬
‫كان من باب أولى سيطرت عليك وأتحكمت فيك ومشيتك بطريقتى زى ماأنا عايزة وده طبعا ماحصلش‬
‫‪ ..‬أما بقى عن أخواتى فكالمك كله مايهمنيش واليفرق معايا أنا اللى يهمنى حاجة واحدة وبس أنى الزم‬
‫أقف معاهم لغاية ماأطمن عليهم وعلى مستقبلهم وأتأكد أن كل واحد فيهم حط رجله على أول السلم ‪..‬‬
‫ده طبعا غير عمتى ونعمة اللى حيفضلو برضه فى رقبتى وتحت مسئوليتى طول ماهمه عايشين ‪..‬‬
‫الح اجة الوحيدة اللى بقت برة مسئوليتى ‪ ..‬هى ماما ألنى متأكدة أنها حتبقى مسئولة من عمو خيرى ‪.‬‬
‫‪435‬‬
‫أقرت أمامه واقعا قابله بتجاهل ‪ ،‬إال أنها بدلت نبرتها وأستدعت دالال مفقودا كاد أن يطويه النسيان حين‬
‫تابعت ‪ :‬وعشان أطمنك وماخليش دماغك تجيب وتودى ‪ ..‬لم يكن فى مقدورها منفردة أن تكمل باقى‬
‫خطتها بدونه ‪ ،‬عليها فى هذه اللحظة أن تدفع جزء من الثمن ‪.‬أردفت ‪ :‬أنا ماعنديش أى مانع أننا‬
‫نتجوز مع عمو خيرى و ماما فى الشقة ‪ ،‬لكن لو أنت شايف أن ده حيبقى صعب أنا عندى حل تانى‬
‫قالت ‪ :‬طبعا أنت‬ ‫وحيبقى مريح للكل ‪ .‬سكتت للحظات أرسلت خاللها أبتسامة لتلطف اآلجواء ثم‬
‫عارف أن ربنا كارمنى بقرشين محترمين ودول ممكن أوى يسهلولنا حاجات كتيرة جدا زى شقة‬
‫محترمة مثال وعشان أنا بحبك ياشريف مستعدة أعمل أى حاجة ‪ ..‬بس األول أطمن على أخواتى‬
‫ومستقبلهم ‪ .‬يبدو أن المال دمغها بسلوكيات أصحابه ‪ ،‬لم يعد للحب نفس المعنى الذى ربطهما ‪ ،‬كلمة‬
‫" بحبك " هنا مطاطة تتسع لكافة الـتأويالت والتفسيرات ‪ ..‬لم تعد بالنسبة له تلك األميرة التى تجتاح‬
‫الصور واألحالم ‪.‬‬

‫ــ عارفة أنتى بتفكرينى بأيه ‪ ..‬باألم اللى عايزة تسكت أبنها اللى عاملها وش وصداع فى دماغها تقوم‬
‫تطبطب عليه وتقوله لو سكت وسمعت الكالم حأبقى أجيبلك حاجة حلوة ‪.‬‬

‫أبدت تذمرا لكنها لم تفصح حين حضر أخيرا الجرسون النحيف يحمل الساقع وفنجان القهوة‬
‫على صينية بالستيك موديل الثمانينات ‪ ..‬وضع المطلوب وأدار لهما ظهره وأتجه إلى " خن " فى أخر‬
‫الممر ‪ .‬توجهت إليه نورا وهى الزالت على تذمرها ‪ :‬حيرتنى معاك ‪ ..‬أنت عايز أيه بالظبط ‪ ،‬لو رافض‬
‫جواز باباك من ماما قولى وأنا حأتصرف بنفسى حأروح لغاية عنده وحأترجاه يبعد عنها وحأقوله‬
‫بصراحة أبنك رافض الفكرة تماما ومحملنى أنا المسئولية ‪.‬كان تهديدا صريحا أطلقته فى وجهه ثم‬
‫راقبت رد الفعل على مالمحه ‪ .‬أكملت ‪ :‬مش هو ده اللى حيريحك؟ ‪.‬‬

‫ــ لو هو ده اللى حيريحنى أبقى أنا بنى أدم جاحد وناكر للجميل للراجل اللى فضل خمستاشر سنة من‬
‫عمره عايش لوحده بعد ماما ماتوفت ومارضاش يتجوز عشان خاطرى أنا وأخويا نادر ‪ ..‬وعشان‬
‫أطمنك على األخر وماتقلقيش من ناحيتى مستحيل يكون جزاؤه منى أنى أرفض والحتى أجادله وال‬
‫أناقشه فى حاجة هو عايزها ‪.‬‬

‫ــ يبقى خالص وافق وماتعملش مشاكل ‪.‬‬

‫‪436‬‬
‫ــ طبعا حاوافق ومش حأعمل مشاكل خالص ألنى مش حأبقى موجود ‪ ..‬حأسافر أمريكا عند نادر وأنتى‬
‫عارفة كويس هو أد أيه أتحايل على فى حكاية السفر ولما كان هنا آخر مرة قالى مكانك محجوز فى‬
‫المطعم ‪ .‬كانت تحبس الكلمات فى نفسها وهى تنصت له ‪ .‬واصل ‪ :‬فكرة السفر كانت مرفوضة عندى‬
‫عشان ماكانش ينفع أسيب بابا لوحده ‪ ..‬بس دلوقتى الوضع أختلف و مادام مش حيبقى لوحده يبقى‬
‫ماعدش لوجودى لزمة ‪ ..‬أشوف مستقبلى أحسن وأروح أشتغل مع أخويا ‪.‬‬

‫ثقتها التى كان يحلو لها أن تظهرها أمامه فلم تكن لها أثر والحتى تلك النظرة الجريئة والغرور‬
‫مالمحها‪ ،‬الشيىء ‪ ،‬اال األنكسار فى شخصها ‪ .‬قررت أن تبدو أمامه مجردة من األقنعة ‪ ،‬ولتستعيد‬
‫أمامه هويتها القديمة ‪ .‬وها هو يتنحى عن الكالم حين قاطعت ‪ :‬وأنا ؟!‪ .‬رآها تضل أمام عينيه ‪ ،‬فهى‬
‫تذوب شيئا فشيئا ‪ ،‬حتى كادت تشبه الفراغ ‪.‬‬

‫ــ أنتى جدولك مليان يانورا وماعندكيش وقت تفكرى فى أى حاجة غير فى نفسك ‪ ..‬ياله بينا نقوم ‪.‬‬
‫راقبته وهو يطوى عشرون جنيها يضعها بين الحاجة الساقعة وفنجان القهوة ‪ ،‬نظرتها تكشف عن‬
‫سؤال يتردد فى سرها ‪ :‬مالذى سيجنيه من وراء تلك المخاطرة ‪ ،‬أو المغامرة ‪ ..‬أيا كان مسماها ؟ هل‬
‫المخاطرة محسوبة ؟ والمغامرة مع من ؟ ومن أجل من ؟! ال ‪ ..‬لن يستطيع أن يفعلها ‪ ،‬ليس بمقدوره‬
‫أن يقضى على مستقبلهما ‪ ..‬خطوة من المستحيل أن يخطوها !!‪.‬‬

‫خرجا من الكافيتريا دون أن ينطقا بكلمة واحدة ‪ .‬أتخذت يسارها صامتة ‪ ،‬حاملة خيبة األمل ‪ ،‬التى لم‬
‫تعد تركب الجمل فى هذا البلد ‪ .‬بينما أنفصل هو عنها متخذا يمينه ليلحق وردية السابعة ورأسه قد‬
‫أمتألت بعبارة واحدة " اكرام الحب دفنه " ‪.‬‬

‫‪0000000000‬‬

‫فى تلك األثناء كان قد وصل خيرى الى موقع جريدة األسكندرية بصحبة " برسوم " حيث األجتماع‬
‫المصيرى المرتقب الذى دعا اليه أحد رجال الحركة الكبار بعض المجموعات الثورية المعروفة‬
‫باألسكندرية لألطالع على أفكارهم ورؤيتهم للمشهد السياسى المصرى من خالل شعار تم األتفاق عليه‬
‫تليفونيا مع أحد الشباب الثوريين " األستراتيجية والتنسيق " ‪.‬‬

‫‪437‬‬
‫الضجيج كان يقودهما مذهولين حين أقتربا من باب الجريدة بالطابق السابع ‪ ،‬علق خيرى مصدوما ‪:‬‬
‫أيه صوت الفرح اللى جاى من جوه ده ! أجتماع ده والزفة عريس ! ‪ .‬دفعا الباب الموارب ودخال ‪..‬‬
‫وقف خيرى متجمدا داخل بدلته الرمادى وقميصه األبيض ‪ ،‬بدا فى هيئة سياسى مخضرم ‪..‬عيناهما‬
‫الترى سوى رؤوس وأجساد تتالصق ‪ ..‬حركة صاخبة وزحام كثيف ‪ ،‬كأنما األرض تنبت بشرا ‪ .‬لحظات‬
‫من الصدمة عاشها خيرى متابعا للحشد قبل أن ينطق ذاهال ‪ :‬مين دول يابرسوم ؟ ‪.‬‬

‫ــ دول نشطاء ‪ .‬قالها " كأفييه " فى مسرحية كوميدية ‪ ..‬كانت ثمة مشاعرعارمة تمور فى صدور‬
‫الشباب الذين أحتشدوا فى وسط القاعة على هيئة حلقات نقاشية بينما راقب رجال الحركة باشكالهم‬
‫وألقابهم العديدة ‪ .‬تطور األمر الذى تحول إلى عصبية ثم إلى ذلك الهتاف بالمطلب الذى ساد وتقدم على‬
‫كل المطالب " يسقط يسقط حكم المرشد " ‪ .‬مر خيرى بعينيه يتفقد الوجوه الصارخة قبل أن يقع فى‬
‫الخطيئة الكبرى عندما ساقته خطواته للداخل ‪ ،‬سحبه الزحام بقوة الدفع لحظة وقوفه فى المكان الخطأ‬
‫والذى أقتاده دون أدنى مقاومة الى عمق دوامة الصخب والصراخ تتقاذفه األكتاف الشبابية وتصم أذنيه‬
‫هتافات " الهتيفة " ‪ .‬كاد يتحلل وسط سخونة الشباب حتى عثر عليه وتم أنتشاله بمساعدة األستاذ‬
‫" دراز " رئيس الحركة الذى رحب به صارخا كى يسمعه ‪ :‬أهال ياأستاذ خيرى ‪ ..‬أتأخرت ليه ؟ ‪.‬‬

‫ــ أنا موجود من بدرى بس الزحمة بقى ‪ .‬أنهى جملته لحظة وصول " برسوم " الذى أستغل نحافته‬
‫وأنزلق من بين األجساد المزروعة فى القاعة حتى نجح فى األفالت بأقل األضرار مستعوضا اللـه فى‬
‫تحفته األثرية " البدلة الكحلى " التى أنتهكت ياقتها وأصبحت كجناحى حمامة مع بعض السحجات فى‬
‫جيبها األيمن ‪ ،‬إال أنها بشكل عام الزالت متماسكة ‪ .‬ألتصق بخيرى بعدما فرقهما الزحام ‪ ..‬وقف لثوان‬
‫ينظم أنفاسه ويربت على صلعته التى أحتقنت وكأنها على وشك األنفجار بينما تفوح منه رائحة عرق‬
‫نفاذة ذات نكهة غريبة نتيجة صراعه مع األجسام المعروقة والتى تحتاج لتشخيص محايد لمعرفة‬
‫نوعيتها ‪ :‬هل هى رائحة بول مركزة أم أبخرة مجارى طافحة ؟ سحبهما األستاذ " دراز " إلى ركن‬
‫خالي مخصصا أصال لماكينة تصوير ومكتب صغير لم تتوفر لهما ميزانية بعد ‪.‬‬

‫ــ هو المفروض أيه اللى حيحصل دلوقتى ؟ سأل خيرى ‪ .‬فأجاب األستاذ ‪ :‬كام شاب من اللى واقفين‬
‫دول حيطلعوا على المنصة وكل واحد فيهم حيقول كلمة وبعدها حتقول أنت كلمتك ياخيرى بالنيابة عننا‬
‫وبعد كده أجتماع مشترك معاهم نسمع رؤيتهم ‪.‬‬

‫ــ أجتماع مشترك مع كل دول ‪ .‬قالها برسوم ساهما ‪.‬‬


‫‪438‬‬
‫ــ أكيد أل ‪ ..‬همه تقريبا حيتفقوا مع بعض على كام واحد يمثلهم ‪ .‬أبدى خيرى قلقا وهو يتأملهم ‪ :‬أنت‬
‫شايف أن دول ممكن يتفقوا على أى حاجة ‪ .‬مترددا أو ربما نادما قال األستاذ " دراز " ‪ :‬الحقيقة مش‬
‫عارف ‪ .‬لذلك فهو يتعجل أمره و يريد أن ينتهى من هذا األجتماع قبل أن يقترح عليه برسوم مبادرة‬
‫تنهى مشهد الفوضى بأن يخرج عليهم عبر ميكرفون المنصة طالبا منهم الهدوء والدخول فورا فى‬
‫األجتماع ‪ .‬قال وجهة نظره ثم أشرأب بعنقه مدققا بعينيه فى سحنة أحد الوجوه الداخلة للقاعة ‪ :‬تامر‬
‫بتاع أئتالف ياله بينا نغير وصل آهوه ‪.‬‬

‫ــ وده أيه اللى جابه كمان ‪ .‬يعتقد أنه حضر بصحبة أحد النشطاء السكندريين ‪ " ..‬تامر " يعتبر من‬
‫قادة الحركة الشبابية األحتجاجية فى مصر ‪ .‬جاء تسبقه سيرة ثورية ‪..‬‬

‫األسم ‪ :‬تامر الجبالى ‪.‬‬

‫الجنسية ‪ :‬قاهرى من أصل ريفى ‪.‬‬

‫العمل ‪ :‬ناشط احتجاجى ومناضل على النت ‪ ،‬يعمل األن فيما التستطيع أن تحدده ‪ ،‬لكنه ينفق ببذخ ‪.‬‬

‫من أين ؟ ال أحد يسأل ‪ .‬المهم أنه يسدد دائما ! ‪.‬‬

‫الهواية ‪ :‬أقتراف التويتات ‪ ،‬أحالمه تنحصر فى وسيلة للظهور والشهرة ‪ ،‬متقلب المزاج ‪ ..‬حاد ‪ .‬قدرته‬
‫تتفوق فى مكان واحد ‪ ..‬اللسان الطويل ‪ .‬أصله كان فى سالف العصر واألوان خريج معهد فنى صناعى‬
‫من فئة السنتين ‪ ،‬إال أنه تخرج بعد أربع بعدما تم تهديده بالفصل لتجاوزه مرات الرسوب ‪ ،‬فشل فى‬
‫الحصول على فرصة عمل فى مصنع للسراميك ‪ ،‬إلتحق بعدها محبطا بكتائب المناضلين على شبكة النت‬
‫رافعا سيفا خشبيا بارز به لثالث سنوات متتالية ‪ ،‬يحاول أن يعقد مقارنة عقيمة بما كان يجب ومالم‬
‫يحدث ومايجب حدوثه بأعتباره من الجيل الذى حمل الشعلة قبل أن تسقط من أيديهم وكادت تطفئها نعال‬
‫األخوان ! هو شاب نضج فى رحم الثورة ‪ ،‬يعاشر السياسة حسب فهمه ومصلحته ‪ .‬كون ائتالفا‬
‫من مجموعة نازحين من وسط الدلتا ونصب نفسه زعيما عليهم ‪ .‬أنه واحد من فصيلة هؤالء الذين‬
‫يقولون ‪ :‬العسكر اليريدون للكلمة أن تسمع ؟! فما بالك اذا كانت هذه الكلمة نفسها ‪ ،‬تكتب وترص فى‬
‫حروف على " الفيس بوك " ‪ .‬هذا الكم من الشباب الذى يقترف العمل المجرم بقوانين العيب وأمن‬
‫الوطن ونزوات الشهوة ‪ ،‬ماذا يكون مصيرهم لو أنسحب العسكر من المشهد كما يخططون أو‬

‫‪439‬‬
‫يتآمرون ؟ بالقطع سيكونون لقمة طرية سهلة يمضغها أصحاب اللحى ويلتهمها مجموعات الصارخين ‪:‬‬
‫" تكبير ‪ ..‬اللـه أكبر " ‪.‬‬

‫تقدم المدعو " تامر الجبالى " إلى المنصة الصغيرة ليلقى كلمة بناءا على مناشدة شبابية من داخل‬
‫القاعة ‪ .‬قفز ذلك الكائن لموقع الصدارة ‪ ..‬وقف منتصبا ‪ ،‬يداه معقودتان أمامه ‪ ،‬يتجول فى الوجوه‬
‫تتلبسه روح الزعيم المخلص ‪ ..‬فك وثاق يديه وأمسك بعدة أوراق مشبوكة بدبوس ‪ ،‬عليها كالم كثير‬
‫ليس من بينها عبارات شكر وال ترحيب بالموجودين والحتى مقدمة للموضوع ‪ .‬بدأ ساخنا ‪ ..‬تشنج مع‬
‫أول جملة ‪ :‬األخوان بلعو البلد كلها ومصر بقت غنيمة فى أيديهم بيفرقوا خيرها على بعض وكأن مصر‬
‫مافيهاش شعب وال فيها حد بيحاسبهم بيضحكو على الغالبة ومستغلين فقرهم ! ماله والفقر وقد أصبح‬
‫األن يمتلك سيارة أوتوماتيك فاخرة وألتصق بشقة فى مدينة نصر ‪.‬‬

‫قال فى الواقفون والجالسون الذين ولوا وجوههم شطر سحنته بعدما قرر أن يخفف نبرته ‪ ،‬لكى يعود‬
‫إلى القاهرة معاف بحنجرته ‪ :‬أحنا اللى المفروض نحكم البلد دى وندير مؤسساتها بفكرنا الثورى ‪..‬‬
‫الزم أنتو ‪ ..‬أشار بأصبعه لمجموعة شباب اليزيد سن كبيرهم عن خمسة وعشرون عاما ‪ .‬أردف ‪ :‬تبقو‬
‫الطليعة الزم أفكاركم الثورية توصل لكل مؤسسات الدولة بعدما تطهروها من الفساد والمحسوبية حتى‬
‫ولو وصل األمر لنسفها وهدها وبعد كده نبنيها أحنا من جديد ‪ .‬أنهى المقطع حين أرتفع صخب الشباب‬
‫" ثوار أحرار حنكمل المشوار " ‪ .‬همس األستاذ" دراز" فى أذن برسوم الذى أوشكت عيناه أن تخرجا‬
‫ذهوال ‪ :‬ألحق دول عايزين يهدوا البلد وينسفوها ‪ .‬فرفع األخير صوته ‪ :‬دول ثوار وال فرقة أزالة ‪.‬‬
‫بينما أغمض خيرى عينيه يكافح أحباطا أستشرى فى نفسه حين أسترسل الثائر ‪ :‬أحنا عايزين كل حاجة‬
‫فى البلد دى تبقى ملك الشعب ‪ .‬ثم صرخ فجأة ‪ :‬قولوا ورايا " العسكر والأخوان ‪ ..‬أحنا شباب مصر‬
‫الجدعان " ‪ .‬أرتجت القاعة بالهتاف ‪ .‬مال خيرى ناحية رأس صديقه ‪ :‬مش حأقدر أكمل أكتر من كده ‪..‬‬
‫ده مولد ياعم ‪ .‬طغى صوت الخطيب على همسهما الذى أستفز برسوم ‪ :‬وبعدين فى الجدع ده اللى عمال‬
‫ينعر ‪ .‬لم يعد مجديا أن يسمع شيئا وهذا الثائرموجود كالرضيع ‪ ،‬اليتوقف عن الصراخ ‪.‬‬

‫ــ ياله بينا يابرسوم ‪ .‬لم يبد رأيا ‪ ..‬فجذبه خيرى حتى أستجاب منتهزا فرصة أستغراق األستاذ‬
‫" دراز " فى لحظة أندهاش وصدمة مما يحدث ‪ ..‬تسلال بأتجاه باب القاعة ومن خلفهما أنساب صوت‬
‫الثائر الذى ودعه برسوم بضحكة محتشمة ‪ :‬ياعم روح غور فى داهية وأنت شبه بوحه الصباحى ‪.‬‬
‫أنفلتا خارج القاعة ومنها إلى الممر الطويل حتى باب الخروج ‪ ،‬أستقبال السلم ‪ ،‬ودون نباطأ أنطلقا‬
‫‪440‬‬
‫نزوال هربا من هوجة الشباب ‪ ..‬ليلة عاصفة خرجا منها برأسين متورمتان بعدما تحولت إلى ليلة‬
‫صراخ وعويل ‪..‬‬

‫دلفا إل ى الشارع كسمكتين فى أشد الحاجة لجرعة أكسجين ‪ .‬سارا ببطء أسوة بمن حولهما ‪ ،‬السيارات‬
‫بالكاد تتحرك والمارة كالسائرون نياما وكأنما المشهد كله يعاد بالبطيىء ‪ ،‬فتنكشف التفاصيل وتظهر‬
‫العيوب ‪ ..‬وجوه واجمة مستسلمة تسحبها أرجل مرتخية منهكة فى شوارع أعلنت عصيانها على‬
‫النظافة واألضاءة بعدما قررت وزارة الكهرباء أظالم المدينة توفيرا للطاقة ‪ ،‬وسار الناس على ضوء‬
‫المحالت الخالية من الزبائن التى أصبحت رجس من عمل الشيطان اليقربهما إالصاحب مال أو فضولى ‪.‬‬

‫تأمل خيرى يساره حيث وجه برسوم الذى كان يحبس ضحكا وأستغرابا وربما تذمرا حين سأله ‪ :‬مين‬
‫أبن الكلب صاحب الفكرة بتاعة النهاردة ؟ لم يجب مكتفيا بالسير صامتا مستميتا للحفاظ على وجومه‬
‫قبل أن تنهار مالمحه على ضحكات متصلة حين أردف خيرى ‪ :‬عمرك سمعت فى الدنيا عن أئتالف‬
‫أسمه ياله بينا نغير ‪ ..‬واللى حازز فى نفسى ياأخى ماقالوش حنغير أيه ؟!‪.‬‬

‫ــ يمكن حيغيروا ‪..‬‬

‫ــ ده لو البسينه أصال ‪ .‬جملة أضفت على وجهه بسمة تمددت لتصبح ضحكة ‪ ،‬تتضخم فتولد قهقهة لها‬
‫طعم السخرية المرة ‪.‬‬

‫ــ همه دول شباب اليوم ودى أفكارهم ‪ .‬قالها برسوم مسلما باألمر الواقع واضعا يديه فى جيب بنطلونه‬
‫ناظرا لآلرض ‪.‬‬

‫" مازال الخطأ " يتورم مثل سرطان الثدى " ‪.‬‬

‫ــ العينة اللى أحنا شفناها من شوية دى مش ممكن تكون بتمثل كل الشباب وال جيل الثورة وال حتى أى‬
‫جيل ‪ ..‬دول بيمثلوا على نفسهم وعلينا ياأما مش فاهمين حاجة ودى تبقى مصيبة كبيرة ‪.‬‬

‫ــ أكيد همه مش فاهمين والدليل أن مافيش حد منهم قال جملة واحدة توضح هى أيه الخطوة الجاية‬
‫اللى ناوين يعملوها ‪.‬‬

‫ــ الحمد للـه يابرسوم أنى ماطلعتش قلت كلمتى ماكانتش حتمشى أبدا مع الجو ده ‪.‬‬

‫‪441‬‬
‫ــ كنت مجهز تقول أيه ياخيرى ‪ .‬سحب األخير ورقة مطوية من جيب " الجاكيت " ناولها لبرسوم الذى‬
‫فردها كمنشور ‪ ،‬إال أنه أجل قراءتها حين عبرا الشارع للجهة المقابلة متخطين " ترام " شارع‬
‫بورسعيد حيث الجانب األخر المضيىء نظرا لوجود نقطة شرطة األبراهيمية على مسافة مائة متر ‪ .‬قرا‬
‫برسوم بصوت عالى ‪ :‬بسم اللـه الرحمن الرحيم ‪ .‬قاطعة خيرى ‪ :‬أبدأ من نص الصفحة من عند كلمة‬
‫" األخوان " ‪ .‬مشى بعينيه على الورقة حتى عثر عليها ‪ .‬ثم قرأ " األخوان "‪ ..‬هذه الفئة الترى‬
‫السلطة غيرها ‪ ،‬ضئيلة العدد لكنها قوية التأثير ‪ ،‬وهو عزف نشاذ على وتر مشدود ‪ ،‬فليس معقوال أبدا‬
‫أن تفقد كل طبقات الشعب قدرتها وتسلم رقابها وتضع نفسها تحت وصاية تلك الفئة القليلة تشكل لها‬
‫تحركاتها ‪ ،‬وتقودها وتسييرها ‪ ..‬اللحظة األن هى تصفية حسابات قديمة ‪ ،‬وأستدعاء لشخوص طواها‬
‫النسيان لينسب اليها كل فعل وتحرك أفضى الى ثورة يناير ‪ ،‬ولتسرق بأدعاء "الثورة أرادة الجماهير"‬
‫وتقف ضد رغبة القاعدة العريضة ‪ .‬وتوجهاتها التى اليمكن أن تكون حسب التوصيف األخوانى اال مع‬
‫" األخوان هو الحل " وهؤالء الذين يجتمعون اليوم ‪ ،‬لتحريك الماء الراكد ‪ ،‬وأحداث فعل ما ‪ ،‬هم حقا‬
‫فئة قليلة ‪ ،‬لكنها نشطة ‪ ،‬هم شباب ‪ ،‬تعيب عليهم السلطة ‪ ،‬أنهم يفكرون ويقرنون الفكر بالحركة ‪ .‬وقد‬
‫عمدت تلك السلطة األخوانية منذ جاء خليفتهم ليتربع " أن تغسل عقول المصريين " ‪ .‬أنهى برسوم‬
‫القراءة وضحك على الجملة األخيرة ‪ ،‬لم يدرك لم ؟ لكنها لم تكن سخرية ‪.‬‬

‫ــ اللـه على كالمك ياخيرى ‪ ..‬كان عندك حق ماكانش ينفع تقول الكلمتين دول فى السيرك اللى كنا‬
‫فيه ‪ .‬ثم رفع عينيه إلى وجه صديقه السائر متأمال ‪ :‬سيبك دلوقتى من المصريين اللى األخوان عايزين‬
‫يغسلولهم عقولهم وقولى عامل أيه مع اللى غسلت عقلك ولحست دماغك ‪ .‬شعور بالتعاسة مأله حين‬
‫هم بالكالم ‪ :‬واللـه يابرسوم مش عامل حاجة ‪ ،‬وال أصال فاهم حاجة والحتى عارف هى هدى عايزة أيه‬
‫بالظبط ‪ ،‬كل حاجة بقت غامضة ومعقدة ‪ ..‬بنتها نورا بتتصرف معاها تصرفات غريبة ومش مريحة‬
‫وماحدش قادر يوقفها عند حدها ‪.‬‬

‫ــ طب ماتزق عليها أبنك شريف وهو يلجمها ‪.‬‬

‫ــ حتى أبنى شريف كمان مابقتش فاهم هو عايز أيه ‪ .‬أرسل له نظرة أستغراب ‪ :‬يعنى كل دول أنت مش‬
‫فاهمهم والعارف همه عايزين أيه ‪ ..‬مش يمكن العكس هو الصحيح وتطلع أنت اللى مش واخد بالك ‪.‬‬

‫ــ أكيد أل يابرسوم عشان أنا على األقل واضح مع نفسى وواخد قرارى من البداية ومقتنع باللى أنا‬
‫عايزه ‪ ..‬المشكلة مش عندى المشكلة عندهم همه ‪.‬‬
‫‪442‬‬
‫ــ تقصد أيه ؟ ‪.‬‬

‫ــ أنا متأكد أن هدى بتحبنى لكن فى نفس الوقت فكرة الجواز مش داخلة دماغها مع أن كل الظروف‬
‫اللى حواليها بتقولها أتجوزى النهاردة قبل بكره ‪ ..‬كمان بنتها نورا بقت عاملة زى اللغز ماحدش فاهم‬
‫هى بتفكر فى أيه وال ناوية على أيه حتى شريف أبنى كمان مابقتش عارف هو عايز أيه بالظبط ‪ ،‬كالمه‬
‫معايا بيقول أنه ماعندهوش مانع فى حكاية جوازى بهدى لكن ‪ ..‬سكت حائرا قبل أن يبادره برسوم ‪:‬‬
‫لكن أيه ؟ ‪.‬‬

‫ــ تحس كده فى نبرته وفى شكله أنه مش راضى وال موافق من أصله ‪.‬‬

‫ــ وتفسيرك أيه ياخيرى ؟ ‪.‬‬

‫ــ بصراحة أنا بطلت أفسر وأحلل ‪ ..‬تعبت وأرفت وزهقت ‪.‬‬

‫ــ الصبر ياخيرى ‪ .‬قالها ممدودة ‪ .‬مشى بخطوات متثاقلة يبحث عن كلمة أو مصطلح يلخص بها‬
‫أحساسه ‪ :‬هو عاد فى صبر للصبر ‪ ..‬أنا جبت أخرى وبقيت مش قادر ومحتاج هدى أوى فى حياتى ‪.‬‬
‫قالها بلهفة رجل نباتى أرهقه فراق اللحمة ‪ .‬لم يبلغا ناصية شارع شامبليون إال مع بشاير العاشرة‬
‫مساءا ‪ .‬لكزه برسوم فى جنبه لينتزعه من حالة السرحان ‪ :‬أنا حأتكل على اللـه وبكره يحلها ألف حالل‬
‫‪ .‬ودعه خيرى بلغة األشارة محتفظا بشروده الذى قاده حتى مدخل البيت ‪.‬‬

‫فى تلك األثناء أحتمت نورا بغرفتها منذ ساعة ‪ ،‬أثار لقاءها العاصف بشريف الزال نابضا يتفاعل بشدة‬
‫بالرغم من هدوئها الظاهرى البادى فى مالمحها وعلى جسدها المسجى على السرير ‪ .‬لم تدر أنها ظلت‬
‫ساكنة فى مكانها ‪ ،‬شاخصة إلى السقف ‪ ،‬كأنه فيلم تسجيلى تتابع من خالله مشاهد ومواقف من حياتها‬
‫بترتيب ممل وكأنها تخشى أن يفلت منها مشهدا ‪ ،‬فتبدو غير مبررة ‪ ،‬لكن مقبض الباب الذى أدارته‬
‫بسمة ودخولها بالصخب المعتاد أنتشلها من متابعة المشاهد التى النهاية لها ‪ ..‬نواهى نورا تقضى‬
‫بأالضوضاء والتهريج لحظات سكونها ‪ ،‬ومع هذا فهما األمران األكثر شيوعا ـ بحكم المخالفة ـ لدى‬
‫بسمة ‪.‬‬

‫ــ مالك يانورا ‪ ..‬مش عوايدك يعنى تيجى من بره وماتغيريش هدومك ‪.‬‬

‫‪443‬‬
‫ــ مصدعة شوية ‪ .‬قالتها مسلوبة الوعى ‪ .‬همت بسمة أن تستفسر ‪ ،‬نهرتها ‪ :‬بقولك مصدعة يعنى‬
‫مش قادرة أتكلم والعايزة اسمع حاجة ‪ .‬تلك العبارة ترتبط فى ذهن بسمة عن وجود أزمة أو حالة من‬
‫التركيز لخطوة قادمة ‪.‬‬

‫ــ طب ممكن آجى جنبك على السرير أنام ومش حتسمعيلى صوت ‪ .‬قالتها بمسكنة تماشيا لردة فعل‬
‫غير محسوبة من أختها التى أغمضت عينيها بتعب ‪ :‬أطفى النور وتعالى ننام ‪.‬‬

‫مع ظالم الغرفة أستعادت نورا دقائق اللقاء ‪ .‬أنقضت ساعة وعيناها مفتوحتان ‪ .‬كانت مواجع الليل من‬
‫اللقاء الصعب تتزايد ‪ .‬كان السؤال لحوحا على رأسها ‪ :‬هل من المفيد تأجيل خطوتها األخيرة من‬
‫خطتها ؟ أم التعجيل بها ؟ يبدو الجزء األخير من السؤال هو األقرب للتنفيذ ‪ ..‬كان عليها أن تحسم األمر‬
‫قبل أن تنفلت األوضاع وتتعقد ‪ .‬لكنها لم تسمح لهواجس النفس أن تقودها للتراجع عن خطتها ‪ .‬أبت أن‬
‫تكون هى ـ األن ـ المفعول بها ‪ ،‬بل أرادت الفعل كما أعتادت فأقنعت عقلها بأن شريف لن يجرؤ على‬
‫األقدام على خطوة السفر التى هدد بها ‪ ،‬هى على ثقة تامة بأن حبل الحب الذى تقيد به عنقه الزال‬
‫طرفه فى يدها ‪ ،‬وعليه قررت انهاء الصراع مع أمها بالضربة القاضية تلبية لرغبة محمومة تحت‬
‫عنوان " قضمه أحسن من نحته " ‪ .‬بدلت تكتيكها من وضعية التمهل وسياسة الخطوة خطوة إلى حسم‬
‫الموقف بمواجهة صارمة ‪ .‬لم يعد الوقت فى صالحها ‪ .‬ثم بدأت عدا عكسيا ‪ ،‬لتكون ساعة الصفر ‪..‬‬
‫عصر الغد ‪ .‬إال أنها لم تنم ‪ ،‬شعرت بها بسمة ‪ ..‬سألتها ‪ :‬أنتى لسه صاحية يانورا ؟ أستدارت ناحيتها‬
‫تطوقها بذراعيها ولم تجب ‪ .‬ثم همهمت ‪ :‬إن شاء اللـه بكره كل حاجة حتعدى ‪.‬‬

‫ــ هو أيه ده اللى حيعدى يانورا ؟!‪.‬‬

‫ــ ماتشغليش بالك ونامى ‪ .‬قالتها وأرخت جفنيها على التمنى ‪.‬‬

‫‪00000000000‬‬

‫فى تمام الرابعة من اليوم التالى كانت نورا قد أنهت فترتها األول فى األتيليه ‪ .‬وصلت الشقة والتزال‬
‫أصداء العصر تتردد ‪ ..‬دخلت والنية معقودة وفى كامل جاهزيتها متمنية نهاية سعيدة فى وقت وجيز‪.‬‬

‫‪444‬‬
‫أغلقت الباب خلفها وخطت أول متر فى الصالة ثم توقفت حين لمحت أمها فى األنتريه ‪ .‬تبادال نظرات‬
‫خاطفة ‪ ..‬بينما شعرت هدى بهاجس قلق لم تعهده من قبل ـ بدأ ـ منذ وهلته األولى كبيرا ‪ ،‬يكبر‬
‫ويتصاعد كلما أقتربت منها نورا التى واصلت طريقها إلى كنبة األنتريه حيث تقطن هدى التى خرجت‬
‫من محبسها منذ نصف ساعة التماسا لساعة تريض ‪ .‬توقفت أمامها لتفرغ مافى صدرها بعدما قررت‬
‫تطبيق نظرية الهجوم الخاطف ‪ :‬أيه الحكاية بقى ياماما حتفضلى على الحال ده كتير وال أيه‪..‬من أوضتك‬
‫للصالة ومن الصالة لألوضة والحكاية يعنى مش مستاهلة كل الغم ده ‪ .‬رفعت عينيها بنظرة مبتورة لم‬
‫يصل مداها للوجه المتحفز ‪ .‬زفرت فى عبوس ‪ :‬هو الكده عاجب والكده عاجب ‪.‬‬

‫ــ أيوه ياماما الحال ده مايعجبش حد ‪ .‬قالتها وجلست بجانبها بينما لم تعلق هدى واكتفت بالنظر فى‬
‫أتجاه معاكس متعمدة الالمباالة بينما تأهبت نورا لتوجيه الفكرة التى تستحوذ على شعورها إلى الوجهة‬
‫الصحيحة ‪.‬أ ردفت ‪ :‬ممكن ياماما نتكلم مع بعض بصراحة ‪ .‬أشاحت بوجهها معلنة من وجود شرخ لم‬
‫يلتئم ‪ .‬أغمضت عينيها ظنا منها أنها أمام جملة أعتذار أو عبارة ترضية ‪ :‬عايزة منى أيه يانورا ؟‬
‫صمتت األخيرة للحظات تتخير مفردات العبارة القادمة وشكل النبرة حين طرحت سؤاال مباشرا ‪ :‬أنتى‬
‫وعمو خيرى حتتجوزوا أمتى ؟ لم تصدق نفسها حين أخترق السؤال رأسها ‪ ،‬أعربت مالمحها عن‬
‫صدمة فاقت كل توقعاتها ‪ :‬أيه الكالم الفارغ اللى أنتى بتقوليه ده ‪.‬‬

‫ــ اللى أنتى سمعتيه ياماما ‪ .‬أقتربت منها بوجه منزعج ‪ :‬أنتى أكيد أتجننتى ومش عارفة بتقولى أيه ‪.‬‬
‫أستقبلت غضب أمها بنبرة تحد أطلقتها من بين أضراسها مشحونة بأصرار اللحظة ‪ :‬اللى بأقوله ده‬
‫مش جنان وال كالم فارغ ومافيش حاجة بتستخبى ياماما أحنا كلنا عارفين اللى بينك وبين عمو خيرى‬
‫وماتحاوليش تعيشى فى دور الصدمة وكأنى قلت حاجة غريبة أو أتهمتك بتهمة وحشة ‪ .‬تحولت هدى‬
‫لكتلة من الفزع ‪ .‬بهتت حتى صار لونها رماديا مكتفية برفع كتفيها والتطلع ألبنتها بجزع ‪ :‬أنا مش‬
‫مصدقة نفسى من اللى بأسمعه ده ‪ ..‬أنتى عايزة منى أيه بالظبط ‪ ..‬ماتسيبينى بقى فى حالى ‪.‬‬

‫ــ مافيش حاجة أسمها أسيبك فى حالك وتسيبينا فى حالنا أحنا كلنا عايشين فى بيت واحد ومربوطين‬
‫ببعض يعنى أى حاجة بتحصل لحد فينا بتأثر علينا كلنا ‪ .‬رجعت هدى للوراء بعدما شدت ظهرها فى‬
‫مقعدها وبدا فى هيئتها مايوحى أنها تتمسك بالصبر ‪ ،‬إال أن هذا التعبير معرض للزوال بفعل أستفزاز‬
‫نورا ‪ ،‬فأنقطعت عنها الكلمات إال من همهمات المعنى لها بينما لم تفقد نورا طاقتها من الغضب ‪ :‬لما‬
‫أنتى بتحبيه مش عايزة تتجوزيه ليه ‪ ..‬أدينى سبب واحد ‪.‬هزها المعنى وأستكانت للذهول الذى أفقدها‬
‫‪445‬‬
‫التوازن فأستغلت نورا حالة التوهان ‪ :‬لو سمحتى ياماما أحنا مش ناقصين فضايح وياريت بقى تنجزى‬
‫وتخلصى نفسك وتخلصينا ‪.‬‬

‫ــ أنتى قليلة األدب ومش محترمة والزم تعرفى ان اللى قاعدة قدامك دى تبقى أمك مش واحدة من‬
‫الشارع وآلخر مرة بأحذرك خدى بالك من كالمك وأبعدى عنى ‪ .‬قالتها صارخة بجسد يرتعش ‪.‬‬

‫ــ أنا مش قليلة األدب وأنتى عارفة كده كويس وأنا اللى بأقولك ياماما ألخر مرة مش حأسمح لك‬
‫تحطمينا مرة تانية ومافيش حل قدامك غير أنك توافقى على الجواز من عمو خيرى وده أخر كالم‬
‫عندى ‪ .‬قالتها وتراجعت للخلف لحظة مغادرة هدى مقعدها واقفة ‪ ،‬وبحركة ال أرادية تصفع خد نورا‬
‫األيمن صفعة حارة مازال لهيبها مشعا على بشرتها التى أنكمشت تزامنا مع خروج بسمة ويوسف من‬
‫غرفتيهما مذعورين ‪ ..‬وقفا صامتين يتابعان بحياد مشهد نورا وهى تضع كفها على خدها تدارى‬
‫بصمات األصابع التى حفرت لها مكانا وقضت على أتفاقية سالم غير معلنة ‪.‬‬

‫ــ آخر حاجة حأقولهلك ياأما تتجوزى وتريحى نفسك وتريحينا ياتسيبينا وتبعدى عننا ‪ .‬بدتكمالو كانت‬
‫تفرغ شحنة مكبوتة ‪ .‬بينما ماسمعته أمها جعلها تدرك انها بصدد مساومة أو فى وضعية سطو لفرض‬
‫أتاوة ‪ ..‬بدت كالرهينة ‪ .‬البد لها من سداد الفدية ‪ .‬كتمت أندهاشها وأشاحت بوجهها ناحية يوسف‬
‫تتلمس فى وجهه وقع الكلمات ‪ .‬لم تقرأ أى تعبير فأنتقلت لبسمة التى لم ترفع عينيها ‪ .‬أحساس دفين‬
‫يشعرها بالذنب إال أن صوتها خرج مشفقا بهذا السؤال كأنه حصاد بين الخجل والفضول ‪ :‬أيه اللى‬
‫وصل األمور للدرجة دى ؟ لم تعلق ‪ ..‬دارت عيناها تعيدان النظر فى وجه نورا وكأنها تتثبت بأن كل‬
‫مايحدث ليس لقطة فى حلم ‪ .‬طالت نظرتها وهى تستعيد ماسمعته ‪ ..‬كررته بنبرة هزيلة ‪ :‬يعنى ياأتجوز‬
‫خيرى ياأسيبكو فى حالكو ‪ .‬أنهت جملتها وتبدلت مالمحها ونفضت الذهول ‪ ،‬فاتت على أبنتها بنظرة‬
‫حادة ‪ :‬حاضر يانورا حأسيبكو فى حالكو ‪ ..‬حأسيبكو خالص ‪ .‬سحبت نفسها ببطء وأتجهت إلى غرفتها‪.‬‬

‫ساد صمت كئيب فى الصالة ‪ .‬همدت نورا على كنبة األنتريه ولم تهمد مالمحها التى الزالت منفعلة بينما‬
‫يوسف وبسمة أظهرا قلة حيلة وسط مشاعر خوف وقلق وأختبأ الجميع خلف الصمت والترقب ولم‬
‫يتطوع أحدا منهم فى الرد على أيات التى خرجت بصحبة نعمة تستفسر ‪ :‬فى أيه ياوالد ‪ ..‬صوتكم عالى‬
‫ليه ؟ لم تجد منصتا ولم تحصل على رد ‪.‬‬

‫‪446‬‬
‫دخلت هدى غرفتها بنفسية محطمة وعلى وشك األنهيار ‪ ،‬تداوى جراحا ال تتداوى ‪ .‬تراخت على‬
‫السرير هشة األعضاء ‪ .‬تمنت أن تصرخ ‪ ..‬تستغيث ‪ ..‬تنادى ‪ .‬اللسان معقود والصوت أخرس ‪ .‬إذا‬
‫صرخت فعلى من تنادى ‪ ..‬ال منقذ لها وال معين ‪ .‬لم تملك سوى األحتجاج بكاءا ! ‪.‬‬

‫تماسكت ‪ ..‬جلست نصف جلسة ‪ .‬لم يكن ذلك وقت التراجع ‪ .‬قامت إلى دوالبها وهى تحمل قرارا ‪ .‬هى‬
‫التريد أن تكون ـ من جديد ـ مسمارا فى مركب قد يتسرب اليه الماء فى أية لحظة ‪ .‬فتحت ضلفته ‪ ،‬مدت‬
‫يدها إلى قاعه وسحبت حقيبتها السوداء ‪ ..‬أندلعت فى نفسها كل الهواجس والذكريات حين أخرجتها من‬
‫مرقدها ‪ ..‬حملتها كمن يحمل أثما بين يديه ‪ ،‬هى رفيقة الكفاح ‪ ..‬جلدها األسود العتيق يحمل تواريخا ‪..‬‬
‫تاريخ دخولها السجن وتاريخ خروجها ‪ .‬واليوم أيضا ستسجل تاريخا ‪ ،‬لكنها لم تقرر بعد ماسيكتب‬
‫بجواره ‪ .‬أرتجفت وهى تنفذ قرارها ‪ .‬بعصبية وتوتر مضت تلبس ‪ ..‬شعرت برهبة تجتاحها ‪ .‬نظرت فى‬
‫المرأة بعد أن أتمت لبسها ‪ ..‬تأملت نفسها طويال ‪..‬‬

‫فى الخارج كان الجو مكتوما ‪ ..‬مرت ربع ساعة بأيقاع بطيىء ‪ ،‬لم تقال خاللها سوى جملتين أو ثالث‬
‫على أستحياء كانت كلها من نصيب نورا على سبيل التوضيح ومن يعدها دان صمت حذر لم يقطعه‬
‫سوى صوت " أيات " التى أشارت ليوسف ‪ :‬أدخل شوف مامتك وحاول تهدى األمور ‪ .‬هز رأسه‬
‫موافقا بعد ماحصل على تصريح من عينى نورا ‪ .‬دخل غرفتها مترددا بعد طرقتين ‪ ..‬كتم أنفاسه‬
‫وفضحته الدهشة حين وجدها أمام الدوالب مرتدية مالبس الخروج وبجوارها ترقد الحقيبة مفتوحة على‬
‫مصراعيها وقد أمتألت حتى نصفها بمالبس مرصوصة فوق بعضها ‪.‬‬

‫ــ أيه اللى بتعمليه ده ياماما ‪ .‬قالها حين أقترب منها ‪ .‬تابعت سحب مالبسها من رف الدوالب وكأن‬
‫السؤال اليخصها ‪.‬‬

‫ــ ماتردى على ياماما ‪ .‬قالها متوسال بينما أشاحت بوجهها متابعة غلق حقيبتها بصرامة ‪ .‬فألح ‪:‬‬
‫ماتفهمينى أيه اللى بتعمليه ده ‪ ..‬أرجوكى ردى على ‪.‬‬

‫ــ أنا ماشية يايوسف وحأسيبكو فى حالكو ‪.‬‬

‫ــ ماينفعش تسيبينا وتخرجى ‪ .‬أستردت هدوءها ‪ :‬ليه ؟ ‪.‬‬

‫‪447‬‬
‫ــ عشان ‪ ..‬عشان ماينفعش ‪ ..‬ده بيتك ياماما وزى ماأنتى محتاجة لنا أحنا كمان محتاجينلك ‪ .‬قالها‬
‫وهو يحتجزها بجسده ‪.‬‬

‫ــ متأكد يايوسف أنكم محتاجينلى ‪ .‬قالتها ساخرة إال أنهاأيضا شعرت براحة لكلماته ‪ ،‬وبدا لها أن‬
‫ضمير البراءة يتحدث اليها ‪ .‬تطلعت إلى عينيه ‪ :‬ماتضحكش على نفسك يايوسف ‪ ، ،‬أنا وال حاجة‬
‫بالنسبة لكو ‪ ..‬أنتو محتاجين ألم بجد مش أم تقليد ‪ ..‬أم تكون عاشت معاكو لحظة بلحظة ويوم بيوم‬
‫وشافتكو قدام عينيها وأنتو بتكبروا ‪ ..‬أكلت معاكو وشربت معاكو وشاركتكم فى فرحكو وحزنكو وتعبت‬
‫عشانكم وأشتغلت وصرفت على تعليمكم لغاية ماأنت أتخرجت وبقيت مهندس أد الدنيا وأختك قدامها‬
‫سنة وال أتنين وتحصلك ‪ .‬سكتت ‪ ..‬أخمدت أحباطها فى نظرة متأكلة ثم أردفت باكية ‪ :‬كل الحاجات دى‬
‫أنا ماعشتهاش معاكم أتحرمت منها ‪ ..‬سمعت بيها لما كنتم بتيجوا تزورونى فى السجن ‪ ..‬أمك الحقيقية‬
‫يايوسف مش موجودة هنا فى األوضة ‪ ..‬أمك قاعدة برة فى الصالة ‪ ...‬هى األحق منى ‪.‬‬

‫ــ مافيش حد فى الدنيا يقدر يستغنى عن أمه ‪ .‬أدمعت عينيه وقبلها من جبينها ‪ ،‬غير أنه أدرك أن‬
‫تعاطفه معها قد ورطه فى موقف اليحتمل غير األنسحاب ‪ .‬خرج من غرفتها كما خرجت تتبعه وهى‬
‫تحمل حقيبتها ‪ .‬سارت خلفه تضغط بحذائها على أصابع قدميها ‪ .‬أنحرف يوسف يسارا حيث يجلس‬
‫الجميع بينما هدى قطعت الصالة بأتجاه باب الشقه تتخبط بحقيبتها تتحاشى النظر فى الوجوه التى‬
‫أنتفضت وقوفا من هول المفاجأة ‪ .‬أندفعت بسمة خلفها حتى أصبحت تحاذيها قبل أن تسبقها وتسد‬
‫الباب بجسدها ‪ :‬رايحة فين ياماما ‪.‬‬

‫ــ سبينى يابسمة وأبعدى عن طريقى ‪ .‬قالتها وهى على وشك األنفجار ‪.‬‬

‫ــ مش حأسيبك ياماما تخرجى ‪ .‬قررت أسكاتها بصرخة ‪ :‬ماحدش له دعوة بيه ‪ .‬لم يعد لديها القدرة‬
‫على التراجع بينما تسابقت نورا نحوها وألقت عليها جملة من خلفها ‪ :‬يعنى أيه ماحدش له دعوة بيكى‬
‫‪ ..‬تجاوزت مرحلة الصبر حين أنفجرت بهيستيرية ‪ :‬أنا خالص ماليش مكان هنا ‪ ،‬كملو حياتكو مع‬
‫بعض أنا رايحة للشبهى الللى عاشرتنى فى السجن وكانت أحن على منكو ‪ .‬أصيبوا بشلل مؤقت منعهم‬
‫من الحركة ولم يعلق أحدا منهم بالقبول أو الرفض وكأنهم أتفقوا فيما بينهم على عزلها ‪ .‬أخافها الهياج‬
‫فتراجعت خطوة للوراء وأنصاعت بسمة أيضا لنفس المخاوف فأفسحت لها طريقا للخروج بعدما أدركت‬
‫حجم المشكلة ‪ .‬لم يكن للكالم قيمة أو للبكاء معنى ‪ ..‬مدت هدى يدها تفتح الباب بسرعة كأنها تنتزعه ‪.‬‬

‫‪448‬‬
‫كان خروجها ضربة غير منتظرة خرست بعدها كل األسئلة واألجوبة ‪ ..‬بقيت أيات فى مكانها ونعمة‬
‫راقدة عند قدميها فى وضع جارية األميرة ‪ ..‬تراقصت أمام أيات أطياف شخوص ‪ ،‬عادت تنبض للحياة‬
‫من جديد آتية من زمن بدا أنه موغل فى القدم ‪ .‬فتذكرت أنها عاشت هذه اللحظة من قبل حين خرجت‬
‫من بيت الزوجية جريحة تحمل حقيبتها وورقة طالقها ‪ .‬صورة معادة تقدمت فى مخيلتها على كل‬
‫المشاهد الحية ‪ ،‬مثل هذا تماما كان يحدث فى زمان تراه اآلن بعيدا ‪ .‬هذه اللحظة الكئيبة اليمكن أن‬
‫تمحى من لوح ذاكرتها ‪ .‬ألتصق الجميع فى أماكنهم ساهمين بفعل الصدمة بينما نورا هى الوحيدة التى‬
‫تحمل جسدا يتحرك ‪ ..‬ذهابا وأيابا ‪ ،‬وصدى خطواتها الثقيلة يتردد فى الصالة الصامتة ‪ .‬كانت تشعر‬
‫شعورا غريزيا أن شيئا أنزاح وأنتهى ظاهريا ‪ .‬إال أنه فى حقيقة األمر قد يبدأ من جديد ‪.‬‬

‫خرجت هدى من باب الشقة تسير بخطى مترنحة مثل سفينة بال قاع ‪ .‬أمام باب المصعد وقفت وسط‬
‫فوضاها األنفعالية وفى رأسها ضباب وفوران ‪ ،‬صور من أفكار وكلمات محشورة فوق لسان ملتصق‬
‫بسقف حنكها ‪ .‬هى األن بأمس الحاجة لخيرى ‪ ..‬كى يبدد حزنها ‪ .‬قررت فجأة أن تتجه لباب شقته ‪..‬‬
‫أستدارت وأندفعت دون تخطيط ‪ .‬ظل رنين الباب يلح حتى رضخ خيرى وقام من مكانه تاركا خلفه‬
‫الرئيس " مرسى" يصدح على الفضائية المصرية موجها خطابا شامال لآلمة المصرية من دون‬
‫مناسبة ‪ .‬أتجه ناحية الباب قبل أن يضع " الروب " على بيجامته ـ تقليد أحتفظ به منذ اليوم األول‬
‫لزواجه من سميحة هانم ـ سار يردد اللعنات وهو يقترب من الباب ‪ :‬بقالى ساعة بأسمع مرسى‬
‫مافهمتش منه حاجة وأول ما بدأت أفهم الجرس يرن ! عندما رفعت أصبعها من فوق الجرس أنفرج‬
‫أمامها الباب ‪ ..‬أستقبلها خيرى بوجه مدهوش وفمه الفاغر محشو باألسئلة ‪ .‬لم تتريث أمام الباب ‪ .‬لم‬
‫تسأل نفسها أن كانت تمتلك حق الدخول دون استئذان ‪ .‬وقبل أن تستقر خطواتها المترددة بالداخل‬
‫بادرها فى لهجة مندهشة وهو ينظر الى الحقيبة ‪ :‬فى أيه ياهدى ‪ ..‬أيه اللى حصل ؟ لم تجب ‪ ..‬سرح‬
‫لحظة فى منظرها بعد أن أغلق الباب بينما كانت قدماها تسبقانه الى الداخل عبر صالة لم تكن تعرف‬
‫مكوناتها ‪ .‬كان الضوء خافتا ورائحة الدخان تمأل المكان ‪ .‬نظر لها كأنه يرى وجهها ألول مرة ‪ ..‬أنفلتت‬
‫من جواره ورميت جسدها على أول كرسى ‪ .‬لمح فوق وجهها عالمات األنفعال ‪ .‬أدرك أن الشجار‬
‫المعهود قد وقع بينها وبين نورا ‪ .‬شغل نفسه للحظات بأنتقاء الكلمات لتوجيه أسئلته حين جلس‬
‫أمامها ‪ :‬أحكيلى براحة أيه اللى حصل ؟ سؤال فتح عليه فوهة بركان من بكاء هيستيرى ‪.‬مد صدره‬
‫إليها وتزحزح لحافة كرسيه ‪ ،‬راح يهدىء من روعها بمالمسات رقيقة ‪ :‬أهدى شوية وفهمينى‬
‫الحكاية ؟‪ .‬أ ختنقت لربع ساعة كاملة‪ ،‬وهى الفترة التى أستنفزت فيها كل طاقتها ‪ ..‬أفرجت عما فى‬
‫‪449‬‬
‫صدرها وكأنها تردم بركانا يغلى ‪ ..‬كبحت دموعها أكثر من مرة ‪ ،‬لكنها فشلت مرات ‪ ..‬مزق صوتها‬
‫المبحوح تماسكه ‪ .‬عرض عليها التدخل والوصول الى حل توافقى مع نورا ‪،‬إال أنها رفضت بشدة هذا‬
‫العرض كما رفضت التراجع عن فكرة ترك المنزل بالرغم من تحفظه الشديد عن نيتها فى الذهاب‬
‫لفايزة ‪ .‬أقترح عليها مشروبا مهدئا كى يجدد محاوالته فى أقناعها ‪ ،‬أبتعد للمطبخ يصنع لها الليمون‬
‫بينما بقيت فى مكانها تسند ذقنها الى كفها وحقيبتها بجوار قدمها وكأنها فى محطة مصر تنتظر قطارا ‪.‬‬
‫لحظات وقدم لها الليمون ‪ ،‬رشفت رشفتين ‪ ،‬نزع الكوب الذى تحتضنه بأصابعها ‪ .‬جذبها من يدها ‪.‬‬
‫فوقفت ‪ .‬أصابتها رعشة تكاد تفضحها ‪ .‬حاولت أن تفلتها ‪ ،‬أحس نعومتها فأستنفر !‪ .‬تذكر أنه لم يلمس‬
‫امرأة منذ وفاة زوجته ‪ ..‬طاوعته ‪ ،‬ضمها الى صدره ‪ ،‬لف ذراعيه حول كتفيها ‪ ،‬أحتواها بحنان ثم فى‬
‫عنف ‪ .‬أستكانت ‪ ..‬كان يشعر أنه يروى أرضا أنهكها الجفاف ‪ ..‬نقل اليها احساسا مريحا ‪ ،‬لعلها‬
‫تستطيع أن تفض ذلك األشتباك الذى قام بين األيام التى مضت وحاضرها الذى ضاعت منه مالمح‬
‫المستقبل ‪ .‬دلكت أنفها فى صدره ‪ ..‬ظلت صامدة ‪ ..‬نظر لها وكأنه ينصت لكل أحزانها ‪ .‬فأنساب الكالم‬
‫بينهما بال حوار ‪ .‬رأته ‪ ..‬قرأت فى عينيه نداء أو حست به يعبث بخلقتها دون أن تبدى رفضا أو قبوال ‪،‬‬
‫كأنها بصمتها تدعوه ليزيد من زحفه الذى بدأه بطيئا ‪ .‬فواصل زحفه ولم يترك حيزا فى وجهها وهوكل‬
‫ماأتاحه الحجاب دون أن يضع عليه بصمة شفتيه ‪ .‬وحين شعر بأصابعها تالمس شعر رأسه ‪ ..‬عرف‬
‫أن قدميه قد وطأت أرضها وأن رايتها البيضاء قد رفعت ‪ ..‬نعم أعلنت أستسالمها له فى كلمات خجولة ‪:‬‬
‫بالش ياخيرى بالش ‪ .‬وشوشت بها فى أذنه حتى التخطىء طريقها الى أعماقه ‪ ..‬تشبثت بصدره‬
‫أختلطت دموعها بقبالته وهو يأكل بشفتيه وجها مستسلما مثل وحش أنفك قيده ‪ .‬أنها البداية ‪ ،‬قال فى‬
‫نفسه ‪ ،‬دون أن يكون له تصور لشكل النهاية ‪ .‬أنهار جسدها الذى أكلته سنوات الحرمان فى أول‬
‫محاولة حقيقية لألختبار ‪ .‬تناول خصرها بذراعه فألتصقت به أكثر ‪ .‬قادها نحو غرفته ودخل بها ‪،‬‬
‫فأنسحبت ألول مرة روح" سميحة " الى حيث مكان عظامها ‪ ..‬تأمل صمتها وتحسس عذابه ‪ ..‬سحبها‬
‫من يدها فسارت معه بال عقل ‪ ..‬دقق فيها كأنه يقيس المسافة بين الرغبة وبين الرفض ‪ ..‬هربت إليه‬
‫بينما تنطلق من جسده كل الوحوش ‪ .‬لم تعد النظرات وحدها هى جواز المرور إلى مملكتها ‪ ..‬تعددت‬
‫أختياراته حين طرحها على الفراش ‪ ..‬جند كل أشياءه فى أتجاهها تأملت مالمحه ‪ ،‬تعد نفسها للحظة‬
‫التسليم ‪.‬‬

‫شعرت به مثل أسد جائع يبحث عن قطعة لحم اليعرف مكانها وهى التملك غير هذا الجسد الذى أنهكه‬
‫الحرمان وهذه النفس المضطربة ‪ .‬أنفاسه تتالحق فوق تفاصيل جسدها كأنه يفتش عن كل شهوة ‪ ..‬لم‬
‫‪450‬‬
‫تقاومه تركته ينزع حجابها ثم بلوزتها ثم ‪ ..‬ثم ‪ ..‬ويعبث بكل األشياء التى ماتت بينما تتحسس ضعفها‬
‫أمام نموذج رجولى رائع والتى التملك اال أن تفتح له صدرها وقلبها وساقيها ليحتل أى مسافة يراها‬
‫مناسبة ‪ ،‬فأختصر المسافات حين حاصرها بين يديه ومد فيها مايحسبه قد مات ! سار فى طريقه عابرا‬
‫الضفتين ‪ ..‬حولها فى لحظة الى كتلة لحم ملتهبة ‪ .‬كان أستسالما غير مشروط ‪ ..‬أنفجر اليأس فى‬
‫جسديهما فغاصا فى هوس الحدود له ‪ .‬حصل كل ذلك فى دقائق قليلة ‪ ،‬وكما لو أنها فى حلم ‪ ،‬تجرى‬
‫فيه األحداث بال زمان ‪.‬‬

‫سحبت نفسها من نفسه ثم تسلمت جسدها ‪.‬‬

‫ــ بحبك أوى ياهدى ‪ .‬قالها بصوت من يعترف بذنب لم يفطن له اال بعد فوات األوان ! لم ترد ‪ .‬شعرت‬
‫بالمكان يضيق بها كأنها فى قبر ‪ .‬بدا أنهيارها الى أخر أطرافها ‪ .‬قررت أن تبقى فى السرير للحظات‬
‫حتى تزيل عنها أثار الخطيئة ‪ .‬أرتدت مالبسها فى صمت ‪ ..‬حملت بقيتها الباقية وأنسحبت من الغرفة‬
‫طاوية طرحتها على صدرها ‪ ،‬لم يكن أمامها اال أن تحمل حقيبتها وماتبقى منها ‪ .‬أتجهت الى الباب‬
‫وصوت خيرى يالحقها ‪ :‬أستنى ياهدى حألبس وآجى معاكى أوصلك ‪ .‬تدافعت خطواتها فى الصالة كأنها‬
‫تتدحرج من فوق جبل الى سفحه ‪ .‬رحلت بعدما ترك فيها ماالينسى ‪ ..‬شعرت بنفسها أمرأة مستباحة من‬
‫يمد يده يأخذ مايشاء ! ‪.‬‬

‫هى األن األنثى الطريدة ‪ .‬يطاردها الماضى بلعنة السجن ويطاردها الحاضر بلعنة الضعف والتفريط ‪ ..‬لم‬
‫يعد من فرق بين الماضى والحاضر فكالهما وجه اخر للعقاب ‪.‬‬

‫فى نفس الوقت لم يتغير المشهد فى شقة هدى ‪ ..‬الزال الجميع محبوسين فى أماكنهم بالصالة ‪،‬‬
‫اليدركون كم مر من الزمن عليهم وهم فى خرس قبل أن تفارقهم نورا التى دخلت الى حجرتها وأغلقت‬
‫على نفسها ‪ ..‬هوت على السرير ‪ ..‬بقيت للحظات ممددة على بطنها تحاول أن تبكى ‪ ،‬لكنها لم تبك رغم‬
‫تحفيزها للدمع ‪.‬‬

‫بين ما فى تلك اللحظة أجتازت هدى المدخل بحقيبتها ‪ .‬أستقبلت طريقها بشعور أمرأة مهدمة ‪ .‬قررت‬
‫أال تلتفت قبل أن تتخشب فى وقفتها على الرصيف ‪ .‬بعبارة تتوتر باألنفعال قالت حين أقترب منها‬
‫تاكسى ‪ :‬كرموز ياأسطى ‪.‬‬

‫‪451‬‬
‫ــ حأخد عشرين جنيه ‪ .‬قالها مهددا ‪ .‬ركبت مغادرة شارع شامبليون ‪ ،‬خمس دقائق وبدت الناس تتضح‬
‫صورهم ويبدو لهم مالمح حين أنزاحت الدموع من عينيها ‪ ،‬بدأت تتسمع لصوت الناس والسيارات‬
‫يتصاعد حولها متأنيا حتى أصبح ضجيجا بعد مرور نصف ساعة حين أقتربت من حى العطارين ‪ ،‬تطور‬
‫الضجيج الى طنين ‪ ،‬ثم الى أصوات تصرخ بملء حناجرها حين باتت على حدود كرموز ‪.‬‬

‫سحبت شنطتها وهبطت من التاكسى فى شارع كرموز العمومى ‪ .‬الطريق الى بيت فايزة مفتوح األحشاء‬
‫عن برك مياه وبالوعات بال أغطية ‪ ،‬عليها أن تستخدم طاقتها القديمة وعضالت المشى ‪ .‬الحوارى‬
‫تلتوى وتتشابك أمامها كعالمات أستفهام ‪ .‬كانت تمضى والبيوت التى وصفتها فايزة بالقبح تتضح اكثر ‪.‬‬
‫ظهرت لها عند أول الحارة عتبات بيوت كثيرة ‪ ،‬عتبات عتيقة داست فوقها أقدام أجيال وأجيال ‪ ،‬كل‬
‫عتبة تحمل أسم صاحبه ‪ ،‬لذلك فالوصول لفايزة سهل ‪ ،‬يكفى أسم من تريد حتى يضعك أول من تسأله‬
‫على العتبة ‪ .‬أرتقت درجات السلم ترفعها الى الطابق الثالث ‪ .‬طرقات خافتة متوجسة على الباب ثم رنت‬
‫الجرس ‪ ..‬قامت فايزة مفزوعة من أغماءة العصر ‪ ،‬خرجت من غرفتها يقودها صدر ضخم كمقدمة‬
‫مركب تشق الطرقة ومنها للصالة تحجل على قدم واحدة فاألخرى عارية بال شبشب ‪ .‬فتحت لتفاجأ بمن‬
‫تسند رأسها على حافة الباب التقوى على الوقوف ‪ .‬طلت برأسها ثم خطت خطوة لألمام تدقق فى‬
‫الواقفة أمامها ‪.‬‬

‫ــ نعم ‪ ..‬أنتى مين ؟ عدلت من بوصلة وجهها ‪ ،‬وضعته أمام عينى فايزة مدعوما بنظرة فرح واهنة‬
‫وأبتسامة مكسورة ‪ ،‬بعد عملية فحص لم تدم أكثر من نصف دقيقة رفعت فيها فايزة كل المقاسات‬
‫وأمعنت فى المالمح حتى نجحت فى كشف هوية المنهارة أمامها ‪ ،‬هيستيريا هائلة عصفت بمالمحها‬
‫وألهبت وجهها بعاطفة سرت فى بدنها كله ‪ .‬لم تتماسك حين تخطى صوتها حدود السلم معلنا عن‬
‫صيحة فرح عنيفة ‪ :‬هدى ‪ ..‬مش ممكن ‪.‬‬

‫لحظة واحدة كانت كافية لتسجل فايزة رقما جديدا فى زمن الوثبة حين خطفت هدى وحقيبتها فى صدرها‬
‫تعتصرها فى لهفة وتطبع على خديها قبالت يصعب حصرها أو عدها ‪ ،‬صارت هدى فى صدرها عجينة‬
‫لينة قبل أن تسحب جثتها للداخل ‪ :‬واللــه العظيم أنا ما صدقة عينيه ‪ ..‬هدى حبيبتى وروح قلبى عندى‬
‫هنا فى البيت ‪ .‬قالت جملتها وأنقضت ثانية على هدى التى استسلمت وتركت لها خديها تستقبل قبالت‬
‫محمومة ‪ ،‬ثم فكت أسرها قبل أن تعاود هزها بعنف ‪ :‬أشتمينى ياهدى وبهدلينى زى زمان عشان أصدق‬
‫أنك واقفة قدامى ‪ .‬أنتزعت ضحكة من وسط ركام األحزان ‪ :‬وحشتينى يافايزة ياعكننة ‪ .‬فتحت بجملتها‬
‫‪452‬‬
‫بابا لعناقا مؤثرا صاحبه نوبة بكاء أختلطت فيها نعومته بحدته ‪ ..‬مرارته بفرحه قبل أن يرتفع أنينه‬
‫ويطول زمنه ‪ ،‬بينما يتابع عبده بذهول متربعا بجلبابه وطاقيته فوق كنبة الصالةقبل ان يخرج عليهما‬
‫بمالمح رجل معتوه غير مصدق مايحدث ‪ ..‬أقترب منهما ودار حولهما حتى أنتبهت هدى وتوقفت عن‬
‫البكاء ‪ .‬سحبت نفسها من صدر فايزة ‪ :‬أزيك يامعلم عبده ‪ ..‬أخبارك أيه ‪ .‬قالتها وهى تمسح دموعها ‪.‬‬

‫ــ ربنا يخليكى ياست ‪ .‬تاه فى وجهها متفحصا ‪ .‬أردف ‪ :‬متهيألى الخلقة دى مرت علي قبل كده ‪.‬‬

‫ــ دى مش من الخلق الوسخة اللى أنت تعرفها ‪ .‬قالتها فايزة بأرف قبل أن تعود بأبتسامة ‪ :‬دى هدى‬
‫حبيبتى وأختى وصاحبتى كانت أسيرة معايا فى السجن وطلعنا سوا عفو ‪ .‬ناول جبهته كفا أفزع به‬
‫هدى ‪ :‬أيوه ‪ ..‬أيوه ماتأخذنيش ياست هدى أنتو فى السجن بتبقوا كلكو شبه بعض البسين أبيض فى‬
‫أبيض زى اللى واقفين على جبل عرفات ‪.‬‬

‫ــ عقبال ماتقف كده زينا بس على جبل تكسر فيه حجارة وأنت البس أزرق فى أزرق ‪ .‬ثم أنهت عبارتها‬
‫بجملة صارمة ‪ :‬خالص ياخويا روح أتكل على اللـه أعملنا أتنين قهوة ‪.‬‬

