شعار قسم مدونات

مالكوم إكس.. الرجل الذي أصبح أيدولوجيا

Blogs- malcom x
مالكوم إكس، أو الحاج مالك الشبّاز، الناشط السياسي والمُناضل الفذّ والمُدافع عن حقوق المجتمع الأسود في الولايات المتحدّة الأمريكية، والذي لوحظَ نشاطه وتأثيره في الفترة ما بين 1952 إلى حين استشهاده في 1965، بدأَ حياته كأي رجل أسود أو ملوّن في أمريكا، في فترة كانَ يُعاني فيها المجتمع الأسود أقسى أنواع الاضطهاد والقهر، فقد كانتْ الولايات المتحدّة حينذاك دولة بيضاء بالمُطلق، وكان المُجتمع فيها مجتمعا عنصريا بعنف مصحوب بساديّة حقيرة ضد السّود! 
 
كان مالكوم إكس رجلاً أسودَ يسير مع التيّار السائد في زمنه، فقدْ كانتْ حياة السود عبارة عن فوضى عارمة، تتمثّل في المخدرات، المجون والدعارة، وهذا القول يعود فقط للناس العاديين، فالجريمة بكافة أشكالها تُمارس من قبلهم أيضاً، ولكنْ لطبقة معيّنة وعلى درجات، وفرانك لوكاس أُنموذج قوي جدّاً على الإبداع في عالم الجريمة، فقدْ صُنّفَ على أنّه أعتى تاجر مخدّرات أسود شهدته أمريكا، على كلِّ حال، دعونا نعود إلى عملاقنا مالكوم إكس، هذا الرجل دخل غِمار اللعبة وعلى كافّة الأصعدة، ولكنّه لم ينس مقتل والده على أيدي الجماعة المتطرّفة "الكوكلوكس كلان"، وهي جماعة تُنادي بتفوّق العرق الأبيض، على غرار النازيّة، ولا يزالون يُمارسون نشاطهم إلى يومنا هذا! والطريف في حياة مالكوم إكس هو أنّ دخوله السجن كان بسبب علاقته بامرأة بيضاء، رغم أنّ أساس التُهمة كان سطواً مسلّحاً على أحد المنازل، ما أدّى إلى زيادة حقده ونقمته على البيض، فالصاعُ قدْ صارَ صاعين.
 
كانتْ حياتهُ في السجن بيت القصيد، كما يقولون، فقدْ انقلبتْ رأساً على عقب، فحتى هو نفسُه لم يُخيّل إليه أنّ السجن سيكون سبباً في قلبِ كيانه وحياته بهذه الكيفية العجيبة؛ لتبدأْ رحلته الفكريّة في أحضان "أمّة الإسلام"، التي كان يرأسُها إليجا محمد، وليرى رؤية الموقّر إليجا محمد للمجتمع الأسود وللاضطهاد الممارس عليه، وليشرع بعد ذلك في قراءة القاموس كاملاً، دراسة ذاتيّة لكلِّ كلمةٍ فيه. فعلى حدِّ زعم أمّة الإسلام فإنّ التحيّز للبيض كان في القاموس أيضاً، وما أودّ الإشارة إليه هنا هو أنّ إحدى الطفرات في شخصيّة مالكوم إكس هي مفهوم الدراسة الذاتيّة في كلِّ شيء تقريباً، فما أصبحَ عليه هو نتيجة جُهد ذاتي محض!
 

أعلنَ مالكوم إكس في مؤتمر صحافي انفصاله تماماً عن
أعلنَ مالكوم إكس في مؤتمر صحافي انفصاله تماماً عن "أمّة الإسلام" وأنّ أيّ شيء يصدر عنه من الآن فصاعداً يعبّر عن رأيه الشخصي فقط، بعيداً عن أفكار المدعو إليجا محمد
 

بعدَ انتهاء مرحلة السجن، انتقل مالكوم إكس للعيش بين أعضاء أمّة الإسلام ويغيّر اسمه إلى مالكوم إكس؛ فهذا لم يكن اسمَه في بداية حياته، فقد كان اسمه مالكوم ليتيل، ومن هنا بدأَ في الظهور والتأثير بكيفيةواسعة جدّاً، وليصبح المتحدّث الرسمي باسم الحركة. وبأوامر من إليجا محمد، صار يجوب الولايات ملقيا خطابات رنانة تقشعرّ لها الأبدان بما تحمله من خطاب قوي وأسلوب ساحر في الإلقاء، ومن جهتي وكرأي شخصي، لا أظنُّ أنّ هناك من يحمل السحر في الأسلوب والقوّة في الخطابة كهذا الرجل!
 
