مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مارس – أبريل | 2024

أعظم ليالي البوب

هشاشة الفن وقوته الجبارة


محمود الغيطاني

ثمة ما يشبه الانتقال عبر الزمن يسيطر على المُشاهد أثناء مُشاهدته للفِلم الوثائقي “أعظم ليالي البوب” (The Greatest Night in Pop)، الذي أطلقته منصة نتفلكس، مؤخرًا. الفِلم للمُخرج الفيتنـامي الأصل الأمريكي الجنسية، باو نجوين، ويعيد بناء وقائع أطول وأعظم ليلة في تاريخ موسيقى البوب الأمريكية، عندما اجتمع 47 من أشهر نجوم الغناء لتسجيل أغنية مشتركة يخُصص ريعها لصالح ضحايا المجاعة في إثيوبيا في أواسط ثمانينيات القرن العشرين.

 كثيرون ما زالوا يذكرون الأغنية الشهيرة “نحن العالم” (We Are The World)، ولم تزل تُسمع؛ لأنها ليست مجرد دعوة لإنقاذ بشر في ضائقة ما، بل لأنها ملهمة في تنبيهها إلى دور الفرد أيًا كانت بساطة شأنه في إنقاذ العالم. ورسالتها الذكية الشفَّافة هي: العالم هو نحن جميعًا، ويجب ألَّا يعتقد أي منّا أن شخصًا غيره سيقوم بتغيير العالم ذات يوم. ولم تزل هذه الأغنية دليلًا على ما يمكن للفن أن يقدمه للإنسانية في الأوقات الصعبة، وأعظم ما يقدمه هو التذكير برابطة الإنسانية.

ينطلق الفِلم من ليلة التسجيل الملحمية بكل ما فيها من توتر وفكاهة وبكاء وضوضاء، مستخدمًا مقاطع مسجلة من تجارب الأداء لهذا العدد من النجوم الذين اجتمعوا في غرفة واحدة. وينتقل منها إلى تقديم شهادات جديدة مع خمسة من المشاركين الباقين على قيد الحياة؛ ليبني قصة تلك التجربة من بداية التفكير فيها، مرورًا بكتابة كلماتها وتلحينها والجهود التي بُذلت للتوفيق بين ظروف الفنانين لجمع هذا العدد منهم في ليلة واحدة وفي مكان واحد. وكان المشاركون الرئيسون يعرفون أن انتهاء الليلة من دون تسجيل الأغنية يعني أنها لن تخرج إلى الوجود مطلقًا.

ولادة الفكرة وظروفها

في الثمانينيات من القرن الماضي، وبالتحديد ما بين عامي 1983م و1985م، عانت إثيوبيا المجاعة الواسعة والجفاف، وكانت الأمور هناك مأساوية، وفي حاجة ماسة للتدخل والإنقاذ. تحمَّس المُغني وكاتب الأغاني والناشط السياسي الأيرلندي، بوب جيلدوف، بصفته جامعًا للتبرعات، وكتب أغنية “هل يعرفون أنه يوم الميلاد؟”، وهي الأغنية التي أدتها فرقته المُوسيقية الضخمة “باند آيد”، وسُجّلت الأغنية في نوفمبر 1984م، وصدرت في ديسمبر من العام نفسه، وبِيع منها مليون أسطوانة في الأسبوع الأول، وحوالي 2.5 مليون نسخة بحلول يناير 1985م، ونجحت في جمع 8 ملايين جنيه إسترليني لإثيوبيا خلال سنة.

بوب جيلدوف.

وفي شهر ديسمبر 1984م، كان المُغني والمُمثل والناشط الأمريكي في مجال الحقوق المدنية، هاري بيلافونتي، عائدًا من جولة مُوسيقية، فمرَّ بإثيوبيا ورأى الأهوال الإنسانية التي تحدث هناك. ففكّر في استلهام تجربة بوب جيلدوف. وتواصل مع الموزع والمُنتج المُوسيقي، كين كراجن، عند عودته إلى أمريكا، وعرض عليه تنفيذ أغنية ضخمة تضم جميع نجوم البوب والروك آند رول؛ لتحريك اهتمام العالم بإنقاذ الملايين في إثيوبيا، وهو ما تحمَّس له بالفعل كين كراجن، فتواصل مع المُغني الأمريكي ليونيل ريتشي، من أجل كتابة كلمات الأغنية (وهو مُنتج مُشارك في إنتاج الفِلم الجديد). كما عرضوا الأمر على المُنتج والموزع المُوسيقي كوينسي جونز، باعتباره من أهم المُنتجين في عالم المُوسيقى، فضلًا عن أن اسمه سيكون دافعًا لحماسة كثيرين من النجوم. واقترح كوينسي التواصل مع النجم المُوسيقي ستيفي وندر، لمُشاركة ريتشي في كتابة كلمات الأغنية، لكن الاتصال بستيفي ليس بالأمر الهيّن. حاولوا التواصل معه طوال الليل، إلا أنه لم يكن يرد؛ مما جعلهم يتركون له رسالة بالأمر، ومن ثَمَّ اقترح ريتشي أن يشارك مايكل جاكسون في كتابة كلمات الأغنية معه، وكان واثقًا من موافقته على الأمر.