‫ــ أوامرك يامعلمة ‪ ..‬الست طبعا طلبها مظبوط ‪.‬‬

‫ــ صح يامعلم‪ .‬قالتها وأستوت على كرسى فى الصالة بينما تربعت فايزة أمامها على الكنبة وقد أنحسر‬
‫ثوبها عن ساقيها حين راقبتها من خالل لهفة السؤال الصامت عندما نظرت لحقيبتها السوداء ‪ .‬إال أن‬
‫عتابا متبادال دار بينهما عن سبب البعاد الذى أفردت له هدى دفاعا واهيا ‪ :‬أتلخمت واللـه يافايزة فى‬
‫مشاكل كتيرة مع والدى وكمان أشتغلت فى أتيليه زيزيت ‪ .‬قاطعتها بلهفة ‪ :‬الخياطة صاحبتك ‪.‬‬

‫ــ أيوه ‪ ..‬كل تركيزى كان أزاى أعوض السنين اللى فاتت وأبدأ من جديد وألم والدى حواليه ‪ ،‬لكن أدى‬
‫اللـه وأدى حكمته ‪ ..‬فشلت فى كل حاجة ‪ .‬تابعتها فايزة بنظرة حزينة قبل أن تبدى األخيرة أسبابها ‪ :‬أنا‬
‫كمان زيك أتلخمت فى حالى وأشغالى والوقت سرقنى على ماظبط أمورى وعرفت أولى من أخرى‬
‫ولميت فلوسى اللى كانت متبعترة فى السوق وهديت البيت بتاع أبويا ولسه بأقول ياهادى فى شغل‬
‫المقاوالت وآهو منصور أبنى معايا بيساعدنى بعد مالحقته وأخدته فى حضنى بعد ما كان حيضيع منى ‪.‬‬

‫ــ وده يمنع يافايزة أنك تخطفى رجلك وتيجى تزورينى ‪.‬‬

‫ــ تصدقى وتؤمنى باللـه ياهدى ماكان فى يوم بيعدى إال وفكرت أزورك ‪ ..‬بس‬
‫‪453‬‬
‫ــ بس أيه ‪ ..‬أهتزت فى جلستها ‪ :‬أنا عارفة وضعك كويس وفاهمة ظروف عيالك عشان كده كنت‬
‫بأراجع نفسى وأقول بالش يابت تسببى لها مشاكل ‪ .‬هزت رأسها دون تعليق وكأنها تقول " خير‬
‫مافعلتى " مدت فايزة نظرها تتأملها ‪ :‬شكلك مش عاجبنى ياهدى ‪ ،‬ده أنتى كنتى فى السجن زى الوردة‬
‫المفتحة ‪ .‬فأبتسمت قبل أن يعود الى وجهها طابع الحزن الذى جاءت به ‪ :‬السجن ببرده وحره وخنقته‬
‫وعنبره المليان كان أرحم ألف مرة من العيشة اللى برة ‪ .‬سكتت لتمنع رعشة جرت خلفها دموعا ‪.‬‬

‫ــ أيه اللى حصل ياهدى ؟ سألت ثم أنتظرت أنصراف عبده الذى جاءهما بقهوته مشمرا أكمامه وقدمها‬
‫فى زهو مكتوم ونظرته تطرف فى أتجاه هدى ‪ :‬حتشربى دلوقتى واحد بن معتبر وأسمع منك بعدها‬
‫تسلم أيدك ياعبده ياجن ‪ .‬رشفت من فنجانها قطرة ‪ :‬تسلم أيدك بجد ‪ .‬وضعت الفنجان على الصينية ثم‬
‫تنحى عبده عن مكانه حين أصدرت فايزة بيانا شديد اللهجة ‪ :‬مش تهوينا بقى وتتكل على اللـه تروح‬
‫شغلك ‪ .‬خرج يتنحنح بعدما تقمص شخصية " سبع الليل " ‪:‬ماشى ياست الكل ‪ ..‬مش عايزة حاجة‬
‫أجيبها وأنا راجع ‪.‬‬

‫ــ ده من أمتى الكالم ده ياشهم ‪ .‬أختصر الموقف بأبتسامة رافقته حتى باب الشقة ‪ .‬مدت فايزة يدها‬
‫لفنجان القهوة وبنظرات ثابتة ناولته لهدى مثل كاهن يستعد ألستقبال األعتراف ‪.‬‬

‫ــ أحكيلى ياحبيبتى مين اللى مزعلك ‪ .‬نظرت لها وأبتسامة ميته تنبت على شفتيها اللتين أصبح لونهما‬
‫باهتا‪ :‬الدنيا كلها مزعالنى ‪.‬‬

‫ــ دى حكايتك باين عليها كبيرة وأكيد بنتك نورا ورا اللى أنتى فيه ده ؟! حلت قهوة عبده عقدة‬
‫لسانها ‪ .‬سقطت الكلمات من فمها كثقل لم تحتمل حبسه ‪ :‬والدى مابقوش طايقنى والعايزنى ‪ ،‬نورا‬
‫حاربتنى جوه البيت وبراه حرمتنى أعيش يوم واحد مرتاحة من ساعة ماخرجت من السجن وكأن فى‬
‫تار بايت بينى وبينها ‪ ..‬فى األول كذبت نفسى وقلت معلش األيام كفيلة تداوى اللى فات ‪ .‬سكتت ‪..‬‬
‫أغتصبت ريقها قبل أن تستطرد ‪ :‬بس ياخسارة ما أديتنيش فرصة وأستعجلت وماأستحملتش وجودى‬
‫وأخرتها ساومتنى ياأما أسمع كالمها وأتجوز ياأبعد عنهم وأسيبهم فى حالهم ‪.‬‬

‫ــ ياخب ر أسود ومنيل هى حصلت لحد كده ‪ .‬قالتها وعقدت أصبعيها تحت ذقنها بينما هدى شاعت فى‬
‫فمها مرارة الكلمات قبل أن يبلغ الفنجان شفتيها ‪ :‬ماكانش قدامى حل تانى غير أنى أسيب لهم البيت‬
‫وأمشى ‪.‬‬
‫‪454‬‬
‫ــ طب هى عايزة أيه من ورا اللى بتعمله ده ؟ ‪.‬‬

‫ــ مش عايزة يبقالى وجود فى البيت ‪ ،‬مصممة تبقى هيه األخت واألم وصاحبة األمر والنهى ‪.‬‬

‫ــ ماتأخذنيش ياختى الكالم اللى بتقوليه ده ينفع بين واحدة ومرات أبوها وال واحدة مع ضرتها بس‬
‫مايجوزش ابدابين بت وأمها ‪ .‬قالت عبارتها ولم تجد سببا منطقيا مبررا تهدأ به أحزان هدى ‪ ،‬فحاولت‬
‫أدراك مااليدرك ‪ ،‬يرفعها الى مقاربة خرجت بها عن النص ‪ :‬يكونش بنتك اللهم ماأحفظنا ملبوسة وال‬
‫يكون اللى عليها مشقلب دماغها من ناحيتك ‪ .‬دهشت من كالمها ‪ :‬نورا عقلها يوزن بلد وفاهمة كويس‬
‫هى بتعمل أيه ‪ .‬سحبت على الفور نظريتها ‪ :‬أخس عليها أخس فى بت تعمل كده فى أمها ‪ ،‬طب‬
‫وأخواتها مالهمش رأى فى اللى بيحصل ‪.‬‬

‫ــ أخوتها وعمتهم معذورين ‪ ،‬بقالهم عشر سنين معتمدين عليها فى كل حاجة ‪ ..‬نورا هى اللى بتصرف‬
‫وبتأكل وبتشرب وبتقرر وهمه مايعرفوش يعملو حاجة من غيرها عشان كده أنا عاذراهم ومش زعالنة‬
‫منهم وكفاية عليهم اللى أتحملوه ‪ ..‬الناس مارحمتهمش يافايزة وعايروهم أن أمهم ربة سجون ‪.‬‬
‫أستعانت األخيرة بسيجارة ثانية تعينها على أستيعاب فجيعة رفيقتها فى أبنتها ‪.‬‬

‫ــ وعزة جالل اللـه خير ماعملتى ياهدى ومن النهاردة أنتى حتبقى نوارتى وصاحبة البيت ده أنتى نعمة‬
‫من عند ربنا بعتهالى ‪ .‬قالتها وقامت تمد يدها لها ‪ :‬ياله قومى معايا عشان تغيرى هدومك وتروقى‬
‫كده ‪ .‬أغمضت عينيها وترجتها ‪ :‬محتاجة أخد حمام ضرورى ‪ .‬تحاملت على نفسها تقودها فايزة‬
‫كخادمة مطيعة لموقع الحمام ‪ .‬دخلت لتجد نفسها فى مكان أكثر حداثة ال ينسجم مع سلوك الشقة ‪ ،‬حمام‬
‫مجهز بـ " قيشانى " مستورد ينام على أرضيته " بانيو " روز متوجابخالط مياه ساخن وبارد ‪ .‬أنتابتها‬
‫رعشة حين خلعت مالبسها ‪ .‬أحتلت بصمات " خيرى " كل أرضها الطرية ‪ ،‬جاهدت لحفظ وقفتها تحت‬
‫" الدش " ‪ ..‬تتحسس صدرها وخصرها وفخذيها ومابينهما ‪ .‬أدارت وجهها للحائط أستقبلت الماء على‬
‫رأسها ثم ظهرها ‪ ،‬خرجت دموعها مع دموع " الدش " كأنها أمام حائط المبكى حين جال فى رأسها‬
‫أحداث الساعات األخيرة ‪ ..‬ظل بدنها يقشعر ‪ ..‬رفعت رأسها وهى تدلك وجهها بكفيها قبل أن ترد‬
‫بصعوبة على صوت فايزة ‪ :‬معاكى غيار وال أجيبلك من عندى ‪.‬‬

‫ــ معايا ‪ .‬مرت على جسدها بفوطة ثم سترته بـ "سونتيان " و " أندر " عليهما عباية عنابى جديدة‬
‫أصرت فايزة على أن تكون هدى أول الداخلين فيها ‪.‬‬
‫‪455‬‬
‫عند عتبة " الحمام " تلقت هدى وصلة مديح على لسان فايزة حين فتحت الباب ‪ :‬بسم اللـه ماشاء اللـه‬
‫بدر ياأخواتى طالع من الحمام ‪ .‬ثم سحبتها نحو بطن البيت ‪ ،‬دخلت بها غرفة نومها التى أثارت‬
‫أعجابها ‪ :‬أوضتك حلوة أوى يافايزة ‪.‬‬

‫ــ دى ياحبيبتى اللى حننام فيها أنا وأنتى ‪.‬‬

‫ــ أيه اللى بتقوليه ده وعبده ؟ تأففت ‪ :‬عبده مكانه فى أى نصيبة تشيله ‪ .‬جلست على حافة السرير‬
‫مضاءة بالعباية العنابى تحوط رأسها بـ" فوطة " كعمامة ‪ .‬فتحت حقيبتها حين صرخ موبايلها ‪ ..‬نظرت‬
‫لشاشته ‪ ..‬لم ترد وأعادته لمكانه ساهمة ثم أطرقت برأسها لألرض ‪ ،‬وموجات عصبية تسرح فى‬
‫صفحة وجهها ‪ ،‬وفى عينيها نظرة غارقة فى دمعة متحجرة ؟‪ ،‬وكأنما تنبه فايزة الى أنها يجب أن تقول‬
‫شيئا ‪ .‬لم تتطفل األخيرة إال عندما تفككت الدمعة وأنسابت ‪ ،‬فأقتربت منها مستفسرة ‪ :‬حد من والدك ؟‪.‬‬

‫ــ أل ده خيرى جارنا ‪.‬‬

‫ــ ده اللى نورا بنتك عايزاكى تتجوزيه ‪.‬‬

‫ــ أيوه ‪ .‬قالتها وتحسست صدرها الذى الزال يحمل بصمات الرضيع !‪ .‬تنازعتها األحاسيس ‪ ..‬شيئا‬
‫ما بداخلها بدا محطما بفعل أوالدها وأخر منهارا بفعلتها ‪ .‬أجابتها المختصرة دفعت فايزة لممارسة‬
‫عشمها القديم ‪ :‬وخيرى ده نظامه أيه ؟ صمتت مرتجفة ‪ .‬ظلت فايزة ترمقها حين جلست بجوارها تقرأ‬
‫مزاجها الذى حفظته ‪ .‬فألحت ‪ :‬حتخبى على أختك ‪ .‬همت بالتحدث عن خطيئتها مع خيرى ‪ ،‬لكن شيئا‬
‫منعها ‪ ،‬فضلت األحتفاظ بسرها ‪ .‬تأملت الوجه الذابل ‪ :‬الزم تفضفضى ياحبيبتى ماتشليش فى نفسك ‪..‬‬
‫كده مش كويس ‪ .‬ضغطت على كرامتها العنيدة أن تلين ‪ ،‬فأفرجت عن كل ماتكتمه ‪ .‬أدلت هدى‬
‫بأعترافات مختصرة التفاصيل ‪ ،‬تنتزع فايزة من على لسانها الكلمات ‪ ..‬كلمات خجولة نادمة تتوج بها‬
‫هزيمة كانت صنيعتها ‪ .‬وقعت على أعترافها بنوبة بكاء قاسية أستغرقت منها لحظات ‪ ..‬لم تفلح بعدها‬
‫فى تجاوز وجه فايزة بكلمة أو حتى بنظرة بينما شعرت األخيرة بعمق مأساتها وبالغ حرجها فبادرت‬
‫بأنتشالها من وضعية الندم بصياغة جملة على طريقتها ‪ :‬خالص بقى ياهدى اللى حصل حصل وأنتى‬
‫بأيدك أيه ‪..‬ماهوماينفعش الزيت ييجى جنب النار وماتقومش حريقة ‪ .‬قالت بمرارة ‪ :‬اللى حصل بينى‬
‫وبينه مخلينى مش طايقة نفسى ‪ ..‬مش حأقدر أوريه وشى تانى ‪ .‬رددت جملتها األخيرة متحسرة ‪..‬‬
‫تحولت مأساتها إلى وجع التملك نسيانه ‪ ،‬بدت وكأنها لن يواسيها كالم أو يرضيها عزاء ‪ .‬رنين‬
‫‪456‬‬
‫موبايلها كان لحوحا ومتواصال يذكرها دائما بأنها لم تبتعد عن مسرح األحداث بالقدر الذى يسمح لها‬
‫باألنسحاب كليا ‪ ،‬أربع مكالمات فائتة من بسمة ومثلها من يوسف وضعفها من خيرى ‪ ..‬كان لها رغبة‬
‫فى األنفصال عن األحداث واألبتعاد عن المأساة ‪.‬‬

‫قضت هدى نهارها األول ملتصقة برفيقتها ‪ .‬عثرت على روحها الهائمة فى صحبة فايزة ‪ .‬أزاحت مؤقتا‬
‫هموم حاضرها ‪ .‬مر الوقت عليهما سهال رغم ماتتجرعه من أحزان ‪ ،‬لم تفارقهما الضحكات حين بدأت‬
‫الحكايات تتوالد والقصص تتناسل ‪ .‬كان تاريخهما فى عنبر النساء حاضرا بقوة حين جرفتهما الذكريات‬
‫تتنازعهما المقارنات بين ماكان وماأصبح ‪ .‬تهبط المواقف فوقهما مثل أوراق الخريف ‪ .‬تذكرتا الوجوه‬
‫واألسماء ‪ .‬تمسحا فى ذكريات السجن أستدعاءا للضحك الذى حضر بوفرة عندما طاردتها فايزة‬
‫بمواقف التحتمل إال التسليم بضحكات تاهت فى تضاريس وجهها الحزين ‪ ،‬فسكن األلم وأختبات األوجاع‬
‫بعدما حضرت كل التفاصيل التى عاشت بينهما ‪.‬‬

‫الفصل الخامس عشر‬

‫دخل الليل من لحظات إلى شقة " هدى " بدا المكان ساكنا وكأن الزمن عاجز عن أن يحرك ايقاع‬
‫الساعات البطيئة ‪ .‬الزالت نورا تعيش أجواء مكهربة ‪ ،‬لم تحصل بعد على الراحة المنشودة وسط‬
‫أستياء صريح ونقد على أستحياء ‪ .‬تلك هى المشاعر التى تحصلت عليها من سكان المنزل وخاصة‬
‫بسمة التى أستحوذت على النصيب األكبر من عدم الرضا لما آلت إليه األمور ‪ ،‬ترمى بجملة أو أثنتين‬
‫ثم تختفى فى غرفتهابصحبة قلق وتوتر يزداد ايقاعهما حين تصرخ نورا فى الصالة عقب عودتها من‬
‫األتيليه ‪ :‬أنا مش فاهمة أنتى حكايتك أيه بالظبط ‪ ..‬مش عاجبك تصرفاتى ياست بسمة ‪ ..‬لو شايفة أنى‬
‫مسئولة عن اللى حصل أخرجى من أوضتك وواجهينى وقوليلى فى وشى أنى ظالمة وماعنديش قلب‬
‫بس الزم تعرفى ياهانم أن ماما كانت بتتلكك عشان تمشى من البيت ‪ .‬لم تخرج للمواجهة ولم تعلق‬
‫وأكتفت بتنهيدة لم تكتمل حين رن موبايلها ‪ .‬تسارع نبضها عندما ظهر لها رقما غريبا ‪ ..‬رددت فى‬
‫لهفة ‪ :‬ماما ‪ ..‬رفعته ألذنها فى ثانية واحدة ‪ :‬أيوه ‪.‬‬

‫‪457‬‬
‫ــ أزيك يابسمة ‪ .‬تاهت فى النبرة الذكورية بينما يطاردها الصوت ‪ :‬عاملة نفسك مش عارفانى ‪.‬‬
‫تصدعت أفكارها ‪ ..‬بدت نبرتها الخافتة تنسج من الكالم لونا وشكال ‪ :‬مين معايا ‪ .‬سألت ثم سكتت تتلقى‬
‫األجابة ‪ :‬أنا أمجد يابسمة ‪ .‬كتمت أنفاسها ‪ .‬أجتهدت للتماسك ‪ :‬أهال ‪.‬‬

‫ــ عارف أن شكلى وحش وعارف أنك مش طايقة تسمعى صوتى ‪ .‬تعمدت أن تسمعه تنهيدة من نفذ‬
‫صبره ‪ :‬خير ياأمجد ‪ ..‬عايز أيه ؟‪.‬‬

‫ــ عايز حاجات كتيرة ‪ .‬نبرة ساخرة كانت تنتظره ‪ :‬أنا مش قلتلك على اللى فيها وصارحتك بالحقيقة ‪..‬‬
‫ماعنديش حاجة تنفعك ‪ .‬لم يخدعها برأيه ‪ :‬من تالت شهور بالظبط ومن يوم ماصارحتينى بالحقيقة‬
‫كنت حأقولك فعال كالمك صح ‪ ..‬كان كل اللى يهمنى أالقى حد يساعدنى وبأى طريقة بالفلوس ماشى‬
‫بالسفر ماشى المهم أن حلمى يتحقق ‪ ..‬لكن بعد ماأخدت وقتى وراجعت تفكيرى أكتشفت حاجات مهمة‬
‫اوى ماكنتش واخد بالى منها ‪ .‬قاطعته بتذمر بعدما استنفرت كل حواسها ‪ :‬أنا بقى كنت واخدة بالى‬
‫كويس وعارفة أنك بنى أدم وصولى وطماع وبتتعامل مع بنات الناس على أنهم صيدة واللى ييجى من‬
‫وراهم يبقى غنيمة هو ده اللى يهمك ‪ ..‬نفس منطق البلطجية ‪.‬‬

‫ــ مش حأدافع عن نفسى وال حأقولك كالمك صح والغلط بس الزم تعرفى أنى من يوم مابعدت عنك‬
‫وكل حاجة فى دماغى أتغيرت ‪ ..‬كل يوم بيعدى على كنت بحارب فيه ‪..‬‬

‫ــ واللـه ده خبر كويس أنت أطوعت فى الجيش ‪ .‬قالتها وتراجعت ببطء لظهر السرير مستفزة ‪.‬‬

‫ــ ال يابسمة أنا أطوعت فى الدنيا ‪ ..‬من يوم ماتخرجت وأنا فعال بحارب فى كل مكان لغاية ما خدت‬
‫تأجيل من الجيش وحاربت لغاية مالقيت شغالنه فى شركة دهانات بمرتب معقول بعدما أشتغلت شوية‬
‫مندوب مبيعات وشوية فى مطعم باليومية وده كله كان سهل ‪ ..‬الصعب يابسمة أنى حاربت نفسى‬
‫ووقفت قصادها وفكرت كتير فى السؤال اللى كان محيرنى ومافارقنيش لحظة واحدة غير أمبارح بس ‪..‬‬
‫هو أنا فعال كنت بحب بسمة بجد والكنت بحب نفسى وشايف أنها فرصة ماتتسابش ‪ ..‬حلوة وغنية‬
‫وبنت ناس وأمها فى الخليج زى ماكنتى بتقوليلى ‪ .‬كانت نبرته تدل على أنه خاض مواجهة شرسة مع‬
‫أوجاعه النفسية ‪ :‬تفتكرى وصلت أليه يابسمة ؟ هوى بسؤاله كالمطرقة على رأسها ‪ ..‬تدرك طبعه‬
‫وأفكاره ‪ ..‬صرحت دون مواربة ‪ :‬اللى زيك يابنى بيحسب كل حاجة بميزان المكسب والخسارة‬
‫ولماسيادتك مالقيتش تحت القبة شيخ قلت بناقصها وخيرها فى غيرها ‪.‬‬
‫‪458‬‬
‫ــ لألسف كالمك برضه صح بس نسيتى حاجة مهمة تاهت منك زى ماكانت تايهة عنى ‪ ..‬عارفة هى‬
‫أيه ؟ أكلت الدهشة رأسها من سرعته فى حرق مراحل المكالمة حين أقتحم كل المشاكل بوضوح وكأنه‬
‫يعتمد أسلوب الصدمة ونظرية ماقل و دل ‪ .‬تصنعت الالمباالة ‪ :‬قول ‪.‬‬

‫ــ هو انا مين أساسا وأيه هو وضعى أصال فى الدنيا اللى يدينى الحق أحكم على الناس وأقول ده ينفع‬
‫وده ماينفعش ‪ ..‬بأمارة أيه ؟ سألها وسأل نفسه ‪ ..‬بدا متحمسا حين أجاب ‪ :‬عشان انا من عيلة كبيرة‬
‫بيكملو بقية الشهر بستر ربنا وال بأمارة البرد اللى أكل عضمنا من سكنة السطح وال بخيبتنا وبضعفنا‬
‫وأحنا بنتحايل ع الدنيا عشان ماتبهدلناش وتأسى علينا أكثر من كده ‪ ..‬سكت للحظات ثم أستأنف‬
‫بهدوء ‪ :‬وبحسبة المكسب والخسارة اللى أنتى قلتيها تفتكرى يبقى مين فينا اللى كسبان ؟!‪ .‬كانت فى‬
‫حالة سرحان حين طرح سؤاله ‪ ،‬كانت صور أخر لقاء تتالحق أمام عينيها حين أدار لها ظهره هاربا‬
‫وهى تستجديه بنبرة تسول ‪ :‬أستنى ياأمجد ‪ ..‬أستنى عايزة أتكلم معاك ‪.‬‬

‫هى تعلم جيدا أنه مدرب على أخفاء نواياه الحقيقية فى قالب من النقد الالذع بحيث اليعرف احد مقصده‬
‫الحقيقى ‪ ،‬كل مايسعى إليه أن يحتفظ لقدميه بمكان على األرض ؟ شعرت بنفسها تقاد لفخ التمهل‬
‫واللين ‪ .‬غريزة الفضول كان تدفعها للفهم ‪.‬‬

‫ــ وليه يعنى مافكرتش من بدرى وراجعت نفسك ‪ ..‬أشمعنى دلوقتى ‪.‬‬

‫ــ كان الزم أخد وقتى عشان أعرف قيمة الحاجة اللى كانت فى أيدى وفرطت فيها ‪ .‬راحت تقتفى أثر‬
‫كلماته ‪ :‬مالذى يقصده ‪ ..‬ماذا يريد ؟‪ .‬لم تجد فى صوته رغبته القديمة أن يطفوعلى السطح والتمسح‬
‫فى الكبرياء ‪ .‬خيل اليها أنه صادق حين تابع ‪ :‬ألول مرة أبقى صريح مع نفسى ومعاكى لدرجة أنى مش‬
‫مكسوف والخجالن وكأن اللى حصل بينى وبينك كان الزم يحصل عشان يفوقنى ويخلينى أبدأ صح ‪.‬‬
‫حبست أنفاسها وهى تنصت ‪ .‬ثم مرت فترة صمت بدت طويلة الى أن عاد هو ‪ :‬مش عايزة تردى وال‬
‫مش مصدقانى ‪ .‬لم يعد لديها القدرة على التفكير لتحدد موقفا ‪ :‬األتنين ‪.‬‬

‫ــ الزم تعرفى أنى مش حأقدر أحقق حاجة لوحدى أنا محتاجلك معايا وعندى أمل كبير أننا ننجح سوا ‪.‬‬
‫بقيت صامتة ‪ .‬ألح ‪ :‬مافيش كالم عايزة تقوليه ؟ أنصتت فى حيرة ‪ .‬هل تتكلم ؟ وان تكلمت ‪ ..‬فبأى‬
‫لغة ؟ لغة الماضى أم الحاضر ؟ تسأل نفسها قبل أن تتوصل لحقيقة ‪ .‬أنه األن منهزم ‪ .‬نبرته تفضحه ‪،‬‬
‫المسئولية تقتضى منها بعض الكرامة والحزم وإال ‪..‬‬
‫‪459‬‬
‫ــ زى ماأنت أخدت وقتك فى التفكير أنا كمان محتاجة أخد وقتى ‪.‬‬

‫ــ ع العموم مش حأضايقك أكتر من كده وحأسيبك براحتك وحأكلمك تانى يابسمة ‪ ..‬سالم ‪ .‬أنهى‬
‫كالمه ‪ ،‬لتجد نفسها تجيبه بنبرة ناعمة ‪ :‬سالم ‪.‬‬

‫توقفت عند زمن المكالمة التى لم تتعد الثالث دقائق ‪ ..‬هل أراد أن يقى نفسه من شر أغالق الخط فى‬
‫وجهه أم أن صدق المشاعر اليحتاج وقتا كثيرا للشرح ـ أحست بأن رأسها مهددة باألنفجار ‪ .‬كانت على‬
‫وشك التسليم بأن وراءه شيىء غامض مرتقب يحاول بأالعيبه أن يسحبها إلى منطقة ما التعرف لها‬
‫أبعاد والحدود ‪ .‬باتت أفكارها مشوشة حين طوقها أحساس من يدرك أنه أمام لغز محير ‪ .‬بالرغم من‬
‫ذلك إال أن سعادتها قد فاضت ‪ ،‬شعرت بانها قد أستعادت جزءا كبيرا من كرامتها المهدرة ‪ .‬دارت‬
‫بعينيها فى الغرفة بعدما تمددت على السرير تستعيد نشوة غابت عنها منذ شهور ‪ .‬أغمضت عينيها‬
‫بهدوء قبل أن تفتحهما سريعا حين هاجمها الخجل عندما تراجع مشهد أمها إلى خلفية األحداث بعدما‬
‫تجاوزه مشهد أمجد ومكالمته التى قلبت موازينها ‪.‬‬

‫بعد مرور ثالث ساعات من وجودها لم يتبق فى جوف هدى من مأسى اال وأقرت بها أمام فايزة التى‬
‫أنتفضت بعدها من فوق الكنبة لتعلن متحمسة عن برنامجا ترفيهيا عرضته على هدى المكومة فوق‬
‫مقعدها يالحقها الهم كما يالحق الصياد فريسته ‪ :‬قومى بينا نخرج نغير جو ‪.‬‬

‫ــ ماليش نفس ألى حاجة ‪ .‬رددتها ببطء ثم أسندت خدها على كفها بينما كررت فايزة وألحت ‪ :‬ممكن‬
‫تفكى تكشيرة وشك دى وترمى كل حاجة وراضهرك وخلينا بقى نعيش لنا يومين بدل الغم ده ‪ .‬هزت‬
‫رأسها دون تعقيب فأستأنفت فايزة بأصرار ‪ :‬الزم تعرفى ياحبيبتى أنك من النهاردة بقيتى عهدتى‬
‫وحتعيشى معايا هنا ‪ ..‬ده أنتى ربنا بعتك لى فى الوقت المظبوط واللـه كانت روحى تايهة منى وأنتى‬
‫رجعتيها ‪.‬‬

‫ــ هو مين فينا اللى محتاج للتانى يافايزة ‪ .‬أمتزجت كلماتها بأبتسامة جريحة ‪.‬‬

‫ــ أحنا األتنين محتاجين لبعض ياهدى ‪ ،‬أنتى عايشة غريبة وسط والدك اللى شايفين أن ضررك أكتر‬
‫من نفعك ومالكيش لزمة فى حياتهم ‪ .‬ثم عقدت يديها على بطنها المرتفعة لتظهر ضعفا طارئا حين‬
‫صرحت ‪ :‬واللى واقفة قدامك دى وعمالة تهديكى من ساعة ماجيتى ماشفتش يوم حلو من ساعة‬
‫ماخرجت من السجن ‪ .‬أنتبهت لكلماتها ‪ .‬أستفسرت بدهشة ‪ :‬أنتى يافايزة ‪ ..‬طب ازاى وأنتى ربنا‬
‫‪460‬‬
‫موسع عليكى بالمال وكل اللى حواليكى بيعملولك ألف حساب وبيترعبوا منك ‪ .‬سحبت نفسا أتبعته‬
‫بنظرة مقهورة ثم جلست ‪ :‬كل اللى حواليه عاملين زى الناموس مصاصين دم بيدوروا على مصلحتهم‬
‫وبس وكل اللى يهمهم حيطلعو منى بأيه ‪ .‬حبست دمعة كادت تنفلت منها حين أردفت ‪ :‬عمرى ماحسيت‬
‫أنى وحيدة ومحتاجة لحاجة فى الدنيا أد ماكان فى نفسى يبقالى بنت والأخت تبقى قريبة منى تسمعنى‬
‫وأسمعها أشكيلها وأحكيلها على وجيعتى ‪ ..‬تحبنى وتخاف على من غير طمع والمصلحة ‪ .‬قالتها‬
‫وتجلت لها بعينيها ‪ ،‬اللتين تحمل نظراتهما ايماء متواصل باألستغاثة ‪ ،‬من وحدة وعزلة قاتلتين‬
‫مدفوعة بشعور مزمن بأنها وسط جماعة تركبهم المصلحة واألنانية‪ ..‬ثم رمشت قبل أن تستقر تظرتها‬
‫فى وجه هدى تزامنا مع تغير نبرتها التى شاع فيها رنة تفاؤل ‪ :‬آهو ربنا ماخذلنيش بعتلى اللى أقرب‬
‫من بنتى وأكتر من أختى ‪ ..‬خليكى معايا ياهدى وماتعترضيش على حكمة ربنا ‪ .‬قالت جملتها األخيرة‬
‫بأستجداء‪ :‬أنا عمرى ماأعترضت على حكمته ‪.‬‬

‫ــ يبقى خالص من دلوقتى نظبط حالنا ونعيش أيامنا وكفاية اللى راح من عمرنا وأن شاء اللـه بفلوسى‬
‫نعوض كل اللى فاتنا ‪ .‬لم تمهلها وقتا للتفكير ‪ .‬تمادت فيها الحماسة لتنسج أحالما قبل أن توثقها بخطط‬
‫مستقبلية ‪ :‬أنتى من النهاردة بقيتى فى بيتك وأى خطوة حأمشيها حتبقى معايا فيها ‪..‬حنسكن سوا فى‬
‫شقتى الجديدة فى عمارتى اللى بتتبنى وحنبقى مع بعض فى المول اللى حأفتحه ‪ ..‬بس انتى أسمعى‬
‫كال مى وخليكى معايا ‪ .‬أنهت كالمها وصمتت مترقبة ‪ .‬بدت مالمحهما منكسرة ‪ ..‬امرأتان تقفان‬
‫على حافة الجرح معلقتان بين انكسار الحلم ومواجهة الواقع ‪ ..‬عاجزتان عن اللحاق بزمن رحل بكل‬
‫وعوده ‪ .‬ألتفتت إليها هدى ‪ .‬رمقتها طويال ‪ ،‬بدت وكأنها فى حالة مراجعة ‪ ،‬تحسب حسبتها بعد‬
‫خسارتها الفادحة وفقدانها األمل فى أستعادة حياتها مع أبنائها ومحاولتها المضنية فى الهروب من‬
‫خيرى الذى أصبح معادلة صعبة فى حياتها ‪ .‬شردت للحظات ثم عادت متحفظة ‪ :‬أنتى بتتكلمى يافايزة‬
‫وكأننا لسه مع بعض فى السجن وعايشين بطولنا ‪.‬‬

‫ــ بالش نضحك على بعض والدك أكيد مرتاحين من غيرك وأنا لو ماعنديش قرشين كان زمانى مرمية‬
‫لكالب السكك تنهشنى ‪ ..‬كبرى دماغك ياحبيبتى وفكرى فى نفسك ‪ .‬تحركت شفتى هدى عن أبتسامة‬
‫مترنحة ‪ :‬باين علينا كده حنكمل بقية المدة مع بعض ‪ .‬لم تستطع فايزة مقاومة رغبتها المحمومة‬
‫بالفرحة ‪ ،‬عددت لها بحماس مميزات بقاءها لجوارها بكلمات تتقافز فى رأسها تأبى األستقرار ‪ :‬أحلى‬

‫‪461‬‬
‫فسح وأحسن أكل وبعون اللـه حنقضيها خروج وصياعة وملعون أبو الدنيا ‪ .‬ثم قامت وسحبتها من‬
‫رسغها ‪ :‬قومى معايا حأعشيكى برة ‪.‬‬

‫ــ طب أستنى لما أشوف حألبس أيه ‪.‬‬

‫ــ أنتى لسه حتلبسى ! ‪.‬‬

‫ــ حأخرج بالعباية دى ‪ .‬تساءلت بأستغراب ‪.‬‬

‫ــ أنتى عارفة دى تمنها كام ‪.‬‬

‫ــ لو نورا وبسمة عرفوا حاجة زى دى كانوا قتلونى ‪.‬‬

‫ــ أنتى ياحبيبتى هنا فى كرموز مش فى محطة الرمل ‪.‬‬

‫خرجت هدى بالعباية العنابى ‪ .‬ساقتها فايزة الى حوارى كرموز فى رحلة ليلية ‪ ..‬أمسكت بيدها كطفلة‬
‫تتعرف على ماحولها ‪ ،‬تتفحص شخوص يائسة تتحرك بآلية قدرية بينما لم تتوقف فايزة عن الكالم‬
‫بالرغم من أعياء هدى التى تركت لها أذنيها تحشر فيهما حكايات تتشعب وتتفرع‪ ،‬تتالقى وتفترق عن‬
‫حارة " المنجى " كما سمعتها عن األولين عن أنفاق وسراديب بال خرائط تصل األسكندرية طولها‬
‫بعرضها وعن بيوت كانت مقابر وخرابات أصبحت قصور ‪ ،‬مع نبذة عن كل بيت أو محل يقابلهما فى‬
‫الطريق ‪ ..‬تستحضر فى لحظة تاريخ سكانه وأحوال أفراده كأنه تاريخ محفوظ ‪ ،‬اليقطع شرحها سوى‬
‫تحيات متفرقة تحصل عليها عند مدخل كل حارة ‪.‬‬

‫ــ ده أنتى مشهورة أوى يافايزة ‪.‬‬

‫ــ طبعا ده أنا بنت المعلم عبد المقصود ‪ .‬قالتها مرفوعة الرأس ثم أشارت لها على بيت من دورين نخر‬
‫الزمن واجهته أكل محارته وتركه مفضوحا عاريا بال غطاء ‪ .‬حكت لها بأبتسامة وهى تندحرج‬
‫بخطواتها عن أخر شاب عرفه وجودها قبل أن يتسلمها " عبده " وكيف أنتهت حياته القصيرة فى زقاق‬
‫" حالوة " بساطور فى " نافوخه " من يد جزار عاشق لـ " فوزية " التى تصارعا على حبها ‪.‬‬

‫نصف ساعة داخل حوارى كرموز وكانت فى حوزة هدى تاريخ معظم العائالت والذى رهنته فايزة‬
‫بأنحيازاتها الشخصية قبل أن تخرجا من المنطقة بعدما أصرت األخيرة على تتويج برنامجها بزيارة‬
‫‪462‬‬
‫لمطعم " أبو أشرف " لألسماك بمنطقة بحرى ‪ .‬لم تتشبث هدى بالرفض كانت جائعة ‪ .‬ألقى بهما‬
‫التاكسى بالقرب من المطعم حيث أقتادهما جرسونا يقف كالقرصان قبل مدخله بعشرين مترا ‪ ..‬سلوكا‬
‫أصبح معتادا فى كل مطاعم بحرى بسبب حالة الركود والجفاف اللتين طالتا الجميع ‪ .‬وسط رعاية‬
‫وحفاوة مفرطة دخلتا قاعة الطعام التى أسترخت فى هدوء وقد أخلدت الموائد الخالية الى النعاس ‪.‬‬
‫تصدى لها جرسون أخر بهيكل صارم تلقى طلبات فايزة التى أملتها عليه بترحاب اليخلو من حذر ‪،‬‬
‫هيئتها وأداءها كانتا مبعثا للريبة فى نفسه حيث أنهما الينسجمان مع قيمة الفاتورة المرتقبة التى ربما‬
‫تقترب من الخمسمائة جنيه ثم تركهما وديعة فى يد زميله الذى جاء حامال ستة أطباق " سلطة "‬
‫كبهلوان فى سيرك قبل أن يفرشهم فى لحظات على المائدة ‪ ،‬مفسحا مكانا للجمبرى والصبيط وعدد‬
‫أتنين أرز " صيادية " وسمكة بياض شابه أقتيدت غدرا من البحر يحاصرها الليمون والكرفس وعلى‬
‫رأس المائدة زجاجتين مياه معدنية ‪ ..‬لم تزر تلك النوعية من الطعام فم هدى منذ وفاة زوجها ‪ ،‬وبرغم‬
‫الجوع إال أنها تعاملت برفق مع األكل عكس فايزة التى أظهرت عدائية غير مبررة الى كل ماطالته يدها‬
‫فى حين أبدت هدى تملمال فى كرسيها ‪ ،‬الزالت محاطة بأجواء يومها الحزين الذىبدأ مع نورا وأنتهى‬
‫فى أحضان خيرى ‪ ..‬أسترجعت معظم المقاطع بالصوت والصورة قبل أن تنقل نظرها بين األكل ووجه‬
‫فايزة التى بادرتها حين شعرت بها تتلوى بالحزن ‪.‬‬

‫ــ تعدمينى ياهدى وتمشى فى جنازتى لو ماخلصتيش على األكل اللى قدامك ده كله ‪ .‬ثم نظرت لها‬
‫وأنتظرت منها أبتسامة لم تتأخر ‪ :‬بعد الشر عليكى يافايزة ‪.‬‬

‫فى طريق العودة قررتا السير فى محاولة جادة منهما لهضم محصول البحر الذى مازال جاثما فوق‬
‫بطونهما ‪ .‬حكت لها فايزة عن خططها وأحالمها المستقبلية وعن النقلة النوعية التى تنتظرها حين يرى‬
‫" المول " النور ‪ .‬لم تخف هدى أعجابها ‪ :‬عارفة يافايزة أنت فيكى حاجات كتيرة بتفكرنى بزيزيت‬
‫صاحبتى ‪.‬‬

‫ــ سيست الخياطة ‪.‬‬

‫ــ أيوه ‪ ..‬أنتو األتنين عندكم طموح ودماغكو نضيفة فى الشغل ‪ .‬قالتها بهدوء اليتناسب وثورة هواء‬
‫بحرى الذى رسم كل األشكال على العباية العنابى ‪ ،‬مرة منتفخة من الخلف حين يضرب ضربته من‬
‫تحتها ومرة ملتصقة من األمام راسما تجويفا مثيرا بين الفخذين بينما عبث بعباية فايزة السوداء التى‬
‫جعل منها جسدا داخل " براشوت " قبل أن تخمدها بيديها مفرغة الهواء منها تزامنا مع سؤالها ‪:‬‬
‫‪463‬‬
‫والدك ما اتصلوش بيكى خالص من ساعة ماجيتى عندى ‪ .‬تنهدت وهى تضبط طرحتها ‪ :‬أنا قافلة‬
‫الموبايل ‪.‬‬

‫ــ من رأيى تفتحيه ومش الزم تردى عشان ماتزوديش قلقهم ‪ .‬أنصاعت لرأيها ‪ .‬سحبته من حقيبة‬
‫يدها وهى تردد ‪ :‬أزود قلق مين يافايزة دول زى ماأنتى قلتى ماصدقو خلصو منى ‪ .‬فتحته ثم عبرتا‬
‫الشارع بأتجاه طريق موازى للكورنيش هربا من سيارة " سوزوكى " تطاردهما بها شابان أغرتهما‬
‫العبايتان فأبديا أعجابا منقطع النظير ترجماه لفعل على األرض حين توقفت السيارة بجوارهما ‪ :‬أموت‬
‫فى األبيض اللى متعاص صلصة ‪ .‬بينما مط زميله رأسه من شباك السيارة ‪ :‬وأنا نفسى فى المدملج‬
‫اللى جوه الشوال األسود ‪.‬‬

‫ــ شوال ياأبن الـ ‪ ..‬صادرت هدى بقية العبارة ‪ :‬خالص يافايزة عيب‪.‬‬

‫ــ وكمان أسمك فايزة ‪ ..‬طب بالسالمة ياحاجة ‪.‬‬

‫لم تمر خمس دقائق اال وأرتعشت يد هدى برنات موبايلها ‪ .‬لمحت الرقم ‪ ..‬سرحت ولم تعقب حين‬
‫سألتها ‪ :‬حد من والدك ‪ .‬هزت رأسها نافية ‪.‬‬

‫ــ يبقى خيرى ‪.‬‬

‫ــ أيوه ‪ .‬سكتت الرنات لتعاود من جديد وهى أكثر صخبا وألحاحا ‪ .‬فبادرت فايزة ‪ :‬يعنى مش ناوية‬
‫تردى ع الراجل اللى متشحتف عليكى ده ‪ .‬لم تجيبها ‪ .‬رغبت فى جعل السؤال معلقا ‪.‬‬

‫ــ قوليله أى حاجة ‪ ..‬تعبانة حأبقى أكلمك بعدين ‪.‬‬

‫ــ ماأقدرش ‪ ..‬ماعنديش كالم أقوله ‪.‬‬

‫لحظات من المشى الصامت والخطوات المتلكئة نفثت خاللها تنهيدة طويلة قبل أن يصفعها الهواء‬
‫فينتعش فيها زمن قديم ‪ :‬مش حتصدقى يا فايزة لوقلتلك أنا محتاجة أليه دلوقتى ‪.‬‬

‫ــ أطلبى وأنا أنفذ ياحببتى ‪ .‬قالتها بلهفة ‪.‬‬

‫‪464‬‬
‫ــ ياريت كان بأيد حد ‪ ،‬أنا محتاجة أوى لنديم ‪ ،‬محتاجة أتكلم معاه ‪ ..‬وحشنى أوى يافايزة ‪ .‬تجاهلت‬
‫األخيرة مطلبها ‪ :‬نديم اللـه يرحمه بين أيادى رب كريم ‪ ..‬خلينا فى اللى عايشين وسطينا ‪ ..‬خليكى فى‬
‫خيرى ‪ .‬سحبت نفسا وأنكمشت مالمحها حين قالت بخجل ‪ :‬مش حأكدب عليكىأنا كمان محتاجاه ‪.‬‬

‫بدت وكأنها تغازل المستحيل قبل أن تفطن فايزة لكلماتها ‪ :‬من حقك ياحبيبتى تجمعى بين األتنين‬
‫القانون والشرع فى صفك مادام فيهم واحد ميت ‪ .‬نكست رأسها حين تساءلت ‪ :‬لما هو ميت أبقى‬
‫أنا أيه ؟!‪.‬‬

‫سحبتها فايزة من معصمها ‪ :‬تعالى ياختى نركب تاكسى ونروح باين عليه الجمبرى والصبيط شقلبو‬
‫دماغك ‪.‬‬

‫نصف ساعة وكأنتا أمام باب الشقة ‪ ..‬دخلتا بأسترخاء ‪ .‬تقدمتها فايزة بروح معنوية عالية ضاعفت من‬
‫حجم صوتها ‪ :‬أول مرة أتفسح فسحة زى دى من سنين طويلة ‪ .‬أفصحت عن مشاعرها ثم جلست على‬
‫الكنبة بينما لحقت بها هدى وأستقرت بجوارها بنفسية هادئة ‪ .‬أنتابتها حالة من السلمية حين شعرت‬
‫وألول مرة بأنها تقضى يوما بال شروط والتعقيدات ‪ .‬تقاسمتا الضحك لدقائق عندما أستعادت فايزة‬
‫مشهد الشابين ‪ :‬شفتى العيلين اللى كانوا أطرنا بالعربية ‪ ..‬أبن الوسخة بيقولى سالم ياحاجة ‪ .‬زرعت‬
‫تفاصيل المشهد الضحك فى وجهيهما كطفلين بوجود ضئيل تنازعا ضراوة ريح عاتية ‪ .‬تجاوزت هدى‬
‫الضحك بسؤال ‪ :‬أنتى بتسهرى والبتنامى بدرى ‪.‬‬

‫ــ قبل النهاردة كنت بأتخمد بدرى عشان مش القيه حاجة أعملها ‪ ،‬لكن من هنا ورايح أنام وقت ماتنامى‬
‫وأصحى معاكى ‪.‬‬

‫ــ طب قومى أعملى لنا أتنين شاى نحبس بيهم أكله السمك ‪.‬‬

‫ــ كالمك صح ‪ ..‬وانتى قومى غيرى هدومك وأنا حأجهز الشاى وأحصلك ونكمل سهرتنا فى األوضة ‪.‬‬
‫قالتها بسعادة قد فاضت دون حساب ‪ ..‬بعثت هدى الحياة فى منزل فايزة برغم أحزانها وبدا وجودها‬
‫فارقا بالنسبة لها ‪.‬‬

‫‪465‬‬
‫أعدت فايزة الشاى فى عجالة وكأنها التقدر على فراقها ‪ ،‬دخلت عليها الغرفة بصينية الشاى تحمل‬
‫مالمح جديدة لم تكتشفها من قبل ‪ .‬وضعت هدى جسدها بهدوء على السرير بعدما قدمت لها فايزة‬
‫فنجانها وتربعت بجوارها ‪.‬‬

‫ــ ربنا يخليكى كنت محتاجة أوى للشاى ‪ .‬قالتها بعد أول رشفة ‪ .‬أمتدت سخونة الكالم ودفء المشاعر‬
‫بين الرفيقتين حتى منتصف الليل قبل أن تتوقف فايزة عن الكالم لتجرى أتصاال بأبنها منصور أوصته‬
‫بتشكيلة فاكهة وعلبة جاتوه ‪ ،‬أطاع األمر متمنيا عليها مهلة نصف ساعة ويكون أمرها نافذا ‪.‬‬

‫أنهى منصور المكالمة وأستعاد مالمحه الصارمة فى مواجهة ذلك الكائن الجالس أمامه فى ركن المقهى‬
‫ليحسم معه صراعا دام لربع ساعة كاملة حول تعريف معنى الصداقة ‪ ،‬مختتما الجدل بعبارة حاسمة ‪:‬‬
‫كل وقت وله أدان ياسليم ‪ ..‬كنا صحاب أه وبينا عيش وملح مابنكرش و سهرنا وهلسنا وعملنا كل‬
‫حاجة ده صحيح ‪ ..‬لكن دلوقتى خالص بح ‪ ..‬الوقت مابقاش وقتك ياسليم يعنى بالبلدى كده كان فرح‬
‫وأنفض وأخلع بقى من دماغى ودورلك على دماغ تانية أشتغل عليها ‪ .‬قالها ونظر له بحدة ‪ ..‬بدا‬
‫بالنسبة له كالموصوم ‪ .‬ملعون من يقترب منه ‪ .‬أردف بنبرة عصبية صدرت عنه حين قام يشير لجمعه‬
‫الذى أتاه مطيعا ‪ :‬أبقى حاسبه على الطلبات اللى شربها ومن هنا ورايح مافيش مشاريب تنزل على‬
‫النوتة ‪ .‬تلقى جمعه األمر بنشوة الشماتة ‪ :‬سمعت ياخويا ‪ .‬قالها وهو ينظر لسليم الذى أرخى جفنيه‬
‫كالمضروب على رأسه قبل أن يرفعهما فى وجه منصور جازا على أضراسه بعدما تقلصت قسماته‬
‫غيظا ‪ :‬براحتك يامنصور باشا أعمل مابدالك بس ماتنساش ياصاحبى الدنيا دوارة ‪ .‬شكل تظرته‬
‫وتكوينها تنطوى على تهديد ووعيد ‪ .‬لم يكترث منصور ‪ ،‬فأزدادت نظرته صالبة وظلت مصوبة فى‬
‫وجه األخير الذى أدار له ظهره قاطعا القهوة بخطوات سريعة حتى أجتاز مدخلها بينما قام سليم فى‬
‫حراسة جمعه الذى حاصره حتى دفع الحساب ثم خرج بعدها مدليا رأسه ككلب هده الجوع ‪.‬‬

‫أدار منصور المفتاح فى كالون الباب بطرف أصبعيه ألنشغال يديه التى تنوء بماتحمله من فاكهة‬
‫وجاتوه ‪ .‬أستقبلته هدى بأبتسامة وقبلتين على خديه حين دخل عليهما الغرفة ‪ :‬شكلك أتغير أوى‬
‫يامنصور عن أخر مرة شفتك فيها ‪.‬‬

‫ــ أدعيلى ياأبن الكلب خلتك بنى أدم ‪ .‬قالتها فايزة بغرور ‪.‬‬

‫‪466‬‬
‫ــ ربنا مايحرمنى منك ياما واليحرمك منى حبايبك ‪ ..‬ثم غمز لها بطرف عينه مبديا رغبة فى األنفراد‬
‫بها ‪ ،‬فأبدت تذمرا وصدمته ‪ :‬قول ياوله كل حاجة هنا ‪ ،‬اللى قاعدة جنبى دى أغلى حاجة عندى فى‬
‫الدنيا ومابخبيش عنها حاجة ‪ .‬أنصاع لرغبتها وسرد تقريره اليومى كالعادة مدعوما برسومات العمارة‬
‫التى تم تعديلها على يد المهندس " أسامة " الذى أنهى دراسة مستفيضة عن الشكل المتوقع " للمول"‬
‫على أن تبدأ أعمال البناء مع بداية الشهر ‪ .‬تفحصت فايزة الرسومات بعين مهندسة خبيرة ‪ :‬مش فاهمة‬
‫حاجة ياوله من الشخبطة دى ‪ .‬عدل لها منصور وضعية الورقة التى كانت تنظر فيها بالمقلوب ‪ .‬شجعته‬
‫ثم أظهرت له أبتسامة تأييد طمأنته على مستقبله ‪.‬‬

‫خرج حامال أوراقه فى زهو ‪ ..‬لم يتجاوز باب غرفته إال بعدما ألقى بنظرة ركنية أطمأن بها على وجود‬
‫أبوه المسجى على كنبة الطرقة بعد أن حسم خالفا نشب بينهما عندما تذمر عبده وتمسك باألقامة مع‬
‫منصور فى غرفته ‪.‬‬

‫ــ يمين باللـه ماحأنام ع الكنبة دى لو أطبقت السما على األرض ‪ ..‬حأنام معاك فى أوضتك ‪.‬‬

‫ــ ماشى يابا براحتك بس من بكره مش حيبقى ورايا شغالنة غير مراجعة دفاتر الحسابات وأفهم أيه‬
‫اللى داخل وأيه اللى طالع وماتبقاش تزعل منى بقى ‪ .‬كلمة السر التى حولت عبده لفأر فى مصيدة‬
‫فأعتلى الكنبة خاضعا راسما أبتسامة ذليلة ‪ :‬تصدق أنت عندك حق ياوله النومة فى الطرقة طراوة‬
‫وأحسن من األوض المقفولة ‪.‬‬

‫دخل منصور غرفته كالعادة مزودا بالنوتة والقلم ليدون أنجازات يومه ويرقم نجاحاته مع ابداء بعض‬
‫المالحظات التى تستدعى منه حذرا وتمهال ‪.‬‬

‫بينما ظلت فايزة وهدى تصارعا الليل بالحكايات وسط هدوء طارىء لسكان الحارة الذين همدوا ‪ ،‬فقل‬
‫صراخهم وتوقف عراكهم لتتسلم الكالب التى تحولت إلى وحوش وردية الصخب تزأر بكل متر فى‬
‫الحارة دفاعا عن حرمة أراضيها ‪ .‬فطار النوم وحل مكانه حديث الينقطع ‪ ..‬قرب الفجر تراجع الكالم‬
‫وخفت صوت فايزة الذى أتاح لهدى فرصة التأمل حين تنبهت حاستها البصرية بشكل مفاجىء لتفاصيل‬
‫المكان الذىوجدت نفسها دون ترتيب مسبق تعيش فيه ‪ .‬غرفة متواضعة فى شقة قديمة تطل نوافذها‬
‫على حارة ضيقة ‪ .‬واقع جديد يتشكل ‪ ،‬فال مفر أن تبقى مركونة فى الزاوية ‪ ،‬رهينة النسيان ‪.‬‬

‫‪467‬‬
‫خاطر ضرب رأسها قبل أن تواجهه بسؤال حائر ‪ :‬اذن ماالمطلوب ؟ الماضى البعيد والقريب ‪ ،‬يتوجب‬
‫األنسالخ منه ‪ ،‬بكل مافيه ‪ ،‬تماما مثلما يفعل الثعبان ‪ ،‬وهو يتخلص من جلده ‪ .‬أمنت من خالل تجربتها‬
‫فى الشهور الماضية بأن السجينات فئة من الناس البد أن يطولهم العذاب ! جملة ظلت تسبح فى رأسها‬
‫حتى قررت أن تطفىء النور بعدما لمحت فايزة تصارع سكرات النوم التقطع أستسالمها سوى موبايل‬
‫هدى الذى أصبح مصاب بداء الرنات ‪ ،‬لم ينقطع صوته طول الليل بل تمادى فى أستفزازه حتى صار‬
‫رنينه عذابا أرهق أعصاب فايزة التى لم تتمالك نفسها ‪ :‬كان لسانى أتقطع والأتشليت فى صوتى لما‬
‫قلتلك أفتحيه ‪ ..‬أقفليه ياختى والأقتليه ‪ .‬قالت جملتها وهى فى النزع األخير قبل أن تسلم نفسها للنوم ‪.‬‬
‫أغلقته هدى وهى تنتفض بالضحك قبل أن تقرأ على شاشته عدد المكالمات الفائتة التى كان معظمها من‬
‫نصيب خيرى ‪ .‬كانت تتحاشى طيفه قدر المستطاع ‪ ..‬معركة مؤجلة بينها وبين نفسها ‪ .‬الزال خيرى‬
‫داخلها بلمساته وأمتداداته كالجنين يأبى أن ينفلت من دفء الرحم ‪ .‬الحب بالنسبة لها كما قال عنه‬
‫صوفى عاشق ‪ :‬الحب ليس أخضر ‪ ،‬ليس أحمر ‪ ،‬ليس أصفر ‪ .‬الحب كالماء الزالل ‪ .‬اذا ماتغير لونه‬
‫اليجوز للوضوء ‪ .‬أغمضت عينيهاولم تدر أن عليها أن تخوض معركة داخلية ‪ ..‬لم تكن أول مرة تواجه‬
‫فيها الفشل ‪ ،‬غير أنه أحاط بها كما يحيطها ظالم الغرفة حين يستوى ظالم بقعة صغيرة بظالم الكون فى‬
‫ليلة غائمة ‪ ،‬وفى الظالم يختفى المكان والزمان ‪ ،‬ويختفى كل شيىء ‪ ،‬عدا شعور األنسان بنفسه ‪ ،‬أنه‬
‫وحده يتضخم الى الحد الذى يصبح فيه الشخص الواحد أثنين ‪ .‬ضاقت بالظالم ‪ ..‬أضاءت " أباجورة "‬
‫نحاس تسكن فوق الـ " كومودينو " نورها أصفر مرتعش ‪ ،‬فضاعف من حجم شعورها بأنها الزالت‬
‫مقيمة فى عنبر " ج " بسجن النساء منسجمة تماما مع نغمات صادرة عن فايزة التى شوه وجهها‬
‫النوم ‪ ،‬أنتفخ خديها مع كل زفرة يتبعها شخير ‪ .‬أغمضت عينيها لتنام ‪ .‬أنتظرت حضوره الذى لم يأت ‪..‬‬
‫كانت األفكار والهواجس هى التى أتت ‪ .‬اال أنها حبست أنفاسها حين طالعها شبح " عبد المقصود "‬
‫والد فايزة من داخل بروازه يطل عليها مبتسما بأبتسامة أنتهت موضتها منذ عصر الفنان‬
‫" بشارة واكيم " ‪.‬‬

‫لم يشجعها شخير فايزة على الغوص فى كتلة الزمن الكبيس ‪..‬باتت ليلتها وبها حسرة التموت ‪ ،‬وغصة‬
‫فى الحلق ‪ ،‬التخرج والتدخل ‪.‬‬

‫‪00000000000000‬‬
‫‪468‬‬
‫صباح اليوم التالى خرج يوسف من غرفته مبكرا متوجها لمكتب المهندس " ناجى " تفوح منه رائحة‬
‫الــ " وان مان شو " أعلن عن دهشته حين ظهرت له بسمة ملفوفة على نفسها داخل كرسى األنتريه‬
‫فى الصالة ‪ ،‬تضم ركبتيها لصدرها ‪.‬‬

‫ــ أيه اللى مصحيكى بدرى كده ؟ ‪.‬‬

‫ــ أنا مانمتش أصال ‪ .‬قالتها بوهن ‪ .‬نقب فى وجهها حين أقترب منها ‪ :‬قلقانة على ماما ‪ .‬هزت رأسها‬
‫دون أن ترفع عينيها ‪ .‬فأضاف ‪ :‬ماتقلقيش أكيد النهاردة حترد علينا ولما حأكلمها أن شاء اللـه حأقنعها‬
‫ترجع البيت ‪.‬‬

‫ــ أنا عارفة يايوسف أن الحكاية دى أخرها يومين تالتة وتخلص ‪ .‬بدت نبرتها مشحونة بالقلق ‪.‬‬

‫ــ طب فين المشكلة؟ ‪.‬‬

‫ــ أمجد كلمنى أمبارح وحاسه من كالمه أنه أتغير وبقى بنى أدم تانى ‪ ..‬المشكلة أنى مش قادرة أخد‬
‫قرار فى أى حاجة ‪ .‬نفخ فى ضيق ‪ :‬أمجد تانى يابسمة‪ ..‬ثم نظر فى ساعته ‪ :‬وهو ده اللى مقعدك لغاية‬
‫دلوقتى صاحية ‪ ..‬على العموم لما أرجع نبقى نتكلم سوا ونشوف الدنيا ماشية أزاى ‪ .‬أتجه ناحية الباب‬
‫وخرج تاركا أخته فريسة للتفكير والحيرة ‪ .‬لم تكن لتستطيع تحديد موقفا والقياس مدى القبول أو‬
‫الرفض ‪ .‬أى قرار ستنحاز اليه كالمضى فى طريق التعرف الى أين ينتهى ‪ .‬خيل اليها بأن رأسها يزن‬
‫أكثر من جسمها ‪ ،‬وبأنها لن تقدر على حملها طويال ‪ .‬قامت كالمساطيل تترنح حتى باب غرفتها ‪ ،‬دخلت‬
‫بخطوات أرنب حذر كى التشعر بها نورا ‪ ،‬زحفت ببطء على السرير قبل أن يهمد وعيها وتنام ‪.‬‬

‫حديث صباحى صار ألزاميا يبدأ عادة بتقرير مفصل اليترك فيه يوسف تفصيلة اال ويذكرها والتفوته‬
‫شاردة والواردة إال ويستعرضها أمام المهندسة " إيمان " آخذا فى أعتباره كل توجيهاتها ومالحظاتها‬
‫مأخذ الجد كتلميذ مطيع ‪ .‬اليقطع أنصاتها سوى انشغالها بتجهيز األفطار على مكتب يوسف الذى يتحول‬
‫كل صباح إلى مائدة عامرة ‪ ..‬عادة يومية روضته إيمان عليها منذ أسبوعين تقريبا ‪ ..‬لفة سندوتشات‬
‫تمثل فيها الجبنة الـ " ريكفورد " دور البطولة منذ أن صرح يوسف أمامها بأنها المفضلة لديه ‪ ،‬بجانب‬
‫حضور منتظم لـ " تورمس " شاى أخضر حرصت على أن يتقبل يوسف وجوده مع تطعيمه يوميا‬

‫‪469‬‬
‫بفنجان صغير حتى أستسلم أخيرا لمذاقه وكأنها تهيأه لما سيكون عليه !!‪ .‬كالعادة ينهى أخر رشفة‬
‫واقفا قبل أن يتوجه للموقع مصحوبا بجملة معتادة ‪ :‬لو فيه أى حاجة يايوسف كلمنى فى التليفون ‪ .‬إال‬
‫أنه ودون أى حاجة تتعدد مكالماتهما طوال اليوم ‪ ،‬يتحجج بأتفه األسباب لسماع صوتها قبل أن تكشف‬
‫ـ هى ـ عن نواياه بضحكة ‪ :‬بتتصل يايوسف عشان تقولى أن الشمس حامية فى الموقع ‪ ..‬طب أقف‬
‫ياأخى فى أى حتة ضل ‪ .‬أجابة منطقية أجبرته على أنهاء المكالمة بأبتسامة عريضة قبل أن يحين‬
‫دورها فى األتصال ‪ :‬كلمت المهندس ناجى من شويه ولمحت له أنك طول النهار بتتنقل من الموقع‬
‫لشركة الحديد ومخازن األسمنت وبعد كده بترجع المكتب تانى ‪ ..‬سكت شوية وبعدها قالى اللى أنتى‬
‫شايفاه صح أعمليه ‪ .‬أستقبل كلماتها المبهمة ‪ :‬مش فاهم حاجة ‪.‬‬

‫ــ حأطلع العربية القديمة من الجراج وحتبقى معاك تحت أيدك تخلص بيها شغل المكتب ‪ ،‬ماينفعش‬
‫يايوسف نص وقتك تضيعه فى المواصالت ‪ .‬شهدت نهاية المكالمة حضور لفظ " واو " على لسان‬
‫يوسف مضيفا فى فرحة ‪ :‬مش عارف أقولك أيه على المفاجاة الجامدة دى ‪.‬‬

‫ــ ماتقولش حاجة ده مش وقت كالم خالص ‪ ،‬المهم عندى أنك تثبت نفسك وماتخليش الفرصة تضيع‬
‫من أيدك ‪ .‬أعتدل فى وقفته وسط سياخ الحديد وشكاير األسمنت وتالل الرمل ‪ :‬تمام يافندم ‪.‬‬

‫عند المغرب ينتهى يومه فى الموقع عائدا للمكتب بجبين أحمر لفحته الشمس وقميص وبنطلون صبغا‬
‫بتراب الموقع ‪ .‬نظام يومى معتاد ‪ ،‬لم يقر فى اللوائح ‪ .‬بدعة توافقا عليها سويا ‪ ،‬اليعرف لها سببا‬
‫ظاهريا ‪ ،‬فالمكتب ليس فى طريق عودته للبيت والحتى مجبرا على التوقيع فى كشف األنصراف ‪ ..‬ربما‬
‫أراد أستدعاء حالة قديمة حرم منها قصرا أو ربما لشيىء ماالزال يتشكل داخله دون أن ينتبه لمسماه‬
‫أو حتى يسعى لتعريفه ‪ .‬تلك الحالة التى تالزمه هى نتيجة مباشرة لألهتمام الشديد التى تبديه المهندسة‬
‫إيمان تجاهه ‪ ..‬أهتمام رصين عاقل مدعوما بشخصية قوية وخبرة سابقة عن تجربة فاشلة مهدت لها‬
‫الطريق لفرض نفوذها وبسط هيمنتها على تفكيره وأراءه بعدما مارست عليه ضغوطا أنثوية خالل‬
‫الفترة القصيرة الماضية حين أحتوت أحباطاته بالنصيحة والتشجيع عندما لعبت أمامه كل األدوار‬
‫النسائية ‪ ،‬جسدت األم بعطفها وخوفها على مستقبله ودور الصديقة الواعية حين سمعت منه وسمع‬
‫منها والمديرة الخبيرة التى تقود وتوجه ‪ ،‬فصارت فى وقت قياسى الوكيل الحصرى والراعى الرسمى‬
‫لكل تحركاته وتصرفاته مسلما لها عقله ونفسه عن طيب خاطر كجنديا مخلصا تحت قيادتها بعدما تخطى‬
‫على يديها هزيمته النفسية ‪.‬‬
‫‪470‬‬
‫جلسة هادئة بعد يوم عمل شاق ‪ ،‬أسترخى يوسف خلف مكتبه فاردا ساقيه مدليا رأسه على صدره بفعل‬
‫األرهاق بينما بات كل جزء فيه تحت الفحص والتمحيص من عينى ايمان التى تجلس بجواره كموقع‬
‫مفضل لها ‪ ،‬اليفصلها عنه سوى شبر واحد وكأن الحدود والحواجز بينهما فى طريقها للزوال ‪.‬‬

‫أعلنته بخبر تأجيل أستالمه للسيارة الفيات ليوم السبت القادم بعدما نبهت على " حسين " سائق‬
‫المهندس ناجى بعالج بعض الجروح والكدمات التى يعانى منها رفرف العربية الشمال مع تغيير‬
‫" العفشة " باألضافة إلى " رشة الفنش " األخيرة ‪ ،‬وجارى فى تلك اللحظة تنفيذ األمر فى ورشة‬
‫" سوستة " بمنطقة العصافرة على أن يتسلمها عروسة " مزة " كما صرح عم حسين فى اخر مكالمة‬
‫للمهندسة منذ ساعة ‪.‬‬

‫نظرة أعجاب وتقدير أستدعت منه أن يلوى رقبته ليواجهها بأبتسامة عريضة كادت تالمس شحمتى‬
‫أذنيه ‪ ،‬وهى كل مايملكه يوسف من أمكانيات لتقديمها أليمان التى لم تنقطع مفاجأتها المذهلة‬
‫المدروسة ‪ :‬المهندس أحمد والمهندس هانى حيخلصو شغلهم فى أبراج العجمى األسبوع الجاى وبينى‬
‫وبينك مارضتش أخليهم يرجعو على موقع الكومباوند وبلغتهم يروحو على أبراج سموحة يتابعو‬
‫التشطيبات وفضلت أنك تبقى موجود لوحدك فى الموقع ‪ .‬دار بجسده مستغربا حتى المست ركبتيه جانب‬
‫فخذها ‪ :‬وده معناه أيه ؟ ‪.‬‬

‫ــ لما تبقى لوحدك حتكون فى الصورة وده اللى أنا عايزة أوصله عنك للمهندس ناجى عشان ناوية‬
‫أجيبلك زيادة محترمة على مرتبك وان شاء اللـه حتوصل لـ ‪ . %100‬زال أرهاقه فجأة وتبددت أوجاع‬
‫قدميه وأختلطت حمرة الفرح بحمرة الشمس التى الزالت تلهب وجهه ‪ ..‬يود لو أستطاع أن يحملها بين‬
‫يديه ويرفعها كطفلة ويدور بها فى حجرة المكتب ‪ ..‬قرأت فى عينيه فرحته الطفولية فنقرت بأناملها‬
‫المنبسطة على سطح المكتب نقرا ملحنا وكأن ايقاعه يقول " أنت لسه شفت حاجة " ‪ .‬تأهبت حواسهما‬
‫فجأة حين ألتقطت أذانهما صوت أقدام تقترب فى الطرقة المؤدية إلى باب المكتب ‪ ..‬سحبت يدها إلى‬
‫حجرها وتماسكت فى جلستها أنتظارا لظهور القادم ‪ .‬نقرة واحدة خافتة وأنفتح الباب وطل القادم برأسه‬
‫مستطلعا ‪ .‬كانت هدير! ‪.‬‬

‫مفاجأة مذهلة ‪ ..‬شعر يوسف بأرتباك يزعزع قلبه ويخلخل ركبته ويجعل الدنيا تتأرجح حين تلقى صدمة‬
‫ظهورها واقفا ‪ .‬بدا وكأنه مصاب بداء الذعر قبل أن تصيبه المفاجأة بالخرس بينما بقيت هدير فى‬

‫‪471‬‬
‫مكانها للحظات وقد كسى وجهها لمعانا بدا منسجما مع مكياجها الخفيف وقصة شعرها الجديدة‬
‫المقتبسة عن الفنانة " غادة عادل " تعطلت أبتسامتها على وضعية ثابته حين فاجأها مشهد الجلسة‬
‫المريبة ‪ ..‬نقلت نظرتها بينهما تستشعر أرتباكهما ‪ .‬لم تستطع أخفاء دهشتها فى حين غمر المكان توتر‬
‫بمجرد دخولها ‪ ،‬حاولت ايمان أن تبدو طبيعية فبادرتها حين قامت من مكانها ‪ :‬أيه المفاجأة الحلوة‬
‫دى ‪ .‬تصنعت أبتسامة مترددة ثم بادلتها القبالت ‪.‬‬

‫ــ وحشتينى أوى ياباشمهندسة ‪ .‬قالت هديرقبل أن تميل برأسها موجهة كالمها ليوسف ‪ :‬أزيك‬
‫يايوسف ‪ .‬مط رقبته وهو يحرك حدقتيه شماال ويمينا وكأنه يبحث عن رد ‪ :‬أنا ‪ ..‬الحمد اللـه كويس ‪.‬‬

