جماليات

الجمل سفينة الصحراء وسحر الشرق

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

أمام برج زجاجي ينز بآخر ابتكارات العصر في المعمار والهندسة، في الجو البارد كبرودة المياه الغازية المعبأة في القناني الزجاجية الملونة سيكون حضوراً جميلاً، حضوراً فاقعاً لكنه آسر، سيسرق بصرك منك ولن يترك مزيداً من الوقت لتأمل برجك العاجي، يمضي على مهل كائن حر مسكون في ذاكرة معتقة.

يأتي السياح من كل مكان وخاصة الاوروبيين ليجربوا امتطاءها وتسجيل اقترابهم منها كتجربة حياة. كثيرا ما نصادف جملا يلبس كامل زينته يمتطيه طفل أو طفلة، أو سائح أو سائحة أجنبية فيما يتحلق المشتاقون لرؤية هذه الدابة التي تشعرك أنها آتية من غبار التاريخ والأزمنة القديمة، يتفرجون، أو يلتقطون صورا بكاميراتهم الديجتال.. يجر الرجل الصامت دوما هذا الجمل في مسار هادئ أمام حديقة، أو خيمة مهرجان يقام وسط المدينة التي تضج بالسيارات والأبراج وإكسسوارات الحداثة، يسير الجمل بخفين لا يحدثان صوتا فوق الرصيف أو النجيل الأخضر، يبتسم الطفل، وتلوح الطفلة لوالديها من فوق السنام مبتسمة بامتطاء هذا الكائن الكبير الذي يرتفع فوق رؤوس البشر.. نحن في المدن الحديثة، أو السياح الذين تحاصرهم الغربة، ويدفعهم فضول الاكتشاف نندفع جميعا، ممسوسين بسحر غريب لذاكرة واسعة ومكتنزة بالشعر والحروب والفتوحات ومغامرات العشق، ومعاني الصبر والجلد والتحمل حينما تصادف أبصارنا هذا الكائن الصحراوي، هذا الذي حمل الأسفار إلى الجهات وعبر محيطات من الرمل وكثبانها.. حيث يبرز الجمل في أبيات القصائد مقرونا بالجمال والحب والحرب.

نعشق الجمال، نعشق صورتها مجتمعة في المدى لحظة الإشراق وأكثر في لحظات الزوال، وليس هناك أشهر في الصور من تلك الصورة التقليدية التي تبدو فيها الشمس كرغيف ذهبي ملتهب من خلف قافلة تغوص في المسافة البعيدة.. الفنانون التشكيليون أيضا مارسوا تشريحا دقيقا وبحثوا عن مناخات جمالية في تلك الصور التي شحنوا بها توتر أناملهم الماسكة بريشة اللون، صورة الجمل وحدها كافية حينما تتربع فوق جدران البيوت، جالبة عبق الماضي، مذكرة ايانا بدروسنا وكراريسنا، كانت كافية أن تشبعنا التصاقا بالكثبان الرملية والقمر وحشائش البرية، والعطش في المسافات الطويلة، والصمت الطويل، حيث لا تأخذك دلالة الجمل إلا للفيافي والقفار..

أما الحديث عن جمال الجمال فقد تأصل منذ الشرارة الأولى في العلاقة المصيرية التي ربطته بالإنسان فهذا الكائن الكبير، الصبور، الساكت إلا من صوت خواره في السراء والضراء، له مواصفات جمالية رفعت من قيمته وصار يفرز ويفند بها، بل أن دلالات تسمياته المتعددة جاءت بتأثيرات من مواطن الجمال فيه. ومن اجل جمل أو ناقة دخل الناس في الحروب ضارية قتل فيها العشرات بل بالمئات، وساءت علاقات وانتشرت ثارات وأحقاد، وتبدلت تحافلات. زين الجمل عبر التاريخ بما توفر من وسائل وإمكانات ووصل بها اليوم وكان ومازال رمزا عربيا بامتياز حيث كان وما زال شعارا لكثير من المؤسسات الصناعية والاجتماعية والثقافية وفي الآونة الأخيرة حمل الجمل اسما لأهم دور النشر العربية ، كما أن معظم الدول الخليجية تمسكا بهذا الرمز المهم تنظم باسمه سباقات الهجن الضخمة التي لها الكثير من الهواة ومن المتابعين، وأن الكثير من المهتمين يقيمون مزارع تربية الهجن تعلقا بهذا الإرث الذي مازال متعلقا بالوجدان الإنساني لسكان المنطقة والعرب بشكل عام.

