كيف يرى المثقفون واقع الأغنية وتاريخها؟

ثقافة وفن
  • 10-03-2022, 08:28
+A -A

 استطلاع: صلاح حسن السيلاوي 
ذاكرة تتمشى في شرايين الأعمار، وحيوات كثيرة مزدحمة بأصوات القصب وطيور الأهوار وحفيف الأشجار وخرير السواقي العذبة، ذاكرة لا تختزن صور السعادات فقط، بل تحمل أسرار الحزن المتراكم بين سطور ألحانها وأطوارها ومقاماتها، تلك السطور التي تطل بين جملها الموسيقية قعقعة السيوف ودخان الحروب ونعيُ الأمهات وثيابُ الأيام السود.

ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
إنّها الأغاني التي يمكنها أن تفصح عن كثير من أسرار الحياة الثقافية، وتعبر عن مكنونات الذات الإنسانية بوضوح، عنها وعن مستواها الثقافي الحالي، سألتُ بعضَ المبدعين العراقيين ما يلي: ما أهم الأغنيات التي أثرت في المثقفين؟ ولماذا؟ أتتفق معي بأن الأغنية في بلادنا نشأت مرتكزة على الإرث الشعري والفكري والموسيقي وأن المرحلة الحالية تشهد شذوذا عن تلك القاعدة؟، بِمَ تتميز الأغنية العراقية عن غيرها
برأيك؟. 
 
تجارب الشعوب وتطلعاتها
الشاعر عمر الدليمي أشار بإجابته إلى ما تمثله الأغاني من تجارب الشعوب وتطلعاتها، لافتا إلى أنها تعد ركنا من أركان ثقافتها بالاتساق مع الأحداث التي مرت على تلك الشعوب كما أنها تعبر عن وجدانها وعواطفها. مبيناً أن الأغنية العراقية وبالنظر لعمق تاريخ وحضارة بلاد ما بين النهرين شكلت وجدان البلاد عبر مئات السنين بدءاً من الأدعية والتهاليل التي كانت تقام في معابد سومر وبابل وآشور ولغاية آخر مشحوف مخر عباب مياه الهور، وهو يترنم بأحد أطوار الجنوب الذي يمثل المشغِّل الأهم الذي صاغ الوجدان العراقي، على حد وصفه.
وأضاف الدليمي موضحا: أجد أن طابع الحزن الذي وسم الأغنية العراقية ناجم عن الأحداث التي تعرض لها الناس في هذه المنطقة من غزوات وحروب استهدفت حضارته وتسببت في خسائر كبيرة، فضلا عن جور السطات المحلية ابتداءً من وصف الأدبيات البابلية للملك كلكامش بأنه الملك الذي لم يبقِ عذراء
لأمها. 
وقال أيضا: تشدني الأطوار الجنوبية المحمداوي والغافلي والصبي والنجفي والحياوي وغيرها، وأشير إلى أنني كتبت نصي الشعري الموسوم “جوجي” والمنشور في مجموعتي الشعرية “ما ينقص شاعرا” على مدار أيام ثلاث وأنا لا أسمع إلا طور الحياوي بعزف الفنان سامي نسيم. 
مراحل عديدة مرت بها الأغنية العراقية التي أخذت عدة ألوان بحسب البيئة التي يعيش فيها السكان، فالأغنية البغدادية امتازت بلغة وسطى ما بين العامية والفصحى وألوان المقام والمربعات والبستات البغدادية. أما أغاني ومواويل الجنوب العراقي فتميزت بتلك الأطوار الحزينة التي جسّدت واقع ما كابده المواطن من صعوبة الحياة. وهناك أيضا الاغاني البدوية التي مثلت هوية المناطق الغربية من البلاد. 
وقد قدمت كل من هذه الأشكال فنا موسيقيا متميزا وأسماء لملحنين وكتاب ومغنين خُلِّدت في وجدان هذا الشعب العريق، لكن الواقع الحالي قد أفرز أشكالا هجينة لا يمكن أن نضعها في خانة الفن نتيجة التلقي المشوه للتأثيرات الثقافية الوافدة من الشعوب الأخرى وهبوط مستوى المتعاطين مع فن الغناء في غياب المعايير واضمحلال دور المؤسسات الراعية كنقابة الفنانين وتفشي الجهل والثقافة الاستهلاكية بين الجيل الحالي بشكل
عام.
 