‫ــ خلصت شغلى بدرى فى الشركة وقلت أجى أشوف المهندس ناجى أسلم عليه وبالمرة أخد رأيه فى‬
‫شوية حاجات ‪ .‬قالت بنبرة دفاعية وكأنها تبرر سبب وجودها ‪ .‬أنصتت لها ايمان بغير أكتراث ثم عادت‬
‫لنفس جلستها ملتصقة بمكتب يوسف وكأنها تريد ايصال رسالة " المكان محجوز " بينما ظلت هدير‬
‫تحاصرهما بنظرات فضولية ‪ :‬هو أنتو بتكملو شغل هنا ‪.‬‬

‫ــ أيوه ‪ .‬أجابة مقتضبة رددتها ايمان وهى تعبث ببعض األوراق المطوية على المكتب ‪ .‬أقتربت هدير‬
‫من مكتبها القديم ‪ ،‬تحسست سطحه وعالمات التأثر تزحف على مالمحها ورعشة داخلية طالت جسدها‬
‫التى أحتوته داخل بلوزة كنارى ‪ ،‬ربما تعمدت أن ترتديها حيث أن لها ذكرى سعيدة فى قلبها حين‬
‫أرتدتها ألول مرة فى بداية الصيف الماضى فى لقاء رومانسى بحدائق المنتزة جمعها مع يوسف الذى‬
‫أثنى عليها مبهورا ‪ :‬البلوزة دى مخلية جسمك زى ملكات الجمال ‪ .‬قالها وكان ينظر لصدرها المحبوس‬
‫داخل قفص الكناريا ‪.‬‬

‫ظل يوسف واقفا مكانه يراقب وقفتها قبل أن تنهى حالة التأمل وتستدير ببطء وتواجهه بنظرة طويلة لم‬
‫يفلح فى الهرب منها حين قرأ فيها ندما وشوقا ‪..‬نظرات متبادلة أطاحت بهما خارج حدود الزمان‬
‫والمكان ‪ .‬تأملت مالمحه بتركيز ‪ ..‬نظراته سحبتها لعشق الزال مقيما فيها ‪ ..‬هاهما العينان العميقتان‬
‫اللتان سلبتا عقلها ولم ينفع معهما توسال والعنادا ‪ .‬لم يطرف لها رمش حتى غابت فيهما ‪ ،‬ثم عادت‬
‫بعد لحظات تحمل صوتا متيما‪ :‬عامل أيه يايوسف ‪ .‬أرخى جفنيه ‪ :‬كويس ‪ .‬ميز نبرتها المنكسرة حين‬
‫أنصت ‪ :‬واضح أنك مبسوط هنا فى المكتب ‪ .‬التنتظر عن سؤالها جوابا ‪ .‬أستطردت وهى تعبث فى‬
‫مالمحه ‪ :‬أنت أجازتك أمتى ؟ ظلت ايمان تتابعهما من مكانها وهى حبيسة غيرة مفاجئة حين سمعت‬
‫سؤالها بينما أشاح يوسف بوجهه متجنبا لقاء األعين ‪ :‬مابناخدش أجازات اليومين دول ‪ .‬كانت تحاول‬
‫‪472‬‬
‫فتح ثغرة فى قلبه الموصود ‪ .‬لم تكن تسمع بقدر ماكانت تبحث فى عينيه عن عرشها المفقود الذى لم‬
‫تجد له أثرا ‪.‬‬

‫" إ يمان " بدالها المشهد غير محتمل تململت فى كرسيها قبل أن تبدى أستياءا أنعكس فى لهجتها ‪ :‬هو‬
‫أنتو حتفضلو واقفين متخشبين كده ‪ .‬تلقت أذنى يوسف النبرة المستهجنة فأبتعد بعينيه مستشعرا‬
‫الحرج ‪ :‬أكيد المهندسة هدير ماعندهاش وقت تقعد ‪.‬‬

‫ــ ال أبدا بالعكس ‪ .‬قالتها بحماسة لم تجد لها صدى بل أنها وجدت وضعا ملتبسا حين لمحت إيمان‬
‫ترمق يوسف بغيظ ‪ ،‬بينما لم تتراجع هدير عن هدفها الخفى التى جاءت من أجله ‪ .‬علقت نظرتها‬
‫بوجهه ‪ :‬عندك وقت نخرج نتكلم سوا ‪ .‬ألتزم الصمت أحتراما للمهندسة التى شعرت بنفسها تجتاز‬
‫أختبارا صعبا فى وجود هدير ‪ ..‬تملكتها مخاوف مشروعة ‪ ،‬حاولت أن تخفى ذلك النفور الذى أعتراها‬
‫حين سمعت جملة هدير األخيرة فبدت فى جلستها كأنها تتلوى ‪ .‬عضت شفتها وهى تتابع مشهد‬
‫النظرات الصامت فألقت بجملة مقتضبة ‪ :‬جاى معايا أوصلك وال لسه قاعد ؟! تنبه لوجودها حين قامت‬
‫من مكانها تكتم أنفعالها ‪ .‬نظر لها بضعف ‪ ..‬سلم أمره لصاحب األمر ‪ .‬من هو صاحب األمر هنا ؟ لم‬
‫يهتم بالجواب ‪ ،‬هو بكل األحوال رهينة اليملك موقفا سوى األلتزام بحقائق الواقع ‪ ،‬فالتجربة خير‬
‫معلم ‪ ،‬البد من العودة الى حجمك وحقيقتك ‪ .‬قال لنفسه ‪ ..‬أدرك أن الموقف اليحتمل خطأ وال ميوعة ‪.‬‬
‫أخلت ايمان أخر مواقعها األنفعالية حين أقتربت من هدير ‪ :‬معلش مش حأقدر أقعد معاكى أكتر من كده‬
‫الزم أروح ‪ .‬أنهت جملتها وتراجعت حتى الباب وتركت ليوسف هامشا من الوقت ليفكر ويقرر ‪ .‬فتحت‬
‫الباب بعنف ومالمح ناطقة بأقصى درجات التوتر بينما ألحت هدير بعينيها ‪ :‬جاى معايا ‪ .‬تخلى عن‬
‫تردده مستعينا بنظرة كبرياء قد فارقته منذ شهور ‪ :‬المهندسة ايمان طريقها قريب من طريقى ‪ .‬جملة‬
‫ساحقة كانت كافية لتدرك فداحة خسارتها ‪ .‬قال جملته بنبرة متحدية وبقايا جريمتها الزالت عالقة‬
‫بمالمحه ‪ .‬ثم ادار لها ظهره وأنصرف بهدوء وصفع الباب خلفه بينما ظلت تتعقبه بالنظرات وجسدها‬
‫كله ينتفض وعلى وجهها عالمات من يودع شيئاعزيزا على نفسه ‪ .‬لم تتحرك من مكانها تنتظر قرارا ‪،‬‬
‫بشأن كرامة ذبحت منذ لحظات ‪ .‬فما كان منها إال أن بصقت داخلها على كل شيىء ‪ ،‬وأى شيىء ‪ ،‬حيث‬
‫لم تستطع أن تبصق علنا فى وجه من رفع شعارا زائفا‪ :‬األصول والعادات هى اللى بتحكمنا وأياك تنسى‬
‫أنتى بنت مين ‪ .‬فى تلك اللحظة وصلت ايمان الخر الطرقة المؤدية لباب الخروج قبل أن تسحب فى‬
‫طريقها حقيبة يدها وهى تنصت بأرتياح لصوت أقدام يوسف التى تالحقها ‪ ..‬أبتسامة النصر هى‬

‫‪473‬‬
‫ماقدمته ليوسف حين خرجا سويا من باب المكتب ‪ .‬نجحت بأمتياز فى أزاحة عقبة هدير عن قلعتها التى‬
‫تحصنت بها فى قلبه بالرغم من أدراكها بأنه الزال لها وجود فى مكان أخر داخله ‪ .‬غير انها على يقين‬
‫بأنه على وشك انتزاعها ولفظها غير مأسوفا عليها ‪.‬‬

‫‪00000000000‬‬

‫اليوم الثانى ‪ ..‬الزمت هدى السرير حتى الظهر تجاورها فايزة جثة هامدة على غير عادتها ‪ .‬أرهقهما‬
‫السهر والكالم ‪ ،‬فتحت عينيها على صوت جيران فايزة يتداولون أخبار األمس عبر النوافذ والشرفات‬
‫التى اليفصلها عن بعضها سوى ثالثة أمتار ‪ ،‬سمعت وهى الزالت تستعيد وعيها حكاية الزوج الذى أتم‬
‫باألمس شهره السادس على أعتزاله مهام الزوجية بعد أن حققت " الفياجرا " فشال ذريعا فى حالته ‪،‬‬
‫كما أطلعت على سر " حنان " زوجة " عزت فيروس " صاحب أصغر عربية كبدة فى زمام كرموز‬
‫كلها بناءا على تصنيف أطلقه " أشرف العسال " وهو واحد من كبار أكلى الكبدة بالمنطقة ‪ ،‬والتى‬
‫تعيش حالة حب سرية مع " صبحى " عامل محارة حيث تم رصدها باألمس بصحبته فى جنينة محطة‬
‫مصر ‪ .‬أنتهت النشرة بخبر أخير يتناول بالتحليل قضية الخالف المتصاعد على دور " جمعية " بخمسه‬
‫جنيه يوميا بين فاطمة وسلفتها وجارى حتى اللحظة تقريب وجهات النظر ‪ .‬ال أسرار فى هذه الحارة ‪.‬‬

‫أستدارت هدى على جنبها األيمن فأصبحت وجها لوجه أمام فايزة ‪ ..‬تأملت مالمحها مبتسمة ‪ ،‬كل ملمح‬
‫فيها أعادها لعنبر " ج " نفس النومة ‪ ،‬صوت األنفاس ‪ ،‬حتى ايقاع تشخيرها لم يتغير ‪ .‬لكزتها فى‬
‫خدها ‪ :‬أصحى يافايزة أحنا بقينا الضهر بنصف عين وبشفة مدالة أنحرف منها الكالم ‪ :‬سبينى عشرة‬
‫دقايق بس ياهدى ‪ ..‬المؤذى عبده قلقنى من نومى ‪.‬كان عبده قد غادر فى هدوء منذ ساعة بعدما باءت‬
‫محاولته لتبديل جلبابه بالفشل على أثر غضبة تلقاها من فايزة بعد ألحاحه بالطرق على الباب ‪ :‬ياوليه‬
‫ناولينى أى جالبية من عندك عايز أروح القهوة ‪.‬‬

‫ــ روح باللى عليك وأصتبح على الصبح ‪ .‬قالتها صارخة متوعدة ‪.‬‬

‫ــ ياوليه عيب عليكى أنا واقف باللباس ‪.‬‬

‫ــ ورحمة أبويا لو ماغورتش فى داهية حأطلع أفرج عليك الحارة ‪ .‬راجع نفسه وفضل الخروج بجلباب‬
‫كان مكوما على أرضية الحمام ينتظر دوره فى الغسيل ‪.‬‬
‫‪474‬‬
‫عند العصر كان شاى العصارى حاضرا أمامهما فى الصالة ‪ .‬تناولت هدى فنجانها وهى الزالت تتحفظ‬
‫على األندماج فى البيئة الجديدة بينما تلهث فايزة خلفها بالنصائح والترغيب ‪ ،‬تستعجل الفوز بها ‪،‬‬
‫كررت عليها وجهة نظرها ‪ :‬وهللا مالناش غير بعض ياهدى ‪ ،‬أيدى فى أيدك يابت ونعيش حياتنا ‪.‬‬
‫أغمضت األخيرة عينيها مع أول رشفة متقبلة الفكرة فالوجع واحد والشكوى عامة ‪ .‬أظهرت هدى‬
‫أستغرابا ودهشة كما أبدت أعجابا بتفكير فايزة فى ادارتها لشئون حياتها حين طرحت عليها حلوال‬
‫مستقبلية تنفعها عند أتخاذ القرار الصعب ‪.‬‬

‫ــ مش حأقولك بصريح العبارة أن والدك مش عايزينك والحتى بيستعروا منك ‪ ..‬أنسى الكالم ده كله‬
‫وخلينا نحسبها بالعقل ‪ ،‬بس األول الزم أسألك ‪ ..‬والدك أصال عايزين منك أيه وأنتى عايزة منهم أيه ؟‬
‫سندت خدها على كفها ‪ :‬معناه أيه السؤال ده ‪ ..‬األم حتعوز أيه من عيالها ؟ ‪.‬‬

‫ــ أى أم فى الدنيا فرحتها ماتتوصفش لما تالقى عيالها حواليها وقدام عينيها وفرحتها تكبر وتزيد لما‬
‫تطمن على مستقبلهم وتوصل كل واحد فيهم لبيته وهمه كمان مايقدروش يبعدوا عنها عشان هى بتبقى‬
‫الحضن والسند ليهم بعد ربنا ‪ .‬ضاقت عينيها تبحث غن فهم ‪ :‬عايزة توصلى أليه ؟ ‪.‬‬

‫ــ غيابك تسع سنين فى السجن شقلب الحال وغير النفسية وخلى البعيد عن العين بعيد عن القلب ‪.‬‬
‫الجملة األخيرة كانت كافية ألنفعال نبرتها ‪ :‬مهما كان الغياب أنا أمهم ‪.‬‬

‫ــ أم باألسم من غير فعل و ماتأخنيش يعنى فى دى الكلمة وجودك زى عدمه بالنسبة لهم وده مش‬
‫معناته أن همه وحشين والقلبهم جاحد والأنتى لسمح اللـه غبية عليهم ومش شايفين منك ريق حلو ‪.‬‬

‫ــ أمال عشان أيه ؟ قالتها وأستعجلت الرد ‪.‬‬

‫ــ عشان بنتك نورا ماسابتش حاجة إال وعملتها لهم ‪..‬عوضتهم حنية األم كأنهم والدها بالظبط علمت‬
‫وكبرت وصرفت وأكلت ‪ ..‬سدت مكانك وزيادة ياهدى ‪ ،‬ولما أنتى طلعتى من السجن كان عيالك أستكفوا‬
‫وشبعوا وماعدش ناقصهم حاجة والفارق حتى معاهم خروجك من عدمه وأنتى ياحبة عينى معذورة‬
‫مالقتيش فتفوتة تقدميها لهم عشان يحسو بوجودك ويعرفوا أن أمهم رجعتلهم ‪ .‬سكتت للحظات كى‬
‫تتهيأ لكشف أسباب الخلل ‪ .‬أستطردت ‪ :‬أنتى ماحلتكيش حاجة زيادة عن نورا عشان تزغللى بيها‬
‫عينيهم ‪ ،‬ال أنتى صاحبة مال والعارفة حاجة عن خصوصياتهم والفاهمة مشاكلهم عشان تقربى منهم‬

‫‪475‬‬
‫وتدخلى فى زوارقهم وهمه كمان مش قادرين يتعاملو معاكى على انك أمهم اللى كانت عايشة معاهم من‬
‫تسع سنين ‪.‬‬

‫بدا األمر مرهقا بالنسبة لها وهى تسلم برؤيتها ‪ .‬بصعوبة أستخرجت عذاباتها وأحباطاتها ووضعتهما‬
‫أمام فايزة التى تابعتها بأسى ومالمحها ترتج مع كل دمعة من عينى صديقتها ‪.‬‬

‫ــ عندك حق فى كل اللى قلتيه ‪ ،‬وجودى معاهم كان زى عدمه والفرق الوحيد اللى كان بينى وبين نورا‬
‫أنى سودت عيشتهم وضيعت أحالمهم وخلتهم تحت رحمة الناس يعايروهم بأمهم ‪ ..‬هو ده اللى أنا‬
‫قدرت أعمله معاهم من ساعة ماخرجت من السجن ‪.‬‬

‫ــ عشان كده ياهدى بأقولك أحسبيها بالعقل ‪.‬‬

‫ــ يعنى أنتى شايفة أيه ؟ طرحت سؤالها بعد أن ألتحقت الصدمة بمالمحها قبل أن تقضى فايزة بكلماتها‬
‫على ماتبقى لها من أمل ‪.‬‬

‫ــ الست مننا ياهدى لما تعجز وتكبر فى السن وصحتها تتدهور ‪ ..‬فى أول األمر والدها بيتلمو حواليها‬
‫ويتخانقو مع بعض كل واحد فيهم عايز ياخدها عنده ويراعيها ‪ ،‬أسبوع أتنين شهر بالكتير وبعدها كل‬
‫واحد يبقى عايز يرميها ع التانى ويخلص منها ‪ ..‬هزت رأسها بأشارة مفاجئة ‪ :‬فهمتك ‪ ..‬يعنى كفاية‬
‫لحد كده وألم نفسى وأبقى خفيفة أحسن ما ‪ ..‬أبتلعت بقية الجملة وأحتفظت بمرارتها ‪ ،‬فأختصرت فايزة‬
‫المعنى ‪ :‬بالظبط كده ‪ .‬تقبلت النظرية وتجاوزتها بنبرة تسليم ‪ :‬برنامجنا أيه النهاردة ‪ .‬تأملتها فايزة قبل‬
‫أن تنفرج عقدة مالمحها بأبتسامة ‪ :‬أى حاجة تبسطك أنا معاكى فيها ‪ .‬قامت متكاسلة أو ربما محبطة ‪:‬‬
‫حأدخل أريح جسمى شوية على ماتفكرى حنعمل أيه ‪ .‬توجهت الى الغرفة ‪ ..‬بدت كصاحبة البيت !! ‪.‬‬

‫‪0000000000‬‬

‫فتح يوسف باب الشقة ‪ ..‬الصالة خالية إال من رائحة البخور التى هاجمت أنفه ‪ .‬تلفت متشمما وهو‬
‫يتساءل ‪ :‬دول عاملين زار وال أيه ؟!‪.‬‬

‫تخلى عن طقوسه اليومية ‪ .‬لم يدخل الحمام ليأخذ " دشه " المعتاد ‪ .‬أتجه مباشرة لغرفته بصحبة‬
‫مشاعر متناقضة وفى مخيلته صورتان ‪ ،‬أحداهما لهدير واألخرى أليمان ‪ .‬الزالت أصداء زيارة هدير لم‬
‫تبرح خياله ‪ .‬أكتفى بخلع قميصه وبنطلونه وركن حذاءه بجوار السرير ثم جلس على حافته بصدر‬
‫‪476‬‬
‫عارى و " بوكسر " ‪ .‬بدا ساهما مشوشا قبل أن يستعيد تركيزه حين وضع رأسه بين كفيه خافضا‬
‫بصره متأمال أرضية الغرفة وكأنه يتابع المشهد من نافذة ‪ .‬لم يكن موهوبا فى األستنتاج أو التحليل‬
‫ولكنه كان مصرا على فهم الحالة ‪ .‬ماحدث اليوم أعتبره زلزاال مدويا وتطورا مذهال‪ .‬قفزت أبتسامة‬
‫على وجهه تقاسمتها عينيه وشفتيه ‪ ..‬تملكه شعور من أستعاد كرامته عندما أستحضر اللقطة األخيرة‬
‫قبل خروجه من حجرة مكتبه حين أدار ظهره لهدير تاركا لها حسرة وكرامة مشروخة ‪ .‬تذكر نظرة‬
‫عينيها وهو يسحب نفسا منتشيا ‪ ..‬نظرة كانت تحمل أستغاثات مكتومة وأعتذار بال تحفظ الينقصه‬
‫سوى الركوع عند قدميه طلبا للمغفرة ‪ .‬كما لم يغب عنه موقف ايمان ‪ ،‬صوتها المنفعل وحركاتها‬
‫العصبية فى وجود هدير يدفعه الى شرود مفاجىء ‪ ..‬قلقها وتوترها الشديدين وهو بجوارها فى السيارة‬
‫كان يثير داخله عالمات التعجب ‪ ..‬التجهم والصمت كانا شعارها ‪ .‬لم تنبس بكلمة طول الطريق حتى‬
‫سلمته لمدخل العمارة الذى اجتازه مع عالمة أستفهام كبيرة على سؤال أكبر ‪ :‬هل هى تحبه ؟ ولماذا‬
‫أختارته هو بالذات ؟ جر السؤال خلفه أوجاعا حين ابدى قلقا ‪ :‬هل يكون مصيره مع ايمان مثل مصيره‬
‫مع هدير ؟ فكر طويال فى أجابة للسؤال ‪ .‬اليمكن الوصول الى أجابة قاطعة ‪ .‬مادام داخل المشهد ‪ .‬إال‬
‫أنه حاكم السؤال ببرود شديد مستعينا بنظرية " ال أملك ماأخسره " ‪ .‬خاطرا أخر أستدعى ايمان حين‬
‫قام بـ " البوكسر " وواجه جهاز الكمبيوتر تزامنا مع لحظة فتحه ؟ لم يشأ أن يتخذ موقفا مندهشا وال‬
‫حتى فضوليا ‪ ،‬فالحالة أكثر تعقيدا مما يبدو ‪ .‬زاد حضورها كلما فتش فى مواقعه وقلب صفحاته ‪،‬‬
‫الجهاز اليسترجع شيئا بدون أمر! كيف ظهرت ايمان ولم يضغط على زر ؟ ربما ألنها مثله فى شرنقة‬
‫المعاناة ‪ ،‬ربما المشهد به رائحة من مشاهد أخرى ‪ ،‬مايتراكم فيك ال تستطيع حصره ‪ ،‬يكون بعيدا‬
‫وفجأة يقترب مع حدث ‪ ،‬مع صورة ‪ ،‬مع صوت ‪ ،‬ذكرى تنفلت من مخزون الذاكرة ‪ .‬اذا ماذا يفيد‬
‫السؤال ؟ فاألجابة التجدى ‪ .‬فجأة غادر بعينه الشاشة وغاب ‪ ،‬كان يفتش عن سبب يصلح تفسيرا ‪ .‬لم‬
‫يجد مايشبع فضوله ‪ ،‬فغادر الفضول إلى مايشغله دون أن يدرك بأن شيئا أستقر فى الالوعيه وأن‬
‫للحكاية مايحركها ‪ .‬حالته تلك لها تعريف منطقى " أن الحب عند الناس هو حيلة ألشباع رغبة ‪ ،‬ولكنه‬
‫عند يوسف غاية يريدها ‪ .‬وهو هدف بعيد "‪.‬‬

‫لم تمر تلك الليلة إال وصدر األمر بحملة مكبرة قادتها نورا فى غرفة هدى ‪ .‬عملية بحث وتفتيش‬
‫الغرض منه العثور على طرف خيط يساعد فى الوصول لمكان أمها بعد أن سأمت من حالة المط‬
‫والتطويل والالسلم والالحرب ‪ .‬تلقت دعما ومساعدة من بسمة ويوسف ‪ ،‬وعلى أستحياء من أيات التى‬
‫تابعت عملية البحث كمراقب محايد سعيا وراء أى دليل يفضى لمعلومة تقودهم لعنوان فايزة وسط‬
‫‪477‬‬
‫تشجيع ودعوات نعمة التى وقفت على عتبة الغرفة ‪ :‬ربنا ينور بصيرتكو وتالقو حاجة وياريت كل واحد‬
‫فيكو وهو بيدور يقول فى سره يارب رد على ضالتى وإن شاء اللـه تالقو اللى يهدى سركو ‪.‬‬

‫فى نفس الوقت الزال خيرى يعانى ‪ ..‬سكون الغرفة ومكان فعلته الماثل أمام عينيه سهل عليه محاكمة‬
‫قاسية ل نفسه ‪ .‬مفرش السرير الزال يحمل رائحتها التى حركت فيه أنفعاالت حزينة وشعور هائل من‬
‫الغضب كلما تعايش مع تفاصيل الواقعة ‪ .‬مازال صوتها يتسلل اليه من كل ركن يدفعه إلى األرتباك‬
‫والخجل ‪ .‬عبارتها األخيرة التى سبقت لحظة تسليمها تطرق رأسه بشدة ‪ :‬بالش ياخيرى ‪ ..‬بالش أنا‬
‫محتاجة أتكلم معاك ‪ .‬لم يبحث عن مبرر ولم يحاول الدفاع عن نفسه ‪ .‬لم يتعلل بالمفارقة العجيبة أو‬
‫الحبكة الشيطانية التى سحبتهما الى لحظة ضعف دون أرادة وبال عقل ‪ .‬كم يدرك ‪ ،‬االن ‪ ،‬أنه يعشق‬
‫بجنون تلك التى لعق شفتيها وداعب خريطة جسدها ‪ ،‬عشقا مبرحا وحنينا موجعا ‪.‬‬

‫أدار فى رأسه نقاشا يصل به فى كل مرة الى طريق مسدود ‪ .‬لو لم يحدث بينهما ماحدث لكان بمقدوره‬
‫أقناعها وردها لمنزلها حتى لو أقتضى األمر منه تدخال شخصيا لرأب الصدع بينها وبين أبنتها ‪ .‬سرح‬
‫الشك فى عقله كشرخ يزداد طوال وأتساعا ‪ .‬داهمته الظنون ‪ :‬هى فعال راحت عند صاحبتها زى‬
‫ماقالتلى وال أل ؟ ! حترجع تانى بعد مافقدت األمل فى كل حاجة ‪ ..‬فى عيالها اللى مش عايزينها وفى أنا‬
‫كمان اللى أستغليت ضعفها ؟ بلغ الشرخ مداه حين طرح على نفسه سؤاال محبطا ‪ :‬ياترى هى شايفانى‬
‫أزاى دلوقتى ؟ تلك هى التساؤالت التى دارت فى رأسه وشغلته طوال يومه ‪ .‬اليرى أجابة شافية ‪ .‬إال‬
‫أن المقادير قد قررت معاقبته على فعلته ‪ .‬وها هى ساعة العقاب قد حلت ‪.‬‬

‫توقف عن نشاطه اليومى ‪ ،‬الصمت والحديث يضايقانه ‪ ،‬صار اليحلم ‪ .‬حتى تلك المنطقة الهادئة التى‬
‫كان يستطيع ان يصطاد منها بعض الشوارد قد نضبت وهرب روادها ‪ .‬أصبح فكره فيها يتردد بين‬
‫عالمى الحقائق واألحالم فال يبقى فى أيهما الفترة الكافية ألكسابه بعض المعنى ‪ .‬تقلصت أمنياته كلها‬
‫وتضاءلت فى رغبة واحدة ‪ :‬هدى ‪ .‬لم يعد يبالى بشيىء ‪ ،‬لم يعد لديه مايخسره ‪ .‬عند هذه النقطة من‬
‫القناعة قال لنفسه ‪ :‬لم يعد األنتظار حال ‪ .‬فأستنفر شجاعته حين قرر فجأة مداهمة شقة هدى فى زيارة‬
‫جريئة بحثا عن حل ‪.‬‬

‫بينما فى تلك اللحظة الزال البحث جاريا فى غرفة هدى على قدم وساق ‪ .‬ساعة كاملةمن البحث‬
‫والتحرى وأصبح كل شيىء فيها تحت سيطرتهم ‪ .‬الشيىء فى الغرفة يدل على أن الراحلة كان لها أى‬
‫خصوصية أو تملك أية أسرار ‪ ،‬اللهم اال بعض الصور القديمة تجمعها بأمها وبعض األوراق الخاصة‬
‫‪478‬‬
‫بالمرحوم " نديم "ليس لها منفعة والجدوى ومظروف أصفر بداخله صحيفة الحالة الجنائية ومعه كارت‬
‫خاص باألخصائية األجتماعية كأجراء روتينى تتحصل عليه كل سجينة عند خروجها من السجن ان‬
‫أحتاجت مستقبال لدعم أو مساعدة ‪ ..‬نظرة أخيرة محبطة جالت بها نورا فى الغرفة قبل أن يرن جرس‬
‫الباب الذى أصبح مصدر أمل ‪ .‬أنسحب يوسف خارجا تدب فى مالمحه عالمات تفاؤل ‪ .‬غير أنها‬
‫سرعان ماتبددت حين فتح الباب وأستبدلها بأستغراب ودهشة ‪ :‬أهال عمو خيرى ‪ .‬قالها ببطء قبل أن‬
‫يتماسك ‪ :‬أيه المفاجأة الجميلة دى ‪ .‬ثم أفسح له طريقا ‪.‬‬

‫ــ أخبارك أيه يايوسف ‪ .‬رددها حين تخطى العتبة للصالة ‪.‬‬

‫ــ الحمد للـه ياعمو ‪ .‬نظرة تفقدية للمكان الذى لم يدخله منذ زيارته األخيرة ‪ .‬تقدمه يوسف حتى‬
‫الصالون بترحيب حذر ‪ .‬وصل صوت خيرى ألسماع نورا التى أنتابها خوف وقلق شديدين ‪ .‬توجست‬
‫من زيارته ‪ ،‬ربما وراءه أمور غير طيبة أو ربما يحمل معه حلوال سحرية ‪ .‬خرجت له تخفى شكوك‬
‫وظنون وداخلها يقين مسبق أن محاكمة غير عادلة تنتظرها فى الصالون ‪ .‬تابعت خطوتها حتى الح لها‬
‫وجهه المقتضب فتهيأت بأبتسامة ونثرت عليه جمل ترحيب مبالغ فيها ‪ ..‬تسعى ألستمالته ‪ :‬عمو خيرى‬
‫بنفسه عندنا ‪ ..‬أنامش مصدقة نفسى ‪.‬‬

‫ــ ازيك ياحبيبتى ‪ .‬جلست إلى جواره صامتة تتحسس نبرة صوته وشكل نظرته كمرحلة جس نبض قبل‬
‫أن تنضم إليهم أيات وبسمة يسحبهما الفضول حول سبب الزيارة الغريبة ‪ ..‬بدوا جميعا على قناعة بأنه‬
‫يحمل معه أخبارا مهمة ‪ ..‬بعد األستفسارعن أحوال العافية رأى أمامه وجوها ذابلة ومهمومة ‪ ،‬فأرهقت‬
‫نفسيته وزادته أرتباكا ‪ .‬جاء محمال بكل المتناقضات ‪ ..‬بذنوب الشياطين وحسنات المالئكة ‪ ،‬بسيف‬
‫الظالم ودعاء المظلوم مدفوعا بأوجاع الجرح وآالم الجريح حين أيقن متأخرا بأنه اليملك حدودا بين‬
‫طيبته وشره ‪ ،‬بين جنونه وتعقله ‪.‬‬

‫أرتخت مالمحهم المشدودة حين بدأ حديثه ‪ :‬مامتكو ماأتصلتش بحد فيكم ؟ نظرات مهزومة تبادلوها‬
‫فيما بينهم قبل أن تكشف نورا عن خيبة أملها ‪ :‬كنت فاكرة حضرتك جاى ومعاك أخبار ‪.‬‬

‫ـــ لألسف أتصلت بيها كتير جدا ‪ ..‬فى األول كان جرس وبعد كده قفلته ‪.‬‬

‫ــ أحنا كمان من أمبارح لغاية النهاردة مابطلناش أتصاالت وبرضه مقفول ‪ .‬قال يوسف ‪.‬‬

‫‪479‬‬
‫ــ وناويين تعملو أيه ؟ سأل خيرى ولم يحصل على رد فأستفسر كموفد عن لجنة تقصى حقائق ‪ :‬أنا‬
‫عايز أفهم هو أيه اللى كبر الموضوع كده وخالها تسيب البيت ؟ شعرت نورا أن األتهام موجه لها حين‬
‫لمحته يغزوها بنظراته ‪ .‬تعاملت مع سؤاله بخطة التعميمات ‪ :‬ماحدش فينا زعلها والحد ضايقها هى‬
‫اللى بقت حساسة أوى اليومين دول ‪ ..‬من أقل كلمة بتتضايق وتعملها زعلة ‪ .‬لم يتعمد األلحاح وأنساق‬
‫مع نهج التعميم ‪ :‬مامتكم مابقتش حساسة من فراغ متهيألى هى أتحملت كتير وشالت جواها كتير‬
‫وماحدش فيكو قدر يحتويها ويعذرها ‪ .‬ثم نقل نظره ليوسف ‪ .‬أردف ‪ :‬وأنت ماحاولتش تمنعها يايوسف‬
‫ده أنت راجل البيت ‪ .‬رفع األخير عينيه ينظر ألخته التى أنابت عنه ‪ :‬كلنا حاولنا نمنعها عشان‬
‫ماتخرجش ‪ ..‬هى اللى كانت مصرة مع أن الموضوع ماكانش يستاهل كل ده ‪ .‬سقطت من ذاكرة خيرى‬
‫القاعدة المعروفة " أمام حصولك على المعلومة ينبغى أال تثرثر كثيرا وال أن تغضب " فبدا عصبيا ‪:‬‬
‫يعنى الحصار اللى أنتو عاملينه حواليها شيىء عادى وبسيط ‪ ..‬شغل مافيش يعنى محبوسة فى أوضتها‬
‫ليل ونهار زى كأنها فى زنزانة انفرادى الحد بيكلمها وال حد بيخرج معاها وكمان حياتها الخاصة‬
‫عايزين تتحكمو فيها وتجبروها على حاجة هى مش عايزاها والبتفكر فيها دلوقتى ‪ ..‬يبقى كل ده‬
‫مايستاهلش يانورا أنها تنفد بجلدها من الجحيم ده ‪ ..‬صمدت فى وجهه كالصخرة ‪ :‬حضرتك فاهم غلط‬
‫ياعمو األمور مش بالشكل ده خالص ‪ ،‬ماما عايشة معانا معززة مكرمة وخالفنا معاها عادى زى أى‬
‫خالف فى أى بيت ‪ ..‬المعلومات اللى وصلتلك مش مظبوطة ياعمو ‪ .‬لم تكن مقنعة ‪ ..‬لم يشأ أن يجهز‬
‫على ماتحاول أن تتشبث به من دفاع ‪ ،‬فأحجم عن هجومه مكتفيا بهزة من كتفه ‪ :‬المهم دلوقتى أزاى‬
‫نوصل لمامتك ونرجعها تانى البيت ‪.‬‬

‫بعد نصف ساعة أنتهى الجزء األكبر من حديثه المنفعل الذى صب معظمه فى وجه نورا التى تهاوت‬
‫دفاعائها تحت وطأة األحترام والخجل ‪ ..‬أجتمع عليه كل شيىء وتآمرت كل الظروف ‪ ،‬المكان والزمان‬
‫والحب ‪ .‬تراجع أرتفاع الغضب فيه وعاد الى حكمته ‪ :‬وأحنا حنفضل قاعدين ساكتين كده مابنعملش‬
‫حاجة‪ ..‬ال أحنا عارفين مكانها والقاعدة مع مين والبتقضى يومها أزاى ‪ .‬كانت تلك أسئلة مغرم عاشق ‪.‬‬
‫ألول مرة يتخلى عن حذر أعتاده بينما لم يعلق أحد ولم تبد عليهم اللهفة وكأن األمر ال يعنيهم ‪،‬أو أنهم‬
‫خارجه !‪ .‬شرد للحظات مستغربا تبلدهم حتى عال صوت نعمة القادمة من ناحية المطبخ تحمل صينية‬
‫عليها فنجان قهوة ‪ :‬هى أكيد عند واحدة صاحبتها أسمها فايزة ‪ ..‬وكانت قالتلى مرة ‪ ..‬سكتت لثوان ‪.‬‬
‫تركت ذاكرتها تنقب ثم فركت يديها بعدما تسلمت منها بسمة الصينية ‪ .‬قالت بلهفة ‪ :‬أنها ساكنة فى‬
‫كرموز ‪ .‬معلومة ظلت حبيسة ذاكراتها ولم تفصح عنها اال فى هذه اللحظة ‪ .‬توقف خيرى بعينيه‬
‫‪480‬‬
‫للحظات ‪ ،‬تملى هذا الشبح األسمر وهى تناوله فنجان القهوة قبل أن ينحرف ببصره ‪ :‬ماتعرفيش يانورا‬
‫أى حته فى كرموز ‪.‬‬

‫ــ أل طبعا ‪ ..‬بس أنا لقيت كارت بتاع األخصائية األجتماعية الموجودة فى السجن ومتهيألى ممكن تفيدنا‬
‫بعنوان اللى أسمها فايزة دى ‪ .‬قالت جملتها ببرود ومن باب " عملت اللى على " ‪ .‬أستفزته نبرتها ‪.‬‬
‫وبالرغم من أنه اليملك مايناور به سوى حرمانها من متعة أوشكت على قطافها ‪.‬‬

‫ــ أنا عن نفسى مش حأسكت وال حأرتاح لغاية ماأمكم ترجع البيت تانى ومش حأكون لوحدى شريف‬
‫كمان حيبقى معايا مادام أنتومش عايزين تتصرفو وقاعدين تتفرجوا ‪ .‬تعمد أقحام أسم أبنه فى المناورة‬
‫كورقة ضغط ‪ .‬لكن المتربعة على عرش المنزل لم يعجبها كالم خيرى ‪ .‬إال أنها التريد أن تذهب بعيدا فى‬
‫ظنونها وال أن تعلن غضبا أو تذمرا ‪ ،‬هى تعلم أن خيرى البد أن يكون جزءا من اجراءات الحل ‪ .‬تصدت‬
‫له بمرونة وبقايا كالمه الزالت عالقة فى مالمحها ‪ :‬أحنا عملنا كل اللى نقدر عليه ومش ساكتين ‪ ..‬أيه‬
‫اللى حضرتك حتعمله زيادة أنت وشريف وأحنا ماعملنهوش ‪ .‬تدخلت أيات لتبسيط األمر فأعلنت بما‬
‫يليق بها ‪ :‬أحنا كلنا بنكمل بعض واللى يقدر على حاجة يعملها ‪ .‬أنصت لكالمها بأقتضاب ثم توجه إليها‬
‫معاتبا ‪ :‬ماتزعليش منى ياأيات هانم أنا بأحملك المسئولية األكبر فى كل اللى حصل ‪ .‬أختفت البشاشة‬
‫من وجهها ‪ :‬ليه ياأستاذ خيرى هو أنا السبب فى سوء التفاهم اللى حصل بينهم وال أنا اللى قلتلهم‬
‫قعدوها من الشغل ‪ ..‬أنا واحدة ست فى حالى مابتدخلش فى أى حاجة ‪ .‬كان محددا حين قاطعها ‪ :‬هو ده‬
‫اللى أنا بأقصده يا أيات هانم أنك ماتدخلتيش وكنت فى حالك وأتنازلتى عن دورك اللى كان المفروض‬
‫تقومى بيه ‪ ..‬كان الزم تكونى الحكم بينهم أو حتى على األقل تقدمى نصيحة والتقولى رأى ‪ ..‬ماتنسيش‬
‫أنك عمتهم ولكى كلمتك برضه فى البيت لكن لألسف وقفتى تتفرجى ياأيات هانم ‪ .‬أصرت األخيرة فى‬
‫عناد يح فظ لها ماتبقى من كرامة ‪ :‬أسمحلى ياأستاذ خيرى أنت بتتكلم عن مشكلة بين أم ووالدها مش‬
‫بين جيران والقرايب وساعات كتيرة التدخل مابيحلش ‪ ..‬بيعقد األمور أكتر ‪ .‬قالتها وكأنها توجه له‬
‫أتهام ‪ .‬بينما لمحت نورا فى وجهه غضبا فبادرته بجملة أستباقية قبل أن ينفثه ‪ :‬لو حضرتك بتحملنا‬
‫المسئولية فى كل اللى حصل فأنت كمان مسئول معانا ‪.‬‬

‫ــ أنا ‪ .‬قالها عابسا ‪.‬‬

‫ــ ياعمو مافيش حاجة بتستخبى وأحنا كلنا عارفين أن حضرتك وماما يعنى ‪ ..‬لم تصرح ببقية الجملة‬
‫ألعتبارات الحرج ‪ .‬فتجاوزت المعنى الى المضمون ‪ :‬كان الزم من البداية تحتويها وتقنعها أن الجواز‬
‫‪481‬‬
‫مش عيب والحرام ‪ .‬حاول أن يتخلص من ضغطها ويستعيد المبادرة ‪ :‬مامتك ماكانتش محتاجة حد‬
‫يقنعها واليفهمها الحرام من الحالل ‪ ..‬مامتك كانت محتاجة تحس باألمان فى بيتها وانها وسط عيالها‬
‫ولها وجود ودور مش كمالة عدد ومالهاش لزمة ‪ .‬أنهى جملته ورفع عينيه وأستقرت على شفتيه‬
‫أبتسامة ساخرة قبل أن يستأنف ‪ :‬أحساس صعب أوى أن األنسان يبقى موجود فى بيته وحاسس‬
‫بالغربة والوحدة‬

‫ــ وحضرتك ليه ماعوضتهاش ‪ .‬كانت جريئة ومباشرة ‪ ،‬لم يعد األمر بينهما مخفيا وراء مصطلحات‬
‫عائمة ‪ .‬ثم أرسلت له نظرات مشجعة بينما حركت األجابة فى نفسه حرجا فأطرق غاضا بصره ‪ :‬مش‬
‫وقت الكالم ده يانورا فيه حاجات أهم ‪ .‬الحالة التسمح بالفلسفة وال البحث عن العلل واألسباب ‪ .‬خرجت‬
‫بسمة عن صمتها ‪ :‬متهيألىالزم كلنا نراجع نفسنا ولما ماما ترجع حنحط النقط على الحروف عشان اللى‬
‫حصل ده مايتكررش تانى ‪.‬‬

‫ــ مش لما نعرف مكانها األول ‪ .‬أفصح يوسف بعد فترة غياب بدا فيها كضيف شرف بينما أدرك خيرى‬
‫أن الحوار فى مثل تلك المواقف ‪ ،‬يستدعى حكمة وربما يقتضى حدة ‪ :‬ده دورك يايوسف أنت‬
‫راجل البيت المفروض التهدى والترتاح لغاية ماتعرف مكانها ‪ .‬قال نصيحته ثم هم واقفا ‪ :‬ع العموم‬
‫ربنا يصلح األحوال ‪ .‬ثم قدم أعتذارا عن زيارته المفاجئة دون سابق أنذار وعن فنجان القهوة الذى لم‬
‫ينهيه ‪ .‬خرج من الصالون ولحقت به بسمة التى أختصرت قلقها ‪ :‬خليك جنبنا ياعمو لغاية ما ماما‬
‫ترجع ‪ .‬أنحشرت نورا بينهما ‪ :‬عمو قال أنه مش حيسكت وأنتى مش نونو ياست بسمة ‪ .‬قالتها ساخرة‬
‫وبصوت بدا لها غير محتمل ‪ .‬أبتسم خيرى وهو يكشف عن مشاعره ونواياه ‪ :‬ماتقلقيش ياحبيبتى أنا‬
‫طول عمرى كنت جنبكم وان شاء اللـه لما هدى ترجع حأبقى جنبكم على طول والفيه حد عنده مانع ‪.‬‬
‫بادلته نورا األبتسامة وهى تصحبه للباب ‪ .‬تماشى كالمه مع هوى نفسها ‪ .‬ألتفت اليها موصيا ‪ :‬لو‬
‫عرفتى أى حاجة أوردت عليكى بلغينى على طول حتى لو فى عز الليل ‪ .‬رحل تاركا لها األجر والثواب‬
‫ان فعلت ‪ .‬تأملته بدهشة وهو يتجه لشقته ‪ .‬رأت رجال تخلى عن ثباته ورصانته ‪ ..‬كانت أمام عاشق‬
‫يبحث عن ليلى ! ‪.‬‬

‫لم تسفر زيارته عن أية نتائج ‪ ..‬األسئلة واألستجوابات لم تفيده فى التوصل لمعلومة وأصبحت قضية‬
‫أختفاء هدى فى طريقها للحفظ أنتظارا ألى جديد ‪.‬‬

‫‪482‬‬
‫‪0000000000‬‬

‫رنين موبايل فايزة داهمها فى المسافة الفاصلة بين الطرقة والصالة بعد أن أنهت لتوها أرتداء مالبسها‬
‫أستعدادا لخروجة ليلية بصحبة هدى التى الزالت فى الغرفة تضع اللمسات األخيرة ‪ .‬نظرت فى الرقم ثم‬
‫قالت فى نفسها ‪ :‬عايز أيه زفت الطين ده ‪ .‬رفعته فى ملل آلذنها ‪ :‬خير يانونو فى أيه ؟ بدا صوته‬
‫مرتبكا حين أجابها ‪ :‬معايا واحد واقف جنبى وعايز ييجى يتكلم معاكى فى حاجة كده ‪.‬كشرت وجهها ‪:‬‬
‫واحد مين ياوله اللى أكلم معاه ‪.‬‬

‫ــ أنا ماعرفهوش يامعلمة بس الوله جمعه بيقولى أن بقاله ساعتين مستنينى فى القهوة عشان آخده‬
‫وأخليه يقابلك‪ .‬زادت دهشتها وتهكمها ‪ :‬يعنى أنت ماتعرفهوش وعايز تجيبه البيت عندى ‪ ..‬طب أسأله‬
‫ياحمار هو عايز أيه ؟! ‪.‬‬

‫ــ اللى سمعته منه ماقدرش أقوله ‪ ،‬أسمعيه أنتى بنفسك ‪.‬‬

‫لم يستغرق وصول " النونو " البيت سوى عشر دقائق ‪ ..‬تراجعت فايزة خطوتين من أمام الباب كى‬
‫تسمح بمرور النونو ومن خلفه ذلك الكائن الذى عاينته بنظرة حذرة وجملة مقنضبة ‪ :‬خير يانونو‬
‫فى أيه ؟ ‪.‬‬

‫ــ دلوقتى تسمعى بنفسك ‪ .‬قالها وهو يجلس على الكنبة ‪.‬‬

‫ــ أقعد ياخويا واقف ليه ‪ .‬جملة تلقاها الضيف الذى جلس مدليا رأسه لألرض وهو يهمس بكلمات‬
‫خجولة ‪ :‬كتر خيرك يامعلمة ‪ ..‬محسوبك وخدامك نعيم ‪ .‬رمته بنظرة ضيق ‪ :‬خير ياسيدى قول ‪ .‬قالتها‬
‫بالتزامن مع وصول هدى من الداخل ‪ .‬أبدى النونو أعتراضا على وجود الضيفة حين مط شفتيه ‪ :‬األخ‬
‫عايز يكلمك فى حاجة شخصية ‪ ..‬طمأنته ‪ :‬دى زى أختى ياوله مش بأخبى عنها حاجة ‪ .‬بينما أستشعر‬
‫نعيم فى نظرتها قلقا فمنحها مقدمة مهدئة ‪ :‬اللى سمعته عنك يامعلمة من جدعنه وكرم أخالق هو اللى‬
‫شجعنى آجى لغاية عندك وأعمل األصول ‪ .‬أنهى المقدمة الواجبة حين تلقت أذنيه تنهيدة من نفذ صبره‬
‫عندما جلست أمامه متململة ‪ :‬قصره أيه المطلوب ‪ .‬أربكته بمالمحها فدخل فى صلب الموضوع ‪ :‬من‬
‫حوالى شهرين جانى أبنك منصور ومعاه واحد أسمه سليم وطلب منى حاجة كده ولح على فيها ‪ ..‬أصل‬
‫لمؤاخذه العبد للـه خدوم ومايحبش الرغى الكتير ‪ .‬بالرغم من تلك المالحظة أسهب نعيم فى سرد روايته‬
‫مضيفا لها كل عناصر التشويق والمفاجأة مع تكرار عبارات التمجيد واألشادة بنفسه مع نهاية كل جملة‬
‫‪483‬‬
‫متقمصا دور الناصح األمين حين قاربت روايته على األنتهاء بينما فايزة تنصت له بعين مفتوحة وشفة‬
‫مرتعشة الزال يتابع ‪ :‬وكنت أخد منه الكالم يامعلمة وأسكت شوية وأقرب لمؤاخذة عينى من عينه‬
‫وأقوله راجع نفسك يامنصور الحكاية مش سهلة دى برضه أمك وأتذكرت فى القرأن ‪ ،‬الحق يتقال‬
‫يامعلمة كان يسكت ويتوه منى وكأنه المؤاخذه بيدور على لسانه ويعدها قالى لو مالكش غرض تخدم‬
‫فيه غيرك يسد ‪ .‬سيطر عليها الذهول وأنتابها الدوار ‪ .‬صفعتها روايته وتلجلج صوتها ‪ :‬أيه ياجدع أنت‬
‫اللى بتقوله ده ؟! قالتها وبحثت بعينيها عن وجه النونو ‪ :‬أنت جايبلى واحد مش فى وعيه ‪ ..‬أيه‬
‫الهجص اللى بيقوله ده ‪ .‬لم يعلق وكأنه يؤكد كالمه فأحتقن وجهها كموخرة قرد وأردفت بصوت‬
‫يحتضر ‪ :‬أنت مين اللى بعتك عشان تقولى الكلمتين دول والحكايتك أيه بالظبط ؟! أيدتها هدى التى‬
‫واجهته بنبرة عدائية ‪ :‬أكيد الراجل ده مزقوق عليكى ‪ ،‬شكله باين يافايزة ! قطب وجهه المسحوب‬
‫مدافعا بحماسة ‪ :‬كتر خيرك ياست ‪ ..‬حاجتين بأكرهم فى حياتى الكدب والمؤاخذة أتبلى على حد ‪ .‬لم‬
‫تستطع اخفاء صدمتها ‪ .‬كلماته كجمر النار تأبى الدخول لعقلها وتقف عند تجويف أذنيها فبدا لها عذابا‬
‫اليحتمل حتى فاض بها الكيل ‪ :‬يعنى أنت جاى تقولى أن أبنى الوحيد كان عايز يدبر لى مصيبة ويحطنى‬
‫فيها ويدخلنى السجن عشان يخلص منى ويلهف القرشين وعايزنى أصدقك ‪..‬طب أزاى ياأبو عقل‬
‫ضارب ياقليل الذمة والدين ‪ .‬أنتفض فى مكانه واراد أن يظهر غضبا اال أنها سبقته وخرجت عن السياق‬
‫وتحولت الى نمرة شرسة ‪ :‬لو مش حتقولى حكايتك أيه ومين اللى وراك لتكون نازل من هنا على‬
‫ضهرك ورجليك عمرها ماحتلمس أسفلت الشارع تانى ‪ .‬أرتعشت مالمحه وطمس الخوف صوته وهو‬
‫يدلى بكلمات مهزوزة ‪ :‬عيب يامعلمة أنا فى بيتك والمؤاخذة يعنى أنا مش راجل مجنون عشان آجى‬
‫لغاية هنا وأقول كالم ماحصلش وال أتبلى على أبنك وع العموم اللى يفصل بينى وبينك أبنك منصور‬
‫هاتيه دلوقتى قدامى وواجهينى بيه ولو طلع كالمى غلط رقبتى تحت أمرك ‪ .‬قالها ونكس رأسه راسما‬
‫عالمات التأثر ثم تابع ‪ :‬اللى قلته هو اللى حصل يامعلمة وأنا عاذرك وعارف أن كالمى وجعك بس هى‬
‫دى الحقيقة ‪ .‬أرتعشت شفتها السفلى داللة صدمتها التى غابت فيها وكأن المأساة أبتلعتها حتى أنها لم‬
‫تشعر بمن حولها اال حين أحتدت هدى بصوت عصبى ‪ :‬من األخر كده أنت عايز أيه من ورا الكالم ده ؟‬
‫أرتبك للحظات قبل أن يتماسك ويراوغ ‪ :‬أنا عن نفسى مش عايز حاجة ياست ‪ ،‬الحكاية كلها أنى‬
‫صرفت من جيبى قرشين لما أتفقت مع منصور لكن الحمد للـه ربنا نورلى طريقى لما سألت ودعبست‬
‫وعرفت أن المعلمة فايزة ست جدعة وتعرف األصول وقلت لنفسى لو جت ع الفلوس تبقى سهلة آهى‬
‫بتروح وتيجى بس المهم أن الواحد مايخسرش نفسه ‪ .‬أراد أستمالتها بجملته األخيرة وهو يراقب‬

‫‪484‬‬
‫نظرتها المستسلمة التى تفيض مرارة حين ألتفت لـ " نونو " قالت بنفس مقطوع ومالمح مرتخية ‪:‬‬
‫أديله اللى صرفه ‪ .‬قفز نعيم من مكانه خافضا رأسه مصوبا شفتيه ناحية يدها محاوال تقبيلها ‪ :‬ربنا‬
‫مايحرمنا منك يامعلمة ‪ .‬سحبت يدها فى أستنكار ‪ :‬روح غور فى داهية بعيد عنى ‪.‬‬

‫قاده النونو الذى بدا محايدا الى خارج الشقة بينما أستولى عليها شعورا جارفا بالقهر ‪ .‬تابعت هدى‬
‫حالتها التى تسوء ‪ ،‬عيناها تضيق وتتسع ‪ ،‬شفتاها تتحركان وكأنها تتمتم مع نفسها ‪ .‬حاولت التواصل‬
‫معها لسحبها للحظة هدوء قبل فوات األوان ‪ .‬لم تعثر على كلمات تناسب فجيعتها ‪ ،‬فأستحلفتها أن‬
‫تهدأ ‪ :‬عشان خاطرى يافايزة ماتكبريش الحكاية الموضوع كله مايستاهلش ‪ .‬ضربت األخيرة كفيها‬
‫غيظا وأحباطا ‪ :‬ليه كل ده ‪ ..‬عايزة حد يفهمنى ‪ ..‬عمرك سمعتى ياختى عن أبن عايز يخلص من أمه‬
‫ويدخلها السجن ‪ ..‬جاوبينى سمعتى عن حاجة زى دى ياهدى ‪ .‬بقدر ماتحمله األخيرة من هموم وأحزان‬
‫إ ال أنها تضاءلت أمام فجيعة فايزة وفداحة مصابها ‪ .‬بدت أن الرجفة داخلها على وشك أن تنتقض ثم‬
‫أجتاحتها نوبة بكاء شديدة قامت على اثرها هدى تحتويها فى صدرها ‪ :‬أهدى باللـه ماتعمليش فى نفسك‬
‫كده ‪ .‬تطلعت اليها بوجه غارق فى الدموع ‪ :‬شفتى منصور أبنى الوحيد كان عايز يدخلنى السجن ‪..‬‬
‫حاولت هدى أن تنفض عن نفسها أحساسا بقلة الحيلة ‪ :‬ياستى لو فرضنا أن الكالم اللى قاله الراجل ده‬
‫صح أكيد ابنك ساعتها كان مضايق والشايل منك وحب يعمل حركة تهويش خايبة مالهاش لزمة والدليل‬
‫على كده أنه ماقابلش الراجل ده تانى وال حتى عمل أى حاجة تضايقك ‪ .‬بدا كالمها بال معنى وال تأثير ‪.‬‬
‫أنصتت لها بمالمح التماثيل دون رد أو تعقيب وكأنها فى عالم أخر ‪ .‬بينما أدركت هدى أن المرأة القوية‬
‫التى عاشرتها سنوات أصبحت آيلة للسقوط ‪ .‬فأختارت نبرة خافتة مستجدية ‪ :‬لو بتعزينى صحيح كبرى‬
‫دماغك وكأن مافيش أى حاجة حصلت ‪ .‬ثم أخذتها فى حضنها للحظات حتى هدأت وتماسكت ثم أنكمشت‬
‫على نفسها فى كنبة الصالة ‪ ،‬الشيىء يتحرك فيها سوى جفنيها وكأنها تسترد وعيها ببطء ‪ .‬ظلت‬
‫صامتة متصلبة لدقائق قبل أن تدب فيها الحركة من جديد حين سحبت موبايلها من جوارها وضغطت‬
‫بأصبعها على أخر رقم أتصل بها ‪ .‬من وسط الصدمة والمعاناة لمعت فكرة ‪ .‬تابعت هدى حركاتها‬
‫بأهتمام ‪ :‬بتتصلى بمين ؟ لم ترد عليها ورفعت الموبايل ألذنها ‪ :‬أيوه يانونو ‪ ..‬الحكاية اللى حصلت دى‬
‫مش عايزة منصور ياخد بيها خبر ‪.‬‬

‫ــ من غير ماتقولى يامعلمة ‪.‬‬

‫ــ هو الجدع ده لسه جنبك ‪.‬‬


‫‪485‬‬
‫ــ أيوه ‪.‬‬

‫ــ قبل ماتراضيه خليه يتصل قدامك بالوله سليم عايزاك تتأكد من كل كلمة قالها وأبقى بلغنى ‪.‬‬

‫ــ حاضر ‪ .‬أحست هدى فى نبرتها بشيىء غريب ومريب ‪ :‬أنتى بتفكرى فى أيه يافايزة ‪.‬‬

‫ــ لسه مافكرتش ‪ .‬قالتها ثم غابت مرة أخرى فى الصمت والتأمل ‪ .‬ظلت هدى بعدها لساعة كاملة تلهث‬
‫خلف أذنيها بعبارات التهدئة والمواساة اال أنها لم تحصل على أى رد فعل ولم تلمس فيها أنفعاالت ولم‬
‫ترصد غضبا فزادت حيرتها وأشتد قلقها حين أجابت فايزة عن سؤال لم تطرحه عليها هدى ‪ :‬عايزة‬
‫تعرفى أيه اللى منع منصور مايكملش خطته ‪.‬‬

‫ــ أكيد راجع نفسه وعرف أن مافيش حد فى الدنيا ممكن يأذى أمه ‪ .‬قالتها بسذاجة ‪.‬‬

‫ــ أنا ياهدى اللى منعت خطته وبوظتله الرسمة اللى كان راسمها وطبعا ده كان من غير قصد ‪.‬‬

‫بدت ساهمة وكأنها ترتب األحداث ‪ :‬ربنا ألهمنى بمنام شفت فيه منصور وبعدها قلت لنفسى الزم أكسبه‬
‫وأرجعه لحضنى ووقفت جنبه وعملته بنى أدم ومن كرم ربنا على أنه الهمنى أعمل كده فى الوقت‬
‫المناسب ‪ ،‬لو كنت أستنيت شوية كان زمانى البسة تهمة ومرمية فى السجن ‪.‬‬

‫تلقت أتصاال من النونو الذى أبلغها فى مكالمة مختصرة أن سليم وراء زيارة نعيم الذى أستدعاه وقام‬
‫بتوجيهه لفضح منصور أمامها مستهدفا األنتقام منه بعدما تخلى عنه األخير وباع صداقته ‪ .‬هزت‬
‫رأسها فى أشارة مفاجئة عندما أنتهت المكالمة ‪ :‬الزم أخليك تدفع التمن يامنصور‪ .‬لم تتمهل حين أعلنت‬
‫جملتها ولم تفصح عن قيمة الثمن الذى سيدفعه أبنها مكتفية بسحب عينيها فى هدوء بأتجاه عينى هدى‬
‫التى أقتربت منها بحذر ‪ :‬ناوية على أيه يافايزة ‪ .‬لم تكشف عن نيتها فبدا األمر مرهقا بالنسبة لهدى‬
‫التى حاصرتها بكلمات المواساة قبل أن تباغتها فايزة بالنتيجة النهائية التى توصلت اليها بعد فجيعتها‬
‫الهائلة ‪ :‬عرفتى وأتأكدتى أن اللى يشوف بلوة الناس تهون عليه بلوته ‪ .‬نبتت أبتسامة ساخرة على‬
‫وجه هدى وكأن الحكمة تخرج من بطن المعاناة ‪ :‬متهيألك ‪ :‬أنا وأنتى بلوتنا واحدة ‪ ..‬كلهم عايزين‬
‫يخلصوا مننا بقينا عقبة فى طريقهم وعايزين يزيحونا بأى طريقة ‪ ..‬أنا عن طريق جوازة وأنتى ترجعى‬
‫السجن تانى ‪ ..‬المهم عندهم أننا نختفى من حياتهم ‪ .‬أحستا بأنهما منبوذتين من الحياة ‪ .‬أمعنتا فى‬
‫تعذيب نفسيهما بالبكاء ‪ .‬لم يستغرق األمر طويال قبل أن تنفض فايزة عن نفسها لحظة الضعف‬

‫‪486‬‬
‫وتستبدلها بكم هائل من الكبت والغضب حين صرخت ‪ :‬مابقاش فايزة بنت عبد المقصود أن ماخلتكش‬
‫تندم يامنصور أنت وأبوك ‪ .‬ألتصقت بها هدى ثم دفنت كل منهما رأسها فى صدر األخرى ‪.‬‬

‫الفصل السادس عشر‬

‫القلق الزال مقيما فى رأس نورا يخنق جنبات غرفتها تاركا هواجس ومخاوف عالقة فى وجهها ‪..‬‬
‫توقعات غير مشجعة هى كل ماتوصلت اليه عن النهاية المتوقعة لقصة أمها المختفية ‪ .‬مرت ثالث‬
‫ساعات كاملة على انتهاء زيارة خيرى المفاجئة ‪..‬بقيت ممددة على سريرها فى النور الخافت دون‬
‫حراك كمومياء محنطة ‪ .‬حاولت أن تبحث عن النوم ‪ ،‬كما يحاول جمل أن يدخل من ثقب أبرة ‪ .‬أحست‬
‫أنها فى منزلة بين المنزلتين ‪ .‬زارتها كل األحتماالت ‪ ..‬اال أنها لم تتشبث بأيامنها ‪ ،‬مايشغلها األن هو‬
‫العثور على أمها ووضع نهاية سريعة وحاسمة قبل أن تتفاعل األزمة ويصعب أخمادها ‪ .‬أنتهزت فرصة‬
‫أنفرادها بنفسها لتراجع أفكارها ومخططاتها حيث غابت بسمة التى تشارك يوسف فى تلك اللحظة سهرة‬
‫كالمية فى غرفته تتناول معه أحداث يومه الساخن ومايتطلبه من مناقشات مفتوحة وتقييم موضوعى‬
‫حول زيارة هدير للمكتب وماخلفته من توابع وفى مقدمتها ذلك الفعل العصبى التى أظهرته ايمان ولم‬
‫تستطع أخفاءه ‪.‬‬

‫زيارة خيرى اليوم كانت نقطة تحول هامة فى مسار مخططها برغم تحوطاتها التى بذلت فيها كل حيلة‬
‫وذكاء ‪ ،‬لكن ماكان مخططا اليقود الى صواب ‪ ،‬فقررت مرغمة أن تجمد بنود خطتها لحين عودة أمها ‪.‬‬
‫لم يكن ثمة قرار معين قد استقر عليه رايها ويشغلها االن طريقة تنفيذه ‪ ،‬بل مجرد حيرة اليعرف لها‬
‫حال ‪ ..‬لم تر امامها من سبيل سوى التراضى معها للوصول الى حل يحفظ لها أنفرادها بزعامة البيت‪.‬‬
‫أيقنت األن بأن طريق المفاوضات هو األسلم واألنجح ‪ ..‬أستراحت لفكرة المفاوضات ‪ .‬كان قرارا نهائيا‬
‫بعدما أستعرضت بتمعن مابدر عن خيرى من غضب وأنفعال جعلها تحت ضغط متنامى وزاد من‬
‫شعورها بأنها أصبحت فى مرمى األتهام وباتت تخشى من تفكك جبهتها الداخلية وأنهيارها بعدما‬
‫أستوقفتها تلك النظرات المحتقنة التى لمحتها فى عينى يوسف وبسمة ‪ .‬أستبد بها الخوف ولعبت‬
‫برأسها شياطين القلق ‪ ..‬كل شيىء ‪ ،‬أى شيىء ‪ ،‬جائز وممكن حدوثه أو حتى تقبله ‪ ،‬اال ذلك الشيىء‬
‫‪487‬‬
‫الذى بنته على مدار سنوات طويلة ورسمت له حدوداوأسست أركان دولته ووضعت أول مادة فى‬
‫دستوره التى تنص " يوسف وبسمة خط أحمر " ثم نصبت نفسها زعيمة عليها ‪ ،‬وكان شأنها ـ شأن‬
‫كل ديكتاتور عادل ـ يرضى حاجة خاصة فى الوقت الذى يرضى حاجة عامة ‪ .‬الزال هبوط الليل يملؤها‬
‫كآبة ‪ ،‬يشيع فى نفسها غربة ومتاهة ‪ ..‬حاولت الهروب من أفكارها ومضت بعينيها تبحث عن وسيلة‬
‫بها تقتل ساعات الليل البطيىء الطويل الممل ‪ ،‬وكانت تخشى ماتخشاه أن تجد نفسها أمام نفسها زمنا‬
‫التعرف متى ينتهى ‪ ،‬حيث تنبعث أمامها الرؤى واألشخاص والعالم المعقد كما تظن ‪ .‬أستدارت على‬
‫جنبها وتكورت على نفسها كالجنين وأصبح وجهها للحائط الذى بدا فى عينيها مظلما كقاع بئر‪..‬ظلمة‬
‫راكدة اليظهر فيها سوى خيال رأسها وطرفات جفنيها ‪ ..‬تنبهت لظلها وتأملته وكأنها تتشاغل عن‬
‫هواجسها لعلها تنسى ماهى فيه من أرتباك وحيرة ‪ .‬أفلتت يدها التى كانت تحبسها بين فخذيها ‪ ..‬قربت‬
‫رأسها وعيناها مركزتان إلى الحائط ‪ ،‬مشت بأناملها على الخيال تتحسسه ‪ ،‬إال أنها رفعت يدها حين‬
‫شعرت بهاتين العينين تراقبها ‪ ،‬تنظر اليها من زاوية واحدة وكأنها تتفحصها خلسة ‪ .‬أذهلها المنظر ‪..‬‬
‫تشككت فى قوة بصرها ‪ ،‬فأعتصرت عينيها ثم فتحتهما على نفس النظرات ‪ .‬تماسكت ثم أشهرت‬
‫أصبعها ووجهته صوب العين اليسرى فى تردد لتتأكد ‪ .‬أرتعشت مالمحها وشعرت بدوار حين غاص‬
‫أصبعها داخل العين ‪ ..‬كاد أصبعها أن يشل قبل أن تسحبه فى سرعة البرق وكأنما المس قدر يغلى ‪.‬‬
‫رفعت رأسها المترنحة وهى تردد بصوت مخدر ‪ :‬بسم اللـه الرحمن الرحيم ‪ .‬قالتها ولم ترحل بعينيها‬
‫عن الخيال وكأن شيئا يشدها إليه بخيوط لزجة ‪ ..‬ظلت تتابعه وصوت أنفاسها يكلل المشهد ويسرع‬
‫وتيرته ‪ ..‬لم تلحظ فيه مايخيف ‪ .‬غير أنها ثبتت حدقتيها اللتان زادتا أتساعا وهى تقارن بين الرأس‬
‫المرسومة على الحائط وبين رأسها المرفوع ‪.‬‬

‫ــ ياربى ده مش وشى أنا ‪ .‬بدا الفرق واضحا بين األصل والخيال وهى تتابع بأنتفاضة ذلك الوجه‬
‫الشاكى المعذب ‪ ..‬جالت فى قسماته التى تصرخ فيها كل العذابات ‪ .‬تدنو بوجهها للحائط حتى كادت‬
‫تالمسه ‪ ..‬تملكتها فى أول األمر لحظة من الشرود كأنما نسيت شيئا ال تستطيع أن تتذكره ‪ ،‬بدت‬
‫كالمجذوبة وهى تنقل نظراتها بين الخيال وفراغ الغرفة قبل أن تمد بصرها ثانية إلى الحائط ‪ ..‬نطقت‬
‫شفتيها قبل أن ينطق لسانها حين تعرفت على صاحب الخيال ‪ :‬ماما ‪ ..‬رددت أسمها برعشة وهى‬
‫ساهمة مكتفية بمراقبة بقعتان سوداتان بزغتا فجأة أسفل العينين ‪ ،‬وكأن شيئا محبوسا داخلهما ثم خرج‬
‫طافحا وتسرب فى خطين طويلين ينزالن ببطء وتمهل يعبران دائرة الخيال حتى تواريا داخل الفرجة‬
‫الفاصلة بين السرير والحائط ‪ .‬أختنق صوتها وهى تنهج ‪ :‬أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم ‪ .‬ثم حدثت‬
‫‪488‬‬
‫نفسها حين ألتفتت للحائط ولم تجد شيئا ‪ :‬أيه الحلم الغريب ده ‪ .‬اال أنها رفعت كفيها وضغطت على‬
‫رأسها بعنف ‪ :‬هو أنا نمت أصال عشان أحلم ‪ .‬سألت نفسها بنبرة تائهة ‪ .‬لم تستطع أن تحدد موقع‬
‫اللحظة على خريطة الزمن ‪ .‬أنزاحت بجسدها مبتعدة عن الحائط كأنما تحمى نفسها من خطر قادم ‪..‬‬
‫طافت برأسها كل األسئلة بدا وجهها كعالمة أستفهام كبيرة حين طرحت على نفسها تساوال ‪ :‬هو الخيال‬
‫اللى كان على الحيطة بتاعى أنا وال بتاع ماما ؟ خافت من صيغة السؤال ‪ .‬حركت عينيها بأتجاه الباب‬
‫حين شعرت بشبح أمها يطاردها فى الغرفة ويطوف حولها ‪ ..‬صرخت تنادى وكأنها تستغيث ‪ :‬بسمة ‪..‬‬
‫بسمة ‪ .‬لحظات وهلت عليها مهرولة تقترب منها بخطوات سريعة ومالمح مفزوعة ‪ :‬مالك يانورا فى‬
‫أيه ؟ تأملتها األخيرة لثوان ‪ .‬بدت وكأنها التملك أختيار أجابتها ‪ .‬تماسكت وهى الزالت على وضعيتها‬
‫ممددة ‪ :‬ماليش ‪ ..‬كنت عايزة أسألك ‪ ..‬سكتت حاولت أخفاء أرتباكها قبل أن تستطرد ‪ :‬بتعملى أيه كل‬
‫ده عند يوسف ! نفخت بسمة كأنما تنزح عن صدرها خوفا طارئا ثم أحتلت مكانها على حافة السرير ‪:‬‬
‫حرام عليكى يانورا أنا قلت فى حاجة حصلت ‪.‬‬

‫ــ حاجة زى أيه يعنى ؟ سألت وأثار ذلك المشهد باديا على صوتها ‪.‬‬

‫ــ زى حلم يعنى وال كابوس وال تكونى أفتكرتى حاجة ضايقتك ‪ .‬تعمدت أن تضغط على حروف الكلمة‬
‫األخيرة ‪.‬‬