كيف أمكن جمع كل هؤلاء؟

بدأت تلك المجموعة في التواصل مع نجوم الغناء الآخرين في ذلك الوقت، لإخبارهم بالمشروع المُزمع تنفيذه. ونظرًا لأن عدد هؤلاء النجوم كان ضخمًا، وما يتطلّب ذلك من نفقات كبيرة لاستضافتهم في لوس أنجلوس وتوفير تذاكر الطيران الخاصة بهم، ولمَّا كان ليونيل ريتشي هو المسؤول عن تقديم حفل “جوائز المُوسيقى الأمريكية” في 28 يناير 1985م؛ فقد جرى التفكير في تسجيل الأغنية في اليوم الذي سيُقام فيه حفل “جوائز المُوسيقى الأمريكية”؛ إذ سيحضر جميع نجوم المُوسيقى في هذه الليلة، وبذلك تُقلّل النفقات وأثمان تذاكر الطيران.

هنا وجد كلٌّ من ريتشي ومايكل جاكسون نفسيهما في مأزق كبير، حيث كان الوقت يضيق بشدة، وهو ما حرص المُخرج على التعبير عنه ببلاغة فنية حينما ركزت الكاميرا على عقرب الثواني، حالما علم ريتشي بضرورة تسجيل الأغنية في ليلة الحفل، كإشارة إلى تسرب الوقت منهما، فضلًا عن تركيز الكاميرا طوال أحداث ليلة التسجيل على الساعة الرقمية التي كانت تتحرك بسرعة كبيرة مما ينذر بنفاد الوقت. وكان الجميع في سباق مع الزمن.

لحظة تجمع أكثر نجوم الفن شهرة أثناء تسجيل الأغنية.

ابتكر مايكل جاكسون جملة “نحن العالم”، ومن ثَمَّ بدآ يبنيان عليها أغنيتهما التي استطاعا بالفعل الانتهاء من كلماتها. ويذكر ريتشي: “لم يشأ مايكل في البداية الغناء أو الظهور في الفيديو على الإطلاق، ظنًا منه أنه يبالغ في الظهور أمام الإعلام؛ أي أنه كان راغبًا في الاكتفاء بكتابة كلمات الأغنية وتلحينها فقط”.

نجحت المجموعة في إقناع عدد كبير من النجوم بالمشاركة. وكان ريتشي يشعر بقلق كبير حول كيفية السيطرة على هذا الفريق الضخم. واعتقد للحظات أن المهمة قد تبوء بالفشل في أي لحظة، في ظل شعور بعض الفنانين بالغرور، وكذلك ميل بعضهم لإثارة المُشكلات مثل سيندي لوبر وستيفي وندر.

المُنتج كوينسي جونز الذي يتمتع بذكاء كبير، وكأنه مُحلل نفسي، كتب على باب الإستوديو عبارة: “اُترك غرورك على الباب”. كان هذا التنبيه كافيًا كي يدخل الفنانون كأناس قادمين من أجل عمل إنساني، ومن ثَمَّ عليهم نسيان نجوميتهم وذواتهم المُتضخمة لبضع ساعات إلى حين الانتهاء من الأمر. كما شدّد عليهم بضرورة التوجه إلى الإستوديو وحدَهم، من دون حراسة خاصة، أو أي مُرافق آخر؛ لأنه رأى أن ذواتهم المُتضخمة ستظل على حالها أمام المقربين منهم. أمَّا إذا ما تخلصوا من مُرافقيهم، فسيتعامل بعضهم مع بعض بشكل طبيعي، ولن يشعروا بأي شكل من أشكال الحرج. كذلك حرص كوينسي على حضور بوب جيلدوف، كاتب أغنية “هل يعلمون أنه يوم الميلاد؟”، ليتحدث إليهم، ويخبرهم بمدى مأساوية الوضع في إثيوبيا.

فنانون كبار من دون هالاتهم

من خلال القطع المتوازي، بدأ المُخرج باو نجوين ينتقل في اللقطات المستعادة ما بين الحفل الضخم الذي يقدّمه ريتشي، وبين إستوديو “A&M” الذي وقع الاختيار عليه لتسجيل الأغنية. فنرى مايكل جاكسون المُنعزل في الإستوديو مُهتمًا بالبروفات وإعداد المكان لاستقبال النجوم القادمين بعد ساعات قليلة.

