تطور علم مصر

في الحقيقة لا أريد للمقدمة أن تتحول لموضوع تعبير عن أهمية الأعلام، فنحن نعرف أهمية الأعلام و رمزيتها في تحريك الجموع و توحيد الصفوف (من أول استخدامات الأعلام كراية لمعرفة الجيوش الحليفة و العدوة في أراضي المعركة) و فرض السيادة (استخدام الأعلام في أساطيل القوى العظمة مثل علم الإتحاد union jack للمملكة المتحدة في عصر الإستكشاف) و إظهار الميول السياسية و الأصول الحضارية (مثل استخدام الألوان الأفريقية pan-african colors الأصفر و الأخضر و الأحمر بين دول أفريقيا مثل غانا و إثيوبيا و مالي و الموزمبيق و غينيا و غيرهم، و استخدام الألوان السلافية pan-slavic colors الأبيض و الأزرق و الأحمر بين الدول السلافيين slavs مثل روسيا و سلوفاكيا و سلوفينيا و التشيك و كرواتيا و صربيا)، و الحقيقة أن الفيكسلولوجيا Vexillology (أو دراسة الأعلام) يمكن أن تكشف لك الكثير من تاريخ الأمة فقط بدراسة تاريخ أعلامها و رمزيتها (بالإضافة إلى جانب من المتعة التي قد لا يكون لها أي طائل علمي و هو تخيّل أعلام بديلة alternate flags في حال تغير بعض الأوضاع السياسية و هي هواية صرت مدمنًا عليها مؤخرًا). و في سبيل جعل ممارستي لهذه الهوية أكثر انتظامًا قررت أن أشارككم ما قرأت عن الأعلام في مجموعة من البوستس عسى أن أجد صديقًا يشاركني هوسي بالأعلام.

تاريخ علم مصر

إن انتشار استخدام العلم و الرمز كان تدريجيًا لدرجة تجعل مهمة تحديد أول علم لأي دولة هي مهمة صعبة جدًا خصوصًا لهاوٍ مثلي غير متخصص في دراسة التاريخ أو تاريخ الأعلام. كما إنني أجد من الصعب تعريف الهوية المصرية لتحديد عَلَمَها، فهل يمكن اعتبار علم الإمبراطورية الرومانية التي حكمت مصر من 30 قبل الميلاد و حتى سنة 641 ميلاديًا هو علم مصر؟ أم أننا نبحث عن دولة يحكمها قائد مصري؟ على كلٌ فاجتهادًا مني سأعتبر أن الإمبراطورية الرومانية هي بداية قصتنا من سنة 30 قبل ميلاد السيد المسيح.

إن علم (أو لكي أكون دقيقًا شعار) الإمبراطورية الرومانية يتكون من الحروف اللاتينية SPQR اختصارًا لاسم Senātus Populusque Rōmānus أو شعب و مجلش شيوخ روما، مكتوبة بلون ذهبي على خلفية حمراء عادةً بين سنبلتي قمح و فوقها يظهر نسر. برغم أن التاريخ الدقيق لظهور الشعار غير معروف إلا أن الشعار موجود على وثائق يرجع عمرها إلى سنة 80 قبل الميلاد. لن أتطرق في الحديث مطولًا عن الإمبراطورية الرومانية لإن الحديث يطول عنها و قد نتطرق إليها في موضوع منفصل.