‫ــ ليه بتقولى كده ؟ نظرة طويلة مصحوبة بأبتسامة ذاهلة ‪ :‬عشان من سنين طويلة ماشفتكيش بتبكى‬
‫يانورا ‪.‬‬

‫ــ أنا ‪ .‬قالتها بتجهم وأستغراب قبل أن ترفع جسدها وتسنده إلى ظهر السرير مستهجنة ذلك التصريح ‪.‬‬
‫ودون أرادة منها مدت أناملها تتحسس أسفل عينيها ‪ ..‬دارت بحدقيتها وتساقطت شفتها رغما عنها‬
‫بفعل الصدمة حين بللت الدموع أطراف أناملها ‪ ،‬لوت رقبتها ناحية الحائط كأنما تستجديه وتطلب‬
‫شهادته ‪.‬‬

‫ــ مش أنا اللى كنت بأبكى دى ‪ ..‬صمتت ولم تفصح بينما لمحت بسمة على شفتيها سؤاال حائرا فبادرت‬
‫تستفسر ‪ :‬أنتى بتسألى مين يانورا ؟!‪ .‬لم ترد وأستولى عليها ذهول ‪ ،‬لكن سرعان ما أنتظمت كلماتها ‪:‬‬
‫أنا بأسألك أنتى يابسمة ‪ .‬قالت أجابتها وأشاحت بوجهها شطر الباب تدارى تلك الهزة التى علقت‬

‫‪489‬‬
‫بمالمحها بينما الحظت اختها أنها بدأت تفطن إلى ماأرتكبته من خطأ ؟‪ .‬أستجمعت نفسها ‪ ،‬بدا وجهها‬
‫ناطقا بالسام حين أردفت ‪ :‬أنتى مش حتنامى ‪ .‬سألتها وكأنما تلوذ بها من الخوف ‪.‬‬

‫ــ قاعدة شوية مع يوسف ‪ ..‬نصاية بالكتير ‪ .‬قالتها وخرجت بينما نورا تسند ظهرها للسرير غير‬
‫مصدقة ماحصل لها ‪ .‬ثبتت رأسها لألمام تتحاشى النظر للحائط ‪ .‬لم تستطع أن تقدم أى أيضاح منطقى ‪،‬‬
‫إال أنها لم تستسلم لتلك الحالة فأزاحت الخوف والدهشة ‪ ،‬أقنعت نفسها بمهارة بأن مارأته يتحرك على‬
‫الحائط ربما تهيؤات ليلية ‪ ،‬فال يعدم الليل أن يفرز لها شخصا من هذه الزاوية أو تلك ‪ .‬ومع ذلك فقد‬
‫أضطرت أخيرا أن تنام عندما توقف تفكيرها وأدركت الحقيقة التى حاولت تأجيل أدراكها " أمها رقما‬
‫صعب فى المعادلة اليمكن شطبها بالسهولة التى كانت تعتقدها حتى وان نجحت فى أزاحتها عن البيت ‪.‬‬
‫ربما تختفى بجسدها ‪ ،‬لكنها حتما ستعود فى الليل شبحا يمشى على الجدران !‪.‬‬

‫ما أن دخلت بسمة حتى أدار " يوسف " رأسه مبتعدا عن شاشة الكمبيوتر ‪ ..‬تأمل مالمحها التى لم تعد‬
‫نفس المالمح التى خرجت بها ‪ :‬نورا بتنادى عليكى ليه ؟ مرت بجواره واجمة وجلست على حافة‬
‫السرير ‪ .‬فأثار صمتها فضوله ‪ :‬فى أيه يابنتى ‪ .‬قالها وهو ينتقل بعينيه بين شاشة الكمبيوتر وبين‬
‫وجهها المرفوع للسقف قبل أن تغمض عينيها ‪ :‬حأقولك على حاجة مش حتصدقها ‪ .‬سحبته الجملة‬
‫فأنتبه ‪ .‬أردفت ‪ :‬لما دخلت على نورا لقيتها بتبكى وحالتها مش طبيعية خالص ‪.‬‬

‫ــ ليه أيه اللى حصل ؟ قالها حين فارقه األسترخاء ‪.‬‬

‫ــ هو أنت يابنى مش عايش معانا وال أيه ‪ ..‬كل اللى أحنا عايشين فيه ده عايزه يعدى كده بالساهل من‬
‫غير قلق وال وجع دماغ ‪ .‬شبك أصابعه خلف مؤخرة رأسه تزامنا مع تنهيدة طويلة أتاحت له الفرصة‬
‫كى يبدى رأيا ‪ :‬واللـه نورا صعبانه على أوى وحاسس كده أن المشكلة بقت اكبرمنها بكتير‪.‬‬

‫ــ يابنى المشكلة الكبيرة وال صغيرة ‪ ..‬أصال مافيش مشكلة ‪.‬‬

‫ثم قامت متمهلة حتى وصلت لمكتبه ‪ .‬أستندت بمرفقيها ‪ .‬أستأنفت بجدية التنسجم مع شخصيتها ‪ :‬لو‬
‫تابعت تسلسل األمور بين نورا وماما حتقول فعال المشكلة كبيرة وعويصة ومالهاش حل ‪ .‬قاطعها‬
‫مستغربا ‪ :‬أنتى مش لسه قايلة مافيش مشكلة أصال ‪ ..‬أيه الجنان ده ‪.‬‬

‫‪490‬‬
‫ــ ده مش جنان ولوحضرتك عاقل وفاهم ياريت تقولى هى أيه أصل المشكلة اللى أحنا فيها ‪ .‬أرتبك ‪:‬‬
‫يعنى ‪ ..‬نورا خايفة علينا و ‪ ..‬انتصبت واقفة وهجمت عليه بعينيها ‪ :‬خايفة علينا من مين ‪ ..‬من أمنا ‪..‬‬
‫طب ليه ؟ سألته ثم أجابت ‪ :‬عشان دخلت السجن والناس بتعايرنا بيها وببيهربوا مننا كأننا جربة ‪ .‬بدا‬
‫صوتها عاليا وغير محتمل بالنسبة له ‪ :‬أنتى نسيتى مستقبلنا اللى عمال يضيع مننا وأحالمنا كلها اللى‬
‫بقت على كف عفريت ‪.‬‬

‫ــ بذمتك أنت مصدق أن ماما هيه السبب ورا كل اللى بيحصلنا ده ‪ .‬أنهت جملتها بضحكة ساخرة مبتعدة‬
‫إلى وسط الغرفة قبل أن يالحقها بأستفساره ‪ :‬مش فاهم ـ وال أنا كمان فاهمة عشان كده بأسألك وبأسأل‬
‫نفسى ‪ ..‬هى الخناقة الحقيقية اللى بين نورا وماما على أيه بالظبط ؟ سؤال مباشر له أكثر من أجابة فى‬
‫عقل يوسف ‪ .‬أختار أوضحها ‪ :‬نورا شايفة أن وضع ماما فى وسطينا حيكون ضرره كبير علينا عشان‬
‫كده ‪ ..‬رؤية مكررة قاطعتها بأنفعال ‪ :‬عشان كده أيه ‪ ..‬نخليها تتجوز عشان تمشى من البيت ‪ ..‬تمشى‬
‫من بيتها يايوسف عشان أحنا نرتاح ؟!‪ .‬فقد النطق بعدما تسلم مهام منصبه سميعا ‪ .‬فرفعت عنه الحرج‬
‫حين علقت ساخرة بضحكة مطولة تخللتها مرارة لم تشعر بها من قبل ‪ :‬الحاجة الغربية اللى حتجننى أن‬
‫كل اللى نورا بتعمله ده عشان خاطرنا أحنا النها بتخاف علينا وبتحبنا زيادة عن اللزوم واألغرب من‬
‫كده أن ماما كمان دخلت السجن وقعدت فيه سنين برضه عشان بتحبنا وبتخاف علينا ‪ .‬أنهت جملتها مع‬
‫ضحكتها وعادت تقترب ثانية من يوسف الذى تحول إلى صنم ‪ .‬تابعت ‪ :‬يبقى كده يا أستاذ الخناقة بقت‬
‫معروفة ‪ ..‬رددت جملتها ويديها خلف ظهرها ثم ترجلت بخطوات هادئة ‪ .‬حدثت نفسها كما حدثت الصنم‬
‫الذى دبت فيه الروح وظل يتابعها ‪ :‬المشكلة الكبيرة دلوقتى ان كل واحدة فيهم عايزة تملكنا ‪ ..‬كل‬
‫واحدة عايزة تثبت أنها ضحت اكتر من التانية ‪ ..‬ولو عايز الحق المشكلة مش فيهم همه األتنين‬
‫المشكلة الكبيرة فينا أحنا ‪ ..‬فكت وثاق يديها المشبوكة وأتسعت عينيها فى عينى أخوها متساءلة ‪ :‬أحنا‬
‫بنحب مين أكتر ‪ ..‬اللى شالت همنا من صغرنا وأتحملت مسئوليتنا لغاية ماوقفنا على رجلينا وال اللى‬
‫خلفتنا وضحت بأحلى سنين عمرها فى السجن عشان خاطر حقنا مايرحش ‪ .‬سألت السؤال الصعب الذى‬
‫جر خلفه نقاشا وفتح بابا للجدل الداخل الذى يحمل معه مقارنات ومشاهدات تدور كلها حول مزايا األم‬
‫وفوائد األخت !! ‪.‬‬

‫حوارات وحكايات أكلها الليل وأنتهت على أعتاب الفجر مع جملة أخيرة حسمت بها بسمة السهرة ‪ :‬أنا‬
‫وأنت يايوسف عاملين زى الحمار مطرح مايحطه صاحبه أدينا عايشين والمثل بيقول من خاف سلم‬

‫‪491‬‬
‫خلينا يابنى مداريين وجنب الحيطة ‪ .‬قالتها وفقدت الكثير من طاقتها ‪ ..‬لم يعرفا بعد طعم الحرية التى‬
‫التحيا إال فى الضرورة ‪ .‬قامت مرهقة حتى وصلت للباب ‪ :‬تصبح على خير يايوسف ‪.‬‬

‫بالرغم من فوات موعد نومه ‪ ،‬إال أن يوسف أصر على أكمال سهرته محتفال بنشوة هذا األنتصار‬
‫الساحق الذى حققه اليوم فى مكتب المهندس " ناجى " ‪ .‬بدا واثقا أن التهمة التى طالما وجهها الى‬
‫نفسه بأنه دائما غير قادر على الفعل ‪ ،‬قد أنتهت منذ ذلك اليوم ‪.‬‬

‫يبدو أن الحب ليس سلعة يمكن أن تفقدها ثم تعود تستردها ‪ .‬أيقن اآلن ودون تردد ‪ :‬أن من شوهت‬
‫األحقاد حبه اليمكن أبدا أن يستعيده من جديد ‪ .‬نجح اليوم فى أسترداد كرامته ‪ .‬أدرك األن أن هدير‬
‫لم تكن قد دخلت معركة اليوم لكى تهزم ‪ ،‬وإال لظلت بعيدة ‪ ،‬كانت تريد أن تظفر هى أيضا بأنتصار‬
‫جديد ‪ .‬غير أنه واجه نفسه متساءال عن سر أهتمامه الشديد بالرغم من أنحسار حبها فى قلبه ‪ ..‬أبتسم‬
‫أبتسامة من تعافى من مرض عضال حين أعتلى سريره مستدعيا تلك النظرية التى تقول ‪ :‬نقيض الحب‬
‫هو الكره ‪ ،‬بل هو عدم األكتراث ‪ .‬الفرق ليس كبيرا بين الحب والكره ‪ ،‬فالكره ‪ ..‬مثل الحب ‪ ..‬ليس‬
‫سوى درجة من درجات األهتمام باألخر !!‪ .‬وبناء عليه بات على قناعة تامة أن عالقته بأيمان قد‬
‫أستوعبت عالقته بهدير ‪ ،‬وهذا يعنى أن حاضره األن قد شمل ماضيه ‪ ،‬وهذا هو طريق الخالص الوحيد‬
‫من تجربته القاسية ‪.‬‬

‫صباح اليوم التالى ‪..‬‬

‫وصلت نورا األتيليه متأخرة عن موعدها بساعة كاملة ‪ .‬بخطوات مرهقة ومزاج عكر توجهت الى مكتب‬
‫زيزيت التى كانت تتجرع أخر نقطة من فنجان القهوة ‪ .‬بوجه شوهه السهر واألرق ‪ :‬صباح الخير‬
‫يامدام ‪ .‬رافقتها نظرات قلقة من عينى زيزيت حتى جلست ‪ :‬صباح الخير يانورا ‪ ..‬مالك ياحبيبتى شكلك‬
‫باين عليه التعب‪.‬‬

‫ــ قلة نوم يامدام ‪ .‬ثم عبثت بجفنيها دعكا وفركا متجاوزة الرد على سؤال زيزيت ‪ :‬لو تعبانة يانورا‬
‫أطلعى أرتاحى شوية ‪ .‬بأحساس متوتر ‪ ،‬مستمد من أعماق ضغط عصبى هائل ‪ .‬مدت يدها داخل‬
‫ح قيبتها وسحبت كارت لوحت به فى وجه زيزيت التى عاينته بنظرة مستفهمة ‪ :‬بتاع مين الكارت ده ؟‬
‫ــ ده اللى حيخلصنى من األرف ووجع الدماغ اللى أنا فيه ‪ ..‬ده كارت األخصائية بتاعة السجن لقيته فى‬
‫حاجات ماما ‪.‬‬
‫‪492‬‬
‫ــ وحتعملى بيه أيه ده ‪ .‬قالتها بتلقائية ساخرة فى حين أبدت نورا تفاؤال ‪ :‬أكيد األخصائية دى تحت‬
‫أيديها كل عناوين اللى خرجوا من السجن يعنى أكيد حتبقى عارفه عنوان الست اللى أسمها فايزة أو‬
‫على األقل رقم تليفونها ‪ .‬رفعت حاجبيها مبدية دهشة ‪ :‬كالمك ممكن يكون صح بس ‪ ..‬لم تكمل جملتها‬
‫وتراجعت بظهرها لظهرالكرسى ‪ ،‬بينما أستعلمت نورا بتجهم ‪ :‬بس أيه ؟‬

‫ــ متهيألى يعنى مش بالبساطة دى تديكى عنوان سجينة والرقم تليفونها ‪ ..‬ده غير أنها أصال‬
‫ماتعرفكيش ‪ .‬هوت يدها بالكارت المرفوع على سطح المكتب وأنتكست نظرتها وصمتت محبطة بحثا‬
‫عن مخرج قبل أن تنتزعها من متاهة الشرود ‪ :‬ع العموم جربى وأتصلى مش حتخسرى حاجة ‪.‬‬
‫أنصاعت لوجهة نظرها وهى تدرك مدى خسارتها كلما طالت فترة غياب أمها ‪ .‬مشت بعيناها على الرقم‬
‫المدون أسفل الكارت واصبعها على زناد الموبايل تضغط األرقام تباعا ‪ ..‬علقت أماال على تلك المكالمة‬
‫وهى تنصت لرنين الجرس ‪ .‬بكلمات محددة بدات كالمها حين تلقت ‪ :‬الو ‪ ..‬مين معايا ؟‬

‫ــ أنا نورا نديم السبروتى ‪ .‬لم تتلق أى أجابة إال بعد ثوان ‪.‬‬

‫ــ أهال وسهال ‪ ..‬أى خدمة ‪.‬‬

‫ــ أنا بنت هدى عبد الفتاح أسماعيل ‪.‬‬

‫ــ مش واخدة بالى واللـه ‪.‬‬

‫ــ كانت سجينة عندكو وخرجت فى عفو ‪ .‬قالت جملتها وأتجهت ببصرها لزيزيت التى تراقب اجواء‬
‫المكالمة ‪ .‬بدت خجولة حين استطردت بنبرة خافتة ‪ :‬لقيت كارت بأسم حضرتك موجود مع ماما وده‬
‫اللى شجعنى وخالنى أتصل وأطلب منك خدمة ‪ .‬أنتظرت تعقيبا على جملتها األخيرة والذى جاءها بعد‬
‫لحظات يحمل نبرة منعشة ‪ :‬أهال أهال ‪ ..‬أنتى نورا بنت هدى اللى كانت محبوسة فى قضية القتل الخطأ‬
‫قالت كالمها كمن أستعادت ذاكرتها ‪.‬‬

‫ــ أيوه حضرتك ‪.‬‬

‫ــ تحت أمرك ياحبيبتى ‪ .‬لم تتردد فى الطلب ‪ :‬بصراحة ياأستاذة فى شوية مشاكل كده حصلت مع ماما‬
‫وكانت نتيجتها أنها سابت البيت ومشت وبقالها دلوقتى تالت تيام مانعرفش عنها حاجة ‪ ..‬لم تمهلها ‪:‬‬
‫ليه كده بس ‪ ..‬أنا قربت من مامتك فى الفترة األخيرة ولقيتها أنسانة رقيقة جدا ومش بتاعة مشاكل ‪.‬‬
‫‪493‬‬
‫ــ اللى حصل بقى ‪ .‬رددتها بملل ثم أردفت ‪ :‬هى حضرتك قبل ماتسيب البيت عرفنا أنها راحت عند‬
‫واحدة كانت معاها فى السجن أسمها فايزة وساكنة فى كرموز لكن لألسف مش عارفين العنوان بالظبط‪.‬‬

‫أنساب اليها صوت األخصائيةفى هدوء ‪ :‬فايزة دى كانت معاها فى نفس الدفعة اللى خرجت فى العفو ‪.‬‬

‫ــ أيوه يافنــدم ‪.‬‬

‫ــ والمطلوب ؟! ‪.‬‬

‫ــ أكيد حضرتك عندك عناوين اللى خرجوا ‪ .‬عند تلك الكلمات همهمت األخصائية مع نفسها بصوت‬
‫مسموع ثم قالت ‪ :‬اللى بتكلمينى منها دى نمرتك يانورا ‪.‬‬

‫ــ أيوه ‪.‬‬

‫ــ طب أدينى كمان نمرة مامتك وسيبينى أنا حأتصرف وحأكلمك تانى ‪.‬‬

‫ــ بس ماما قافلة موبايلها على طول ‪.‬‬

‫ــ ماتشغليش بالك أنا حأتأكد بنفسى من كل حاجة والنهاردة بالكتير حأرد عليكى ‪ .‬عند هذا الحد أنتهت‬
‫المكالمة ولم تحصل نورا على رفض أو قبول ‪ ،‬فركبها القلق واألحباط وسط نظرات زيزيت التى بدت‬
‫على غير العادة التحمل رأى وال تقدم وجهة نظر ‪.‬‬

‫‪00000000000‬‬

‫بدا صباحا مختلفا بالنسبة لفايزة التى واجهت الليل بغفوات متقطعة دون أن تحسب الساعات الباقية‬
‫لرحيله ‪ .‬حاولت أن تدفع عن احالمها كل الوجوه التى عذبتها وتأمرت عليها دون جدوى ‪ .‬جاءها‬
‫منصور فى الحلم بصحبة أبوه عبده الجن ومن خلفهما بدرية ونوسة ‪ ،‬حتى السجانة والسجن ‪ .‬الكل‬
‫زارها ‪ ..‬بدوا فى هيئة وحوش ‪ ،‬تفرست فيهم تتفحصهم بمالمح شرسة ‪ .‬الزالت حتى اللحظة تتحسس‬
‫مصيبتها ‪ ..‬فجيعتها فى ابنها الوحيد تفوق قدرتها على األحتمال ‪ .‬بدت كمن سلبت ذاكرته وعندما‬
‫أستردها فجأة أكتشفت أنه محكوم بما اليصدق ‪ ،‬وكانها محبوسة داخل كيان بشرى النسان اخر ‪ ،‬تطل‬
‫من خالل عينيه على ماحولها ‪.‬‬
‫‪494‬‬
‫كلما رفعت رأسها من على الوسادة يسحبها الصداع والضغط المرتفع ‪ ،‬فيعيدها هامدة بآهات مكتومة ‪.‬‬
‫حركت عينيها ببطء كجمرتى نار تلسع جفنيها حين نظرت لوجه هدى الذى يشاركها نفس الوسادة بعد‬
‫ان صرعها النوم مع طلوع النهار بعد معاناة طويلة ومحاوالت مضنية لتهدأة فايزة ‪.‬‬

‫لملمت ماتبقى لها من قدرة ‪ .‬حاولت سحب نفسها من على السرير ‪ ..‬فشلت مرتين ونجحت فى الثالثة ‪.‬‬
‫قامت بهدوء كى التشعر بها هدى ‪ .‬فتحت باب الغرفة وخرجت تترنح فى الطرقة كالحامل فى شهرها‬
‫األخير ‪ ..‬توجهت للصالة مكانها المفضل ‪ .‬أعتلت الكنبة بتوجع وتربعت فوقها متأملة ‪ ..‬ترى المشهد‬
‫األن من زاوية أوسع وكأنما تراه من فوق برج مراقبة ‪ ..‬أتاح لها الهدوء كشف المساحة كلها وتعرية‬
‫الوجوه وقراءة كل المعطيات بتأنى ‪ ..‬هى األن تسترجع وتعيد ‪ ،‬تفكك وتركب ‪ ،‬تفكروالتفكر !!‪.‬‬

‫أنفتح باب غرفة منصور الذى ظهر بمالبس الخروج ‪ .‬خطوتين وتفاجأ بكومة اللحم المتربعة فوق‬
‫الكنبة ‪ ،‬فظهرت أمامه بوجه اليعرفه ‪ ..‬وجه بال مالمح ‪ .‬تفحصها بعينيه حين أقترب ‪ .‬وجد فيها شيئا‬
‫مخالفا للمألوف ‪ .‬مسح على شعره ثم على وجهه وهو يقف أمامها برأس طافحة بالشكوك والريبة ‪.‬‬
‫وضع أبتسامة ‪ :‬صباح الخير ياما ‪ ..‬صاحية بدرى ليه ‪ ..‬رفعت له رأسها ونظراتها تتفشى فى وحشية‬
‫مكتومة الى وجهه ‪ .‬لم تبد أى أهتمام ‪ .‬كأنها التسمعه والتريد رؤيته ‪ .‬بينما اليعرف سببا لذلك النفور ‪:‬‬
‫هو أنا زعلتك ياما ومش واخد بالى ؟!‪ .‬أرتفع صوت أنفاسها ‪ :‬ليه بتقول الكالم ده ‪ .‬قالتها بنبرة خشنة‬
‫مخيفة ‪.‬‬

‫ــ أمبارح خبط عليكى باب األوضة والست هدى قالتلى انكى نايمة ‪ ..‬وبينى وبينك أستغربت وقلت مش‬
‫عوايدك يعنى ‪ .‬باألمس سمعت صوت باب الشقة وهو يغلق وصوت قدميه تتجه لغرفتها ‪ ،‬فأغلقت‬
‫أجفانها ‪ ،‬وشدت على وجهها الغطاء قبل أن يصل صوتها المرتعش من تحت البطانية إلى هدى ‪ :‬خليه‬
‫يمشى مش عايزة أشوفه وال أسمع صوته ‪ .‬فتطوعت وصرفته ‪.‬‬

‫فى تلك اللحظة كانت فايزة قد وصلت هى ونفسها إلى قمة المأساة ‪ .‬تسترت من جديد على أنفعالها ‪:‬‬
‫كنت مصدعة وأتخمدت ‪ .‬مالمحها ونبرة الصوت الجافة والمزاج الصارم البادى فى وجهها ‪ ،‬أعاده‬
‫فجأة الى زمن الضياع واألقصاء ‪ ..‬شريط حياته وتجاربه التى تنتهى الى الشيىء حضرت أمام عينيه‬
‫بدعوة مجهولة ‪ .‬تذكره بفساد كل النهايات !‪ .‬جلس إلى جوارها ‪ :‬ماتقوليلى ياما فى أيه ؟ طرح سؤاله‬
‫وأشاح بوجهه ناحية الطرقة حين سمع خطوات هدى التى أقتربت من الصالة تزامنا مع نهاية جملته ‪.‬‬
‫فتأملها بينما أخفت قلقها خلف أبتسامة مترددة ‪ :‬مافيش حاجة يامنصور هى بس تعبانة شوية ‪.‬‬
‫‪495‬‬
‫ــ أمى تعبانة ‪ ..‬أزاى يعنى ؟! قالها غير مصدق وكأنها كائن اليمرض ‪ .‬ثم قام متنهدا ومشى بخطوات‬
‫متثاقلة حتى باب الشقة بعد أن فرغ لتوه من نظرة فاحصة فى وجهها الذى صار أكثر تعقيدا ‪ ..‬فتح‬
‫الباب وخرج هارشا رأسه بعنف محدثا نفسه ‪ :‬الحكاية كده ماطمنش ‪ .‬تنهد ونفخ ثم أوصد الباب خلفه ‪.‬‬
‫ما أن خرج حتى جلست هدى الى جوارها ‪ .‬أرادت أن تجدد محاوالت التهدأة ‪ ،‬غير أن لسانها‬
‫كان يخذلها ويتراجع الى حلقها عندماتنظر الى عينيها اللتان تورمتا بفعل البكاء ‪ .‬أرغمت نفسها على‬
‫الكالم ‪ :‬عشان خاطرى يافايزة أرحمى نفسك بقى ده أنا بأقول عليكى جدعة وأقوى منى ‪.‬‬

‫ــ هى دى فيها جدعنة ياهدى ده أنا أم ‪ ..‬أم قلبها أنكسر وحيلها أتهد وهى شايفة قدام عينيها أبنها‬
‫الوحيد بيدبر لها داهية عشان يخلص منها ويأخد فلوسها وتقوليلى أهدى ‪ .‬ألتهب وجهها وهى تقاوم‬
‫مصيبتها بأهات مكتومة وحفنات من دموع ‪ .‬صمتت قبل أن تتخذ هدى هى األخرى قرارا بالصمت لعلى‬
‫قلة الكالم أو تأجيله يكون دواء لألوجاع ‪.‬‬

‫طال الصمت لعشر دقائق قبل أن تجنى فايزة بعض ثماره ‪ ..‬بدا أنها تستعيد جزءا من هدؤها ‪ .‬هدوء‬
‫الحكمة ‪ ،‬الهدوء الذى يقتضيه المأزق ‪ .‬أصبحت أكثر شرودا أو أكثر تأمال كأنما هى على وشك قرار‬
‫خطير ‪ ..‬دارت بعينيها ألكثر من مرة ‪ .‬ثم توقفت عن الدوران كما توقفت يدها فوق موبايلها الذى‬
‫سحبته من حجرها ‪ ، ،‬قربته لعينيها تبحث فى قائمة األسماء ثم أجرت أتصاال ‪.‬‬

‫ــ صباح الخير ياأستاذ محمود ‪.‬‬

‫ــ صباح الفل ‪ ..‬صاحية بدرى ليه ؟ تجاوزت نبرته الباسمة إلى نبرتها الصارمة ‪ :‬عايزاك تسمعنى‬
‫كويس وتعمل اللى حأقولك عليه ‪.‬‬

‫ــ أوامرك ياست الكل ‪.‬‬

‫ــ وقف الشغل كله فى أرض أبن شكر ‪ ..‬خلى المقاول يلم رجالته ويمشى ومن النهاردة ماتتعاملش مع‬
‫منصور فى أى حاجة والتكلمه فى أى حاجة تخص شغلنا ‪ .‬تأمل نبرة الصوت العصبية محاوال أستيعاب‬
‫ماسمع ‪ :‬ليه كل ده يامعلمة أيه اللى حصل ؟ ‪.‬‬

‫بعدين حأفهمك ‪ .‬أتاها صوته بنبرة مسترخية ‪ :‬طب أهدى يامعلمة وأنا مستنيكى ‪ ..‬ياريت تعدى‬ ‫ــ‬
‫على األول نتكلم وبعد كده نبقى نشوف حنعمل أيه ‪ .‬تلقت أذنه صرخة ‪ :‬اللى بأقولك عليه أعمله ‪.‬‬
‫‪496‬‬
‫أنسحب لسانه راجعا الى حلقه بعدما نطق بكلمة ‪ :‬حاضر ‪ .‬ثم حذرته ‪ :‬ولو منصور جالك المكتب وسألك‬
‫عن اى حاجة قله ماعرفش ‪ .‬سكت للحظات وعقله يقاوم التعليمات‪ :‬هو أحنا مش ربنا هدانا يامعلمة‬
‫وقلنا حنبدأ صفحة جديدة وأى مشكلة مع منصور قلنا حنحلها بالعقل والتفاهم ‪ .‬أنهت المكالمة ولم تهتم‬
‫بالنصيحة وظلت على وضعية األنفعال للحظات قبل أن تعود لهدوءها رافعة رأسها ونظرتها فى تحد‬
‫عجيب ‪ .‬فقد أعتادت على أن تعيش الحياة مثل الطاووس التعرف الهزيمة أو األنكسار ‪ .‬كان عليها أن‬
‫تحسم أمرها وتتخذ موقفا ‪.‬‬

‫راقبت هدى نظرتها القاسية ‪ :‬يعنى مش ناوية تعديها يافايزة ‪.‬‬

‫ــ ماعدش ينفع ‪ .‬جرح تحول الى وحش ثائر كما تحولت قرارتها الى رغبة فى الثأر وطالتها روح‬
‫األنتقام‬

‫‪00000000000‬‬

‫فى تلك الساعة ‪ ..‬ساعة القلق واألنتظار ‪ .‬أرتبك ذهن نورا وتوترت أعصابها عندما نزف موبايلها‬
‫بشدة ‪ ،‬تسيل منه رنات مفرحة حين الح رقم األستاذة " هناء " أمام عينيها التى جاء صوتها قويا واثقا‬
‫حين أجابت نورا ‪ :‬أيوه ياأستاذة ‪ .‬كان يكفى ذكر اجابة واحدة ليصبح عنوان فايزة متاحا ‪ :‬معاكى ورقة‬
‫وقلم يانورا ؟ ‪.‬‬

‫ــ طبعا حضرتك ‪ .‬أملتها العنوان تفصيليا كأنه خريطة لكنز ثم ترجتها ‪ :‬عايزاكى توعدينى لما مامتك‬
‫ترجع البيت خليها تكلمنى ضرورى ‪.‬‬

‫ــ من غير ماتقولى حضرتك على األقل تشكرك ‪.‬‬

‫أنتهى زمن المكالمة وسرحت نورا ‪ .‬البد أن يكون التفكير بطيئا وهادئا ‪ ،‬هى تتحرك بحساب ‪ ،‬والتريد‬
‫أن تخسر كل شيىء ‪ ،‬ألن الضمانات غير موجودة ‪ .‬قررت بعد نصف ساعة من التركيز والتفكير أن‬
‫‪497‬‬
‫تحشد ألمها كل ما تثق بهم كى يؤثروا عليها ‪ .‬غادرت حجرة التفصييل باألتيليه بعد أن شددت على‬
‫زيزيت بوجوب حضورها ضمن كوكبة ستذهب لجلب أمها من مخبأها ‪ .‬عقدت مجموعة لقاءات سريعة‬
‫فور صعودها إلى الشقة ‪ .‬أجتمعت مع عمتها وبسمة وأستدعت يوسف لتنسيق المواقف ‪ ،‬ثم أجرت‬
‫أتصاال بخيرى أخبرته بما تم وماتوصلت إليه ‪ ،‬موجهة له الدعوة فى نهاية المكالمة أن يكون من ضمن‬
‫وفد سيتحرك فى تمام الخامسة مساء بأتجاه كرموز حيث تتحصن أمها ‪.‬‬

‫صنع خيرى من الموعد أحتفاال وأرتدى بدلة المناسبات ‪ .‬شعر بسعادة مفرطة ‪ ،‬إال أن شيخوخته‬
‫الزاحفة ببطء علمته أن يحاذر فى األفراط فى السعادة ‪ .‬تحرك الموكب من أمام مدخل البيت فى ثالث‬
‫سيارات دفعة واحدة وكأنهم فريق أمنى فى مهمة رسمية لضبط سجين هارب ‪ .‬فى المقدمة قادت زيزيت‬
‫سيارتها والى جوارها نورا وفى ذيلها سيارة خيرى بصحبة أبنه شريف الذى أجبر على الحضور بأمر‬
‫من والده آليهام هدى بأن األمور هادئة ومستقرة كما أوحت له نورا ‪ .‬بينما فى المؤخرة جاءت سيارة‬
‫أيات التى تحبو خلفهما تحت قيادة يوسف وبتوجيهات من عمته فى حين أنشغلت بسمة المختبأة فى‬
‫المقعد الخلفى تراجع فى عقلها بعض العبارات التى ستفتتح بها لقاء أمها ‪.‬‬

‫تألقت شفتى خيرى على أبتسامة وهو يقود سيارته ‪ ،‬كانت عيناه تشقان الطريق فى حماسة ‪ ،‬تسبقان‬
‫الزمن والمسافة ‪ .‬تفرقت سياراتهم على الطريق قبل أن تلتئم بعد ساعة عند أطراف كرموز ‪ .‬تمهلوا‬
‫وأبطأوا من سرعتهم حين دخلوها فاتحين قبل أن تتحول سياراتهم الى مجموعة سالحف تزحف ببطء‬
‫حين دخل الموكب الى قلب كرموز الذى يتمسك أهله بكل الشعارات وأدعاءات الحداثة ‪ ،‬بينما فى نظرهم‬
‫مكان شديد البؤس حيث القلب كان يعانى من أرتفاع فى منسوب مياه الصرف الصحى ‪ .‬تطوع أحد‬
‫المواطنين الشرفاء بلعب دور الدليل ‪ ..‬تقدمهم بخطوات سريعة رافعا أنفه ورأسه فى زهو وشموخ‬
‫تتلبسه روح الزعامة وهو يسحب خلفه الثالث سيارات قبل أن يستدير لهم بجسمه رافعا كفيه مشيرا‬
‫لهم بالتوقف ‪ .‬خضع الجميع لتعليمات القائد متبعين حركة أصبعه الذى أشار به لكومة " زبالة " معلنا‬
‫أنها أول حدود حارة " المنجى " ‪ .‬خرج الجميع من سياراتهم بعد " ركنة " متعسرة وسط ذهول‬
‫األهالى وتربص األطفال الذين داروا حول كل سيارة وكأنهم فى حفلة " زار " أال أنهم ألتزموا الهدوء‬
‫وبدت جمهرتهم سلمية حين سأل خيرى زعيمهم عن بيت " فايزة " ‪ ،‬تلقى المعلومة وأشار للباقيين بأن‬
‫البيت المستهدف على يمينهم ‪ .‬مروا جميعا بأتجاه المدخل وسط عيون أحتشدت بالفضولية ‪ .‬أما‬
‫الجغرافيا التى خطت على ترابها قدمى أيات أذهلتها بشاعتها ‪ .‬تتلفت حولها تلملم صور البيوت‬

‫‪498‬‬
‫والسحنات ‪ ،‬لترى وجها أخر لألسكندرية ‪ ،‬ربما وجها غائرا فى القدم يعود إلى العصور الوسطى ‪ .‬لم‬
‫تتخيل مشهد الحارة الدامى ‪ ..‬بالوعات تنزف مجارى تتصاعد منها أبخرة " نتنة " تزكم األنوف وبيوت‬
‫متأكلة تسكنها وجوه تحمل بقايا بشر ‪ .‬فأبدت تذمرا وسجلت موقفا ‪ :‬الناس اللى موجودين هنا أحياء‬
‫وال أموات ؟!‪ .‬حوطوا البيت متأملين ‪ ،‬ثم خطو محاذرين حتى ألتقوا أمام السلم ‪ .‬كان خيرى فى مقدمة‬
‫الصاعدين ينقل قدميه درجة بعد درجة وقد أستبدت به نشوة حيوان أطلق سراحه ثم تبعه الباقين بمالمح‬
‫متناقضة بين متفاءلة ومتجهمة ومتوترة ‪ ،‬بينما شريف الذى تحاشى نظرات نورا التى ظلت ترمقه بدا‬
‫متملمال ‪ ،‬فالزيارة التعنى له شيئا ‪ .‬تقدم يوسف خلف خيرى ثم شريف ومن بعده نورا ثم زيزيت التى‬
‫تتحسس السلم بينما أيات التى تسندها بسمة فى المرتبة األخيرة وقد تقطعت أنفاسها وهى تحمل أقدامها‬
‫تعتلى السلم وصوت بسمة يتبعها ‪ :‬ركزى ياعمتى لحسن تقعى ماعنديش حيل أشيل ‪ .‬طوتهم ظلمة‬
‫السلم ‪ .‬لحظات وأصطفوا أمام باب الشقة فى طابور يترأسه خيرى مبتسما حين رن جرس الباب ‪..‬‬
‫ضغطة واحدة وتراجع للخلف مصطدما بيوسف المتخشب خلفه ‪ .‬فتحت فايزة الباب ‪ ..‬تلقت عينيها‬
‫مجموعة الوجوه المكدسة بفزع ‪ ..‬قوست حاجبيها وترفع أجفانها المتورمة ‪ ..‬أهتز جسدها بشدة حين‬
‫تعرفت على نورا ويوسف الواقفين فى وسط الصف الذى ينتهى مع دوران السلم ‪ .‬وقفت صامتة مذهولة‬
‫حتى أتاها صوت خيرى ‪ :‬حضرتك الست فايزة ‪ .‬لم تقو على الكالم ‪ .‬كان األمر أشبه بزيارة عزرائيل ‪.‬‬
‫ترنحت رأسها وكأنها تلقت لكمة ثم تقهقرت متراجعة حين تقدموا ‪ ..‬وقفت فى حذا الباب المفتوح ‪..‬‬
‫تخشبت يدها الممدودة لتتلقى مصافحة الداخلين تباعا كأنما تتلقى عزاءا ‪ ..‬تتأمل الوجوه المارة أمامها‬
‫قبل أن تفيق من صدمتها وتتبعهم الى الصالة التى أحتشدوا فى وسطها ‪ .‬أنسابت نظراتهم لكل شبر فى‬
‫المكان ثم بادرتهم بصوت ساهم ‪ :‬أتفضلو أستريحو‪ .‬هذه هى اللحظة التى كانت تخشاها ‪ ..‬أنتعشت فيها‬
‫كل المخاوف ‪ .‬تلكأ يوسف فى دخول الصالة مقتربا منها ‪ :‬كنت بأشوف حضرتك كتير مع ماما لما كنت‬
‫بأزورها فى الـ ‪ ..‬خجل من الكلمة فأبتلعها قبل أن يلفظها وأبتسم ‪ .‬بينما أنتاب فايزة حالة من الضياع‬
‫وهى فى طريقها لهدى ‪ .‬طائر الفراق يغرد ‪ ..‬فتحت باب الغرفة بمالمح متوترة وأتجهت لهدى الممددة‬
‫على السرير والتى لمحت فيها أضطرابا ‪ :‬فى حاجة يافايزة‪ .‬لم تتحمل ‪ ..‬ضاق صدرها ‪ ..‬حبست‬
‫دموعها ‪ .‬فأنتفضت هدى بجسدها وجلست وسط السرير ‪ :‬مالك يافايزة ‪ ..‬مين اللى كان ع الباب ؟ دققت‬
‫فيها ‪ :‬جايين ياخدوكى ‪ .‬تصلب كل مافيها ‪ :‬مين دول ؟ ‪.‬‬

‫ــ والدك وعمتهم ومعاهم كام نفر ‪ .‬تحولت فجأة الى كيان يهتز التكاد تنتصب لتنحنى ‪ :‬عرفوا‬
‫هنا أزاى ؟‪.‬‬
‫‪499‬‬
‫ــ ماعرفش ‪ .‬قالتها وهى على وشك البكاء ‪ .‬ثهم أردفهت ‪ :‬مهش حتخرجهى لههم؟ ‪ .‬سهألتها وكأنهها تختبهر‬
‫مشهاعرها ‪ .‬لهم تجههب وضهغطت علهى جبينههها بكفهها كأنمها ترتههب أفكارهها ‪ .‬هبطهت السههرير ومشهت ناحيههة‬
‫الدوالب ‪ ..‬فتحته وسهحبت منهه نفهس المالبهس التهى جهاءت بهها ‪ ،‬بينمها أنزاحهت فهايزة إلهى ركهن الغرفهة‬
‫تراقب عن كثهب مالمهح صهديقتها ‪ .‬لهم تفلهح فهى الوصهول لفههم أو تحليهل ‪ .‬لهم يكهن صهوتها طبيعيها حهين‬
‫سألت ‪ :‬حتعملى أيه معاهم ياهدى ؟ ‪.‬‬

‫ــ مش عارفة ‪ .‬قالتها حين أنتهت من أرتداء مالبسها ثم خرجت من الغرفة بينما ظلت فايزة فى ركنها‪.‬‬

‫األمل يلفهظ أنفاسهه األخيهرة ‪ ،‬علهى وشهك أن تفقهد ههدى ‪ .‬شهعور يحهرك داخلهها صهوت يهائس ‪ :‬خهالص‬
‫حتسبينى لوحدى ؟!‪.‬‬

‫سمعت أصهواتهم المتداخلهة حهين خطهت أول خطهوة فهى الطرقهة المؤديهة للصهالة ‪ ،‬فهى حهين يحتهل القلهق‬
‫والترقب وجوه الجالسين التى أزدحمت بهم الصالة أنتظارا لقدومها ‪ .‬كان خيهرى أكثهرهم تهوترا ‪ ..‬هكهذا‬
‫هو يتقلقل فى جلسته ‪ .‬لهدى سطوة مختلفة المذاق ‪ ،‬سطوة تشهبه الحبهال المفتولهة تجهره بهها حتهى الهى‬
‫حارة " المنجى " !! ‪.‬‬

‫أبتلعتههها الدهشههة حههين الح لههها منظههر الوجههوه ‪ .‬أبطههأت خطوتههها حتههى الحظههو قههدومها ‪ .‬لمحههها خيههرى‬
‫فأضطرب لثوان قبل أن تبرز أبتسامته ‪ ،‬فى حين هللت وجوه وأقتضبت أخرى وصخب الكلمات يتصهاعد‬
‫دون تنظيم حين هلت عليهم بمالمح مندهشة ونظرات حهائرة ‪ .‬كيهف أسهتدلوا علهى مكهانى ‪ ،‬مهن صهاحب‬
‫هذا الترتيب ؟ ولماذا كل هؤالء ؟ ‪ .‬ضمت أسئلتها الى صدرها وفتحهت عينيهها تهتفحص الجالسهين الهذين‬
‫انتفضههوا وقوفهها ‪ .‬مههرت علههيهم بحههدقتي ها وكأنمهها تسههتعرض مجموعههة مههن المشههتبه بهههم كههى تتعههرف‬
‫على الجانى وتشير اليه ‪ .‬تهافتت عليها بسهمة بأندفاعهة ‪ :‬وحشهتينى أوى يامامها ‪ ..‬كهده برضهه تسهيبينا‬
‫وتمشى ‪ .‬لم تت مكن مهن األجابهة بعهدما أسهتولت بسهمة علهى رأسهها وحشهرتها فهى صهدرها قبهل أن يتقهدم‬
‫يوسف الذى بدا متوترالمالمح وتقلص جلد وجهه متخذا شهكل الحهرج ‪ :‬لهو حتروحهى أخهر الهدنيا برضهه‬
‫حنجيبك ‪ ..‬مافيش حد يقدر يستغنى عن أمه ‪ .‬ثم عانقها ‪.‬‬

‫ــ أزيك ياحبيبى عامل أيه ‪.‬‬

‫ــ أنا كويس طول ماأنتى كويسة ‪ .‬تخطته لتواجهها نورا بعيون ثابتة ‪ .‬كشفت النظرة الباردة ‪ ،‬التى خلت‬
‫من المشاعر و عن تصميمها على تكملة مابدأته ‪.‬‬
‫‪500‬‬
‫ــ يعنى أنتى يرضيكى القلق اللى أنتى عيشتينا فيه ده ‪ ..‬كل البيوت فيها مشاكل ياماما ولو كل واحد خد‬
‫علههى خههاطره وزعههل وسههاب بيتههه يبقههى كههل مشههكلة صههغيرة حتكبههر وكههل سههوء تفههاهم عمههره ماحيتحههل ‪.‬‬
‫قاطعهههت بسهههمة للحيلولهههة دون أحيهههاء شهههبح األزمهههات ‪ :‬خهههالص يهههانورا األمهههور عهههدت ‪ .‬عهههادت األخيهههرة‬
‫لهدوءها ‪ :‬ع العموم أدينا كلنا جينا لغاية عندك عشان تعرفى قيمتك عنهدنا وعشهان تعرفهى كمهان أن كهل‬
‫مشكلة ولها حل بس ياريت تبطلى عصبية وماتاخديش كل حاجة بعناد ‪.‬‬

‫ــ أنا يانورا ‪ .‬تراجعت األخيرة عن تعبير " العناد " حهين قطبهت أمهها وجههها ‪ :‬يعنهى قصهدى يامامها كهل‬
‫حاجهة بالتفهاهم تتحههل ‪ .‬نظهرت هههدى لهها نظههرة تشهاؤمية ‪ .‬كلماتههها تعنهى بقههاء الحهال علههى مهاهو عليههه ‪.‬‬
‫كلمات تعلن أنتحار المستقبل !! ثم تسلمتها أيات التى ضاع من ذاكرتها نص الكلمات ‪ :‬كده كتيهر ياههدى‬
‫‪ ..‬ليه بقى عشان أيه ‪ ..‬حد يعمل كده حد يسيب بيته من غير مايقول رايح فين ‪.‬‬

‫ــ معلش ياأيات اللى حصل بقى ‪ .‬ثم أرسلت نظرة واهنة ‪ :‬ليه تعبتى نفسك يازيزيت ‪ .‬أبتسمت األخيرة‬
‫التى كان على وجهها قناع الترحيب واألعتذار البارد ‪ ،‬مدت ذراعيها تريد أن تحتويها بمشاعر محيرة ‪:‬‬
‫كده برضه ياهدى تمشى من غير ماتقولى وال كلمة ‪ ..‬هانت عليكى العشرة ‪ .‬ثم ضمتها فى صدرها مع‬
‫فاصل عتاب ‪...‬فض المجالس ‪ :‬ماجتيش عندى ليه مش بيتى هو بيتك ‪ ..‬ده أحنا أكتر من األخوات ‪ .‬هزت‬
‫رأس ها وتجاوزتها ‪ ..‬نظرة هادئة خالية من أى توتر أستعملتها هدى حين مرت على شريف وصافحته ‪:‬‬
‫أنا فرحانة أوى أنى شفتك ياحبيبى ‪.‬‬

‫ــ ربنا يخليكى ياطنط ‪ .‬قالها بنفسية مكسورة ثم أنزاح ليتقدم والده ‪ .‬صافحته بكرامة مهدرة وجرحا‬
‫اليطيب ‪ .‬كان عليه أن يختار من أين يبدأ ‪ .‬بداية صعبة ‪ :‬تعبنا أوى على ماعرفنا مكانك ‪ .‬جرت عيناها‬
‫بسرعة على عينيه ‪ .‬لم تستطع أن تقرأ مالمحه وسط زحام الوجوه وتدافع النظرات ‪ :‬ماكانش له لزمة‬
‫التعب ده ‪.‬‬
‫ــ اى تعب يهون قصاد انك ترجعى بيتك ‪.‬‬

‫ــ أنا برضه هنا فى بيتى ‪.‬‬

‫ــ بيتك مش هنا ياهدى ‪ ..‬بيتك وسط والدك ووسط الناس اللى بيحبوكى ‪.‬الشيىء يخرج منها ومنه ‪.‬‬

‫‪501‬‬
‫فى تلقائية ‪ .‬الكلمات محسوبة والمعانى تمر تحت رقابة مشددة ‪ .‬نظراته تجدد فى نفسها المواجع‬
‫والعواطف ‪ .‬لم تصدق انها أمام الرجل الذى تقول عيناه أكثر من لسانه ‪.‬‬

‫بعد أن فرغ الجميع من معاينة المكان ‪ ،‬وتملوا فى الوجه المضطرب الذى يلح ويسأل ‪ :‬عرفتوا مكانى‬
‫هنا أزاى ؟ سألت بشغف كضابط يبحث عن أعتراف سريع ‪ .‬لم تهدأ حتى أدلت بسمة بأعتراف تفصيلى‬
‫قابلته هدى بفرحة عابرة حين سمعت أسم األخصائية يتردد على األلسنة ‪.‬‬

‫لم تمر خمس دقائق قبل أن يضع خيرى بروتوكوال للجلسة موضحا بعض المحاذير ‪ :‬مش عايزين نتكلم‬
‫فى اللى فات أحنا والد النهاردة ‪ ..‬عايزين نخرج من هنا وقلوبنا صافية ‪ ..‬والدك كلهم جايين لغاية‬
‫عندك ‪ ..‬يعنى عفا اللـه عما سلف ‪ .‬أنهى عبارته األخيرة وهتف الجميع ببعض العبارات هدفها‬
‫حلحلة الوضع ‪.‬‬

‫ــ الجميل أصله بيدلع وعايز يعرف غالوته عندكو ‪ .‬مقولة لزيزيت عقبت عليها بسمة ‪ :‬ده مش دلع‬
‫ياطنط ‪ ..‬دى زى ماتقولى كده رحلة أستجمام ‪ ..‬يعنى تغيير ! ثم توالت جمل المجاملة والتضليل وبعض‬
‫من سوء النية على لسان نورا وكأنها فقدت البصر والشعور حين قالت ‪ :‬واللى يحب يدلع ويستجم‬
‫ييجى هنا برضه ؟!‪ .‬وحدها هدى تتأمل الكلمات المصنوعة مكتفية بصمتها ‪ .‬بينما تزحف كلماتهم مثل‬
‫جراد مسعور يلتهم أنسانيتها ‪ ..‬تتخبط فى فراغ الكلمات الرنانة ‪ ،‬عن البيت الذى اليسمى بيتا بدونها ‪.‬‬
‫فى حين أدارت نورا حديثا متشابكا ‪ ،‬تاه الجميع فى توصيفه ‪ ..‬الهو هجومى حاد والدفاعى بحت ‪.‬‬
‫أرتدت أمام الجميع كل األقنعة ‪ ..‬تمسك بزمام المبادرة وتقود القطيع وتغزل أوهاما عن الواقع بال‬
‫أستحياء ‪ ..‬تبالغ فى حجم تضحياتها ومسئولياتها ‪ ،‬فتشيع جوا من الحماسة الزائفة واألمان اللحظى ‪.‬‬
‫تابعتها هدى مصدومة ومحسورة وقد تجسدت أمامها ‪ ،‬كدابة مغرورة ‪ ،‬بال صدق وال مشاعر ‪ ..‬كالم‬
‫خالى المضمون وبال أفق ‪ .‬صارت ترى األمر كله كبضاعة تالفة غير صالحة تحاول نورا تسويقها بعد‬
‫تحديث تاريخ األنتاج ‪ ،‬مع األحتفاظ بكل الشروط والمواقف المسبقة ‪ :‬ال عمل ‪ ،‬السلطة ‪ ،‬ال رأى ثم‬
‫كالما كثيرا يتخلله بعض الطلبات من باقى الجالدين ‪.‬‬

‫كان على كل األصوات أن تخفت ليعلو صوت هدى ‪ :‬خلصتى كالمك يانورا ‪ ..‬خلصتو كلكو كالمكم ‪..‬‬
‫أنصت الجميع وأنتبهوا لنظراتها القوية حين تابعت ‪ :‬أنا الزم أفضل هنا كام يوم وياريت ماحدش‬
‫يعترض وسيبونى على راحتى ‪.‬‬

‫‪502‬‬
‫ــ يعنى أيه نسيبك على راحتك ‪ .‬كان ذلك أول رد فعل على لسان نورا أنفتحت بعده التعليقات ‪.‬‬

‫ــ ماينفعش ياماما نيجى لغاية هنا ونرجع من غيرك ‪ .‬قال يوسف بينما خيرى ‪ :‬الحكاية مش مستاهلة‬
‫ياهدى األمور أبسط من كده ‪ ..‬أرجوكى قومى معانا عشان نمشى ‪ .‬بينما أيات التى جلست صامتة تعاين‬
‫الساكتون والمتكلمون بنظرات حبلى بحكمة السنين قبل أن يفتح اللـه عليها بجملة مفيدة ‪ :‬قومى ياهدى‬
‫بيتك أولى بيكى ‪.‬‬

‫خارج كدر الصالة ‪ ..‬كانت عيون فايزة تراقب من الركن المظلم فى الطرقة ‪ ،‬تستمع لكل مايدور‬
‫فى الصالة بعينين غائمتين وعقل ماتت فيه األفكار ‪ ..‬ماعادت تتساءل عن مصير مستقبلها بدون هدى ‪.‬‬
‫بدا طيف الرحيل ضيفا ثقيال على قلبها ‪ ،‬فبدد أحالمها وغير لون بشرتها ‪ ..‬طاف اللون الباهت فى‬
‫مالمحها ‪ .‬أنسحبت لغرفتها بعدما شعرت بضياع صديقتها منها التى بات من الصعب العثور عليها وسط‬
‫هذا الحشد‪ .‬أصبح الطريق األن ممهدا فى الصالة حين همد عقل هدى من األرهاق وسط صخب الوجوه‬
‫باألصوات التى تتسابق لحثها على الرحيل ‪ ..‬فى حين أبت هدى األنصياع نافية برأسها الخضوع‬
‫لمطلبهم ‪ :‬مش حأقدر أمشى معاكم ‪ ..‬فيه شوية مشاكل عند فايزة والزم أستنى جنبها كام يوم ‪.‬‬

‫‪503‬‬
‫ــ وأنتى مالك ومال مشاكلها ماتخلينا فى حالنا ياماما ‪ .‬كان رأى نورا الذى أعلنته بعصبية ثم تبعها‬
‫الباقيين متضامنين معها ومدهوشين من موقف هدى المتعنت والتى زاد أصرارها وجسدها مسجون فى‬
‫عجزها عن مقاومة ذلك الشعور تجاه رفيقتها حين صرحت بنبرة وفاء ‪ :‬الست اللى أنا موجودة عندها‬
‫دى وقفت جنبى وفتحتلى بيتها ولوالها كان زمانى دلوقتى مرمية فى الشارع ‪.‬‬

‫ــ وتترمى فى الشارع ليه ‪ ..‬ماعندكيش بيت ‪ ..‬أنتى ليه مصرة ياماما تكبرى الحكاية ‪ ..‬ماتقومى معانا‬
‫خلينا نمشى ‪.‬‬

‫ــ مش بمزاجك يانورا تحددى أمتى أمشى وأمتى أرجع ‪.‬‬

‫ــ مافيش حد أصال قالك أمشى من البيت ‪ .‬تطوعت أيات وقطع صوتها الجدال ‪ :‬خالص مالوش لزمة‬
‫الكالم ده ‪ ..‬خلونا فى دلوقتى ‪ .‬ثم نظرت لهدى واستطردت ‪ :‬أنا متفقة معاكى أن اللى عملته الست فايزة‬
‫حاجة عظيمة خالص والزم كلنا نشكرها عليه لكن ده مايخلكيش تنسى أن وراك بيت ووالد ‪.‬‬

‫ــ أنا عمرى مانسيت ياأيات وأنتى أكتر واحدة عارفة التمن الكبير اللى دفعته عشان خاطر والدى وبيتى ‪.‬‬

‫ــ خالص مش وقته قصة التمن دى ‪ ..‬لما ترجعى البيت نبقى نحكى فى الكالم ده براحتنا ‪ .‬قالت نورا‬
‫بملل وهى تنفخ بينما نأت هدى بنفسها من أستفزاز أبنتها وأشاحت بوجهها صامتة ‪ .‬فى حين أستغلوا‬
‫سكوتها وبدأوا بطرح الترتيبات التى كانت تجرى أمام عينيها ‪ ..‬هل سيقتادونها مباشرة الى المنزل أم الى‬
‫نزهة ليلية كنوع من الترضية كما أقترحت زيزيت‪ .‬بينما هى قاومت أن تصرخ فيهم ‪ :‬ياجماعة أفهمو‬
‫واللـه ماحأقدر أمشى وأسيب فايزة فى الوقت ده ‪ ..‬مستحيل ‪ .‬قالتها منفعلة فى حين النت نورا أمام‬
‫غضبتها ‪ :‬وان شاء اللـه مشاكل صاحبتك دى تخلص فى أد أيه ؟‪.‬‬

‫ــ ماعرفش ‪ ..‬تالت أربع تيام ‪.‬‬

‫ــ كتير ياماما ‪ ..‬كفاية عليكى لغاية بكرة ‪.‬‬

‫‪504‬‬
‫ــ مستعجلة على أيه يابسمة آهو على األقل ترتاحو منى ومن مشاكلى ‪.‬‬

‫ــ ياماما كبرى دماغك من الكالم ده ‪ ..‬كانت ساعة شيطان ونورا ماكانتش تقصد‬

‫ــ والتقصد هى ماقالتش غير الحقيقة وكفاية اللى أنا عملته فيكى أنتى وأخوكى ‪.‬‬

‫ــ أيه اللى بتقوليه ده ياماما ‪ ..‬أنتى ماعملتيش حاجة خالص ‪ .‬قال يوسف ‪.‬‬

‫ــ وهدير اللى ضاعت منك وأمجد اللى خد ديله فى سنانه وهرب يابسمة ‪ ..‬معلش ياحبايبى ‪ ..‬مش حأقدر‬
‫أقولكم حاجة غير سامحونى ‪ .‬منذ أن خرجت من السجن وأصابها داء األعتذار ‪ ،‬وأدمنته ‪ ،‬ظلت تمارسه‬
‫وهى تحت ضغط الظلم الفادح ‪.‬‬

‫ــ ياه ده أنتى قديمة أوى ياماما ‪ ..‬قالتها بجدية وشيىء من الثقة ثم تابعت ‪ :‬أمجد أتصل بى أكتر من مرة‬
‫وأعتذرلى بدل المرة عشرين مرة ‪ ..‬بس أنا ياماما لسه ماخدتش قرار ‪ .‬ثم ألتفتت ناحية يوسف ‪ :‬أما‬
‫الباشمهندس فخدى عندك أخر األخبار ‪ ،‬الست هدير بجاللة قدرها جت لحد عنده فى المكتب راكعة‬
‫وطلبت تقابله بره بس المهندس يوسف نديم خليل السبروتى رفض وقالها فى وشها ماعطلكيش ‪ .‬رفعت‬
‫هدى حاجبيها وأبتسمت بعينيها بينما ظلت بسمة تتابع بقية النشرة ‪ :‬يوسف دلوقتى بقى محجوز ‪..‬‬
‫عارفة مين ياماما ؟ تساءلت بمالمحها ‪ :‬فأردفت ‪ :‬المهندسة ايمان مديرة مكتب المهندس ناجى على سن‬
‫ورمح ‪ .‬توجهت اليه أمه بأبتسامة خفيفة تاهب لها منتظرا نصيبه من الكالم ‪ :‬والمهندسة ايمان دى حلوة‬
‫ومن عيلة يايوسف ‪.‬‬

‫ــ أيوه ياماما ‪.‬‬

‫ــ غنيــة ؟! ‪.‬‬

‫ــ يعنى ‪ ..‬قالها مرتبكا ‪.‬‬

‫‪505‬‬
‫ــ وقلتلها برضه أنى كنت مسافرة فى الخليج ؟! حاول أبتالع كلماتها دون مراوغة بالرغم من المرارة‬
‫التى تطفح فى وجهه مكتفيا بعبارات دفاعية ‪ :‬ماقلتش حاجة خالص ياماما ؟ ‪.‬‬

‫كلمــا مرت الدقائق وجــد خيرى فرصة األنفراج تتضاءل ‪ .‬كان عاجزا من أن يحرك ايقاع الجلسة كما‬
‫خطط ‪ ،‬كان يريدها سريعة حاسمة ‪ .‬أستسلم لرغبتها ‪ :‬ع العموم مافيش مشكلة يانورا لما مامتك تقعد كام‬
‫يوم مش حيجرى حاجة ‪.‬‬

‫ــ يعنى أنت شايف كده ياعمو ‪ .‬بدا األخير وكأنما يغرد خارج السرب أما الباقون فكانوا تحت السيطرة ‪،‬‬
‫تطوقهم نورا بسلسلة مشدودة حول رقابهم ‪ ،‬تكاد تخنقهم ‪ .‬قفز خيرى منفردا على جو الجلسة والنقاش‬
‫الدائر واضعا حدا للجدل العقيم معتمدا على نظرية أنتهاز الفرصة عندما أعلن فى جرأة منقطعة النظير‪:‬‬
‫أنا عارف طبعا أن الظرف مش مناسب وال حتى المكان لكن أسمحولى أطلب طلب مادامت األمور ماشية‬
‫تمام وسوء التفاهم راح لحاله ‪ ..‬أنا بأطلب أيد هدى قدامكو كلكم ومتهيألى يعنى مافيش حد فيكو عنده‬
‫مانع ‪ .‬لم يكن أعالنه مفاجئا حين تجول فى مالمحهم ‪ .‬قبلت أذانهم الفكرة وعبرت عنها أبتساماتهم ‪.‬‬
‫فأستأنف بحماسة أكبر وسط غياب تام لهدى التى شردت ‪ .‬هى التدرى مايدور بينهم ‪ ..‬هل تجاوز كل‬
‫منهم لحظة الوهم وصنعوا قواعد جديدة للعبة ؟!‪.‬‬

‫‪506‬‬
‫ــ طبعا أنتو عارفين ظروفى كويس وجو الوحدة اللى أنا عايشه بعد المرحومة سميحة وده اللى خالنى‬
‫أنتهز الفرصة وأنتو متجمعين دلوقتى وزى أنا مامحتاجها جنبى هى كمان محتاجانى وأنا بأوعدها قدامكو‬
‫أنى مش حيبقى ورايا أى حاجة فى الدنيا غير أنى أسعدها وأكون عند حسن ظنها وأنا متأكد أنها حترتاح‬
‫معايا و حأرتاح معاها وأنتو كمان بالتأكيد حترتاحو ‪ .‬قالها بثقة وسهولة من أصبح من حقه أن يقولها ‪.‬‬
‫تابعته حتى أنتهى ‪ ،‬وعيونه التى تغلى بالعاطفة ‪ ،‬تنتهك جسدها ووجودها ‪ ،‬وتمتد الى ماتحت جلدها !‬

‫ــ مش المفروض قبل ماتطلب أيدى قدامهم وتتكلم عن السعادة والراحة كنت على األقل أخدت رأيى ‪.‬‬
‫أحتقن وجهه وأرتبكت مالمحه ‪ :‬لو أنا مش عارف رأيك ماكنتش طلبتك قدامهم ‪ .‬كانت كاألنثى الطريدة‬
‫والرجل الصياد والفرصة للفكاك من المطاردة !‬
‫نظر فى وجهها طويال ليتأكد من خلو عينيها من العتاب أو اللوم ‪ ..‬أرخت جفنيها خجال قبل أن‬
‫يستدعيها ثانية بصوت متراجع ‪ :‬الموضوع ده يخصك لوحدك ياهدى وطبعا أنتى صاحبة الرأى األول‬
‫واألخيرفيه بدت مالمحها متناثرة حولها ‪ ،‬تجمعها بنظرة وشعور بالظلم يلفها ‪ :‬طبعا كلكم موافقين‬
‫ومرحبين ‪.‬‬
‫ــ أى حاجة تسعدك ياماما أحنا كلنا موافقين عليها ‪.‬‬

‫ــ وأنتى عرفتى منين يانورا أنها حتسعدنى ‪.‬‬

‫ــ مافيش حاجة بتستخبى ياماما وعمو خيرى يعنى مش غريب عننا تدخلت زيزيت بنبرة تشيع جوا من‬
‫الفرح ‪ :‬حتبقى عروسة زى القمر ياهدى وأنتى كده أيدك فى أيد األستاذ خيرى ‪ ..‬حيبقى شكلكم جنان ‪.‬‬

‫ــ الجنان يازيزيت لما واحدة تتجوز وهى عندها عروستين على وش جواز وأبنها راجل ملو هدومه ‪.‬‬

‫ــ دى وجهة نظر غلط ‪ .‬رد فعل حماسى من خيرى دافع به عن عرضه ‪ .‬ثم وضح شارحا ‪ :‬الجواز‬
‫مافيهوش سن كبير وسن صغير ‪ ..‬الجواز مشاركة وحياة جديدة وفى حالتى أنا وأنتى تقدرى تسميه‬
‫أحتياج وضرورة وحل لكل المشاكل ده غير أنه حيقربك أكتر من والدك ‪ ..‬ألنك أصال مش حتبعدى عنهم‬
‫أنتى يادوب حتبقى فى الشقة اللى جنبهم ‪ .‬أنحشرت صورهم فى عينيها حين تجولت فى مالمحهم ‪.‬‬

‫‪507‬‬
‫توقفت أمام وجه شريف الذى كان كالغائب الحاضر ‪ ..‬أبطأت فى نظرتها حين تفحصته ‪ ..‬حاولت كسر‬
‫صمته ‪ :‬وأنت ياشريف مالكش رأى وال أيه ؟ ‪.‬‬

‫ــ أى حاجة تسعد بابا أنا موافق عليها ‪.‬‬

‫ــ مش األول تفكر فى سعادتك أنت وبعد كده تفكر فى سعادة باباك‪.‬‬

‫ــ سعادتى أنا ‪ ..‬قالها بائسا ثم سكت ولم يعقب حين أقحمت نورا نفسها ‪ :‬ماتخليش دماغك تروح لبعيد‬
‫ياماما ‪ ..‬شريف خالص أتغير ومابقاش زى األول ؟‪ .‬رددت عبارتها بأداء بارد كمجرم يعيد تمثيل‬
‫جريمته ‪ .‬أرادت وضع المصيدة فى المكان المناسب حين تابعت ‪ :‬شريف سعادته مابقتش هنا ‪ ..‬األستاذ‬
‫قرر يبيع الدنيا واللى فيها ويسافر أمريكا ‪ .‬أطلقت الخبر وهى على أمل أن تخلق رأى عام معارض‬
‫يكافح تلك الفكرة ‪ .‬تأملها شريف صامتا مستغال أنشغال الجميع فى صدمة الخبر ‪ ..‬تأمل أحالمه وأيامه‬
‫التى تحولت الى هزائم ثقيلة فى كفته ‪ ،‬وميزان العدل ثابت على خسارته كأنه هو الذىباع والذى‬
‫خان ! ‪.‬‬
‫تسابق الجميع فى أظهار الدهشة واألستنكار ‪ .‬حدثوه عن المستقبل وعن أيام وردية قادمة حين تستقر‬
‫أوضاع البلد ‪ ،‬حدثوه عن أبوه والبعد عنه فى تلك المرحلة خيانة عظمى ‪ ،‬وعن نورا وحبه األسطورى‬
‫الذى ورد على لسان زيزيت ‪ :‬مافيش حد عاقل فى الدنيا يسيب قلبه وروحه ويقول أسافر ‪ .‬بدا أن‬
‫الكالم كله يسقط قبل أن يصل اليه ‪.‬أحرجه ذلك الحصار حين سألته أيات ‪ :‬طول عمرك رافض فكرة‬
‫السفر أشمعنى األيام دى ‪ ..‬أيه اللى جد ياشريف ؟ لم يجبها مكتفيا بأرسال نظرات بائسة الى أرضية‬
‫الصالة ‪ ،‬أحست بها هدى تلسع عينيها ‪ .‬هى تدرك أنها الجديد الذى جد فى حياته ‪ ..‬هى الزلزال الذى‬
‫هد حياته ‪ .‬بينما نورا صامتة تراقبه وعيناها معلقة بأية أشارة منه ‪.‬‬

‫ــ حتسافر ياشريف وتسيب نورا ؟ سألت هدى وعقدة الذنب تطاردها ‪ .‬تنهد وقال بصوت هادىء اليخلو‬
‫من نبرة أحتجاج ‪ :‬نورا دلوقتى بقى لها حياتها وشغلها وخططها وزى ماحضرتك سمعتى بابا كمان‬
‫بقى له حياته الخاصة ومن حقه يعيشها زى ماهو عايز ‪ ..‬متهيألى أنا كمان من حقى أدور على حياتى‬
‫ومستقبلى ‪ .‬أنهى جملته بنبرة غريب الينتمى للموجودين ‪.‬أنهالت عليه النظرات حين أنتهى بينما أعلنت‬

‫‪508‬‬
‫نورا الحرب ‪ :‬أنت بتدور على حجج خايبة تدارى بها فشلك‪.‬عندما وجد لنفسه ثغرة قال ‪ :‬أنا عمرى‬
‫ماكنت فاشل ‪ ..‬الفاشل هو اللى يخسر كل اللى حواليه عشان يكسب شوية فلوس ويضحك على نفسه‬
‫ويسميها نجاح ‪.‬‬

‫ـــ الحمد للـه أنا ماخسرتش حد بالعكس أنا كسبت كل اللى حواليه ‪ ..‬كسبتهم بتعبى وشقايا مش بأحالم‬
‫فاشلة وبكالم اليودى واليجيب ‪.‬‬

‫ــ فرق كبير أوى لما تكسبى اللى حواليكى وفى أيدك مصيرهم وبين أنك تكسبيهم وفى أيديهم حرية‬
‫األختيار ‪ .‬تصاعد الجدال ‪ ..‬حرب أستنزاف يحترق فيها الطرفان ‪ ،‬والنصر محتمل والهزيمة ‪.‬‬
‫أعلنت أيات فض األشتباك قبل أن يتطور الجدال الى أزمة تضاف الى بقية األزمات حين قامت فجأة‬
‫معلنة عن نهاية الزيارة ‪ :‬أخر كالم عندك ياهدى ‪ ..‬حتقعدى كام يوم ‪.‬‬