التأثير والشهرة الواسعة التي حظي بها مالكوم إكس أدّيا إلى خلق مشاعر الحقد والغيرة لدى أقرانه في الحركة، لتتبع ذلك حملات تشويه ضخمة ضدّه، محاولينَ فيها إسقاطه والتضييق عليه وعلى أُسرته. وبقي الوضع على هذا الحال إلى أنْ تم اغتيال الرئيس الأمريكي جون كينيدي، ليُدلي مالكوم إكس بتصريح معبّراً فيه عن مدى سعادته، قائلا إن هذا الاغتيال نتيجة طبيعية للعنف الموجّه لطبقة السود، وإن كل هذه التصرفات أدّت إلى ردّة فعل عكسية وطبيعية تمثّلتْ في اغتيال رئيس هذه الدولة الظالمة!
 
أدى هذا التصريح عن توقيف مالكوم إكس عن الخطابة في أيّ محفل أو أيّ مسجد لأمّة الإسلام بأمر شخصي من إليجا محمد، ولم يتوقف الأمر عند هذا فقط، فقد كانت الأوامر أنْ يتمّ تفخيخ سيارته واغتياله، إلّا أنّ هذا أخذَ منحىً آخر، لاعتراف العضو الموكل بهذه المهمّة لمالكوم إكس، ليثبُتَ الشكّ الذي لازم مالكوم إكس تجاه المدعو إليجا محمد، فقدْ كانَ مغيّباً من ناحيته لفترة طويلة، وقدْ كان يبدأ خطاباته دائماً بـ"كما علّمنا الموقر إليجا محمد".. ليدخل اليقين في قلبه ويرى بجلاء كالشمس زيف هذا الرجل الدعيّ.
 

فلسفة مالكوم إكس ليست متطرّفة، والحريّ بنا أنْ نوضّح ما يرمي إليه، فهو لا يُنادي بضرب المدنيين مثلاً أو خلق فوضى أناركيّة، وإنّما يريد أنْ تُحارَب الأنظمة المُستبدّة 
فلسفة مالكوم إكس ليست متطرّفة، والحريّ بنا أنْ نوضّح ما يرمي إليه، فهو لا يُنادي بضرب المدنيين مثلاً أو خلق فوضى أناركيّة، وإنّما يريد أنْ تُحارَب الأنظمة المُستبدّة 
 

أعلنَ مالكوم إكس في مؤتمر صحافي انفصاله تماماً عن أمّة الإسلام، وأنّ أيّ شيء يصدر عنه من الآن فصاعداً يعبّر عن رأيه الشخصي فقط، بعيداً عن أفكار المدعو إليجا محمد، وأعلن أيضاً عن نيته السفر إلى مكّة المكرمة لأداءِ الحج وفهم تعاليم الإسلام فهماً صحيحاً، ليسافر إلى مِصر والأهرامات ويتعرّف على أمّة الإسلام والعرب عن قُرب، ومن ثمّ إلى مكة لأداء فريضة الحج، ولتكون سبباً لنسفِ تصوّره القائل إنّ الرجل الأبيض شيطان كما عُلّمَ ولقّن من إليجا محمد وأمّة الإسلام، فرأى جميع النّاس من مختلف الأعراق والأجناس في مكان واحد يلبّون نداء خالقهم.
 
عرضتُ الشيء اليسير من حياة هذا الرجل، وما أضخم الوعي والعُمق في حياته! أمّا الخُلاصة والقول الفصل فسيأخذُ مكانه الآن في هذه المدوّنة، فعنواني هو "الإنسان الذي أصبح أيدولوجيا"، فما معنى هذا؟ وهل فيه مبالغة وتجديف؟ هو بعيد كل البُعد عن هذا، فمالكوم إكس أيدولوجي بلا شكّ، والمستمع إلى خطاباته ومقابلاته بتمعّن وعلى مراحل سيلمح التأصيل لديه، وأنّ هذا الرجل صاحب رؤية لم يسبقه إليها أحد من قبل، فجلُّ رسالته كانت في قلب العنف الموجّه ضدّ السود، فإحدى أشهر عباراته هي أنّ استخدام العنف كدفاع عن النفس ليسَ تطرّفا وإنّما هو ذكاء وحنكة! وأنّ الراديكاليّة أصبحت ضرورة في زمن صار فيه السود عاراً وجبَ التخلّص منه، ففلسفته في صميمها تجلّتْ في إظهار زيف الإعلام الأبيض ومُحاربته وإعطاء الكرامة للسود باستخدام جميع الوسائل الضرورية لتحقيق هذا الأمر أو كما قال "By any means necessary".
 