تلا الحكم الروماني لمصر الإمبراطورية البيزنطية (إمتداد الإمبراطورية الرومانية) و أشهر رموز الإمبراطورية البيزنطية هو البانر الإمبراطوري لأسرة باليولوجوس¹ و يتكون الشعار من صليب أصفر على خلفية حمراء يُقسّم العلم لأربعة أرباع يوجد في كل رُبع منها شكل باللون الأصفر. أحد التفسيرات لهذه الأشكال هو أنها تشكل الحرف B مكررًا أربعة مرات و الموجود في أول كل كلمة من شعار الإمبراطور البالولوجي Βασιλευς Βασιλεων Βασιλευων Βασιλευσιν و التي تترجم إلى (ملك الملوك، و حاكم كل الملوك). تفسير آخر يرجح أن هذه الأشكال هي رمز يعود للكنيسة الأرثوذوكسية و معركة جسر ميلفيو بين الإمبراطور قنسطنطين العظيم و مكسنتيوس، حيث يُحكى أنه قبل المعركة رأي قنسطنين العظيم و جنوده صليبًا ساطع النور في السماء و كلمات تقرأ في اليونانية In hoc signo vinces أي “بهذا الشعار حارب” و لكي يُظهر نور الصليب الساطع على العلم تم إضافة أربعة مقادح (حجر الإشتعال) في كل ركن من أركان العلم.

مصر الإسلامية

استخدم القادة العسكريون أثناء حكم الرسول محمد (ص) و أثناء الخلافة الراشدة (640-658) الرايات و الألوية (جمع لواء). و الفرق بين الراية و اللواء هو أن الراية هي ما يعقد في السارية و يترك حتى تصفقه الرياح و تكنى (أم الحرب) أما اللواء هو ما (يلوى) ويعقد في طرف الرمح فيكون علامة لأمير الجيش يدور معه حيث دار (ومن هنا جاء اسم المنصب العسكري “اللواء”). و راية الرسول (ص) كانت تكنى بالعُقّاب² (طير جارح) و كانت عبارة عن مربعٌ أسود و لواؤه كان عباره عن مربعٌ أبيض، روى الترمذي عن ابن عباس قال: «كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء ولواؤه أبيض»، و الحقيقة أن استخدام الألوية و الرايات آنذاك كان مقتصرًا فقط على الحرب و لم يكن رمزًا للدولة.

استخدم الأمويين – على الأرجح – راية بيضاء أورثوها فيما بعد لدولة الموحدين في المغرب و الأندلس. و لم أجد من المؤرخين من أعار الراية الأموية اهتمامًا من حيث الشكل أو التطور أو الاستخدام.

اختار العباسيون اللون الأسود لونًا لراياتهم و اختلف المؤرخين لسبب ذلك. أرجع المارودي في كتاب الحاوي الكبير سواد راية العباسيين إلى “أن النبي (ص) عقد لعمه “العباس” رضي الله عنه في يوم حنين ويوم الفتح راية سوداء”. في حين يرى ابن خلدون أن سواد راية العباسيين كان حزنًا شهدائهم من بني هاشم فسموا بالمسودة. و على الرغم من أن الخليفة المأمون قد اتخذ الخضرة شعارًا للدولة إلا أنه سرعان ما عاد للسواد مرة أخرى. و صار السواد شعارًا قويًا للدولة العباسية حتى إن الزيريون في أفريقيا عندما أعلنوا استقلالهم من الخلافة الفاطمية اتخذوا اللون الأسود لونًا رسميًا لألويتها و أعلامها في صورة من صور إدانة الطاعة للخلافة العباسية، حيث يحكى أن المعز ابن باديس أمير بني زيري أمر الصباغين أن يصبغوا قماشًا أبيض باللون الأسود و يجعلوا منه ملابس، ثم جمع الفقهاء و القضاة في قصره و كساهم بهذا السواد.

يقول ابن خلدون عن رايات العباسيين :” … كالسواد في رايات بني العباس فإن راياتهم كانت سوداً حزناً على شهدائهم من بني هاشم و نعياً على بني أمية في قتلهم و لذلك سموا المسودة، و لما افترق أمر الهاشميين و خرج الطالبيون على العباسيين من كل جهة و عصر ذهبوا إلى مخالفتهم في ذلك فاتخذوا الرايات بيضاً و سموا المبيضة”. فكانت راية الفاطميين رقعة من الكتان الأبيض. لما يرد من التاريخ ما هو مؤكد بخصوص ما كُتب عليها، و لكن ورد أن أبو عبد الله الشيعي ممهد الدولة الفاطمية في بلاد المغرب استخدم بنودًا (البند هو العلم الكبير) نقش عليها نصوص قرآنية مثل “وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا” بالإضافة إلى أسماء الخلفاء الفاطميين. و يقال أن الفاطميين هم أول من استخدم الهلال رمزًا قبل الإمبراطورية العثمانية.