‫ــ أيوه ياأيات ‪ .‬ثم عانقتها األخيرة وهمست فى أذنها ‪ :‬الزمن علمنى كل ماتتنازلى تقللى خسارتك ‪.‬‬
‫أبتسمت ولم تبدى موافقة والرفض ‪ ،‬أو ربما لم يصلها المعنى ‪ .‬مدت بسمة رأسها بينهما ‪ :‬مش وقت‬
‫وشوشة ياعمتى لما ماما ترجع أبقوا كملو رغى فى البيت ‪ .‬ثم أنزاحت ليوسف الذى وقف أمامها‬
‫مضطربا ‪ :‬ماتزعليش ياماما واللـه أحنا كلنا بنحبك ومانقدرش نستغنى عنك ‪ ..‬بس هى الظروف ‪..‬‬
‫ــ مالها الظروف يايوسف ؟ ‪.‬‬
‫ــ مالهاش ياماما ‪ .‬ثم نظر اليها نظرة يطلب بها العفو ‪ .‬قبلها ورحل لتتسلمها زيزيت بعناق وفرحة‬
‫مفتعله ‪ :‬مبروك ياهدى ألف مبروك ‪.‬‬
‫ــ مبروك على أيه يازيزيت ‪ .‬قالتهاغاضبة ‪ .‬فتراجعت األخيرة ‪ :‬على أى حاجة ‪ .‬قامت نورا من مكانها‬
‫ببطء مثل وحش أنهكه الصراع مع الفريسة ‪ :‬لغاية ماترجعى البيت أنا حأظبط األمور مع عمو خيرى ‪.‬‬
‫شبكت هدى مرفقيها فوق صدرها ‪ ..‬أقتربت منها بعينيها وكأنها تراها ألول مرة من هذا القرب ‪ :‬فتحى‬
‫ودانك وأسمعينى كويس ‪ ..‬سيبك منى أنا خالص وأنتبهى لنفسك ولمستقبلك وألحقى شريف قبل مايضيع‬
‫منك ‪ .‬أضطربت ثم أرسلت نظرتها ناحية شريف كأنها تخاطبه ‪ :‬والمطلوب منى أيه ؟ قالتها بصوت‬
‫خافت ‪.‬‬

‫‪509‬‬
‫ــ المطلوب تعيشى حياتك وبس وفكرى فى مستقبلك ‪ ..‬شريف مايستاهلش منك أبدا المعاملة دى ‪.‬‬
‫تماسكت قبل أن تهتز ثقتها ‪ :‬لما تتجوزى أنتى وعمو خيرى كل حاجة حتتحل ‪ .‬ثم رحلت دون عناق ‪.‬‬
‫وقفت هدى مستسلمة إلى حد يصعب توصيفه ‪ ،‬إال أنها لم تفقد القدرة على التعلق بنورا ‪ ،‬بل أن فكرة‬
‫التخلى عنها لم تكن واردة رغم عطب عالقتهما ‪ .‬فور خروج نورا تقدم شريف بصحبة أبوه ‪ :‬مع‬
‫السالمة ياطنط ‪.‬‬
‫ــ قبل ماتمشى ياحبيبى الزم تعرف أنى عمرى ما حأعمل حاجة تضايقك والتأذى مشاعرك ‪.‬‬
‫ــ إن شاء اللـه ‪ .‬قالها كتحصيل حاصل وأجتاز الباب بينما أستعمل خيرى أخر ماله من نفوذ حين ثبت‬
‫نظرته العميقة ورشقها الى داخل العينين ‪ :‬أنا من النهاردة حأرتب أمورى عشان أول ماترجعى نتجوز‬
‫على طول ‪.‬‬
‫ــ ياريت األول تقنع شريف يشيل فكرة السفر دى من دماغه ‪.‬‬
‫ــ ياستى هو حر فى مستقبله وبصراحة بقى أنا ماعدش يفرق معايا أى حاجة أنا اللى يهمنى هو أنتى ‪.‬‬
‫ثم مد يده مصافحا وضغط باألخرى فحبس كفها بينهما ‪ ..‬نظر اليها طويال بعينين تثقب البلوزة‬
‫وتعريها ‪ ،‬وكأنما يسترجع مشهد اللحم العارى ‪ :‬أنا محتاجلك أوى ‪ .‬حاولت أن تجيبه وهى تبحث داخلها‬
‫عن بقايا طهارة قديمة ‪ :‬ربنا يسهل ‪ .‬ثم سحبت يدها بينما نظراته الطويلة لها سجنت نظرتها التى لم‬
‫تكن تصل إ لى وجهه ‪ ،‬بل تستقر عند صدره فى حين أصابعها وكفاها ‪ ،‬التعرف ماذا تفعل بهما ؟! طوى‬
‫يديه الخاليتين وأستدار فى هدوء ليلحق بالركب النازل ‪ .‬أغلقت الباب ساهمة ولم تبرح مكانها ‪ ..‬ظلت‬
‫واقفة أمامه وكأنها ترى من خالله مالم تراه وهو مفتوح ! قضت لحظات وهى على نفس الوضعية ثم‬
‫سحبت نفسا ممتدا قبل أن تتحرك ببطء بأتجاه الطرقة ‪ .‬سارت برأس منكسة حتى أصطدمت عيناها‬
‫بأقدام فايزة التى ألصقت جسدها للحائط فى أنتظار روحها التى كانت على وشك أن تنتزع منها ‪ .‬سارتا‬
‫سويا إلى الغرفة ‪ ..‬نظرات هدى الساهمة تصنع فيها الذهول حين راجعت بسرعة أسباب الزيارة‬
‫ونتائجها ‪ .‬لم تكن زيارة أعتراف وصلح والبحث فى وقائع وربطها بين جميع األطراف ‪ .‬لم تكن أى‬
‫شيىء سوى أدراكها الشديد بأنها قد أصبحت عبئا ثقيال على أوالدها والبد من التخلص منه ‪.‬‬
‫كما جاءوا رحلوا ‪ ..‬خرجت الثالث سيارات دفعة واحدة من كرموز كما دخلت ‪ .‬بدا الجميع محملين‬
‫ب أشياء كثيرة ‪ .‬أيات كل ماتبقى منها فى نهاية الزيارة مجرد أنطباع ‪ .‬بينما زيزيت ليس فى ذهنها‬
‫شيىء ‪ ،‬والفى ذاكرتها إال أثار تلك النظرة المستهجنة من عين هدى التى خاب أملها فى أنسانة كانت‬
‫تظن لوقت قريب أنها أوفى األصدقاء بينما نورا وشريف أثار مابينهما مازالت ‪ ،‬تتفاعل كنار فى‬

‫‪510‬‬
‫الحطب ‪ ..‬العالقة بينهما بدت وكأنها التهدأ والتستقر ‪ ..‬حكم األعدام على حبهما مازال معلقا لم يصدر‬
‫بعد ! أما خيرى فلم تقنعه مالمح هدى والكلماتها ‪ .‬حين أستعاد نفسه وأفاق من أجواء الزيارة ‪ ،‬وجد‬
‫كل شيىء مؤجال ‪ ،‬حتى رغبته فى التفاؤل ‪ .‬بسمة هى الوحيدة التى لم تحصد مكسبا والخسارة ‪ ..‬كانت‬
‫محايدة التميل لكفة على حساب أخرى ‪ .‬فى حين بدا يوسف قلقا محبطا بعدما أعادته أمه الى مربع‬
‫الخوف األول حين المست عقدته النفسية وأثارت قضية المصارحة فى عالقته مع المهندسة ايمان ‪.‬‬
‫كلما أستعاد رغبته فى الحب ‪ ،‬تملكه الخوف واشفق على نفسه من التجربة ‪ .‬اعتاد الحذر ‪ ..‬أستعذب‬
‫األلم بعد أعتياده ومعاشرته منذ فجيعته األولى ‪ .‬إال أنه كلما أقترب أكثر من أيمان كان يراوغه الحب ‪،‬‬
‫لكنه لم يقدر عليه ‪ .‬فى طريق عودته قاد يوسف سيارة عمته واجما ساهما ‪ .‬يتجدد اليوم الجرح ‪،‬‬
‫يستدعى كأبة قديمة تطل بثقلها عليه شيئا فشيئا ‪ .‬بالرغم من صخب بسمة التى تثيره فى المقعد الخلفى‬
‫وكالمها الذى الينقطع عن أمها وعن كرموز وعن حواريها ‪ ،‬وبالرغم من أزدحام الطريق أمام عينيه‬
‫ومالحظات أيات المملة على أداؤه فى القيادة ‪ ،‬أنتحى بأفكاره جانبا مكتفيا بمشاهدة الطريق وهو يمر‬
‫أمامه ‪ ..‬بعد شد وجذب وأخذ ورد بينه وبين نفسه ‪ ،‬عقد العزم على أن يكون البادىء بمصارحة ايمان‬
‫بسره العظيم قبل أن تتحرى هى بنفسها وتفاجأه ويدفع ثمنا أخر من كرامته ‪ .‬توصل لهذا القرار مع‬
‫وصول السيارة الى الحدود الدولية لشارع " شامبليون " ‪ .‬أيقن أن هذا القرار هو األسلم ‪ ،‬بل هو‬
‫المتاح بعدما أقنع نفسه بأن هذا الزمن أرخص األزمنة ‪ ،‬وان كل شيىء فيه بال ثمن لكن دوام الحال‬
‫من المحال ‪ .‬قالها فى نفسه حين قرر أن تكون لكرامته ثمنا ‪..‬‬
‫فى تلك اللحظة ‪ ..‬الزالت هدى تحت تأثير مفعول الزيارة ‪ .‬نصف حاضرة ‪ ،‬نصف غائبة ‪ ،‬تساوى نصف‬
‫كائن حى !! ‪.‬‬

‫الضوء فى غرفة فايزة كان حادا ‪ ،‬اليبقى فى المكان ظالال والغموضا ‪.‬مددت هدى جسدها على السرير‬
‫كالمومياء ‪ ،‬عيناها التطرفان ‪ ،‬شاردة فى أصداء الزيارة ‪ .‬لف الغرفة وجوم غريب ‪ .‬أرادت فايزة أن‬
‫تبدده بعد أن أعتلت السرير عند قدميها ‪ ،‬فازاحتهما وأنسحبت للوراء ‪ :‬مالك ياهدى ؟ تنهدت وفكت لحام‬
‫ظهرها الملتصق بظهر السرير ‪ :‬ماليش ‪ .‬الزمها شعور بالحرج وهى تردد بصوت مخنوق ‪ :‬مش‬
‫عايزاكى تقلقى على ياهدى ‪ ..‬أنا خالص هديت وبقيت كويسة ومن بكرة أرجعى لبيتك ووالدك ‪.‬ضمت‬
‫األخيرة ركبتيها لصدرها ‪ :‬أنتى شايفة كده يافايزة ؟ ‪.‬‬

‫‪511‬‬
‫ــ أنا شايفة أنك مش حتقدرى تستغنى عنهم والهمه حيستغنو عنك ‪.‬‬

‫ــ بتضحكى على وال على نفسك ‪ ..‬الحكاية أكبر من كده ومعقدة أوى يافايزة ‪ .‬طوت األخيرة رجليها‬
‫تحتها وتربعت أمامها ‪ ،‬لتضمهما أصغر مساحة ممكنة فى السرير ‪.‬‬

‫ــ معقدة أزاى يعنى ؟ سألت ولم تتلق أجابة سريعة إال بعد لحظات ‪ .‬تكلمت ببطء ‪ :‬النهاردة بالذات أنا‬
‫شفتهم كلهم بعقلى مش بعينيه ‪ ..‬شفت القلق اللى فى عينين نورا وحسيت بحيرتها وهى بتبصلى وكأنها‬
‫بتسأل نفسها هى اللى عملته معايا صح وال غلط ‪.‬‬

‫ــ طبعا غلط ‪ ..‬هو أنتى غريبة عنهم والجاية من الشارع ده أنتى أمهم ‪.‬‬

‫ــ لوفكرتى بهدوء ونسيتى حكاية انى افهم دى حتالقى كل اللى نورا عملته صح ‪ .‬سحبت نفسا وكانما‬

‫توصلت لحقيقة ما ‪ ..‬أستأنفت ‪ :‬نورا عملت زى التاجر اللى حط كل راس ماله فى مشروع وقعد جنبه‬
‫يراعيه ويكبره وأول ما بدأ يطرح ويكسب منه لقى اللى طلعله فجأة من غير مناسبة وضرب كرسى فى‬
‫الكلوب ووقف كل حاجة وسود حياتهم ومش كده وبس ده كمان بيتبجح وبيقول أن فكرة المشروع أصال‬
‫بتاعتى ‪ ..‬مع أنه الساهم وال تعب وال حتى بنى فيه طوبة ‪ ..‬يادوب كل اللى عمله أنه ساب حتة أرض‬
‫كانت محتاجة للى يرويها ويزرعها ويعتنى بها ‪ ..‬نورا هى اللى عملت كل ده لوحدها ولوالها كانت‬
‫األرض بارت والزرعة ماتت واللـه أعلم كانت األمور حتوصل لفين ؟ رمشت فايزة بعينيها حتى فهمت‬
‫التشبيه ‪ :‬يعنى أنتى عايزة تقولى أن المشروع بتاع نورا هو يوسف وبسمة وأنتى بقى اللى طلعتلهم‬
‫من تحت األرض وقلتلهم فيها الخفيها ‪.‬‬

‫ــ صح عشان كده من حق نورا اللى شقت وتعبت على أخواتها أنها تحميهم بأيديها وسنانها ‪ ..‬تحميهم‬
‫من أى حد حتى منى أنا ‪ ..‬الناس مارحمتهمش يافايزة ‪ ..‬أنا بقيت نقطة سودة فى حياتهم ‪ ..‬نقطة لزقة‬
‫فى جبينهم أول الناس مابتشوفها بتبعد عنهم كأنهم مشبوهين ‪.‬‬

‫ــ ماتقوليش كده ياختى صوابعك مش زى بعضها والناس معادن برضه ‪.‬‬

‫ــ حتى لو كالمك صح وقابلو المعدن النضيف اللى يرحم ويعذر برضه حأفضل بالنسبة لهم نقطة الضعف‬
‫اللى يتعايروا بيها وقت اللزوم ‪.‬‬

‫‪512‬‬
‫ــ لزمته أيه الكالم ده ياهدى ‪ ..‬هو فى حد جرحك النهاردة بكلمة ؟ ‪.‬‬

‫ــ النهاردة أنجرحت جرح كبير أوى ‪ ..‬جرح فوقنى من األوهام واألنانية اللى كنت عايشة فيها ‪..‬‬
‫أتجرحت لما شفت وش يوسف بيتلون أصفر وأحمر لما سألته عن المهندسة ايمان وقلتله صارحتها‬
‫وال أل وكأنى ياعينى فكرته بيوم الحساب ‪ ..‬قلبى كان بيتقطع من جوه وأنا متأكدة أن ايمان حتحصل‬
‫هدير وحترفضه لما تعرف الحقيقة ‪ ..‬كان نفسى تكونى موجودة فى القعدة يافايزة وتشوفى الفرحة اللى‬
‫كانت مالية عينين بسمة وهى بتحكيلى عن أمجد لما أتصل بيها عشان يعتذر لها ‪ ..‬كانت بتتكلم وكأنها‬
‫مش مصدقة نفسها ‪.‬‬

‫أتسعت عينى فايزة تسألها وتسأل نفسها ‪ :‬طب ماهمه عرضوا عليكى الحل ياهدى ‪ ..‬ماتتجوزى خيرى‬
‫وكل واحد يبقى فى حاله ويدور على مصلحته ‪ .‬أختبأت بوجهها بين ركبتيها وكأنها تتحاشى األجابة‬
‫إال أنها أستجابت تحت ضغط نظرات فايزة ‪ :‬واللـه لو هو ده الحل كنت وافقت على طول ‪ ..‬بذمتك ودينك‬
‫عمرك سمعتى عن بنت وأمها أتجوزوا من أبن وأبوه وفى شقة واحدة ‪ ،‬لو فرضنا سمعتى ‪ ..‬أزاى أنا‬
‫حأقبل على نفسى ‪.‬‬

‫ــ ال هو عيب والحرام ‪.‬‬

‫ــ ماقلتش كده مع أنى متأكدة أن شريف أصال مش حيقبل بالوضع ده وأكيد حيسافر ‪.‬‬

‫ــ تبقى كده أتحلت ‪.‬‬

‫ــ بالعكس دى تبقى أتعقدت أكتر وبقت مستحيلة ‪ ..‬نورا مع كل جبروتها وشخصيتها القوية لكن بتحب‬
‫شريف جدا يعنى لو سابها وسافر بنتى حتتحطم وحتى لو خيرى ماأعترضش على سفر أبنه مع مرور‬
‫الوقت حيندم أكبر ندم وحيتعب نفسيا ومش حيرحم نفسه أنه أتجوزنى وفرط فى أبنه ‪ ..‬عرفتى أن‬
‫جوازى حينيل الدنيا ويعقدها أكتر ماهى متعقدة ‪.‬‬

‫ــ متهيألى أنتى زودتيها أوى وسودتيها خالص ‪.‬‬

‫ــ أنا الزودت والسودت هى دى الحقيقة ‪ ..‬كل مصيبة بتحصل لوالدى من تحت راسى مابيقدروش‬
‫ياعينى يعملو أى حاجة غير أنهم بيشيلو فى قلبهم ويسكتو ‪ ..‬ولحد دلوقتى همه صابرين وراضيين‬
‫بنصيبهم لكن بعد كده ماتضمنيش أيه اللى حيحصل والحيتصرفوا أزاى ‪.‬‬
‫‪513‬‬
‫ــ حيعملو أيه يعنى ‪.‬‬

‫ــ ماعرفش ‪ ..‬قالتها بصيغة تتوقع من وراءها األسوأ ‪.‬‬

‫ــ تفتكرى مثال حيأذوكى زى المحروس أبنى ‪.‬‬

‫ــ كل واحد وله ظروفه ‪ ..‬أقل مافيها حيكرهونى ويكرهو نفسهم ويلعنو الدنيا اللى خلتنى أمهم ‪.‬‬

‫صمتت هدى وخرست فايزة ‪ ،‬بينما تغلى العروق ويفور الدم مختلطا بالذكريات والصور ‪ ،‬كلها تلدغ فى‬
‫جسديهما ‪ ..‬تتهدم األحالم التى صنعتاها سويا فى زنزانة السجن ‪ .‬شعرتا بأنهما جسد بال شكل ووجه‬
‫بال مالمح ‪ ..‬تسقط فيهما األفكار كأجنة مجهضة قبل أن تمسك فايزة بواحدة حية ‪ :‬طب أيه رأيك‬
‫ماتأخدى شقة صغيرة على أدك أنتى وخيرى وأتجوزوا فيها ويسيب شقة محطة الرمل ألبنه شريف ‪.‬‬

‫ــ تفتكرى خيرى حيوافق على حل زى ده ‪.‬‬

‫ــ حيوافق طبعا ده حيموت عليكى ‪.‬‬

‫ــ وتفتكرى كده حيستحمل أد أيه فى شقة تانية وهو عقله وقلبه وروحه فى شقة محطة الرمل ‪ ..‬ده‬
‫مجنون بالشقة يافايزة ‪ ..‬ده مهووس بالعمارة كلها ‪ .‬قالت جملتها األخيرة بمأل الفم وبثقة التهتز ثم‬
‫تابعت ‪ :‬أنتى بتتكلمى عن راجل عدى الخمسين يعنى له عادات وطباع مستحيل يغيرها ‪ ..‬خيرى مش‬
‫شاب صغير عشان لسه حيبدأ حياة جديدة ويتنطط من مكان لمكان ‪ .‬بان الرفض فى مالمحها قبل لسانها‬
‫حين أعلنت ‪ :‬ماقدرش أخد خطوة زى دى واالقيه بعد شهرين تالتة مش قادر يتحمل العيشة وساعتها‬
‫المشكلة حتبقى أكبر وأصعب ‪ .‬أصبحت األن أمام معادلة ‪ ..‬بين حقها كأم ‪ ،‬وحق أوالدها فى الحياة ‪..‬‬
‫سلمتها تلك الزيارة إلى شيطان الحيرة الذى عصف برأسها وبأفكارها ‪ ..‬السؤال الغبى الصامت الذى‬
‫ظلتا تسأاله لنفسيهما كل لحظة ‪ :‬هل هذه حياة ؟ أين العيلة والعزوة ؟ أين الرحمة والعاطفة ؟ أسئلة‬
‫تجر خلفها عذابا نفسيا وجسديا التقدرا عليه ‪ .‬يغيب عنهما المبرر أو الدافع ألحتماله ‪.‬‬

‫ــ طب والحل أيه ياهدى ؟ تململت عينيها أمام أتساع عينى فايزة ‪ :‬الحل أن ربنا ياخدنى عشان أستريح‬
‫وأريح اللى حواليه ‪.‬‬

‫ــ ولما ربنا ياخدك أعمل أنا أيه من غيرك ‪.‬‬

‫‪514‬‬
‫ــ تعملى كتير يافايزة ‪ ..‬أنتى مستورة بالفلوس وصاحبة كلمة يعنى حتعرفى تعيشى برضه ‪.‬‬

‫ــ عيشة أيه بس ياهدى وكل اللى حواليه طماعين وبيكرهونى وعايزين يخلصو منى وأولهم أبنى ‪.‬‬
‫فجأة ودون ترتيب أبتسمت هدى ثم ضحكت قبل أن تتحول ضحكتها إلى قهقهة أرتابت لها فايزة ‪ :‬أنا‬
‫قلت أيه خالكى مسخسخة على روحك من الضحك ‪ .‬توقفت عن القهقهة ثم خفتت الضحكة ومن بعدها‬
‫تالشت األبتسامة ثم أستعادت حالة اليأس ‪ :‬عارفة يافايزة ‪ ..‬أنا وأنتى عاملين زى اللى بنطلع فى الروح‬
‫ومش القيين حد ينجدنا ‪.‬‬

‫شعرتا بأنهما مثل أكياس " الزبالة " تشوه ناصية طريق ‪ ،‬يحملها أى عابر سبيل ويلقيها حيث يشاء ‪.‬‬

‫مسحت فايزة وجهها بكفيها وكأنما تستحضر قوة غابت عنها ‪ :‬طلعت روح اللى عايز يطلع روحنا ‪..‬‬
‫أسمعى ياهدى أحنا مش هفية ‪ ..‬مش أحنا اللى الدنيا تدينا بالكف على وشنا نسكت ونديها أفانا ‪ ..‬ال‬
‫ياهدى ورحمة أبويا من النهاردة العين بالعين والسن بالسن والبادى أظلم ‪ .‬قالتها بشدة كانت مفقودة‬
‫وكأنما يولد داخلها شيء غريب ‪ ..‬مجهول األسم والوصف ‪ ،‬إال أنه يحمل فى طياته مرحلة جديدة فى‬
‫طور الت كوين ‪ ،‬وان هناك قرارات يجب أن تتخذ ‪ ،‬ومعانى جديدة ‪ ،‬تكتشف وتعاش! كل مايحدث حولهما‬
‫من تغيرات كان يدفع إلى التفكير ‪.‬‬

‫" أن كل مأساة تحمل معها عنصر خالصها " حكمة لفيلسوف عبقرى ‪.‬‬

‫ــ أسمعينى ياهدى كويس ‪ ..‬أحنا بقينا عاملين ياختى زى الرمم ال حد عايزنا والحد بيخاف علينا والكل‬
‫مش طايقنا ‪ ..‬ماتخليها تيجى مننا وتعالى نهج من هنا خالص ونسيبلهم أسكندرية بحالها يشبعو بيها‬
‫نريحهم ونمشى بكرامتنا بدل ما واحدة فينا تترمى فى السجن والتانية تتحط فى جوازة ضررها أكتر من‬
‫نفعها ‪.‬‬

‫ــ أيه اللى بتقوليه ده يافايزة ؟ كمن تزن كمية الجد فى كالمها ‪.‬‬

‫ــ اللى بأقوله هو عين العقل وماتكابريش وماتضحكيش على نفسك ‪ ..‬مافيش حد عايزنا والحد حيبكى‬
‫علينا ‪ .‬أدلت برأسها وتأملت كلماتها بينما أهتزت فايزة فى جلستها بعدما ألقت مفاجأتها ‪.‬‬

‫ــ نمشى أزاى يعنى ‪ .‬قالتها بشرود ‪.‬‬

‫‪515‬‬
‫ــ زى أى حد بتضيق بى الدنيا وبتظلمه الناس ‪ ..‬أرض اللـه واسعة ‪ ..‬قولى أه وأنا من بكره أبيع كل‬
‫اللى حيلتى ع القرشين اللى عندى فى البنك ونأخد بعضنا ونطفش من الجحيم ده ونعيش اللى فاضلنا‬
‫بقى بدل عيشة المشبوهين دى اللى أحنا عايشنها ‪ .‬هنا توقفت عيناها عن الحركة كما توقف‬
‫لسانها عن النطق ‪ .‬لم تكن هدى تتوقع هذا الكالم الذى يالمس الحكمة أو الجنون ‪ .‬أستردتها فايزة من‬
‫شرودها ‪ :‬أيه رأيك فى كالمى ياهدى ؟ حاولت ترويض دهشتها ‪ :‬أنتى بتتكلمى جد يافايزة ؟ ‪.‬‬

‫ــ أنتى شايفة ده وقت هزار ‪.‬‬

‫ــ مش قصدى ‪ ..‬بس والدى يافايزة وأبنك منصور ‪ ..‬حننساهم كده ببساطة ‪.‬‬

‫ــ ماأنتى لسه قايلة يابنت الناس ‪ ..‬والدك لوأتحملوكى النهاردة مش حيتحملوكى بكرة ‪ ..‬أما منصور ‪..‬‬
‫رددت أسمه بحسرة بعد ماقررت أن تثأر لنفسها ‪ ،‬فهى ‪ ،‬قد دفعت كل فواتيرها ‪ ،‬وسددت ديونها وأكثر‬
‫للحياة والناس جميعا ‪ ،‬التخشى شيئا ‪ ،‬والتريد شيئا ‪ ،‬التحمل له فى قلبها شرا ‪ ،‬لكنها التحمل له أيضا‬
‫شيئا أخر ! ‪.‬‬

‫تابعت ‪ :‬أنا حأبيع كل حاجة وحاخلى قهوة ابويا يسترزق منها هو وأبوه زكة عنى ويعيشوا زى ماكانوا‬
‫عايشين مبسوطين ومرتاحين وماعندهمش أى مشاكل ‪ .‬قالت العبارة بصوت مرتفع مخنوق ‪ .‬كلماتها‬
‫المنفعلة حامت حول هدى التى أختبرتها فى رأسها ‪ .‬أظلم وجه فايزة أمام هدى حين أغمضت عينيها ‪،‬‬
‫تتخيل شكل المستقبل من خالل ظلمة الجفون ‪ ..‬مشت مع خيالها وعالمات األجهاد تطارد مالمحها حين‬
‫رأت نفسها ورفيقتها التى الزالت عند قدميها ككلب وفى ينتظر أية أشارة من صاحبه ‪ ..‬وجدت نفسها‬
‫وصاحبتها فى منفى أختيارى على هيئة شقة فى مكان ما عامرة بكل وسائل الراحة والعيشة المحترمة ‪،‬‬
‫عيشة متحررة من كل ضغوط الماضى وعبء سنوات السجن التى أثقلت كاهلها واكلت من هامات‬
‫اوالدها بفعل نظرات مجتمع اليرحم ‪ ..‬ساقها خيالها إلى حياة بدت مألوفة ‪ ..‬الفارق ليس بالكبير ‪..‬‬
‫مسجونة فى كل األحوال ‪ ،‬وكأن السجن بالنسبة لها قدر محتوم ‪ ..‬أبتلعت شكل المجهول وأنهارت‬
‫مقاومة الرفض حين عصفت بها كلمات فايزة ‪.‬‬

‫تقدمت خطوة حين سألت ‪ :‬وأيه اللى المفروض نعمله رفعت لها فايزة حاجبيها وتزحزحت حتى المس‬
‫صدرها ركبتى هدى ثم تحدثت ببطء شديد وكأنها ترتجل أفكارا لم يسبق أن راودتها من قبل ‪ :‬حأروح‬

‫‪516‬‬
‫بكرة أنا وأنتى لمحمود المحامى أظبط معاه األمور ونشوف أيه اللى ممكن يتباع بسرعة واراجع‬
‫حساباتى كلها معاه وبعد كده نلم نفسينا أنا وأنتى فى السر وفى الخباثة ونتكل على اللـه ‪.‬‬

‫ــ ولما أبنك ووالدى يدوروا علينا ‪ ..‬مش حيرتاحوا يافايزة والحيسكتو ‪ .‬ضغطت األخيرة بأصبعيها على‬
‫شفتها السفلى وكأنما تستخرج منها حال ‪ :‬أحنا مش حنختفى فجأة ياهدى ‪ ..‬بالهداوة وواحدة واحدة‬
‫وأول حاجة الزم تعمليها خلى والدك يقبلوا بوجودك هنا ومايفضلوش يزنو على ودانك ‪ ..‬حسسيهم انك‬
‫عايشة مرتاحة ومش محتاجة حاجة من حد وأنا كمان حأفضل ورا الوله منصور لغاية مايرضى بشغل‬
‫القهوة ويشكر ربنا ألف مرة بدل مايطلع من المولد بال حمص ‪.‬‬

‫نهاية لم تتخيلها ‪ ..‬تبادال نظرات طويلة ‪ ..‬نظرات مذعورة أو مترددة وكأنهما تقفان على حافة الجرح‬
‫معلقتان بين أنكسار الحلم ورفض األستسالم للواقع ‪ .‬حل الصمت ضيفا ثقيال لدقائق قبل أن تستعيدهدى‬
‫لسانها ‪ :‬أنا موافقة يافايزة ‪ ..‬وادينا قاعدين مع بعض لغاية ماندبرامورنا وبعد كده ربنا يحلها ‪ ..‬خلينا‬
‫نرتاح وهمه كمان يرتاحوا ‪ ..‬جايز لما نبعد ربنا يكرمهم ويسهلهم االحوال ‪.‬‬

‫أدلت بتصريحها ثم داهمها ذلك الشعور المركب الذى يمتزج فيه لذة التضحية واستعذاب الصبر ‪ ..‬ولما‬
‫كانت تدرك فى قرارتها أن تلك المشاعر يمكنها ان تشكل نوعا من حالة الرضا ‪.‬‬

‫لمحت فايزة دموعا فى عين رفيقتها ‪ .‬أشفقت عليها ‪ :‬لو مش عايزة نمشى فى الموضوع ده بالش ‪.‬‬

‫ــ ال يافايزة ‪ ..‬حابعد معاكى عشان خاطر والدى ‪ .‬قالتها وكأنما تحمل ثقال يساوى أضعاف وزنها ‪ .‬كان‬
‫البد من تنحى العاطفة ‪ ،‬شيىء غريب يسرى بينهما ‪ ..‬شيىء يزحف ببطء جاعال مايستعصى تصديقه‬
‫سهل التصديق وجعل المستحيل ممكنا أفضل من أن يجعل الممكن مستحيال !! ‪.‬‬

‫الفصل السابع عشر‬

‫عشر دقائق بعد أنتصاف الليل حسب التوقيت المحلى لشقة " خيرى " التى بدت على غير عادتها ‪.‬‬
‫فارقها الهدوء وخيم عليها الصوت العالى وتحديدا فى منطقة الصالة عندما أعترض خيرى طريق أبنه‬
‫العائد لتوه من وردية ليلية ‪.‬‬

‫ــ فهمتى بقى أيه اللى أنت عملته النهاردة ده ؟ سؤال ماقبل العاصفة ‪.‬‬

‫‪517‬‬
‫ــ عملت أيه يابابا ‪ .‬قالها مفزوعا حين لمح فيه تحفزا وغضبا ‪.‬‬

‫ــ تخلينى قاعد قدام هدى ووالدها النهاردة فى نص هدومى عامل زى الطيشة اللى مش عارف أى‬
‫حاجة ‪.‬‬

‫ــ أنا يابابا ‪ ..‬قالها مضطربا حين أقترب منه ‪.‬‬

‫ــ أيوه أنت ‪ .‬رددها وهو يهتز بكتفيه مستعمال نبرة لم تطأ أذنى أبنه منذ وفاة أمه ‪ .‬تابع محافظا على‬
‫نفس الوتيرة ‪ :‬لما تقولهم قدامى أنك قررت تسافر أمريكا عشان تشوف حياتك وتدور على مستقبلك‪..‬‬
‫يفهمو أيه من كالمك ده ومن أمتى أصال أنت بتاخد قرارات كده مع نفسك ومن غير ماتاخد رأيى وال‬
‫أنت خالص كبرت ورايى مابقاش يهمك ‪ ..‬طب ع األقل قولى بدل ماتخلينى وسطهم عامل زى األطرش‬
‫فى الزفة ‪ .‬قال عبارته وأعطاه ظهره يخفى غضبا متصاعدا بينما تجرع شريف ريقه بصعوبة ‪ :‬أنا‬
‫عايز أفهم يابابا هو حضرتك زعالن عشان همه حيفهمو كالمى أزاى والعشان أنا ماقلتلكش ‪ .‬أستدار‬
‫له ثانية مبديا أمتعاضه ‪ :‬هى مش ناقصة فلسفة واللف والدوران ‪ ...‬أشمعنى دلوقتى بالذات حكاية‬
‫السفر دى ظهرت ‪ .‬حدق فيه بصرامة ‪ :‬أردف منفعال ‪ :‬بسبب نورا ‪ ..‬ما أنت طول عمرك فى مشاكل‬
‫معاها ‪ .‬ثبت فيه عيناه كأنما ينتزع منه أعترافا ‪ :‬وال عشان أنا حتجوز هدى ؟ طب ما أنا أخدت رأيك‬
‫وأنت وافقت ‪ .‬شدد على كلمته األخيرة وكأنما يبرىء ذمته ‪ .‬سكت بعدها وصوت أنفاسه الغاضبة تالحق‬
‫وجه أبنه حين أقترب منه ‪ :‬ليه أحرجتنى وأحرجت نفسك ‪ .‬لم تعد لديه القدرة على تحمل األتهامات ‪:‬‬
‫يابابا أنا ماأحرجتكش والكان قصدى أضايقك ‪ ..‬نورا هى اللى فتحت الموضوع وقالتلهم وماتسألنيش‬
‫هى ليه عملت كده ‪ ..‬أنا كل اللى قلته ليه حأسافر لمالقيتهم كلهم بيهاجمونى وبيغلطونى‪.‬‬

‫ــ مافيش حد يابنى هاجمك والغلطك دول كانوا بينصحوك ‪ .‬قالها متخليا عن حدته فأشاح أبنه بوجهه‬
‫لينهى سيجاال عقيما ‪ ،‬فأضطر خيرى ألستخدام سطوة األب عندما شعر به يتململ فى وقفته ‪ :‬مالك‬
‫واقف مش طايق نفسك ليه ‪ ..‬كالمى مش عاجبك ‪ .‬ضم ساقيه وعدل من سحنته ثم تقدم منه خطوة‬
‫شابكا يديه على بطنه ‪ :‬حضرتك عارف أن ده مش طبعى ‪ ..‬أنا بقالى تسع ساعات واقف على رجليه ‪.‬‬
‫تبريره كان بردا وسالما على مالمح أبوه التى هدأت وتراجعت أنفعاالته ‪ ،‬ثم توجه إليه متمهال ‪ .‬وضع‬
‫يده على كتفه ‪ :‬تعالى نقعد ياشريف ‪ .‬رافقه حتى المدفأة ‪ ..‬أتخذا مكانهما فى كرسيين متقابلين ‪ .‬أشعل‬
‫سيجارته وعاد لرشده ‪ :‬من يوم أخوك نادر ماسافر وأنا وأنت مالناش غير بعض وطول عمرى بأتعامل‬
‫معاك على أنك راجل وتفكيرك عاقل وده اللى خالنى ‪ ..‬سكت مطلقا دخان سيجارته الذى طال رأس‬
‫‪518‬‬
‫شريف المنكسة ‪ :‬ده اللى خالنى لما فاتحتك فى موضوع هدى ماكنتش متردد والقلقان ‪ ..‬كنت متأكد‬
‫أنك حتفهمنى وحتقدر ظروفى ‪ ..‬بعدها حسيت أن الموضوع ده مضايقك وتقريبا رافضه ‪ .‬أغمض عينيه‬
‫وفتحهما حين رفع رأسه ‪ :‬أنا ماقلتش أنى رافض ــ من غير ماتقول كفاية أنى أشوفها فى عينيك وفى‬
‫طريقة معاملتك معايا ‪ ..‬كل ده أنا حاسه وفاهمه بس اللى مش قادر أفهمه ومش قادر أالقيله أجابة ‪..‬‬
‫أيه هو سبب رفضك ؟ طرح سؤاله وحدق فيه ‪ .‬ثم عاد يستجوبه ‪ :‬أنت رافض فكرة الجواز أصال ؟ وال‬
‫رافض هدى بالذات عشان ظروفها وال هو دور عناد بينك وبين نورا وأتاخدت أنا فى الرجلين ‪..‬‬
‫واليمكن السبب الشقة ؟ ظل شريف يتابعه فى ذهول حتى أنتهى ‪ ..‬كان من الصعب العثور على دفاع‬
‫مقبول ‪ .‬بدأ كالمه ‪ :‬أنت ليه أصال متخيل أنى رافض ‪ .‬قالها بنبرة ضعيفة وخجولة فأبتسم أبوه أبتسامة‬
‫الفاهم ‪ :‬يعنى بتهرب من األجابة ‪ ..‬طب أجاوب أنا ‪ .‬لم يبد أعتراضا‪ :‬متهيألى أنت مش رافض هدى‬
‫بالذات والفارق معاك ظروفها اللى كانت فيها والدليل أنك بتحب بنتها وأنا عارف كويس أن ده مش‬
‫أسلوب تفكيرك ‪ ..‬يبقى نروح للسبب التانى وهو أنك رافض الموضوع غالسة ودور عند عشان نورا‬
‫موافقة ‪ ..‬يعنى رفض والسالم حاجة كده زى أثبات الذات يعنى خدوا بالكم منى أنا موجود ‪ .‬غمس‬
‫سيجارته فى المطفأة متأففا وهيبته المعهودة ترافقه حتى فرك يديه كالمنتشى بأنتصار فى دور شطرنج‬
‫حين أجهز على منافسه بعبارة " كش ملك " مستبدال المقطع ‪ :‬مش فاضل كده غير الشقة يابطل ‪ .‬حين‬
‫سمع تلك الجملة رفع شريف رأسه بطيئا وأخفى توتره مستعيدا بعض الثقة ‪ :‬حضرتك الزم تعرف أن‬
‫نورا عرضت على أنها تشترى شقة ونتجوز فيها وأنا رفضت ‪ .‬حك جبهته بأبهامه وعالمات الحزن‬
‫تسبق صوته ‪ :‬واضح أنك بطلت تحكيلى حاجات كتير ياشريف ‪.‬‬

‫ــ ماهو ‪ ..‬قالها مرتبكا ‪.‬‬

‫ــ ع العموم معلش دى حاجة ترجعلك ‪ ..‬لكن اللى عايز أقوله ماتقلقش خالص من حكاية الشقة عشان‬
‫ببساطة يابنى حأبقى أنا وأنت عندنا بدل الشقة أتنين‪ ..‬لما تتجوز نورا وأنا أتجوز هدى زى ماحيبقى‬
‫لهم مكان فى شقتنا أحنا كمان حيبقى لنا مكان فى شقتهم ‪ ..‬ثم سكت مستطلعاأثار كلماته على وجه أبنه‬
‫الذى ظل نافرا ‪ .‬فأستكمل ‪ :‬ولو مش عاجبك الوضع ده أقبل بعرض نورا الهو عيب والحرام وأنا يابنى‬
‫سبقتك لما أتجوزت مامتك فى شقتها ‪ .‬تأمله شريف بنظرة شفقة حين رأه يتخلى عن منطقه ‪ :‬ماما اللـه‬
‫يرحمها كا نت ظروفها مختلفة وحضرتك كمان كان لك وضعك وكيانك ‪ ..‬أما أنا فمشكلتى أكبر بكتير من‬

‫‪519‬‬
‫مسألة الشقة ‪ ..‬أنا لغاية دلوقتى يابابا تايه مش عارف أالقى نفسى ‪ .‬كررها بحرقة حين تساءل أبوه ‪:‬‬
‫تايه ؟! ‪.‬‬

‫ــ أيوه يابابا تايه ‪ ..‬أنا حاجة كده ماشية فى الدنيا مالهاش معالم والطعم وال أى حاجة ‪ ..‬أقنعت نفسى‬
‫بشغالنة على ماتفرج ال لها مستقبل والطموح وفى أى وقت ممكن يقولولى شكرا مع السالمة وحضرتك‬
‫قلتلى الشغل مش عيب وأصبر على ماتفرج ‪ .‬صاحبته حشرجة لم يستسلم لها وتابع ‪ :‬حتى نورا اللى‬
‫حضرتك بتقول عليها بتحبنى هى كمان شيالنى ع الرف برضه على ماتفرج بعد ماتخلص من‬
‫أمها وتزيحها من البيت وبعد ماتطمن على أخواتها ومستقبلهم وكمان تكون زودت شوية من محصول‬
‫الغلة ‪ ..‬إن شاء اللـه بعد ماتنتهى من كل ده حتبقى تبت فى أمرى ‪ .‬نفرت عروقه وأرتعش جفنه حين‬
‫أنتهى من عرض مأساته ‪ ..‬شعر بالوحدة واليتم ‪ .‬توجه إليه أبوه بنظرات صامتة ‪ .‬اليملك اجابة محددة‬
‫ملتمسا منه بعض الفهم حين مال بجذعه متخليا عن وضعية الشموخ ‪ :‬حاسس بيك ياشريف وعارف أن‬
‫كالمك كله صح ‪ .‬أدلى بأعترافه ثم أنكسرت نظرته ناحية األرض ‪ .‬تنهد ولم يرفع عينيه ‪ .‬أستطرد ‪:‬‬
‫كان نفسى ظروفك تبقى أحسن من كده ‪ ..‬ياريت كان فى أيدى حاجة وأنا كنت عملتهالك ‪ ..‬لكن انت‬
‫فاهم وعارف الظروف كويس صمت بعد أن جمعتهما نفس النظرة ناحية األرض قبل أن يسبقه خيرى‬
‫رافعا رأسه متجوال بنظرته فى الوجه المدلى ‪ :‬اللى أملكه دلوقتى ياشريف وأقدر عليه هى النصيحة ‪..‬‬
‫أسمعها منى ياحبيبى ‪ .‬تتبع األخير نهاية جملته متخليا عن نظرته األرضية صاعدا بها ببطء لوجه أبيه‬
‫الذى قال متأثرا ‪ :‬عايزك تكون متفاءل وواثق من نفسك وتحمد ربنا ألف مرة أن مشاكلك كلها مادية‬
‫يعنى أن ماتحلتش النهاردة واللـه حتفرج بكرة ‪ ..‬تخيل ياشريف لو مشكلتك زى حاالتى أنا ‪ ..‬مشكلة مع‬
‫الزمن اللى عمال يجرى سنة ورا سنة لغاية ماعديت الخمسين وبقى وشى فى وش الوحدة ‪ ..‬الملل‬
‫هدنى والخوف من بكرة لما الصحة تتعب والعقل يبقى على أده ولما كرامة البنى أدم تتهان بأيدين‬
‫مرض وتهزمه ‪ ..‬أنا كبرت ياشريف ‪ ..‬عشان كده ‪ .‬أغتصب ريقه ولم يكمل ‪ .‬فحثه أبنه ‪ :‬عشان كده‬
‫أيه يابابا ؟ ‪.‬‬

‫ــ عشان كده لما ظهرتلى هدى حسيت أنها طوق النجاه اللى حتأخد بأيدى وحتكمل معايا اللى فاضل من‬
‫عمرى ‪ ..‬أشاح بوجهه خجال ثم أردف ‪ :‬جايز أكون من فرحتى بيها نسيتك وجايز اكون قصرت‬
‫وماشرحتلكش ظروفى بشكل كويس وده من غير قصد منى ‪ ..‬بالعكس ياشريف انا طول عمرى بأتعامل‬
‫معاك على أنك صاحبى وعقلك كبير وحتقدر ظروفى من غير شرح كتير ‪ ..‬أعذرنى يابنى ‪ ..‬الحاجة اللى‬

‫‪520‬‬
‫ممكن تشفع لى عندك أنك أنت اللى فاضلى فى الدنيا بحالها ‪ .‬خلع األخير مأساته المطبوعة على‬
‫مالمحه واضعا يده على يد أبوه المرتخية فوق ركبته ‪ :‬أنسى كل اللى قلناه يابابا وماتحملش نفسك ذنبى‬
‫والتشغل بالك بأى حاجة ‪ ..‬حضرتك ربتنى ع الرجولة وتحمل المسئولية وأنا أدها وحضرتك حتتجوز‬
‫من طنط هدى عشان فعال أنت محتاج لها وهى كمان محتاجالك ‪ ..‬وأنا كمان يابابا بعد أذنك محتاج أوى‬
‫أالقى نفسى ‪ ..‬سيبنى على راحتى وزى ماحضرتك كبرت أنا كمان كبرت والسنين بتجرى وماعملتش‬
‫حاجة لغاية دلوقتى ‪ ..‬عشان خاطرى سيبنى أشوف مستقبلى ‪ .‬قال كالمه ولم تسعفه حدقتيه من تبين‬
‫مالمح أبوه بعدما أمتألت عيناه دموعا ‪.‬‬

‫ــ أنت بتبكى ياشريف ‪.‬‬

‫ــ أل يابابا ‪ .‬أعتصر جفنيه كى يتخلص من دموعه ثم نظر فى عينى أبوه التى فاضت هى األخرى‬
‫بجرعة من الدموع فشل فى حبسها ‪ .‬لحظة مزلزلة ‪ ..‬ترجرجا فى مكانهما وكأن مس أصابهما‪ ..‬تزحزح‬
‫خيرى حتى حافة كرسيه فاتحا ذراعيه مستدعيا أبنه الذى لم يتأخر وصوله ‪ .‬سلم نفسه لحضن أبوه‬
‫يكتم فيه صوت بكاؤه بينما فشل خيرى فى لجم أنينه ‪ ..‬أهتز كل مافيهما تحت ضربات األنين والبكاء ‪..‬‬
‫رجالن يضيق جلدهما بروحهما المكسورة ‪ .‬عاجزان عن مواجهة زمن رحل بكل أحالمه ! ‪.‬‬

‫‪000000000000‬‬

‫وبين ليل الينتهى ونهار اليبزغ ‪ .‬الزالت تلك الليلة تتفاعل ‪ ..‬الثانية صباحا تدق فى شقة فايزة تزامنا‬
‫مع دخول منصور من باب الشقة ‪ ..‬أوصده خلفه بعنف قاصدا أحداث ضجة متمنيا ظهور أمه فى‬
‫أعقابها ‪ ..‬كان فى أشد األحتياج لتوضيحات واجابات ‪ .‬لم يكن منصور يكف عن مطاردة األفكار‬
‫والظنون ‪ .‬أحتار فى األمر ‪ .‬الساعات األخيرة تطرح دائما سؤالها القاسى والمؤلم ‪ :‬أمى ليه وقفت‬
‫الشغل فى أرض أبن شكر ؟ طلبت من المهندس أسامة يصرف نظر عن رسومات المول ومايكملش بقية‬
‫رسومات العمارة ‪ ..‬وليه محمود المحامى ماعندهوش أجابة على أى سؤال ؟ أسئلة كلها تصب فى‬
‫حاضر غامض بال مستقبل ‪.‬‬

‫وقف وسط الصالة " شخشخ " مفاتيحه والمجيب ‪ .‬مد رأسه من وراء حدود الطرقة وعيناه مفتوحتان‬
‫نا حية غرفتها ككلب حراسة ‪ .‬ثم تجرأ ونادى بخشونة ‪ :‬ياما ‪ ..‬ياما ‪ ..‬لحظات وسمع همسا خلف بابها‬
‫حين أجتاز عتبة الطرقة ‪ .‬فقال ‪ :‬أنا قاعد برة مستنيكى ياما ‪.‬‬
‫‪521‬‬
‫خرجت بعد خمس دقائق معصوبة الرأس مرغمة بعد نصيحة من هدى ‪ .‬أستقبلها واقفا حين تقدمت ‪:‬‬
‫الجميل مش عايز يشوفنى وال أيه واليعنى من لقى أحبابه نسى أصحابه ‪ .‬كلماته كالسكين البارد يعبث‬
‫بالجرح النازف ‪ .‬على غير عادتها ‪ ،‬أمتلكت األن فضيلة الصبر ‪ .‬ليس ذلك الصبر الطيب الذى يتحدثون‬
‫عنه ‪ ،‬ويوصى به المؤمنون ‪ .‬صبر محسوب ومخطط وهادىء ! ‪.‬‬

‫جلست على كنبتها دون أن تنظر اليه ‪ :‬عايز أيه عامل دوشة وداخل بزعابيبك ‪.‬‬

‫ــ ياما أنا عايش معاكى فى بيت واحد ومش عارف أوصلك وال أتكلم معاكى ‪ ..‬ياقافلة عليكى األوضة‬
‫مع زميلتك وموبايلك يا أما مقفول يامابترديش ‪ ..‬ماتقوليلى أيه الحكاية بالظبط ‪ ..‬يكونش شايفالك‬
‫شوفة ياما ‪ .‬قالها وداعبها بعينيه ضاحكا ‪.‬‬

‫ــ الشوفة دى تقولها لنفسك وللوسخ أبوك ‪ ..‬خلصنى قول عايز أيه دلوقتى ؟ قالتها قبل أن تأمره‬
‫باألختصار ‪ .‬جلس الى جوارها ‪ .‬تأمل سحنتها الصارمة ثم أطلق تنهيدة ساخنة أوحت بأمتالء صاحبها‬
‫بالحيرة ‪ :‬مالك ياما فى أيه ؟ ‪.‬‬

‫ــ مافيش ‪.‬‬

‫ــ مافيش أزاى وشكلك مقلوب ومش طيقانى ‪ ..‬ده أنتى حتى مش عايزة تبصى فى خلقتى ‪ .‬النظر إليه‬
‫يضغط على أعصابها ‪ ..‬تراه فى عينيها كنبات شيطانى ظهر فجأة بال أصل أو أمتداد ‪ ..‬النظر إليه‬
‫يجعلها راغبة فى البحث عن مكان جديد أو ربما عن بداية جديدة‪.‬‬

‫ــ فهمينى أيه اللى بيحصل ياما ‪ ..‬الوله النونو وخضر مش عارف أتلم عليهم من أمبارح ‪ ..‬أتصل بيهم‬
‫مابيردوش والليلة ظهروا فى القهوة وبسألهم عن األيراد قالولى المعلمة هى اللى حتحاسب ‪ ..‬أيه اللى‬
‫حصل ياما ‪.‬‬

‫ــ ماحصلش حاجة ‪ ..‬فيه تفكيرة فى دماغى ناوية أعملها ‪.‬‬

‫ــ تفكيرة تخصنى أنا يعنى ‪.‬‬

‫ــ تخصنا كلنا ‪.‬‬

‫ــ كلنا مين ؟ ‪.‬‬


‫‪522‬‬
‫ــ أنا وأنت وأبوك ‪ .‬نبرتها الجافة المتوعدة سحبته ألستفسار ‪ :‬ومحمود المحامى اللى طريقته بقت‬
‫متغيرة معايا والشغل اللى واقف والمهندس أسامة والحاج محمد المقاول اللى مشتوهم ‪ ..‬دى برضة‬
‫تفكيرة جديدة ياما ؟هبت من مكانها مثل العاصفة ‪ :‬وأنت مال ابوك ‪ ..‬أنت حتحاسبنى ‪ ..‬اللى أنا شايفاه‬
‫صح حأعمله ‪.‬‬

‫فارقت عروقه الدماء حين ثبتت نظرتها النارية فى وجهه ‪.‬‬

‫ــ حقك ياما ‪ ..‬اللى أنتى شايفاه صح أعمليه ‪ ..‬أنا بسأل بس ‪.‬‬

‫ــ أل ماتسألش وبطل رغى وأدخل أوضتك أتخمد ‪.‬‬

‫ــ حاضر ياما حأتخمد بس عايز أقولك أنى ماعملتش حاجة تغضبك والتزعلك وماسك شغلك بما يرضى‬
‫اللـه ‪ ..‬ولو حد قالك حاجة غير كده واجهينى ياما ‪ .‬تلقت كالمه بهدوء ‪ ،‬حتى أنها لم تسأل ‪ .‬لم تثر‬
‫جدال أو هجوما ‪ .‬فهمت اللحظة على نحو نادر ‪ .‬تحرك ناحية غرفته قبل أن يلتفت إليها وهى فى طريقها‬
‫لغرفتها ‪ :‬تصبحى على خير ياما ‪ .‬لم ترد ‪ .‬فعزف على وتر أخر ‪ :‬ماشى ياأم منصور براحتك ‪ ..‬أنا‬
‫برضه مش حأزعل منك ياجميل ‪ .‬قالها بصوت مرتفع كى تصل ألذانها حين أقتربت من بابها ‪ .‬بينما كل‬
‫ماتتمناه فى تلك اللحظة أن تمتلك ذاكرة ‪ ،‬تعرف الصفح ‪ ،‬والنسيان ‪..‬ذاكرة تقبل العزاء ‪.‬‬

‫قبع منصور فى غرفته ‪ ..‬كان مشهده اليختلف عن مشهد فأر سقط داخل الفخ ‪ .‬ضاقت نفسه ‪ ،‬بدا‬
‫ضعيفا الحول له والقوة ‪ ،‬فقد السيطرة على عقله تماما ‪ ،‬وخانه ذكاؤه ‪ ،‬بل تالشى ذلك الذكاء الذى‬
‫كان يساعده على الفهم وتحليل مايدور حوله ‪ .‬لم يعترف أنه سقط فى فخ محكم ‪ .‬الزال يفكر ويبحث‬
‫ويفتش ‪ ..‬يتأمل دخان سيجارته وهو ممدد على السرير يتعقبه فى فراغ الغرفة مستعيدا أحداث الــ ‪48‬‬
‫ساعة األخيرة ‪ .‬يفصل كل ساعة على حدا ويفتش فيها ‪ ،‬عله يصل الى حدث أو سقطة أو فعل ما قلب‬
‫موازين أمه وشقلب حالها ‪.‬طارد الساعات الماضية وقبض على دقائقها وتعقب ثوانيها ‪ .‬لم يصل‬
‫لشيىء ‪.‬‬

‫أرهقه البحث الذى جره الى األحساس بالظلم ‪ ..‬يدرك أن لكل عالم حدودا ولكل كون أفقا ‪ ،‬لماذا عالمه‬
‫هودائما ضيق ؟! ‪.‬‬

‫‪523‬‬
‫تنبه على صوت باب الشقة الذى دوى صريره معلنا بأستحياء عن وصول عبده الجن بصحبة نوبة‬
‫سعال معتادة ‪ ،‬تالزمه كلما دخل البيت وكان جهازه المناعى ينهار فجأة !‪ .‬هرش جبهته ثم دفن‬
‫سيجارته فى المطفأة قبل أن يدفن النفس األخير فى صدره وقام ببطء ‪ ..‬تحرك ناحية الباب وفتحه بحذر‬
‫تزامنا مع خلع عبده لجلبابه ‪ ..‬ألتفت اليه األخير حين شعر به ‪ :‬مالك واقف ورا الباب كده ليه زى اللى‬
‫عامل عاملة ‪.‬‬

‫ــ مش جاى لى نوم ‪ .‬قالها بصوت خافت ‪.‬‬

‫ــ حقك ياسيدى ‪ ..‬دماغك مليانة مشاغل ‪ ..‬راجل أعمال بقى ‪.‬‬

‫ــ طب وطى صوتك وتعالى أدخل أقعد معايا شوية ‪.‬‬

‫ــ يابنى الكالم معايا زى عدمه ‪ ..‬أنا خالص أمك طلعتنى معاش ‪ .‬قالها حين تجرد من جلبابه وخلع‬
‫حذائه وشرابه وجلس باللباس الطويل وفانلة نص كم بيضاء ‪ .‬أرسل منصورنظرة أستكشافية ناحية‬
‫الطرقة ثم عاد ألبوه ‪ :‬أخلص يابا وتعالى أدخل ‪ .‬تدلل فى خطوته قبل ان يجره منصور للداخل ‪.‬‬

‫جلسا متجاورين على حافة السرير ‪ ..‬حدق منصور لألرض بينما عبده حشد اذنيه منتظرا كلمات‬
‫أبنه التى لم تأت بعد ‪ .‬فبادره بعد دقيقتين ‪ :‬هوأنت مقعدنى معاك تسمعنى سكوتك ‪ .‬أتجه إليه بنظرة‬
‫مهزومة ‪ .‬ثم سحب سيجارة من علبته أشعلها ورمى بوالعته وعاد ثانية يتأمل األرض ‪ .‬حيرته البادية‬
‫على وجهه كعالمات أستفهام ‪ .‬أستدعت تدخال ‪:‬‬

‫ــ ايه ياوله هى الحكاية كبيرة اوى ؟ !‪.‬‬

‫ــ مش لما ابقى أعرف الحكاية أيه أصال ‪.‬‬

‫ــ ماتتعدل فى كالمك ونورنى ‪.‬‬

‫ــ واللـه ما أنا عارف فى أيه يابا‪ ..‬الدنيا كلها أتلخبطت وأتشقلبت فجأة ‪ ..‬فى حاجة مش مظبوطة‬
‫بتحصل من وراضهرى ‪ .‬رددها بيقين وثقة ‪.‬‬

‫ــ حاجة أيه قلقتنى ‪ .‬دعك منصور فخذيه بكفيه ‪ :‬على يدك يابا أنت شفت أمى كانت راضية عنى أزاى‬
‫ومطلعانى السما والدنيا بدأت تضحكلى وحطيت رجلى فى كل زوارقها وكانت بتشورنى فى كل كبيرة‬
‫‪524‬‬
‫وصغيرة ‪ ..‬ماتفهمش أيه اللى حصل ‪ ..‬رفع كفيه وخبط بهما فخذيه واحتضرت بقية الجملة فى حلقه ‪.‬‬
‫فحثه أبوه ‪ :‬أيه اللى حصل ؟ ‪.‬‬

‫ــ ماعرفش ‪ ..‬وشها أتقلب من ناحيتى ومابقتش طيقانى وبتكلمنى من تحت ضرسها وكل الشغل اللى‬
‫حطيت أيدى فيه جابت ببانه ووقفته ‪ ..‬سألت محمود المحامى عن السبب قالى ماعرفش ‪.‬‬

‫ــ وماسألتهاش هى ليه ياحمار ؟ ‪.‬‬

‫ــ سألتها وماخدش منها عقاد نافع كله كالم ع العايم من نظام أصل فى دماغى تفكيرة تانية ‪ ..‬تحسس‬
‫عبده لحم وجهه كمفكر ‪ :‬مش يمكن كالمها صح ‪.‬‬

‫ــ أل يابا الليلة مش كده خالص ‪ ..‬دى أمى وأنا فاهمها ‪ .‬قالها وأستسلم ليأسه ‪ .‬بينما مال عبده بوجهه‬
‫مستنتجا ‪ :‬أنا بقول المرى اللى أسمها هدى هى اللى ورا القلق ده كله ‪.‬‬

‫ــ أيه اللى بتقوله ده بس يابا ‪ .‬ردد جملته وهو ينفخ ‪.‬‬

‫ــ ماهو مافيش حاجة جدت على أمك غير وجود الولية دى ‪.‬‬

‫ــ الست دى مالهاش مصلحة ‪ ..‬أكيد فى حاجة تانية حصلت أنا مش فاهمها ‪.‬‬

‫ــ طب مادعبس وراها كده يمكن توصل لحاجة ‪ .‬مل منصور من كلماته التى التقدم وال تؤخر ‪ :‬باقولك‬
‫ايه ‪ ..‬قوم أتكل على اللـه روح نام ‪ .‬قام من مكانه معترضا ‪ :‬تصدق أنت عيل أبن كلب مجنون ‪ ..‬من‬
‫شوية تعالى عايزك أتكلم معاك ودلوقتى روح أتكل على اللـه نام‪ ..‬هو أنا على مزاج أمك ‪ .‬ضاق‬
‫منصور ذرعا ‪ :‬ماهو أنت كالمك كله اليجيب واليودى ‪.‬‬

‫ــ أنا برضه يامنصور ‪ ..‬أنا مش حذرتك من األول وقلتلك خلى بالك ‪ ..‬أمك زى ماحترفعك لسابع سما‬
‫ممكن نخسفك لسابع أرض وآهى عملتها فيك بنت عبد المقصود ‪ .‬هز رأسه ولم يعقب بينما أتجه عبده‬
‫ناحية الباب رافعا كفيه بدعاء األنتقام ‪ :‬ربنا يولع فيكى يافايزة وتموتى محروقة عشان نخلص منك‬
‫ونرتاح ‪ .‬ثم فتح الباب وخرج الى ظالم الصالة ‪ ..‬تحسس بيده الكنبة ثم وضع جسمه عليها بتعب متجها‬
‫ببصره للسقف ‪ .‬محدثا نفسه ‪ :‬باين عليك يابنى حظك من حظ أبوك ‪..‬‬

‫‪525‬‬
‫أنفرد منصور بنفسه ‪ ..‬ظل ينقب فى األحداث ويسترجع الحوارات ‪ ..‬لم يجد فيها مايصلح سببا منطقيا‬
‫لهذا األنقالب ‪ ..‬راجع الوجوه بوجه اجتاحه الصدأ ‪ .‬تتبع الشخصيات ذات العالقة المشتركة فى المشهد‬
‫المباشر بأمه ‪ ..‬حاول أستحضارها أمامه على هيئة صور ‪ ..‬فتح األلبوم فى ذهنه مستهال أولى الصور‬
‫بوجه محمود المحامى ثم خضر والنونو الذى توقف أمامهما للحظات ‪ .‬يدرك بأنه اليحوز قبولهما ‪ .‬مط‬
‫شفتيه محدثا نفسه ‪ :‬مافيش فى ايديهم حاجة يقدروا عليها وأمى كمان مش تلميذة عشان جوز زى دول‬
‫يخلوها تقلب على ‪ .‬عاد يفرز الصور بعد ماأستبعد تورطهما ‪.‬‬

‫مرت بقية الصور كتحصيل حاصل ‪ ،‬محمد المقاول والمهندس أسامة حتى بدرية ونوسة ‪ .‬فجأة ظهرت‬
‫صورة سليم بالمجموعة الخاصة بوجوه القهوة ‪ .‬يعلم أنه وغد يملك كل األساليب لقتلك دون أن تنزف‬
‫قطرة دم ‪ ..‬لم يحدث نفسه بكلمة واحدة وكأن حبل الكالم أنقطع داخله فجأة ‪ .‬قام من رقدته عابسا‬
‫مضطربا ‪ ..‬أحتل السواد وجهه ‪ .‬سحب من ذاكرته كل األسماء والصور ‪ ..‬تتزاحم صورة سليم فى‬
‫رأسه ‪ ..‬كلمات سليم األخيرة ترن فى رأسه ‪ :‬ماتتغرش ياصاحبى ‪ ..‬األيام دول !!‬

‫عيونه الفاحصة المدربة ‪ ،‬قادرة على أكتشاف أصغر مافى واقعه من متناقضات أو ربما مؤامرات !‪.‬‬

‫تشبث ذهنه بالصورة واقنع نفسه بالتحليل ‪ ..‬قام واقفا يدور فى الغرفة كالمجنون بينما رعشة ذقنه‬
‫زادت سرعتها حين حرك فكه قائال ‪ :‬مصيبة سودة لتكون عملتها ياأبن الحرام وضربتنى فى ضهرى ؟‬

‫أنقضت الساعة األخيرة من الليل طويلة وكئيبة ‪ .‬تعب من التفكير والخوض فى األحتماالت ‪ ،‬والبحث‬
‫عن حلول ان صح وقوع الفاحشة ‪ ..‬فاحشة خيانة الصديق ‪.‬‬

‫عاد لسريره كعجوز أنهكه المرض ‪ ..‬أستسلم مرهقا حتى يقضى الـله أمرا كان مفعوال ‪ .‬أرخى جفنيه ‪.‬‬
‫متمنيا طلوع النهار لألمساك بسليم ‪ :‬لو أن ثقافته كانت تصلح لمثل هذه المناسبة لقال فيها ‪:‬‬
‫" الكل خانوك ياريتشارد " ‪.‬‬

‫‪00000000000‬‬

‫‪526‬‬
‫خرج يوسف فى الثامنة صباحا قاصدا مكتب المهندس ناجى ‪ ..‬أستقل تاكسيا من أمام مدخل العمارة‬
‫بمالمح طالب وضعته الظروف أمام أمتحان المصير ‪ ،‬والذى يكرم فيه المرء أو يهان ‪.‬‬

‫جلس بجوار السائق محافظا على تركيزه يسترجع عبارته الملغومة التى سيفجرها الحقا فى وجه إيمان‬
‫لحظة وصوله ‪ ..‬راجعها فى ذهنه عدة مرات بصيغ مختلفة متحاشيا تشويش الطريق الذى يأكله السائق‬
‫بنهم وكأنه يسوقه لحتفه ‪.‬‬

‫ــ ماما كانت فى السجن تسع سنين ظلم فى قضية قتل خطأ و ‪ ..‬هز رأسه معترضا ثم صاغها من‬
‫جديد ‪ :‬ماما دفعت من عمرها تسع سنين فى السجن غصب عنها و ‪ ..‬تنهد ونفخ ثم قال مستغفرا ‪:‬‬
‫أستغفر اللـه العظيم يارب ‪.‬‬

‫ــ مافيش حاجة يابنى تستاهل النفخ ‪ ..‬سلمها للـه وهى تفرج ‪ .‬عبارة دحرجها اليه السائق حين شعر‬
‫به يتلوى فى جلسته ‪ .‬واصل تهيأة العبارة فى ذهنه ‪ ،‬بدل وأضاف وحذف ‪ ،‬وكلما أستقر على جملة كان‬
‫يتراجع وتخونه شجاعته كلما داهمه مشهد خروجه المهين من فيال هدير ‪ ..‬يغزوه ذلك الخاطر الذى‬
‫ترتعد له أطرافه ‪ .‬أنتبه على صوت السائق الذى هنأه على سالمة الوصول حين توقف أمام العقار ‪.‬‬
‫شعر بخوف حين أجتاز المدخل ورافقه حتى المصعد الذى سلمه للدور الثانى مرتبكا ‪ ..‬دخل المكتب‬
‫يحمل على كتفيه تاريخا مؤلما للحظة مشابهة ‪ ..‬بأعصاب متوترة مسح المكان حوله ‪ ،‬تسبقه نظراته‬
‫ناحية الطرقة المؤدي ة لمكتبه حين لم يجد ايمان على مكتبها ‪ ..‬شعر بحركتها فى الداخل حين أقترب من‬
‫الباب ‪ .‬فتحه على أبتسامتها الصباحية عندما ألتفتت اليه ‪ ،‬تنفض يديها من تجهيز مائدة األفطار‬
‫المعتادة على مكتبه ‪ ..‬اتجهت ناحية الباب تشاغبه بعينيها ‪ :‬عندك تأخير عشر دقايق ياباشمهندس ‪.‬‬

‫ــ معلش سامحينى ‪ .‬قالها وهرب من عينيها ‪ .‬فتعقبته ‪ :‬مسمحاك ‪ ..‬تعالى أقعد عشان تفطر ‪ .‬كلماتها‬
‫صعبت عليه األمر ‪ .‬هز رأسه مطيعا ومر من جوارها ثم جلس خلف مكتبه وجلست أمامه وبينهما‬
‫سندوتشات الجبنة الـ " ريكفورد " افطاره المفضل ‪ ،‬والنشون الفراخ عشقها األول ومعهما ثالث‬
‫خيارات ‪ ،‬بينما الشاى األخضر فى ترمسه يعيش أزهى أيامه ! ‪.‬‬

‫ــ أيه الحكاية يايوسف زهقت من الريكفورد وال أيه ؟ ‪ .‬قالتها حين لم تر لهفته المعتادة على الطعام ‪.‬‬
‫أبتسم ولم يرد ‪ .‬مد يده وتناول واحدا ببطء ‪ .‬لفت أنتباهها مزاجه القلق ‪ .‬قامت من كرسيها تتوعده‬
‫بمفاجأة ‪ :‬حأجيبلك حاجة دلوقتى حتفتح نفسك وتخليك تخلص ع الفطار ده كله لوحدك ‪ .‬مدت خطوتها‬
‫‪527‬‬
‫الى مكتب الراحلة هدير وسحبت من عليه حقيبة يدها ‪ ،‬فتحتها حين عادت لكرسيها بينما يتابعها‬
‫بنظرات فضولية منتظرا خروج يدها من جوف الحقيبة ‪ ..‬لحظات وسلتت يدها القابضة على مفتاحين ‪،‬‬
‫هزتهما أمام وجهه ‪ ..‬أضطربت أنفاسه حين قرب عينيه بينما ظلت ضحكتها تضيىء وجهها ‪ :‬مفاتيح‬
‫عربيتك ياباشمهندس ‪ ..‬من النهاردة مافيش مواصالت ‪ ..‬يعنى البهدلة وال مصاريف ‪ .‬ثم مدت له‬
‫المفتاحين المحبوسين فى ميدالية فضية تحرسهما أيه الكرسى ‪ .‬تسلمها بفرحة مصطنعة ‪ ..‬قلبها بين‬
‫يديه للحظات ثم وضعها أمامه ‪ .‬راقبت مالمحه المتحفظة ‪ :‬العربية مش أد المقام وال أيه ؟‬

‫ــ بالعكس ليه بتقولى كده ‪.‬‬

‫ــ شكلك مش عاجيبنى يايوسف ‪ ..‬الفطار زى ماهوه ومش شايفة أى فرحة فى عينيك بالعربية ‪ .‬لم‬
‫يكن أمامه فرصة للتراجع ‪.‬‬