ذاكرة وأسرار إنسانيَّة 
الشاعر عبد الحسين بريسم يرى أن للأغاني تاريخا طويلا مع الحياة والأجيال في العراق، وأن عامل الزمن لا يلغي تاريخها مثل أغاني القرن الماضي المستوفية للشروط الفنية، تلك التي ما زالت الأجيال الحالية تحبها كأغاني فؤاد سالم وقحطان العطار ورياض أحمد وغيرهم من عمالقة الغناء العراقي الأصيل على الرغم من الحداثة والعالم الأزرق ومواقع التواصل. 
وأضاف بريسم قائلا: الأغنية ذاكرة حية للشعوب بما فيها من الأناشيد الوطنية والدينية المنتمية لأحداث ووقائع وممثلة لمواجع إنسانية معينة ومستمدة من مقامات مهمة ومعروفة.
الأطوار الشجية في جنوب العراق عنوان عريض للشجن وفيها ما يمكن تتبعه من أسرار إنسانية تنتمي لثقافة وحياة العراقيين بتنوعهم وتنوع حيواتهم، فمن منا لا يعرف العلامات المهمة في هذا المجال مثل المطرب سلمان المنكوب وعبادي العماري وقبلهم مسعود العمارتلي الذين يمثلون لونا مهما وعنوانا للطرب الأصيل. تبقى الأغنية الأصيلة ذاكرة وعنوانا يتردد صداه المضيء ومن تلك الأغنيات التي أثرت بي (تانيتك) لمحمد عبد الجبار و(سفرة بقطار العمر) لمحمد السامر، ولا أنسى العملاق كاظم الساهر في أغلب أغانيه.
 
الأغنية السبعينيَّة
الشاعر عصام كاظم جري قال: لقد ذهب بعض المهتمين بالغناء، إلى أن فترة السبعينات هي ثورة غنائية والحقيقة أوسع من ذلك الحكم، لم تكن الأغنية العراقية وحدها مثيرة للجدل، بل كانت جميع الفنون مزدهرة كالسينما والمسرح والأزياء والشعر وانتشار المكتبات العامة والاشتغالات اليدوية وغيرها، وكان الفعل الثقافيّ في أوج مهابته، ولكن الأغنية هي الأقرب للإنسان على اختلاف اتجاهاته.
إن التراث العراقي بأغانيه الخالدة شغل مساحة محلية وعربية وعالمية واسعة، بدأت الأغنية متطورة بإحساسها وكلماتها ولحنها وموسيقاها، كل شيء كان على قدر عال من المسؤولية، الكلمات، خامة الصوت، أسلوب التلحين، الاستوديو، الملابس، والديكورات والايقاع والنوطة الموسيقية، والمقدمة كلها عوامل متآصرة تتسع
معا. 
ثم تحدث عصام كاظم جري عن واقع الأغنية الحالي بقوله: تراجعت الأغنية العراقية الآن تراجعا فاضحاً، في مستواها الفني والأدائي، قياسا بما كانت عليه سابقا، حتى صارت عبارة عن إيقاعات سريعة راقصة وكلمات مثيرة للسخرية، فضلا عن تسويق الإغراءات بالجسد، وإظهار المرأة بشكل لا تستحقه، ولعل الانحدار الذي تعيشه الأغنية العراقية يعود إلى غياب المسؤولية الفنيّة، وتقصير المنظومة المؤسساتيّة برمتها بدءا من نقابة الفنانين ووزارة الثقافة، مرورا بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي والتربية، إلى جانب غياب الدقة في الاختبارات الرصينة والبعيدة عن الإعلام، إن كثيرا من المطربين الشباب اليوم أساؤوا لتاريخ الأغنية العراقية الأصيلة من خلال استخدامهم الكلمة الممجوجة. ولم يقف الأمر عند هذا الشأن، ففي الآونة الأخيرة تغير واقع الأغنية العراقية في اللحن والإيقاع، إذ دخلت بعض الألحان الغربية كالتركية والخراسانيّة القديمة وغيرها ما أفقدها محليتها العراقية
أولا. 
وعن أهم المطربين العراقيين وأغنياتهم التي تركت أثرا واضحا قال: عندما تم تشكيل فرقة الإنشاد العراقية ظهر المطرب الفنان (كاظم الساهر، وأحمد نعمة، ومحمود أنور). وغيرهم وقد ظلت أغنياتهم عالقة في الأذهان منذ البداية. 
إن الغناء السبعيني هو الأيقونة اللامعة لكل العقود اللاحقة، ولا نبخس المطربين في الخمسينيات والستينيات كان لهم حضور فعّال لغاية الان، لقد ظهرت مدارس تلحين عريقة كالقرغولية ومدرسة محمد جواد أموري وجعفر الخفاف وغيرها، إن هؤلاء الملحنين تأثروا بأساتذتهم الملحنين الذين قدموا للغناء كل حياتهم. وظلت ألحان القرغولي وأموري هي الأكثر انتشارا بأصوات المطربين. ربما هذا هو جوهر الخلود للأغنية
العراقية.