يمكننا القول بأن الشعار الذي لازم الدولة الأيوبية أثناء فترة حكم مصر هو أقرب لكونه شعار نبالة coat of arms و هو نسر صلاح الدين الأيوبي (1138-1193). النسر موجود في قلعته في القاهرة و في الواقع هو النسر الموجود على علم مصر و أعلام الدول العربية، حيث تم استخدامه بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952 و استخدم في عدد من الدول العربية و نافس صقر قريش لارتباطه بدعاوي القومية العربية.

عام 1375 أنتجت مدرسة خرائط مايوركا Majorcan cartographic schoo أحد أهم الخرائط في العصور الوسطى و هو الأطلس الكاتالوني و في هذا الأطلس يظهر علم المماليك الذين حكموا مصر بعد الأيوبيين. يظهر علم المماليك على خلفية صفراء (مثل لون الدولة الأيوبية) و يظهر عليه هلال أبيض.

الغزو العثماني

في مايو من عام 1453 حدث شأن جلل هو أحد أبرز الأحداث في التاريخ و هو فتح السلطان الغازي محمد الفاتح ( محمد الثاني سابع سلاطين الدولة العثمانية) لمدينة القسطنطينة عاصمة الدولة البيزنطية، حمل العثمانيين علمًا أحمر اللون و مثلث الشكل يحمل هلالًا كرمز إسلامي³. فيما بعد استوجب استحداث علم يتناسب مع الخليفة العثماني خليفة المسلمين كلهم، فرفع العلم التركي عام 1844م و كان عبارة عن خلفية بيضاء يتوسطها هلال و نجمة كلاهما أبيض اللون. أثّر الوجود العثماني على أعلام المنطقة حتى أتخذ حسين باي الثاني حاكم تونس علمًا مختلفًا عن باقي إيالات السلطنة العثمانية فأضاف القرص الأبيض في المنتصف و هو علم تونس حتى يومنا هذا. يظهر شعار نبالة إيالة مصر عبارة عن الهلال العثماني الذي يحتضن ثلاثة نجوم ليشير إلى مناطق منطقة مصر (مصر، صعيد مصر، السودان) و يستمر استخدام الثلاث نجوم بعد ذلك في أعلام الخديوية و شعار نبالتها.

بين عامي 1801 و 1805 حدث صراع بين ثلاثة أطراف على السلطة في مصر و هم الأتراك العثمانيين و المماليك المصريين و المرتزقة الألبان بقيادة محمد علي باشا، و ذلك إبان انسحاب الحملة الفرنسية من مصر. كان الإهمال العثماني لإيالة مصر منذ استحواذهم عليها عام 1517 من المماليك  أحد أهم أسباب هذه الإضطرابات التي أُعلن نتيجتها محمد علي باشا واليًا لخديوية مصر المستقلة (التابعة للسلطنة العثمانية).

عام 1914 و في بداية الحرب العالمية الأولى أنهت الإمبراطورية البريطانية السيادة العثمانية في مصر بعزل الخديوي عباس حلمي الثاني و تنصيب عمه حسين كامل سلطانًا و تغيير اسم الخديوية المصرية إلى السلطنة المصرية (لمضاهاة لقب رئيس الدولة العثمانية “السلطان”).

عام 1922 عندما أعلنت بريطانيا إنهاء حمايتها على الأراضي المصرية، استمر حكم السلالة العلوية لما يسمى الآن مملكة مصر. اختار الملك فؤاد الأول العلم عام 1923 عبارة عن خلفية خضراء تمثل الزراعة التي هي هبة الأراضي المصرية و هلال يحتضن 3 نجوم. كما قلنا سابقًا يمكن ترجمة النجوم الثلاث على إنها تمثيل لمناطق مصر (مصر، صعيد مصر، السودان)، كمان يمكن ترجمتها على أنها تمثل الأديان السماوية الثلاث التي يعيش معتنقوها في سلام على أراضي مصر (الإسلام و المسيحية و اليهودية).