‫دفع بصدره لألمام ‪ ،‬يحيطها بنظراته الطويلة ‪ :‬فى حاجة مهمة عايز أقولهالك ‪.‬‬

‫ــ عايز عربية فور باى فور بدل الـ ‪ . 128‬قالتها حين وضعت كفها تحت ذقنها ‪ .‬تماسك وهو يطل‬
‫عليها بنبرة جادة ونظرة مستسلمة ‪ :‬أنتى قبل كده قولتيلى أن البنى أدم ظروفه وتصرفاته همه اللى‬
‫بتسمح للحواليه أنهم يتدخلوا فى حياته لما يحسو أنه مش قادر يعدى من أزمته لوحده ‪ .‬نكس عيناه‬
‫متحاشيا النظر إليها حين أجابته ‪ :‬مظبوط ‪ .‬أزاح ميدالية المفاتيح بأبهامه ناحيتها ‪.‬كانت واجمة‬
‫ومستنفرة حين رفع عينيه نحوها وقد أستجمع كلماته كأنه يفجر عذابا جديدا ‪ :‬والدتى دخلت السجن‬
‫تسع سنين فى قضية قتل خطأ ‪ ..‬يعنى من غير قصد ‪ .‬قال العبارة بسرعة كأنما يتخلص من ثقل يزن‬
‫أضعاف وزنه ‪ .‬لم يكن قادرا على التنبوء برد فعلها ‪ ،‬إال أن صورة هدير كانت تلح فى ذهنه ‪ .‬سحبت‬
‫كفها من تحت ذقنها راسمة أبتسامة حين هبت عليه بوجهها ‪ :‬والمطلوب ؟! أربكه السؤال كما أربكته‬
‫مالمحها الهادئة ‪ .‬حاول العثور على رد مناسب وسط فوضى الخجل والحرج ‪ :‬مش مطلوب حاجة‬
‫خالص ‪ .‬أراد أن يحررها من أى ألتزامات ‪ .‬ثم صمت أمام صمتها وراح يقلب عينيه فى مالمحها ‪ .‬كان‬
‫على أتم األستعداد لتلقى ضربة أخرى ‪.‬‬

‫ــ ولما هو مش مطلوب أى حاجة قلتلى ليه ؟ ‪.‬‬

‫تاهت فيه الكلمات ولم يجد سوى ‪ :‬ماعرفش ! ‪.‬‬

‫‪528‬‬
‫ــ أنا بقى عارفة ‪ .‬قالتها وثبتت نظرتها ‪ ..‬لم ترمش حين سألها ‪ :‬عارفة أيه ؟‬

‫ــ عارفة أن مامتك كانت فى السجن ‪ .‬سرت رعشة فى جسده ‪ ..‬حولته فى لحظة الى كائن مكهرب ‪..‬‬
‫كان بحاجة الى من يدعمه قبل أن تنهار البقية الباقية من تماسكه ‪ ..‬أغمض عينيه للحظات ‪ .‬كان‬
‫وجهها قريب منه عندما فتحهما ‪ :‬عايز تقول حاجة يايوسف ؟! حاول تحريك لسانه الراقد فى فمه وسط‬
‫الذهول ‪ :‬عارفة ؟! تراجعت للوراء مبتعدة عن دهشته ‪ :‬أيوه يايوسف ‪ ..‬هدير أتصلت بى فى نفس‬
‫اليوم اللى جت زارتنا هنا فى المكتب ‪ ..‬أنا ماعرفش هى كانت عايزة أيه بالظبط ‪ ..‬كانت بتلف وتدور‬
‫فى الكالم عايزة تعرف أن كان فى حاجة بينى وبينك وال أل ‪ ..‬ولما سألتها بعدتى عنه ليه مادمتى لسه‬
‫بتحبيه ‪ ..‬صارحتنى وحكتلى كل حاجة بالتفصيل ‪ .‬أشاح بوجهه كأنما يحاول أن ينهى مشهدا دراميا‬
‫اليريد المشاركة فيه ‪ .‬إال أن نظرتها التى فضحت عاطفتها شجعته على طرح السؤال الكبير ‪ :‬وأنتى‬
‫رأيك أيه فى الكالم ده ؟ ‪.‬‬

‫ــ فى أيه بالظبط ؟ ‪.‬‬

‫ــ فى كل حاجة ‪ ..‬فى اللى أنا قلته واللى أنتى سمعتيه من هدير ؟ سحبت سندونش ومدته له ‪ :‬كل‬
‫وأسمعنى كويس ‪ .‬قالتها بنبرة أم تامر أبنها الذى أنصاع وقضم أول قضمة ‪ ..‬أردفت وهى تصب‬
‫الشاى ‪ :‬لو عايز تسمع نصيحة مملة حأسمعك ولو عايز تاخد منى الخالصة فخد عندك ‪ ..‬وضعت أمامه‬
‫كوب الشاى األخضر ‪ ..‬وسحبت بشفتيها رشفة من كوبها ‪ .‬ثم أستأنفت ‪ :‬واحدة زى حاالتى مرت‬
‫بتجربة جواز فاشلة وأتطلقت بعد سنة ‪ ..‬تفتكر يايوسف الناس ممكن حيقيموها أزاى ‪ ..‬أنتظرت منه‬
‫أجابة لم تأت ‪ .‬فواصلت ‪ :‬أحتمال جزء منهم يغلطها وجزء تانى يبقى فى صفها ‪ ..‬لكن بالتأكيد كلهم‬
‫حيحمولها مسئولية أختيارها الفاشل ‪ .‬لم يفهم القصد من وراء كالمها ‪.‬‬

‫فوضحت ‪ :‬أما فى حالتك أنت يايوسف ماحدش يقدر يغلطك وال كمان يبقى فى صفك ‪ ..‬عشان ببساطة‬
‫أنت ماأختارتش الظروف اللى بسببها مامتك دخلت السجن والحتى كان لك يد فيها ال من قريب وال من‬
‫بعيد ‪ ..‬موضوع والدتك ده بقى شيىء من الماضى ماتشغلش بالك بيه ‪ ..‬أنساه يايوسف وبص لقدام ‪.‬‬
‫كانت تتكلم وعين الشفقة تسبقها ‪ ..‬تحدثت وكأنها أكتشفت حقائق األشياء ‪ ..‬فتش فى كلماتها عن‬
‫السبب الحقيقى التى لم تكشف عنه حتى األن ‪..‬‬

‫‪529‬‬
‫ــ األنسان الذكى يايوسف هو اللى يتحكم فى الظروف ويبقى عنده ثقة فى نفسه ومن جواه يبقى رافض‬
‫لعب دور الضحية ‪ ..‬هىدى صفات اللى عايز ينجح ‪ ..‬وأنا شايفاك بطل مش كومبارس ‪.‬‬

‫ــ البطل عشان يبقى بطل الزم يكون جنبه بطلة تقف جنبه وتساعده ‪ .‬قالها والزالت اللقمة تدور فى فمه‬
‫ولم تصل لجوفه ‪.‬‬

‫ــ لما البطل يسأل سؤال زى ده يبقى تقريبا البيشوف والبيحس !‪ .‬لم يملك اال أن يبتسم رغم كل‬
‫الحرج ‪.‬‬

‫ــ مش يمكن ياايمان عايز يتأكد أكتر ‪ .‬رغم أندفاعها مع يوسف ورفع شعارات األنسانية ورغم قناعتها‬
‫بالنظرية القائله " يجب تقييم األنسان بأفعاله وليس بأفعال األخرين " إال انها كانت تقيس كل الخطوات‬
‫حتى التبتعد عن حساباتها التى خاطرت من أجلها ‪ ..‬تريد أن تؤسس لعالقة ناجحة تعوضها عن تجربة‬
‫زواج فاشلة ‪ ،‬وأن تترك مسافة كافية للتراجع كى اليتكرر الفشل ‪.‬‬

‫ــ أصبر يايوسف لسه األيام جاية كتير وأنا عن نفسى متفاءلة باللى جاى ‪ .‬سرحت فيه كما سرح‬
‫فيها ‪ ..‬تداركت لحظة السرحان واستسالم مالمحها امام وسامته فى الوقت المناسب ‪ ،‬فنفضت‬
‫عن نفسها الضعف وعادت مرتبكة متلعثمة وهى تنظر فى ساعتها ‪ :‬قوم يا أستاذ كفاية عليك كده أنت‬
‫حتقضيها تسبيل وال أيه ‪ ..‬خد مفاتيح عربيتك وقوم أتكل على اللـه روح موقعك ‪ .‬ثم وقفت كما وقف ‪..‬‬
‫أقتربت منه فى المسافة الفاصلة بين المكتبين وكأنهما توأمان ينمو فى جسد واحد ‪ ،‬اليكتمل إال بهما ‪.‬‬

‫‪0000000000000‬‬

‫أنقضت النصف ساعة األخيرة من الفترة األولى فى األتيليه ‪ ،‬الزالت نورا ساهمة ‪ ..‬كانت عالمات‬
‫األجهاد والقلق تطل من وجهها منذ الصباح ‪ ..‬خيم عليها صمت غريب ‪ ..‬صمت المراجعة والتقييم ‪..‬‬
‫صمت التأمل والحساب ‪ .‬لم يكن يومها عاديا ‪ ..‬تشابكت فيه كل أحداث الفترة الماضية لتنسج حولها‬
‫جوا كئيبا أضفى على حجرة التفصيل التى لم تغادرها منذ الصباح شعورا بأنها غرفة فى دار مسنين ‪..‬‬
‫الصوت فيها وال حركة ‪ ..‬كل ماحولها عاجز وواهن ‪.‬‬

‫‪530‬‬
‫حاولت زيزيت أقتحام صومعتها الصامتة ثالث مرات فى ثالث زيارات متقطعة ‪ ..‬أرادت جرها فى المرة‬
‫األخيرة لحديث واقعى كى تنال منها معلومة أو لتفهم سببا بعد أن فاض بها الكيل من منظر ركام الشغل‬
‫المعطل الذى لم ينال حتى اللحظة نظرة رضا من عين نورا ‪.‬‬

‫ــ أيه الحكاية يانورا ‪ ..‬أنتى عليكى ندر ماتقوميش من مكانك النهاردة ‪ ..‬ده أنتى ماأتحركتيش من على‬
‫كرسيكى من ساعة الصبح ‪ ..‬فى أيه ياحبيبتى ؟ ‪.‬‬

‫ــ مافيش ‪ ..‬قالتها بتكاسل يليق بجو الحجرة الهادى التى لم يسمع فيها دندنة ماكينة والرنة مقص ‪.‬‬
‫ساقتها مالمح نورا الى أستفسار حين جلست أمامها تعاين حالة الكمون ‪ :‬بصراحة أنا مش القية سبب‬
‫للتكشيرة دى ‪ ..‬كل اللى كان نفسك فيه بدأ يحصل واألمور بقت ماشية تمام ‪.‬‬

‫ــ أمور أيه اللى بقت تمام ‪ .‬قالتها بصوت محبط ‪.‬‬

‫ــ هدى قدامها يوم وال أتنين وحترجع البيت وخيرى مستنيها بفارغ الصبر عشان يتم الجوازة ومامتك‬
‫تقريبا ماعندهاش أى أعتراض ‪ ..‬يبقى معناها أيه قعدتك الحزاينى دى ومزاجك اللى مش رايق ده ‪.‬‬
‫أستقبلت كلماتها بمالمح تصرخ ونبرة أستغاثة ‪ :‬وأنا فين فى كل ده يامدام ؟ بدت نبرتها غير المألوفة‬
‫تثير أندهاش زيزيت ‪ :‬أنتى فين يعنى أيه ؟ قامت من كرسيها فى محاولة ألنهاء الكالم ‪ .‬سحبت‬
‫حقيبتها‪ :‬أنا حأطلع أرتاح شوية وع الساعة ستة حأبقى أجى أشوف الشغل المتأخر ده ‪ ،‬ثم أعطتها‬
‫ظهرها خارجة بينما تعقبتها زيزيت بنظراتها وأطراف شعرها األصفر يهتز على جبينها مع هزات‬
‫رأسها المعترضة ‪ :‬هى عايزة أيه بالظبط ‪ ..‬كل اللى طلبته أتعمل ‪ ..‬ده أيه األرف ده ‪ .‬قالتها بقلة حيلة‬
‫وعينيها تجرى على أكوام الشغل المعطل والذى لم ترض عنه نورا حتى اللحظة ولم تمتد له يدها‬
‫بضربة مقص ! ‪.‬‬

‫منذ يوم الزيارة مرت ثالثة أسابيع على وجود هدى بمنزل فايزة ‪ ..‬استعادت كل مخزون عالقتها‬
‫االنسانية برفيقتها التى الزمتها كأنفاسها ‪ ،‬لم يكن بمقدورها الحصول على فرصة حقيقية لالنفراد‬
‫بنفسها وكلما ضاق صدرها واشتدت اوجاعها فرت اليها ‪ ،‬فحوطتها بالتشجيع والدعم وشغلتها عن‬
‫قضاياها النفسية بمعاركها الحياتية وتدبير الخطط المستقبلية بعد هزيمتها القاسية على يد ابنها ‪ ،‬فهدأت‬
‫هدى وغاب عقلها لساعات طويلة عن التفكير فى مأساتها قبل ان تستعيد وعى األلم مع كل مكالمة من‬
‫خيرى الذى الزال رافعا مطلبه الوحيد ‪ :‬مش كفاية عليكى لحد كده ياهدى ‪ ..‬كل الحجج خلصتيها ‪..‬‬
‫‪531‬‬
‫وأخرتها ‪ .‬لم يكن لديها جوابا شافيا السكات ذلك المنفعل ‪ .‬باتت تعتمد على نظرية المماطلة ‪ :‬هانت‬
‫ياخيرى يومين بالكتير ‪.‬‬

‫ــ بقالك تالت أسابيع بتقولى يومين ‪ ..‬مش حينفع كده ‪ .‬ثم يهدأ مجبرا أحتراما لدموعها ‪ :‬أعمل معروف‬
‫ماتضغطش على ‪ ..‬هكذا كانت تنتهى المكالمة ‪.‬‬

‫بخالف أوالدها الذين اليكفون عن اطالق عبارات التذمر والضيق من فرط المماطلة وخاصة نورا التى‬
‫استنفذت كل جمل التشجيع التى دائما تستهل بها مكالماتها قبل أن يضيق صدرها وتتحول فى نهاية‬
‫حديثها إلى الوعيد والتهديد بينما أكتفت هدى باالصغاء متبنية وجهة نظر فايزة ‪ :‬أسمعى منها‬
‫وماترديش عليها ‪ ..‬كبرى دماغك ‪ .‬أرتاحت لهذا الحل المؤقت رغم صعوبة الكلمات وبجاحة االلفاظ التى‬
‫تصلها دون حياء وبال رحمة ‪.‬‬

‫دخلت نورا الشقة التى أستقبلتها بنسمات العصر الحزينة ‪ .‬فتشت بعينيها وهى التزال على عتبة الباب ‪،‬‬
‫تمشط المكان بحثا عن أحياء ‪ ..‬أوصدت الباب خلفها ‪ ..‬وقفت فى الصالة ولم تنحرف الى غرفتها ‪.‬‬
‫رمت بحقيبتها على كنبة األنتريه ثم رمت بجسدها إلى جوارها ‪ ..‬أنسحبت إلى ركن الكنبة وأنزوت‬
‫متأملة ‪ ..‬كانت فى حاجة لألنفراد بنفسها كى ترمم أنقاضها ‪ ..‬تبحث عن روحها التائهة من خالل ساعة‬
‫العصر الخرساء ‪ .‬شجعها خلو المكان من الحركة فى األستغراق فى التأمل بعد أن همد صوتى أيات‬
‫ونعمة اللتان سلمتا نفسيهما لغفوة أجبارية بعدما أرهقهما الكالم عن الفنان " أنوروجدى " والتغزل فى‬
‫شعره الناعم وبذخه فى الصرف على افالمه مرورا بفترة زواجه من الراحلة " ليلى مراد " وأنتهاءا‬
‫بوفاته التى أثارت جدال حادا فيما بينهما حول حالته األجتماعية لحظة أن وافته المنية ‪ ..‬هل ليلى كانت‬
‫على ذمته أم فى ذمة غيره ؟ تناقرتا طويال قبل أن ترتاح نعمة لتصريح أيات ‪ :‬ع العموم األتنين دلوقتى‬
‫فى ذمة اللـه ‪ .‬ثم نامتا فى مكانهما ‪ ..‬بينما بسمة فى تلك اللحظة تكتب تاريخا جديدا فى عالقتها مع‬
‫أمجد ‪ ..‬تاريخ الهوية والمستقبل ‪ .‬هى األن فى لقاء تعارف بجمعها بأم أمجد وأخته وفى حضوره‬
‫شخصيا فى كافيتريا " تريانون " كخطوة جادة منه ألضفاء الشرعية على عالقته بها وتمهيدا لخطوة‬
‫قادمة بعد أن نجح فى أستمالتها عقب معاناة أستمرت لثالثة أيام متتالية من أخذ ورد فى التليفون ‪،‬‬
‫كلفته ثالثون مكالمة بمئات الدقائق ‪ ،‬كان يقرويعترف فى كل مكالمة بذنبه الفادح مبديا الندم وسط كم‬
‫هائل من األعتذارات بكل الصيغ وبشتى التوسالت مستعمال كل النبرات التى يلين لها قلب الحجر ‪.‬‬
‫أعطت له موافقتها المبدئية بعد الرجوع لنورا التى قبلت على مضض من باب درء المفاسد ‪ .‬كما أخذت‬
‫‪532‬‬
‫رأى يوسف الذى دعمها معتبرا أمجد مكسبا لها بعد أن أقر بخطأه فى شجاعة ونجاحه فى الحصوله‬
‫على عقد عمل بالسعودية ‪.‬‬

‫تأملت نورا من بعيد كل الذكريات التى سحبها اليها سكون العصر ‪ ،‬والسؤال الكبير الذى يشدها ويهوى‬
‫بها إ لى قاع الحيرة ‪ :‬أنتى فين من كل ده يانورا ؟ تضخم السؤال داخلها حتى أمتألت به ‪ ،‬طافحا من‬
‫عينيها متسلال عبر نظراتها إلى كيان الصالة الصامت ‪ ..‬السؤال الذى جر خلفه أسئلة تتدفق عليها من‬
‫كل حد وصوب ‪ .‬كان عليها أن تختار أجابة واحدة ‪ ..‬أجابة النجاة أو الغرق ! ‪.‬‬

‫أشياء كثيرة أرغمت عليها حتى تحافظ على خط سير الحياة ‪ ،‬وكل األشياء التى راهنت عليها أصبحت‬
‫األن بين قوسين ‪ ،‬تحتمل النجاح أو الفشل !! ‪.‬‬

‫األن تبحث عن حكم البراءة فى قضية حياتها الحافلة باألحداث والعجائب ‪ ..‬شريف كان وجوده طاغيا‬
‫فى ملف القضية وفى كل الذكريات ‪ ،‬الزال هو فتاها األول ونجمها المفضل ‪ .‬مازالت مواقفه البطولية‬
‫ترتع فى خيالها ‪ ،‬بالرغم من العالقة الباردة التى مر عليها شهور ‪ .‬بقايا أشياء دفنتها تستعيد األن‬
‫أشباحها ‪ ..‬لم تنس أنه صاحب أول نظرة علمتها لغة النظرات ‪ ،‬وصاحب أول قبلة أصابتها بالدوار ‪ ،‬هو‬
‫األول واألخير التى خلعت أمامه كل مالبسها حين كان ضيفا عليها فى كل األحالم ‪.‬‬

‫ظلت تتصفح أوراق قضيتها ببطء من خالل األحداث والمحطات المهمة حتى هلت عليها عالمات الحيرة‬
‫مع نهاية أخر سطر فى أخر ورقة ‪ ..‬أدركت أن المتغيرات المتسارعة تمهد لنهاية المهرب منها ‪.‬‬
‫علمتها التجربة أن تشم رائحة الخطر قبل وقوعه ‪ .‬دقت طبول الخوف فى رأسها ‪ ..‬طاف بها القلق فى‬
‫دهاليزه الملتوية ‪ ،‬يسحبها الى أعماق مجهولة ‪ ،‬ينهشها مشهد شريف حين أعلن أمام الجميع عن نيته‬
‫السفر ألمريكا ‪ .‬كان خوفها يتجاوز حدود كبرياءها ‪ ،‬متخطيا كل حساباتها ‪ .‬أشتبكت مع نفسها فى‬
‫حوار الفرصة األخيرة ‪ :‬أزاى يامجنونة تسيبى شريف يضيع من أيديكى ؟ بالبساطة دى تفرطى فيه ؟‬
‫لم تدافع عن نفسها أمام النفس اللوامة ‪ ،‬بل تمادت فى التعذيب ‪ :‬فى حد عاقل يجرح قلبه بأيده ‪ ..‬مش‬
‫ده شريف اللى بينك وبينه حاجة أكبر من الحب ‪ ..‬حاجة ماحدش عرف يسميها والحتى فهم معانيها ‪.‬‬
‫مالت برأسها حتى المست سور الكنبة وهى تنصت لحديث النفس ‪ :‬كلهم أحتاروا فى اللى بينى وبينه‬
‫بعد ماخاب ظنهم لما قالوا ده حب مراهقة حياخد وقته ويروح لحاله واللى قال ده حب جيرة وأول‬
‫ماحيخرجوا للدنيا حيقابلوا بجد الحب الحقيقى ‪ .‬أغمضت عينيها للحظات قبل أن تفتحهما على الصوت‬
‫المتمادى دون أستحياء ‪ :‬وعدى سن المراهقة وخرجنا للدنيا واللى بينى وبينه ماتغيرش ‪ ..‬بالعكس‬
‫‪533‬‬
‫كانت حالوته بتزيد وكان كل يوم له طعم أحلى من اللى قبله ‪ .‬رفعت رأسها وأعتدلت فى جلستها وأرخت‬
‫يديها فى حجرها ‪ :‬أتحداكى يانورا لو تعرفى تكملى حياتك من غير شريف ‪ ..‬حتتباهى بنجاحك قدام‬
‫مين ‪ ..‬الدنيا لما بتسود فى وشك حتروحى تشكى لمين ‪ ..‬حلمك القديم اللى نفسك تحققيه وأنتى حاطه‬
‫الشال على كتافك وقاعدة أنتى وشريف قدام الدفاية فى ليلة شتا باردة وبتشربوا فنجانين قهوة ووالدكو‬
‫بيلعبو تحت رجليكم ‪ ..‬مش دى اللحظة اللى نفسك تعيشيها وده حلم عمرك اللى كنتى دايما تحلميه‬
‫معاه ‪ ..‬حتحققى كل ده مع مين ؟! تصلبت مالمحها ‪ ،‬ونظرتها القاسية ثابتة تغزو عمق الصالة ‪.‬‬
‫أصبحت محاصرة بضرورة الدفاع عن حبها ‪ ..‬اذن األن الصوت إال صوت المراجعة وانقاذ مايمكن‬
‫انقاذه ‪ ..‬اسدلت جفنيها هربا من مالحقة األسئلة واألحتماالت ‪ ..‬مرت ربع ساعة وهى على نفس‬
‫الحال ‪ .‬كانت الهواجس تشن هجومها األخير حين خدش سكون العصر دوى باب المصعد وهو‬
‫يوصد ‪ ،‬وصوت أقدام متجهة ناحية شقة خيرى ‪ .‬أنصتت لبرهة قبل أن يجتاحها طوفان الفضول الذى‬
‫جرفها من على الكنبة حتى باب الشقة التى تسمرت أمامه وألصقت فيه وجهها قبل أن تضيق عينها‬
‫اليمنى وتضعها على عين الباب السحرية ‪ .‬لمحت صدغ شريف وهو يدنو من باب شقته وصوت مفتاحه‬
‫التى تحفظ رنته يدور فى كالون الباب ‪.‬‬

‫ظهوره المفاجىء فى تلك اللحظة أذهلها وقلب كيانها كله ‪ ..‬رأت فيه بشارة من السماء ‪.‬‬

‫تمنت فى تلك اللحظة حضنا دافئا تخلع عليه كل ذنوبها ‪ ..‬الحضن القديم الذى أحتمل خذالتها له بصبر‬
‫عجيب ! أنتزعت جسدها المتخشب من خشب الباب ‪ ..‬أنتزعته وخلصت نفسها من الهيبة المزيفة‬
‫والكبرياء المفتعل بالزعامة المزعومة ‪ .‬شيىء ماجعلها تشعر بضرورة الخروج إليه ‪.‬‬

‫لم تأخذ قرارا ‪ .‬بل أخذها القرار الى خارج الشقة دون تفكير أوحتى تمهيد ‪ .‬وسط سكون الطرقة‬
‫الفاصلة بين الشقتين ‪ ،‬سارت بمحاذاة كل األخطاء التى أرتكبتها ‪ ..‬لمست بأصبعها جرس الباب فى‬
‫اللحظة التى سألت فيها نفسها حين واجهت الالفتة التى تحمل أسم خيرى والتى هزمها الزمن ‪ :‬ياه ده‬
‫انا بقالى كتير أوى ماوقفتش قدام باب شريف ‪.‬‬

‫أنفتح الباب ‪ ..‬تقلصت عضالت وجه شريف حين رأها وكأنه يأبى التصديق ‪.‬‬

‫ــ ممكن أدخل ؟ عقد الذهول لسانه ‪ .‬أنفلتت من جواره وأتجهت للداخل غير مبالية بوقفته المتساءلة أو‬
‫لنظرته المدهوشة ‪ .‬مشت ببطء داخل الصالة مدفوعة برغبة الحدود لها ‪ ..‬أوصد الباب بينما تشده من‬
‫‪534‬‬
‫كل أطرافه خلفها ‪ ..‬تتبعها مستندا على ماتبقى له من تماسك ‪ .‬وقفت وسط الصالة التى شهدت المراهقة‬
‫والشباب ‪ ..‬وتحسست المقاعد الصامدة فلمست دفء الزمن الذى كان ‪ ..‬بحثت بملء بصرها عن عالمة‬
‫تعرفها ‪ ..‬أبتسمت لصورته وهو طفل مع أخوه نادر وحولهما سميحة وخيرى ‪ .‬بينما القلق مايزال عالقا‬
‫بوجهه وصوتها يرن فى الصالة ‪:‬مافيش حاجة أتغيرت خالص ‪..‬كل حاجة فى مكانها ‪ .‬قالتها ولفت لفة‬
‫كاملة كأنما تدور فى دوامة تغوص بها أليام حفرت فيها ماالينسى أبدا ‪.‬‬

‫جلس على حافة كرسى يراقب مالمحها التى لم يبق منها سوى مواقف فى طريقها للتراجع ! جلست‬
‫أمامه على كرسى مقابل تبحث عن كلمات تليق بحالتها ‪ :‬عمو فين ؟‬

‫ــ بيجيب غدا ‪.‬‬

‫ــ حتتغدوا أيه ؟‪.‬‬

‫ــ المعتاد بتاع كل يوم ‪ ..‬تونة وجبنة أو سمك مشوى‬

‫ــ مافيش خضار وال كوكووال أى حاجة دسمة ‪.‬‬

‫ــ فى المناسبات بس ‪ .‬بين كل سؤال وأخر كانت تستعيد كل حبها وكل الذكريات التى طفت فجأة ‪ .‬مالت‬
‫بوجهها وأعتدلت فى جلستها تحاول فك عقدة حاجبيه ‪ :‬ماسألتنيش يعنى عن سبب الزيارة ؟ تنهد‬
‫محافظا على عبوس وجهه ‪ :‬أيه السبب ؟‬

‫ــ مافيش سبب ‪ ..‬لقيت نفسى زهقانة ومخنوقة قلت آجى أتكلم معاك شوية ‪ .‬كان فى أنتظارها ضحكة‬
‫ساخرة قبل أن يبتعد بظهره للوراء ‪ :‬ده من أمتى ان شاء اللـه ‪.‬‬

‫ــ من زمان أوى ياشريف بس أنت اللى مش واخد بالك ‪ .‬قالتها وبحثت فى عينيه عن هذا الحبل السرى‬
‫الذى يمتد بينهما حتى فى أشد مواقف الخصام ‪ ..‬أعتاد كل منهما تبادل أدوار القوة والضعف حسب‬
‫مجريات األمور ‪ ..‬لم تكن لعبة األقتراب واألبتعاد عن بعضهما هى اللعبة الوحيدة ؟! ‪.‬‬

‫ــ أكيد طبعا الخنقة دى سببها أن مامتك مش موجودة فى البيت ؟! قالها وأظهر ضحكة محتشمة ‪.‬‬
‫تجاوزت تعليقه الساخر بمالمح تتحرك تحت أنفعال جديد لم يعهده فيها وهى تحدثه بشفافية عن الضغط‬
‫العصبى المتولد من هموم الشغل ومسئولية البيت التى أرهقت نفسيتها وعن هذا الكم الهائل من الملل‬

‫‪535‬‬
‫الذى حكت عنه بمرارة ‪ :‬اللى أبات فيه أصبح فيه والسبت بقى شبه الحد والصيف زى الشتا وكله بقى‬
‫شبه بعضه ‪ ..‬زهقت وأرفت وأعصابى ماعدتش تستحمل ‪ ..‬تعبت أوى من المسئولية بقيت حاسة أنى‬
‫مسئولة عن الكون كله ‪ ..‬تقدم الى حافة كرسيه ‪ ،‬قرب وجهه منها كأنما يقيس كلماتها ‪ ..‬كان يحاول أن‬
‫يعرف المسافة بين ما تبقى داخلها من صدق وبين ماتجيده من مناورات ‪ :‬فأختبرها ‪ :‬الكون له صاحب‬
‫وماحدش طلب منك تبقى رئيسة الكون ‪ .‬ترددت لحظة ثم أبتسمت ‪ :‬أى حد الظروف بتفرض عليه‬
‫مسئولية ‪ ..‬ممكن فى األول يبقى فرحان بيها ويحس أنه فوق الكل ومهم وكلمته مسموعة وكل اللى‬
‫حواليه ماشين وراه ‪ ..‬لكن مع الوقت ومرور السنين بتبقى المسئولية دمها تقيل وحملها بيزيد وبتخليك‬
‫ماشى فى الدنيا بحساب وكل خطوة ولها تمن من أعصابك ومن حياتك خصوصا لما تالقى الكل‬
‫خالع أيده ومكبر دماغه ‪ ..‬ومش حأخبى عليك ‪ ..‬سكتت وكأنها غابت عن الوعى قبل أن يعيدها شريف‬
‫للحياة ‪ :‬سكتى ليه ماتكملى ؟ ‪.‬‬

‫ــ على أد مابتفرح بنجاحك وشايف نتيجته فى عيون اللى حواليك وبتحس بقيمتك أنك عديت بيهم من‬
‫مرحلة الخطر وحطتهم على أول الطريق ‪ ..‬كل ده بيفرح ويسعد أنك عملت حاجة كبيرة ‪ ..‬لكن كل ده‬
‫مش ببالش فى تمن بيدفع ‪ ..‬فى حاجات بتقع منك وأنت ماشى فى طريق المسئولية ولألسف‬
‫ما بتاخدش بالك هى وقعت منك فين بالظبط ‪ ..‬عشان ببساطة مش مسموح لك تبص فى أى أتجاه غير‬
‫قدامك بس ‪ .‬صار شريف محدد األقامة على كرسيه وهو ينصت لها ‪ .‬كانت تتحاشى أثارة الجدل‬
‫وعزوفها عن كل مايستفزه ‪ ،‬جعلتها مقبولة حين أنهت كالمها ‪ .‬تذكر األن الوجه الذى يعرفه والصوت‬
‫الذى غاب عندما لمعت عيناها كنجمتين وبدا وجهها شفافا بريئا حين أجابت على سؤاله‪ :‬وأيه اللى وقع‬
‫منك يانورا ومش القياه ؟! ‪.‬‬

‫ــ روحى ياشريف ‪.‬‬

‫ــ أى روح فيهم ‪.‬‬

‫ــ البنى أدم لما يموت روح واحدة هى اللى بتطلع ‪.‬‬

‫ــ ده البنى أدم الطبيعى ‪ ..‬لكن المغرور واللى عايز يسيطر على كل اللى حواليه وينظم حياتهم على‬
‫مزاجه ويرضى عن ده ويغضب على ده ‪ ..‬ده يبقى زى القطط بسبع ترواح ‪ .‬وجعتها جملته ‪ ..‬رحلت‬

‫‪536‬‬
‫بنظراتها إلى أرضية الصالة بينما تأهبت حواسه لسماع دفاعها الذى تأخر للحظات حين زحفت بعينيها‬
‫إلى وجهه ‪ ..‬تأملته صامتة ‪ .‬فأبتسم ‪ :‬األنسة بتشبه على وال أيه ؟‬

‫أعطاها ضعفها قوة ‪ :‬هو أنت غريب عشان أشبه عليك ‪ ..‬أنت منى ياشريف ‪..‬لما بأشوفك كأنى شفت‬
‫نفسى ‪ .‬الغضب الساكن فى صدره بدأ يخلى أخر مواقعه حين سمع جملتها األخيرة ‪.‬‬

‫ــ ليه أتغيرتى ‪ ..‬ليه كل الحاجات الحلوة اللى كانت فيكى خبتيها ‪ ..‬ليه كل تضحية عملتيها عايزة تأخدى‬
‫تمنها ‪ ..‬ليه لغيتى وجودى فى حياتك ؟ ‪.‬‬

‫ــ قبل ماتسألنى ليه أتغيرت ياريت تقولى أيه اللى حواليه ماأتغيرش ‪ ..‬البيت ماعدش هو البيت ‪ ..‬أب‬
‫مات وأم فى السجن وعمة فى أزمة نفسية وتالت أطفال الحول لهم والقوة ‪ ،‬يعنى لو ماكنتش أتغيرت‬
‫وكبرت قبل األوان وحكمت عقلى قبل عواطفى تفتكر كان أيه اللى ممكن يحصل ‪ ..‬من غير تفكير‬
‫وال فلسفة كنا كلنا حنضيع ياشريف أنا ويوسف وبسمة وعمتى ‪ ..‬هو ده المصير الوحيد اللى كان‬
‫مستنينا ‪ ..‬مع أنى مش حأنكر مساعدة عمو خيرى ومدام زيزيت والخواجة كرم وعم نوح ‪ ..‬بس الزم‬
‫تعرف كمان أن اللى بيساعد نفسه الناس بتقف معاه وتساعده ‪ ..‬وأنا بدأت بأول خطوة ‪ .‬كانت تتكلم‬
‫بحماسة وهى تنهج وعلى وشك البكاء ‪ ..‬شعر بروحها البريئة عندما كانت تلوذ به بضعفها ‪ .‬تابعت‬
‫بنفس الوتيرة وبنفس الحماس كأنها تدفع أى شك قد ينتابه ‪ :‬أنا ماأختارتش التضحية بمزاجى والكنت‬
‫فرحانة بدور البطولة والوفاء واألمل ‪ ..‬الياشريف كل حاجة أتفرضت على ‪ ..‬الظروف هى اللى‬
‫أختارتنى ولوال مساعدة ربنا ووقفته معايا كانت النتيجة حتبقى مأساة كبيرة و ساعتها ماكانش فى حد‬
‫حيرحمنى والدنيا كلها كانت حتحملنى مسئولية أى فشل ‪ ..‬ماتظلمنيش ياشريف وحط نفسك مكانى ‪ ،‬لو‬
‫أخوك نادر كان فى ورطة كنت حتفكر قبل ماتقف جنبه والحتجرى عليه وتنجده ‪.‬‬

‫ذاكرته األن مثل صلب مصهور ‪ ،‬ينسال ‪ ،‬فيعيده تدريجيا الى ماقبل عصر الخصام والجفاء ‪ .‬لم يعقب‬
‫على كلماتها مكتفيا بالفرجة على وجهها الذى حرم من النظر اليه والتملى فيه عن قرب‪ .‬أستطاعت‬
‫ببراعة أن تسيطر على كل خالياه وجعلت جمالها المتجدد سيفا مسلطا عليه لتضمن والءه ‪ ..‬قامت من‬
‫مكانها ‪ ..‬تحركت اليه وصدرها يهتز مع خطوتها البطيئة ‪ ..‬سحبته بعينيها كالمغناطيس ‪ ،‬فأتجه إليها‬
‫واقفا ‪ ..‬أقترب حين أيقن أنها تريده بشدة ‪ ..‬تراجعت خطوة حين تقدم ‪ ..‬تأملته من زاوية أكبر فى حين‬
‫يعيد ـ هو ـ تقييم صدرها وخصرها والفخذين ‪ ..‬سرحت فى عينيه ‪ :‬حمد اللـه ع السالمة ‪ .‬أستغرب‬

‫‪537‬‬
‫العبارة ! تقدمت اليه ومدت يديها ‪ ..‬تشابكت أصابعهما ‪ :‬أنت رجعت ياحبيبى ومش حتسافر ‪ .‬قلب‬
‫كلماتها فى رأسه ثم أنفرجت شفتيه عن األبتسامة المحببة لها ‪ :‬أنتى شايفة كده ‪.‬‬

‫ــ آه ‪ ..‬قالتها بعناد طفولى ‪ .‬مستطردة ‪ :‬والعندك أعتراض ؟ ‪.‬‬

‫ــ أل يانورا ماعنديش ‪ .‬ضحكت بعينيها ‪ :‬سؤال وعايزة عليه جواب مختصر ‪ ..‬تحب تتغدا مع أبوك وال‬
‫معايا ؟! ‪.‬‬

‫ــ أبويا بيحب ياكل لوحده ! ‪.‬‬

‫ــ يبقى خالص حأعزمك بره على بيتزا زيادة جبنة ‪ .‬كانت تداعبه بصوت خشن ‪.‬‬

‫ــ بس ميعاد شغلك قرب يانورا ‪.‬‬

‫ــ أنا قلتلك فيه حاجات وقعت منى وأنا ماشية ‪ ..‬ومن دلوقتى الزم ألم كل اللى وقع منى ‪.‬‬

‫قالتها وكأنها الترى غير هدف واحد تتجه إليه ‪ ..‬أستعادته ‪.‬‬
‫‪0000000000000‬‬

‫منذ لحظات هرب منصور من غرفته ‪ ..‬تنطلق فى جسده كل الشياطين ‪ ..‬لم يعد يحتمل الحياة مع جحيم‬
‫الشكوك ‪.‬‬

‫دخل المقهى يضغط على عينيه ‪ ،‬يتفرس فى الوجوه مثل وحش جائع ‪..‬مالمحه المحتقنة تنبض بكل‬
‫الغضب ‪ ..‬سار وسط الموائد صامتا ‪ .‬أنفجر حين لمح جمعه ‪ :‬ياجمعه ‪ ..‬أتاه األخير مذعورا ‪..‬كاد يتعثر‬
‫فى " جنش " الجزمجى المكوم فوق " جزمة " عم شفيق ‪.‬‬

‫ــ خير يامنصور باشا ‪ .‬ساله حين جلس األخير بجوار النافذة المطلة على الحارة ‪.‬‬

‫ــ ماشفتش الوله سليم ؟ قالها وأعاد مسح المكان بعينيه ‪.‬‬

‫ــ بقاله كام يوم مختفى ‪ .‬فكر فى الجملة وهو يشعل سيجارته ‪ :‬يعنى ماظهرش خالص ‪ .‬كانت كلماته‬
‫تطير مع دخان سيجارته ‪ :‬بأقولك ماشفتش وش أمه من كام يوم ‪ ..‬تالقيه أتاخد تحرى فى حملة‬

‫‪538‬‬
‫ومستضيفينه فى نقطة كرموز ياأما عكش قرشين من واحد نمرة والغشيم حيتلهى فيهم لغاية‬
‫مايتصرفوا وبعدها يظهر ويرمى باله علينا ‪ .‬أنهى جمعه أستنتاجه بينما سقطت شفة منصور السفلى‬
‫مثقلة بالحسرة ‪ :‬روح هاتلى واحد قهوة ‪ .‬ظل واجما يتابع الحارة من خالل الشباك ‪.‬أرهقه التفكير ‪..‬‬
‫غاص فى نفسه متمردا يائسا وعاد لسيرته األولى ‪ ،‬كائن بال حيلة يمشى مع األيام بال هدف ‪ .‬عاد من‬
‫شروده على صوت موبايله الذى يئن فى جيب بنطلونه ‪ ..‬سحبه بصعوبة وملل ‪ ..‬أجاب بمزاج عكر‬
‫حين ظهر له أسم " نوسة " على شاشته ‪ :‬أنتفين يابنى ‪ ..‬مافيش أتصال طول اليوم والحتى رنة ‪.‬‬
‫جملتها لم ترق له ‪ ،‬فقابلها بنبرة متشنجة ‪ :‬مش فايق لك يانوسة ‪..‬كفاية اللى أنا فيه ‪.‬‬

‫ــ وأيه اللى فيك ياأبو الرجالة ‪ ..‬قول ماتكسفش ‪ .‬ثم ذيلتها بصهلولة زادت الضغط على أعصابه التى‬
‫أصبحت التتحمل " زنة " ناموسة ‪ :‬هو ده اللى أنا واخده منك تريقة وصهللة وأيدك فى ميه باردة ‪..‬‬
‫يابت أنا نفسيتى زى الزفت ومش طايق نفسى ‪ .‬رأعت الحالة وتفاعلت معه ‪ :‬طب ماتضايقش نفسك‬
‫يامنصور ولو فاضى دلوقتى أنا مستنياك ‪ ..‬تعالى ياحبيبى فضفض وكل عقدة ولها حالل ‪.‬‬

‫ــ ماشى يانوسة ‪ .‬قالها مستسلما ‪.‬‬

‫بعد ربع ساعة ‪ ..‬قطبت نوسة وجهها فى أستفهام حين أستقبلت منصور عند باب الشقة ‪ :‬مخنوق بجد‬
‫وال أشتغالة ؟ مط شفتيه ودخل ‪ :‬وحياة أمك الحكاية مش ناقصة ‪.‬‬

‫جلس على الكنبة وعالمات األرف تمتد من وجهه شبرين ‪ ..‬أنتابها القلق حين لم يلحظ " الجيبة "‬
‫الجينز التى تبعد عن ركبتها عدة سنتيمترات ‪ ،‬كما لم تلمح فى عينيه تلك النظرة الفاحصة التى أعتاد أن‬
‫يدسها فى كل جزء فيها ‪ :‬مالك فى أيه ؟ سحب سيجارة من علبته وسألها ‪ :‬أمك فين ؟‬

‫ــ جوه بتعمل شاى ‪ .‬جلست الى جانبه تنتظر توضيحا ‪.‬أشعل سيجارته وحكى لها ماألت اليه اموره مع‬
‫أمه ‪ ..‬وضع بين يديها تقريرا مفصال عن األنقالب الدرامى التى قادته أمه وأطاح به قبل أن يفرض‬
‫سلطته على مقاليد األمور ‪ ،‬منهيا تقريره بذكر بعض األسباب التى أعادته الى زمن الصعلكة وعلى‬
‫رأسها " سليم " ذلك الكائن التأمرى الخائن متوعدا أياه بعذاب أليم وأنتقام شديد ‪ ..‬عندما يصل اليه !‪..‬‬
‫ــ أيه العبط اللى بتقوله ده يامنصور ‪ .‬جملة أعتراضية قادمة من الطرقة إلى الصالة على لسان بدرية‬
‫التى ظهرت بصينية الشاى ‪ ..‬شقت طريقها تجر خلفها لحمها حتى أعتلت الكنبة ‪ ،‬فأنزاح لها ملتصقا‬
‫بنوسة التى تسلمت منها الصينية ‪ :‬ماحدش بيفكر كده يابنى‬
‫‪539‬‬
‫ــ محروق ياست بدرية ‪ ..‬كل حاجة ضاعت منى بسبب واحد مالوش لزمة أصال فى الدنيا ‪.‬‬

‫ــ ماحدش ضربك على أيدك ‪ ..‬فى حد عاقل يدخل شمام فى زوارقه ‪..‬أنت اللى عملت كده فى نفسك ‪..‬‬
‫أشرب بقى ‪ .‬ضغط بشفتيه على سيجارته ساحبا منها أنفاسا متالحقة كى تشغله عن أحساس الندم‬
‫الطافح فى وجهه ‪ .‬ناولته نوسة كوب الشاى كما ناولت أمها واحدا فى اللحظة التى قالت ‪ :‬سيبك من‬
‫سليم بتاعك ده وشوف حتعمل أيه ؟ قالتها بتأنيب ‪.‬‬

‫ــ أمى كالمها صح يامنصور شيل الوله ده من دماغك وفكر بالراحة ‪ .‬رددتها بحماسة أنثوية أمام فتور‬
‫ذكورى ‪ :‬بصراحة أنا مش قادر أفكر وال عارف حتى حأعمل أيه ‪ ..‬دماغى وقفت خالص ‪ .‬أندهشت‬
‫نوسة من ضعفه وعيونها على أمها التى رجعت برأسها للوراء موجهة كالمها الى المستسلم المحصور‬
‫بينهما ‪ :‬أسمعنى كويس يامنصور وأفهم اللى حأقوله ‪ .‬أنصت بأهتمام بعد رشفة ‪ .‬تابعت ‪ :‬من يوم‬
‫ماشفتك يابنى وأنت عمال تفكر وتخطط وتدبر ‪ ..‬مافيش مرة عملت حاجة وجابت نتيجة صح وفلحت‬
‫حتى لما أمك رضت عنك وبدأت تمسكك شغلها كان قضاء وقدر مش ذكاوة منك والشطارة ‪ ..‬نفحة كده‬
‫من عند ربنا ‪ .‬أعترض مستنكرا ‪ :‬عايزة تقولى أيه يعنى ؟ ‪.‬‬

‫ــ أنا والبت دى مالناش حد فى الدنيا وقاعدين فى كرموز لحد دلوقتى عشان خاطرك أنت ‪ ..‬يعنى أحنا‬
‫الجوز متعلقين فى رقبتك وبقى اللى يضرك يضرنا واللى يفرحك يفرحنا ماعدش لنا حد يامنصور غيرك‬
‫بعد ربنا ‪ .‬نظرت اليها نوسة من فوق كتفه بأستغراب ‪ :‬ماتنورينى ياما ‪ ..‬ورا كالمك ده أيه ؟ ‪.‬‬

‫ــ وراه يابت بطنى أن قطمه أحسن من نحته وياصابت ياخابت ‪.‬‬

‫ــ ماتفهمينى أيه اللى فى دماغك ؟ أهتزت فى جلستها كما أهتزت الكنبة ‪ :‬اللى فى دماغى يانور عينى‬
‫أنك خدت فرصتك كاملة والنتيجة أهيه باينة التسر عدو والحبيب ولو لسه يامنصور عايز نوسة سيبنى‬
‫أنا المرة دى أتصرف ‪ ..‬أنتفض فى كرسيه ‪ :‬تصرفى حتعملى أيه يعنى ؟ ‪.‬‬

‫ــ ماتسألنيش ‪ ..‬سيبنى أنا أمشيها بدماغى ‪ ..‬مش حتخسر يابنى أكتر من اللى خسرته ‪ .‬حشرته‬
‫جملتها ف ى زاوية الصمت بينما شعرت نوسة بالحيرة من كالم أمها التى فوجئت به دون أدنى تنسيق‬
‫مسبق ‪ .‬زحزحت بدرية نفسها من على الكنبة حتى وقفت أمامه ‪ :‬عندك أعتراض على أنا قلته ؟ نبرتها‬
‫كانت أقرب للتهديد ‪ ،‬بينما لم يملك سوى التسليم بوجهة نظرها ‪ .‬ثم زحفت بشبشبها خارجة من الصالة‬
‫إلى المطبخ تاركة شعور بالتوهان يموج فى فراغ الصالة قبل أن تبدده نوسه ‪ :‬ماتيجى جنبى هناياأبو‬
‫‪540‬‬
‫حجاج ‪ .‬قام ككهل فى أيامه األخيرة ‪ ..‬مكث بجوارها دون أن ينبس بكلمة واحدة ‪ ..‬ارادت ان تعيد له‬
‫النطق ‪ ،‬لفت ذراعها حول كتفه ‪ :‬ماتفك سحنتك دى بقى ‪ ..‬امى خالص حتتصرف ‪ .‬تنهد ‪ :‬ربنا يستر‬

‫ــ حيستر ‪ .‬قالتها بدلع وهى تدغدغ كتفه بصدرها ‪ ..‬أنتظرت منه أن يعبث فيها ‪ ،‬إال أنه لم يستطع‬
‫تجاوز هواجسه ‪ ،‬فتخلى عن صدرها عندما أرخى كتفيه !!‬

‫‪00000000000‬‬

‫بعد ثالث ساعات ‪..‬‬

‫عادت نورا الى البيت ‪ ..‬دخلت بوجه وردى وأبتسامة ثابتة التفارق شفتيها ‪ ،‬وفى رقبتها سلسلة فضة‬
‫فى نهايتها حرفان " ‪"S.N‬وعلى كتفها " دبدوب " أبيض ‪ ..‬أرتبكت وهى توصد الباب خلفها حين‬
‫لمحت حجرة األنتريه مضاءة ‪ ،‬وعلى كنبتها الكبيرة تربعت نعمة بجلبابها األسود المعتاد كضاربى الودع‬
‫وعلى يمينها أيات التى عدلت من وضعية رأسها وصوبت بوصلتها ناحية الباب تستطلع الوجه‬
‫المبتسم ‪ ،‬بينما قامت إليها بسمة مهرولة ‪ ..‬حبست نورا األبتسامة وشعور بعدم األرتياح يالزمها من‬
‫مشهد الثالثى ‪ ..‬قابلتها فى منتصف الصالة تسأل ‪ :‬كنتى فين لحد دلوقتى يانورا وموبايلك مقفول ؟ ‪.‬‬

‫ــ كنت مع شريف ‪ .‬قالت أسمه بحرج متصنعة السذاجة ‪.‬‬

‫ــ مع شريف ‪ .‬كررته بأستغراب وعدم تصديق ‪ ..‬فى حين مالت أيات برأسها على كتف قرينتها عند‬
‫سماعها األسم ‪ ،‬وشيح أبتسامة مائلة بجانب الفم ‪ :‬واللى يخرج مع شريف مش يقول وال يسيب الدنيا‬
‫كده سايحة على بعضها ‪ .‬ثم رمتها بنظرة أشعرتها بالحرج قبل أن تزيدها أختها من الشعربيتا ‪ :‬مدام‬
‫زيزيت قلبت عليكى الدنيا ‪ ..‬كانت أخر قلق وتوتر وفاضلها همسة وتنزل أسمك فى كشوف المفقودين ‪.‬‬
‫جملتها كان لها أثر أيجابى على نعمة التى أهتز هيكلها العظمى على أثر ضحكة متقطعة التخلو من مكر‬
‫العجائز ‪ :‬وهو اللى يخرج مع شريف يبقى مفقود برضه ‪ ..‬ده يبقى مولود وأمه داعياله ‪..‬‬

‫صدقت نعمة فى مقولتها ‪ ..‬أستردت نورا اليوم وعيها ‪ ،‬كما أستعادت ذاكرة الحب بكل تفاصيلها ‪..‬‬
‫نشطت على لسانها كلمات كانت تحسبها فى عداد الراحلين ‪ ..‬شريف هو كلمة السر ‪ ..‬على يديه تخلى‬
‫عنها التوتر والشد العصبى ‪ ..‬أحتواها اليوم كما أحتوتها الثالث ساعات التى فقدت فيهم األحساس‬

‫‪541‬‬
‫بالزمن وتخلت طواعية عن كل المهام والمسئوليات رافعة شعار " طز " الذى رددته مرتين متناسية‬
‫حساب الكلمات واألفعال حين نبهها شريف فى المرة األولى ‪ :‬حتتأخرى على شغل األتيليه ؟ ‪ ..‬طز ! ‪.‬‬

‫ــ طب أفتحى موبايلك عشان ماحدش يقلق عليكى ‪.‬‬

‫ــ طز ! نست معه الرصانة والتكلف كما نسى على يديها فكرة السفر ألمريكا حين أطلقت تهديدها‬
‫بصوت عالى دون مراعاة لبروتوكول كافتيريا " ديليت " الهادئة بقلب " سموحة " التى أستضافت‬
‫جلستهما ‪ ..‬وعلى مرأى ومسمع من طبقين " بيتزا " كان يفصالن بينهما ‪ .‬قالت بعصبية ‪ :‬ورحمة بابا‬
‫ما أنا واكلة والشاربة والحاطة حاجة فى بؤى إال لما تشيل حكاية السفر دى من دماغك ‪ .‬أحمر وجهه‬
‫حين أتجهت اليه رؤوس الزبائن ‪ ..‬نظر إليها كما نظر الجميع وهى الزالت على أنفعالها ‪ ..‬وضع كفا‬
‫على وجهه وأخذ نفسا عميقا وسط حالة من الترقب شارك فيها كل المتطفلين ‪ :‬ماشى يانورا ‪ ..‬مافيش‬
‫سفر ‪.‬‬

‫ــ أحلف ‪.‬‬

‫ــ من غير ماأحلف ‪ ..‬ده أنا لو جالى أوباما بنفسه وقالى أمريكا كلها مستنياك حأقوله أل ‪ ..‬ماأقدرش‬
‫أبعد عن نورا ‪ .‬أبتسمت كما أبتسم كل من شاركهم اللحظة ‪ ..‬إلتهما الـ " بيتزا " وخرجا ‪.‬‬

‫أخيرا أسدل الستار عن فترة مشحونة بالتحفظ والتوتر ‪ ..‬دار بها فى منطقة سموحة ودار معهما‬
‫الوقت ‪ ..‬أراد أن يلفت أنتباهها ‪ :‬أنتى عارفة الساعة بقت كام دلوقتى ؟‪.‬‬

‫ــ مش عايزةأعرف ‪ .‬قالتها وهى تتشبث فى ذراعه امام فاترينة لعب أطفال ‪ ،‬وعينيها مشدودة‬
‫إلى " دبدوب " أبيض تعلقت به كطفلة بريئة ‪ .‬غادرها العقل الى فوضى مجنونة حين أصرت على‬
‫الدخول ‪ ..‬طوق ظهرها بذراعه وقادها للداخل ‪ ..‬عاشت لحظة رومانسية خاصة وهى تداعب الدبدوب‬
‫بينما شريف الى جوارها اليملك سوى أبتسامة مندهشة وعينين مسبلتين ‪ ..‬أستفز منظرهما البائعة‬
‫" العانس " التى أنهت اجراءات البيع والشراء فى ثوان ‪ .‬خرجا كعصفورين بصحبة ثالث الذى أعتلى‬
‫كتفه ا ‪ ..‬فى طريقهما لزيارة محل جيالتى " صابر " بمنطقة األبراهيمية تصادف وجود محل للفضيات‬
‫أثار حفيظتها وسحبها ألمنية قديمة حان األن وقت تحقيقها ‪ ..‬دفعته للداخل ولم تجبه ‪ :‬حندخل نعمل أيه‬
‫جوه ؟ مكثا لربع ساعة قبل أن يخرجا منه وفى رقبتها السلسلة والحرفين ‪ ،‬بينما شريف أصبعه مطوق‬
‫بدبلة محفورعليها أسمها ‪.‬‬
‫‪542‬‬
‫تحاشت " نورا " نظراتهم التى تخفى وراءها سرا وأتجهت ناحية غرفتها قبل أن تستوقفها بسمة التى‬
‫تسير خلفها ‪ :‬من نص ساعة فيه واحد جه هنا وسأل عن ماما وكان عايزها ضرورى ‪ .‬أستدارت‬
‫نحوها تحرسها الدهشة ‪ :‬واحد ‪ ..‬واحد مين ؟! ‪.‬‬

‫ــ مش عارفة ‪ ..‬مارضيش يقول على أسمه والعايزها فى أيه ‪ ..‬حاولت كتير معاه أنا ويوسف عشان‬
‫نفهم منه أى حاجة مارضاش أبدا ‪ .‬تلفتت مولية وجهها شطر غرفته ‪ :‬يوسف فين ؟ ‪.‬‬

‫ــ خد الراجل ده وراح عند ماما ‪ .‬قالتها ببساطة منقطعة النظير فى حين بدت نورا التى أتسعت عينيها‬
‫غير مصدقة ماسمعته فأنقلب هدوءها هياجا ‪ :‬ليه ‪ ..‬راجل غريب وماحدش يعرفه ‪ ..‬بالسذاجة دى‬
‫أخوكى يخرج معاه وكمان ياخده لغاية مكان ماما ‪ ..‬أيه الهبل ده ‪ .‬حاولت كبت ماتجمع داخل رأسها‬
‫حين نادتها عمتها بصوت اليتناسب مع هيجان اللحظة ‪ :‬الموضوع مش كده يانورا ‪ ..‬مشت إليها عاقدة‬
‫وجهها بعالمة استفهام ‪ :‬فهمينى ياعمتى ‪.‬‬

‫ــ أوال اللى جه هنا شاب صغير وباين على مالمحه انه أبن ناس وطريقة كالمه بتقول أنه فى أزمة‬
‫ومحتاج يتكلم مع مامتك ‪ .‬أنتزعت من سخطها أبتسامة ‪ :‬تفرق أيه يعنى صغير والكبير ‪ ..‬ماكانش ينفع‬
‫يوسف يخرج معاه ‪ ..‬أحنا عارفين ده مين وال وراه أيه ؟! ‪.‬‬

‫ــ أحنا أتصلنا بيكى كتير يانورا عشان نسألك ‪ ..‬موبايلك مقفول وبعدين يوسف ماتصرفش من دماغه‬
‫غير لما أتصل بهدى وخلى الشاب ده يكلمها ‪ .‬قاطعتها بلهفة ‪ :‬وهى عرفته ؟ تولت بسمة األجابة ‪:‬‬
‫ماعرفتهوش بس هو ياعينى أتحايل عليها كتير وبقى يقولها أرجوكى أنا عايز أقابلك ضرورى فيه‬
‫موضوع مهم جدا ويخصك ‪ .‬بهت اللون الوردى كأنما جفت الدماء فى بشرتها ‪ ..‬أنتظرت للحظات قبل‬
‫أن تسأل ‪ :‬وماما ماجتش تقابله هنا ليه وسطينا ؟ ‪.‬‬

‫ــ ده اللى كان حيحصل ووافقت وقالتله قدامى ساعة وأكون عندك ‪ .‬سكتت ثم عادت ترفع كتفيها‬
‫بأستغراب ‪ :‬ماعرفش أيه اللى حصل رجعت فى كالمها ‪ ..‬تقريبا الست اللى أسمها فايزة أقنعتها تبقى‬
‫المقابلة عندها ‪.‬‬

‫ــ وأنتى عرفتى أزاى ؟ ‪.‬‬

‫‪543‬‬
‫ــ ماما سابته على التليفون بتاع دقيقتين تالتة ‪ ..‬أكيد أتشاورت معاها ‪ .‬أجابة مختصرة ‪ .‬لم تكن كافية‬
‫لسد باب األستجوابات ! تغلغل فيها الشك ‪ ..‬مضت مالمح السعادة التى دخلت بها إلى حال سبيلها ‪..‬‬
‫سكنها القلق وشغلها التفكير ‪ ..‬مارست عادتها العفوية حين قطعت الصالة ذهابا وايابا عدة مرات قبل‬
‫أن تتوقف أمامهم تطرح على نفسها سؤاال بصوت مسموع ‪ :‬مين الراجل ده ‪ ..‬ويعرف ماما منين أصال‬
‫وهى بقالها سنين مش موجودة ؟ ‪.‬‬

‫ــ مش يمكن يكون واحد من قرايبها اللى فى طنطا ‪ .‬كان أحتماال رددته نعمة بنفس مقطوع قبل أن‬
‫تستبعده أيات بنبرة حاسمة ‪ :‬قرايبها أيه وطنطة أيه أنتى كمان ‪ ..‬هدى طول عمرها مقطوعة من شجرة‬
‫من ساعة ماعمتها ومامتها ماتوفوا ‪.‬‬

‫لم تشأ نورا أن تقحم نفسها فى جدل عقيم ‪ ..‬مدت يدها داخل حقيبتها وسحبت الموبايل ‪.‬داهمها سيل‬
‫من الرسائل بمجرد أن فتحته ‪ ...‬مكالمات الحصر لها من زيزيت ومن يوسف وبسمة وأيات ‪ ،‬كلها‬
‫أنطلقت فى وجهها ‪ ..‬أستندت على سور الكنبة حين أجرت أتصاال وسط رقابة مشددة من الثالثى‬
‫المتأهب لقنص أى شاردة أو واردة ‪ ..‬بدت متوترة وهى تنصت لرنين موبايل يوسف الذى تأخر فى الرد‬
‫قبل أن تباغته بفزع ‪ :‬أنت فين يايوسف ؟ ‪.‬‬

‫ــ أنا رايح لماما ‪.‬‬

‫ــ ومين اللى معاك ده ؟ ‪.‬‬

‫ــ واللـه ماعرف يانورا ‪.‬‬

‫ــ طب ماتسأله ياأخى ‪ .‬قالتها بعصبية وأستغراب ‪ .‬اال أنه بدا متحفظا فى ردوده حيث المسافة بينه‬
‫وبين الرجل التسمح بالتوضيح ‪ :‬ع العموم أحنا قربنا خالص على البيت ودقايق وحنفهم كل حاجة ‪..‬‬
‫هدأت نبرتها وأستسلمت ‪ :‬ماشى يايوسف بس خلينى معاك فى الصورة أول ماتفهم الحكاية ‪ ..‬سالم ‪.‬‬
‫شردت ببصرها ‪ ..‬بدت ساهمة حين مالت برأسها على رأس الـ " دبدوب " الذى لم يبرح كتفها ‪..‬‬
‫تنتزعها األسئلة من حضن اللحظة السعيدة التى نالتها اليوم على يد شريف ‪ .‬قامت ببطء ومرت أمامهم‬
‫قبل أن تمتد لها يد نعمة التى جذبتها من طرف التيشرت ‪ :‬هاتى ياختى اللى أنتى شاياله على قلبك ده ‪.‬‬
‫التفتت اليها بدهشة وكأنما فؤجئت بوجوده على كتفها ‪ ..‬شعرت بالخجل ثم ناولته لنعمة التى تسلمته‬

‫‪544‬‬
‫منها بحرص مبالغ فيه كأنه طفل رضيع ‪ :‬بسم اللـه الرحمن الرحيم ‪ ..‬ياختى جميلة ياختى ! مشهد‬
‫أستفز أيات التى رفعت حاجبيها ‪ :‬أنتى خيبتى يانعمه ‪ ..‬هى ناولتك أبنها وال أيه؟!‬

‫ــ بدرب نفسى ياست أيات ‪.‬‬

‫بوجه مكتوم كرغيف مدعم ‪ ،‬ورأس يكاد ينفجر ‪ ،‬أنضمت نورا للثالثى منشغلة بالبحث فى قضية‬
‫الضيف المجهول الذى جاء فجأة ورحل فجأة بصحبة أخوها دون أبداء أسباب ‪ ..‬الوساوس تكاد تذبحها‪.‬‬

‫‪00000000000000‬‬

‫فى تلك األثناء كانت هدى تهب بصدرها من سور الشرفة المطلة على حارة " المنجى " تزاحمها فايزة‬
‫برأسها ‪ ،‬تتابعان بلهفة وصول السيارة الـ " ‪ " 128‬التى تحمل فى بطنها يوسف والضيف المجهول ‪..‬‬
‫تسللت بنظراتها من خالل بيوت الحارة الضيقة التى حجبت الرؤية عن القادم من أول الناصية ‪..‬‬
‫أنتفضت فى وقفتها وباعدت حبال الغسيل التى تزاولها حين لمحت جانب من السيارة التى تهادت ببطء‬
‫قبل أن تقف بجوار المنزل ‪ ..‬هبطا األثنان ‪ ..‬تعرفت على يوسف من ظهره بينما لم تتعرف على‬
‫األخر ‪ ..‬ترجال حتى أجتازا المدخل ‪ ..‬تسربت هدى للداخل وفى ذيلها فايزة كظلها ‪ ..‬فتحت باب الشقة‬
‫وانتظرت على رأس السلم ‪ ..‬بدت غير مستقرة فى وقفتها ‪ ..‬أجتاحها التوتر كلما أقترب صوت أقدامهما‬

‫ظهر لها رأس يوسف مع دوران السلم ‪ ..‬لحظات قليلة وكان يفصله عنها ست درجات ‪ ..‬رفع لها عينيه‬
‫قبل درجتين بينما نظراتها تجاوزته الى الطالع خلفه ‪ ،‬ذلك الكائن الذى يعب نفسه فى جلباب أبيض من‬
‫فوق سروال من نفس اللون ‪ ،‬يحمل سحنة تنسبه لألخوان أو ربما للسلفيين ‪ .‬فى مقدمة رأسه صلعة‬
‫خفيفة زادت لمعانا تحت أضاءة السلم ‪ ،‬كما منحته لحيته الكثيفة شيئا من الجدية ‪ .‬وصل يوسف‬
‫فأستقبلته أمه بقبلتين سريعتين ومالمح ملخومة فى الذى يهتف خلفه ‪ :‬السالم عليكو ورحمة اللـه ‪.‬‬

‫ــ وعليكو السالم ‪ .‬قالتها بنبرة أكلتها الحيرة عندما عاينت مالمحه ‪ .‬لم يصافحها ودخل كما يقول‬
‫الشرع فى حين سبقه يوسف الى الصالة بصحبة فايزة ‪ .‬أوصدت هدى الباب خلفها تقودها نظرات‬

‫‪545‬‬
‫فضولية اليه ‪ ..‬جلس الجميع فى توقيت واحد بينما أنسحب الضيف بنظراته لالرض مبتسما كأنما يعد‬
‫نفسه لبداية مقبولة‪ ..‬لم تصبر عليه فايزة ‪ :‬أهال وسهال‪ ..‬خير ياأستاذ ؟ ‪.‬‬

‫ــ أهال بيكى ياست ‪ .‬قالها وعينيه فى األرض قبل أن يقرر رفعهما فى وجه هدى ‪ :‬حضرتك طبعا مش‬
‫عارفانى ؟ ضاقت عبينيها تدقق فى وجهه وقد أبتلعتها أحاسيس طارئة من الوجوم والحيرة ‪ :‬مش‬
‫واخدة بالى واللـه ‪ .‬أهتزت لحيته حين نطق ‪ :‬أنا شهاب ‪ ..‬بهتت للحظات ‪ ،‬فقدت خاللها بوصلة‬
‫التفكير ‪ :‬شهاب مين ؟ مال بصدره لألمام ‪ :‬شهاب نسيم الشرقاوى ‪ .‬كانت لحظة كأنها ساعة أو يوم ‪،‬‬
‫لكنها لحظة مشحونة بمئات األنفعاالت المتناقضة ‪ .‬أعتقل لسانها ثقل ‪ .‬لم تستطع النطق ‪ ،‬حاولت ‪،‬‬
‫فشلت ‪ .‬أرتعدت كل خالياها ودارت فى رأسها الظنون ‪ .‬كان حوارا صامتا يدور بينها وبينه ‪ .‬تحققت‬
‫فيه بعينيها المندهشة ‪ ،‬كان يحمل الكثير من مالمح والده بعيونه وذقنه المدببة ‪ .‬أرتجت أعضاء يوسف‬
‫على كرسيه حين سمع األسم فى حين أخذت مالمح فايزة وضعية األستعداد لصد أى هجوم محتمل ‪..‬‬
‫هبطت عليها عدوانية وشراسة تنتظر ضغطة زر ! ‪.‬‬

‫هدى علت الدهشة وجهها ‪ ..‬كانت دهشة ممزوجة بالتوجس ‪ ،‬تملكها شعورا بأن شيئا ما سيحدث‬
‫ويستوجب الحذر ‪ .‬صمت شهاب يراقب األرتباك بعد أن كشف عن هويته وكأنه يستعيد ذكرى شيىء‬
‫هام ‪ .‬بدا قلقا كما لو كان يريد أن يفعل شيئا ‪ .‬لم يكن من السهل أستمرار الصمت الذى قطعته هدى‬
‫بخوف ‪ :‬أى خدمة ؟ ‪.‬‬

‫ــ لما شفت حضرتك دلوقتى بدأت الذاكرة تسعفنى ‪ ..‬زرتينا كذا مرة مع زوجك اللـه يرحمه ‪ ..‬عمو‬
‫نديم ‪ ..‬بابا اللـه يرحمه كان بيحبه أوى ‪ .‬أحست من نظرته أنه يريد أن يستحضر الماضى ‪..‬‬
‫حتما سيصرخ فى وجهها ‪ ..‬سيهاجمها ويقذف بكلمات كالحجارة ‪ ..‬أحست بعينيه فوهات بنادق مسددة‬
‫إلى رأسها ‪ .‬تابع حديثه محاوال لملمة كلماته ‪ :‬حضرتك طبعا بتسألى نفسك أيه سبب الزيارة دى ؟‬
‫حاول يوسف أظهار خشونة لردع أى عدوان يداعب رأس الضيف ‪ :‬أكيد طبعا فيه سبب وسبب مهم‬
‫كمان اللى يخليك تظهر فجأة وتبقى مصر على مقابلة والدتى ‪ ..‬يبقى أكيد فى حاجة ؟! قالها وأراد أن‬
‫يصدر للمستمع أحساسا ‪ ،‬بأن أى فعل أحمق سيتم التصدى له بحسم ‪.‬‬