حتى الذين يصابون بفوبيا الأماكن المرتفعة يأتيهم شعور بالرغبة في امتطاء هذا الكائن التاريخي، لهذا يدفع الآباء أبناءهم وبناتهم الصغار إلى تحقيق هذه الرغبة، عشرة دراهم كافية لتكون مقابل رحلة لا تتعدى خمسين مترا ذهابا وإيابا على ظهر جمل يسير بهودج أو بدونه. يحدث هذا دائما في المناسبات والمهرجانات وأماكن السياحة.. حيث تخصصت بعض الجمال في اصطياد السياح عن طريق ذلك الإغراء السحري الكامن في صمتها ومنظرها العام.

تعد الإمارات واحدة من البلدان التي قدمت مشاريع كبيرة لحماية تراث الجمال وتاريخها وسلالاتها، حيث تم تشييد العشرات من مضامير السباقات، وتم رصد مخصصات مالية للذين يقوم على تربيتها ورعايتها، وتم إنشاء مركز أبحاث للمحافظة على سلالاتها والقيام بأبحاث لها علاقة بالتهجين، ويوجد في الإمارات ملاك هجن، وأبطال سباقات، وأسماء جمال ونوق تحققت لها الشهرة الكبيرة في ميادين السباقات..

يقول الخبر «إن مهرجان مزاينة الإبل في الظفرة سيشهد تنافس أكثر من 20 ألف ناقة من السعودية وقطر وعمان والإمارات حيث سيتم اختيار ملكة جمال النوق على أساس تنافس الجسد ورشاقة الخطوة وجمال الخد والشارب والضخامة والشموخ. وأكد سالم المزروعي مدير العمليات في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث المنظمة للمهرجان إن ملاك الإبل الفائزة بتاج ملكة الجمال سوف يحصلون على جوائز مالية تزيد قيمتها الإجمالية على 32 مليون درهم، إلى جانب 140 سيارة فارهة.

وسيتضمن المهرجان مزادات لبيع الإبل الجميلة، ويتوقع المنظمون أن تصل أسعار بعضها إلى ما يزيد على 15 مليون درهم للجمل الواحد». عشرات السباقات سواء الرياضية منها أو ما يتعلق بجمال الابل ومزايدات بيعها واستعراضها تأخذ مكانها اليوم في الإمارات وفي اغلب دول الخليج، وفي اغلب هذه المهرجانات يرفع المنظمون شعارا واحدا تقريبا لا يختلف إلا في الصياغات وإنما المعنى هو ذاته، المحافظة على تراث الأجداد والماضي، والعناية بالسلالات الأصيلة منها، والتشجيع على رعايتها وحمايتها والتشجيع على تكاثرها.

وهي كلها دوافع تنطلق من سحر الإبل وحضورها، حتى في حياتنا المدنية، وفي زمن الطائرات والمترو.. ففي مطار دبي مثلا تتناثر مئات المجسمات المختلفة الأشكال لجمال صغيرة وكبيرة، يهرع إليها السياح يمدون أيديهم ويحملون منها ما اختارته هواية الاقتناء لديهم..

فالسائح البريطاني سيكون سعيدا لو آفاق في ساعة مبكرة صباحا وفتح عينيه على جمل يتربع على طاولته الزجاجية، هذا على الأقل سوف يشعره بالانتماء إلى التاريخ وسحر الشرق. نحن أيضا ومع المدنية الحديثة والإيقاع الحداثي الذي نصبغه على حياتنا.. نحن الشرقيين في الصميم، والصحراويين حد الثمالة، بعد ابتعادنا، وبعد ان غادرنا رائحة الرمل و(الرمرام)، أصبحنا بحاجة إلى دمية لجمل أو ناقة تبقى أمام أعيننا دوما كي تذكرنا بصليل السيوف وعشق عنتر العبسي لعبلة، وبعير امرؤ القيس، وناقلة ابن الورد.

مرعي الحليان

Email