ثورة 23 يوليو

بعد قيام ثورة 1952 اتخذ الضباط الأحرار علمًا لهم – كما ذكرنا سابقًا – هو نسر متخذ عن نسر صلاح الدين⁴ يحتضن علم مملكة مصر على خلفية ألوان الثورة و هم الأحمر و الأبيض و الأسود من أعلى إلى أسفل⁵. أثناء فترة حكم جمال عبد الناصر ظل علم مملكة مصر هو العلم الرسمي لدولة مصر وحتى قيام الجمهورية العربية المتحدة عام 1958.

عام 1958 و بقيام الوحدة بين مصر و سوريا و إنشاء الجمهورية العربية المتحدة، اتخذ علم مأخوذ عن علم الثورة المصرية و استبدال النسر بنجمتين باللون الأخضر يمثلان مصر و سوريا، و تم استخدام نسخة معدلة من نسر صلاح الدين كشعار نبالة للجمهورية المتحدة.

عام 1961 غادرت سوريا الجمهورية العربية المتحدة، و برغم ذلك ظلت مصر تسمى بالجمهورية العربية المتحدة حتى عام 1971 عندما تم تغيير اسمها رسميًا لتصبح جمهورية مصر العربية. تلا ذلك قرار قيام اتحاد الجمهوريات العربية و هو اتحاد فيدرالي بين مصر و ليبيا و سوريا، استخدمت الدول الثلاث علمًا مشترك اختيرت ألوانه مجددًا بناءًا على ألوان الثورة المصرية و استخدمت درجة أفتح من اللون الأحمر و استبدلت النجمتان بصقر قريش و اختير صقر قريش (كان شعار نبالة الجمهورية السورية قبل قيام الجمهورية العربية المتحدة) كشعار نبالة للإتحاد.

انحل الإتحاد 1977 بسبب الخلاف على اتفاقية كامب ديفيد، و برغم ذلك احتفظت مصر بالعلم حتى عام 1984 حين انسحبت رسميًا من الإتحاد واستبدل صقر قريش بنسر صلاح الدين بقرار رسمي من الرئيس محمد حسني مبارك.

---

المُلحق

1. إرتبطت الأعلام وشعارات النبالة coat of arms قديمًا في أوروبا بالعائلات و الحكام كثيرًا
2. روى ابن عدي من حديث أبي هريرة بسند ضَعِيف: كَانَت راية رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم سَوْدَاء تسمى الْعقَاب” رغم ذلك فإن المؤرخين يرجحون أن هذا الاسم أُطلق على الرايات بشكل عام في العرب فكانت راية قريش تسمى العُقاب.
3. يرجح أن استخدام العثمانيين للهلال هو لأهميته في الشريعة الإسلامية مثل معرفة بداية شهر رمضان، و ليس أن العثمانيين أخذوا استخدام الهلال من البيزنطيين أو الفاطميين.
4. طبقًا للمادة 223 من الدستور المصري: ” العلم الوطنى لجمهورية مصر العربية مكون من ثلاثة ألوان هى الأسود، والأبيض، والأحمر، وبه نسر مأخوذ عن “نسر صلاح الدين” باللون الأصفر الذهبى، ويحدد القانون شعار الجمهورية، وأوسمتها، وشاراتها، وخاتمها، ونشيدها الوطنى. وإهانة العلم المصري جريمة يعاقب عليها القانون.”
5. على الرغم من أننا نعلم التفسير لهذه الألوان، إلا أن هناك تفسيرات ترى تأثرها بالقوى السياسية القديمة الأسود العباسي و الراشدي و الأبيض الفاطمي و الأموي و الأحمر الهاشمي.