‫ــ كالمك صح ‪ .‬ألقت عليه هدى نظرة فاحصة وسريعة‪ ..‬حاولت أن تخمن مايدور فى رأسه ‪ :‬أسمع‬
‫يابنى ‪ ..‬لو جاى تقلب الماضى وتنكش فيه فنصيحتى لك أنساه وشيله من دماغك عشان أحنا كلنا دفعنا‬
‫فيه تمن غالى ‪ .‬رددتها بقوة دفاعا عن نفسها وبشحنة هائلة من مشاعر القوة والضعف وهى تنظر إليه‬
‫‪546‬‬
‫كأنما تدعوه لعدم الخوض فى تفاصيل الماضى الصعب ‪ .‬تأملها وهو الزال على طبيعته المتخشبة ‪:‬‬
‫بصراحة أنا جاى أتكلم فى الماضى ‪ ..‬سكت كى يبتلع ريقه ثم دار بنظراته فى الوجوه المتحفزة ‪ .‬تابع‬
‫بهدوء ‪ :‬بس مش عشان أنكش فيه وال أقلب المواجع ‪ ..‬أنا جاى عشان أدفنه خالص وأريح ضميرى ؟!‬
‫حاولت أن تستشف مايقصده ‪:‬وأيه المطلوب منى ؟ لم تكن عيناه منتبهتين ‪ .‬ظنته يفكر ‪ .‬كررت‬
‫سؤالها ‪ :‬مطلوب منى أيه بالظبط ؟ طرحت السؤال وكادت تفقد أعصابها ‪ .‬بينما ظل هادئا ‪ .‬رتب بعض‬
‫العبارات وتدافع صوته ‪ :‬مافيش حاجة مطلوبة منك ‪ ..‬المطلوب منى انا ‪ .‬بدات الوساوس تداعب صدر‬
‫فايزة ‪ ،‬فلم تكن تنصت إلى لغته الهادئة بقدر ماكانت تفكر فى الخطوة القادمة وقت اللزوم ‪.‬أستغرب‬
‫يوسف كالمه ‪ :‬أنا لغاية دلوقتى مش فاهم أنت عايز أيه بالظبط ؟ ‪.‬‬

‫ــ واللـه أنا ماعايز حاجة ‪ ..‬أنتو اللى عايزين ! ‪.‬‬

‫ــ حنعوز منك أيه أن شاء اللـه ‪ .‬قالها يوسف متذمرا ‪ ..‬أجاب شهاب وهويخفى المرارة داخله‪ :‬المرحوم‬
‫نديم له حق عند بابا اللـه يرحمه وأنا عارف أن حضرتك ماخدتيش منه والجنيه واحد ‪ ..‬أمى اللـه‬
‫يرحمها فهمتنى كل حاجة‪..‬وأنا النهاردة جاى عشان أبرىء ذمتى قدام ربنا وقدامكم وأرجعلكم كل فلوس‬
‫المرحوم ‪ ..‬ماقدرش أقبل جنيه واحد حرام !! ‪.‬‬

‫عالمات األندهاش واألستغراب تسرح كالعدوى فى الوجوه التى تتابع بقية كالمه بعيون مفتوحة وأفواه‬
‫فاغرة ‪ ،‬وكأن على رأسهم الطير ‪ :‬ماتستغربوش ‪ ..‬عمر الفلوس ماريحت حد والسعدت حد إال بأمر‬
‫اللـه ‪ ..‬ال تمد فى أعمار الناس والبتشفع لهم فى يوم الينفع فيه مال وال بنون ‪ ..‬أبويا مات وكان عنده‬
‫فلوس تسد عين الشمس ‪ ..‬الحمته والدافعت عنه لما جه قضاء اللـه ‪ ..‬أمى كمان دخل السرطان‬
‫جسمها وماطلعش منها إال مع روحها ‪ ..‬الفلوس ماخففتهاش والحتى رحمتها من األلم اللى ماكانش‬
‫بيفارقها لحظة ‪ ..‬الفلوس ربنا بيبعتها عشان تبقى وسيلة تقربنا للخير ‪ .‬أشتعلت مالمح يوسف بالفرحة‬
‫حين سمع أقواله ‪ ..‬لم يجد أفضل من تلك الجملة ‪ :‬اللـه يفتح عليك ياشهاب ‪ .‬قالها برعشة ‪ .‬بينما‬
‫أغمضت فايزة عينيها وجرى الكالم على لسانها ‪ :‬سبحان اللـه ‪ ..‬سبحان اللـه ‪ ..‬صحيح يخلق من‬
‫ضهر الفاسد عالم ‪ .‬سمعها وأشاح بعينيه مستنكرا ‪ ..‬فى حين ماتت الكلمات فوق لسان هدى قبل‬
‫ميالدها ‪ ..‬جف حلقها ثم أنسالت دموعها حتى بللت شفتيها قبل أن تزيحها بأناملها المهتزة ‪ .‬عاشت‬
‫لحظات بين مايجرى ‪ ،‬حولها ‪ ،‬دون أن تملك ذلك الوعى لتفسير األشياء ‪ .‬عاود تفجير مفاجأته حين‬
‫أخرج من جيب جلبابه ورقة صغيرة ‪ ..‬نظر فيها ثم نظر لها ‪ :‬حضرتك لكى عندى تالتة مليون‬
‫‪547‬‬
‫وسبعماية وتمانين ألف جنيه ‪ ..‬دول حقك وحق والدك ‪ .‬توقفت ساهمة عند جملة " حقك وحق والدك"‬
‫شعرت وكأن ماحدث لها خطأ عابر لم يدمر شيئا فى حياتها أو فى نفسها ‪ .‬نطقه المتأنى لقيمة الرقم‬
‫أصاب يوسف بالدوار ‪ ..‬ترنح فى كرسيه وطالت حاجبيه رعشة كان لها صدى على شفتيه التى خرج‬
‫من بينهما الكالم متقطعا ‪ :‬أنت فعال بتتكلم جد ؟! ‪.‬‬

‫ــ متهيألى يعنى مافيش حد أجبرنى أجى لغاية هنا وأقول الكالم ده ‪ ..‬أنا مش جاى لحد هنا ياأستاذ‬
‫يوسف عشان أوزع صدقات ‪ ..‬ده حقكم والزم تاخدوه ‪ .‬قالها زاهدا وأنصت لفايزة التى فجرت فيها‬
‫اللحظة حماسة مفاجئة ‪ :‬واللـه يابنى أنت تتوزن بالدهب ‪ ..‬أنت الولد الصالح اللى دعاؤه مقبول عند‬
‫ربنا ‪ ..‬ياريت كان أبنى ربعك ‪ .‬أخجلته الكلمات ‪ :‬ربنا يكرمك ياحاجة ‪ ..‬ثم ألتفت لهدى ‪ :‬تحبى تستلمى‬
‫فلوس المرحوم أزاى ؟ نظرت فى عينيه طويال قبل أن تتماسك ‪ :‬مش عارفة ؟‬

‫ــ يعنى حضرتك عايزانى أجيبهم هنا والعندك حساب فى البنك ‪ .‬طرح أختياراته وأنتظر ردا لم يحصل‬
‫عليه ال من هدى وال من يوسف المصدومان ‪ .‬فتطوعت فايزة ‪ :‬أنت عارف يابنى اليومين دول مافيش‬
‫أمان فى البلد ‪ ..‬بكره من النجمة حنفتح لها حساب فى بنك أسكندرية ‪.‬‬

‫ــ صح ياطنط ‪ .‬قالها يوسف حين أسترد وعيه وسط غياب تام لهدى التى ظلت تردد بعفوية ‪ :‬اللـه‬
‫يرحمك يانديم ‪.‬‬

‫حاول شهاب جذبها بعيدا عن سيرة الماضى ‪ :‬اللـه يرحم الجميع ويسامحهم ‪ ..‬المهم عندى أن كل حاجة‬
‫تخلص بكرة عشان أنا مسافر بعد بكرة ‪ .‬سرحت بفكرها بعيدا حين سألته ‪ :‬هوأنت دلوقتى ماسك‬
‫تجارة والدك ؟ ‪.‬‬

‫ــ ده مش سفر شغل ‪ ..‬ثم ألتفت ليوسف بوجه مبتسم ‪ :‬عقبالك يايوسف ‪ .‬ألتقطت فايزة نهاية الجملة‬
‫رافعة كفيها ناحية السقف ‪ :‬ونبى يارب أوعدنا وأكتبهالنا ‪ ..‬ثم مسحت بكفيها وجهها ونزلت بهما على‬
‫صدرها فى لقطة ايمانية أستحسنها الضيف الذى توجهت اليه ‪ :‬ياريت تبقى تدعيلنا ياشيخ‬
‫وأنت بتحسس بايدك على الكعبة الشريفة ‪ .‬نبرة ثلجية ‪ :‬ياست أنا مش رايح السعودية ‪ ..‬أنا رايح‬
‫سوريا ‪ .‬طبعت الصدمة بصماتها فوق وجهها ‪ :‬سورية أيه يابنى ‪ ..‬دى الحرب دايرة هناك ومقطعين‬
‫بعض ؟! ‪.‬‬

‫‪548‬‬
‫ــ عشان كده أنا رايح أنضم الخواتى المجاهدين ضد الطاغوت والرافضة ‪ .‬قالها وجسده كله ينتفض ‪..‬‬
‫بينما السؤال الحائر فى عينيها ‪ :‬هى مين يابنى اللى رافضة ؟! تدخل يوسف محاوال أنهاء الموقف ‪:‬‬
‫ياست فايزة الرافضة يعنى الشيعة ‪.‬‬

‫ــ آه‪ ..‬قلتلى ‪ ..‬طب ربنا معاك ياخويا ! ‪.‬‬

‫لم تلحظ هدى أثرا للماضى فى حديثه بينما ـ هى ـ كان ذهنها مشدودا الى الماضى ‪..‬كان صورة مناقضة‬
‫لصورة والده ‪ .‬منذ ثالث سنوات بدأت الفجوات تبرز فى أنحاء نفسه ‪ ،‬تعلقت حياة شهاب بوجود أمه‬
‫التى رحلت منذ ذلك التاريخ ‪ .‬شعر بكيانه يتداعى متالشيا مع كل ماكان يربطه بالحياة ‪ ،‬والناس ‪،‬‬
‫واألشياء ‪ ..‬وكلما أستعاد رغباته ليعود من جديد ‪ ،‬أشفق على نفسه من التجربة بعد أن أحس بأستحالة‬
‫الحياة مع األحياء ‪ .‬نسى طقوس أيامه ‪ ،‬وقرراألستكانة داخل ذاته ‪ .‬أستعذب األلم بعد أعتياده ‪.‬ظل‬
‫وحيدا لفترة لم يقدر على أحصائها ‪ .‬قررفجأة الركض داخل دائرة الدين من خالل زاوية صغيرة على‬
‫أطراف منطقة " كوم الدكة " بعد أن فك له شيخ الزاوية الكثير من الرموز التى جعلته مغيبا عن واقعه‬
‫هائما فى ملكوت التشدد تظلله فتوى الجهاد ورفع راية األسالم التى دائما ما يتطلب رفعها رفع أسم‬
‫صاحبها من سجالت الدنيا !! ‪.‬‬

‫عدل شهاب من وضعية جلبابه حين وقف مشددا على هدى كأنما يخلى مسئوليته ‪ :‬بكرة ان شاء اللـه‬
‫عند بنك أسكندرية الساعة عشرة ‪.‬‬

‫ــ ان شاء اللـه ياشهاب ‪ .‬رددت أسمه وهى تشعر فى قرارة نفسها أنها مذنبة ‪ ،‬على يدها أصبح يتيم‬
‫األب منذ طفولته ‪ .‬مشت بجواره حتى باب الشقة ‪ ،‬همست بصوت خافت دون أن تنظر اليه ‪ :‬ماكانش‬
‫قصدى يابنى أحرمك من أبوك ‪ ..‬سامحنى ‪ .‬تحركت عضالت األلم فوق وجهه حين نظر لها طويال ‪..‬‬
‫أبتسامة ساخرة لخصت مايدور فى ذهنه وكأنه يقول لها ‪ :‬لن يتغير الماضى آلنه أصبح ماضيا ‪ ،‬ومن‬
‫صنعوه مات منهم من مات ‪ ..‬الماضى لم يعد ملكا لنا ‪ ،‬لقد أنتقلت تبعاته إلى آخرين يصنعون األن‬
‫ماضيا آخر ‪.‬‬

‫أستعادت نفسها من خالل نظرته مع آخر كلماته ‪ :‬سامحى أبويا وأدعيله بالرحمة ‪ .‬أعطاها ظهره‬
‫مجتازا العتبة قبل أن تنادى فيه ‪ :‬أستنى ياشهاب ‪ ..‬يوسف حيوصلك ‪ .‬لبى األخير النداء مدفوعا بشحنة‬
‫شهامة منقطعة النظير مصطحبا مفجر الفرحة الى حيث يشاء ‪.‬‬
‫‪549‬‬
‫ما أن رحال حتى قفزت هدى للداخل تسبقها فرحة عارمة تضاعفت وتيرتها حين شاركتها فايزة ‪ ..‬فرح‬
‫هيستيرى شهدته الصالة ‪ ..‬أرهقهما البكاء والضحك ‪..‬لم يكن " شهاب نسيم الشرقاوى " بالنسبة‬
‫لهدى سوى طوق النجاة من قبضة حياة خانقة بين ماضيها وحاضرها ‪ .‬زالت عنها كل الكوابيس‬
‫والمواجع وتفجرت فى البدن كل طاقة الحياة بكل عنادها وقدرتها على الصمود ‪.‬‬

‫بعد مرور ساعة ‪ ..‬أستوعبت هدى المفاجأة وفكرت فى الخطوة التالية ‪ ..‬تمهلت وهى تسير بعقلها‬
‫بمحازاة كل األخطاء التى أرتكبتها ‪ ،‬تبحث عن أفكار جديدة حين سألتها فايزة ‪ :‬بعد ماحتوزعى على‬
‫والدك نصيبهم حتعملى أيه فى نصيبك ؟ ‪.‬‬

‫ــ حنفكر سوا يافايزة أيه الصح اللى ممكن نعمله ‪.‬‬

‫‪00000000000000‬‬

‫فى شقة هدى بدت األجواء ضبابية مشحونة بالوجوم والحذر ‪ ..‬األنباء األولية التى وصلتهم عن هوية‬
‫الضيف وماينوى فعله ‪ ،‬أصاب الجميع بصدمة عنيفة أفقدتهم الهدوء ‪ ..‬كان ذلك فوق أحتمالهم ‪.‬‬
‫تسارعت نبضات الفرح حين أـدلى يوسف بأقواله أمام لفيف ضم كل من نورا وبسمة وأيات فى وجود‬
‫نعمة بصفة مراقب ‪ ..‬حدقوا فيه بذهول ‪ ..‬لم ينبس أى منهم بكلمة واحدة ‪ ..‬حاولوا أن يستوعبوا األمر‬
‫بال نقاش مكتفيين باألنصات ليوسف الذى أهتز مع كل قسم ‪ :‬واللـه العظيم هو ده اللى حصل بالتفصيل‬
‫وأنا عن نفسى مصدق كل كلمة قالها شهاب ده ‪ ..‬وع العموم كلها كام ساعة والحقيقة حتبان ‪ .‬بعد‬
‫لحظات من الشرود ومراجعة بنود الحكاية الغريبة ؟‪ ،‬حاولت نورا فتح تحقيقا متواضعا لفهم الدوافع‬
‫والمالبسات ‪ :‬أشمعنى يعنى ماظهرش شهاب ده غير النهاردة‪ .‬يعنى مثال ضميره صحى فجأة ؟ لم تتلق‬
‫أى أجابات ‪.‬كل ماتحصلت عليه نظرات زائغة ‪ .‬فعادت تسـأل ‪ :‬حد يصدق أن فيه بنى أدم فى الدنيا دى‬
‫يرجع فلوس لواحدة قتلت أبوه ؟! طرحت سؤالها األخير ثم رفعت رأسها تحدق فى السقف الذى شعرت‬
‫به ينخفض فوق رأسها ‪ ..‬تنهدت طاردة كل أنفاسها وبها رغبة واحدة تحتل عينيها ‪ :‬فى حد فيكو يقدر‬
‫يريحنى ويجاوبنى ؟ لم تسعفهم فراستهم فى تبين موقع الخلل فى نسيج الحكاية ‪ ..‬أجتاحهم الوجوم ‪،‬‬
‫فأكتفت بتعليق حائر ‪ :‬مش عارفة ‪ ..‬حاسة كده أن فيه حاجة غامضة فى الموضوع ده ‪ ..‬الحكاية كلها‬
‫من أولها ألخرها ماتدخلش دماغ عيل صغير ‪ .‬دفعت بسمة أيضا فى نفس األتجاه ‪ :‬أنا معاكى يانورا ‪..‬‬
‫‪550‬‬
‫مافيش حد عاقل فى الزمن ده بيرجع ماليين لحد اال اذا كان مجنون أو ‪ ..‬مش عارفة !! تصاعدت‬
‫التنهيدات وبدت نظراتهم عشوائية ‪ ..‬تقمص كل منهم دور المفتش " كولومبو " فى محاولة حثيثة لفك‬
‫رموز اللغز ‪ .‬أستهجنت نعمة الجالسة على أرض األنتريه حالة التشكك التى ضربت فرحتهم مبدية‬
‫نشاطا أستثنائيا ‪ :‬هو أنتو متحرم عليكو تفرحو ‪ ..‬حرام يعنى حقكم يرجعلكم ‪ ..‬ده ربنا أسمه الحق‬
‫ياوالد ودى حكمته أن الجدع ده يظهر دلوقتى ‪ ..‬ماتعترضوش بقى وتفضلو تعيدوا وتزيدوا ‪ ..‬سلموها‬
‫للـ ه وصلو ع النبى كده وكل واحد فيكو يقوم يتوضا ويصلى ركعتين شكر هلل ‪ .‬كلماتها البسيطة أراحت‬
‫النفوس الحائرة ‪ .‬أنفعل معها يوسف الذى حاول أبعاد جو الظنون والمؤامرات بذكر بعض المعلومات ‪:‬‬
‫لو شهاب ده وراه حاجة غامضة ماكانش عطانى نمرته والخالنى أوصله لغاية بيته فى جليم ‪ .‬ده أنا‬
‫بعينيه دول شفت البواب وهو جاى عليه وبيقوله السالم عليكو ياشيخ شهاب ‪ .‬أستمعوا له دون مقاطعة‬
‫فى محاولة منهم لخلق توازن بين الممكن والمستحيل ‪ ،‬كى يتقبلوا ذلك العرض المنافى لسلوكيات هذا‬
‫الزمن !‬

‫لم تهدأ التنبؤات حين تفرقوا لغرفهم فى ساعة متأخرة‪ ..‬بالرغم من الشكوك والتخمينات اال أن طائفة‬
‫من األرقام مألت رؤوسهم ‪ ،‬أنفجرت فى العقول عمليات حسابية مكثفة مابين طرح وقسمة ‪ ،‬الكل‬
‫يحسب حسبته فى حدود األية الشريفة " وللذكر مثل حظ األنثيين " ‪.‬‬

‫الفصل الثامن عشر‬

‫صباح اليوم التالى ‪:‬‬

‫عند التاسعة والنصف وعلى بعد أمتار من مدخل بنك األسكندرية بشارع صالح سالم كان النونو قد أنهى‬
‫سيجارته الثالثة وهومحبوس داخل التاكسى المتوقف من نصف ساعة على ناصية شارع يطل على‬
‫واجهة البنك ‪ ..‬بينما هدى وفايزة فى المقعد الخلفى تراقبان من خالل الشباك وصول شهاب ‪.‬‬

‫ــ أنتى متأكدة يامعلمة أنه البس جالبية وبدقن ‪ .‬قالها وعيناه معلقتان على الطريق ‪.‬‬

‫ــ أنت حمار ياوله ‪ ..‬دى رابع مرة أقولك آه ‪.‬‬

‫‪551‬‬
‫مرت الدقائق على هدى بطيئة وقاسية ‪ ..‬ألتهبت رأسها من كثرة التخمينات ‪ ..‬جف حلقها من تالوة‬
‫قصار السور ‪ ،‬فى حين لم ينقطع لسان فايزة عن ذكر دعاء عودة الغائب ‪ :‬ربنا يسوقك ياشهاب‬
‫ياأبن ‪ ..‬ألتفتت اليها تسأل ‪ :‬طبعا ماتعرفيش أسم أمه ‪ ..‬لم تنصت لها وأستمرت فى التمتمة والهمهمة‬
‫وسط فضول اليهدأ من النونو الذى يتلصص عليهما من خالل المرأة ‪ ..‬يكاد ينفجر ‪ ..‬أستنفذ كل‬
‫محاوالته لفهم مايدور حوله قبل أن تردعه فايزة مع كل محاولة ‪.‬‬

‫لم يكن التوتر قاصرا على الموجودين داخل التاكسى ‪ ،‬بل أمتد الى يوسف المرابض داخل السيارة الـ ‪:‬‬
‫"‪ "128‬التى شغلت موقعا متقدما أمام البنك مباشرة ‪ ..‬لم ينقطع األتصال عن تليفونه منذ لحظة خروجه‬
‫من البيت تاركا خلفه غرفة عمليات مشتركة تترأسها نورا التى تتابعه لحظة بلحظة ‪ ..‬الجميع أستيقظ‬
‫مبكرا ‪ ،‬أو ربما لم يناموا أصال ‪ ..‬الكل يحبس أنفاسه ‪ ..‬الجميع على أطراف أصابعه ‪.‬‬

‫مرت العاشرة من حوالى عشر دقائق تزامنا مع انتفاضة هدى على رنين موبايلها ‪ :‬أيوه يايوسف ‪..‬‬
‫قالتها بلهفة قبل أن يأكلها األحباط حين سألها ‪ :‬وبعدين ياماما ‪ ..‬الساعة بقت عشرة وعشرة ‪ ..‬أنتى‬
‫شايفة أية ؟ ‪.‬‬

‫ــ ماعرفش ‪ ..‬قالتها بال حيلة ‪.‬‬

‫ــ أتصلت بيه ست مرات لغاية دلوقتى ‪ ..‬جرس وماحدش بيرد ‪ .‬لم تعلق وتنهدت ‪..‬أغلق الخط ‪ ..‬دعكت‬
‫عينيها ثم ألتفتت بنبرة يائسة ‪ :‬تفتكرى حييجى يافايزة ؟هربت من السؤال الصعب دون أن تنظر إليها ‪:‬‬
‫ربنا يسهل ‪ ..‬أدينا مستنيين ‪.‬‬

‫ــ الغايب حجته معاه ‪..‬ماتقلقوش ‪ .‬جملة أراد بها النونو جرهما لحديث قبل أن تصرخ فيه فايزة ‪ :‬خليك‬
‫فى حالك ياخويا ‪ ..‬مش ناقصاك ‪ .‬نفذ األمر وأشعل السيجارة السابعة ‪.‬‬

‫غرقت هدى داخل احزانها محتجة على مايحدث حولها ‪ ..‬شعرت بأنها أصبحت لعبة فى يد آثمة ‪ ..‬حرب‬
‫جديدة من نوع جديد تشن عليها ‪ ..‬حرب تصيب والتقتل ‪ ..‬عدتها وعتادها األمل الكاذب والفرحة‬
‫المزيفة ووهم األنتصار ! ‪.‬‬

‫بعد خمس دقائق تلقى يوسف اتصاال مقتضبا من شهاب الذى ابلغه أنه على أسفلت شارع " فؤاد "‬
‫متجها لشارع صالح سالم منهيا المكالمة ‪ :‬أسف جدا على التأخير ‪ ..‬رفع بعدها يوسف رأسه ألعلى‬

‫‪552‬‬
‫ملتقطا أنفاسه كأنما نجا من موت محقق وظل يردد ‪ :‬أشهد أن ال اله اال اللـه ‪ ..‬قالها ثالثا ثم أجرى‬
‫مكالمتين فى غضون ثالثين ثانية بأمه ونورا ‪ ،‬طمأنهما وصوته يكاد يبكى ‪ ..‬عادت الحياة مرة أخرى‬
‫لآلبدان التى كادت أن تفقد األمل ‪ ..‬الزالت لعبة القدر لم تنتهى ‪.‬‬

‫من موقعه ظل يوسف يراقب الطريق قبل أن تنتفض حواسه وتتهيأ نظراته ألستقبال شيىء ما ‪ ،‬لمح‬
‫من المرأة الجانبية سيارة " شيروكى " سوداء تنحاز لليمين ‪ ،‬أبطأ قائدها وهو يتهادى فى حذا‬
‫السيارات الواقفة ‪ ..‬أنفرجت أساريره حين توقفت السيارة بجواره على خط واحد ‪ ..‬أنفتح زجاج الشباك‬
‫أتوماتيكيا ‪ ،‬لتظهر صلعة شهاب مشيرا ليوسف الذى أبتسم له وهز رأسه فى تحية صامتة ‪ ..‬تحرك‬
‫بعدها ببطء يتبع سيارته ولسانه يكرر ‪ :‬ياماأنت كريم يارب ‪ ..‬توقف خلفه بعدما قطع الشارع عرضيا ثم‬
‫هبطا تباعا فى اللحظة التى تعالت فيها صرخات النونو الذى يلعب دور " الناضورجى " آهوه‬
‫يامعلمة ‪ ..‬واحد بدقن وجالبية ‪ .‬دارت عينيها بدعم من هدى التى لمحت شهاب يترجل بحقيبة سوداء‬
‫يتبعه يوسف الذى يتلفت خلفه بحثا عن أمه التى تحرك بها النونو قاطعا المسافة فى سرعة البرق حتى‬
‫بلغهما وتوقف ‪ .‬هبطت فايزة تلتها هدى التىأستقبلها شهاب بوجه بشوش قبل أن يدنو منها يوسف‬
‫معلقا ذراعه فى ذراعها ‪ ..‬تحرك الرباعى يتصدرهم شهاب بحقيبته التى التنسجم مع جلبابه القصير‬
‫الذى جرح وقار البنك حين اجتاز المدخل ومن خلفه الباقين يتأملون المكان ‪ ..‬أستقبلتهم البوابة‬
‫اآللكترونية التى مروا منها قبل أن يستوقفه موظف االستعالمات ‪ :‬سحب وال ايداع ؟‬

‫ــ ايداع ان شاء اللـه ‪ ..‬أبتسم ومرر له ورقةصغيرةعليها رقم " ‪ " 11‬وهو ترتيبه بين المودعين ‪ ،‬فى‬
‫حين أستفسر يوسف حين انزاح شهاب ‪ :‬واللى عايز يفتح حساب حضرتك ؟ ‪.‬‬

‫ــ تالت شباك على يمينك ‪ .‬عاجلته فايزة حين تشكك فيها ‪ :‬أنا معاهم ! ‪.‬‬

‫ــ أتفضلى يافندم ‪.‬‬

‫دخلوملتفين حول بعضهم ‪ ..‬أبتلعهم زحام البنك ‪ ..‬حرص يوسف على أن يكون شهاب تحت السيطرة‬
‫والحصار ‪ ..‬الزمه كتف بكتف كأنما يخشى هروبه ‪ .‬الدقائق تمر والكل يبحث عن نهاية سعيدة وسريعة‬
‫لمشهد انفعالى أصاب األعصاب بالتلف منذ األمس ‪.‬‬

‫بدت هدى كالعصفورة تطير بين شبابيك البنك قبل ان تحط امام كل موظف لبضع دقائق وإلى جوارها‬
‫يوسف كمتحدث رسمى نيابة عنها ومن خلفهما فايزة كعنصر تأمين تحوط شهاب الذى أنتظر أشارة من‬
‫‪553‬‬
‫يوسف أتته بعد عشر دقائق وتعنى " تقدم " ‪ ..‬أطاع األمرودخل من بينهما حين انزاحا ‪ ..‬رفع الحقيبة‬
‫على الـ " كونتر " ثم فتحها على مصراعيها وبدأ فى أخراج " الرزم " تباعا حتى اصطفت الماليين‬
‫صفوفا صغيرة ‪ ،‬يشد منها موظف االيداع الواحدة تلو االخرى ويسوقها الى ماكينة العد التى لم تألوا‬
‫جهدا فى أثبات قيمة المبلغ " ثالثة ماليين وسبعمائة وثمانون الف جنيه " ‪ ..‬تمام ‪ ..‬مظبوط ‪ .‬قالها‬
‫الموظف وتغنت بها القلوب ‪ ..‬كلمتان شافيتان للصدور ‪.‬‬

‫أختلف مشهد الخروج عنه فى الدخول ‪ ..‬وجوه المعة بالفرحة وأبتسامات التنقطع ‪ ،‬وشعور مفعم‬
‫بالنجاح ونظرة متحدية سددتها هدى للنهار الذى باغتها حين خرجت من باب البنك الكبير ‪ ..‬رافقها ذلك‬
‫الشعور بأنها اليوم أستعادت كرامتها المهدرة ‪ ..‬وسام التضحية من الطبقة االولى نالته اليوم على يد‬
‫الزمن الذى لم يخذلها كعادته ‪ ..‬تعويض مناسب فى الوقت المناسب جادت به األقدار ‪.‬‬

‫أنحرف شهاب بعيدا عنهم بضع أمتار بعد أن كسر الحصار المضروب حوله منذ لحظة وصوله ‪ ..‬لمحته‬
‫هدى بنظرة ركنية وهو يتجه لسيارته ‪ .‬نادته ثم هرولت إليه حين ألتفت ‪ ..‬أنتظرها وهو يطرف عينيه‬
‫التى تغزوها الشمس ‪ ..‬تحررت من كل الضغوط والمخاوف حين وقفت أمامه ‪ :‬كتر خيرك ياشهاب ‪..‬‬
‫اللى أنت عملته النهاردة صعب أوى حد يعمله فى الزمن ده ‪.‬‬

‫ــ الحمد للـ ه أنا وفيت الدين اللى فى رقبتى قدام ربنا وقدامك ‪ .‬تأملته طويال ولم تنطق ‪ ..‬شعر بالقلق‬
‫من نظرتها ‪ :‬ناقص حاجة تانية أقدر أعملها ؟! ضاقت عينيها ثم سحبته من رسغه ومشت به خطوات‬
‫حتى انتحت به خلف كشك الحراسة المجاور للبنك وسط اندهاشه واستغراب فايزة ويوسف اللذان‬
‫يتابعان مايحدث عن كثب ‪ :‬يعلم ربنا انى من ساعة ماشفتك امبارح وقلبى أتفتحلك ‪ ..‬عارفة أد أيه‬
‫األنسان بيعانى فى الدنيا لما فجأة بيالقى نفسه لوحده ‪ ..‬مافيش أب وال أم وال حتى عزوة ‪ ..‬أحساس‬
‫فظيع أنا جربته وعشته كتير ‪ ..‬مش حأقدر أقولك أعتبرنى زى والدتك عشان عارفة أنها حتكون صعبة‬
‫عليك ‪ ..‬مع أنى واللـه بأعتبرك زى يوسف وده اللى حيخلينى أتجرأ وأحشر نفسى فى ظروفك وأسألك‬
‫سؤال واحد ‪ .‬أنصت متوجسا ‪ .‬فأستأنفت ‪ :‬تفتكر لو كان والدك ووالدتك موجودين كانوا حيسمحولك‬
‫بحكاية السفر لسوريا ‪ .‬سألته وأنتظرت ردا ‪ :‬أكيد أل ‪ .‬قالها بصوت خجول ‪.‬‬

‫ــ مش حأقولك اللى أنت ناوى عليه ده صح وال غلط بس اللى أقدر أقوله ‪ ..‬خليك راجل وماتهربش ‪..‬‬
‫بلدك أولى بيك جاهد هنا ‪ ..‬هو مش ربنا قال الجهاد بالمال والنفس ‪ ..‬طب انت ربنا رزقك بالمال جاهد‬
‫بيه كبره وزوده وأصرفه فى الخير ‪ ..‬ساعد بيه الغالبة أفتح لهم شغل وخليهم يرزقوا عشان ياكلوا‬
‫‪554‬‬
‫ويشربوا ويدعولك ويدعو البوك والمك وساعتها جهادك حيبقى له فايدة وكمان حتبقى أحسن صدقة‬
‫جارية عملتها ألهلك تنفعهم فى أخرتهم ‪ ..‬حملت مالمحه تضاريس غريبة لم تستطع قراءتها ‪ ..‬بنظرات‬
‫غير مستقرة صدرت عنه تنهيدة ‪ .‬فبادرته ‪ :‬خليك فى المضمون يابنى ! ثم ربتت على صدره قبل أن‬
‫تجذبه من كتفه حتى طالته ثم قبلته من خديه وهو الزال على وقفته مذهوال ! ‪.‬‬

‫أقتربت منها فايزة حين تركته ‪ :‬فى أيه تانى ياهدى ؟ ‪.‬‬

‫ــ مافيش حاجة كنت بأشكره ‪.‬‬

‫ــ فاتتنى دى ياماما ‪ ..‬قالها يوسف وهو يضغط على يدها ‪ :‬ياله بينا عشان أوصلك ع البيت ‪.‬‬

‫ــ أل مش حينفع دلوقتى ‪ .‬جملة تدخلت بها فايزة أثارت حنقه فأشاح بوجهه معترضا ‪ :‬خالص ياماما‬
‫كل حاجة انتهت وربنا كرمنا من وسع ‪ .‬جاهدت معه حتى أقتنع بوجهة نظرها ‪ :‬فيه كام حاجة‬
‫حأخلصها مع فايزة وبالليل حأكون عندكو عشان نحط النقط على الحروف وكل واحد فيكو يعرف حقه ‪.‬‬
‫تعللت بتلك الحجة لكسب الوقت لمراجعة الوضع من كل الزوايا بعدما أنقلب المشهد رأسا على عقب‪.‬‬
‫احترم رغبتهما ورحل ولم يشأ أفتعال أزمة ‪ .‬غادرهما متجها نحو سيارته يخطو بخطوات تليق بصاحب‬
‫مال ‪ ،‬بينما أصطحبت فايزة رفيقتها ناحية التاكسى ‪ ..‬أستقبلهما النونوالذى أستند بمؤخرته على‬
‫الرفرف الشمال ‪ :‬حمد للـه على السالمة ‪.‬‬

‫ــ أحنا طالعين من المطار ياروح أمك ‪ .‬أبتسامة سمجة وزعها عليهما قبل أن يدلفوا جميعا إلى الداخل ‪.‬‬

‫أنحشرت هدى فى ركن المقعد وهى تحاول مدارة الفرح الذى انفجر داخلها بأبتسامة ظلت معلقة على‬
‫شفتيها ‪ ،‬وفى حوزتها ورقة عليها رقم حساب متخم بالماليين أنشغلت بها وظلت تقلبها بين يديها وتعيد‬
‫قراءتها اكثر من مرة فى سرها بنبرات مختلفة وكأنها " عدية ياسين " ‪ ..‬أستهواها شكل الرقم‬
‫وضخامته ‪ ..‬لحظة فارقة ‪ ،‬بل لحظة تاريخية ‪ ..‬هى ماتمر به األن ‪ ..‬عليها أن تجتاز المسافة الشاسعة‬
‫بين ماكان وماسيكون ؟! ‪.‬‬

‫تحرك النونو بالتاكسى راجعا من نفس الطريق الذى سلكه فى الذهاب ‪ ،‬تقاطيعه األرنبية تكاد تنفصل‬
‫عن عظام وجهه حين تمددت من خالل المرأة يتابع المرأتين ‪ ..‬أعيته التخمينات ووصلت به إلى طريق‬

‫‪555‬‬
‫مسدود ‪ ..‬أحتار فى وجه هدى الذى يتبدل كل فترة ‪ ..‬تضربها الفرحة فيستقر داخله برهانا أكيدا أنها‬
‫نالت من البنك مايستحق سعادتها قبل أن تخذله الحقا بمالمح تعصف بها الحيرة ‪ ،‬مثلما هى فيه األن ‪..‬‬

‫بين لحظة وأخرى تنتظر هدى البت بمصير وعيها ‪ ..‬هل مازالت نائمة فى حلم ؟ كاد يشغلها السؤال قبل‬
‫أن تحسمه بعينيها حين جرت بنظراتها لـ " أفا " النونو الذى يدندن مع المطرب" عبد الباسط حمودة "‬
‫سألت فايزة حين ألتفتت اليها ‪ :‬أنتى مصدقة كل اللى بيحصل ده ؟ وكأنما تختبر واقعها ‪ .‬ظل السؤال‬
‫معلقا حتى أجابت بصوت هامس على غير العادة ‪ :‬أشمعنى يعنى صدقتى أن أقرب الناس لكى باعوكى‬
‫وعايروكى وعايزين يخلصو منك بجوازة ‪ ..‬ياحبيبتى صدقى أى حاجة تحصل فى الزمن ده زى ماأنا‬
‫صدقت أن أبنى الوحيد كان عايز يخلص منى ويلبسنى جناية ‪ ..‬قالتها وهزت رأسها فى مرارة ثم مالت‬
‫برأسها ناحية أذنها وأودعت فيها ماالتريد أن يسمعه النونو ‪ :‬ربنا أنعم عليكى بخيره وعوضك عن اللى‬
‫ضاع من عمرك فى السجن ‪ .‬أستغرقتها الكلمات ‪ ،‬غير أنها لم تخرجها من قلب السؤال ‪:‬أنا صاحية‬
‫وال نايمة ؟ قبل أن يستغرقها العبث ويأخذ مداه فيخلط الواقع بالسراب ‪ ،‬ويتداخل فى ذهنها ماكانت عليه‬
‫وماأصبحت فيه ‪ ..‬جاءها الجواب برنين موبايلها اللحوح الذى لم تنقطع صرخاته ‪ ،‬أستهلت نورا اول‬
‫المكالمات ثم بسمة وأيات وزيزيت ‪ ..‬كلها تنطق بديباجة واحدة تدور فى مساحة ضيقة التزيد عن‬
‫التبريكات والتهانى وعبارات كالسيكية قديمة من نوعية ‪ :‬المال الحالل عمره مايضيع أبدا ‪ ..‬الحمد للـه‬
‫حقنا رجعلنا لغاية عندنا ‪ ..‬بابا دلوقتى حينام فى قبره مرتاح ‪ ..‬اخيرا بقيتى ياهدى صاحبة الكلمة األولى‬
‫واالخيرة فى البيت ‪ .‬مالحظة ابدتها زيزيت قابلتها هدى بوجوم وبنبرة متحفظة تحمل فى طياتها خيبة‬
‫أمل من أنسانة تخلت عنها فى أشد اوقاتها ضعفا ‪ ..‬ثم أختتمت نعمة سيل المكالمات معلنة بكل جرأة‬
‫عن مطلبها الوحيد ‪ :‬ماتنسنيش فى عمرة ياست هدى ‪ .‬قبل أن تبلغها األخيرة بموافقتها كانت أيات قد‬
‫خطفت منها الموبايل وصوت خناقة حامية تدور بينهما ‪ ،‬طالت شظاياها آذان هدى ‪ :‬هو أنتى فيكى حيل‬
‫تروحى لغاية المطبخ لما عايزة تطلعى عمرة ‪ .‬بينما صوت نعمة المتشبث بالمطلب ‪ :‬خالص أطلعى‬
‫معايا ياست أيات ونتعكز على بعض أنا وأنتى ‪ ..‬لو عندى صحة كنت طلعت من زمان ‪ .‬أستمر الجدال‬
‫بينهما لدقائق ولم ينصتا لصوت هدى التى نادت فيهما ‪ :‬خالص يانعمة ‪ ..‬أهدى شوية ياأيات ‪ ..‬عشان‬
‫خاطرى ماتزعلهاش وريحيها لغاية ماأجيلها بالليل ‪.‬‬

‫ــ أريحها ازاى ولما تموت هناك يبقى كويس يعنى ‪.‬‬

‫‪556‬‬
‫ــ ده يبقى كرم من عند ربنا ‪ .‬كانت صرخة أستغاثة من نعمة ‪ .‬أبتسمت هدى وأغلقت الموبايل ‪ :‬األتنين‬
‫دول مالهومش حل ‪ .‬ثم تابعت الطريق منوهة ‪ :‬قربنا على كرموز يافايزة ‪ .‬لم تتلق ردا أو تعقيبا‬
‫فرمقتها ‪ ..‬وجدتها ساهمة ووجهها يحمل هموما !‪ ..‬كانت فى تلك اللحظة تخطو فى منطقة حائرة ‪..‬‬
‫يالزمها الفكر الذى قبض على مالمحها ‪..‬أستقر بها أحباط رهيب وهى تنقب داخلها عن اجابة تصلح‬
‫للسؤال الكبير ‪ :‬هدى حتكمل معايا وحنفضل مع بعض والخالص كل حاجة أتغيرت ؟ كل األحتماالت‬
‫مفتوحة ‪ ..‬التملك شيئا سوى األنتظار ‪ ..‬انتظار يضعها تحت ضغط عصبى شديد ‪..‬عادتا للمنزل بعد أن‬
‫القى بهما النونو على ناصية الحارة ‪ .‬مرت ربع ساعة على دخولهما قبل ان يمكثا فى الصالة وأمامهما‬
‫كوبان من الشاى بناء على رغبة ملحة من هدى ‪ ..‬رشفات سريعة بايقاع منتظم مصحوبة بنظرات‬
‫متأملة ناحية األرض وسط صمت متبادل ‪ ،‬لم تشأ فايزة أن تقطعه تاركة لهدى الوقت الكافى لترتيب‬
‫أفكار ها وتدبير أمورها ‪ ..‬راقبت شرودها دون ان تتدخل أو تبدى رأيا ‪ ..‬أول مابدر منها حين أنهت أخر‬
‫قطرة فى قاع الكوب ‪ :‬وشك حلو أوى على يافايزة ‪ .‬ضحكة عفوية صدرت عنها لم تكن فى حسبانها ‪:‬‬
‫أول حد فى الدنيا يقولى وشك حلو‪.‬‬

‫ــ مش وشك وبس ده قلبك وروحك ‪ ..‬أنتى نعمة من نعم ربنا بعتها لى فى الوقت المناسب ‪ .‬تعثرت‬
‫مالمحها وأحمر بياض عينيها ‪ :‬ده انتى أختى ياهدى وسندى فى الدنيا ‪ .‬ثم بكت قبل ان تمنعها‬
‫االخيرة ‪ :‬مش وقت عياط دلوقتى خالص ‪ ..‬خلينا نفكر حنعمل أيه ؟ رمشت بعينيها تتأكد ‪ :‬نعمل‬
‫أيه فى أيه ؟ ‪.‬‬

‫ــ أيه اللى جرالك يافايزة أنتى نسيتى اللى أحنا أتفقنا عليه ‪ .‬تفتحت داخلها كل طاقات األمل ‪ :‬بينى‬
‫وبينك أنا قلت فى نفسى أكيد الفلوس حتغير كل حاجة وحتشقلب حالك وحتنسى اللى أتفقنا عليه ‪ .‬هزت‬
‫رأسها نافية ‪ .‬لم تترك لنفسها هامشا للتفكير ‪ ..‬أستقرت على نفس الرأى ‪ :‬مافيش حاجة أتغيرت كل‬
‫اللى أتفقنا عليه زى ماهوه ‪ ..‬مش حأنكر أن الفلوس جت فى وقتها وحتسهل حاجات كتير وأكيد حتفرق‬
‫معايا أوى و مع والدى وحتخلى كل واحد فيهم يفكر فى مستقبله من غير مايحط رقبته تحت رحمة حد ‪..‬‬
‫قالت جملتها بارتياح فى حين لم تفارق المرارة مالمحها حين تابعت ‪ :‬لكن الفلوس يافايزة عمرها‬
‫ماحتغير اللى فى دماغهم وال حتى حتغير نظرة الناس ‪ ..‬حأفضل برضه أمهم اللى دخلت السجن ‪..‬‬
‫حأفضل طول عمرى عار الزق فيهم يمشى وراهم فى كل حتة ‪ ..‬ال ينفع معاه هروب وال تجمله فلوس ‪.‬‬

‫‪557‬‬
‫ضاق حاجبيها حين قاطعتها ‪ :‬ايه السواد ده ‪..‬الناس لها الظاهر ياهدى ‪ ..‬والفلوس حتخلى لعيالك منظر‬
‫وقيمة ‪ ..‬ماحدش دلوقتى فاضى يدور على الماضى ‪ ..‬كله بيجرى ورا مصلحته ‪.‬‬

‫ــ متهيألك ‪ ..‬ساعة الجد الكل بيحسبها من تانى وانا بصراحة ماعنديش أستعداد والدى يتجرحوا تانى‬
‫بسببى وال أنا مستعدة أتهان مرة تانية ‪ ..‬أنا اللى يهمنى دلوقتى أن كل واحد فيهم ياخد حقه من غير‬
‫مساومة وال أستعطاف ‪ ..‬مش عايزاهم ياخدوا فلوسهم وياخدونى معاها فوق البيعة ‪ .‬مطت شفتيها ‪:‬‬
‫كالمك معقول ‪ ..‬بس تفتكرى والدك مش حيعترضوا على وجودك معايا ؟ واجهتها بشدة قبل أن تكمل ‪:‬‬
‫ما أنا موجودة معاكى بقالى أكتر من شهر ‪ ..‬كانوا عملوا أيه يعنى ‪ ..‬صدعوا دماغى بشوية مكالمات‬
‫وزيارة يتيمة وبعدها خالص األمور هديت ‪ .‬صاغت جملة تحذيرية وهى ترخى جفنيها ‪ :‬كل وقت وله‬
‫أدان والنهاردة غير أمبارح ‪ ..‬نتى دلوقتى صاحبة مال وهمه كمان بقى تحت أيديهم فلوس يعنى الوضع‬
‫أختلف ‪.‬‬

‫ــ بالعكس ‪ ..‬الفلوس اللى رجعت النهاردة خلتنى أقوى من األول مليون مرة ‪ ..‬الفلوس دى معناها أنى‬
‫كنت صح وماأتنازلتش عن حق جوزى ‪ ...‬الفلوس دى معناها أنى دخلت السجن مظلومة مش ظالمة ‪..‬‬
‫النهاردة لما حأقابلهم بالليل حأثبت لهم أنى ست قوية مش ضعيفة ‪ ..‬أنا خرجت من بيتى يافايزة متهانة‬
‫ومجروحة وكلهم باعونى ‪ ..‬النهاردة حأرجع لهم وراسى مرفوعة ومعايا حق ابوهم ‪ .‬قالتها بلهجة‬
‫متشددة ومالمح تفيض قسوة حين علت نبرتها ‪ :‬مستحيل أعيش تانى فى وسطيهم وأنا شايفة الخوف‬
‫فى عينيهم من الناس ‪ ..‬مش عايزة وجودى يقلقهم ويتعبهم أكتر من كده ‪ ..‬مش عايزاهم يحسو أنهم‬
‫أقل من أى حد ‪ .‬سكتت تلتقط أنفاسها وفايزة أمامها ال تملك سوى اآلنصات ‪ ..‬أستطردت بعد لحظة‬
‫هدوء ‪ :‬خالص أنا قررت أكمل معاكى ‪ ..‬أنا وأنتى شبه بعض يافايزة حنعرف نعيش سوا ‪ ..‬طريقنا‬
‫واحد حنمشيه مع بعض من غير مانضايق حد والحد يضايقنا ومن النهاردة حأبقى ضيفة خفيفة على‬
‫والدى اليشيلوا همى والهم الناس أنا وأنتى اولى ببعض احنا صحاب سوابق وماحدش عايزنا ‪.‬‬
‫أنتفضت فايزة مستنكرة ‪ :‬وكمان صحاب مال وجوز نسوان زى القمر ‪ ..‬بس أحنا ياختى اللى مش‬
‫واخدين بالنا من نفسنا ‪ .‬لم تنل أى تعبير على مقولتها ‪ ..‬بدت هدى هائمة فى عالم أخر ‪ ،‬عالم حدوده‬
‫ضيقة إال أنها أجابت بنظرة تعنى " الرحيل ولكن !! " ترجمت المعنى على لسانها ‪ :‬أيه رأيك بعدما‬
‫أرجع بالليل من عند والدى نشوفلنا أى مكان نروح فيه ‪ ..‬ناخد كام يوم هدنة نبعد عن وجع الدماغ‬
‫ونقعد نفكر بهدوء فى اللى جاى ‪.‬‬

‫‪558‬‬
‫ــ أنا معاكى ‪ ..‬شوفى عايزة تروحى فين ؟ همهمت وهرشت رأسها ‪ :‬مش عارفة يافايزة ‪.‬‬

‫ــ أيه رأيك فى مطروح ؟ ‪.‬‬

‫ــ متهيألى حتبقى زحمة الوقت ده ‪ .‬ثم أطالت النظر فى وجه فايزة الذى شكلته روح المغامرة ‪ ..‬تابعت‬
‫وكأنها تذكرت شيئا مهما ‪ :‬أنا نصيبى من الفلوس حيطلع مبلغ محترم وأنتى معلمة أد الدنيا وربنا‬
‫موسعها عليكى ‪ ..‬أيه رأيك نطلع شرم الشيخ نعيش لنا يومين زى الهوانم اللى بنسمع عنهم يمكن‬
‫ينسونا األيام السودة اللى شفناها ‪ .‬لم تعتقد للحظة أنها عثرت على حل سحرى ‪ ،‬لكن أستقبالهما للحل‬
‫أشعل فيهما الحماسة وكأنهما وجدا ضالتهما ‪.‬‬

‫ــ دول بيقولوا على شرم دى أنها حتة من الجنة ‪ .‬قالتها هدى كمعلومة قبل أن تضيف عليها فايزة ‪:‬‬
‫أنتى نسيتى البت توحة مساج وحكاياتها عن شرم وجمال شرم وفلوس شرم ‪.‬‬

‫ــ يخربيت سنينك يافايزة ‪ ..‬هى توحة برضه كانت بتروح شرم عشان تغير جو ؟ ‪.‬‬

‫ــ آه صحيح ‪ ..‬دى كانت بتغير هدومها الوسخة ‪ ..‬ترنحت هدى فى مكانها بفعل ضحكة مباغتة لم‬
‫تزرها منذ فترة طويلة قبل أن تبارزها فايزة بصهللة أعادت الحمرة لوجهها ‪ ..‬تدريجيا حشرت هدى‬
‫بقية الضحك فى حلقها قبل أن تعود الى جديتها ‪ :‬سيبك بقى من قلة األدب دى وركزى معايا ‪ ..‬ع‬
‫المغربية حأروح البيت عندى عشان أحط النقط على الحروف وعشان كل واحد فيهم يعرف أوله من‬
‫أخره وبالمرة أجيبلى شوية هدوم وغيارات ‪ ..‬ساعتين تالتة بالكتير وحأكون عندك وبكره من النجمة‬
‫نتكل على اللـه نخلع من هنا ‪ .‬طالعتها فايزة بنظرة تنم عن وجود اقتراح ‪ :‬أيه رأيك أنا أجهز الشنط‬
‫على ماترجعى ونسافر النهاردة بالليل ‪.‬‬

‫ــ حيبقى الوقت متأخر يافايزة ‪ ..‬ماتخليها بالنهار ‪.‬‬

‫ــ أصل أنا هدفى أن جوز المقاطيع اللى هنا مايحسوش بحاجة ‪ ..‬عايزاهم يتفاجأوا أنى أنا وأنتى مش‬
‫وجودين ‪..‬عشان يفضلو متلبشين وقلقانين لغاية مانرجع ونظبط األمور ‪ .‬أبدت موافقة ثم لمحت ‪:‬‬
‫يافايزة أنا ميتة من الجوع ‪ ..‬فكرى لنا فى أكلة ‪.‬‬

‫‪559‬‬
‫ــ أيه رأيك تاكلى ‪ ..‬قطع جرس الباب بقية الجملة ‪ .‬قامت من مكانها تتبادل مع هدى‬
‫أشارات األستغراب ‪ :‬مين اللى حييجى دلوقتى ‪.‬أتجهت ناحية الباب قبل أن تصرخ غاضبة ‪ :‬أصبر ياللى‬
‫ع الباب ‪ .‬قالتها بغيظ حين صدر عن الباب رنة ثانية ‪.‬‬

‫فتحت متحفزة ‪ ..‬قطبت حاجبيها ‪ ..‬ماتت النظرة فى عينيها كأنما رأت شبحا ‪ .‬اسدلت جفنيها محاولة‬
‫طرد صورة الكائن الواقف أمامها الذى بادرها ‪ :‬مش حتقوليلى أتفضلى ؟ لم تنطق وكأنها أبتلعت‬
‫لسانها ‪ ..‬طالت وقفتها وهى تسد بجسدها فراغ الباب ‪ .‬كرر الكائن ‪ :‬دا أنتى صاحبة واجب ومايصحش‬
‫تسيبى ضيوفك واقفين كده ع الباب ‪ .‬بعيون منقبضة ونبرة عدائية ‪ :‬أنتى عايزة أيه يامرى؟ حضرت‬
‫هدى مع نهاية الجملة ‪ ..‬وقفت خلفها تتخطفها عالمات االستفهام ‪ :‬فى أيه يافايزة ‪ ..‬عايزة منك أيه‬
‫الست دى ؟ ‪.‬‬

‫ــ عازها المرض والموت ‪ ..‬دى بدرية كومبارس أس المصايب كلها ‪.‬‬

‫ــ اللـه يسامحك يامعلمة ‪ .‬أنزاحت األخيرة من صدارة الباب على أثر دفعة من كتف هدى ‪:‬‬
‫خير ياست ؟! ‪.‬‬

‫ــ خير أن شاء اللـه ياست الستات ‪ ..‬أنا جاية فى كلمتين حأقولهم وأخلص بيهم ضميرى واللى ربنا‬
‫يعمله هو اللى يكون ‪.‬‬

‫ــ أتفضلى ‪.‬‬

‫ــ تتفضل أزاى ‪ ..‬مش ناقص كمان غير األشكال الوسخة دى ‪ .‬قالتها من خلف كتفى هدى التى رمتها‬
‫بنظرة ركنية ‪ :‬عيب يافايزة مايصحش ‪.‬ثم أفسحت لها مكانا للمرور ‪ ..‬مرت بحذر ثم أسرعت للصالة‬
‫بعدما تلقت نظرة حادة أبقتها فى حذا هدى حتى أعتلت الكنبة التى شغلت نصف مساحتها ‪ ،‬بينما الزالت‬
‫فايزة تزفها بكل أنواع اآلوصاف قبل أن تردعها هدى ‪ :‬أهمدى شوية واقعدى وشوفى الست حتقول‬
‫أيه ‪ .‬لم تحتج وجلست امامها تحاصرها بتكشيرة دبت الرعب فى قلب الضيفة وأعادتها لذكريات‬
‫موجعة‪ ..‬حبست انفاسها للحظات ونظرات جس النبض تدور فى الصالة قبل أن تمنحها هدى أحساس‬
‫األمان ‪ :‬أتفضلى ياست بدرية قولى عايزة أيه ؟ أبتل جبينها عرقا تحت وطأة الخوف وعبء الطرحة‬
‫التى حاصرت رأسها وصدغيها‪ .‬بحثت فى ذهنها عن بداية ال تثير حفيظة النمرة الشرسة التى تتمتم ‪:‬‬
‫أستغفر اللــه العظيم يارب ‪ .‬قالتها فى الفراغ وهى تنفخ ‪ .‬أستهلت البداية موجهة كالمها‬
‫‪560‬‬
‫لهدى ‪ :‬بأختصار كده انا الدنيا بهدلتنى ومرمطتنى وماشفتش فيها يوم حلو ‪ ..‬الحسنة الوحيدة اللى‬
‫طلعت بيها بنتى نوسة ‪.‬‬

‫ــ يعنى طلعتى بهند رستم ياختى ‪ ..‬تحولت اليها هدى بنظرة صارمة فهمتها ولزمت الصمت ‪ .‬تابعت‬
‫بدرية ‪ :‬هو أنتى أسمك أيه ياختى ؟ طرحت عليها السؤال حين لمست فيها السطوة والحزم ‪.‬‬

‫ــ أسمى هدى ‪.‬‬

‫ــ ربنا يجعل أسمك من قسمتك ‪ ..‬المشكلة ياست هدى أن المعلمة فايزة حاطة فى دماغها أن بنتى‬
‫نوسة بتلف وتدور على أبنها عشان يتجوزها وتلهف اللى وراه واللى قدامه وكان أبنها ده عيل صغير‬
‫بيمص فى صباعه والشاب خايب غشيم مش فاهم حاجة فى الدنيا ‪ .‬ثم لفت بلحمها وواجهتها مضيفة‪:‬‬
‫منصور ده ياست هدى تربية المعلمة فايزة وعبده الجن يعنى فاهم الصغيرة قبل الكبيرة ويعرف يفرق‬
‫بين اللى شاريه وبين اللى بيشتغله وماتأخذنيش ياختى فى الكلمتين دول ‪ ..‬منصور أبنها مايحتكمش‬
‫أصال على جنيه واحد عشان حد يلهفه منه ‪ .‬وجهت جملتها األخيرة لفايزة التى نظرت للسقف بوجه‬
‫قابل لآلشتعال فى أية لحظة ‪ .‬أستأنفت ‪ :‬ومين دى اللى أتجننت فى عقلها والمستغنية عن عمرها‬
‫عشان تشتغل ابنك وال ترسم عليه وأمه تبقى المعلمة فايزة اللى سمعتها مغطية كرموز كلها وأجدعها‬
‫شنب بيعملها ألف حساب ‪ ..‬ياختى اللى بيتكلم مجنون والمستمع عاقل ‪ .‬ثم لكزت هدى فى فخذها تأكيدا‬
‫للمعنى فى حين طاردت فايزة كلماتها بمالمح معطوبة ‪ :‬وأنتى جاية لغاية هنا تهزى شحمك عشان‬
‫تسمعينا الكلمتين دول ‪ ..‬سددت لها نظرة نارية حين تابعت وهى تضغط على الحروف ‪ :‬الطماعين اللى‬
‫زيك وزى بنتك بيتمسكنوا لغاية مايتمكنو ‪ ..‬الصنف ده أنا فهماه كويس‬

‫ــ ياستى أحيينى النهاردة وموتينى بكرة ولو الحكاية فلوس وطمع يبقى مش حنغلب أنا وبنتى ‪..‬‬
‫بأشارة واحدة حاجات كتيرة تبقى تحت أيدينا بس أحنا مش كده ‪ ..‬أحنا عايزين الستر واألمان وقدام‬
‫الست هدى أنا بقولك يامعلمة فايزة أحنا مش أدك والحمل بهدلة وأهانة أحنا أخرنا شوية جعجعة وحبة‬
‫همبكة والحيلتنا أبيض وال أسود والعندنا عزوة والتحت أيدينا رجالة بشنبات عشان يحمونا عند اللزوم‬
‫‪ .‬سكتت لثوان تستطلع أثر الكالم على فايزة التى تصنعت عدم المباالة بينما أرتخت مالمح هدى التى‬
‫أظهرت تفهما وتعاطفا أستثمرته بدرية التى زادت ثقتها فى الدفاع عن وجهة نظرها ‪ :‬ولو مصممة على‬
‫أذية أبنك بسبب بنتى فأنا جاية أقولك الكالم ده مايرضنيش ومن النهاردة حأبعد نوسة عنه ولو وصل‬
‫األمر أننا نمشى من كرموز كلها ‪ .‬أعلنت موقفها بصوت عالى ثم مشت بمؤخرتها حتى طرف الكنبة‬
‫‪561‬‬
‫أستعدادا للنهوض ‪ .‬أرهقتها الحركة وأرتفع نهيجها حين قامت تضبط طرحتها ‪ :‬أرضى عن أبنك‬
‫يامعلمة فايزة وأقفى جنبه وأنتى أولى بيه من أى حد ‪.‬‬

‫ــ ماتقعدى واقفة ليه ‪ .‬قالتها هدى حين رفعت لها عينيها ‪.‬‬

‫ــ معلش ياست هدى أنا قلت اللى عندى وخلصت ضميرى ‪ .‬أبتسمت األخيرة ‪ :‬بس فايزة لسه ماقالتش‬
‫اللى عندها ‪ .‬نوهت بجملتها حين رأت جدية وموضوعية ال تقبل التأويل والمزايدة ‪ .‬التفتت إلى الساكنة‬
‫تترجم أنطباعها إلى اللغة التى تفهمها‪ :‬الست بدرية كالمها معقول ويدخل الدماغ ‪ ..‬من عندك شوية‬
‫يافايزة وسيبى منصور يختار اللى هو عايزه من غير تدخل وال مشاكل ‪.‬‬

‫ــ أنتى برضه بتاكلى من الكلمتين دول ‪ ..‬دى مرى تلعب بالبيضة والحجر ‪.‬‬

‫ــ ليه شايفة حاوى قاعد قدامك ‪ .‬قالتها بجراة فى حماية هدى قبل أن يأتيها الرد سريعا ‪ :‬أكتر من‬
‫الحاوى ياحبيبتى ‪ ..‬دى شغلتها بيع الكالم واآلونطة ‪ ..‬دى كومبارس ‪ .‬ذيلت كلمتها األخيرة بضحكة‬
‫ساخرة أثارت حنق بدرية ‪ :‬طلعت والنزلت آهى أسمها شغالنة ومكتوبة فى البطاقة الهى عيب والحرام‬
‫والدخلتنى السجن والخلتنى من أرباب السوابق ‪ ..‬والنبى التعايرينى وال أعايرك ‪ .‬أنصتت لها فايزة‬
‫وشياطين الغضب تطوف حولها وهى التملك ماتهينه بها ‪ .‬تدخلت هدى بالرغم من جرح الكلمة التى‬
‫طالتها ‪ ..‬وقفت بينهما ‪ :‬أقعدى منك لها ‪ ..‬لمى الدور يافايزة ‪ ..‬العيال بيحبو بعض والحكاية مش‬
‫ناقصة ‪ .‬أطلقت زفرة ضيق وهى تجلس ‪ :‬يعنى أنتى مش شايفة كالمها اللى يحرق الدم ‪.‬‬

‫ــ معلش عديها ‪ ..‬وقتنا ضيق أخلصى ‪ .‬قالتها بتململ ‪.‬‬

‫ــ يعنى أنتى عايزانى أعمل أيه ياهدى ‪ .‬بدت عصبية ومنفعلة فى حين سحبتها األخيرة لمنطقة هدوء ‪:‬‬
‫وافقى على الجوازة خلى ربنا يسهلهم عشان يسهلنا أحنا كمان ‪ .‬نبرتها وطريقة نطقها أدخلت فايزة فى‬
‫دائرة الصمت التى جرتها لمراجعة موقفها المتشدد ‪ ..‬شيىء من الحكمة بدأ يدب فى رأسها ‪ .‬لم تنتظر‬
‫هدى صمتها ‪ ..‬حذرتها بعينيها كى تفهم ‪ :‬ماتسبيش حاجة متعلقة وراكى ‪ ..‬خلصى نفسك ‪ .‬ثمة توازن‬
‫يفرض ايقاعه احيانا ‪ .‬النت نبرة العناد ‪ :‬ماشى ياهدى ‪ ..‬أنا موافقة ‪ .‬قالتها على مضض ‪ ،‬فى حين‬
‫أستقبلت بدرية تصريحها بوجه تفشت فيه الفرحة ‪ :‬ربنا يجعل أيامك كلها فرح زى مابتفرحى الناس ‪.‬‬
‫تطلعت اليها بأسترخاء ‪ :‬هى كده عملت اللى عليها الباقى عليكى أنت وبنتك ‪ ..‬حافظوا على منصور‬

‫‪562‬‬
‫وحطوه جوه عينيكو ‪ .‬أنتفضت ‪ :‬من غير ماتقولى ده أحنا مالناش حد فى الدنيا ‪ ..‬منصور حيبقى‬
‫راجلنا وسندنا وبرضه نفسك معانا يامعلمة ‪.‬‬

‫ــ أنا نفسى مقطوع ياختى ‪ .‬قالتها بميوعة بعدما تخلى عنها الغضب فى حين واصلت هدى مهمة‬
‫وسيط الخير ‪ :‬فايزة قلبها أبيض وحيبقى نفسها معاكو فى كل كبيرة وصغيرة ‪ ..‬ده أبنها الوحيد مش‬
‫معقولة حتسيبه ‪.‬‬

‫ــ اللى عنده يكفيه ويخليه يفتح بدل البيت بيتين ‪ .‬لم تفهم هدى ماتعنيه كما لم تستوعب بدرية الجملة ‪.‬‬
‫فأستكملت للتوضيح ‪ :‬ايراد القهوة على ايراد التاكسى ونص النقل يخلوه يعيش ملك‪.‬‬

‫ــ روحى ياشيخة ربنا يكرمك يامعلمة فايزة ويستر عرضك ‪ .‬كان دعاء يشبه الهتاف جادت به بدرية‬
‫الذى أهتز لحم وجهها كما أهتز له خشب الكنبة ‪ .‬قامت بخفة عصفورة تحملها الفرحة التى قادتها حتى‬
‫بلغت مقعد فايزة ‪ ،‬لتنقض عليها بكل ثقلها وتشبعها قبالت قبل أن تعتصرها فى صدرها ‪ ..‬كادت فايزة‬
‫تلفظ أنفاسها ‪ ،‬وصوتها المكتوم يستغيث ‪ :‬خالص ياوليه حتموتينى ‪ .‬أنتزعت نفسها من فوقها ‪ :‬بعد‬
‫الشر عليكى ‪ .‬رددتها وهى فى منتصف الصالة بصحبة هدى متجهة ناحية الباب قبل ان تبطىء خطوتها‬
‫ملتفتة بصوت هامس ‪ :‬المعلمة بتقول ان األيراد اللى حيطلع لمنصور يخليه يعيش ملك ‪ ..‬بس هى‬
‫ماقالتش ياختى الملك ده حيعيش فين وهو ماعندهوش شقة اصال ؟! تعقبتها األخيرة من مكانها بنظرات‬
‫مدهوشة ‪ :‬شوفى المرى ولؤمها ‪.‬‬

‫ــ كالمها صح يافايزة حيتجوز البنت فين ؟ ضغطت على اضراسها ‪ :‬يبقى يدور له على شقة وأنا‬
‫سدادة ‪ .‬عند ذلك األعالن ‪ ،‬أرادت بدرية أشعال ثورة فرح جديدة ‪ ،‬اال أن هدى تصدت لها ‪ :‬خالص‬
‫ياست بدرية يادوب تلحقى تفرحى بنتك وتبلغى منصور باألخبار الحلوة دى ‪.‬‬

‫ــ حاضر ياختى ‪ ..‬فتحت بعدها الباب ‪ ،‬وما أن تخطت العتبة حتى توجت زيارتها الناجحة بزغرودة‬
‫أطلقتها بكل ماتملك من عزم قاصدة أن تضع كل سكان البيت داخل المشهد ‪ .‬ثم نزلت تدب بشبشبها‬
‫على درجات السلم وسط وقفة ذاهلة من هدى التى تابعتها من على رأس السلم وهى تقف عند كل باب‬
‫أنفتح أمامها لتعلن ‪ :‬منصور أبن المعلمة خطب بنتى نوسة ‪ .‬كررتها ثالث مرات فى وجه كل من خرج‬
‫مستطلعا !! ‪.‬‬

‫‪563‬‬
‫جرى بهما الوقت سريعا ‪ ..‬قصفا عمره فى تداول بعض األفكار المتعلقة بعبده الجن ومنصور ‪ .‬طرحت‬
‫فايزة بعض األفكار من منطلق رؤية متحفظة ثأرية عرضتها بعصبية فى وجه هدى التى تصدت لها‬
‫بمنطق أطفاء الحرائق مع ألزامها ببعض التعديالت الجوهرية من باب ‪ :‬ريحيهم وريحى نفسك ‪ ..‬كبرى‬
‫دماغك وأرمى ورا ضهرك ‪ .‬أظهرت مرونة وتفهما بعد سيجال محدود متخطية حالة التعنت الفطرى‬
‫الضارب فى أعماق شخصيتها مع قفزة نوعية فى لغة الخطاب حين قالت بحسن نية ‪ :‬بينى وبينك الولية‬
‫بدرية صعبت على أوى النهاردة ‪ ..‬كانت عايزة ترضينى بأى شكل ‪ ..‬نفسها برضه تستر بنتها وتطمن‬
‫عليها ‪ .‬أرتاحت لكلماتها ولم تعلق ‪ .‬كان نداء الجوع أقوى من أى تعليق ‪ ..‬أنشغلتا فى التهام رغيفين‬
‫" حواوشى " من أعداد وأنتاج محل " حمامة " الذى أرسلهما على وجه السرعة بناء على أتصال‬
‫أجرته فايزة ‪ " .‬الحواوشى " هو أول ضيف يدخل معدتهما منذ الصباح ‪ ..‬تسابقتا فى القضم والمضغ‬
‫والبلع تحت راية " الجوع كافر " ‪ .‬لم يفلح الشاى بالليمون فى أحباط التفجيرات التى ضربت معدة‬
‫هدى التى أنتفخت وتقطعت أنفاسها ‪ :‬أنتى متأكدة يافايزة اللى أكلنا ده حواوشى ‪ .‬أجابتها وهى تنهج ‪:‬‬
‫هو المرة دى تقيل شوية ‪ ..‬يكونش المفضوح حمامة حط جواه الحمامة وهيه اللى عاملة فينا كده ‪.‬‬
‫أنصتت لها بأبتسامة ثم أنسحبت متكاسلة الى غرفة النوم ‪ .‬كانت بحاجة لألنفراد بنفسها فى محاولة‬
‫لتهيأة ذهنها وحشد حواسها للزيارة المرتقبة ‪ .‬شحنت عقلها ودربت لسانها على خطاب جديد يالئم وقع‬
‫المناسبة ‪ ..‬توقعات وتخمينات دارت بخلدها حول شكل األستقبال وحالة العاطفة ‪ ..‬صنفت ردود األفعال‬
‫المنتظرة حسب تركيبة كل منهم وطباعه ‪ .‬أستغرقتها التخيالت والتمنيات قبل أن تنتزعها فايزة التى‬
‫دخلت عليها بفوضويتها المعتادة ‪ :‬أحنا بقينا المغرب مش حتقومى تجهزى نفسك ‪.‬طردت مايتفاعل فى‬
‫عقلها وقامت ‪ ..‬أتجهت الى الدوالب مباشرة وسحبت منه طقمها اليتيم التى جاءت به وما أن بدأت فى‬
‫أرتداءه حتى باغتتها حماسة مفاجئة أذهلت فايزة التى جلست تتابعها وهى تتجه للمرأة التى وقفت‬
‫أمامها تعتمرطرحتها ‪ ..‬تفحصت وجهها عن قرب ‪ ..‬عاينته من كل الزوايا ‪ .‬أستاءت من بعض العيوب‬
‫التى ظهرت تحت العينين من قلة النوم والضغط العصبى الذى تسلمها من لحظة زيارة شهاب ولم‬
‫يفارقها اال من ساعات ‪ .‬تحسست وجهها بأسى قبل أن تدهنه بكريم بشرة من مقتنيات فايزة ‪،‬فظهرت‬
‫كراماته على مالمحها التى أصبحت كالوتر المشدود مستعيدة سحرها الفريد بعدما لعب المكياج الخفيف‬
‫لعبته الخطرة قاصفا من عمرها عشر سنوات على أقل تقدير ‪ .‬أخيرا أبتسمت لوجهها فى المرأة ‪..‬‬
‫أبتسامة لم تدم سوى لحظات قبل أن تحذفها من فوق شفتيها حين أنحرفت بعينيها ناحية فايزة التى‬
‫قبعت فى الركن شاردة ‪ .‬تأملتها ثم أعطت ظهرها للمرآة ‪ :‬مالك مسهمة ليه ؟ رغم محاولتها أظهار‬

