فلسطين أون لاين

"موائد الرحمن" في الحرمين.. إرث منذ عهد النبوة

...
الرياض-غزة/ فاطمة الزهراء العويني:

تشهد المملكة العربية السعودية في شهر رمضان الفضيل أكبر تجمع إنساني من جميع دول العالم لأداء العمرة في المشاعر المقدسة، وهو ما يعد فرصة للسعوديين من أهل الخير لاغتنام "أجر إفطار صائم".

فمنذ زمن طويل، تحرص العائلات بالمدينة المنورة على إحياء عادات الأجداد والآباء في التنافس على إفطار الصائمين الوافدين من كل أنحاء العالم للاعتمار خلال شهر رمضان.

فقد شهدت انطلاق ما عُرف لاحقاً بـ"موائد الرحمن" في التاريخ الإسلامي، ويقصد بهذا المصطلح الذي أصبح دارجاً في كل الدول العربية والإسلامية: الموائد الخيرية المفتوحة للعامة والبسطاء من الناس؛ ليجتمعوا على وجبات إفطار تكفّل بها مساهمات الحي والمقتدرين من الناس لكسب الثواب والأجر.

عودة بعد اختفاء

وحول أصل "موائد الرحمن" التاريخي، وطريقة نشأتها، يقول الباحث الأثري المصري سامح الزهار، إن البداية الحقيقية لظهور موائد الرحمن كانت منذ عهد النبي محمد، حين قدم إليه وفد من الطائف وهو في المدينة، واعتنقوا الإسلام، واستقروا معه لفترة بعد ذلك، فكان النبي يُرسل إليهم وجبات الإفطار والسحور مع الصحابي بلال بن رباح.

وقد سن الخلفاء الراشدون هذه السُنّة، فكان الخليفة عمر بن الخطاب يقيم الدور لضيافة وإفطار الصائمين، وامتدت هذه الموائد إلى زمن الخلافة العثمانية، غير أنها كانت تعرف باسم "الموائد السلطانية".

وتحرص عائلات المدينة المنورة على التمسك بهذا التقليد، وتتوارثه جيلاً بعد جيل، وقد كانت بعض الموائد منحصرة بشكل تقليدي ضمن عوائل مدنية معينة تعاهدت عليها على مدار الأجيال، حتى إن هناك بعض الأماكن المخصصة لتبرعات عوائل معينة من قِبَل رئاسة المسجد النبوي "تقديراً لأقدميتهم في تفطير الصائمين".

ويرجع الأصل في هذه الموائد إلى "نيل فضل إكرام ضيافة زوار مسجد الرسول، فيقضي العديد من أهالي المدينة المنوّرة ساعات طوال يوميًا في إعداد موائد الطعام قبيل غروب شمس أيام شهر رمضان، ضمن عادات خاصة بشهر الصوم عنوانها التنافس على إطعام الصائمين عند الإفطار.

وفي هذه العادات المتوارثة منذ أجيال بالمدينة الملقبة من قبل المسلمين بـ"طيبة الطيبة"، يتوجه جميع الذكور كبارًا وصغارًا بعد صلاة العصر إلى ساحات المسجد النبوي للمشاركة في إعداد موائد الرحمن الرمضانية، وتحضير الأكلات التقليدية لتقديمها مع رفع الأذان عند غروب الشمس.

ولا تقتصر هذه العادة على المدينة "التي يقصدها المعتمرون" بل تشمل أيضاً مكة المكرمة التي تشهد موائد إفطار طوال الشهر الفضيل تُعرف بأكبر مائدة رمضانية في العالم، حيث يتناول الإفطار في المسجد الحرام يومياً قرابة نصف مليون مصل ومعتمر، في زمن ما قبل تفشي فيروس كورونا، وكان هذا العدد يومي الخميس والجمعة.

من أين جاءت؟

ويعود عمر بعض الموائد لنحو مئة عام، حيث تتناقلها الأسر جيلاً بعد جيل، ويعتزون بهذه الخدمة التي يقدمونها لزوار المسجد النبوي في الشهر الفضيل.

وتؤكد الروايات التاريخية اختفاء تقليد "موائد الرحمن/ السلطانية" مع انهيار الدولة العثمانية في بداية القرن الماضي، فقد عاودت الظهور مجدداً في سبعينياته، وأخذت في الانتشار إلى يومنا مع إدخال بعض التقاليد الجديدة، لتصبح تدريجياً على ما هي عليه الآن سواء في المملكة السعودية أو الأقطار العربية وإن اختلفت المسميات.

وتقول الروايات بأن الأمير أحمد بن طولون، مؤسس الدولة الطولونية (868-904م)، هو أول من أقام موائد الرحمن؛ إذ دعا إليها الأعيان وكبار رجال الدولة، وصاحَبهم عدد كبير من فقراء مصر.

في ذلك الوقت، أعلن ابن طولون استمرارها طوال شهر رمضان، لتستقبل الفقراء والمساكين وعابري السبيل، كما أنه حثّ الأعيان والأغنياء على الاقتداء به لتصبح موائد الرحمن مَعلماً رمضانياً.

وكان الخليفة المعز لدين الله الفاطمي أول من وضع تقليد الإكثار من المآدب الخيرية في عهد الدولة الفاطمية، وهو أول من أقام مائدة في الشهر الكريم، ليفطر عليها رواد مسجد عمرو بن العاص؛ إذ كان يخرج من قصره 1100 قدر تُوزع على الفقراء.

وفي العصر الفاطمي، كانت تمتد آلاف الموائد المليئة بأطيب الطعام للصائمين غير المقتدرين، ولعابري السبيل، كما اهتم الخليفة العزيز بالله، ومِن بعده المستنصر بالله بموائد الإفطار التي كانت تقام في قصر الذهب للأمراء ورجال الدولة.

في المقابل، بنى الخليفة الفاطمي العزيز بالله داراً سُميت دار الفطرة خارج قصر الخلافة بالقاهرة؛ لصناعة ما يُحمل إلى الناس في العيد من حلوى، وكان يبدأ العمل فيها من أول رجب، ويستمر لآخر رمضان.

وشهدت السنوات الماضية تغيرات بنيوية في موائد إفطار الحرم المدني، فلم يعد الأمر محصوراً بالعوائل؛ بل أصبح العديد من الجاليات المقيمة بالمدينة المنورة تتشارك في إقامة موائد الإفطار.

وتحمل مكونات موائد الإفطار أفضل أنواع التمور للصائمين، إضافة إلى ماء زمزم والقهوة العربية، ولبن الزبادي، والخبز المدني المميز، المعروف باسم "الشريك"، فضلاً عن "الدَّقة" المدنية المعروفة.

وتمتد موائد الإفطار إلى خارج الحرم المكي والمدني والشوارع المتفرعة منه، في مزيج ثقافي رائع، يجمع الصائمين من مختلف الجنسيات والأعراق.