استطاع هذا الرجل العملاق أنْ ينشرَ وعياً في المجتمع الأسود، مركّزاً على نقطة في غاية الأهميّة، ففي مُناظرة اتحاد أوكسفورد عن المجتمع في جامعة أوكسفورد، وضّح كيف أنّ الأنظمة تظهر بمظهر الملاك الوديع، وهي ليستْ إلّا شيطانا هدفه التدمير لا أكثر، والتحكّم في العقول المسكينة، بتنويمها إعلاميّاً، وأنّ أصحاب السلطة قد أساؤوا استخدامها، وأنّ التغيير أصبح حتميّاً، فعلينا نحن أخذ حقوقنا عنوة، فهذا هو السبيل الوحيد لانتزاع الحقوق. هو صاحب هذه الفكرة العميقة، لأنّ الأنظمة تُمارس الظلم والعنف منذ الأزل. وفي المقابل، ستلصق بك تهمة التطرّف والإرهاب إنْ استخدمت العنف للحصول على حقوقك فقط! فهو يعرض هنا مدى التغييب الذي افترس المجتمعات في هذا الزمان.
 

تمّ اغتيال مالكوم إكس على يد مجموعة من أمّة الإسلام، ليسقطَ شهيداً بإذن الله في الواحد والعشرين من شباط 1965، تاركاً وراءه إرثاً ضخماً عميقاً
تمّ اغتيال مالكوم إكس على يد مجموعة من أمّة الإسلام، ليسقطَ شهيداً بإذن الله في الواحد والعشرين من شباط 1965، تاركاً وراءه إرثاً ضخماً عميقاً
 

فلسفة مالكوم إكس ليست متطرّفة، والحريّ بنا أنْ نوضّح ما يرمي إليه، فهو لا يُنادي بضرب المدنيين مثلاً أو خلق فوضى أناركيّة، وإنّما يريد أنْ تُحارَب الأنظمة المُستبدّة بالوسائل المتطرّفة نفسها التي تستعملها ضد شعوبها، وأنّ مفهوم الحريّة مقيّد ومعبأ مُسبقاً من هذه الأنظمة، وأنْ تكون حرّاً ليست بأمرٍ سهل، فقد قال "إنْ لم تكن مستعدّاً للموت من أجل الحريّة، فاعمل على إزالتها من قاموسك".
 
تمّ اغتيال مالكوم إكس على يد مجموعة من "أمّة الإسلام"، ليسقطَ شهيداً -بإذن الله- في الواحد والعشرين من شباط 196، تاركاً وراءه إرثاً ضخماً عميقاً، وقدْ خُصص له فصل كامل في كتب التاريخ في مدارس أمريكا، ليكون هذا الإنسان على شكل أيدولوجيا تُدرّس!
 
مالكوم إكس وحياته الحافلة والمتقلّبة في نقد وتمحيص سبيلٌ من تقليب الأفكار ودراستها في قالب سحيق العُمق، هو هذا الرجل الذي أعطاه الله قُبولاً بين النّاس حتّى لمّا كان على خطأ! ليزداد هذا القُبول بعد رؤيته للحقّ من جانب معيّن، رحِمك الله أيّها الحاج مالك، رحِمك الله يا شوكة في حلقِ طغاةِ زماننا، رحِمك الله يا جبلاً كان صعبَ الوصول، وما أحوجنا لأنْ تكون بيننا لترى ماذا اقترفتْ أيدينا؟ ولترى أنْ كلَّ ما بلّغتنا به قدْ تطوّر وصار واقعاً لدينا، ولا نستطيع الهروب منه أو التخلّص منه، ولكنْ اطمئنّ، فلا يزال هناك من يحملُ إرثك لإحقاقه يوماً ما.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.