‫‪564‬‬
‫الهدوء ‪ :‬قلقانة شوية ‪ .‬قالتها بصوت مترهل أثار حفيظة هدى ‪ :‬قلقانة من أيه تانى ؟ تساقطت نظراتها‬
‫بفعل األضطراب الذى أعتراها ‪ :‬خايفة والدك يضغطوا عليكى ومايرضوش يرجعوكى تانى على هنا ‪.‬‬
‫مالت عليها ورائحة " البارفان " تفوح منها كما فاحت نبرة األدراك والفهم ‪ :‬والدى حيمنعونى ليه‬
‫ان شاء اللـه ‪ .‬تساءلت ساخرة ثم تابعت ‪ :‬مش قادرين يستغنوا عنى وال عشان مش عارفين يعيشوا‬
‫من غيرى ‪ ..‬أنتى بتضحكى على نفسك وال على‪ ..‬ده أحنا دافنينه سوا وأنتى فاهمه زى ما أنا فاهمه ان‬
‫والدى دلوقتى مايهمهمش أى حاجة غير الفلوس اللى فى البنك ‪ ..‬أمتى حأسحبها وكل واحد حيطلعله‬
‫كام هو ده المهم عندهم ‪ ..‬فوقى يافايزة وماتقلبيش على المواجع وقومى جهزى الشنط لغاية ماأروح‬
‫وآجى ‪ .‬مشت معها بنفسية هادئة حتى باب الشقة قبل أن تعلن هدى عن رفضها الشديد للعرض المقدم‬
‫منها ‪ :‬حأوصلك لغاية أول الشارع حأركبك وأطمن عليكى ‪.‬‬

‫ــ ياستى أنا خالص حفظت الحوارى هنا وعارفة ازاى أطلع منها ‪ .‬حجزتها فايزة ولم تمنحها تأشيرة‬
‫الخروج إال بعد أن طرحت عليها سؤاال ‪ :‬أنتى ليه بقيتى زى القمر ياهدى ‪ ..‬فرق كبير أوى بين‬
‫النهاردة وأمبارح ؟ ‪ .‬أسعدتها الجملة األخيرة وتجاوزتها بضحكة ‪ :‬أمبارح كنت أشالنة وعلى فيض‬
‫الكريم والنهاردة عندى شيىء وشويات ‪ ..‬يعنى الزم أبقى زى القمر ‪ .‬أستفزها التبرير ووضعت يديها‬
‫فى وسطها ‪ :‬ياختى أنا بقالى سنين عندى شيىء وشويات الحصلت قمر وال نجوم ‪ .‬فتحت الباب تسبقها‬
‫ضحكتها قبل أن تحسها وهى تهبط أول درجة وصوت فايزة من فوقها محذرا ‪ :‬أوعى تتأخرى ‪.‬‬

‫ــ ماتقلقيش ‪ ..‬بس جهزى اللى قلتلك عليه ‪.‬‬

‫أستقبلت الحارة بخطوة واثقة ومالمح زادت فيها درجة الجدية كلما نجحت فى الخروج من حارة إلى‬
‫حارة ‪ ..‬أستعادت اآلن ذاكرة القوة ‪.‬‬

‫الفصل التاسع عشر‬

‫قضت هدى ساعة كاملة فى التاكسى الذى تسلمها من أول الشارع متجها بها إلى خارج كرموز فى‬
‫سهولة ويسر قبل أن ينزلق بها إلى وسط المدينة ‪ ..‬حيث جحيم الزحام وعذاب الدنيا حتى حط بها أمام‬
‫البناية ‪ .‬تنفست الصعداء حين هبطت ‪ .‬ترجلت حتى المدخل الذى وقفت ببهوه تتلفت ‪ ،‬تبحث بعينيها عن‬

‫‪565‬‬
‫نوح ‪ .‬لم تجد له أثرا قبل أن تخرج عليها " أم نور " حين شعرت بصوت أقدام ‪ :‬حمد للـه ع السالمة‬
‫ياست هدى ‪.‬‬

‫ــ أزيك ياأم نور صحتك عاملة أيه ؟ ‪.‬‬

‫ــ الحمد للـه على كل حال ‪.‬‬

‫ــ عم نوح فين ؟ ‪.‬‬

‫ــ فوق عند الخواجة ‪ ..‬عايزة حاجة أقضيهالك ‪.‬‬

‫ــ كتر خيرك ‪ ..‬كان نفسى أشوفه بس ‪ .‬سجلت أمنيتها وأتجهت ناحية المصعد ‪ ،‬تدوس األرض بكل‬
‫عزمها قبل أن تدلف داخله راحال بها ألعلى ‪ ..‬هيأت نفسها أثناء رحلة الصعود ‪ ..‬الكالم فى ذهنها كان‬
‫معدا سلفا ‪ .‬إال أنها أشتبكت مع ذاتها عندما توقف بها عند طابقها ‪ ..‬كل ماتطمح إليه اآلن أعترافا‬
‫صريحا بأنها صاحبة التضحية األكبر ‪ ..‬هى من دفعت الثمن الفادح ‪..‬هى من تحملت الظلم واألهانة ‪..‬‬
‫هى التى تناولتها األلسنة دون رحمة ‪ .‬تمتمت وهى تضغط على فكيها ‪ :‬أنا هدى عبد الفتاح اللى كلكم‬
‫هاجمتونى وعايرتونى بالسجن ماحدش وقف جنبى وال رحمنى ‪ .‬الزم كل واحد فيكم يعرف أنى كنت‬
‫صح مش غلط ‪ ..‬من النهاردة كل واحد الزم يعرف حدوده كويس ‪ ..‬مش حأقبل أقل من دموع الندم على‬
‫ظلمكم لى ‪ .‬رفعت ذقنها كى تبدو فى قمة كبريائها حين خرجت من المصعد ‪ ..‬بدت كما ينبغى لها أن‬
‫تبدو ‪ .‬الخطوة القاسية تسحبها ناحية الشقة ‪ .‬وقفت أمام الباب للحظات ‪ .‬تلفتت يمينا ويسارا ‪ .‬إال أنها‬
‫أندهشت من وقفتها الغير مبررة ‪ .‬نظرت للباب نظرة ضعيفة وكأنها أمام باب حصن منيع ‪ .‬شيىء‬
‫ماجعلها مترددة ‪ ..‬ماذا تفعل أمام هذا الشعور الطاغى بالتفاخر ؟ حاولت الحفاظ على قوتها ‪ .‬فتحت‬
‫حقيبة يدها بعنف وسحبت منها المفتاح ‪ .‬أدلت رأسها لآلرض فجأة وكأن هاتفا يهتف فيها من عند‬
‫قدميها ‪ .‬لم تتبين كلمات الهاتف والمصدرها وكأنما مايقصده ان يلفت انتباهها كى تخفض رأسها‬
‫لألرض ! تفكرت فى األمر ‪ ..‬فهمت الرسالة ‪ .‬أستحضرت موروثها الضارب فى عمق أعماقها ‪ .‬أرتدت‬
‫إلى تواضع الصابرين ‪ .‬أبت أن تركب اللحظة ‪ ..‬تضاءل فيها التفاخر الذى أصبح أعجاب ثم الى أمر‬
‫مفرح ردته الى تدابير الخالق ومعجزاته ‪ .‬هزت رأسها بقناعة سحبتها إلى أقصى تجليات الزهد ‪ .‬كبلت‬
‫غرور النفس بالتواضع ‪ .‬أدارت المفتاح فى كالون الباب وهى راضية كل الرضا بعدما لجمت شهوتها‬
‫قبل الدخول ‪ .‬أنسكب ضوء الصالة على رهبة جمالها الحزين حين فتحت الباب ‪ ..‬أصبحت األن فى‬
‫مرمى الرؤية ‪ ..‬كانت الصالة مزدحمة ‪ .‬ظهورها أثار فوضى مفرحة علت الوجوه التى سبقتها شهقات‬
‫‪566‬‬
‫عشوائية توحى بأن أصحابها قد طال أنتظارهم ‪ .‬وقف الجميع أجالال لحظة دخولها وكأنما يؤدون تحية‬
‫عسكرية لقائد منتصر عاد لتوهمن أرض المعركة ‪ .‬كانت نورا أول المندفعين نحوها تاركة خلفها يوسف‬
‫وبسمة اللذان تحركا بعدها ومن خلفهما أيات ونعمة فى وضعية األستعداد بينما الزال خيرى وشريف‬
‫وزيزيت فى أماكنهم كضيوف شرف يرصدون وقائع الفرح بقشعريرة مشت على جلودهم ‪ .‬تنظيم محكم‬
‫أعدته نورا سيتضح الحقا القصد منه ‪ .‬أخيرا وصلت نورا لحضن أمها دون قيد أو شرط ‪ ..‬عاطفة بريئة‬
‫لم تصادفها هدى منذ زمن ‪ ..‬أحست برعشتها القديمة وأنفاسها النقية التى تثير فيها ذكريات البراءة ‪..‬‬
‫ضمتها بقوة فى اللحظة التى شعرت فيها نورا وألول مرة أنها أخطأت الوسيلة بعد أن أخطأت التقدير ‪..‬‬
‫رددت كلمات عشوائية على غير عادتها ‪ :‬ماتزعليش منى ياماما ‪ ..‬أحنا مالناش غير بعض ‪ .‬كانت‬
‫مدهشة وقادرة على خلق منطق يصعد بها فوق المسافات المفتعلة التى صنعتها ‪ .‬دام العناق بينهما‬
‫طويال ‪ ،‬فأستعجلتهما بسمة التى تنتظر دورها الذى لم يتطلب سوى ايماءة من أمها التى انتهت من‬
‫نورا لتتعلق برقبتها فى قفزة خاطفة أستسلمت لها هدى التى أصبحت كالعجينة فى يديها ‪ :‬وحشتينى‬
‫أوى ياماما ‪ .‬لم تستطع الرد تحاشيا لنوبة بكاء على وشك األنفجار مكتفية بتحسس األجساد المتدافعة‬
‫لصدرها وجو من التفاؤل يخيم على الدائرة التى صنعوها من حولها ‪ ..‬عبارات الترحيب والتبريكات‬
‫تتسابق وتتداخل حين أنضمت أيات ونعمة لقائمة المرحبين ‪ ..‬فعلت الفرحة فعلها ! قالت حين خف‬
‫الضجيج حولها ‪ :‬واللـه كلكم وحشتونى والبيت كمان وحشنى ‪ .‬قالتها تزامنا مع خطوتين لألمام بعدما‬
‫أنزاحت بسمة من طريقها متجهة الى نعمة التى قاربت على الوصول ‪ :‬وحشتينى ياست ياعجوزة ‪.‬‬

‫ــ ماتشوفيش وحش ياست هدى ياأم قلب أبيض ياست الستات ياوش الخير ‪ .‬سحبتها لصدرها تكتم‬
‫ضحكتها ‪ :‬بطلى اونطة يامكارة ‪ .‬ثم همست فى أذنها ‪ :‬أنا حأقنع أيات تطلعلك باسبور وتجيبلك تأشيرة‬
‫وتاخدوا بعض أنتو الجوز وتعملوا عمرة على حسابى ‪ .‬أنتفضت عظامها الواهنة ‪ :‬ربنا يزيدك كمان‬
‫وكمان ويهديلك العاصى ياقادر ياكريم ‪ .‬أثارت الوشوشة ريبة أيات ‪ :‬قلتى أيه للولية المخلولة دى‬
‫خلتيها تتنطط كده ‪.‬‬

‫ــ بقولها لولفوا الدنيا بحالها مش حيالقو حد يخاف عليكى واليحبك أكتر من أيات ‪.‬‬

‫ــ قوليلها ونبى ‪.‬‬

‫ــ أيه ياماما أنتى حتقضيها كالم فى الصالة ‪ ..‬تعالى أدخلى جوه ‪ .‬كانت دعوة على لسان يوسف قبلتها‬
‫هدى وهى تردد فى نفسها ‪ :‬سبحان مغير األحوال ‪ .‬شقت طريقها وسط نفس الوجوه التى خرجت‬
‫‪567‬‬
‫أمامهم منذ أيام شبه مطرودة ‪ .‬ظهر لها خيرى عند كنبة األنترية وبجواره أبنه ومن بعدهما زيزيت ‪.‬‬
‫طل عليها من فوق الموكب المصاحب لها ‪ ..‬فاجأتها نظرته الصريحة التى جرحت طهارة المشهد‬
‫بالرغم من التصويت الجماعى الذى ظهر فى العيون معلنا وبكل صراحة " عادت الملكة لعرشها "‬
‫تحركوا ثالثتهم لحدود حجرة األنترية الستقبالها قبل أن تنفلت زيزيت من بينهما وبادرت بعناقها ثم‬
‫أحاطت رقبتها بذراعيها دون أن تنطق بكلمة واحدة ‪ ،‬بينما ربتت هدى على كتفها ‪ :‬أزيك يازيزيت ‪.‬‬

‫ــ زى ماأنتى شايفة ‪ .‬قالتها حين أخلت سبيل رقبتها وتراجعت قبل أن تنتقل هدى لشريف الذى بدا‬
‫متحمسا ونشطا ‪ :‬مبروك ياطنط ‪ ..‬أنتى ست جدعة عشان كده ربنا وقف معاكى وماخذلكيش ‪.‬‬

‫ــ كالمك صح ياشريف ربنا دايما بيقف مع الجدعان مش مع اللى عايزين يهربوا ويسافروا أمريكا ‪.‬‬
‫أحمرت بشرته وهز رأسه مبتسما ‪ :‬خالص ياطنط مافيش أمريكا ‪ ..‬دلوقتى حضرتك حتفهمى كل‬
‫حاجة ‪ .‬قالها حين ألتفت لنورا التى أنزرعت بينهما وسحبته جانبا مفسحة الطريق لليد الممدودة‬
‫لمصافحة خيرى الذى سنحت له فرصة التقدم حين همد الجميع على مقاعدهم ‪.‬‬

‫عانت الجملة على لسانها عندما وقف امامها ‪ ..‬ماذا تقول لصاحب القامة العنيدة التى التقبل تنازال ‪:‬‬
‫أزيك ياخيرى ؟‬

‫ــ مش كويس ‪ .‬قالها هامسا ‪ .‬تجاوزت عيناه بابتسامة مرتبكة ‪ :‬كل الموجودين حوالينه بقوا كويسين‬
‫والفرحة حتنط من عينيهم ‪ ..‬الزم أحنا كمان نبقى زيهم عشان مايبقاش دمنا تقيل ‪ .‬سحبت يدها من يده‬
‫كى اليطول الكالم بينهما ‪ .‬أتجهت الى مقعد منفرد ‪ ..‬أنشغلت فى تصفح الوجوه عندما جلست ‪ ،‬لم يكن‬
‫ليستطيع أحد تحديد ماتنوى قوله ‪ ،‬وال قياس مدى فرحتها والحقيقة أنفعاالتها ‪ .‬إال أنهم توقعوا منها‬
‫خطبة أنفعالية تلخص فيها رحلة الماضى الكئيب التى لم يبلغها الخيال فى المالحم واألساطير ‪.‬‬

‫بادرت أيات لحثها على الكالم ‪ :‬أنتى النهاردة صاحبة الفرح وكل الموجودين هنا بيباركولك‬
‫قبل مايباركوا لنفسهم ‪ ..‬أنتى تستحقى وسام من كل واحد فينا ‪ ..‬ماحدش فينا يقدر ينسى التمن‬
‫اللى أنتى دفعتيه ومتهيالى مافيش كالم يقدر يوفيكى حقك وع العموم قدر اللـه وماشاء فعل ‪ .‬تحولت‬
‫إليها الرؤوس المتأهبة أنتظارا لكلمتها ‪ ..‬قطعا كلمة استثنائية فى ظرف أستثنائى ‪ .‬أحتشدت األذان‬
‫لسماعها ‪ ،‬بينما ـ هى ـ فى تلك اللحظة كانت تسأل نفسها ‪ :‬ماذا يفيد الكالم ؟ مافائدة أستدعاء القهر‬
‫والمعاناة ؟ العبث داخل مخزون الذاكرة اليفيد ! ‪ ..‬صمتت للحظات ‪ ،‬طال صمتها دون أن تدرى ‪ ،‬منحها‬
‫‪568‬‬
‫الصمت سحرا عجيبا ‪ ،‬كان خيرى أول ضحاياه الذى لم يهدأ عقله عن ترديد السؤال ‪ :‬لماذا الصمت‬
‫فتبدو مثل لغز غامض ؟! ‪.‬‬

‫عندما عادت من صمتها ‪ .‬نطقت بعفوية ‪ :‬أنا فعال تعبت أوى ودفعت تمن غالى زى ماأيات قالت ‪ ..‬لكن‬
‫برضه أنتو كمان دفعتوا التمن زيى ويمكن أكتر ‪ ..‬أتحرمتوا من حاجات كتيرة وماعاشتوش سنكم وال‬
‫حسيتو باالمان وناس كتير مارحمتكمش ‪ ..‬سكتت للحظات كى تنظم أنفاسها ‪ ،‬لتعود بصوت قوى جلى‬
‫النبرات ‪ :‬النهاردة حقكم رجع ‪ ..‬النهاردة كل واحد فينا عوض خسارته ‪ .‬تراجعت عن الجملة األخيرة‬
‫بعد سكتة قصيرة ‪ .‬موضحة ‪ :‬مع أن الفلوس عمرها ماحتعوض خسارة السنين والحترجع اللى مات ‪.‬‬

‫ــ كالمك صح واللـه ياست هدى ‪ .‬عبارة تأييد سجلت بها نعمة موقفها قبل أن تستأنف هدى بوتيرة‬
‫أبطأ ‪ :‬حدوتة الماضى وحق أبوكم اللى أتاخد منه خالص خلصت وراحت لحالها ‪ ..‬أنسو اللى فات كله‬
‫وماحدش يبص ورا ضهره ‪ ..‬كل واحد فيكم يفكر فى مستقبله ويشوف حيعمل أيه وحيبدأ حياته ازاى ‪..‬‬
‫بس ياريت قبل ماتنسوا الماضى وتفكروا فى اللى جاى أبقو أترحموا على نديم ‪ .‬ثم تنهدت وراقبت‬
‫أنعكاس الكالم على الوجوه التى زارها الحزن فجأة وعيناها على أيات التى أدمعت وأختنق صوتها ‪:‬‬
‫الفاتحة على روحه ‪ .‬قراءة الفاتحة التى رددتها األلسنة الخاشعة ظللت المكان برائحة الموت وصورة‬
‫" نديم " حاضرة فى األذهان ‪ ..‬لحظات وصارت كلمة " أمين " تقفز فوق الشفاه تباعا ونزلت معها‬
‫الكفوف التى مسحت الوجوه مع دعاء المغفرة والرحمة للفقيد ‪.‬‬

‫لم تقترف هدى خطيئة الكالم الكثير ومنحت نفسها فضيلة األنصات حين سألت ‪ :‬قولولى بقى كل واحد‬
‫فيكو حيعمل أيه بنصيبه ؟ طرحت سؤالها وهى تقصد به نورا التى كانت تنشد فرصة لترتيب أفكارها ‪.‬‬
‫إال أنها أرغمت على الكالم تحت الحاح من أمها ‪ :‬ماتقولى يانورا فكرتى فى أيه ؟ ‪.‬‬

‫ــ فكرت أشارك مدام زيزيت فى األتيليه ‪ ..‬أذهلتها الجملة التى جعلت حاجبيها مشدودين ألعلى‬
‫تفضحهما الدهشة ‪ :‬أزاى يعنى ؟! سألت وهى تنظر لزيزيت قبل أن تستعيدها نورا ‪ :‬حندور على محل‬
‫كبير فى مكان محترم نعرض فيه شغلنا وإن شاء اللـه حيبقى مكسبنا كبير ‪..‬بنتك دلوقتى لها أسم فى‬
‫السوق ‪ .‬قالتها منتشية حين ألتفتت لشريف الذى أظهر تفاعال ‪ :‬أنا صاحب الفكرة دى ياطنط ومكانى‬
‫محجوز فى المشروع ‪ .‬تسلم يوسف طرف الكالم ‪ :‬كل واحد فينا حيبقى له دور ‪ ..‬مدام زيزيت ونورا‬
‫متخصصين فى األنتاج والعرض وشريف متفرغ الدارة المحل بمساعدة بسمة وأنا حيكون لى األشراف‬

‫‪569‬‬
‫بعدما أخلص شغل المكتب ‪ .‬أدهشها جو التفاهم ‪ .‬قالت بعد أن تحرر لسانها من وقع المفاجأة ‪ :‬أيه‬
‫األخبار الجميلة دى ‪.‬‬

‫ــ ولسه ده فيه خبر كمان أحلى وأجمد خديه بالمرة ‪ ..‬ع الشهر الجاى حنحدد ميعاد الخطوبة عشان‬
‫نخلص من الجوز دول ‪ .‬جاء الخبر على لسان خيرى ليضاف الى بقية األخبار التى ضاعفت من حجم‬
‫ذهولها ‪ ،‬ثم دار بينهما حوار النظرات الذى شق المسافة بين مقعده غرب األنتريه ومقعدها فى الشرق ‪.‬‬
‫أرتفع المشهد اآلن ‪ ،‬أصبح أكثر أثارة حين كشفت نورا النقاب عن تفاصيل مشروعها الكبير ‪ ..‬لم‬
‫تستطع هدى أستيعاب أى شيىء وال فهم مايحدث حولها ‪ ..‬سيل من األسئلة يجرفها دون توقف ‪..‬‬
‫أسئلة العاجز عن الفهم والجاهل ببواطن األمور ‪ :‬أمتى فكروا فى المشروع ده ؟ وأمتى درسوه وأزاى‬
‫كلهم أتفقوا عليه بالسرعة دى ‪ ..‬حاجة غريبة أوى ؟! دقت طبول األحزان فى رأسها حين دارت عليهم‬
‫بنظرة أسى لم تثر أهتمام أيا منهم ‪ ..‬الكل منشغل ومتحمس بشهوة الكالم ‪ ،‬الكل يقول ويقترح ويناقش‬
‫حول تفاصيل المشروع ‪ .‬لم ينتبه أحد لمالمحها التى ظهرت عليها عالمات األحتجاج وهى تحدث نفسها‬
‫وسط صخب األراء وضوضاء األقتراحات ‪ :‬ياه ياهدى ‪ ..‬للدرجة دى مابقاش لكى لزمة فى حياتهم ‪ ..‬ده‬
‫ماحدش فيهم فكر ياخد رأيك فى المشروع اللى حيعملوه والحتى كلفوا خاطرهم يسألونى تحبى تشاركينا‬
‫وال أل ‪ ...‬ياه ع الزمن ‪ .‬قالت الكلمة األخيرة وأستمر صداها يتردد داخلها للحظات ‪ .‬مشروع نورا‬
‫المنتظر ر سخ قناعتها ‪ ..‬المكان لها بينهم ‪ .‬بنظرة جانبية تأملت خيرى الذى كان شاردا فى نجفة‬
‫األنتريه العتيقة ‪ .‬أستعادت مقولته األخيرة ‪ :‬الشهر الجاى حيحددوا ميعاد الخطوبة ‪ .‬تنهدت ثم تابعت ‪:‬‬
‫مين اللى حدد ومين اللى أتفق ‪ ..‬هو أنا مش لسه أمها برضه والهمه نسيوا الحكاية دى ‪ .‬توقفت عن‬
‫طرح األسئلة حين باغتها يوسف ‪ :‬أيه ياماما هو ده وقت سرحان برضه ‪ ..‬مش تسمعينا رأيك فى‬
‫مشروع نورا ؟ أكتفت بهزة رأس ونبرة واهنة ‪ :‬أن شاء اللـه يبقى مشروع ناجح وفتحة خير عليكو ‪.‬‬

‫ــ من الناحية دى أطمنى أوى المشروع اللى يبقى موجود فيه نورا وزيزيت أحط فيه فلوسى وأنا‬
‫مغمضة ‪ .‬كان رأيا حماسيا أليات تفاجأت به هدى ليزيد رصيدها من الدهشات والمفاجأت التى نالتها منذ‬
‫لحظة وصولها ‪ :‬وأنتى كمان معاهم فى المشروع ده ؟ ‪.‬‬

‫ــ طبعا ياهدى ‪ ..‬ده أنا أصال اللى شجعتهم ‪ .‬قبل أن تعود لمتاهتها لحقها خيرى بسؤال ‪ :‬وأنتى‬
‫مشروعك حيبقى أيه ياهدى ؟ ‪.‬‬

‫‪570‬‬
‫ــ أنا ‪ ..‬قالتها بأستهزاء ثم تابعت بأسترخاء ‪ :‬أنا طالعة رحلة شرم الشيخ مع فايزة ‪ ..‬تغيير جو ولما‬
‫أرجع يبقى يحلها الحالل ‪ .‬قالتها متصنعة الالمباالة وبأداء أستفزازى كرد فعل ثأرى على أقصائها ‪.‬‬
‫توقعت هجوما كاسحا ومعارضة قوية أعدت نفسها لرد قاسى ستواجههم به ‪ ..‬خاب ظنها ولم تتلق‬
‫سوى تعليق واحد من نورا التى قطعت حوارها الجانبى مع زيزيت ‪ :‬حتقعدى أد أيه ياماما ؟ قالتها‬
‫وعلى شفتيها أبتسامة مترددة ‪.‬‬

‫ــ يعنى أسبوع عشر تيام بالكتير ‪.‬‬

‫ــ لو أخرك عشر تيام يبقى مافيش مشكلة عشان أحنا وقتنا ضيق أوى ياماما ‪ ..‬المفروض من بكره كلنا‬
‫حنبدأ ندور على محل ودى حاجة مش سهلة يعنى لولقينا محل كويس فى مكان شيك الزم تبقى فلوسنا‬
‫حاضرة ‪ ..‬الفرصة مابتستناش ‪ .‬أرتخت مالمحها كمدا ‪ :‬ماتقلقيش يانورا ‪ ..‬لو ظهرت حاجة كويسة‬
‫أتصلى بى على طول وأنا حآجى أسحب الفلوس ‪ .‬قالتها بأداء من يدرك أن األمر قد حسم ‪ .‬قامت من‬
‫مقعدها متثاقلة وكأنها تحمل ضعف وزنها هما ‪ :‬أنا حأدخل أوضتى أخد شوية حاجات عشان السفر ‪ .‬لم‬
‫ينصت إليها أحد سوى خيرى الذى راقبها بعين فاحصة وهى تتجه لغرفتها بخطوات أمرأة حبلى فى‬
‫شهرها األخير ‪ .‬قطعت المسافة الى الباب بكتفين ساقطين ونظرات منكسة وكأنما تغوص بأقدامها فى‬
‫رمال متحركة ‪ ،‬وأصواتهم المستفزة القادمة من األنتريه تالحقها وكأنها تذكرها بأنها أصبحت األن على‬
‫هامش حياتهم أو ربما خارج حياتهم !! وصلت الى الباب تزامنا مع مقولة زيزيت ‪ :‬لو عرفنا نجيب‬
‫محل دورين متهيألى حيفرق معانا كتير ‪.‬‬

‫ــ تقصدى يعنى كل دور يبقى له األستايل بتاعه ‪.‬‬

‫ــ صح ياشريف ‪ ..‬الدور األول للمحجبات والتانى لفساتين السهرة والعرايس ‪.‬‬

‫ــ ياريت بس تالقو محل حوالينه هنا فى محطة الرمل عشان كل يوم اعدى عليكم ‪.‬‬

‫ــ واللـه تنورينا ياعمتى ويمكن كمان نسميه أيات هانم للموضة ‪ .‬فتحت الباب وصوت ضحكاتهم‬
‫يتدحرج اليها فيجرح ماتبقى لها من كرامة ‪ .‬أوصدته خلفها بعد أن أضاءت النور ‪ ..‬وقفت مكانها ولم‬
‫تتحرك خطوة واحدة ‪ ،‬لحظات من الوقوف المتأمل التكاد تصدق تلك األعراض التى أجتاحتها ‪ ..‬أحساس‬
‫طاغى بالغربة حين جالت بعينيها فى أرجاء الغرفة التى بدت أمامها كبؤرة معتمة فى مكان بارد ‪ .‬بدات‬
‫تشعر ألول مرة أن جسدها اليمثل أمتدادا لشخصها ‪ ،‬وان عقلها قد هجر رأسها وأنفصل عنها ‪ .‬توجهت‬
‫‪571‬‬
‫الى دوالبها وسط سكون تام لم يقطعه سوى صوت ضلفتيه التى فتحتهما عنوة وكأنما فتحت باب ثالجة‬
‫موتى فى مشرحة ‪ ..‬مالبسها مسجاة كأنما تخص أنسانة رحلت عن الدنيا منذ زمن ‪ ..‬سحبت مايلزمها‬
‫من مالبس وغيارات ثم كومتهم فى كيسين ‪ .‬أبت الخروج من الغرفة قبل أن تأخذ فرصتها فى محاولة‬
‫أخيرة منها للم الشمل بينها وبين الغرفة ‪ .‬سارت بالكيسين حتى سريرها التى وقفت أمامه‬
‫تتذكروتسترجع كى تستعيد أنتمائها ‪ .‬لم يزرها موقف ما والحتى طيف ذكرى ‪ ..‬جلست على طرفه‬
‫تحاول ‪ ..‬قضت دقائق صامتة كالتمثال ‪ .‬قالت داخلها أو ربما بصوت مسموع ‪ .‬لم تعرف ‪ :‬ماتكابريش‬
‫ياهدى ‪ ..‬مابقاش ده مكانك وال ده زمنك ‪ ..‬ماعدش حد أصال يهمه وجودك من عدمه ‪ ..‬قومى بقى‬
‫أمشى وخلى عندك دم ‪ .‬قامت بعد فشل المحاولة ‪ .‬عند هذا الخاطر جن جنونها ‪ .‬نقبت فى داخلها عن‬
‫معدنها الصلب ثم تحركت ناحية الباب وهى تردد ‪ :‬زى ماهمه بيخططوا لمستقبلهم وبيفكروا فى‬
‫مصلحتهم من غيرى ‪ ..‬أنا كمان حأفكر فى مستقبلى من غيرهم ‪ .‬فى اللحظات الفارقة التى يكون فيها‬
‫البقاء والرحيل على خط واحد ‪ ،‬يصبح كل شيىء ممكنا ‪.‬‬

‫خرجت من الغرفة تحمل متاعها ‪ ،‬وكما لم ينتبه أحد لدخولها ‪ ،‬لم يشعروا بخروجها ماعدا خيرى الذى‬
‫كان يحرس باب غرفتها بعينيه ‪ .‬تشنجت فى مشيتها عندما ألتفتوا اليها بعد أن سمعوا صوت الكيسين‬
‫اللذان يحتكان فى ساقيها ‪ .‬توقفوا عن الكالم حول المشروع الحلم ‪ ..‬وقفت عند حدود حجرة االنتريه‬
‫ولم تدخل ‪ :‬عايزين منى حاجة ياوالد ‪ .‬من مكانها قالت بسمة من باب المجاملة ‪ :‬أيوه ياعم المهم ‪..‬‬
‫رايح شرم اللـه يسهلك ‪.‬‬

‫ــ حنتابعك بالتليفون ياماما ‪ .‬قالت نورا بلهفة قبل أن يقاطع يوسف‪ :‬أستنى ياماما حأجى أوصلك‬
‫الوقت متأخر ‪.‬‬

‫ــ ال ياحبيبى ماتشغلش بالك ركزوا بس فى الكالم اللى بتقولوه ‪.‬‬

‫ــ ماتقلقيش ياهدى أحنا جروب متفاهم جدا ‪.‬‬

‫ــ واضح يازيزيت ! ‪.‬‬

‫ــ ونبى ماتنسينى ياست هدى فى اللى أتفقنا عليه ‪.‬‬

‫‪572‬‬
‫ــ مش حأنسى يانعمة ‪ ..‬أشوف وشكم بخير ‪ ،‬ثم أولتهم ظهرها وأتجهت الى الصالة قبل أن يتخذ‬
‫خيرى قرارا باللحاق بها حين قاربت على الوصول لباب الشقة ‪ ..‬لحقها عند المتر األخير ‪ :‬مش‬
‫عايزانى أوصلك ياهدى ؟ ‪.‬‬

‫ــ كتر خيرك مالوش لزمة ‪ .‬تعلق بها بنظرة تطل فيها دعوة رجاء ‪ :‬ماتتأخريش فى شرم ‪ ..‬حأستناكى ‪.‬‬
‫هزت رأسها دون أن تقطع وعدا أو تحدد موعدا ‪ .‬همس لها ‪ :‬أنا حأعد األيام لغاية ماترجعى ‪ .‬أغمضت‬
‫عينيها ثم فتحتهما مبتسمة ‪ :‬أنت حتبقى فاضى تعد األيام ؟! ‪.‬‬

‫ــ مافيش ورايا غيرك ‪ .‬قالها وأستعمل نظرته العميقة ‪.‬‬

‫ــ أنت مش معاهم فى المشروع اللى حيعملوه ده ؟ ‪.‬‬

‫ــ أنا ‪ ..‬أنا عندى مشروع أكبر وأهم ‪ ..‬أنتى مشروعى ياهدى ‪ ..‬أنتى معايا بالليل والنهار ‪ ..‬معايا فى‬
‫كل وقت ‪ .‬لم تكن عارية تلك التى تنام فى الذاكرة ‪.‬‬

‫ــ ربنا يعمل اللى فيه الخير ‪.‬‬

‫ــ الخير حييجى لما تفكرى بقلبك ‪ .‬تحدثت اليه فى سرها ‪ :‬ليه عايزنى أفكر بقلبى وكل اللى حواليه‬
‫بيفكروا بعقولهم ؟ لم يتسع أفق السؤال حين حسمت أمرها ‪ :‬ربنا يسهل ‪ ..‬أشوفك على خير ياخيرى ‪.‬‬

‫ــ مع السالمة ياهدى ‪.‬‬

‫كما جاءت فى هدوء رحلت بهدوء ‪ .‬أستقلت المصعد الذى هبط بها ‪ ..‬خرجت منه دون أن تلتفت ‪.‬كانت‬
‫خطوتها سريعة ‪ .‬كل ماتريده فى تلك اللحظة الخروج من البناية ! ‪.‬‬

‫أبطأت خطوتها ونظمت أنفاسها حين أصبح المدخل خلفها ‪ ..‬ألتفتت يمينا بحثا عن تاكسى قادم قبل أن‬
‫يناديها رنين موبايلها من داخل الحقيبة ‪ ،‬فأضطرت للوقوف وطرحت الكيسين أرضا ثم فتحت الحقيبة‬
‫وسحبت الموبايل الذى قربت شاشته لعينيها ‪ :‬أيوه يافايزة ‪.‬‬

‫ــ فيه حد جنبك ؟ سألتها هامسة ‪.‬‬

‫ــ أنا فى الشارع حأركب وآجى ‪.‬‬

‫‪573‬‬
‫ــ بتتكلمى جد ياهدى ‪.‬‬

‫ــ واللـه يابنتى أنا واقفة فى الشارع ‪.‬‬

‫ــ واللـه أنتى جدعة ‪ ..‬عرفتى أزاى تفلتى منهم يابنت الذين ‪ ..‬طبعا كانوا عاملين عليكى حصار مايعلم‬
‫بيه إال ربنا ‪ .‬بدت الفرحة طاغية فى صوتها ‪.‬‬

‫ــ دول كانوا حيموتوا نفسهم علي ‪ ..‬كانوا عايزين يحبسونى فى األوضة عشان ماخرجش ‪ .‬أنهت‬
‫جملتها وتحولت أبتسامتها الساخرة الى ضحكة ثم الى قهقهة عالية لم تراع فيها حرمة الطريق ‪..‬‬
‫ضحك لم تفلح فى كتمه أو ترويضه ‪ ..‬ضحك أنفعالى اليمت للضحك بصلة ‪ ,.‬أستعادت توازنها عندما‬
‫أنتبهت لصوت فايزة الذى يناديها ‪ :‬فى أيه ياهدى ‪ ..‬أيه اللى موتك من الضحك كده ‪.‬‬

‫ــ بأضحك على نفسى يافايزة ‪ ..‬أقفلى دلوقتى أنا جاية ‪ .‬أنهت المكالمة بسرعة قبل أن يغلبها البكاء ‪.‬‬

‫أغلقت موبايلها وهى فى أعلى مراتب الخجل حين شعرت بأنها قد أصبحت هدفا لكل النظرات المارة‬
‫بجوارها ‪.‬‬

‫فى تلك اللحظات بدأت رايات الرحيل تعلن عن نفسها ‪ .‬المشهد فى غرفة فايزة وصل لذروته انتظارا‬
‫للحظة وصول هدى لتضع نهاية لفيلم " الرحيل " حقيبتان ممددتان على أرضية الغرفة حشرت فيهما‬
‫فايزة مايزيد عن حاجة أسرة مكونة من ستة أفراد ‪،‬مالبس وغيارات وكل مايلزم لالستعمال الشخصى‬
‫وكأنها بصدد رحلة ذهاب بال عودة ‪ ،‬لم تترك شيىء من أشيائها اال واخذت منه عينة ‪ ..‬تذكرت كل‬
‫المنسيات ودفنتها داخل الحقيبة الكبيرة التى أنتفخ جلدها ‪ .‬لم تستقر فى مكان لخمس دقائق ‪ ،‬كلما‬
‫تذكرت شيئا قامت اليه وأتت به ‪.‬‬

‫األن أصبح كل شيىء معدا وجاهزا للسفر بعد أن تممت على صدرها الذى ينام أسفل فردته الشمال"‬
‫باكو " من فئة الـ "‪ "200‬جنيه ‪ ..‬أطمأنت على وضعيته بعد أن أحكمت سيطرتها عليه بـ "سونتيانة "‬
‫أصغر من مقاس صدرها بنمرتين ‪ ..‬ثم أنفرطت بجسدها على السرير بال حيلة أنتظارا لعودة الغائب ‪.‬‬

‫بعد ساعة من األنتظار أستقبلتها عند رأس السلم بموشح ‪ :‬ده أنتى لو جاية مشى كان زمانك وصلتى‬
‫من بدرى ‪ .‬قطع النهيج كلماتها ‪ :‬ماسورة مية ضربت والطريق كله واقف ‪ .‬سحبتها كالمخطوفة‬
‫للداخل ‪ :‬أنا جهزت كل حاجة وقفلت الشنط ‪ .‬ثم أضافت حين نظرت للكيسين ‪ :‬الشنطة الصغيرة فيها‬
‫‪574‬‬
‫مكان ‪ ..‬ثم اتجهتا للغرفة ‪ .‬عاينت هدى الحقيبة الصغيرة عندما فتحتها مدهوشة ‪ :‬أيه الشباشب‬
‫دى كلها ؟‬

‫ــ عشان نغير فيهم ‪.‬‬

‫ــ نغير أيه بس يافايزة ‪ ..‬أنتى فاكرة نفسك رايحة األرياف ‪ .‬ثم رمت بأربع أزواج خارج الحقيبة‬
‫ووضعت الكيسين تزامنا مع استفسار من فايزة التى وقفت فوق رأسها ‪ :‬أيه حكاية الصهللة والضحك‬
‫اللى كانوا راكبينك وأنا بأكلمك ؟ أكملت قبل أن تجيبها ‪ :‬ماتقوليش دلوقتى لما نركب أبقى أحكيلى فى‬
‫الطريق ‪ .‬جرت فايزة الحقيبتين حتى الصالة ثم وقفت لتلتقط أنفاسها قبل أن ترفع عينيها لساعة الحائط‬
‫التى أعلنت دقاتها الثانية عشرة ‪ .‬حثت هدى التى تترنح بالحقيبة الصغيرة قادمة من الطرقة ‪ :‬شدى‬
‫حيلك شوية قبل ماحد يطب علينا ‪.‬‬

‫الفصل األخــير‬

‫هوت الحارة فى قبضة الظالم ‪ ..‬سارتا جنبا إلى جنب تزحفا بثقل الحقائب ‪ ..‬تمشى فايزة وسط العتمة ‪،‬‬
‫تحفظ تضاريس األرض ومطباتها ‪ ،‬تمشى كأنما لقدميها عيون ‪ ..‬بينما تسير هدى بالحقيبة الصغيرة‬
‫بحذر خشية الوقوع ‪ .‬خرجتا من الحارة تحتضن كل منهما حقيبة ‪ ..‬أجتازتا حارة بعد حارة يسترهما‬
‫الليل كالهاربتين من معتقل ‪ .‬كومت فايزة الحقيبتين فوق بعضهما ووقفت الى جوارهما عندما وصلتا‬
‫للشارع العمومى بينما أنسابت نظرات هدى إلى السيارات القادمة من أول الطريق ‪ .‬نصف ساعة‬
‫بعد منتصف الليل قبل أن يظهر تاكسي قادما من عند دوران الترام ‪ ..‬تهادى أمامهما حين أقترب ‪.‬‬
‫أشارت له ‪ :‬الموقف ‪ ..‬تفحصهما بعناية وكأنه سيشترى واحدة منهما ‪ :‬تعالوا ‪ ..‬سحبت هدى الحقيبة‬
‫الصغيرة ودخلت بها إلى ركن المقعد بينما أنقضت فايزة على األخرى ومارست معها هواية رفع‬
‫األثقال ‪ ..‬رفعة خطف ناجحة من األرض الى شبكة السيارة ثم دلفت إلى داخل التاكسى بعدما أفسحت لها‬
‫هدى مكانا ‪ ..‬حدق فيهما السائق بنظرات صريحة قبل أن يمد ذراعه الطويلة إلى الكاسيت ‪ :‬تحبو‬
‫تسمعوا أيه ؟ قالها بنبرة حشاش أو مبرشم ‪.‬‬

‫ــ كتر خيرك ياخويا ‪ ..‬لو عندك شريط قرأن يكون أحسن عشان أحنا عندنا حالة وفاة ‪.‬‬

‫ــ وفاة ‪ ..‬البركة فيكى ياختى ‪ .‬ساءت مالمحه وقاد صامتا ‪.‬‬

‫‪575‬‬
‫ألتصقتا ببعضهما كبقايا أمراتان ‪ .‬وازدحما داخلهما بالخوف ‪ ،‬والظلمة تحاصرهما حين غابت السيارة‬
‫فى ظلمة الليل حتى أبتلعهما الطريق الذى يمتد أمامهما بال معنى تقطعه عالمات المرور الباهتة‬
‫واألشارات المطفأة ‪ .‬مرالسائق بسحنته المريبة بكل الشوارع التى عالها االصمت يبنما تتعرف هدى‬
‫بنظراتها المضطربة على من بيده عجلة القيادة والمسئول عن كل الطرق التى يسلكها فى العتمة ‪..‬‬
‫قرأت الصمد ثالث وهى تتشبث بذراع فايزة بينما عيونهما ملتصقة بارض الطريق الذى يرقد ويمتد‬
‫حتى انقطاعه بعد نصف ساعة أمام بوابة الموقف الذى أجتازها ‪ ..‬كان الليل باردا عندما هبطتا فوق‬
‫أسفلت الموقف بعد أن ودعهما السائق بنظرة أرف ‪ ..‬تجران الحقيبتان اللتان زاد وزنهما بفعل التعب ‪..‬‬
‫بدا المكان هادئا يتخلله أصوات السائقين الخشنة ومرارة وقف الحال التخطأها العين ‪ ..‬سيارات‬
‫الميكروباص تقف متراصة خاوية فى مربعات عليها الفتات تشير إلى أسماء المحافظات ‪ .‬توجه إليهما‬
‫شاب التختلف سحنته عن سحنة السائق ‪ :‬شيال يامدام ‪.‬‬

‫ــ هو فين موقف السوبرجيت ؟ ‪ .‬أقتحم الحقيبتان دون استئذان ‪ :‬عنك ياست ‪ .‬رفعهما وهو يضغط‬
‫على الكالم بفعل الثقل ‪ :‬رايحين الكاهرة ‪.‬‬

‫ــ مسافرين شرم فى أتوبيس الساعة اتنين ‪.‬‬

‫ــ تعالــواورايا ‪ .‬سارتا خلفه يتبعانه فى خط متعرج وهويتطوح امامهما ‪ ..‬سبع دقائق قضاهـــا الموكب‬
‫الجنائزى حتى الح لهم موقف األتوبيس الذى كان ينبض بالحياة حيث بعض الزحام والجمهرة ‪ .‬أنزل‬
‫حمولته ثم وقف يلتقط أنفاسه قبل أن يستدير ‪ :‬تمام كده ياست ‪.‬‬

‫ــ اللـه ينورياخويا ‪ .‬قالتها مشفوعة بعشرة جنيهات دستها فى يده فأبتسم ‪ :‬طلعى التذاكر بتاعتك عشان‬
‫السواق يحطلك الشنط فى مخزن األتوبيس ‪ .‬سألته هدى بوجه يحمل دهشة ‪ :‬أحنا لسه حنجيب تذاكر ‪.‬‬
‫القاها بوجه مقتضب ‪ :‬هوأنتومش حاجزين ‪.‬‬

‫ــ أل ‪ ..‬قالت فايزة ‪.‬‬

‫ــ طب بسرعة ياماعلى شباك التذاكروانتى وحظك بقى ‪.‬‬

‫ــ الونبى أعمل معروف ‪ .‬تسلل القلق الى هدى التىصرخت ‪ :‬طب والحل ايه؟ ‪.‬‬

‫‪576‬‬
‫ــ ماتقلقيش يامدام ‪ ..‬تعالوامعاياوانا حاتصرف بس التسعيرة حتزيد شوية ‪.‬‬

‫ــ ماتشغلش بالك ياخويا ‪ .‬طمانته فايزة بجملتها ونظرت لهدى ‪ :‬خليكى أنتى هنا جنب الشنط وأنا‬
‫حأروح معاه ‪ .‬أنصاعت األخيرة والتزمت بحراسة الشنط تزامنا مع تفحص الوجوه المسافرة على الرغم‬
‫من قلة عددهم فى تلك الساعة ‪ ..‬أستغرق األمرمنها عشردقائق قبل أن تلتقطها عينى هدى التى دققت‬
‫فيها كلما أقتربت ‪ ..‬هدأت مالمحها حين الحت لها يدها المطبقة على تذكرتين ‪ ،‬لوحت بهما حين ضاقت‬
‫المسافة بينهما ‪.‬‬

‫عند الثانية إال الثلث أختلف المشهد أمام األتوبيس ‪ ..‬تكدس الركاب عند باب الصعود وامام مخزن‬
‫الحقائب الذى أمتأل عن أخره ‪ ..‬صعدت هدى وفايزة مع الصاعدين ‪ ..‬أتخذتا موقعيهما فى الوسط‬
‫حسب أرشادات منظم الرحلة ‪.‬‬

‫انطلق االتوبيس فى الثانية إالربع وسط سكون تام وهدوءمريب بدا منسجما مع الليل الكئيب ‪ ..‬من‬
‫شباك االتوبيس ‪ ،‬كانت هدى تطل على الظالم ‪ ،‬تتأهب للمجهول كعادتها وتطمئن من خالل الضوء‬
‫الخافت المنبعث من كشافات صغيرة فى السقف على مالمح فايزة التى تمدها بالثقة بينما تحول الطريق‬
‫فى عينيها إلى كتلة من الظالم ‪ ،‬والصمت يلفهما مثل نعش يطوف بالذكريات قبل الرحيل ‪.‬‬

‫تخطت هدى وفايزة الساعة االولى داخل االتوبيس فى هدوء تام وعبارات قصيرة التزيد عن ‪ :‬السوبر‬
‫جيت ده مريح أوى ‪.‬‬

‫ــ مش االتوبيس اللى مريح دول الركاب همه اللى محترمين ‪ ..‬مافيش دوشة والصوت عالى ‪.‬‬

‫ــ دوشة أيه بس ياهدى ده كل اللى فى االتوبيس نايمين ‪ .‬كان ردها منطقى ‪ ..‬معظم الركاب نائمين‬
‫والبقية شبه مخدرين ‪ .‬االضاءة الخافتة وسواد الليل فى الخارج جعل الجميع يسترخى فى سكون ماعدا‬
‫هدى التى كانت تصدر عنها انات مكتومة على فترات متقطعة تنبىء عن بدايات مغص الزال فى مرحلة‬
‫التشكل ‪ ،‬حرصت على احتواءه كى التقلق فايزة ‪.‬‬

‫مع نهايات الساعة الثانية الزالت الصحراء مشهدا ثابتا يأبى االنتهاء ‪..‬‬

‫بدأت هدى تحس بمرارة فى لسانها ‪ ،‬واعراض تقبؤ فى الحلق تزاولها مع النصف االخير من الساعة‬
‫الثالثة حين عبر االتوبيس مشارف القاهرة ‪ ..‬التريد االستسالم للمغص المتنامى ‪ ،‬الزالت تمتلك قدرة‬
‫‪577‬‬
‫المقاومة ‪ ..‬بزغ الفجر فجأة متفلتا من قيد الظالم فاردا نوره فى استحياء على أسفلت الطريق مع دقات‬
‫الخامسة وتزامنا مع انحراف السائق ناحية اليمين ماسكا الطريق الدائرى من بدايته مستقبال ضوء‬
‫النهار بعينين متشنجتين ‪.‬‬

‫أستقرت هدى برأسها على كتف فايزة تتلوى تحت وطأة الوجع وااللم بينما االخيرة بدت بال حيلة‬
‫والتملك من مفردات الكالم سوى سؤالين غلبا عليهما التوتر ‪ :‬ياجماعة مافيش حد معاه حاجة‬
‫للمغص ؟ أكتفى الجميع بالصمت وبنظرات موروبة ‪ ،‬فأعادت صياغة السؤال ‪ :‬طب فاضل أد أيه‬
‫على االستراحة ؟ سألت بصوت منفعل ومرت على الوجوه بعيون متوعدة ‪ ..‬تطوع شاب فى الصف‬
‫المجاور ‪ :‬هانت ‪ ..‬بعد ما حنعدى مدخل مدينة السالم حنبدأ فى طريق السويس وان شاء اللـه قبل‬
‫النفق حنرتاح فى الريست ‪ ..‬هى المدام تعبانة أوى ؟ قالها حين أنحنى برأسه يطالع وجه هدى الملتصق‬
‫بكتف فايزة ‪.‬‬

‫ــ أيوه ياخويا تعبانة أوى المغص عمال ياكل فيها ‪ .‬هز راسه مبديا بعض التأثر قبل أن يعود لشاشة‬
‫موبايله التى يعبث بها‪.‬‬

‫بال رحمة أكمل االتوبيس طريقه مندفعا نحو هدفه غير آبه بأالم هدى التى اخترقت دفاعاتها وباتت على‬
‫وشك التسليم وأقتربت بشدة من الجهر بصرخات االلم ‪ ،‬فى حين جمعت فايزة فزعها وتماسكت ‪ :‬معلش‬
‫ياحبيبتى أتحملى شوية الجدع اللى جنبينا بيقول خالص هانت ‪.‬‬

‫بعد ساعة وربع أدارت هدى وجهها الشاحب للنافذة تاركة لحم فايزة ‪ ..‬أضطربت أنفاسها وهى تبحث‬
‫بعينيها المجهدة عن أى مظهر للحياة وسط الصحراء ‪ ..‬سبقت نظرتها سرعة االتوبيس بحثا عن لقطة‬
‫تلهيها قبل أن تسحبها ثانية حين ذكرها المغص بوجوده ‪ ..‬أخذت تئن ‪ ..‬دفنت وجهها فى كفيها وهى‬
‫تطحن الكلمات ‪ :‬يارب قوينى ‪ ..‬لم يكن صوتها من القوة ليصل الى فايزة التى أنشغلت بمتابعة تلك‬
‫البقعة التى أقترب منها االتوبيس متمهال ‪ ..‬أستجاب االلم لكلمات فايزة حين بشرتها ‪ :‬آهو داخلين‬
‫ع الريست ‪.‬‬

‫تحركت العيون كما تحركت االبدان التى تيبست فى مقاعدها استعدادا للنهوض حين يكف السائق‬
‫وينتهى ‪ ..‬لحظات ورفع السائق يديه وقدميه ‪ ..‬توقف االتوبيس اخيرا وترنح الركاب فى الممر‬
‫متجهين الى ال باب فى طابور غير مستقر فى وقفته ‪..‬خذلتهم عضالت الظهر والساقين ! ‪ ..‬كتمت هدى‬
‫‪578‬‬
‫انفاسها وضغطت بكفها على بطنها حين جاء دورها فى النزول متعمدة تأجيل اجابتها عن سؤال حائر‬
‫طرحته فايزة التى تسندها من ظهرها ‪ :‬مش ممكن تكون اكلة حواوشى هى اللى عملت فيكى كل ده ‪..‬‬
‫ما أنا طافحة معاكى ‪ .‬طرحت استغرابها حين وطأت قدميهما أرض الريست الموعودة ‪ ..‬خطوات قليلة‬
‫ثم تلقت فايزة اشارة من النادل الذى يقف عند مدخل الكافيتريا مشيرا لها لمكان التواليت حين سألته ‪..‬‬
‫بينما هدى تسيربأنحناءة منوهة عن سبب محتمل الوجاعها ‪ :‬تقريبا الدورة هى اللى مبهدالنى كده ‪..‬‬
‫أتأخرت أسبوعين عن ميعادها ‪ .‬بدا سببا وجيها لفايزة التى فتحت باب التواليت ‪ :‬اللـه يرحم أيام السجن‬
‫عمرك ماشتكيتى من الدورة دى أبدا والفى مرة سمعتك قلتى آه ياضهرى وال آه يابطنى وكانت تجيلك‬
‫فى ميعادها زى الجزمة ‪.‬‬

‫ــ السن بقى يافايزة ‪ ..‬باين عليها بتودعنى !! ‪.‬‬

‫لعب الشاى بالنعناع دورا مؤثرا بمساعدة برشامتين فى تسكين آالمها كما اوصى بهما الجرسون‬
‫ممتدحا مفعولهما السريع وقد كان ‪ ..‬أربعون دقيقة فى الريست تزود خاللها الركاب بالزادو والزواد‬
‫بينما أكتفت فايزة بالشاى وزجاجة مياه معدنية ‪ ..‬صعد الجميع االتوبيس وهم أحسن حاال ‪.‬‬

‫بعد مرور ساعة تالشى النشاط وأختبأ داخل االبدان المتكاسلة التى التحرك ساكنا اال من بعض الرقاب‬
‫المدالة على الصدور التى تترنح مع تعاريج الطريق قبل أن تعاود فقرات العنق شدهاماتها والعيون‬
‫الناعسة تستعيد فجأة نشاطها رويدا رويدا وبدأت االلسنة تمارس وظيفتها حين أقتحم االتوبيس الطريق‬
‫الوسطانى المؤدى لنويبع‪ ..‬قاومت هدى مزاجها الموجوع حين طالعت منظر الجبال المهيب وقممه‬
‫الالمعة التى ظلت تتابعها وتصعد اليها بعينى مرهقة وبأفكار مشتتة تجرفها الى حجم الكون وضخامته‬
‫وعن قدرات صاحب تلك العجائب ومدى سيطرته على ملكه ‪ ..‬ماهذه القوة القاهرة الجبارة التى تتحكم‬
‫فى كل هذا وال تأخذه سنة والنوم واليفوته من أمر ملكه شيىء حتى لو كان ذلك المغص الذى يتالعب‬
‫فى بطنها ‪ ..‬سحبت نفسا ممتدا بطول أنبهارها ثم أخرجته حين أبتعدت عن أفكارها وأسئلتها ممزوجة‬
‫ببعض الكلمات ‪ :‬سبحان اللـه العظيم ‪ ..‬كررتها عدة مرات بينما تخاذل المغص وتراجع عن موقفه‬
‫العنيد أمام سطوة المشاهد الجبارة ‪ ،‬فى حين سجلت فايزة موقفا ناقما وهى تطارد صور الطبيعة‬
‫عبر النافذة ينم عن أحساسها بمدى عمق اللحظة ‪ :‬يخربيت أم اللى معاه فلوس ومايمتعش نفسه‬
‫بالجمال ده ‪..‬‬

‫‪579‬‬
‫مر األتوبيس على كمين الجيش قبل الدخول إلى منطقة ( عيون موسى ) وسط دعوات متفرقة ‪ :‬ربنا‬
‫يحميهم ويثبتهم فى مكانهم ‪.‬‬

‫ــ آمين يارب ‪ ..‬قالتها هدى بعفوية ‪.‬‬

‫مضى الوقت كما مضى الطريق الذى بدا وكأنه بال نهاية ‪ ..‬شعور جارف يغمرك أن مدينة شرم الشيخ‬
‫تقع فى أخر العالم ‪ .‬أحساس يصيبك لو كانت هى الزيارة األولى ‪ ..‬ترجمت فايزة تلك المشاعر حسب‬
‫مقاس عقلها ‪ :‬دى مصر كبيرة آوى يابت ياهدى ‪ ..‬ده الطريق مالوش نهايه ياختى ‪ ..‬كان أنطباعها‬
‫نابعا من طول المسافات التى تفصل بين المناطق التى بها شبه حياة مثل رأس سدر ثم حمامات فرعون‬
‫التى تحيطها منحنيات شديدة وقاسية وخطرة ثم منطقة أبو زنيمة ومنها الى مفرق سانت كاترين التى‬
‫يليها مدينة الطور ثم آخيرا الجائزة الكبرى ‪ ..‬نهاية العالم ( شرم الشيخ ) ‪.‬‬

‫عندما تهادى األتوبيس إلى داخل الموقف متجها إلى مثواه األخير حيث البقعة المخصصة‬
‫لـ " سوبر جيت " ‪ ..‬جمل التهنئة على الشفاه حين جثم األتوبيس فى مكانه ‪ :‬حمد اللـه ع السالمة ‪..‬‬
‫نورتو شرم ‪ .‬نظرات شاردة وصمت مطبق ‪ ،‬هما كل ما أبدته هدى بينما فايزة تراقب الركاب الذين‬
‫اصطفوا أمام باب األتوبيس منتظرين دورهم فى الخروج ‪ ..‬لم تبرحا مكانهما إال مع نزول أخر راكب ‪..‬‬
‫كانت هدى قد وصل بها االلم إلى ذروته ‪ ..‬تتأوه وهى تتشبث بذراع فايزة ‪ ..‬نزلت من األتوبيس بعذاب‬
‫مضاف يغذيه لحم فايزة الذى يرتج ويحرك داخلها المغص حين تسندها لتهبط الدرجتين إلى األسفلت ‪..‬‬
‫بضع خطوات ولم تستطع هدى بعدها الحركة ‪ ،‬تسمرت مكانها وبجانبها الحقيبتين بينما فايزة كان‬
‫حزنها طاغيا إلى حد أنها لم تكن تعرف ماذا تفعل حين مر بها رجل متوتر تحيط به أمرأتان ‪ :‬المدام‬
‫تعبانة والحاجة ؟ ‪.‬‬

‫ــ مش عارفة أيه اللى حصلها بقالها كام ساعة بتشتكى من مغص ومش قادرة تفرد طولها ‪ .‬لم يكن‬
‫لديه أجابة محددة حين تفحص هدى بعينيه شأنه شأن المرأتان ‪ ..‬لم تصبر عليهم فايزة تحت ضغط أنين‬
‫رفيقتها التى تقلصت عينيها المشحونة بالوجع تراقب المشهد ‪ :‬لو معاك عربية ياخويا ياريت توصلنا‬
‫أقرب مستشفى والعيادة وال أى حاجة تغيتنا ‪.‬‬

‫ــ طب أستنونى لحظة أنا راكن العربية هنا ‪ .‬بدا شهما حين فر من أمامهما ناحية سيارة " ‪" B.M.W‬‬
‫تاركا المرأتان برفقة فايزة وهدى التى تقوست على نفسها ضاغطة بيدها على بطنها عندما انحنت‬
‫‪580‬‬
‫تدخل السيارة حين توقف بها الرجل أمامها ‪ ..‬ركبت فايزة فى المقعد الخلفى قبل ان تضع الحقيبتين فى‬
‫شنطة السيارة بمجهود فردى بينما تجاوز الرجل سحنتها مشيرا للمرأتان ‪ :‬أستنونى هنا فى عيادة‬
‫قريبة فى أول الطريق ‪ .‬أنصاعتا ورحل الرجل بالمريضة وفايزة التى لم ينقطع لسانها عن ترديد الدعاء‬
‫له والثناء على شهامته ‪ ..‬تأملها للحظات عبر المرأة قبل ان تنفلت منه نظرة تحمل ريبة من هيئة‬
‫فايزة ‪ :‬ياستى خالص ‪ ..‬الشكر على واجب الحكاية مش مستاهلة ‪ .‬لم تستغرق الرحلة سوى سبع‬
‫دقائق ‪ ..‬أمام بيت من دورين توقف بالسيارة واشار لهما الى تلك الالفتة المعلقة على الشرفة فى الدور‬
‫االول " دكتور يونان عبد المسيح ‪ ..‬أخصائى أمراض باطنة " ‪.‬‬

‫ــ أى خدمة تانية ياهوانم ‪ .‬قالها حين هبطتا من السيارة ‪ .‬فبادرت فايزة ‪ :‬معلش كمل جميلك وساعدنى‬
‫بس أنزل الشنطتين ‪ .‬ساعدها بضيق ثم انطلق قبل ان ينصت الى طقطوقة المديح والشكر ‪.‬‬

‫تركت فايزة الحقيبتين فى حماية رجل سبعينى يقطن الدور االرضى بعد أن أخبرها بوجود الطبيب فى‬
‫عيادته التى التبعد سوى سبع درجات اضافية صعدتها هدى بصعوبة وهى تتحامل على نفسها قبل أن‬
‫تسبقها فايزة الى داخل العيادة التى التحمل أى دليال عن وجود عالقة من اى نوع بمهنة الطب ‪..‬‬
‫بصوت جهورى نادت ‪ :‬مافيش حد هنا وال أيه ؟ لحظات وخرج رجل قصير القامة يرتدى قميص ابيض‬
‫ومالمح مهدمة ‪ ،‬يبدو مصابا بمرض السكر ‪ ..‬تفحصها عاقدا حاجبيه قبل أن تنفرج أساريره حين دخلت‬
‫هدى بأوجاعها ‪ :‬أى خدمه يا مدام ؟ ‪.‬‬

‫ــ حضرتك الدكتور يونان ؟ ‪.‬‬

‫ــ أشارت فايزى بيدها إلى هدى دون أن تنطق ‪ ..‬تحرك إليها ‪ :‬أتفضلو جوه فى أوضة الكشف ‪.‬‬

‫سحبتها فايزة ودخلت بها قبل أن توجهها ناحية " البرفان " الذى يختفى خلفه سرير جلدى ‪.‬أغمضت‬
‫عينيها متألمة حين صعدت عليه ‪ ..‬تمددت وهى تمسك بيد فايزة ‪ .‬شعرت بخوف شديد قبل أن يتضاعف‬
‫حين دخل الطبيب ‪ ..‬تأمل الوجه المتألم قبل أن يسأل ‪ :‬خير يامدام ؟ أنابت فايزة ‪ :‬بقالها كام ساعة‬
‫بتتلوى من المغص ورجعت مرتين ‪ ..‬مش بيده فوق بطنها العارية بعد ان اصدره اوامره لفايزة برفع‬
‫البلوزة ألعلى ‪ ..‬ضغط بأصبعيه تحت الـ " صرة " وعلى الجانبين ‪ :‬فى وجع هنا ‪.‬‬

‫ــ أل ‪ ..‬سحب قفازا كان موجودا بجانب السرير ‪ ..‬حشر يده داخله ‪ ..‬سكتت فايزة فى تلك اللحظة عن‬
‫سرد االعراض التى ظهرت على صديقتها حين اصدر الطبيب فرمان أخر ‪ :‬نزلى االندر لو سمحتى ‪.‬‬
‫‪581‬‬
‫أكتفت فايزة بالتنفيذ ‪ ..‬سحبته من تحت الغطاء التى دثرت به هدى ‪ ..‬يبدو أن الطبيب يعمل منفردا بدون‬
‫ممرضة ‪.‬‬

‫عبث بأصبعيه داخلها ‪ ،‬لم يتوقف اال حين صرخت ‪ :‬آه ‪ ..‬سحبهما ‪ ..‬يتابع مالمحها التى تألمت ‪ :‬ألبسى‬
‫هدومك ‪ .‬قالها بهدوء بينما تابعته فايزة ‪ :‬خير يادكتور ؟ ‪.‬‬

‫ــ كل خير ان شاء اللـه ‪ .‬جلس على مكتبه وسط حصار من نظرات فايزة التى تنتظر فهما ‪ .‬رفع رأسه‬
‫تزامنا مع وصول هدى الى الكرسى المواجه لمكتبه ‪.‬‬

‫ــ أنتى عندك كام سنة ‪ .‬زاد شحوب بشرتها وهى تستطلع تقاطيع وجهه المنقبضة ‪ ..‬تبعثر صوتها ‪:‬‬
‫يعنى عديت الخمسة وأربعين ‪ .‬هز رأسه ثم سأل ‪ :‬أنتى جاية منين بالظبط ؟ ‪.‬‬

‫ــ من أسكندرية ‪.‬‬

‫ــ ياه ‪ ..‬مسافة طويلة جدا ‪ .‬أرتعدت من شكل األسئلة ومن نبرة تعليقه ‪ :‬فى حاجة عندى يادكتور ؟ ‪.‬‬

‫ــ أل أبدا أنتى زى الفل ‪ ..‬بس المشكلة دايما أن الحمل فى السن الكبير بيبقى محتاج راحة وحرص‬
‫زيادة عن اللزوم ‪ .‬توقفت الدماء عن الجريان فى الجسد المذهول الذى غاب عن الوعى كما توقفت‬
‫عينى فايزة فى وجه الطبيب ‪ :‬أيه اللى بتقوله ده يادكتور ؟ بأعصاب باردة ‪ :‬اللى سمعتيه ‪ ..‬الست‬
‫حامل ‪ ..‬أيه الغريب فى كده ؟! ‪ .‬أغمضت هدى عينيها ببطء وكأنها تحت تأثير مخدر ‪ ..‬طعنها الطبيب‬
‫بكلماته ‪ ،‬فسقط فيها ماسقط ‪ ..‬جنحت برأسها ناحية كتفها وكأنما تهوى ‪ ..‬تحولت إلى كائن محنط ‪..‬‬
‫لكنه يتنفس ! نظرت لها فايزة تبحث عن وجهها تحت مالمحها المصدومة ‪ ..‬رمشت هدى قبل أن تغلق‬
‫جفنيها اللتان مرا من بينهما طابور فى أوله يوسف ونورا وبسمة وأيات ومن خلفهم بمسافة يتهادى‬
‫خيرى بخطوات خجولة ‪ ..‬أطبقت عينيها على الطابور ‪ ،‬فأعتصرته دموعا وندما ‪ ..‬فتحت عينيها على‬
‫أصابع الطبيب التى تلدغها فى خدها ‪ :‬أنتى رحتى لغاية فين يامدام ‪ ..‬الفرحة حتخليكى تتوهى وال أيه ؟‬

‫ــ الفرحة ‪ ..‬ونبى أنت دكتور طيب ‪ .‬قالتها فايزة وهى تتابعه وهو يكتب الروشتة وسط صمت تام‬
‫وكأنه يكتب شهادة وفاة ‪ ..‬ثم مدها لهدى التى لم تكن موجودة سوى بجسدها ‪ ..‬تسلمتها فايزة نيابة‬
‫عنها وهى تهز رأسها بااليجاب حين تلقت منه مجموعة من التحذيرات التى يجب على المرأة الحامل‬
‫أتباعها‪.‬‬

‫‪582‬‬
‫قامت فايزة بعد أن تركت بين يدى الطبيب ورقة بمائة جنيه ثم تبعتها هدى وقوفا بعد أن لكزتها ‪ ..‬جرت‬
‫قدميها إلى خارج حجرة الكشف وهى تتحسس بطنها قبل أن تنزلق بعينيها تتأمل مكان الكارثة ‪ ..‬نظرة‬
‫غريبة ذاهلة ‪ ،‬بل نظرة حادة تأنيبية ‪ ..‬تعاملت مع ذلك الجزء من جسدها على أنه وغد خائن ‪ ..‬لم‬
‫يحفظ سرها ؟ ‪ ..‬تآمر عليها ولم يرحم ضعفها وأحتفظ لها بدليل أدانتها والذى سيعلن عن نفسه خالل‬
‫عدة أسابيع ‪ ..‬ما العمل ؟ سؤال كالسيف ‪ ..‬أجابته متعددة ومعقدة ‪ ،‬إال أنه فى كل األحوال سيقلب‬
‫حياتها رأسا على عقب ‪ ..‬األن عليها األختيار ‪ ..‬األن عليها تحديد فى أى أتجاه ستسير ؟ ‪.‬‬

‫لم تشعر هدى بنفسها إال وهى خارج المبنى وعينى فايزة تدور فى وجهها والتى تحاول لجم سؤال‬
‫يتصاعد فى عقلها ‪ :‬حتعملى أيه ياهدى ؟ ‪.‬‬

‫ــ مش عارفة ؟! قالتها بال وعى ‪.‬‬

‫إلــى اللقاء فى الجزء الثانى‬

‫احمد ابراهيم‬
‫××××××××‬

‫‪583‬‬
584

You might also like