انتقال المُخرج إلى هذه المرحلة من تنفيذ الأغنية، يكاد يكون هو الجزء الأكثر حيوية وحميمية في الفِلم. ففي هذا الجزء، في الليلة التي سُجّلت الأغنية فيها، نرى جميع هؤلاء النجوم كما لم نرهم من قبل: مُشاغباتهم وضحكاتهم وملابسهم البسيطة وبساطتهم وأخطاءهم ومخاوفهم من الفشل؛ أي أننا في النهاية نرى الإنسان الحقيقي لدى كل منهم. ولم يمنع التوتر بعض لحظات الفكاهة، فحينما رغب راي تشارلز وهو كفيف الذهاب إلى الحمام، قال له ستيفي وندر، وهو كفيف أيضًا: “دعني أقدك إليه”، مما جعل النجوم يضحكون.

النجم آل جورو فشل في تأدية مقطعه الغنائي عدة مرات، لأنه كان ثملًا. وثمة ضوضاء شديدة كان يسمعها مُهندسو الصوت كلَّما أدت سيندي لوبر مقطعها، مما جعلهم يعيدون التسجيل غير مرَّة، وبعدما حاروا في معرفة سبب هذه الضوضاء لبعض الوقت، انتبهوا إلى أنها ترتدي الكثير من القلائد والأساور والأقراط التي تُحدث هذه الضوضاء.

بوب ديلان الخجول المُنعزل (الحاصل على جائزة نوبل في الأدب عام 2016م)، لم يعتد العمل في وجود كل أولئك الناس، وهذا ما أدى إلى تجمّده وفشله عدة مرات في تسجيل مقطعه، ما جعل كوينسي يطلب من الآخرين مغادرة الغرفة كي يشعر بالراحة، وبقي معه ستيفي وندر الذي عزف لحن الأغنية له، وساعده على أدائها بأن قلَّد بنفسه صوت بوب ديلان وطريقته في الغناء. كان ستيفي وندر بارعًا في تقليد الأصوات، وبمبادرته هذه أزال التوتر عن ديلان.

ونرى شيلا إي، وقد شعرت بالكثير من الحرج، عندما اكتشفت أنها لن تغني مقطعًا منفردًا في الأغنية، واعتقدت أنهم أضافوها لأنها الوحيدة القادرة على إقناع برينس بالانضمام إليهم في الإستديو، وهو ما لم يحدث؛ لأن برينس لم يتخلَّ عن ذاته المُتضخمة، وأصرَّ على التسجيل في غرفة مُنفردة بعيدًا عن الآخرين، مخالفًا الروح الجماعية للأغنية، فاضطروا إلى التخلي عنه.

كين كراجن، وليونيل ريتشي، وكوينسي جونز.

ونرى كذلك بعض المشاحنات؛ إذ عندما اقترح ستيفي وندر تضمين الأغنية بعض كلمات سواحيلية، هبَّ وايلون جينينجز لمُغادرة الإستوديو مُعترضًا بقوله: “لم يغنِّ أي فنان أمريكي أبيض باللغة السواحيلية من قبل، من الأفضل أن أغادر، لا أريد الخوض في ذلك، لا أعلم معنى هذه الكلمات؛ لذا لن أقولها”.

ليونيل ريتشي، الذي تحدث في الفِلم باعتباره من القلائل الذين ما زالوا على قيد الحياة من هذا الفريق الضخم، كان من أهم من تولوا هذا المشروع؛ أي أنه المِرجل الحقيقي لنجاحه. فقد كان بارعًا في حضوره أينما كان، يعمل على حلّ الخلافات بين النجوم، ويحكي الحكايات لهم، ويحاول إضحاكهم وتسليتهم ومُساعدتهم، ويحل المشكلات التي قد تطرأ. فبالإضافة إلى أدائه دور البطولة في مشروع هذه الأغنية، فقد شارك في كتابة كلماتها مع مايكل جاكسون وتلحينها، وكذلك تقديم حفل جوائز المُوسيقى الأمريكية في بداية الليلة؛ ولذا نسمعه يقول: “لم نختبر تجربة أكثر فوضوية من محاولة ضبط مجموعة المواهب هذه”.

نجح الفِلم في وضع المشاهد بين هذه النخبة من النجوم، ومكّنه من رؤيتهم في صورتهم الأكثر إنسانية، وتفاعلهم بعضهم مع بعض وبساطتهم واندماجهم. بدأ التسجيل في العاشرة مساءً، وانتهى في الثامنة صباحًا. حينئذٍ انتحت ديانا روس جانبًا وبكت؛ لأنها كانت تتمنى ألا تنتهي تلك الليلة.


مقالات ذات صلة

المقهى فضاء سوسيولوجي بامتياز كما يُقال؛ فهو مكان للتجمع المفتوح لكلّ النّاس من مختلف الأعمار، ما جعله مُلهم الأدباء وحاضن الثقافة.

وقت الاستبدال قد حان، ودورة الحظ التفتت أخيرًا!

طيران
أبي الذي لا يشبهُ الطيورَ
ليسَ يشبهُ الرياحْ
ورغم هذا
طارَ للسماءِ دونما جناحْ!…


0 تعليقات على “أعظم ليالي البوب”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *